الفتنة؛ نظرة في الآيات القرآنية
الشيخ عبدالجليل أحمد المكراني
قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}(1).
وردت مفردة الفتنة في القرآن الكريم في أكثر من آية مباركة، كما أنّها استعملت بمعانٍ ودلالات مختلفة في الكتاب العزيز.
والذي يهمّنا هو البحث عن تلك الدلالات والاستعمالات القرآنية لمصطلح الفتنة، ومن ثم الوصول إلى النظرة القرآنية في خصوص ذلك.
الفتنة لغةً:
إنّ مفردة الفتنة تعني حسب المعاجم اللغوية: (إحراق شيء بالنار).
والفتن: (ما يقع بين الناس من الحروب). ويقال في أمر العشق: (فتن بها، وافتتن بها: أي عشقها. والفتّان: الشيطان). هكذا ذكر الخليل(2).
وقال الجوهري: (الفتنة: الامتحان والاختبار. تقول: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته، ودينار مفتون... ويسمّى الصائغ الفتّنان، وكذلك الشيطان... وافتتن الرجل فهو مفتون، إذا أصابه فتنة فذهب ماله أو عقله)(3).
والذي يتبيّن لنا من ذلك أنّ الفتنة هي:
1ـ الإحراق.
2ـ ما يقع بين الناس من الحروب.
3ـ الاختبار والامتحان.
4ـ ذهاب المال أو العقل.
والفتنة وإن كانت هي الاختبار والامتحان، إلاّ أنّها تفترق عنه، فـ(الفتنة أشدّ الاختبار وأبلغه، وأصله عرض الذهب على النار لتبيّن صلاحه من فساده)(4).
الفتنة في الاصطلاح القرآني
قبل الإشارة إلى الاصطلاح القرآني لابدّ من القول: إنّ الكتاب العزيز قد نسب الفتنة تارة إلى الفعل الإلهي بما يتعلّق بحياة الإنسان وشؤونه، وهي بذلك تشمل كلّ جوانب حياة الإنسان. وأخرى نسبها إلى الإنسان باعتباها سلوكاً بشرياً وإنسانياً. فالفتنة منها ما هو إلهي، ومنها ما هو بشري، فما هو الفرق بينها؟
أولاً: الفتنة (الاختبار الإلهي)
وهذا هو الاستعمال الأول في القرآن، ويقصد به عملية الابتلاء الإلهي للإنسان وامتحانه من خلال المحن والبلايا والمأساة التي تجري عليه. كما يفتتن من خلال الالتزام بالتشريعات الإلهية والأوامر الربّانية وعدمه، وقد دلّت على ذلك عدّة آيات:
منها: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}(5).
منها: قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ}(6).
منها: قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}(7).
منها: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(8).
منها: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(9).
وليس المقصود من الفتنة الإلهية للبشر هو العلم بواقع الحال؛ لأنّه تعالى عالم بالأشياء قبل حدوثها وبعد وقوعها، ولكن الحكمة من ذلك أمران:
الأمر الأول: إلقاء الحجّة. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ الله عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}(10).
وقال تعالى: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}(11).
الأمر الثاني: بيان الحقيقة ونفي الادعاء
قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(12).
قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(13).
ثانياً: افتعال الأزمة والتضليل
وهذا ما يكون من البشر بعضهم للبعض الآخر، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بالفتنة، إذ تقع مثل هذه بين البشر نتيجة التدافع فيما بينهم واختلاف رغباتهم ونشوء عوامل الحسد والحقد والاستكبار والاستعلاء على الآخرين فيما بينهم، فيمارس بعضهم عملية إلقاء الفتنة والاضطراب والتشويش على الآخرين.
وكلّ عمل يسبّب إركاباً لحالة الناس الطبيعية أو اضطرابات في الاستقرار الاجتماعي، أو إيجاد العداء بين الناس فهو فتنة.
ولا يخفى أنّها تندرج ضمن المعنى الأول بمعنى من المعاني، فالاختبار الإلهي والامتحان الربّاني هو فتنة للطريفين؛ الطرف الفاعل بالفتنة والمخطط لها، والطرف المتأثر بها.
أدوات الفتنة البشرية
وقد بيّن القرآن الكريم عدّة أدوات لشياطين الأنس والمضللين من البشر الذين يرومون وقوع الخلافات والأزمات بين الناس، سواء في المجتمع المؤمن أم غيره. وأهمّ تلك الأدوات:
أولاً: التمسّك بالمتشابهات في النصوص الدينية
الدين من أهمّ المبادئ الموجّهة لحياة الإنسان فردياً واجتماعياً، والتمسّك بالنصّ الديني هو مفتاح الوصول إلى الأهداف الدينية المقدّسة، وأي نهج أو عمل يسبب بعد الإنسان عن النصّ أو تردّده في تطبيقه وامتثاله واستجلاء معناه، فإنّه يعد فتنة خطيرة في حياة الإنسان.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(14).
فهؤلاء فئة من الناس يمارسون التلبيس والتشويش الفكري والعقائدي على الناس ليحرفوهم عن الدين، وليتصدروا الزعامة الدينية والمعرفية بين الناس والحال أنّهم ليسوا كذلك.
ثانياً: التشكيك بالمبادئ الدينية والقيادات المعصومة
وهؤلاء هم طبقة المنافقين وأضرابهم.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(15).
دور المؤمن في موجة الفتن
لا شك أنّ المؤمن وهو يعيش حالة الفتنة سواء بمعنى الاختبار الإلهي أو الأزمات والاضطرابات التي توجدها التيارات الفاسدة والمنحرفة والتي تبغي الإيقاع بالمؤمنين، عليه أن يتحلى بأمرين مهمين:
الأمر الأول: المعرفة والعلم، فهما سببان رئيسان لاجتناب الفتنة والوقوع في شراكها؛ لأنّ الجهل والعمى الفكري هو مدخل واسع لدخول الإنسان في المعاصي والاشتباه وارتكاب المحرّم.
الأمر الثاني: الصبر والتحمل.
وفي حديث أمير المؤمنين عليه السلام وهو يشرح كيفية ورود الفتنة والأساليب والأجواء التي تتحقّق بها بما يلزم توفّر المؤمن على هذه الصفتين.
يقول عليه السلام: >أيها الناس، إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالاً، فلو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجي، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان، فيجيئان معاً، فهناك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى<(16).
وقد أشار عليه السلام إلى أهمية الحذر والتنبّه عندما تقع الفتنة وتلقي بظلالها على المؤمن، فقال عليه السلام: >كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب<(17).
ــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة: 191.
(2) العين 8: 127.
(3) الصحاح 6: 2176.
(4) الفروق اللغوية: 396.
(5) الأنعام: 53.
(6) طه: 85 .
(7) طه: 40.
(8) الأنفال: 28.
(9) الأنبياء: 35.
(10) الأنعام: 53.
(11) المائدة: 71.
(12) الزمر: 49.
(13) الحج: 11.
(14) آل عمران: 7.
(15) التوبة: 45ـ 49.
(16) الكافي 1: 54.
(17) نهج البلاغة 4: 3.
