00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الأحزاب من أول السورة ـ آية 25 من ( ص 151 ـ 216 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[  151 ]

 

سورة الأَحزَاب

مَدنيّة وعددُ آياتِها ثلاث وسَبعُونَ آية

 

[  153 ]

 

 

 

«سورة الأحزاب»

سبب التسمية وفضلها:

هذه السورة نزلت في المدينة باتّفاق علماء الإسلام، ومجموع آياتها (73) آية، ولمّا كان جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.

ويكفي في فضل هذه السورة أن نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله ... اُعطي الأمان من عذاب القبر»(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد (صلى الله عليه وآله) وأزواجه»(2).

وقد قلنا مراراً: إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح، والعارية من كلّ أنواع الفكر والعمل، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكّر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

 

محتوى سورة الأحزاب:

إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً، وتتابع وتبحث

______________________________________
1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 334. بداية سورة الأحزاب.
2 ـ المصدر السابق.

[  154 ]

مسائل متنوّعة وكثيرة جدّاً في باب اُصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام:

الأوّل: بداية السورة التي تدعو الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين، وتبشّره بأنّ الله سبحانه سيدعمه وينصره في مقابل إستنكار هؤلاء.

الثّاني: أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية، كالظهار، حيث كانوا يعتبرونه سبباً للطلاق وإفتراق الرجل عن امرأته، وكذلك مسألة التبنّي، وأكّدت على بطلانها، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

الثّالث: وهو أهمّ أقسام هذه السورة، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفّار، وإعاقات وتخرّصات وتعذّر المنافقين، ونقضهم لعهودهم، وقد بيّنت في هذا المجال قوانين رائعة وجامعة.

الرّابع: يرتبط بزوجات النّبي، حيث يجب أن يكنّ اُسوة واُنموذجاً أسمى لكلّ نساء المسلمين، ويصدر لهنّ في هذا الباب أوامر مهمّة.

الخامس: يتطرّق إلى قصّة «زينب بنت جحش» التي كانت يوماً زوجة لزيد، وهو ابن النّبي بالتبنّي، وإفترقت عنه، فتزوّجها النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه، فأصبح هذا الزواج حربة بيد المنافقين، فأجابهم القرآن الجواب الكافي الشافي.

السّادس: يتحدّث عن مسألة الحجاب، والتي ترتبط بالبحوث السابقة، ويوصي كلّ النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

السّابع: الذي يشكّل الجزء الأخير، ويشير إلى مسألة المعاد المهمّة، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم، وكذلك يشرح ويبيّن مسألة أمانة الإنسان العظمى، أي مسألة التعهّد والتكليف والمسؤولية.

* * *

[  155 ]

 

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَالْمُنَـفِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا (3)

 

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة، تبحث كلّها تقريباً موضوعاً واحداً.

ومن جملتها: إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد معركة أُحد ودخلوا المدينة، وأتوا مع عبدالله بن أُبي وجماعة من أصحابه، إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقالوا: يامحمّد، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا ـ يارسول الله ـ في قتلهم، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «إنّي أعطيتهم الأمان» وأمر فأُخرجوا من المدينة ونزلت الآية: (ولا تطع الكافرين) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه

[  156 ]

الإقتراحات(1).

 

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط:

إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة إقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.

لقد بذل مشركو «مكّة» ومنافقو «المدينة» كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول، إلاّ أنّ أُولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النّبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإستمرار في اُسلوبه الحاسم في خطّ «التوحيد» بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) بأربعة أوامر مهمّة:

الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر، فتقول: (ياأيّها النّبي اتّق الله).

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والإنتفاع بآيات الله، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).

صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله

______________________________________
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفاسير اُخرى.

[  157 ]

سبحانه، إلاّ أنّ مرحلتها الإبتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخلياً، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها، ولا يصغي إليها، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.

الثّاني: نفي ورفض طاعة الكافرين: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: (إنّ الله كان عليماً حكيماً) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اُخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.

وعلى كلّ حال، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية، هي غسل القلب وتصفيته من الغير، وإقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.

الثّالث: نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي، فيقول: (واتّبع ما يوحى إليك من ربّك) واحذر فـ (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) وبناءً على هذا فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة، وأن تقلع الأشواك لتبذر محلّها الورود، ويجب أن تطهّر الأرض من الطواغيت لتخلّفهم حكومة الله ونظامه المقدّس.

ولمّا كانت هناك مشاكل كثيرة، وتهديدات ومؤامرات، ومعوّقات في الإستمرار في سلوك هذا الطريق، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن (وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا) فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه خطاب لكلّ المؤمنين، ولعامّة المسلمين، وهو وصفة طبية تمنح الحياة، ودواء لبث النشاط والحيوية في كلّ عصر وزمان.

[  158 ]

وقال بعض المفسّرين: إنّ الخطاب بـ (ياأيّها) خاصّ بالموارد التي يراد منها جلب إنتباه العموم لمطلب ما، وإن كان المخاطب واحداً، بخلاف الخطاب بـ (يا) والذي يستعمل في الموارد التي يراد منها شخص المخاطب(1). ولمّا كانت هذه الآيات قد بدأت بـ (ياأيّها) فإنّها تؤكّد كون الهدف من هذه الآيات هو العموم.

والشاهد الآخر للتعميم، هو أنّ جملة: (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) قد وردت بصيغة الجمع، وإذا كان المخاطب هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، فينبغي أن تقول الآية: إنّ الله كان بما تعمل خبيراً ـ .

ولا يخفى أنّ هذه الأوامر الموجّهة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) لا تعني أنّه كان مقصّراً في التقوى أو أنّه يتّبع الكافرين والمنافقين، بل إنّ لهذه الأوامر صفة التأكيد على واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، وهي درس وعبرة لكلّ المؤمنين من جهة اُخرى.

 

* * *

______________________________________
1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 15، صفحة 190 ذيل الآيات مورد البحث.

[  159 ]

 

 

 

الآيات

 

مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّئى تُظَهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ (4)ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيَما أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5)النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَّتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَبِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَـبِ مَسْطُوراً(6)

 

 

[  160 ]

التّفسير

إدّعاءات جوفاء:

تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلا: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).

وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية: أنّ رجلا في الجاهلية يدعى «جميل بن معمّر» كان عجيب الحفظ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه: ذا القلبين!

فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون، وفيهم جميل بن معمّر، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه، والاُخرى في رجله، فقال له: ياأبا معمّر، ما حال الناس؟ قال: إنهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والاُخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلك، وكنت أظنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلاّ قلب واحد لما نسي نعله في يده(1). بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.

والمراد من «القلب» في مثل هذه الموارد «العقل».

وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ للجملة معنى أعمق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلاّ قلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلاّ عشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ

______________________________________
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفسير القرطبي.

[  161 ]

اُولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد!

من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة، وخطّه الفكري واحد، ويجب أن يكون واحداً في وحدته وإختلاطه بالمجتمع، في الظاهر والباطن، في الداخل والخارج، وفي الفكر والعمل، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز إزدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.

إنّ الإنسان بحكم إمتلاكه قلباً واحداً يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد، وأن يخضع لقانون واحد ..

ولا يدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد ..

ويسلك طريقاً معيّناً في حياته، بأن يتآلف مع فريق واحد، ومجتمع واحد، وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والإنحراف عن المسير التوحيدي الفطري.

ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه»(1).

وبناءً على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة، ويقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسياً، وبذلك العمل دينياً، والآخر إجتماعياً، ويوجّهون بذلك

______________________________________
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 234.

[  162 ]

أفعالهم المتناقضة، فهو ناشيء من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.

صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد، وتسير ضمن منهاج واحد.

ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة «الظهار»، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم إرتياحهم، قالوا للزوجة: أنت عليّ كظهر اُمّي فيعتبرها بمثابة اُمّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!

يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ اُمّهاتكم) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي، ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق(1).

أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن يقول لها: أنت عليّ كظهر اُمّي؟! إنّ إرتباط وعلاقة الاُمّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقاً، ولذلك تقول الآية 2 ـ سورة المجادلة بصراحة: (إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً).

وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والإنفصال عن المرأة ـ (وهكذا كان في عصر الجاهلية، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الإنفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا

______________________________________
1 ـ سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.

[  163 ]

يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟

وقال بعض المفسّرين: إنّ «الظهار» في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى إنفصال الرجل عن المرأة، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها، وإذا كانت المسألة كذلك، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة(1).

ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).

وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الإبن.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي، بل ـ وكما سنرى ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّى «زيد بن حارثة» بعد أن طلّقها زيد، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع، لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والإتّفاقيات والشعارات.

ومع أنّنا سنقول فيما بعد: أنّ زواج النّبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء، إلاّ أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: (ذلكم قولكم بأفواهكم).

______________________________________
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، المجلّد 6، صفحة 534، ذيل الآية مورد البحث.

[  164 ]

إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلاّ (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل).

إنّ «قول الحقّ» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الاُمور الإعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية، أو «التبنّي» الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير ـ لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الإعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.

ثمّ يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل، بل ـ وكما قلنا سابقاً مراراً ـ إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما، فمثلا نقول: من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن، إلاّ أنّ الإحتياط أفضل منه، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

(الموالي) جمع «مولى»، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيداً يُشترون ثمّ يتحرّرون، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا

[  165 ]

بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.

وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اُولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ «زيد بن حارثة» بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه، فمن ذلك الحين قال له النّبي (صلى الله عليه وآله): «أنت زيد بن حارثة»، وكان الناس يدعونه بعد ذلك: مولى رسول الله(1).

وقالوا أيضاً: كان لأبي حذيفة غلام يدعى «سالماً» فأعتقه وادّعاه، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه: سالماً مولى أبي حذيفة(2).

ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لإعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لإشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم(3) وكان الله غفوراً رحيماً).

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزّوجلّ سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد، فتدعون أفراداً بغير أسماء آبائهم، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.

وقال بعض المفسّرين: إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها

______________________________________
1 ـ روح المعاني، المجلّد 21، صفحة 131 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ روح البيان، ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ قال المفسّرون: إنّ كلمة (ما) هنا موصولة، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ، وخبرها محذوف، وتقدير الجملة: لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.

[  166 ]

الإنسان لآخر تحبّباً: ولدي، أو يابنيّ، أو يقول فيها لآخر إحتراماً: ياأبت!

وهذا الكلام صحيح ـ طبعاً ـ وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنباً، لكن لا لأجل عنوان الخطأ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز، وقرينتها معها عادة، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب، لا المجازية.

ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اُخرى، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماماً، فقد أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار»، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلاّ أنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة إستثنائية جدّاً، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّاً لم تكن هناك ضرورة لإستمرار هذا الحكم، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً بأُولي الأرحام الحقيقيين.

وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاماً إسلامياً ـ على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاماً جاهلياً ـ ولكن كان من الواجب أن يُلغى بعد إرتفاع الحالة الموجبة له، وهكذا حصل، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين ـ أي كون النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) كاُمّهاتهم ـ كمقدّمة، فقالت: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم).

ومع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنين إلاّ أنّهم لا يرثون منهم مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!

ثمّ تضيف الآية: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين

 ]167 ]

والمهاجرين) ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم ـ وإن كان بأن يوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآية تضيف في النهاية: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً).

وتقول في آخر جملة تأكيداً لكلّ الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: (كان ذلك في الكتاب مسطوراً) ـ في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم ـ .

كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية:

1 ـ ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟

لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين بصورة مطلقة، ومعنى ذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.

ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة «تدبير الاُمور الإجتماعية»، أو «الأولوية في مسألة القضاء»، أو «طاعة الأمر»، إلاّ أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على إنحصار الآية في أحد هذه الاُمور الثلاث.

وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ «الحكومة»، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية(1).

لذلك يجب أن يقال: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الإجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.

ولا ينبغي العجب من هذه المسألة، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) معصوم ووكيل لله سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلاّ في صالح المجتمع والفرد، ولا يتّبع الهوى أبداً، ولا يعتبر

______________________________________

1 ـ وردت هذه الروايات في اُصول الكافي، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 238 ـ 239.

[  168 ]

مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها، بل على العكس من ذلك، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين.

إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه. إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلاّ عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه، ولذلك نقرأ في حديث: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به»(1).

وجاء في حديث آخر: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين»(2).

وكذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله): «ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة»(3).

ويقول القرآن الكريم في الآية (36) من سورة الأحزاب هذه: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

ونؤكّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما، بل من جهة أنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) مقام العصمة، وبمصداق: (لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الاُمّة.

إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.

ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي (صلى الله عليه وآله) مسؤوليات ثقيلة ضخمة، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة،

______________________________________

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب، ومسند أحمد، الجزء 2، صفحة 334.

[  169 ]

أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ»(1).

ينبغي الإلتفات إلى أنّ «الضياع» هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل، والتعبير بـ «الدَّين» قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى، لأنّ المراد بقاء الدَّين بدون مال يسدّد به.

2 ـ الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يُعتبرن كاُمّهات لكلّ المؤمنين، وهي طبعاً اُمومة معنوية وروحية، كما أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أب روحي ومعنوي للاُمّة.

إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ إحترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله) في آيات هذه السورة، وإلاّ فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من إبنة اُمّه. وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلاّ للمحارم.

في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ امرأة قالت لعائشة: يااُمّه! فقالت: لست لك باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالكم»(2) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج، وهذا صادق في رجال الاُمّة فقط.

وثمّة مسألة مطروحة، وهي إحترامهنّ وتعظيمهنّ ـ كما قلنا ـ إضافةً إلى قضيّة عدم الزواج، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي

______________________________________

1 ـ نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في وسائل الشيعة، الجزء 7، صفحة 551، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث، وورد أيضاً في صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب.

2 ـ مجمع البيان، وروح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

[  170 ]

بالاُمّ بعنوان إحترامهنّ.

والشاهد لهذا القول، أنّ القرآن الكريم يقول: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن «اُمّ سلمة» ـ وهي من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منكم والنساء(1).

وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ تعبير (وأزواجه اُمّهاتهم) يتناقض مع ما ورد في الآية (2) من سورة المجادلة: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً)فكيف تعتبر نساء النّبي ـ والحال هذه ـ اُمّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟

وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالاُمّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية ..

فأمّا من الناحية الجسمية: فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولوداً منها فقط، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الاُمّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.

وأمّا الأب أو الاُمّ الروحيين، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي (صلى الله عليه وآله)الذي يعتبر الأب الروحي للاُمّة، ولأجله إكتسبت أزواجه منزلة وإحترام الاُمّ.

والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد «الظهار» أنّهم عندما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الاُمّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الاُمّ المعنوية، بل المقصود أنّهنّ كالاُمّ الجسمية، ولذلك كانوا يعدّونه نوعاً من الطلاق، ونعلم أنّ الاُمّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية، وبناءً على هذا فإنّ كلامهم كان منكراً وزوراً.

______________________________________

1 ـ روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.

[  171 ]

أمّا في مورد أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)، فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمياً، إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحيات إكتساباً من مقام وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) ولهنّ وجوب الإحترام كاُمّهات. وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) في الآيات القادمة، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون إحترامهنّ وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وهناك نوع ثالث من الاُمّهات في الإسلام وهي الاُمّ المرضعة، والتي اُشير إليها في الآية (23) من سورة النساء: (واُمّهاتكم اللاتي أرضعنكم) إلاّ أنّها في الحقيقة فرع من فروع الاُمّ الجسمية.

3 ـ الحكم الثالث: مسألة أولوية اُولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام ـ حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للإستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم ـ (وينبغي الإلتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة، وهي سنة «حرب الأحزاب») لذلك ثبّتت أولوية اُولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.

وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الإستحبابية، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية، والتي تثبت هذا الموضوع.

ويجب هنا الإلتفات إلى هذه المسألة بدقّة، وهي: أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اُولي الأرحام في مقابل الأجانب، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض، وبتعبير آخر، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن: (من المؤمنين والمهاجرين).

