00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الأحزاب من آية 26 ـ 39 من ( ص 217 ـ 274 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[  217 ]

 الآيتان

 وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـرَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً(27)

 

التّفسير

غزوة بني قريظة إنتصار عظيم آخر:

كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبي (صلى الله عليه وآله) على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام، إلاّ أنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة، و «بنو النضير» في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى، وصمّموا على مواجهة النّبي (صلى الله عليه وآله) وإنهارت مقاومتهم في النهاية، وطردوا إلى خارج المدينة، فذهب «بنو قينقاع» إلى أذرعات الشام، وذهب بعض

[  218 ]

«بني النضير» إلى خيبر، وبعضهم الآخر إلى الشام(1).

بناءً على هذا فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة، واتّصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد إنتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة، فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ طبقاً للرّوايات الإسلامية ـ عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل، فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال: لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد إستعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة، حيث كان المسلمون في حرارة الإنتصار، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم.

هنا نادى مناد من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب، وما كادت الشمس تغرب إلاّ وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً.

لقد إستمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً، وأخير سلّموا جميعاً ـ كما سيأتي في البحوث ـ فقُتل بعضهم، واُضيف إلى سجل إنتصارات المسلمين إنتصار عظيم آخر، وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين

______________________________________

1 ـ الكامل لابن الأثير، المجلّد 2، صفحة 137 ـ 173.

[  219 ]

إلى الأبد.

وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة، وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الإنتصار، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة، فتقول الآية أوّلا: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم).

«الصياصي» جمع (صيصية)، أي: القلعة المحكمة، ثمّ اُطلقت على كلّ وسيلة دفاعية، كقرون البقر، ومخالب الديك. ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة، والتعبير بـ (أنزل) يدلّ على هذا المعنى.

ثمّ تضيف الآية: (وقذف في قلوبهم الرعب) وأخيراً بلغ أمرهم أنّكم (فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم).

إنّ هذه الجمل تمثّل مختصراً وجانباً من نتائج غزوة بني قريظة، حيث قتل جمع من اُولئك الخائنين على يد المسلمين، واُسر آخرون، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.

والتعبير عن هذه الغنائم بـ «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها، وسقطت في أيديهم بسهولة كلّ تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود وإستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية: (وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كلّ شيء قديراً).

هناك إختلاف بين المفسّرين في المقصود من (أرضاً لم تطؤوها) وأيّ أرض هي؟

فاعتبرها البعض إشارة إلى أرض خيبر التي فتحت على أيدي المسلمين فيما بعد.

وإعتبرها آخرون إشارة إلى أرض مكّة.

[  220 ]

وآخرون يعتقدون أنّها إشارة إلى أرض الروم وفارس.

ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الأراضي والبلدان التي وقعت في يد المسلمين من ذلك اليوم وما بعده إلى يوم القيامة.

إلاّ أنّ أيّاً من هذه الإحتمالات لا يناسب ظاهر الآية، لأنّ الآية ـ بقرينة الفعل الماضي الذي جاء فيها (أورثكم) ـ شاهدة على أنّ هذه الأرض قد أصبحت تحت تصرّف المسلمين في حادثة غزوة بني قريظة، إضافةً إلى أنّ أرض مكّة ـ وهي إحدى التفاسير السابقة ـ لم تكن أرضاً لم يطأها المسلمون، في حين أنّ القرآن الكريم يقول: (وأرضاً لم تطؤوها).

والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة، والتي لم يكن لأحد الحقّ في دخولها، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

ولو أغمضنا، فإنّها تتناسب كثيراً مع أرض «خيبر» التي أخذت من اليهود بعد مدّة ليست بالبعيدة، وأصبحت في حوزة المسلمين، حيث إنّ معركة «خيبر» وقعت في السنة السابعة للهجرة.

* * *

 

بحوث

1 ـ غزوة بني قريظة ودوافعها

إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب، لأنّه يقول: (الذين ظاهروهم).

إضافةً إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة

[  221 ]

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

2 ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد اُمر بعد إنتهاء معركة الأحزاب مباشرةً أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم، ويقال: إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد، فقد أمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن تحاصر حصونهم، ودام الحصار خمسة وعشرين يوماً، وقد ألقى الله عزّوجلّ الرعب الشديد في قلوب اليهود، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّداً لن يتركنا حتّى يقاتلنا، وأنا أقترح عليكم ثلاثة اُمور إختاروا أحدها:

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم، وعند ذلك ستُصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، فقالوا: لا نرجع عن حكم التوراة أبداً، ولا نقبل بدلها شيئاً.

قال: فإذا رفضتم ذلك، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّداً وأصحابه ونرى ما يريده الله، فإن قُتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا، وإن إنتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا: أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد: فإن أبيتم هذا أيضاً فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّ محمّداً

[  222 ]

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا: ولا نفعل ذلك، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبداً.

فقال كعب: ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته اُمّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه، فقال الرجال: أترى لنا أن نخضع لحكم محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال أبو لبابة: نعم، وأشار إلى نحره، أي إنّه سيقتلكم جميعاً!

يقول أبو لبابة: ما إن تركتهم حتّى إنتبهت لخيانتي، فلم آت النّبي (صلى الله عليه وآله) مباشرةً، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت: لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل (وآخرون اعترفوا بذنوبهم).(1)

وأخيراً اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا: بلى، فقال سعد: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّداً بأنّهم يقبلون بما يحكم، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبي (صلى الله عليه وآله) واقفاً فقال: حكمي فيهم نافذ؟ قال: نعم، فقال: انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(2).

 

3 ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على اُولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:

______________________________________

1 ـ سورة التوبة، الآية 102.

2 ـ سيرة ابن هشام، المجلّد 3، صفحة 244 وما بعدها، والكامل لابن الأثير، ج2، ص185 وما بعدها بتلخيص.

[  223 ]

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، وإطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للأنتصارات المستقبلية، وخاصة فتح «خيبر».

هـ ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.

