00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المائدة 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

                                        سورة المائدة

 

______________________________________________________

الصفحة 373

 

سورة المائدة، تعدّ من السور الطوال ذات الموضوعات المتنوعة، إلا أنها مثل سائر السور القرآنية الكريمة ترتبط بخيط فكري عام يوحّد بين موضوعاتها ويُخضعها لعمارة فنيّة مُحكمة، تبدأ من موضوع محدّد ثم تتنامى موضوعاتها لتصل في نهاية السورة إلى موضوع آخر، تصبّ جميعاً في رافدٍ فكري نبدأ الآن بتفصيل الكلام فيه، حيث نعرض لبنائه حسب تسلسل موضوعاته.

تبدأ السورة بطرح ظواهر (اقتصادية) مختلفة بحيث تشكّل مقطعاً خاصاً، بهذا النحو:

 

(بسم الله الرحمن الرحيم

 

يا أيُّها الذين آمنوا أَوْفُوا بالعقود أُحِلَّت لكم بهيمةُ الأنعام إلاّ ما يُتلى عليكم غيْرَ مُحِلّي الصَّيد وأنْتُم حُرُمٌ إنّ الله يحكُمُ ما يُريدُ) [المائدة: 1].

في هذه الآية التي افتُتِحت بها السورة طرحٌ لتعاملٍِ اقتصادي هو: الإيفاء بالعقود، أي: الالتزام بما يتفق عليه طرفا التعامل، وهذا الالتزام ـ فضلاً عن كونه ذا معطىً اجتماعي من حيث تحقيق التوازن في بناء المجتمعات ـ ينطوي على بُعدٍ أخلاقي أيضاً هو تدريب النفس على الاستواء في السلوك، مُتمثلاً في تزكيتها من أورام (الذات).

بعد ذلك، تطرح الآية قضيةً أخرى هي: إباحة تناول الأنعام إلاّ ما يحدده المشرع من حظر ذلك.

وهذه القضية ترتبط أيضاً بعملية تزكية النفس، ولكن من حيث الأساس الكيميائي لها: بعد أن كانت الظاهرة الأولى (الإيفاء بالعقود) ترتبط بتزكية

 

______________________________________________________

الصفحة 374

 

النفس من حيث تركيبتها العامة.

ثم تتقدم الآية بطرح موضوعٍ ثالث هو: عدم إباحة الصيد في الإحرام.

وهذا الطرح بدوره مرتبط بتزكية النفس من حيث حرص التشريع الإسلامي على أن يتصاعد الشخص ـ في حالة إحرامه ـ إلى سحق (الذات) تماماً، فيمتنع عن ممارسة كل ما له صلة بالهموم الذاتية مثل مطالبته بعدم التظليل من حرّ الشمس مثلاً أو مطالبته بعدم لبس (الزينة)...الخ. كل ما في الأمر أن النص اقتصر من ذلك على عرض (الصيد) فحسب، نظراً لارتباطه بالبعد الاقتصادي الذي يعالجه النص في هذه الآية الكريمة.

إذن، الموضوعات الثلاثة: الإيفاء بالعقد، إباحة الأنعام إلا ما استُثني، عدم الصيد في حالة الإحرام تظل حائمة على (تزكية النفس) من زوايا مختلفة: الاقتصاد الحج...الخ.

بعد ذلك يتقدم النص بطرح ظواهر تتصل بممارسة الحجّ، والإحرام، ثم ما يواكب ذلك من تقديس البيت الحرام، من حيث المطالبة بعدم العدوان فيه، والمطالبة بالتعاون على البرّ والتقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].

إن المطالبة (بالتعاون) واضحة كل الوضوح في انتسابها إلى قضية (تزكية النفس) التي استُهلت السورةُ الكريمة بها، كل ما في الأمر أن النص بَدَأ في رسم ذلك من خلال طرحه لموضوعات اقتصادية مختلفة، يتصل بعضها بمطلق التعامل مثل (العقود)، وبعضها بالطعام، وبعضها بممارسة الحج مثل (عدم الصيد)، ثم تتويج ذلك بقضية عسكرية تتصل بحظر القتال في الأشهر الحرم،

 

______________________________________________________

الصفحة 375

 

ومن ثمَّ المطالبة بالتعاون بنحوٍ عام.