[  172 ]

بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح: إنّ اُولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء(1).

4 ـ الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كإستثناء، هو إستفادة وإنتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى، والذي بُيّن بجملة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء، أو يوصي به لمن يشاء.

وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماماً، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفية، إلاّ أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقاً لقانون الإرث، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة(2).

* * *

______________________________________

1 ـ بناءً على هذا، فإنّ إستدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحاً، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الإشتباه، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحاً أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين.
نعم .. إنّ تعبير (اُولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وإرتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلك ـ .
2 ـ يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الإستثناء في جملة (إلاّ أن تفعلوا ..) إستثناء منقطع، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الإستثناء هنا متّصلا، لأنّ جملة (واُولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت، إلاّ أن يكون قد أوصى، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث، وهذا في الحقيقة شبيه بالإستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).

[  173 ]

ملاحظة

وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق باُولي الأرحام، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة «إرث الأموال»، كما هو المعروف بين المفسّرين، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة «إرث الخلافة والحكومة» في آل النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن تفسير هذه الآية، أنّه قال: «نزلت في ولد الحسين (عليه السلام)» .. قيل: في المواريث؟ قال: «لا، نزلت في الإمرة»(1).

من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال، بل المراد لفت الإنتباه إلى أنّ للإرث معنىً واسعاً يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.

وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية، ويشبه تماماً ما يريده إبراهيم (عليه السلام) من الله سبحانه لذريّته، فيقول الله له: إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين، بل هي خاصّة بالطاهرين (لا ينال عهدي الظالمين).

ويشبه أيضاً ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين (عليه السلام): السلام عليك ياوارث آدم، ووارث نوح، ووارث إبراهيم، ووارث موسى وعيسى ومحمّد .. فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.

* * *

______________________________________

1 ـ أخرج هذه الأحاديث العلاّمة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان، المجلّد 3، صفحة 292 ـ 293، ومن جملتها الحديث أعلاه، والحديث (16) من سلسلة الأحاديث هذه.

[  174 ]

 

 

الآيتان

 

وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنّ مِيثَـقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح وَإِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً (7)لِّيَسْئَلَ الصَّـدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً(8)

 

التّفسير

ميثاق الله الغليظ:

لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات، وحيثما وجد «حقّ» كان إلى جانبه «تكليف» ومسؤولية، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبداً. بناءً على هذا فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) إن كان له حقّ وصلاحية واسعة، فإنّ عليه في المقابل مسؤوليات ضخمة.

تقول الآية الاُولى: (وإذا أخذنا من النّبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اُولو

[  175 ]

العزم، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) لعظمته وجلالته وشرفه، وبعده الأنبياء الأربعة من اُولي العزم حسب ترتيب ظهورهم، وهم: «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» (عليهم السلام).

وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقاً عامّاً أُخذ من جميع الأنبياء، وإن كان اُولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسؤولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بُيّن بتأكيد شديد جدّاً بجملة: (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)(1).

المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعاً فروع مختلفة لأصل واحد، وهو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعاً بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء، وكانوا مكلّفين أيضاً بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين. والخلاصة: أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة، ويوحّدوا الاُمم تحت راية واحدة.

ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضاً، فنقرأ في الآية (81) من سورة آل عمران: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

وورد نظير هذا المعنى في الآية (187) من سورة آل عمران، حيث تقول بصراحة: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين اُوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية، وكذلك أخذه من علماء أهل

______________________________________

1 ـ الميثاق ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو العقد المؤكّد بيمين وعهد، وبناءً على هذا فإن ذكر (غليظاً) في الآية تأكيد يضاف على هذا المعنى.

[  176 ]

الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم، وأن لا يكتموا ذلك أبداً.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي اُخذ منهم، فتقول: (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعدّ للكافرين عذاباً أليماً).

للمفسّرين تفسيرات كثيرة لكلمة «الصادقين»، ومن هم المقصودون بها؟ وأيّ سؤال هذا السؤال؟ إلاّ أنّ الذي يبدو منسجماً مع آيات هذه السورة وآيات القرآن الاُخرى، هو: أنّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّاً، وبتعبير آخر: فإنّهم خرجوا من ساحة الإختبار والإمتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.

والشاهد لهذا القول:

أوّلا: إنّ «الصادقين» هنا وُضعوا في مقابل الكافرين، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.

ثانياً: نقرأ في الآية (23) من هذه السورة: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثمّ تقول الآية (24) مباشرةً: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم).

ثالثاً: عرّفت الآية (15) من سورة الحجرات، والآية (8) من سورة الحشر (الصادقين) جيّداً، ففي آية الحجرات نقرأ: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله اُولئك هم الصادقون).

وتقول آية الحشر: (للفقراء المهاجرين الذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اُولئك هم الصادقون).

وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح

[  177 ]

والأموال(1).

أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً أنّ المراد هو: هل يُثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في إدّعائهم .. في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب، أم لا؟

وأين سأل هذا السؤال؟ ظاهر الآية أنّه في القيامة، في محكمة العدل الإلهيّة، وآيات القرآن العديدة أيضاً تخبر عن وقوع مثل هذا السؤال في القيامة بصورة عامّة.

إلاّ أنّه يحتمل أيضاً أن يكون لهذا السؤال جانب عملي ويقع في الدنيا، حيث يخضع كلّ من يدّعي الإيمان للسؤال عن بعثة الأنبياء، وعمله هو الجواب على هذا السؤال، لأنّه سيقرّر فيما إذا كان صادقاً في إدّعائه.

 

* * *

______________________________________

1 ـ احتمل جمع من المفسّرين إحتمالا آخر في معنى هذه الآية، وهو أنّ المراد من «الصادقين» هنا هم الأنبياء، حيث يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفائهم بعهدهم وميثاقهم؟ إلاّ أنّ الشواهد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه تنفي هذا التّفسير.
واحتمل أيضاً أن يكون المراد أعمّ من الأنبياء والمؤمنين، إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكر أعلاه أكثر إنسجاماً مع آيات هذه السورة وسائر آيات القرآن.

[  178 ]

 

 

الآيات

 

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاَْبْصَـرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً (11)

 

التّفسير

الإمتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب:

تتحدّث هذه الآيات والآيات الاُخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الإمتحانات والإختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، وإختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام، أي عن «معركة الأحزاب»، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة إنعطاف في تأريخ الإسلام، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين، وكان ذلك النصر مفتاحاً للإنتصارات المستقبلية العظيمة، فقد إنقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة،

[  179 ]

ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.

إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها إسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وإنتشار هذا الدين.

لقد اُشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا «قريش» بحرب النّبي (صلى الله عليه وآله)، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير، ثمّ أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.

ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم»، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد، ويقتلوا النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويقضوا على المسلمين، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.

أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار، فإنّهم إجتمعوا للتشاور بأمر النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان المنافقون من جهة اُخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين.

إلاّ أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين، ويفضح المتآمرين، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع

[  180 ]

الإختبار العسير.

وأخيراً إنتهت هذه الغزوة بإنتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هوجاًء إقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد اُضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أمام عمرو بن عبد ودّ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة، وإستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

كان هذا عرضاً لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة(1)، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاُخرى، فيقول: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود (كثيرة جدّاً) فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة:

1 ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد إنتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.

______________________________________

1 ـ ما ذكرناه أعلاه كان إختصاراً لبحث مفصّل أورده المؤرخّون، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل.

[  181 ]

2 ـ إنّ التعبير بـ «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.

3 ـ إنّ المراد من (جنوداً لم تروها) والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة، ولكن كما بيّنا في ذيل الآية (9) من سورة الأنفال، فإنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم(1).

وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا).

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان، و (أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها.

إذا لاحظنا أنّ «مكّة» تقع في جنوب المدينة تماماً، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب. وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام.

إنّ جملة (زاغت الأبصار) ـ بملاحظة أن «زاغت» من مادّة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد ـ إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة،

______________________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الباب راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (9) من سورة الأنفال.