 

4 ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب: (فريقاً تقتلون) أي أنّها قدّمت (فريقاً) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقاً) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك: إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا اُناساً معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر، مراعاة للإنسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة: (وقذف في قلوبهم الرعب) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك، أي أنّ الخطوة الاُولى هي إيجاد الرعب، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين، والمفرّح لهم، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّاً.

[  224 ]

والتعبير بـ (أورثكم أرضهم وديارهم) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة الله عزّوجلّ في آخر آية: (وكان الله على كلّ شيء قديراً) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.

* * *

[  225 ]

 

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا(28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً(29) يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَـعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30)وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـلِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً(31)

 

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه، وهي لا تختلف عن بعضها كثيراً من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة، أو لوازم الحياة المختلفة، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

[  226 ]

وطبقاً لنقل بعض التفاسير فإنّ «اُمّ سلمة» طلبت من النّبي (صلى الله عليه وآله) خادماً لها، وطلبت «ميمونة» حلّة، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشاً يمنياً خاصّاً، و «حفصة» لباساً مصرياً، و «جويرية» لباساً خاصّاً، و «سودة» بساطاً خيبرياً! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئاً. فامتنع النّبي (صلى الله عليه وآله) عن تلبية طلباتهنّ، وهو يعلم أنّ الإستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة، وإعتزلهنّ شهراً، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الإنفصال عن النّبي (صلى الله عليه وآله) والذهاب إلى حيث تردن، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر، وإقتنعتنّ بحياة النّبي (صلى الله عليه وآله) البسيطة والباعثة على الفخر، فابقين معه، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقعنّ رفاهية العيش، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبي (صلى الله عليه وآله) و «مفارقته».

* * *

 

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاُولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (اُمّهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظَنَنَّ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين، ويعطى لهنّ ما ناله

[  227 ]

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة، فليس النّبي (صلى الله عليه وآله) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء، ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصُفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبي (صلى الله عليه وآله) لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاُخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف، حتّى أنّهنّ قلن: لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجاً من قومنا غيرك(1). هنا اُمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي، فخاطبت الآية الاُولى من الآيات أعلاه النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين اُمتّعكن واُسرحكنّ سراحاً جميلا).

«اُمتّعكنّ» من مادّة متعة، وكما قلنا في الآية (236) من سورة البقرة، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر، وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هاديء مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر، و

______________________________________

1 ـ كنز العرفان، المجلّد 2، ص238.

[  228 ]

«سرّحت الإبل»، أي: أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص، وتأتي أحياناً كناية عن الطلاق، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله، وفيه معنى الإطلاق أيضاً. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقاً بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين، فإن أردن الفراق أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) صيغة الطلاق، وإلاّ يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّه لا يجري في سائر الناس، لا يبدو صحيحاً، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة، إلاّ أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات، إضافةً إلى أنّ لتعبير (اُسرحكنّ) ظهوراً في أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يقدّم على تسريحهنّ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية 229)(1).

وتضيف الآية التالية: (وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً).

______________________________________

1 ـ طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية، وخاصة كتاب الجواهر، المجلّد 29، صفحة 122 وما بعدها.

[  229 ]

لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الإهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، وإهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: (يانساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً).

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لإرتباطكنّ المستمر بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ولقائه، إضافةً إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجاً وقدوة لهم. بناءً على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة، فإنّ لكُنَّ حظّاً أعظم من العلم، ولكُنّ موقع

[  230 ]

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، ومن جهة اُخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنباً آخر، ويستوجب عذاباً آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها اُناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قوله عزّوجلّ: (وكان ذلك على الله يسيراً) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى، وأنّ علاقتكنّ بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ستكون مانعة منه، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء، أو يعيرونها أهميّة قليلة .. كلاّ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: (ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين واعتدنا لها رزقاً كريماً).

«يقنت» من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(1)، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اُخرى، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده، بل يجب أن تُلمس آثاره بمقتضى (وتعمل صالحاً).

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعاً لكلّ هذه المواهب.

* * *

 

______________________________________

1 ـ المفردات للراغب، مادّة قنوت.

[  231 ]

بحث

لماذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا: إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف، وإن ارتكبن ذنباً مبيّناً فلهنّ عذاب الضعف بما إكتسبن، إلاّ أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان إمتلاك المقام والمكانة المرموقة، والشخصية الإجتماعية البارزة، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز إجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة، بل إنّ لوجودهم بعدين: بعد يتعلّق بهم، وبعد يرتبط بالمجتمع، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سبباً لهداية جماعة من الناس، أو ضلال اُخرى.

بناءً على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين: أحدهما فردي، والآخر إجتماعي، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّه قال: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(1)!

ومضافاً إلى ذلك، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة، حيث نقرأ: «إنّ الثواب على قدر العقل»(2).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(3).

بل ورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): إذا بلغت النفس ههنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، ثمّ قرأ: (إنّما التوبة للذين يعملون السوء

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، ص37 باب لزوم الحجّة على العالم.

2 ـ اُصول الكافي، الجزء الأوّل، صفحة 9 كتاب العقل والجهل.

3 ـ المصدر السابق.

 ]232 ]

بجهالة)(1).

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة، فقد تكون ضعفين حيناً، وتكون أضعافاً مضاعفة حيناً آخر، تماماً كما في الأعداد التي لها صفة التكثير، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف: ضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعداً ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفاً شاهد آخر على هذا الإدّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص وإختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة إختلاف مكاناتهم الإجتماعية، وكونهم اُسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وذلك أنّ رجلا قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب الإمام وقال: «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من أن نكون كما تقول، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، ثمّ قرأ الآيتين»(2).

* * *

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 38 باب لزوم الحجّة على العالم، والآية (17) من سورة النساء.

2 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 354 ذيل الآية مورد البحث.