فالمًلاحظ هنا أن النص رَصَد موضوعات تخص ممارسة الحج وتفريعاتها، محقّقاً بذلك مبنى هندسياً قائماً على تجانس الموضوعات، إلا أنّه رسَمَ ذلك من خلال خيط فكري عام هو تزكية النفس، وهي تزكية قد تتم من خلال تعامل اقتصادي، أو تعامل عسكري، أو تعامل عام. وهذا ما عرضه النص حينما طالب بالتعاون على البر والتقوى في نهاية الآية التي تقدّم الحديثُ عنها.

بعد ذلك، يتابع النصُ طرح القضايا المتصلة بتزكية النفس حيث يفصّل ما سبق أن أجمله في مقدمة السورة بالنسبة لإحدى الظواهر المطروحة هناك وهي: ظاهرة (الطعام) أو الأساس الكيميائي في تزكية النفس، حيث لحظنا أن المقدمة أباحت تناول لحوم الأنعام واستثنت منها البعض وها هو النص يتقدّم بعرض ما هو مستثنى في هذا المقطع: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 3].

ففي هذا المقطع استثناءات لما هو مباح بصفتها مضادة لتزكية النفس مثل لحم الميتة، والخنزير وسواهما مما ورد في الاستثناء المذكور، إلاّ أن النص عَرَض خلال حديثه عن هذا الجانب قضية إكمال الدين أو الولاية لعلي ـ عليه السلام ـ مما يمكن تفسيره ـ من الزاوية الهندسية للنص ـ بأنّ إكمال الدين والولاية هو النموذج الأرفع لتزكية النفس، ما دام النص ـ كما لحظنا ـ قد استهدف (تزكية النفس) من خلال طرحه لموضوعات اقتصادية وغيرها، كما أن تعقيبه على

 

______________________________________________________

الصفحة 376

 

ذلك بقوله تعالى: (أتممت عليكم نعمتي) سيكون له موقع عضوي في الأفكار اللاحقة التي ستُطرح في السورة الكريمة.

 

* * *

 

ونتجه إلى مقطع جديد من السورة هو: (يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أُحل لكم الطيبات وما علّمتم من الجوارح مُكَلّبينَ تُعلّمونهن مما علّمكم الله فكُلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتّقوا الله إنَّ الله سريع الحساب * اليوم أُحل لكم الطيبات وطعام الذين أُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمُحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أُجورهن مُحصنين غير مسافحين ولا مُتّخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) [المائدة: 4 ـ 5].

في هذا المقطع يتابع النصُ معالجته للظاهرة الاقتصادية (الطعام) ليحدثنا عما هو محلّل منه بشيء من التفصيل بعد أن حدثنا (إجمالاً) عن ذلك في مقدمة السورة. التفصيل هنا يرتبط بمطلق ما هو مسموح له من الطعام (بعد أن كانت المقدمة تشير إلى الأنعام فحسب)، وبما يتصل بأحد أشكال التزكية (وما علّمتم من الجوارح مكلّبين)، ثم بالطعام من حيث علاقة تناوله بين الإسلاميين والكتابيين، ثم يُختم المقطع بطرح جديد هو: علاقة الإسلاميين والكتابيين من حيث النكاح المسموح به بين الطائفتين.

هندسياً، ينبغي ملاحظة البناء القائم أولاً على طرح الظاهرة الاقتصادية (الطعام) بصفتها امتداداً للمقطع الأول من السورة، ثم (وهذا ما ينبغي لفت النظر إليه) استثمار هذا الجانب (الطعام) لتتناول ظاهرة جديدة سوف تأخذ مساحة كبيرة من السورة هي (سلوك الكتابيين) حيث ربط النص بينهم وبين الطعام المسموح تناوله، لينطلق منه إلى معالجة سلوك الكتابيين في مختلف

 

______________________________________________________

الصفحة 377

 

أنماطه كما سنرى لاحقاً، بحيث يمكن القول بأن طرح سلوك الكتابيين هنا هو بمثابة مقدمة عضوية تأخذ تفصيلا في الأقسام اللاحقة من السورة.

