القرآن والحفاظ على الهوية الإسلامية
كلمة المشرف العام لدار السيدة رقية عليها السلام للقرآن الكريم إلى مهرجان سعيد بن جبير القرآني الدولي الأول ألقاها بالنيابة عن الشيخ أحمد عبدالهادي الخليفة
نص الكلمة:
الأستاذ محمود عبد الرضا ملا طلال رئيس مجلس محافظة واسط المحترم
الضيوف الكرام في مؤتمر سعيد بن جبير القرآني الدولي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في الوقت الذي يسعى فيه أعداء الأمّة الإسلامية لتفتيتها وتمزيقها وتشويه هويتها الثقافية والدينية، فإنّ واجب الأمّة بعمومها من علماء وفضلاء ومثقفين، وخاصّة المهتمّين بالشأن القرآني، وأصحاب المسؤولية، بذل الجهد والوسع واستفراغ كلّ الطاقات من أجل ترسيخ مبادئ الهوية الدينية في الأمّة الإسلامية، والدفاع عنها من أجل بناء الذات والمجتمع على أساس ثقافة الوحي والنبوّة.
ولا شكّ عندنا أنّ التمسّك والحفاظ على الهوية الإسلامية الأصيلة لا يكون إلاّ من خلال التمسّك بكتاب الله، والاستضاءة بنوره، والسير على هديه الرباني المعصوم من الضلال والانحراف.
وما أدرانا فلعلّ النبيّ الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد حذّرنا ـ نحن أبناء هذا الزمن خاصّة ـ بقوله: (لا خير في العيش إلاّ لمستمع واعٍ، أو عالم ناطق. أيّها الناس، إنّكم في زمان هدنة، وإنّ السير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار يبليان كلّ جديد، ويقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فأعدوا الجهاد لبعد المضمار).
فقال المقداد: يا نبي الله، ما الهدنة؟
قال: (بلاء وانقطاع، فإذا التبست الأمور عليكم كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع، وماحلٌ مصدّق، ومَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومَن جعله خلفه قاده إلى النّار، وهو الدليل إلى خير سبيل، وهو الفصل ليس بالهزل، له ظهر وبطن، فظاهره حكمٌ، وباطنه علم عميق، بحره لا تحصى عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم... فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودالّ على الحجّة)(ميزان الحكمة 3: 2516).
ومن بعده سُنّة نبيه صلى الله عليه وآله وسيرة أئمّة الهدى من آله عليهم السلام.
وفي هذا المضمار فإنّ الجهود التي تبذل لنشر الوعي والثقافة القرآنية رغم تكلّلها بالنجاح في كثير من الأحيان، إلاّ أنّ تلك الجهود والمشاريع التوعوية والتثقيفية لازالت دون الحدّ المطلوب.
وفي هذه المناسبة المباركة فإنّني أتقدّم بالشكر الجزيل والثناء على المجهود الكبير الذي قام به الأستاذ الكريم محافظ مدينة واسط في إعداد هذا المؤتمر العالمي المسمّى باسم الصحابي الجليل شهيد واسط (سعيد بن جبير) الذي استشهد على يد الطاغية الأثيم الحجّاج وهو يتلو كتاب الله ويعيشه قولاً وعملاً، فكان نطقه وحديثه ومحاورته من كتاب الله العظيم.
وهنا أود الإشارة إلى ثلاث نقاط باختصار:
أولاً: تعليم القرآن في البلدان الإسلامية
القرآن هو منهاج المسلم في كلّ شيء، ولابدّ من معرفة أحكامه وعلومه، وهذا ما يتطلّب منّا تربية الجيل من صغره تربية قرآنية متكاملة تحوي جميع ما أشار إليه من معرفة وأحكام وعلوم. لكنّنا نجد ـ وللأسف ـ في البلدان الإسلامية قصوراً في تعليم القرآن الكريم والاهتمام بعلومه وثقافته، وأنّ الذي موجود في المناهج والكتب اليوم ما هو إلا معارف سطحية وهامشية لا ترقى بالطالب إلى المستوى المطلوب، وهذا من أكبر الإخفاقات والأخطاء.
ثانياً: استثمار المؤتمرات لصنع الحسّ القرآني
إنّ فائدة هذه المؤتمرات القرآنية الروحية والمعنوية كبيرة ومباركة وهذا لا شك فيه، لكن الذي نطمح إليه هو تكوين الحسّ القرآني بين صفوف المجتمع الإسلامي. والذي اقترحه في هذا المجال أن تنبثق من هذا المؤتمر المبارك ثلاث لجان أساسية:
1ـ لجنة الإشراف على المسابقات والتنافس القرآني في القراءة والتجويد والحفظ.
2ـ لجنة الإشراف على تنمية القدرات والمواهب القرآنية، وبخاصّة ما يكشفه هذا المؤتمر إن شاء الله.
3ـ لجنة الدراسات القرآنية الاستراتيجية.
والجدير بالذكر أنّ هذه اللجان لابدّ أن تتشكّل من مختصّين في الشأن القرآني، سواء على مستوى التفسير أم علوم القرآن وأحكامه الأخرى. ومسؤولية هذه اللجان طرح المواضيع الحساسة على صعيد الساحة الإسلامية وأهمّ ما تعاني منه المجتمعات الإسلامية من مشاكل وأزمات وإرهاصات ودراستها من خلال القرآن الكريم، وهذا يعدّ مساهمة في صناعة برامج السنوات اللاحقة إن شاء الله تعالى. ومن مسؤولية هذه اللجان أيضاً صياغة البيان الختامي للمؤتمرين وبيان منجزات المؤتمر.
ثالثاً: النظرة المستقبلية من خلال القرآن
يدعونا القرآن الكريم لممارسة التغيير والإصلاح على مستوى الذات والآخر، وهذا التغيير لابد أن يكون ضمن نظام وتخطيط وعملية مبرمجة، وهذا لا يكون إلا من خلال العمل والإنتاج الذي نقوم به، قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(التوبة: 150).
نعم، إنّ إغفال المستقبل في كلّ عمل هو نوع من التخلّف والخسران لمشروع الإنسان، ومن هنا أدعو الإخوة الأعزاء القائمين على هذا المشروع المبارك التفكير بجدّية لأجل رسم مستقبل الوليد الجديد من هذه المشاريع ورعايته والسهر على إنجاحه وتطوّره، ولا يكون ذلك إلاّ بعد الشعور بالمسؤولية الكبيرة أمام كتاب الله والتضحية من أجله والهمّة العالية في العمل.
وفوق كلّ ذلك التوكّل على الله وحده، فهو مصدر القوّة والكمال والتوفيق والنجاح للإنسان، وقد وعد الله تعالى المؤمنين والمضحين وأصحاب البذل والعطاء بمباركة أعمالهم وإنمائها، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: 261).
أسأله تعالى أن يبارك في جهودكم ويكلل مساعيكم بالنجاح، وأن يجعل القرآن رفيقاً لكم في كلّ الحياة، فهو مصدر النور والنجاح والثبات على الحق، إنّه سميع مجيب.
أخوكم عبدالجليل أحمد المكراني
المشرف العام لدار السيدة رقية (عليها السلام) للقرآن الكريم
قم المقدسة 22 ربيع الثاني 1434هـ . ق