[  233 ]

 

 

الآيات

 

يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفاً (32)وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرَّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً(34)

 

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسؤولياتهنّ الخطيرة، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، وتأمر الآيات نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: (يانساء النّبي لستنّ كأحد من النساء إن

 ]234 ]

اتقيتنّ) فإنّ إنتسابكنّ إلى النّبي من جانب، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعاً خاصّاً بحيث تقدرن على أن تكن نموذجاً وقدوة لكلّ النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية، وبناءً على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ، ولا تنسين مسؤولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاُخرى في هذا المجال تلقائياً، فيقول:

(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وباُسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وإرتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ (الذي في قلبه مرض) تعبير بليغ جدّاً، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الإعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أمّا عندما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضاً قد يصل إلى حدّ الجنون، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعاً وأقساماً من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقول عزّوجلّ: يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله، ومقترناً مع الحقّ والعدل: (وقلن قولا معروفاً).

إنّ جملة (لا تخضعن بالقول) إشارة إلى طريقة التحدّث، وجملة: (وقلن قولا

 ]235 ]

معروفاً) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل، إضافةً إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحاً للجملة الاُولى لئلاّ يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذياً وبعيداً عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ، وفي الوقت نفسه يكون خالياً من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاُولى).

«قرن» من مادّة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن إلتزام البيوت. وإحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيراً(1).

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

______________________________________

1 ـ طبعاً يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، وحذفت الراء الاُولى للتخفيف، وإنتقلت فتحة الراء إلى القاف، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّداً ـ

[  236 ]

للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اُخرى ستأتي كالجاهلية الاُولى التي ذكرها القرآن، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلاّ أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاُولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح»، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاُولى هي الجاهلية قبل الإسلام، والتي اُشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (143) من سورة آل عمران، والآية (50) من سورة المائدة، والآية (26) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس، فيقول سبحانه: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله).

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الإتّصال والإرتباط بالخالق عزّوجلّ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة: (أطعن الله ورسوله) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادةً ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

[  237 ]

خاصّة بأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله). وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلاّ فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله)، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبراً، إلاّ أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية إكتسابية عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا اُسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع إمتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها، تماماً كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الإمتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والإطلاع، والمبادىء الفطرية والطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها(1). وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الإعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

______________________________________

1 ـ ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه، وأربعة أنواع كمصاديق له.

[  238 ]

ونفي السيّئات، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيداً آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير (أهل البيت) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين، وهو الشيء الذي يُفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلاّ أنّ المراد منه بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(1).

إلاّ أنّ هناك إختلافاً في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

إعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختّص بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الإنتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الإدّعاء، وهي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع وإعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) رجالا ونساءً.

ومن جهة اُخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي إختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

______________________________________

1 ـ ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة إلى بيت الله الحرام، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقاً مع سياق الآيات، لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه، لا عن بيت الله الحرام، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

[  239 ]

وقد أجاب المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاُولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جواباً آخر ملخّصه: لا دليل لدينا على أنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...) قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّداً من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله) أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسؤوليات ثقيلة، وينتظر منه الله وعباده إنتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي، ونبّهتهن على ضرورة إستغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة).

فإنكنّ في مهبط الوحي، وفي مركز نور القرآن، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّداً من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتحدّث به، فإنّ كل نَفَس من أنفاسه درس، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين: إنّ كليهما

[  240 ]

إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر: إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبي (صلى الله عليه وآله) مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر، إضافةً إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة، كالآية (231) من سورة البقرة: (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) ويشبهه ما جاء في الآية (113) من سورة النساء.

وأخيراً تقول الآية: (إنّ الله كان لطيفاً خبيراً) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها، ويعلم نيّاتكم تماماً، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يانساء النّبي، وهو خبير بأعمالكنّ أيضاً.

ويحتمل أيضاً أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحِكَمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

 

بحوث

1 ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة:

إعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد، بل إنّ إطلاق

[  241 ]

الرجس ـ وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه، وهي ألف لام الجنس ـ يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي، لأنّ كلّ المعاصي رجس، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أُطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك.

اُنظر الآيات: الحجّ ـ 30، المائدة ـ 90، التوبة ـ 125، الأنعام ـ 145.

وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع، وأنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) دليل على إرادته الحتمية، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ، وهذا هو مقام العصمة.

وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع، ولا تختّص بأهل البيت، وبناءً على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).

إذن، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل البيت على العصمة والإستمرار فيها، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار، كما فصّلنا ذلك سابقاً.

إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة: «عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً».

وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيت (عليهم السلام).

 

2 ـ فيمن نزلت آية التطهير؟

قلنا: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي، إلاّ

[  242 ]

أنّ تغيير سياقها ـ حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر ـ دليل على أنّ لهذه الآية معنىً ومحتوىً مستقلا عن تلك الآيات، ولهذا فحتّى اُولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فإنّهم إعتقدوا أنّ لها معنىً واسعاً يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبي (صلى الله عليه وآله).

إلاّ أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلاّء، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن بإحترام خاصّ، ونضع بين أيديكم بعضاً من هذه الروايات:

أ : الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) أنفسهنّ، والتي حدثن فيها: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) عندما كان يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه: أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب: بأنكنّ إلى خير، ولكن لستنّ من أصحابها.

ومن جملتها الرواية التي رواها «الثعلبي» عن «اُمّ سلمة» في تفسيره، وذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها إذ أتته فاطمة (عليها السلام) بقطعة حرير، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «ادعي لي زوجك وإبنيك ـ الحسن والحسين ـ» فأتت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم النّبي (صلى الله عليه وآله)كساءً له خيبرياً وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» فنزلت آية التطهير، فقلت: يارسول الله وأنا معهم؟ قال: «إنّك إلى خير» ولكنّك لست منهم(1).

ويروي «الثعلبي» أيضاً عن «عائشة» أنّها عندما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة، قالت بأسف: كان ذلك قضاء الله. وعندما سئلت عن علي (عليه السلام) قالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام)، وجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب عليهم ثمّ قال: «اللهمّ هؤلاء أهل

______________________________________

1 ـ روى الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن اُمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد 2، صفحة 56 وما بعدها.