وأول ما يطرحه جديداً هنا هو (التناكح) بينهم وبين الإسلاميين في مستوياته التي لا يعنينا تفصيل الحديث عنها، بقدر ما يعنينا أن نشير إلى المبنى الهندسي لهذا الطرح من حيث كونه يرتبط أولاً بما سبقه من الحديث عن الكتابيين، ومن حيث كونه يصبّ ثانياً في الفكرة الرئيسة للنص وهي (تزكية النفس) بصفة أن ما هو محلل من الطعام والجنس وغيرهما كما سنرى يظل على صلة بتزكية النفس أو حثها في حالة عدم الالتزام بهذه التوصيات.

 

* * *

 

وما دامت (تزكية النفس) هي الخيط الفكري الرابط بين موضوعات النص من طعام وجنس وغيرهما، فإن النص يتقدم في مقطع جديد ـ بطرح ظاهرة جديدة تتصل بتزكية النفس هي: الوضوء والتيمم بصفة ذلك تطهيراً متوازياً مع ما لحظناه من التطهير المتصل بتناول الطعام والتعامل الجنسي، يقول النص: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].

لنلاحظ أن النص صريح هنا في إشارته للتطهير العبادي (يريد ليطهركم). كما ينبغي لفت النظر إلى قوله تعالى بعد ذلك مباشرة: (وليتمّ نعمته عليكم) حيث أن إشارته للتطهير يدعم ما ذهبنا إليه من الخيط الفكري الذي ينتظم موضوعات النص، وحيث أن إرداف ذلك بعبارة (وليتم نعمته

 

______________________________________________________

الصفحة 378

 

عليكم) له موقع عضوي في بناء النص فيما لحظنا في المقطع الأول من السورة إشارته إلى (إتمام النعمة) وحيث ستتكرر هذه الظاهرة عبر الموضوعات اللاحقة التي سنقف عليها. وبالفعل، ما أن انتهى النص من إشارته (لإتمام النعمة) حتى يواجهنا بتذكرها جديداً في المقاطع الجديدة الآتية (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثَقَكُم به إذ قُلتُم سمِعنا وأطعنا واتّقُوا الله إنّ الله عليمٌ بذاتِ الصدور * يا أيُّها الذين آمنُوا كونُوا قوّامين لله شُهداء بالِقسط ولا يجرِمنكُم شنئَانُ قومٍ على ألاّ تعدلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتّقْوى واتَّقُوا الله إنَّ الله خبير بما تعملون * وعدَ الله الذين آمنُوا وعمِلوا الصالِحاتِ لهم مغفِرةٌ وأجرٌ عظيم * والذين كفروا وكذَّبُوا بآياتنا أولئك أصحابُ الجحِيم * يا أيُّها الذين آمنوا اذكرُوا نعمتَ الله عليكم إذ همَّ قومٌ أن يبسُطوا إليكم أيديَهُم فكَفَّ أيديَهُمْ عنكُم واتّقوا الله وعلى الله فليتوكّل المؤمنون) [المائدة: 7 ـ 11].

ففي هذه الآيات الكريمة إشارة إلى النعمة مرتين كما هو ملاحظ، كما أن فيها إشارة إلى (الميثاق) الذي واثق اللهُ تعالى به الإسلاميين بالنسبة إلى إطاعتهم لرسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وهذه الإشارة إلى (الميثاق) ذات مهمة عضوية هي: الربط بين سلوك الإسلاميين الذين يظلون هدفاً في السورة بطبيعة الحال، وبين سلوك الكتابيين الذين سيتابع النصُ طرْحَ شرائح متنوعة من سلوكهم كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل، وبالفعل يبدأ النص بتقديم شرائح من سلوكهم، مستهلاً ذلك بالحديث عن سلوك اليهود الذين يُعتبرون أشدّ الفئات الكتابية مفارقةً. (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ

 

______________________________________________________

الصفحة 379

 

يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ثم أردف ذلك بالإشارة إلى سلوك النصارى:

(ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم... يصنعون) [المائدة: 14].

