عيد الغدير الأغر
د. غصون سعد الساعدي
لمَّا انتهى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) من آخر حجَّةٍ حَجَّها ، قَفلَ راجعاً إلى المدينة المنوَّرة ، وحينما انتهى موكبه إلى غدير خَم ، هبطَ عليه أمين الوحي يحمل رسالة من السماء بالغة الخطورة .
وكانت هذه الرسالة تُحتم عليه بأن يحُطَّ رِحالَهُ ليقوم بأداء هذه المهمة الكبرى ، وهي نصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة ومرجعاً للأمّة من بعده (صلَّى الله عليه وآله) .
وكان أمر السماء بذلك يحمل طابعاً من الشدَّة ولزوم الإسراع في إذاعة ذلك بين المسلمين ؛ فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَم تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة/ 67).
فقد أُنذِرَ النبي (صلَّى الله عليه وآله) بأنّه إن لم يُنفِّذ إرادة الله ، ذهبتْ أتعابه ، وضاعت جهوده ، وتبدَّدَ ما لاقَاهُ من العناء في سبيل هذا الدين .
فانبرى (صلَّى الله عليه وآله) بعزمٍ ثابتٍ ، وإرادةٍ صلبةٍ ، إلى تنفيذ إرادة الله ، فوضع أعباء المسير وحَطَّ رِحاله في رمضاء الهجير ، وأمر القوافل أن تفعل مثل ذلك.
وكان الوقت قاسياً في حرارته ، حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه لِيَتَّقِي به من الحَر .
ثُمّ أمَرَ (صلَّى الله عليه وآله) باجتماع الناس ، فَصلَّى بهم ، وبعد ما انتهى من الصلاة ، أمر أن توضع حدائج الإبل لتكون له منبراً ، ففعلوا له ذلك . فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين ـ فيما يقول المؤرِّخون ـ مِائة ألف ، أو يَزيدونَ على ذلك .
وأقبلوا بقلوبهم نحو الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ليسمعوا خطابه ، فأعلن (صلَى الله عليه وآله) ما لاقاه من العناء والجهد في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الحياة الجاهلية ، إلى الحياة الكريمة التي جاء بها الإسلام . كما ذكر (صلى الله عليه وآله) لهم كَوكَبَة من الأحكام الدينية ، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، ثُمّ قال لهم : (انظُروا كَيفَ تخلفوني في الثقلين) ، فناداهُ منادٍ من القوم : ما الثقلان يا رسول الله ؟ فقال
(صلَّى الله عليه وآله) : (الثقل الأكبر: كتاب الله ، طرف بيد الله عزَّ وجلَّ ، وطرف بأيديكم ، فتمسكوا به لا تضلُّوا ، والآخر الأصغر: عترتي . وإنّ اللطيف الخبير نبأني: أنَّهما لنْ يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فسألتُ ذلك لهما ربي ، فلا تقدِّموهما فتهلكوا ، ولا تقصِّروا عنهما فتهلكوا).
ثُمّ أخذ (صلَّى الله عليه وآله) بيد وَصيِّه وباب مدينة علمه الإمام علي (عليه السلام) ـ لِيَفرضَ ولايته على الناس جميعاً ـ حتى بَانَ بَياضُ إِبطَيْهِمَا ، فنظر إليهما القوم .
ثُمّ رفع (صلَّى الله عليه وآله) صوته قائلاً : (يَا أَيُّهَا النَّاس ، مَنْ أولَى النَّاس بِالمؤمنين مِن أَنفُسِهم ؟ فأجابوه جميعاً : اللهُ ورسولُه أعلم . فقال (صلَّى الله عليه وآله) : (إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولَى بهم من أنفسِهِم ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مَولاهُ) قال ذلك ثلاث مرَّات أو أربع.