[  243 ]

بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» قالت: فقلت: يارسول الله، أنا من أهلك! قال: «تنحّي فإنّك إلى خير»(1) ـ إلاّ أنّك لست جزءاً منهم ـ .

إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله) لسن جزءاً من أهل البيت في هذه الآية.

ب : لقد وردت روايات كثيرة جدّاً بصورة مجملة في شأن حديث الكساء، يستفاد منها جميعاً أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ـ أو أنّهم أتوا إليه ـ فألقى عليهم عباءة وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، فنزلت الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...).

وقد روى العالم المعروف «الحاكم الحسكاني النيسابوري» هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(2).

وهنا سؤال يلفت النظر، وهو: ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟

كأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماماً، ويقول: إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلاّ يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبي (صلى الله عليه وآله) قرابة، وكلّ من يعدّ جزءاً من أهله، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(3).

ج : نقرأ في روايات عديدة اُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح: «الصلاة ياأهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً». وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن

______________________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ شواهد التنزيل، المجلّد 2، صفحة 31 وما بعدها.

3 ـ الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.

[  244 ]

مالك(1).

وروى ابن عبّاس أيضاً هذا الحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله)(2).

وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماماً لئلاّ يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحاً إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين، هي دار فاطمة (عليها السلام)، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبي (صلى الله عليه وآله) حين الصلاة هناك ـ تأمّلوا ذلك ـ .

ومع ذلك، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنىً عامّاً تدخل فيه أزواج النّبي، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام، السنّة منهم والشيعة، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.

وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ عائشة ـ زوجة النّبي لم تكن تدع شيئاً في ذكر فضائلها، ودقائق علاقتها بالنّبي (صلى الله عليه وآله) بشهادة الروايات الإسلامية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلابدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقاً.

د : رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف «أبي سعيد الخدري» تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار: «نزلت في خمسة: في رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين»(3). وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة.

______________________________________

1 ـ شواهد التنزيل، المجلّد 2، صفحة 11.

2 ـ الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ شواهد التنزيل، الجزء 2، صفحة 25.

[  245 ]

وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على إختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة، حتّى أنّه ذُكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدراً من مصادر العامّة المعروفة، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألفا(1). وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) ـ وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين ـ أكثر من (130) حديثاً في هذا الموضوع(2).

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة، ولا تناسب كونهنّ معصومات، كحادثة «حرب الجمل» التي كانت ثورة وخروجاً على إمام الزمان، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب ـ عند بعض المؤرخّين ـ سبعة عشر ألف قتيل.

ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.

إنّ إنتقاص عائشة من خديجة ـ والتي هي من أعظم نساء المسلمين، وأكثرهنّ تضحية وإيثاراً، وأجلّهنّ فضيلة وقدراً ـ مشهور في تاريخ الإسلام، وقد آلم هذا الكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال: «لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس»(3).

 

3 ـ هل أنّ الإرادة الإلهيّة هنا تكوينية أم تشريعية؟

مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع، وقلنا: إنّ الإرادة

______________________________________

1 ـ يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ وهوامشه.

2 ـ يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة 10 ـ 92.

3 ـ الإستيعاب، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. طبقاً لنقل المراجعات صفحة 229 الرسالة 72.

[  246 ]

في جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) إرادة تكوينية لا تشريعية.

ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من «الإرادة التشريعية» هي أوامر الله ونواهيه، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال الله عزّوجلّ. في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه، فهي تقول: إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس، وبناءً على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذا الموضوع ـ أي الإرادة التشريعيّة ـ مضافاً إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيت (عليهم السلام).

ومن المسلّم أيضاً أنّ «الرجس» هنا لا يعني الرجس الظاهري، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية، وإطلاق هذه الكلمة ينفي إنحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية.

والمسألة الاُخرى التي ينبغي الإلتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد، تعني هنا «المقتضي» لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار.

وتوضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على

[  247 ]

إرتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون على إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها بإختيارهم، ويغضّون الطرف عنها طوعاً، تماماً كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقاً مادّة سمّية جدّاً وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، ومع أنّه قادر على تناولها، إلاّ أنّ علومه وإطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الإمتناع إرادياً وإختياراً عن هذا العمل.

ويجب التذكير بهذه المسألة، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم، وبناءً على هذا فإنّه إمتياز يعود نفعه على الجميع، وهذه عين العدالة، تماماً كالإمتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّاً، والتي يستفيد منها جميع البدن.

إضافةً إلى أنّ الأنبياء تعظم مسؤولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والإمتيازات، فإنّ ترك الاُولى من قبلهم يعادل ذنباً كبيراً يصدر من الناس العاديين، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة.

والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى ـ وليست علّة تامّة ـ وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية.

 

4 ـ جاهلية القرن العشرين!

مرّت الإشارة إلى أنّ جمعاً من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاُولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اُخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلاّ أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ ـ

[  248 ]

مثلا ـ ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، وقتل على أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد!

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ وقلائدهنّ وأقراطهنّ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة ـ ونموذجها مشهور في بريطانيا ـ حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم اُمّهاتهم، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام»، حيث كنّ يرفعن أعلاماً فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ، ففي جاهلية قرننا اُناس يطرحون اُموراً ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة، يندى لها الجبين، ولجاهلية العرب مئة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية.

والخلاصة: ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر .. عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان، فعدم الحديث عنها أولى، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.

إنّ ما قلناه كان جانباً من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحياناً.

* * *

[  249 ]

 

 

الآية

 

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ وَالْقَنِتِينَ وَالْقَـنِتَـتِ وَالصَّـدِقِينَ وَالصَّـدِقَـتِ وَالصَّـبِرِينَ وَالصَّـبِرَتِ وَالْخَـشِعِينَ وَالْخَـشِعَـتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـتِ وَالصَّـئِمِينَ وَالصَّـئِمَـتِ وَالْحَـفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـفِظَـتِ وَالذَّكرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّكِرَتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(35)

 

سبب النّزول

أورد جمع من المفسّرين في سبب نزول هذه الآية انّه عندما رجعت «أسماء بنت عميس» زوجة «جعفر بن أبي طالب» من الحبشة مع زوجها، جاءت إلى زوجات النّبي، فسألتهن: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ فقلن: لا، فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت:

«يارسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال: وممّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية (التي طمأنت النساء بأنّ

[  250 ]

لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية).