فالملاحظ هنا أن النص قد جعل أخذ (الميثاق) من (اليهود) ومن (النصارى) ومن (الإسلاميين) عنصراً (رابطاً) بين أجزاء النص، فقد تحدث عن الإسلاميين (وميثاقه الذي واثقكم به) وتحدث عن اليهود (أخذ الله ميثاق بني إسرائيل)، وتحدث عن النصارى (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقكم)، وكان الحديث عن ميثاق الإسلاميين تمهيداً للحديث عن اليهود والنصارى كما لحظنا، وحيث أخذ يواصل تقديم شرائح من سلوكهم على النحو الآتي ـ بعد أن ذكر إجمالاً بأنهم نقضوا مواثيقهم التي واثقوا بها الله تعالى ـ: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كُنتم تُخفُون من الكتابِ ويعفوا عن كثيرٍ قد جاءكُم من الله نورٌ وكتابٌ مُبينٌ * يهدي به الله منِ اتَّبَع رِضوانَه سُبُل السلام ويُخرِجُهُم من الظُّلماتِ إلى النّور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مُستقِيم) [المائدة: 15 ـ 16]. إن ما ينبغي لفت النظر إليه هو: أن ذكر الكتابيين يشكّل إنارةً أو وسيلةً لهدف النص من حيث كونه يتجه إلى تبيين الرسالة الإسلامية وما ينبغي أن يسلكه المؤمنون حيالها، ثم ما واجهته من تعامل الكتابيين حيالها، ولذلك خاطبهم النص قائلاً (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً...الخ) موضّحاً بذلك بأن رسالة الإسلام هي الرسالة التي تخرجهم من الظلمات إلى النور. لكن بما أن الكتابيين ـ في غالبيتهم ـ وقفوا مضادين لهذه الرسالة، حينئذ بدأ النص بعرض شرائح من سلوكهم المنحرف، فتحدث أولاً عن النصارى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريمَ قل فمَن يملِكُ من الله شيئاً إن أراد أن يُهلِكَ المسيح ابن مريح وأُمّهُ ومن في الأرض جميعاً ولله مُلك السماوات والأرض وما بينهُما يخلُقُ ما

 

______________________________________________________

الصفحة 380

 

يشاءُ والله على كل شيءٍ قدير * وقالت اليهود والنّصارى نحنُ أبناءُ الله وأحِبّاؤهُ قل فلِمَ يُعذّبكم بذُنُوبِكم بل أنتم بشرٌ ممن خلَقَ يغفِر لمن يشاء ويُعذّب من يشاء ولله مُلك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) [المائدة: 17 ـ 18].

هنا ينبغي أيضاً أن تتنبه على جملة من الأسرار البنائية للنص، فاليهود ـ كما أشرنا ـ اشدّ انحرافاً من النصارى فيما يفسّر لنا سرّ الابتداء من الحديث عنهم في المقطع الأسبق، وهذا ما يشير إليه النص القرآني في هذه السورة كما سنرى لاحقاً. لكن بما أن النص يستهدف ـ في هذه السورة ـ تركيزاً على سلوك النصارى (ومنه: تعاملهم مع المائدة التي نزعت عليهم من السماء ـ كما سنرى في ختام السورة) حينئذٍ فإن الحديث عنهم سوف يأخذ حجماً كبيراً، كما سيأخذ ـ في سياقات أخرى ـ أولويةً، ومنها، استهلال الحديث عنهم في المقطع الذي نحن في صدده (لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح.. الخ) مضافاً إلى أن مثل هذا الزعم يشكل مفارقة ضخمة لأنه كفرٌ صارخٌ كما هو واضح... بالقياس إلى تصورات اليهود الذاهبة إلى أنهم بمنزلة الابن وليس الإبن ذاته.

