الاجتهاد في التفسير
الشيخ محمد هادي معرفة
التفسير : مبالغة في الفسر بمعنى الكشف والابانة . قال تعالى (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(1) (أي تبيينا وتوضيحا . والفسر والسفر من أصل واحد في الاشتقاق الكبير) (2) (كلاهما بمعنى الابراز والاظهار ، قال الراغب الاصفهاني : هما متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، لكن جعل الفسر لاظهار المعنى المعقول ، والسفر لابراز الاعيان للابصار . يقال : سفرت المرأة عن وجهها وأسفرت ، أي كشفت عن وجهها بمعنى رفع النقاب .
وأسفر الصبح اذا بدا وطلع الفجر . والفسر والتفسير مجردا ومزيدا فيه كلاهما بمعنى الكشف والابانة ، متعديان الى المفعول به ، غير ان في التفعيل مبالغة ليست في المجرد ، نظير الكشف والاكتشاف ، فهما متعديان الى المفعول به، يقال: كشفه واكتشفه ،بمعنى واحد ، غير أن في الافتعال مبالغة وصرف جهد لم يكن في الثلاثي ، فمطلق الكشف عن الشي لا يقال له الاكتشاف الا اذا كانت في كشفه واظهاره مزيد عناية وبذل جهد كثير .. وهكذا الفرق بين الفسر ، والتفسير لا يكون تفسيرا اذا لم يكن هناك عناء وبذل جهد في رفع الابهام عن وجه الية ، والا فمجرد ترجمة الالفاظ أو تبديلها بنظائرها في افادة المعنى ، لا يكون تفسيرا . ومن ثم كان التفسير في المصطلح هو : بذل الجهد في رفع الابهام عن اللفظ المشكل ، فلابد هناك اشكال في اللفظ قد أوجب ابهاما في المعنى ، فيبذل المفسر عنايته برفع ذلك الابهام ودفع الاشكال ، حسبما أوتي من حول وقوة وما تهيأ له من أدوات التفسير وأسبابه .
والتفسير في ماهيته على نوعين : أثري ونظري . والاول يعني : التفسير بما ورد من آثار الاقدمين من أقوال وآراء حول تبيين اليات الكريمة ، في مثل أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وأقوال صحابته المرضيين ، وآراء التابعين لهم باحسان ، مضافا اليها ما ورد من روايات أهل بيته الطاهرين ، وهذا ما يسمى بالتفسير بالمأثور أو التفسير النقلي .
وهذا قد يكتفي بذكر الاثر مجردا عن أي نقد أو بيان ، كما داب عليه جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور ، والسيد هاشم البحراني في البرهان ، والعروسي الحويزي في تفسيره نور الثقلين . والاخر ما يصحبه البيان والنقد احيانا ، كما نجده في تفسير جامع البيان
للطبري وتفسير ابن كثير ، وتفسير الصافي للفيض الكاشاني ، وكنز الدقائق للمشهدي . والنوع الثاني من التفسير ، هو التفسير الاجتهادي ، المبتني على اعمال الرأي والنظر في فهم معاني القرآن الكريم .
وللاجتهاد في التفسير اسس ودعائم عليها ترسو قواعده ، وتبتني اصوله ..على ما شرحه الراغب في مقدمته في التفسير ، وسنشير اليها . والتفسير يرتفع في اصوله الى فترة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، حيث كان الصحابة اذا أشكل عليهم فهم آية ، كانوا يراجعون النبي ويسألونه الايضاح والتبيين ، فيجيبهم عليه حسب وظيفته الرسالية في تبيين مفاهيم القرآن . قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(3) . فقد انزل القرآن على النبي ليبين للناس معانيه ، مما أشكل عليهم فهمه ، ليكون ذلك ذريعة الى مزاولة فهمهم وفكرتهم في استخراج معانيه والبسط فيها .
فمما سئل فيه النبي (صلى الله عليه وآله) عن المعنى المراد من الية ، ما جاء سؤالا عن (السائحون) في قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ)(4) حيث وقع هذا الوصف مدحا يزاوله المؤمنون . فقال (صلى الله عليه وآله): (هم الصائمون) (5) .
قال الطبرسي : السائح من ساح في الارض ، يسيح سيحا اذا استمر في الذهاب، ومنه السيح للماء الجاري ، قال : ومن ذلك يسمى الصائم سائحا ، لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى . ، قال : وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال :(سياحة أمتي الصيام) (6) . نعم انما كان الصيام سياحة للمؤمن ، لانه عبادة خالصة يقوم بها العبد ، طالبا وجه ربه ، بعيدا عن كل شائبة الرياء والضمائم التي قد تعتري سائر العبادات ، فالصائم خالص بوجهه للّه ، هائم في بيداء عبادة ربه الكريم ، لا تثنيه عن عزمه شوائب الاكدار ودنائس الاقذار . وسأل رجل من هذيل عن قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)(7) ما هو المراد من الكفر هنا ، حيث كان ترك الحج وهو فريضة كسائر الفرائض آلا يوجب كفرا بالله تعالى ؟ فقال (صلى الله عليه وآله) : (من تركه لا يخاف عقوبته ولا يرجو مثوبته) (8) أي من ترك الحج ترك جحود ، ناشئا عن عدم الايمان بشريعة الله تعالى .