[  182 ]

ويبقى متحيّراً حينذاك.

وجملة (بلغت القلوب الحناجر) كناية جميلة عن حالة القلق والإضطراب، وإلاّ فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقاً، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة.

وجملة (وتظنّون بالله الظنونا) إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية: إنّهم زلزلوا زلزالا شديداً.

ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة، وقد حانت نهاية عمر الإسلام، وأنّ وعود النّبي (صلى الله عليه وآله)بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقاً.

من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة اُحد، حيث يقول: (وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية).(1)

ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون، وجملة (ياأيّها الذين آمنوا) التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّاً، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان، والحديثي العهد بالإسلام(2).

هنا كان الإمتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية: (هنالك ابتلي

______________________________________

1 ـ آل عمران، الآية 154.

2 ـ فسّر جمع من المفسّرين (الظنون) هنا بالمعنى الأعمّ من الظنّ السيء والحسن، إلاّ أنّ القرائن الموجودة في هذه الآية والآية التالية تبيّن أنّ المراد من الظنون هنا السيّئة منها.

[  183 ]

المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً).

من الطبيعي أنّ الإنسان إذا اُحيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب والتزلزل، وكثيراً ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكرياً لا يستطيعون الإستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح إضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يداً بيد.

وأحد شواهد هذا القلق والإضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين ـ وكان على رأسهم «عمرو بن عبد ودّ» ـ نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة وإعتداد بالنفس كبير، فقالوا: هل من مبارز؟ سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزىء بالجنّة والآخرة، وكان يقول: أيّها المسلمون ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟ إلاّ أنّ السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته وإستهزائه ودعوته للبراز، ولم يجرؤ أحد على مناجزته، إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هبّ لمبارزته، وحقّق نصراً كبيراً للمسلمين، وسيأتي ذلك مفصّلا في البحوث.

نعم .. إنّ الحديد يزداد صلابة وجودة إذا عرض على النار، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة.

 

* * *

[  184 ]

 

الآيات

 

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُم يَـأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً(13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً(14) وَلَقَدْ كَانُوا عَـهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَرَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولا(15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا(16) قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّن اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً  وَلاَ نَصِيراً(17)

التّفسير

المنافقون في عرصة الأحزاب:

فار تنوّر إمتحان حرب الأحزاب، وابتلي الجميع بهذا الإمتحان الكبير العسير،

[  185 ]

ومن الواضح أنّ الناس الذين يقفون ظاهراً في صفّ واحد في الظروف العادية، ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة، وهنا أيضاً إنقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواصّ المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.

والخلاصة: فإنّ كلّ واحد قد أظهر أسراره الباطنية وما ينطوي عليه في هذه القيامة العجيبة، وفي يوم البروز هذا.

كان الكلام في الآيات السابقة عن جماعة المسلمين ضعفاء الإيمان، والذين وقعوا تحت تأثير الوساوس الشيطانية والظنون السيّئة، وتعكس اُولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب، فتقول: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً).

جاء في تأريخ حرب الأحزاب: أنّه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق، إصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول، فأخبروا النّبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة، وأخذ المعول، فضرب الحجر أوّل ضربة قويّة فانصدع قسم منه وسطع منه برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) وكبّر المسلمون.

ثمّ ضرب الحجر ضربة اُخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون، وأخيراً ضرب النّبي ضربته الثالثة، فتحطّم الباقي من الحجر وسطع برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير، فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله) «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاُولى، وأخبرني جبرئيل أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام

[  186 ]

والروم، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا» فاستبشر المسلمون.

فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)(1).

والحقّ أنّ مثل هذه الأخبار والبشارات إعتبرها المنافقون في ذلك اليوم خدعة وغروراً، إلاّ أنّ عين النّبي (صلى الله عليه وآله) الملكوتية كانت قادرة على رؤية فتح أبواب قصور ملوك ايران والروم واليمن من خلال الشرر المتطاير من ذلك الحجر، ويبشّر هذه الاُمّة المضحيّة التي حملت القلوب على الأكفّ، ويزيح الستار عن أسرار المستقبل.

وربّما لا نحتاج إلى التذكير بأنّ المراد من (الذين في قلوبهم مرض) هم المنافقون، وذكر هذه الجملة توضيح في الواقع لكلمة «المنافقين» التي وردت من قبل، وأيّ مرض أسوأ وأضرّ من مرض النفاق؟! لأنّ الإنسان السليم الذي له فطرة إلهيّة سليمة ليس له إلاّ وجه واحد، أمّا اُولئك الذين لهم وجهان أو وجوه متلوّنة عديدة فإنّهم مرضى، حيث إنّهم مبتلون دائماً بالإضطراب والتناقض في الأقوال والأفعال.

والشاهد لهذا الأمر ما ورد في بداية سورة البقرة في وصف المنافقين، حيث تقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(2)

______________________________________

1 ـ الكامل لابن الأثير، الجزء 2، صفحة 179. وورد هذا الحادث بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام، وهو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)قال: أمّا الاُولى فإنّ الله فتح علي بها اليمن، وأمّا الثّانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق». وهذا الترتيب ينسجم مع التسلسل التاريخي لفتح هذه المناطق الثلاث.

2 ـ البقرة، الآية 10.

[  187 ]

ثمّ تتطرّق الآية الاُخرى إلى بيان حال طائفة اُخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين، فمن جانب تقول الآية عنهم: واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار: ياأهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقّفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).

وخلاصة الأمر أنّكم لا تقدرون على عمل أيّ شيء في مقابل جحفل الأعداء اللجب، فانسحبوا من المعركة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبنسائكم وأطفالكم إلى ذلّ الأسر، وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.

ومن جانب آخر: (ويستأذن فريق منهم النّبي يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً).

كلمة (عورة) مأخوذة من مادّة (عار)، وتقال للشيء الذي يوجب ظهوره العار، وتقال أيضاً للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن إختراقها وتدميرها، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره، والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم، ويخشى عليها من هجوم العدوّ.

والمنافقين بتقديمهم هذه الأعذار كانوا يريدون الفرار من ساحة الحرب وإعتزال القتال، واللجوء إلى بيوتهم.

وجاء في رواية: أنّ طائفة «بني حارثة» أرسلوا رسولا منهم إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)وقالوا: إنّ بيوتنا غير مأمونة، وليس هناك بيت من بيوت الأنصار يشبه بيوتنا، ولا مانع بيننا وبين «غطفان» الذين هجموا من شرق المدينة، فائذن لنا أن نرجع إلى بيوتنا وندافع عن نسائنا وأولادنا، فأذن لهم النّبي.

فبلغ ذلك «سعد بن معاذ» كبير الأنصار، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): لا تأذن لهم، فإنّي اُقسم بالله أنّ هؤلاء القوم تعذّروا بذلك كلّما عرضت لنا مشكلة، إنّهم يكذبون،

[  188 ]

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرجعوا.

و «يثرب» هو الإسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النّبي (صلى الله عليه وآله)، وبعد هجرته أصبح إسمها تدريجياً «مدينة الرّسول»، ومخفّفها المدينة.

ولهذه المدينة أسماء عديدة، ذكر لها الشريف المرتضى (رحمة الله عليه) أحد عشر إسماً آخر إضافةً إلى هذين الإسمين، ومن جملتها: طيبة، وطابة، وسكينة، والمحبوبة، والمرحومة، والقاصمة. ويعتقد البعض أنّ «يثرب» اسم لأرض هذه المدينة(1).

وجاء في بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: «لا تسمّوا هذه المدينة يثرب» وربّما كان ذلك بسبب أنّ يثرب في الأصل من مادّة «ثرب» (على وزن حرب) أي اللوم، ولم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ليرضى مثل هذا الإسم لهذه المدينة المباركة.

وعلى كلّ حال فإنّ خطاب المنافقين لأهل المدينة بـ (ياأهل يثرب) لم يكن خطاباً عشوائياً، وربّما كان الباعث لخطابهم بهذا الإسم أنّهم كانوا يعلمون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يشمئز من هذا الإسم، أو أنّهم كانوا يريدون إعلان عدم إعترافهم بالإسلام واسم مدينة الرّسول، أو أن يعودوا بأهلها إلى مرحلة الجاهلية!

وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة، فتقول: إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كلّ جانب وصوب، واستولى عليها، ثمّ دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه: (ولو دخلت علهيم من أقطارها ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبّثوا بها إلاّ يسيراً).

من المعلوم أنّ اُناساً بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدوّ ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم، وبناءً على هذا، فإنّ المراد من كلمة «الفتنة» هنا هي

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 346.

[  189 ]

الشرك والكفر، كما جاء في آيات القرآن الاُخرى، كالآية (193) من سورة البقرة: غير أنّ بعض المفسرين احتملوا أن يكون المراد من «الفتنة» هنا: الحرب ضدّ المسلمين، بحيث إنّها لو عرضت على هؤلاء المنافقين لأجابوا إليها بسرعة، ويعينوا أصحاب الفتنة! إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتلاءم مع ظاهر جملة: (ولو دخلت عليهم من أقطارها) وربّما إختار أكثر المفسّرين المعنى الأوّل لهذا السبب.

ثمّ يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة، فيقول: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) وعليه فإنّهم مسؤولون أمام تعهّدهم.

وقال البعض: أنّ المراد من هذا العهد والميثاق هو ذلك العهد الذي عاهد «بنو حارثة» عليه الله ورسوله يوم اُحد حينما قرّروا الرجوع عن ميدان القتال ثمّ ندموا بعد ذلك، فقطعوا العهد على أنفسهم أن لا يرتكبوا مثل هذه الاُمور، إلاّ أنّهم فكّروا مرّة ثانية في معركة الأحزاب في نقض عهدهم وميثاقهم(1).

ويعتقد البعض أنّه إشارة إلى العهد الذي عاهدوا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة بدر، أو في العقبة قبل هجرة النّبي(2).

ولكن يبدو أنّ للآية أعلاه مفهوماً واسعاً يشمل هذه العهود والمواثيق، وكلّ عهودهم الاُخرى.

إنّ كلّ من يؤمن ويبايع النّبي (صلى الله عليه وآله) يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته.

والتأكيد على العهد والميثاق هنا من أجل أنّه حتّى عرب الجاهلية كانوا يحترمون مسألة العهد، فكيف يمكن أن ينقض إنسان عهده ويضعه تحت قدميه بعد إدّعائه الإسلام؟

______________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ نقل هذا القول الآلوسي في روح المعاني.

[  190 ]

وبعد أن أفشى الله سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم، بل الفرار من ميدان الحرب، يجيبهم بأمرين:

الأوّل: أنّه يقول للنّبي (صلى الله عليه وآله): (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلاّ قليلا).

فافرضوا أنّكم إستطعتم الفرار، فلا يعدو الأمر حالين: إمّا أن يكون أجلكم الحتميّ وموتكم قد حان، فأينما تكونوا يأخذ الموت بتلابيبكم، حتّى وإن كنتم في بيوتكم وبين زوجاتكم وأولادكم.

وإن لم يكن أجلكم قد حان فستعمّرون في هذه الدنيا أيّاماً قليلة اُخرى تكون مقترنة بالذلّ والهوان، وستصبحون تحت رحمة الأعداء وفي قبضتهم، وبعدها ستلقون العذاب الإلهي.

إنّ هذا البيان يشبه ما ورد في غزوة اُحد، حيث أشار القرآن إلى فئة اُخرى من المنافقين المثبّطين للعزائم، والمفرّقين لوحدة الصفّ: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).(1)

والثّاني: ألم تعلموا أنّ كلّ مصائركم بيد الله، ولن تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة الله وقدرته ومشيئته: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً).

بناءً على هذا، فإنّكم إذا علمتم أنّ كلّ مقدّراتكم بيده سبحانه، فأطيعوا أمره في الجهاد الذي هو أساس العزّة والكرامة والشموخ في الدنيا وعند الله، وحتّى إذا تقرّر أن تنالوا وسام الشهادة فعليكم أن تستقبلوا ذلك برحابة صدر.

 

* * *

______________________________________

1 ـ آل عمران ـ 154.

[  191 ]

 

 

الآيات

 

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لاِِخْوَنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا(18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَـلَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(19) يَحْسَبُونَ الاَْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الاَْحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الاَْعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَـتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا(20)

 

التّفسير

فئة المعوّقين:

أشارت هذه الآيات إلى وضع فئة اُخرى من المنافقين الذين إعتزلوا حرب الأحزاب، وكانوا يدعون الآخرين أيضاً إلى إعتزال القتال، فقالت: (قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلاّ قليلا).

[  192 ]

«المعوّقين» من مادّة (عوق) على زنة (شوق) تعني منع الشيء ومحاولة صرف الآخرين عنه، و «البأس» في الأصل يعني (الشدّة)، والمراد منه هنا الحرب.

ويحتمل أن تكون الآية أعلاه مشيرة إلى فئتين: فئة من المنافقين الذين كانوا بين صفوف المسلمين ـ وتعبير (منكم) شاهد على هذا ـ وكانوا يسعون إلى صرف ضعاف الإيمان من المسلمين عن الحرب، وهؤلاء هم «المعوّقون».

والفئة الاُخرى هم (المنافقون أو اليهود) الذين تنحّوا جانباً، وعندما كانوا يلتقون بجنود النّبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يقولون: هلمّ إلينا وتنحّوا عن القتال، وهؤلاء هم الذين أشارت إليهم الجملة الثّانية.

ويحتمل أن تكون هذه الآية بياناً لحالتين مختلفتين لفئة واحدة، وهم الذين يعوّقون الناس عن الحرب عندما يكونون بينهم، وعندما يعتزلونهم يدعون الناس إليهم.

ونقرأ في رواية: أنّ أحد أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله) جاء من ميدان حرب الأحزاب إلى داخل المدينة لحاجة، فرأى أخاه قد وضع أمامه الخبز واللحم المشوي والشراب، فقال له: أنت في هذه الحال تلتذّ ورسول الله مشغول بالحرب، وهو بين الأسنّة والسيوف؟! فقال أخوه: ياأحمق! ابق معنا وشاركنا مجلسنا، فوالذي يحلف به محمّد إنّه لن يرجع من هذه المعركة! وسوف لن يدع هذا الجيش العظيم الذي إجتمع عليه محمّداً وأصحابه أحياء!

فقال له الأوّل: أنت تكذب، واُقسم بالله لأذهبنّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما قلت، فجاء إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما جرى، فنزلت الآية.

وبناءً على سبب النّزول هذا، فإنّ كلمة (إخوانهم) وردت هنا بمعنى الإخوة الحقيقيين، أو بمعنى أصحاب المذهب والمسلك الواحد، كما سمّت الآية (27) سورة الإسراء المبذّرين إخوان الشياطين: (إنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين).

وتضيف الآية التالية: إنّ الدافع لكلّ تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو

[  193 ]

أنّهم بخلاء: (أشحّة عليكم)(1) لا في بذل الأرواح في ساحة الحرب، بل هم بخلاء حتّى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق، بل ويبخلون حتّى في المساعدة الفكرية، بخلا يقترن بالحرص المتزايد يومياً!

وبعد تبيان بخل هؤلاء وإمتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار، تتطرّق الآية إلى بيان صفات اُخرى لهم، والتي لها صفة العموم في كلّ المنافقين، وفي كلّ العصور والقرون، فتقول: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).

فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي، ولم يستندوا إلى عماد قويّ في الحياة، فإنّهم يفقدون السيطرة على أنفسهم تماماً عندما يواجهون حادثاً صعباً ومأزقاً حرجاً، وكأنّهم يواجهون الموت.

ثمّ تضيف الآية: (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير)فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.

«سلقوكم» من مادّة (سَلْق)، وهي في الأصل بمعنى فتح الشيء بعصبية وغضب، سواء كان هذا الفتح باليد أو اللسان، وهذا التعبير يستعمل في شأن من يطلب الشيء بالزجر واُسلوب الأمر. و «الألسنة الحداد» تعني الألسنة الجارحة المؤذية، وهي هنا كناية عن الخشونة في الكلام.