وإذا تابعنا النص، وجدناه يتجه من جديد إلى مخاطبة الكتابيين (يهوداً ونصارى): (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير...) [المائدة: 19]. هذه الآية التي جمعت بين اليهود والنصارى بعبارة (يا أهل الكتاب) لها أهمية عضوية في بناء النص فقد لاحظنا في المقطع الأسبق أن النص قد خاطبهما (اليهود والنصارى) بالمصطلح ذاته: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون..) [المائدة: 15]، ثم تحدث عن كل طائفة منهما على حدة كما رأينا. وهنا في المقطع الذي نحن في صدده (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل..) يسلك المنحى نفسه في استخدامه

 

______________________________________________________

الصفحة 381

 

لعبارة (يا أهل الكتاب).

 

والسرّ الفنيّ في ذلك هو: أن النص عندما يجمع بين الطائفتين بعبارة واحدة إنما يستهدف إبراز سلوك مشتركٍ بينهما، وعندما يفرد كلّ واحدة منهما بالحديث إنما يستهدف إبراز سلوك خاص بها، وإن كان كلا السلوكين يصبّ في حقل واحد هو: أن النص قد أخضع هذه الجزئية من النص لعمارة خاصة تنتظمها الخطوط الآتية:

1 ـ العبارتان تتماثلان في الصياغة (أي المقطعين التاليين):

ـ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون.

ـ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترة من الرسل.

2 ـ المقطعان يتكرران في سياق يختلف أحدهما عن الآخر، فالأول يتحدث عن إخفاء الكتابيين للحقائق، والآخر يتحدث عن إعطائهم الحجة بمجيء الإسلام الذي يكشف الحقائق فيما يفسّر لنا سرّ التكرار كما هو واضح.

3 ـ المقطع الأول أردف حديثه عن الكتابيين بالإشارة إلى أنهما قالا نحن أبناء الله وأحباؤه، بينما أردف المقطع الثاني حديثه عن الكتابيين بعرض شريحة ماضية من سلوك اليهود كما سنرى، مما يفسّر لنا كون النص يستهدف في كل سياقٍ إبراز ما هو أشدّ مفارقة أو أهمية، حيث كانت الإشارة إلى أن اليهود والنصارى قالا بأنهما أبناء الله وأحباؤه أشد مفارقة من غيرها من السلوك، وحيث أن الاستهلال ـ في المقطع الثاني ـ بعرض شرائح من سلوك اليهود، يُجسّد مفارقة هذه الطائفة والتواءها بشكلٍ أشدّ من التواء النصارى ومفارقاتهم.

 

* * *

 

المهم، أن النص يبدأ الآن بالحديث عن جانب من السلوك اليهودي على

 

______________________________________________________

الصفحة 382

 

النحو التالي: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكُم أنبياءَ وجعلكُم مُلُوكاً وآتاكم ما لم يُؤتِ أحداً من العالمينَ * يا قومِ ادخلوا الأرض المُقدّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركُم فتنقلِبُوا خاسرِين * قالوا يا مُوسى إنّ فيها قوماً جبّارين وإنّا لن ندخُلها حتى يَخرُجوا منها فإن يخرجُوا منها فإنّا داخلون * قال رجلانِ من الذين يخافُون أنعم الله عليهما ادخُلوا عليهم البابَ فإذا دخلتُمُوه فإنّكم غالبُون وعلى الله فتوكّلوا إن كنتُم مؤمنين * قالوا يا مُوسى إنّا لن ندخُلها أبداً ما داموا فيها فاذهَب أنت وربُك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون * قال ربِّ إنّي لا أملكُ إلاّ نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القومِ الفاسقين) [المائدة: 20 ـ 25]، هذه الشريحة من سلوك اليهود تجسّد عنصراً قصصياً متمثّلاً في مطالبة موسى ـ عليه السلام ـ قومه بالدخول إلى الأرض المقدّسة وامتناعهم عن ذلك، ومجازاتهم على تمردهم بحادثة التيه المعروفة.