 

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الأسلام:

بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كلّ النساء والرجال وصفاتهم، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها.

إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب والجنان، والعمل بالأركان).

والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم.

وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين، والإستقامة أمام الحوادث الصعبة، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان.

وأخيراً تتحدّث عن عامل إستمرار هذه الصفات، أي «ذكر الله تعالى».

تقول الآية: (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات). أي المطيعين لأوامر الله والمطيعات.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد اعتبر الإسلام والإيمان في الآية بمعنى واحد، إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا التكرار يوحي بأنّ المراد منهما شيئان مختلفان، وهو إشارة إلى المطلب الذي ورد في الآية (14) من سورة الحجرات: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم)!

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صفّ

[  251 ]

المسلمين، ويصبح مشمولا بأحكامهم، إلاّ أنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

وقد أشارت الرّوايات الإسلامية إلى هذا التفاوت في المعنى، ففي رواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) سأله عن الإسلام والإيمان، وهل أنّهما مختلفان؟ فقال الإمام (عليه السلام): «إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان»، فاستوضح الرجل الإمام أكثر فقال (عليه السلام): «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب، وما ظهر من العمل به»(1).

«قانت» من مادّة (القنوت)، وهي ـ كما قلنا سابقاً ـ الطاعة المقترنة بالخضوع، الطاعة التي تنبع من الإيمان والإعتقاد، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثمّ تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين، أي حفظ اللسان، فتقول: (والصادقين والصادقات).

ويستفاد من الرّوايات أنّ إستقامة إيمان الإنسان وصدقه بإستقامة لسانه وصدقه: «لا يستقيم إيمان امرىء حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(2).

ولمّا كان الصبر والتحمّل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة، فقالت: (والصابرين والصابرات).

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع»، لذلك كانت الصفة السادسة: (والخاشعين

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، صفحة 21 باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام.

2 ـ المحجّة البيضاء، المجلّد 5، ص193.

 ]252 ]

والخاشعات).

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه، فإنّ حبّ المال أيضاً آفةً كبرى، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين، لذلك كانت صفتهم السابعة: (والمتصدّقين والمتصدّقات).

قلنا: إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية، وهي: اللسان والبطن والشهوة الجنسية، وقد اُشير إلى الأوّل في الصفة الرّابعة، أمّا الشيء الثّاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة، فقالت: (والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات).

وأخيراً تطرّقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الإستمرار في كلّ الصفات السابقة والمحافظة عليها، فقالت: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

أجل .. إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع الله ويذكروه في كلّ حال، وفي كلّ الظروف، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلاّ يحيدوا عن الصراط المستقيم.

وقد ذكرت تفاسير مختلفة لـ «الذكر الكثير» في الرّوايات وكلمات المفسّرين، وكلّها من قبيل ذكر المصداق ظاهراً، ويشملها جميعاً معنى الكلمة الواسع. ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصلّيا كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»(1).

وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من بات على تسبيح فاطمة (عليها السلام) كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات»(2).

______________________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

[  253 ]

وقال بعض المفسّرين: إنّ «الذكر الكثير» هو الذكر حال القيام والقعود، وذكر الله عندما يأوي المرء إلى فراشه.

وعلى أي تقدير، فإنّ الذكر علامة الفكر، والفكر مقدّمة للعمل، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقاً.

ثمّ تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتّعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد (أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سبباً في تلوّث أرواحهم، بماء المغفرة، ثمّ كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلاّ هو.

والواقع إنّ أحد هذين الأمرين يطرد كلّ المنغّصات، والآخر يجلب كلّ الخيرات.

إنّ التعبير بـ «أجراً» دليل بنفسه على عظمته، ووصفه بـ «العظيم» تأكيد على هذه العظمة، وكون هذه العظمة مطلقة دليل آخر على سعة أطرافها وتراميها، ومن البديهي، أنّ الشيء الذي يعده الله عظيماً يكون خارقاً في عظمته.

وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ جملة (أعدّ) قد وردت بصيغة الماضي، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء وعدم إمكان خلفه وعدم الوفاء به، أو أنّه إشارة إلى أنّ الجنّة ونعمها معدّة منذ الآن للمؤمنين.

* * *

 

بحث

مساواة الرجل والمرأة عند الله:

يتصوّر البعض أحياناً أنّ الإسلام قد رجّح كفّة شخصية الرجال، ولا مكانة مهمّة للنساء في برامج الإسلام، وربّما كان منشأ هذا الإشتباه هو بعض الإختلافات الحقوقية، والتي لكلّ منها فلسفة خاصّة.

[  254 ]

ومع غضّ النظر عن مثل هذه الإختلافات التي لها علاقة بالمكانات والمراكز الإجتماعية وظروفها الطبيعية ـ فلا شكّ في عدم وجود أي فرق بين الرجل والمرأة في تعليمات الإسلام من الناحية الإنسانية والمقامات المعنوية، والآية المذكورة دليل واضح على هذه الحقيقة، لأنّها وضعت المرأة والرجل في مرتبة واحدة ككفّتي ميزان لدى تبيانها خصائص المؤمنين، وأهمّ المسائل العقائدية والأخلاقية والعملية، ووعدت الإثنين بمكافآت متكافئة وثواب متساو بدون أي تفاوت وإختلاف.

وبتعبير آخر: لا يمكن إنكار التفاوت الجسمي بين الرجل والمرأة، كما لا يمكن إنكار التفاوت النفسي بينهما أيضاً، ومن البديهي أنّ هذا التفاوت ضروري لإدامة نظام المجتمع الإنساني، كما أنّه يفرز آثاراً ونتائج في بعض القوانين الحقوقية للمرأة والرجل، إلاّ أنّ الإسلام لم يطرح شخصية المرأة الإنسانية للمناقشة ـ كما فعل ذلك بعض القساوسة المسيحيين في القرون الماضية ـ بأنّ المرأة هل هي إنسان في الواقع؟ وهل لها روح إنسانية أم لا؟!