وتشير الآية في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء، والتي هي في الواقع أساس كلّ شقائهم وتعاستهم، فقالت: (اُولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم) لأنّها لم تكن

______________________________________

1 ـ «أشحّة» جمع شحيح، من مادّة (الشحّ)، أي البخل المقترن بالحرص، ومحلّ الكلمة من الإعراب هنا برأي أكثر المفسّرين (حال)، لكن ذلك لا ينافي أن تكون حالا في مقام بيان العلّة. تأمّلوا ذلك.

[  194 ]

منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي: (وكان ذلك على الله يسيراً).

وممّا مرّ نخلص إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ المعوّقين كانوا منافقين يتميّزون بالصفات التالية:

1 ـ أنّهم لم يكونوا أهل حرب أبداً، إلاّ بنسبة قليلة جدّاً.

2 ـ لم يكونوا من أهل التضحية والإيثار سواء بالمال والنفس، ولم يكونوا يتحمّلون أقلّ المصاعب والمتاعب.

3 ـ كانوا يفقدون توازنهم وشخصيتهم في اللحظات الحرجة العاصفة من شدّة الخوف.

4 ـ يظنّون أنّهم سبب كلّ الإنتصارات، ولهم كلّ الفخر عند الإنتصار.

5 ـ أنّهم كانوا اُناساً بلا إيمان، ولم يكن لأعمالهم أيّة قيمة عند الله تعالى.

وهذه الصفات هي التي تعرفنا بالمنافقين في كلّ عصر وزمان، وفي كلّ مجتمع وفئة.

وهذا الوصف الدقيق الذي وصفهم القرآن به يمكن من خلاله معرفة من يشاركهم في الفكر والسلوك، وكم نرى باُمّ أعيننا في عصرنا من أمثالهم!!

وتجسّد الآية التالية بتصوير أبلغ جبن وخوف هذه الفئة، فتقول: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) من شدّة خوفهم ورعبهم، فقد خيّم عليهم كابوس مخيف، فكأنّ جنود الكفر يمرّون دائماً أمام أعينهم وقد سلّوا السيوف ومالوا عليهم بالرماح!

إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير، ظنّاً أنّ جيوش الأحزاب قد عادت!

ثمّ تضيف الآية: (وإن يأت الأحزاب يودّون لو أنّهم بادون في الأعراب) أي منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية، فيختفون هناك ويتتبّعون أخباركم و

[  195 ]

(يسألون عن أنبائكم) فيسألون لحظة بلحظة من كلّ مسافر آخر الأخبار لئلاّ تكون الأحزاب قد إقتربت منهم، وهم مع ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائماً!!

وتضيف الآية في آخر جملة: وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان، بل بقوا معكم: (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاّ قليلا).

فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم اُناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم!

وحتّى هذا القدر المختصر من العمل لم يكن لله أيضاً، بل هو نتيجة الخوف من ملامة وتقريع الناس، وللتظاهر والرياء، لأنّه لو كان لله لكانوا يقفون ويثبتون في ساحة الحرب ما دام فيهم عرق ينبض.

* * *

[  196 ]

 

 

الآيات

 

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً(21) وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُوا هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَـناً وَتَسْلِيماً(22) مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23) لِّيَجْزِىَ اللهُ الصَّـدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـفِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24)وَرَدَّ اللهُ الَّذِين كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً(25)

 

التّفسير

دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب:

يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، وقد تقدّم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق

[  197 ]

والمعوّقين عن الجهاد.

ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.

ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).

فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره وإستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.

إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.

إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.

يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم.

ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح، وإنتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن إكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.

نعم .. إنّه أسمى مقتدى، وأحسن اُسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كلّ

[  198 ]

الميادين.

«الاُسوة» تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير آخر: هي التأسّي والإقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) هو أنّ لكم في النّبي (صلى الله عليه وآله)تأسّياً وإقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اُموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.

والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاُسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً.

إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على إستمراره، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتليء قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي، وإذا لم يُدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء إستمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التأسّي والإقتداء.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً (عليه السلام) مع شهامته وشجاعته في كلّ ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، وسيشار إليها فيما بعد، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: «كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه»(1).

بعد ذكر هذه المقدّمة تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين، فقالت: (ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً).

ولكن ما هذا الوعد الذي كان الله ورسوله قد وعدهم به؟

قال البعض: إنّه إشارة إلى الكلام الذي كان رسول الله قد تكلّم به من قبل بأنّ

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، فصل الغرائب جملة 9.

[  199 ]

قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية، فلمّا رأى المؤمنون هجوم الأحزاب أيقنوا أنّ هذا ما وعدهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: ما دام الجزء الأوّل من الوعد قد تحقّق، فمن المسلّم أنّ جزأه الثّاني ـ أي النصر ـ سيتحقّق بعده، ولذلك زاد إيمانهم وتسليمهم.

وقال البعض الآخر: إنّ هذا الوعد هو ما ذكره الله سبحانه في الآية (214) من سورة البقرة حيث قال: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله).

أي إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لإمتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار الله ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم.

ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، خاصّة بملاحظة أنّ أحد الوعدين كان في الأساس وعد الله، والآخر وعد الرّسول (صلى الله عليه وآله)، وقد جاءا معاً في الآية مورد البحث، ويبدو أنّ الجمع بينهما مناسب تماماً.

وتشير الآية التالية إلى فئة خاصّة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به، وهو التضحية في سبيل دينه حتّى النفس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فتقول: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه (وما بدّلوا تبديلا).

إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم، ولم يألوا جهداً في سبيل الله، ولم يتزلزلوا لحظة، بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتهم عاصفة الحوادث هنا وهناك وأفرزت الشدائد في أدمغتهم الخاوية أفكاراً جوفاء خبيثة .. إنّ المؤمنين

[  200 ]

وقفوا كالجبل الأشمّ وأثبتوا أنّ العهد الذي عاهدوا به لا يقبل النقض أو التراجع عنه.

إنّ لفظة (نحب) على زنة (عهد) تعني العهد والنذر والميثاق، ووردت أحياناً بمعنى الموت، أو الخطر، أو سرعة السير، أو البكاء بصوت مرتفع(1).

وهناك إختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية.

يروي العالم المعروف (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) ـ وهو من علماء السنّة ـ بسند عن علي (عليه السلام) أنّه قال: «فينا نزلت (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فأنا ـ والله ـ المنتظر وما بدّلت تبديلا، ومنّا رجال قد إستشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء»(2).

وقال آخرون: إنّ جملة (من قضى نحبه) إشارة إلى شهداء بدر واُحد، وجملة: (ومنهم من ينتظر) إشارة إلى المسلمين الصادقين الآخرين الذين كانوا بإنتظار إحدى الحسنيين: النصر، أو الشهادة.

وروي عن «أنس بن مالك» أيضاً: أنّ عمّه «أنس بن النضر» لم يكن حاضراً في غزوة بدر، فلمّا علم فيما بعد، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، أسف لعدم إشتراكه في الجهاد، فعاهد الله على أن يشارك في الجهاد إن وقعت معركة اُخرى ويثبت فيها وإن زهقت روحه، ولذلك فقد شارك في معركة اُحد، وحينما فرّ جماعة لم يفرّ معهم، وقاوم وصمد حتّى جرح ثمّ استشهد(3).

وروي عن «ابن عبّاس» أنّه قال: إنّ جملة: (منهم من قضى نحبه) إشارة إلى حمزة بن عبدالمطّلب وباقي شهداء اُحد، وأنس بن النضر وأصحابه(4).

______________________________________

1 ـ مفردات الراغب، ومجمع البيان، ولسان العرب مادّة نَحب.

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ أورد هذه الرّوايات بتفاوت يسير أصحاب تفاسير القرطبي وفي ظلال القرآن، ومجمع البيان في كتبهم.