بعد ذلك، أردف النصُ هذه الأقصوصة بأقصوصة أخرى هي قصة ابني آدم اللذين تُقبّل قربان أحدهما وقتله على يد الآخر الذي لم يُتقبّل منه... الخ. وبما أننا تحدثنا عن هاتين الأقصوصتين في دراسة مستقلة، فلن نعرض لهما فنياً بقدر ما نستهدف الإشارة إلى موقعهما عضوياً من عمارة السورة الكريمة.

لقد سبق أن لحظنا أن النص القرآني طرح موضوع السلوك الكتابي (اليهود منه)، وحينئذٍ فإنّ عَرْضَ جانبٍ من سلوكهم هنا يعني إبراز النص لأنماط خاصة منه، متمثلة في تمرد اليهود وجبنهم وانحطاطهم العقلي حيث أن امتناعهم عن الدخول إلى الأرض المقدسة وسخريتهم من موسى بأن يقاتل وربّه تعالى يكشف عن هذه السمات الثلاث. بيد أن الملاحظ هنا أن النص قد قطع سلسلة حديثه عن الإسرائيليين بتقديم أقصوصة ابني آدم عليه السلام، ثم تابع حديثه عن الإسرائيليين... فما هو السرّ الفني في ذلك؟ أقصوصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ

 

______________________________________________________

الصفحة 383

 

تكشف عن أحد جوانب البناء الهندسي للنص حينما عقّب النصُ على قتل أحد ابني آدم لأخيه، قائلاً (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً..) [المائدة: 32]، فعملية الربط بين قتل أحد ابني آدم لأخيه وبين ما فرضه الله تعالى على الإسرائيليين بعدم ممارسة القتل، تظل من الوضوح بمكان كبير، بمعنى أن قصة ابني آدم جاءت بمثابة قصة معترضة لقصة الإسرائيليين. وكما نعرف، فإن القصة أو الجملة أو الكلمة المعترضة، تشكّل واحداً من أساليب التعبير الفني، حيث أن قطع سلسلة الموضوع ومتابعته بعد ذلك، يعني أن القصة أو الجملة أو الكلمة المعترضة تحتل أهمية خاصة لدى مبدع النص يستهدف إبرازها إلى المتلقي، وهذا ما حدث بالنسبة إلى قصة ابن آدم التي اعترضت قصة الإسرائيليين، حيث أن المتلقي أفاد من هذه الأقصوصة جملة ظواهر، منها: أن يكون التقرب إلى الله تعالى بما هو جيّد من القربان وليس رديئه (كما صنع أحد ابني آدم، وهو القاتل)، ومنها: إبراز (الحسد) بصفته دافعاً مقيتاً يستتلي سلوكاً يصل إلى درجة القتل، ومنها: الإشارة إلى النزعة المسالمة التي ينبغي أن تطبع سلوك الشخصية (مثل نزعة المقتول الذي قال لأخيه: لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي لأقتلك...)...الخ.

بيد أن السرّ الفنيّ الأشد أهمية هنا (ما دمنا في صدد الحديث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة) يتمثل في المنحى الفنيّ الذي سلكه النص بشكلٍ غير مباشر ألا وهو خطورة (القتل) من جانب، ومشروعيته من جانب آخر، أمّا عدم مشروعيته فهو القتل بنحوه العدواني الصرف، فالمقتول (أحد ابني آدم) لم تصدر عنه أية جريمة تستوجب قتله بل العكس تماماً، أنه أخلص لله تعالى بتقديمه القربان الجيّد. وأما المشروع من القتل فهو القصاص أو القتل بسبب من الإفساد في الأرض...الخ، مما سيوضحه النص لاحقاً، بيد أن ما يعنينا

 

______________________________________________________

الصفحة 384

 