ولم يكتف بذلك فحسب، بل أكّد على عدم الفرق بين الجنسين من ناحية الروح الإنسانية، ولذلك نقرأ في الآية (97) من سورة النحل (من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).

لقد أقرّ الإسلام للمرأة نفس الإستقلال الإقتصادي الذي أقرّه للرجل، على عكس كثير من قوانين العالم السابقة، بل وحتّى قوانين عالم اليوم التي لم تبح للمرأة الإستقلال الإقتصادي مطلقاً.

من هنا، فإنّنا نلاحظ في علم الرجال الإسلامي جانباً خاصّاً يتعلّق بالنساء العالمات اللواتي كنّ في مصافّ الرواة والفقهاء، وقد ذكرن كشخصيات مؤثّرة وفاعلة في التاريخ الإسلامي.

[  255 ]

وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، وحقّقنا في وضع النساء في ذلك المجتمع، ورأينا كيف أنهنّ كنّ محرومات من أبسط حقوق الإنسان، بل لم يكن المشركون يعتقدون بأنّ لهنّ حقّ الحياة أحياناً، ولذلك كانوا يئدونهنّ وهنّ أحياء بعد ولادتهنّ!!

وكذلك إذا نظرنا إلى وضع المرأة في عالمنا المعاصر حيث أصبحت اُلعوبة لا إختيار لها ولا إرادة في أيدي مجموعة من المتلبّسين بلباس الإنسانية ويدعون التمدّن، فسوف ندرك جيداً بأنّ الإسلام قد خدم المرأة أيّما خدمة، وله حقّ عظيم عليهنّ(1)؟!

* * *

______________________________________

1 ـ كان لنا بحث آخر في هذا المجال في ذيل الآية (228) من سورة البقرة، وكذلك ورد بحث آخر في ذيل الآية (97) من سورة النحل.

[  256 ]

 

 

الآيات

 

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلا مُّبِيناً(36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا(37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَج فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً(38)

 

سبب النّزول

نزلت هذه الآيات ـ على قول أغلب المفسّرين ـ في قضيّة زواج «زينب بنت جحش» ـ بنت عمّة الرّسول الأكرم ـ بزيد بن حارثة مولى النّبي (صلى الله عليه وآله) المعتق، وكانت القصّة كما يلي:

[  257 ]

كانت خديجة قد إشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبي (صلى الله عليه وآله) عبداً إسمه زيد، ثمّ وهبته للنبي (صلى الله عليه وآله) فأعتقه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبي (صلى الله عليه وآله).

وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلماً مخلصاً متفانياً، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة وإستشهد فيها.

وعندما صمّم النّبي (صلى الله عليه وآله) على أن ينتخب زوجة لزيد، خطب له «زينب بنت جحش» ـ والتي كانت بنت «اُميّة بنت عبدالمطلّب»، أي بنت عمّته ـ فكانت زينب تظنّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يريد أن يخطبها لنفسه، فسرّت ورضيت، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّراً شديداً وإمتنعت، وكذلك خالف أخوها عبدالله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.

هنا نزلت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبدالله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضرورياً، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.

إنّ هذا الزواج لم يكن زواجاً بسيطاً ـ كما سنرى ذلك ـ بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للإقتران بعبد في زمن الجاهلية، حتّى وإن كان متمتّعاً بقيم إنسانية عالية.

غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا، بل إنتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الإنسجام وإختلاف أخلاق الزوجين، بالرغم من أنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان مصرّاً على أن لا يتمّ هذا الطلاق.

بعد ذلك اتّخذ النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله «زينب» زوجةً له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها، فإنتهت المسألة هنا، إلاّ أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس، وقد إقتلعها القرآن و عالجها في هذه الآيات التي نبحثها، وسيأتي تفصيل ذلك، إن

[  258 ]

شاءالله تعالى(1).

 

التّفسير

تمرّد عظيم على العرف:

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم، ويجب أن يكون تسليماً لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم، وبعبارات مختلفة، ومن جملتها الآية أعلاه، والتي تقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله تعالى، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.

(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي، والقانون والأمر والحكم والقضاء، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم، ولم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة، إلاّ أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.

إنّ هذه الحالة تشبه تماماً حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض: إنّني أبدأ بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماماً، ولم تبد أي مخالفة تجاهها، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها، حيث تقول: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً).

فسوف يضلّ طريق السعادة، ويسلك طريق الضلال والضياع، لأنّه لم يعبأ بأمر

______________________________________

1 ـ إقتباس من تفسير مجمع البيان، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، وتفاسير اُخرى في ذيل الآيات مورد البحث، وكذلك سيرة ابن هشام، المجلّد الأوّل، صفحة 264، والكامل لابن الأثير، المجلّد الثّاني، صفحة 177.

[  259 ]

ربّ الكون الرحيم، وبأمر رسوله، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!

ثمّ تناولت الآية التالية قصّة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولها إرتباط بمسألة أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق الله).

والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجاراً قد وقع بين زيد وزينب، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق، وبملاحظة جملة (تقول) حيث إنّ فعلها مضارع، يتسفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائماً ويمنعه من الطلاق.

هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الإجتماعية بين زينب وزيد، حيث كانت من قبيلة معروفة، وكان هو عبداً معتق؟

أم كان ناتجاً عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟

أو لا هذا ولا ذاك، بل لعدم وجود إنسجام روحي وأخلاقي بينهما، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين، إلاّ أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟

ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.

ثمّ تضيف الآية: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه).

لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية، وسبب نزول الآيات، والتأريخ، أنّ معنى الآية ليس مطلباً ومبحثاً معقّداً، وذلك:

[  260 ]

إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان قد قرّر أن يتّخذ «زينب» زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق، إلاّ أنّه كان قلقاً وخائفاً من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء، من جهتين:

الاُولى: أنّ زيداً كان ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتبنّي، وكان الابن المتبنّى ـ طبقاً لسنّة جاهلية ـ يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.