وهكذا في سائر الموارد ، حيثما وجد ابهام في وجه الية ، كانوا يراجعونه (صلى الله عليه وآله) ويسألونه الحل والايضاح ، وقد أوردنا غررا من ذلك في كتابنا : (التفسير والمفسرون) حقل التفسير المأثور عن النبي (صلى الله عليه وآله) . وايضا كان (صلى الله عليه وآله) يتعرض للتفسير بنفسه عند ما يلقي على أصحابه شيئا من آيات الذكر الحكيم . كان (صلى الله عليه وآله) يتلو على أصحابه العشر من اليات ، لا يتجاوز هن حتى يعلمهم تفسيرها وتأويلها ، فقد أخرج ابن جرير باسناده عن ابن مسعود ، قال : كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات، لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ، وقال أبوعبد الرحمان السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ، أنهم كانوا يستقرئون من النبي (صلى الله عليه وآله) فكانوا اذا تعلموا عشر آيات ، لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيما من العمل ، قال : فتعلمنا القرآن والعمل جميعا) (9) .
هكذا داب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تعليم أصحابه الاجلاء معاني القرآن وتفسير ما ابهم منه ، الى جنب تعليم قراءته وتلاوته . غير ان المأثور من التفسير المرفوع الى النبي (صلى الله عليه وآله) قليل جدا ، حسبما جمعه جلال الدين السيوطي فى آخر كتابه الاتقان ، فبلغ ما يقرب من مئتين وخمسين حديثا مرفوعا الى النبي (صلى الله عليه وآله) ، وقال : الذي صح من ذلك قليل جدا ، بل اصل المرفوع منه فى غاية القلة . وأخيرا قام زميلنا الفاضل السيد محمد برهاني نجل العلامة المحدث البحراني صاحب تفسير البرهان ، بجمع ما أثر من تفاسير مرفوعة الى النبي (صلى الله عليه وآله) ، مروية عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) ، فبلغ لحد الن حوالي أربعة آلاف حديث مرفوع الى النبي (صلى الله عليه وآله) في التفسير ، ولا يزال يزيد ما دام العمل مستمرا ، وفقه الله تعالى.
واما عهد الصحابة ، فلم يزل الامر على ذلك ، كانوا مراجع الامة في فهم ما أشكل من القرآن ، وكان من الصحابة أربعة اشتهروا بعلم التفسير ، وهم : علي بن أبي طالب وكان راسا وأعلم الاربعة وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عباس ، كان أصغرهم سنا وأوسعهم باعا في نشر التفسير ، وذلك لتفرغه في ذلك ، دون من عداه .
قال الامام بدر الدين الزركشي : ... وصدر المفسرين من الصحابة هو علي بن ابي طالب ثم ابن عباس ، وهو تجرد لهذا الشأن ، والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي ، الا ان ابن عباس كان قد أخذ عن علي (عليه السلام) (10) ثم يجئ دور التابعين ، ليتوسعوا في التفسير ، توسعا مطردا مع الزمان ومتناسبا مع توسع بقاع الدولة الاسلامية . وقد درج التفسير مدارجه الى الكمال في هذا الدور ، فأخذ يتشكل بعد أن كان مبعثرا ، وينتظم بعد أن كان متقطعا منتثرا ، ويزداد حجما ويتوسع بعد ان كان محدودا مقتصرا ، وفوق ذلك أخذ الاجتهاد واعمال الرأي والنظر والبحث والنقد يتسرب في التفسير ، ويأخذ مأخذه في تبيين وتفهيم معاني القرآن الكريم .
وهذا حسبما ورد من الامر بالتدبر والتعمق في القرآن ، والبحث والنظر في فهم معانيه :
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (11) . (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (12) . وقد كان بعض السلف يتحرجون من القول في القرآن بغير أثر صحيح ، ويجتنبون النظر فيه ، خشية أن يكونوا قد أقحموا في القول في القرآن برأيهم ، وقد جاء النهي عن تفسيره بالرأي . (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (13) .
فعن عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة ، وانهم ليعظمون القول في التفسير ، منهم : سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن المسيب ، ونافع . وعن يحيى بن سعيد قال : سمعت رجلا يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئا ، وكان لا يتكلم الا في المعلوم من القرآن . وعن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسداد ، فقد ذهب الذين علموا فيم أنزل القرآن) (14) .