4 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

[  201 ]

ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقاً، لأنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين إستشهدوا قبل معركة الأحزاب، وكلّ من كان منتظراً للنصر أو الشهادة، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعلي (عليهما السلام)، ولذلك ورد في تفسير الصافي: أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسين (عليه السلام) وقال: السلام عليك يابن رسول الله، فيجيبه: وعليك السلام ونحن خلفك، ويقرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)(1).

ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة، وحين بلغه خبر شهادة «عبدالله بن يقطر»(2).

ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان، سواء من إرتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة.

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

ومع ذلك، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة: (أو يتوب عليهم) ـ إذا تابوا ـ ووصف نفسه بالغفور والرحيم (إنّ الله كان غفوراً رحيماً) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.

ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة، فإنّ بعض

______________________________________

1 ـ تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 259.

[  202 ]

كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعاً للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة، وقد يكون الشرّ مفتاحاً للخير والرشاد(1).

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات ـ والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث ـ خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة، فتقول في الجملة الاُولى: (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).

«الغيظ» يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للإنتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب، ولم يكن إنتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وقال البعض: إنّ المراد من «الخير» هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة اُطلقت في مواضع اُخرى بهذا المعنى، ومن جملتها ما في آية الوصية (180) من سورة البقرة: (إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين).

ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال، بل يشمل كلّ الإنتصارات التي كانوا يطمحون إليها، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.

وتضيف في الجملة التالية: (وكفى الله المؤمنين القتال) فقد هيّأ عوامل بحيث

______________________________________

1 ـ تفسير الميزان، ذيل الآية مورد البحث.

[  203 ]

إنتهت الحرب من دون حاجة إلى إلتحام واسع بين الجيشين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأعظم بطل من أبطالهم، وهو «عمرو بن عبد ودّ»، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة: (وكان الله قويّاً عزيزاً) فمن الممكن أن يوجد اُناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلاّ أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو الله عزّوجلّ الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا إنتهاء، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّاً بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!

* * *

 

بحوث

1 ـ ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب

أ ـ إنّ معركة الأحزاب ـ وكما هو معلوم من اسمها ـ كانت حرباً اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام، للقضاء على الإسلام اليافع.

لقد كانت «حرب الأحزاب» آخر سعي للكفر، وآخر سهم في كنانته، وآخر إستعراض لقوى الشرك، ولهذا قال النّبي (صلى الله عليه وآله): «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(1)عندما تقابل أعظم أبطال العدوّ، وهو عمرو بن عبد ودّ، وبطل الإسلام الأوحد أمير

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.

[  204 ]

المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّ إنتصار أحدهما على الآخر كان يعني إنتصار الكفر على الإيمان، أو الإيمان على الكفر، وبتعبير آخر: كان عملا مصيرياً يحدّد مستقبل الإسلام والشرك، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد إنهزامهم في هذه المواجهة العظيمة، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائماً.

لقد أفل نجم الأعداء، وإنهدمت قواعد قوّتهم، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال بعد نهاية غزوة الأحزاب: «الآن تغزوهم ولا يغزوننا»(1).

ب ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب، ويقول «المقريزي» في «الإمتاع»: إنّ قريشاً أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل، وألف وثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة من الإبل، ونزلت عند حافّة الخندق، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران، وجاء «بنو فزارة» بألف، وكلّ من «بني أشجع» و «بني مرّة» بأربعمائة، والقبائل الاُخرى أرسلت عدداً من الرجال، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.

في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.

على كلّ حال، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوماً، وقيل خمسة وعشرين يوماً، وعلى بعض الرّوايات شهراً(2).

ومع أنّ العدوّ كان متفوقاً على المسلمين من جهات مختلفة، إلاّ أنّه خاب في النهاية كما قلنا، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.

______________________________________

1 ـ التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء 2 صفحة 184.

2 ـ بحار الأنوار، الجزء 20، صفحة 228.

[  205 ]

ج ـ إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت ـ كما نعلم ـ بمشورة «سلمان الفارسي»، وكانت هذه المسألة اُسلوباً دفاعياً معتاداً في بلاد فارس آنذاك، ولم يكن معروفاً في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم، وكان يعتبر ظاهرة جديدة، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة، سواء من الناحية العسكرية، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.

ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضاً كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.

إضافةً إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفاً وغرضاً لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.

وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره بإثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) إستناداً إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعاً من الخندق، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين ـ طبقاً للمشهور ـ بلغ ثلاثة آلاف رجل.

ولابدّ من الإعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمراً مضنياً وجهداً، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاُخرى.

ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد إستغرق مدّة لا يستهان بها، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.

 

[  206 ]

د ـ ساحة إمتحان عظيمة

إنّ غزوة «الأحزاب» كانت محكّاً وإمتحاناً عجيباً لكلّ المسلمين، ولمن كانوا يدّعون الإسلام، وكذلك لاُولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحياناً، وكان لهم في الباطن إرتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.

لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث ـ المؤمنون الصادقون، وضعفاء الإيمان، والمنافقون ـ من خلال عملهم، وإتّضحت تماماً القيم والمفاهيم الإسلامية، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.

لقد كانت العاصفة هوجاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه، وظهرت اُمور في أقلّ من شهر، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.

وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أثبت عمليّاً إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته، ورباطة جأشه، وتوكّله على الله، وإعتماده على نفسه، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.

 

هـ ـ نزال علي (عليه السلام) التاريخي لعمرو بن عبد ودّ

من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة علي (عليه السلام) لبطل معسكر العدوّ العظيم «عمرو بن عبد ودّ»، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للإشتراك والمساهمة في هذه الحرب، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة، ونوفل، وضرار.

[  207 ]

لقد إستعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية، ولبسوا عدّة الحرب، وإستطاعوا إختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه، كانت بعيدة نسبياً عن مرمى الرماة المسلمين، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين، وكان أشهرهم «عمرو بن عبد ودّ».

فتقدّم وقد ركبه الغرور والإعتداد بالنفس، وكانت له خبرة طويلة في الحرب، ورفع صوته طالباً من يبارزه.

لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب، ولمّا لم يجرؤا أحد من المسلمين على قتاله إشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين، فقال: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة، أو يدفعني إلى النار؟

وهنا أنشد أبياته المعروفة:

ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز

إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز

فأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) عند ذاك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين، إلاّ أنّ أحداً لم يجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «إنّه عمرو» فقال علي (عليه السلام): «وإن كان عمرواً» فدعاه النّبي (صلى الله عليه وآله) وعمّمه، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار، ثمّ دعا له فقال: «اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته».

فمشى علي (عليه السلام) إلى الحرب وهو يرتجز:

لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز

[  208 ]

من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز

وهنا قال النّبي (صلى الله عليه وآله) كلمته المعروفة: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه»(1).

فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الإسلام أوّلا، فأبى، ثمّ دعاه إلى إعتزال الحرب، فرفض ذلك، وإعتبره عاراً عليه، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا، فغضب عمرو وقال: ما كنت أحسب أحداً من العرب يدعوني إلى مثل ذلك، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياً (عليه السلام) على رأسه، فتلقّاها علي (عليه السلام) بمهارة خاصّة بدرعه، إلاّ أنّ السيف قدّه وشجّ رأس علي(عليه السلام).

هنا إستعمل علي (عليه السلام) اُسلوباً خاصّاً، فقال لعمرو: أنت بطل العرب، وأنا اُقاتلك، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو، ضربه علي (عليه السلام) على ساقه بالسيف، فسقط عمرو إلى الأرض، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياً (عليه السلام) قد قتل بسيف عمرو، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بإنتصار علي، ورأوا فجأةً علياً (عليه السلام) يرجع إلى معسكره رويداً رويداً والدم ينزم من رأسه، وعلى شفتيه إبتسامة النصر، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.

لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم، وهزمتهم نفسياً هزيمة منكرة، وخابت آمالهم في النصر والظفر، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّها: «لو وزن اليوم عملك بعمل جميع اُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين، إلاّ وقد دخله عزّ يقتل عمرو»(2).

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، المجلّد 4، صفحة 344 طبقاً لنقل إحقاق الحقّ، الجزء 6، صفحة 9.

2 ـ بحار الأنوار الجزء 20 صفحة 216.