والاُخرى: هي كيف يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟

ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.

بناءً على هذا، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الإقتران بمطلّقة الابن المتبنّى، والزواج من مطلّقة عبد معتق.

من المسلّم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا، إلاّ أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على إنتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.

لهذا تقول الآية في متابعة المسألة: إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك: (فلمّا قضى زيد منها وطراً زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين

 ]261 ]

حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطراً) وكان لابدّ أن يتمّ هذا الأمر (وكان أمر الله مفعولا).

«الأدعياء» جمع «دعي»، أي الابن المتبنّى، و «الوطر» هو الحاجة المهمّة، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان، لئلاّ يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيباً للنساء، بل وحتّى للرجال، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجاً للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة، وإفتراقهما كان نتيجة لإنتفاء هذه الحاجة ونهايتها.

والتعبير بـ (زوجناكها) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجاً بأمر الله، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت تقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(1).

وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية، وهي أنّ تعدّد زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن أمراً عادياً بسيطاً، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.

وجملة (كان أمر الله مفعولا) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق، حيث لا معنى للإستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.

ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الإدّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقاً، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحاً أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: (ما كان على النّبي من حرج

______________________________________

1 ـ الكامل لابن الأثير، المجلّد 2، ص177. وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من زينب قد تمّ في السنة الخامسة للهجرة. المصدر السابق.

[  262 ]

فيما فرض الله) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة، ولتحطيم البدع القبيحة.

إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء، وأن كونوا مصداق (ولا يخافون لومة لائم).(1)

إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها، كما يقول القرآن الكريم ذلك: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم).(2)

وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها، لأنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا:

الأوّل: أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر اُولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي، وكانت هذه بدعة يجب أن تُلغى.

والآخر: أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبي (صلى الله عليه وآله) من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيباً وعاراً، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتّث من الجذور لتُزرع مكانها القيم الإنسانية، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.

______________________________________

1 ـ المائدة، 54.

2 ـ البقرة، 120.

[  263 ]

وأساساً فانّ مخالفة السنن والأعراف، وإقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل).

فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اُصول الأعراف الفاسدة منها.

ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اُخرى ليعيبوا على النّبي (صلى الله عليه وآله) فعله، ويطعنوا في دينه، وسيأتي تفصيل ذلك.

ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).

إنّ التعبير بـ (قدراً مقدوراً) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلاّ أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة، وكذلك لابدّ من تنفيذه بدون إستفهام أو تلكّؤ.

والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد أولم للناس وليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما سبق إقترانه بزوجاته(1)، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي، إضافةً إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.

* * *

______________________________________

1 ـ يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: فتزوّجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان، ج8، ص361.

[  264 ]

بحثان

1 ـ أساطير كاذبة

مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الإبن المدّعى، إلاّ أنّها ظلّت مورد إستغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا إختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.

ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب، فقال: «سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين» واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبي (صلى الله عليه وآله)بزينب.

في حين أنّ هناك دلائل واضحة ـ بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة ـ تكذّب هذه الأساطير:

الاُولى: أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقد تربيّا وكبرا معاً في محيط عائلي تقريباً، والنّبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي خطبها بنفسه لزيد، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق، وعلى فرض أنّه استرعى إنتباهه، فلم يكن جمالها أمراً خافياً عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمراً عسيراً، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الإقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحةً، وكانت ترجّح تماماً أن تكون زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله)، بحيث أنّها سرّت وفرحت عندما ذهب النّبي (صلى الله عليه وآله) لخطبتها ظنّاً منها بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يخطبها لنفسه، إلاّ أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيداً.

مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن عالماً بحال

[  265 ]

زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطيء بأن يكون راغباً في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟

والثّانية: أنّ زيداً عندما كان يراجع النّبي (صلى الله عليه وآله) لطلاق زوجته زينب، كان النّبي ينصحه مراراً بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدّعاءات والأساطير.

ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلاّ يبقى مجال لأقاويل اُخرى.

ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول: قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.

إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كلّ الإعتبارات الشخصية جانباً من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطيء وسنّة مبتدعة.

إلاّ أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها لاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!

أجل .. لو كان النّبي (صلى الله عليه وآله) لم ير زينب من قبل مطلقاً، ولم يكن يعرفها، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الإقتران به، ولم يكن زيد مستعدّاً لطلاقها ـ وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة ـ لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات، لكن بملاحظة إنتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.

إضافةً إلى أنّ تاريخ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود

[  266 ]

رغبة خاصّة لديه (صلى الله عليه وآله) في الزواج من زينب، بل هي كسائر الزوجات، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.

ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى إحتمال أن يقول شخص: إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبي (صلى الله عليه وآله) هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.

غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة ـ خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفراد هم دون شأن المقابل ظاهراً ـ قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحياناً، إذ يقول الناس: إذا كان هذا الأمر حسناً فلماذا لم يفعله هو؟ لِمَ لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وإبنه المتبنى؟

في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافةً إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثاراً.

 

2 ـ روح الإسلام التسليم أمام الله

لا شكّ أنّ إستقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط، لأنّه إنسان مثله، ومن الممكن أن تكون له أخطاء وإشتباهات في المسائل.

أمّا إذا إنتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والإنحراف، حيث لا يوجد أدنى إشتباه في أوامره سبحانه. إضافةً إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله

[  267 ]

بعد تشخيص هذه الحقيقة؟

ومضافاً إلى ذلك فإنّنا منه تعالى، وكلّ ما لدينا منه، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلاّ التسليم لإرادته وأمره، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة:

فمرّة تقول آية: (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واُولئك هم المفلحون).(1)

وتقول اُخرى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).(2)

ويقول القرآن في موضع آخر: (ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن).(3)

إنّ «الإسلام» أخذ من مادّة «التسليم»، وهو يشير إلى هذه الحقيقة، وبناءً على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.

ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية: فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط، وهؤلاء في الحقيقة مشركون إنتحلوا اسم الإسلام، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى، فهم مصداق (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.