لكن على الرغم من ذلك فقد تصدى علماء الصحابة ونبهاء التابعين للتفسير ، واجتهدوا فيه وأعملوا النظر والرأى فيه ، لكن على الطريقة المستقيمة ، التي كان يقبلها الشرع والعقل ، وهي الطريقة التي مشى عليها العقلاء في تفهمهم للكلام : اكان وحيا من السماء أم كان كلام انسان منثورا أو منظوما ؟ الامر الذي لا يعنيه حديث النهي عن التفسير بالرأي ، وانما يعني التفسير بالرأي الممنوع شرعا والممقوت عقلا الاستقلال والاستبداد بالرأي فيه .
قال الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : (من استبد برأيه هلك) . وهذا عام يشمل تفسير الكلام أيضا ، فان للتفسير اصولا ومباني يجب الجري عليها ، ومواكبة العقلاء في طريقة فهم الكلام ، فالحائد عن الطريق ضال لا محالة . ولابن النقيب محمد بن سليمان البلخي كلام في تفسير حديث النهي عن التفسير بالرأي ، قال : ان جملة ما تحصل في معنى الحديث خمسة أقوال :
أحدها : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
ثانيها : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه الا الله .
ثالثها : التفسير المقرر للمذهب الفاسد ، بان يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا ، فيرد اليه باي طريق أمكن ، وان كان ضعيفا .
رابعها : التفسير بان مراد الله كذا على القطع من غير دليل .
خامسها : التفسير بالاستحسان والهوى (15) .
ولكن هذه الوجوه الخمسة ترجع في النهاية الى وجهين أساسيين :
أولهما : الاستبداد بالتفسير ، من غير اعتماد على اصول التفسير ومنابعه الاصيلة ، أو عدم مراجعة مبانيه المعتمدة المتفق عليها .. ، ومنها الاثار الصحيحة الواردة عن النبي وصحابته العلماء وعترته الطاهرين .. ، وكذا من غير ملاحظة أسباب النزول والشواهد والدلائل المتوفرة ، المؤثرة في فهم معاني اليات وطريقة الاستنباط . وهذا هو الاستقلال بالرأي والاستبداد فيه .. ، وهو مرفوض في شريعة العقل الرشيد .
وثانيهما : التحميل على القرآن ، أن يحاول تحميل رأيه على القرآن ، حتى ولو كان ظاهر النص يأباه ، كأصحاب المذاهب الفاسدة الذين يحاولون تبرير عقائدهم المنحرفة ، بتطبيقها على ما أمكن من ظواهر النص المحتملة ، ومن ثم يتجهون نحو اليات التي هي متشابهة بظاهرها ، فيتبعونها ابتغاء تأويلها وتصريفها الى حيث مراميهم السيئة ، تمويها على العامة . ومن هنا نرى كثيرا من أصحاب القول بالجبر والقدر حاولوا التمسك بظواهر آيات معينة ، فحرفوها وتصرفوا في معانيها ، وهذا هو التحريف في المعنى والتفسير .
وان كثيرا من اليات التي تشبث بها هؤلاء ، لم تكن متشابهة من قبل ، وانما عرض عليها التشابه بصنيع أصحاب الجدل في الكلام ، ومحاولات بذلت فيما بعد بصدد تبديل مفاهيمها ، وتحريف معانيها . نعم ، قد لا يكون هناك غرض سوء ، لكن الغباوة الذاتية دعت بأناس حملوا القرآن على معان تتوافق مع أهدافهم عن حسن نية ، وهذا في أكثر الوعاظ والناسكين الذين حاولوا ذلك في سبيل الوعظ والارشاد بيات فسروها على غير وجهها ، أو وضعوا أحاديث مرفوعة الى النبي (صلى الله عليه وآله) بهتانا وزورا ، زاعمين أنهم قد كذبوا له ولم يكذبوا عليه فالصوفي يشير الى قلبه ، ويتلو قوله تعالى : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ، مؤولا الفرعون الطاغية بطغيان القلب وهوى النفس الغالب .
كل ذلك ممنوع ، لانه قول على الله بغير علم ، وافتراء عليه ، حتى ولو لم تكن النية سيئة ، لان الهدف لا يبرر الوسيلة في الاسلام ، فلا تجوز الكذبة حتى ولو كان الهدف رواج الاسلام ، حيث الاسلام في غنى عن الكذب والتزوير.
_________________________
1ـ 2ـ وهو الاشتراك في الحروف الاصل (س .ف .ر).
3ـ النحل 44/.
4ـ التوبة /112.
5ـ المستدرك للحاكم 2 /335.
6ـ مجمع البيان 5 /74 76.
7ـ المائدة / 89.
8ـ الاتقان للسيوطي 4/218.
9ـ تفسير الطبري 1/27 28 و30.
10ـ البرهان للزركشي 2/175.
11ـ سورة ص /29.
12ـ محمد / 24.
13ـ حديث مستفيض ، راجع الامالي للصدوق المجلس الثاني ص 6 (ط ، النجف) ، والطبري 1/27.
14ـ تفسير الطبري 1/29 ، ومقدمة كتاب المباني في نظم المعاني / 183 آ184.
15ـ راجع : الاتقان للسيوطي 4/191.