لفت النظر إليه هو أن النص القرآني الكريم رَسَم هذه الحقائق بنحو غير مباشر من جانب، ثم رسمها بنحوها المباشر من جانب آخر، رسمها بالنحو غير المباشر عندما قدم أقصوصة فنية عن ابني آدم، ورسمها بالنحو المباشر عندما تابع حديثه عن الإسرائيليين. وهذا هو أحد الأسرار الممتعة في عمارة السورة القرآنية الكريمة. فالقصة (قصة ابني آدم) لم تتحدث عن القتل في أشكاله التي أشرنا إليها، إنما نقلت الحادثة والمحاورة بين ابني آدم، وتركتنا نحن المتلقين نستنتج التفصيلات المشار إليها من خلال مطالعتنا الأقصوصة ولما بعدها من المقاطع، حيث يكشف ذلك عن مدى الإحكام الهندسي للنص في مختلف مقاطعه.

المهم، أن النص ربَطَ عضوياً بين قصة ابني آدم وبين الإسرائيليين، ثم بدأ يواصل حديثه عن الإسرائيليين، مركّزاً على جانب جديد من سلوكهم ألا وهو (القتل). ومن الواضح أن الإسرائيليين عُرفوا ـ دون غيرهم من الطوائف ـ بقتلهم الأنبياء، وهو أمر لم يتحدث عنه النص في هذا المقطع الذي نتحدث عنه، إلا أن مجرد إشارته إلى أن الله تعالى فَرضَ على الإسرائيليين أنه من قتل نفساً بغير حق فكأنه قتل الناس جميعاً، يظل أسلوباً فنياً غير مباشر في لفت النظر إلى أنهم يُعرفون بجرائم القتل لأنبيائهم وهو أشد أنماط القتل جنايةً.

والآن إذا تركنا هذا الجانب العماري من النص، واتجهنا إلى الخطوط العمارية الأخرى، لحظنا أن النص قد استثمر هذا البُعد المتصل بظاهرة القتل ليطرح موضوعاً جديداً هو: مشروعية القتل وعدمها في ضوء المواقف التي تتطلب ممارسة هذا الفعل أو عدمها. ولذلك نبدأ بمواجهة مقطع جديد يقول: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسُوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنفوا من الأرض... غفور رحيم) [المائدة: 33 ـ 34].

 

______________________________________________________

الصفحة 385

 

واضح أن النص قد انتقل هنا من الحديث عن الإسرائيليين إلى الحديث عن ظاهرة القتل، ثم ظاهرة الجزاء المترتب على أنماط أخرى من الممارسات الانحرافية، مثلما انتقل من الحديث عن المجتمع الإسرائيلي إلى الحديث عن المجتمع الإسلامي. لقد أشار إلى الجزاء المترتب على محاربة الله تعالى ورسوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعلى الإفساد في الأرض، أشار إلى عملية القتل والصلب والقطع (للأيدي والأرجل) والنفي المترتبة على المحاربة والإفساد. خلال ذلك، عرض إلى ظاهرة (التوبة) قبل إلقاء القبض على المنحرفين ومحاسبتهم، بصفة أن التوبة قبل ذلك تكشف عن ندم المنحرف حقاً، بخلاف ندمه بعد إلقاء القبض عليه حيث أنه يضطر إلى ذلك. طرح النص موضوعات تتصل بالجهاد في سبيل الله، وبالتقوى، وبالجزاء المترتب على المنحرفين، ثم عَرَض إلى أحد أشكال الإنحراف الاجتماعي وهو (السرقة) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نَكالاً من الله والله عزيز حكيم * فمن تابَ من بعد ظُلمِه وأصلح فإنَّ الله يتُوب عليه إنَّ الله غفُور رحيم * ألم تعلَم أنَّ الله له مُلك السماوات والأرض يُعذِّب من يشاء ويغفِرُ لمن يشاء والله على كل شيءٍ قدير) [المائدة: 38 ـ 40].