وآخرون جعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.

والقسم الثالث أسمى من هؤلاء، فهم لا يريدون إلاّ ما أراد الله، وليس في

______________________________________

1 ـ النور، 51.

2 ـ النساء، 65.

3 ـ النساء، 125.

[  268 ]

قلوبهم إلاّ ما يشاؤه سبحانه، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلاّ ما يحبّه الله، ولا يبغضون إلاّ ما أبغضه الله عزّوجلّ.

هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم، وغرقوا في حبّه، وفنوا في جماله(1).

 

* * *

______________________________________

1 ـ لقد أوردنا بحثاً آخر في هذا الباب في ذيل الآية (65) من سورة النساء.

[  269 ]

 

 

الآية

 

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـلَـتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً(39)

 

التّفسير

من هم المبلّغون الحقيقيون؟

تشير الآية مورد البحث، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة، فتقول: (الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله).

وكذلك الحال بالنسبة إليك، فينبغي أن لا تخش أحداً في تبليغ رسالات الله، وعندما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياء (عليهم السلام).

إنّ عمل الأنبياء (عليهم السلام) في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادةً، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في

[  270 ]

أداء رسالاتهم، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا بإصطناع الأجواء ضدّهم، وضجيج العوام، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه، ولذلك تقول الآية في النهاية: (وكفى بالله حسيباً).

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ جملة: (وكفى بالله حسيباً) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئاً أو أحداً في إبلاغ الرسالات، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم، وهو المثيب عليها.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ المراد من «التبيلغ» هنا هو الإبلاغ والإيصال، وعندما يرتبط الأمر  بـ «رسالات الله» فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الإستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة.

2 ـ «الخشية» تعني الخوف المقترن بالتعظيم والإحترام، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحياناً بمعنى مطلق الخوف.

وقد ورد في مؤلّفات المحقّق «الطوسي» كلام في الفرق بين هذين اللفظين، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي، فانّه يقول: إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد ـ أو يقربان من معنى واحد ـ إلاّ أنّ بينهما فرقاً لدى أهل البصائر، وهو: إنّ «الخوف» يعني القلق والإضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة إرتكابه المعاصي والذنوب، أو تقصيره في

[  271 ]

الطاعة، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن إختلفت درجاتها، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلاّ لفئة قليلة منهم.

أمّا «الخشية» فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته، والخوف من بقائه مبعداً عن أنوار فيضه، وهذه الحالة لا تحصل إلاّ لاُولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه، وتذوّقوا طعم قربه، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(1).

 

3 ـ جواب عن سؤال؟

قد يقال: إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة، فهي تقول هنا: إنّ أنبياء الله لا يخشون إلاّ الله، ولا يخشون أحداً غيره، إلاّ أنّه قد ورد في الآيات السابقة: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه

إلاّ أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين:

الاُولى: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) إنّما كان خائفاً من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة، ومن عدم إستيعابهم للمسألة، وبذلك ستتزعزع اُسس إيمانهم من هذه الجهة، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه.

والاُخرى: أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله، أمّا في ما يتعلّق باُمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس، أو أن يكونوا كموسى (عليه السلام) إذ خاف ـ حسب الطبيعة البشرية ـ عندما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم، فإنّ مثل هذا الخوف والإضطراب إذا لم يكن مفرطاً لا يعدّ عيباً ونقصاً، بل قد يواجه هذه

______________________________________

1 ـ مجمع البحرين مادّة خشي.

[  272 ]

المسألة أشجع الناس أحياناً، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الإجتماعية.

 

4 ـ هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟

إستفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقاً للأنبياء في تبليغ الرسالة، لأنّ القرآن يقول: (ولا يخشون أحداً إلاّ الله).

غير أنّه يجب الإنتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعاً، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلاّ نوعاً واحداً، وهو التقيّة خوفاً، في حين أنّ للتقيّة أنواعاً منها التقيّة مداراةً وتورية.

والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحياناً لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على إستمالته للتعاون في الأهداف المشتركة.

والمراد من تقيّة «التورية» والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف، فإنّها إن اُفشيت وإنتشرت بين الناس وأصبحت علنية، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها.

إنّ حياة الأنبياء ـ وخاصّة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) ـ مليئة بموارد التقيّة هذه، لأنّا نعلم أنّه (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يخفي أهدافه ومقاصده عندما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ، وكان يستخدم اُسلوب الإستتار والتخفّي ـ والذي هو نوع من التقيّة ـ في جميع المراحل.

وكان يتّبع أحياناً اُسلوب «المراحل» ـ وهو نوع من التقيّة ـ لبيان حكم ما، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي.

وعلى أيّة حال، فإنّ للتقيّة معنىً واسعاً، وهو: (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ

[  273 ]

على الأهداف من التعرّض للخطر والإنهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة، كما نقرأ ذلك في قصّة «إبراهيم» (عليه السلام) بطل التوحيد، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها.

وكذلك أخفى «مؤمن آل فرعون» إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسى (عليه السلام) في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة.

ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفاً فقط غير جائزة على الأنبياء، لا الأنواع الاُخرى للتقيّة.

وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير، إلاّ أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: «التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له، والتقيّة ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(1).

وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (106) من سورة النحل.

 

5 ـ شرط الإنتصار في التبليغ:

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلاّ الله تعالى، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.

الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم، سوف لا يحصلون على نتيجة

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 521 ذيل الآية (28) من سورة المؤمن.

[  274 ]

مطلقاً، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن وقال لي: ياعلي لا تقاتلن أحداً حتّى تدعوه، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت»(1).

ولهذا السبب أيضاً يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس، ولا يخافون أي مقام ومنصب، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثراً على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا.

إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط ـ بمقتضى (وكفى بالله حسيباً) ـ بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى، وبيده جزاؤه وثوابه، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات.

* * *

______________________________________

1 ـ الكافي، طبقاً لنقل البحار، الجزء 21، صفحة 361.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339023

  • التاريخ : 29/03/2024 - 13:15

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net