ثُمّ قال (صلَّى الله عليه وآله) : (اللَّهُمَّ وَالِ مَن وَالاَهُ وَعَادِ مَن عَادَاهُ ، وَأَحِبَّ مَن أَحبَّهُ وَأبغضْ مَن أبغَضَهُ ، وانصُرْ مَن نَصَرَه واخْذُل مَن خَذَلَهُ ، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيثُ دَار ، أَلا فَلْيُبَلِّغِ الشاهِدُ الغَائِبَ) .
وبذلك أنهى (صلَّى الله عليه وآله) خطابه الشريف الذي أَدَّى فِيه رسالة الله ، فَنَصَّبَ أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة ، وأقامه عَلَماً للأمّة ، وقَلَّدَهُ مَنصب الإمامة .
فأقبل المسلمون يهرعون وهُم يُبَايِعُون الإمام علي (عليه السلام) بِالخِلافَة ، وَيُهَنِّئُونَهُ بِإِمْرَةِ المُسلمين .
وأمر النبي (صلَّى الله عليه وآله) أُمَّهَات المؤمنين أَنْ يَسُرْنَ إِليهِ وَيُهَنِّئْنَه ، فَفَعَلْنَ ذلك .
وعندها انبرى حَسَّان بن ثابت ، فاستأذن النبي (صلَّى الله عليه وآله) بتلاوة ما نظمه من الشعر ، فأذن له النبي (صلَّى الله عليه وآله) ، فقال حَسَّان :
يُـنَادِيهُمُ يـومَ الغَدير نَبِيُّهُم نَـجْم وأَسمِعْ بِالرَّسُولِ مُنَادِياً
فَـقالَ: فَمنْ مَولاكُمُ وَنَبِيُّكم ؟ فَقَالوا وَلَم يُبدُوا هُنَاك التَّعَامِيَا
إِلَـهَكَ مَـولانَا وَأنـتَ نَـبِيُّنَا وَلَم تَلْقَ مِنَّا فِي الوِلايَةِ عَاصِياً
فَـقالَ لَـهُ : قُمْ يَا عَلِيُّ فَإِنَّنِي رَضيتُكَ مِن بَعدِي إِمَاماً وَهَادياً
فَـمَنْ كـنتُ مَولاهُ فَهذا وَلِيُّه فَكُونُوا لَهُ أَتْبَاعُ صِدقٍ مُوالِياً
هُـناكَ دَعا : اللَّهُمَّ وَالِ وَلِيَّهُ وَكُـنْ لِلَّذِي عَادَى عَلِيّاً مُعَادِياً
ونزلت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام هذه الآية الكريمة : (اليَومُ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعمَـتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً) (المائدة/ 3) . فقد كمل الدين بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وتَمَّتْ نعمة الله على المسلمين بِسُمُوِّ أحكامِ دينِهم ، وَسُمُوِّ قِيادتهم التي تُحَقِّق آمالَهم في بلوغ الحياة الكريمة .
وقد خطا النبي (صلَّى الله عليه وآله) بذلك الخطوة الأخيرة في صيانة أُمَّتِه من الفتن والزيغ . فلم يترك (صلَّى الله عليه وآله) أمرها فوضى ـ كما يزعمون ـ ، وإنّما عَيَّن لها القائد والموجِّه الذي يهتمُّ بأمورها الاجتماعية والسياسية .
وإنّ هذه البيعة الكبرى التي عقدها الرسول العظيم (صلَّى الله عليه وآله) إلى الإمام علي (عليه السلام) ، من أوثق الأدلَّة على اختصاص الخلافة والإمامة به (عليه السلام) .
وقد احتجَّ بها الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة لمعارضة حكومة معاوية ، وشَجْبِ سياسته ، فقد قال (عليه السلام) للحاضرين :
(أُنشِدُكُم اللهَ : أَتعْلَمُونَ أنَّ رَسولَ اللهِ نَصَّبَهُ (يعني علياً (عليه السلام)) يوم غدير خُم ، فنادى (صلَّى الله عليه وآله) له (عليه السلام) بالولاية ، وقال (صلَّى الله عليه وآله) : لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ ؟) .
فقال الحاضرون : اللَّهُمَّ نَعم .