[  209 ]

وقد أورد العالم السنّيى المعروف «الحاكم النيسابوري» هذا القول، لكن بتعبير آخر: «لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة»(1).

والغاية من هذا الكلام واضحة، لأنّ كلاًّ من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهراً، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبي (صلى الله عليه وآله)، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة، وببركة تضحية الإمام(عليه السلام) تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين، وبناءً على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.

وذكر البعض: أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم ـ وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم اُحد ـ فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى»!

وهناك موقف يستحقّ الذكر والإنتباه، وهو: أنّ اُخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها، ورأت أنّ علياً (عليه السلام) لم يسلبه درعه الثمينة قالت: ما قتله إلاّ كفؤ كريم(2).

 

و ـ إجراءات النّبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب

كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة، والأساليب العسكرية والسياسية، وكذلك عامل العقيدة والإيمان، ساهمت في إنتصار النّبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين في معركة الأحزاب، إضافةً إلى التأييد الإلهي. عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء

______________________________________

1 ـ مستدرك الحاكم، الجزء 3، صفحة 32.

2 ـ إعتمدنا في هذا الجانب على كتب: إحقاق الحقّ، المجلّد 6، بحار الأنوار، المجلّد 20، تفسير الميزان، المجلّد 16.

[  210 ]

التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق، وكذلك جنود الله الغيبيين، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات:

1 ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أدخل بقبوله إقتراح حفر الخندق اُسلوباً جديداً لم يكن موجوداً ومعروفاً بين العرب إلى ذلك اليوم، وكان عاملا مهمّاً في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.

2 ـ المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّراً في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.

3 ـ قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّراً آخر.

4 ـ الإيمان بالله، والتوكّل عليه، والذي غرسه النّبي (صلى الله عليه وآله) في قلوب المسلمين، وسقاه المسلمون على إمتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبي (صلى الله عليه وآله) المؤثّرة.

5 ـ اُسلوب النّبي (صلى الله عليه وآله) وروحه الكبيرة، وإعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة وإطمئناناً.

6 ـ إضافةً إلى ذلك، فإنّ عمل «نعيم بن مسعود» كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.

 

ز ـ نعيم بن مسعود وبثّ الفُرقة في جيش العدوّ!

جاء «نعيم» إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وكان قد أسلم لتوّه، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه، فقال: أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك، فقال له النّبي (صلى الله عليه وآله): «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنّا ما إستطعت، فإنّما الحرب خدعة».

فإنطلق نعيم بخطّة رائعة، وأتى يهود بني قريظة، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية، فقال لهم: إنّي لكم صديق، وأنتم تعلمون ذلك، فقالوا: صدقت، ونحن لا نتّهمك أبداً، فقال: إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنّما قريش

[  211 ]

وغطفان بلادهم غيرها، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة إنتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً، فقالوا: قد أشرت برأي، فقبل بنو قريظة قوله.

ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّياً، فقال: يامعشر قريش، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه: أنّه لا يرضيك عنّا إلاّ أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك، فقالوا: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحداً واحذروا.

ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته، فقال: تعلمون حسبي ونسبي، وأنا أودّكم، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي، فقالوا: نعلم ذلك، فقال: لكم عندي خبر فاكتموه عليّ، فقالوا: نفعل، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.

فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا: إنّ الكراع والخفّ قد هلكا، وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

فأجابهم اليهود: إنّ غداً السبت، وهو يوم لا نعمل فيه، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً.

فلمّا بلغ ذلك قريشاً وغطفان قالوا: والله لقد حذّرنا هذا نعيم، فبعث إليهم أبو سفيان: إنّا لا نعطيكم رجلا واحداً فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا، وإن شئتم فاقعدوا.

ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا: هذا والله الذي قال لنا نعيم، فإنّ في الأمر حيلة،

[  212 ]

وهؤلاء لا يريدون القتال، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّداً.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الإختلاف بينهم، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد، قلعت خيامهم، وكفأت قدورهم.

لقد اتّحدت هذه العوامل، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(1).

 

ح ـ قصّة حذيفة

جاء في كثير من التواريخ أنّ «حذيفة اليماني» قال: والله، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلاّ الله، وفي ليلة من الليالي ـ بعد أن وقع الإختلاف بين جيش الأحزاب ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة».

قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع، فلمّا رأى النّبي(صلى الله عليه وآله) ذلك دعاني، فقلت: لبّيك، قال: «إذهب فجىء بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع»، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا يطمئن لهم قدر، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يامعشر قريش، لينظر أحدكم من جليسه لئلاّ يكون هنا غريب، فبدأت بالذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقلت: حسناً.

ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يامعشر قريش ـ والله ـ ما أنتم بدار مقام، هلك الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء،

______________________________________

1 ـ سيرة ابن هشام، المجلّد 3، صفحة 240 بإختصار.

[  213 ]

ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلاّ بعد ما ركبها.

فقلت في نفسي: لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع» وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): «اللهمّ أنت منزل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم»(1).

 

ط ـ نتائج حرب الأحزاب

لقد كانت حرب الأحزاب نقطة إنعطاف في تاريخ الإسلام، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد. ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط:

أ ـ فشل مساعي العدو، وتحطّم قواه.

ب ـ كشف المنافقين، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج ـ جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أُحد.

د ـ قوّة المسلمين، وإزدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

هـ ـ إرتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

و ـ تثبيت مركز النّبي (صلى الله عليه وآله) في داخل المدينة وخارجها.

ر ـ تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

 

2 ـ النّبي اُسوة وقدوة

نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج20، صفحة208.

[  214 ]

للاُمم، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيراً هي الدعوة العملية، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطاً لمقام النبوّة، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس، و «اُسوة» للبشر.

وممّا يسترعي الإنتباه أنّ التأسّي بالنّبي (صلى الله عليه وآله) الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقاً، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.

ففي حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عزّوجلّ لنبيّه: (فاصبر كما صبر اُولو العزم من الرسل) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمراً» ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويقول في آخر الحديث: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(2).

وإذا ما اتّخذنا النّبي (صلى الله عليه وآله) اُسوة لنا في حياتنا حقّاً، في إيمانه وتوكّله، في إخلاصه وشجاعته، في تنظيم أمره ونظافته، وفي زهده وتقواه، فإن اُسلوب حياتنا سيختلف تماماً، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.

يجب اليوم على كلّ المسلمين، وخاصّة الشباب المؤمن، أن يقرؤوا سيرة نبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) بدقّة متناهية ويحفظوها، ويجعلوه قدوة واُسوة لهم في كلّ شيء، فإنّ هذا التأسّي والإقتداء به سبيل السعادة، ومفتاح النصر والعزّة.

______________________________________

1 ـ إحتجاج الطبرسي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج4، ص255.

2 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 1، صفحة 356.

[  215 ]

3 ـ اذكروا الله كثيراً

لقد وردت الوصيّة بذكر الله ـ وخاصّة الذكر الكثير ـ مراراً في الآيات القرآنية، وقد أولته الروايات الإسلامية إهتماماً كبيراً أيضاً، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال: دخلت المسجد فأتيت النّبي (صلى الله عليه وآله) ... فقال لي: «عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيراً فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض»(1).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيراً»(2).

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأصحابه: «ألا اُخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: ذكر الله كثيراً»(3).

لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي، أي أنّ الإنسان يذكر الله عندما يواجه حراماً فيتركه.

إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائماً، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة، وأن يغمر نور الله كلّ حياته، فيفكّر فيه ويذكره دائماً، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.

إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار

______________________________________

1 ـ الخصال، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، ص257.

2 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 484.

3 ـ المصدر السابق.

[  216 ]

المخترعة، والبدع التي يروجونها، فقد ورد في حديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: «بادروا إلى رياض الجنّة، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حلق الذكر»(1)، والمراد منها الحلقات التي تُحيا فيها العلوم الإسلامية، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(2).

 * * *

______________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، ص486.

2 ـ كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (120) من سورة الرعد.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21394193

  • التاريخ : 16/04/2024 - 09:56

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net