هنا ينبغي ملاحظة جملة من الأسرار الفنية لهذا البناء العماري القائم على عرض موضوع (السرقة) في سياق الحديث عن الانحرافات المذكورة وجزاءاتها الاجتماعية.

إن إبراز (السرقة) وجزائها في مقطعٍ مستقلٍ قد فُصِل بينه وبين الظواهر الانحرافية (المحاربة، والإفساد)، يعني: إكسابه أهمية خاصة من جانب، وارتباطه عضوياً بما سبقه من جانب آخر. ويعنينا الارتباط العضوي بطبيعة الحال. وما أن ندقق النظر قليلاً حتى نكتشف بأن السرقة تجسّد واحدةً مما يسمّى في لغة المرض النفسي بـ(أمراض الشخصية) أو (الانحرافات

 

______________________________________________________

الصفحة 386

 

الاجتماعية) من حيث اشتراك هذه الأمراض في خطوط متماثلة بينها، نزعةً ودرجةً وشكلاً... فالمحارب الذي أشارت إليه آية سابقة (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...) [المائدة: 33]، هو مَن يشهر السلاح ويتلصص في الطرق جهراً، وأما السارق الذي أشارت إليه الآية التي نتحدث عنها فهو من يمارس اللصوصية خفيةً. وهذا هو العنصر المشترك بينهما (أي اللصوصية) مطلقاً، وأما الجزاء المترتب على السارق فهو (القطع)، حيث يشترك مع ما تقدمه في أحد أشكال الجزاء (تقطيع الأيدي أو الأرجل من خلاف). وهذا هو العنصر المشترك الآخر بينهما.

من جانب ثالث، هناك عنصر مشترك بينهما من حيث الإشارة إلى توبة كل منهما، فقد أشار النص إلى التوبة بالنسبة إلى المحارب والمفسد بالتعقيب القائل: (إن الله غفور رحيم)، وأشار بالنسبة إلى السارق والسارقة بالعبارة ذاتها: (إن الله غفور رحيم).

إذن، أمكننا ملاحظة ثلاثة عناصر مشتركة بين الآية التي عرضت للمحارب والمفسد وبين الآية التي عرضت للسارق والسارقة، وأولئك جميعاً تكشف عن مدى الإحكام العضوي بين أجزاء النص القرآني الكريم.

 

* * *

 

والآن، نجد أن النص القرآني الكريم يعود من جديد إلى متابعته للسلوك الإسرائيلي بعد أن قطعه بقصة ابني آدم وبظواهر القتل والمحاربة والإفساد والسرقة عبر خطوط متواشجة عضوياً بنحو ما لحظنا، فيما لا حاجة إلى تبيين السرّ الفني في متابعة النص لعرض السلوك الإسرائيلي.

يقول النص: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا....... فأولئك هم الظالمون) [المائدة: 41 ـ 45].

 

______________________________________________________

الصفحة 387

 

لنلاحظ أن الفكرة الرئيسة للسورة الكريمة لا تزال تمدّ عصبها في أجزاء النص، فها هي تتناول شرائح جديدة من سلوك اليهود (سماعون للكذب سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه...) حيث يعقّب النص قائلاً (أولئك الذين لم يُرد الله أن يطهّر قلوبهم). فالفكرة الرئيسة للنص (وهي: التزكية أو التطهير) ألقت بإنارتها في هذا المقطع، وذلك من خلال نفيها لسمة التطهير عند الإسرائيليين. ومن الواضح أن جمالية البناء العماري للنص تكسب إثارة أشدّ عندما تعتمد خطوط (التوازي) و(التقابل) أيضاً، ففي عرضه لسلوك المؤمنين (في مقاطع سابقة من السورة) قال النص: (يريد ليطهّركم)، وهنا في عرضه لسلوك الإسرائيليين يقول النص: (لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم)، أنه (يقابل) و(يضاد) بين تطهير المؤمن وعدم تطهير الكافر في غمرة عرضه لظواهر التطهير المختلفة من طعام وجنس وغسل وتيمم... الخ، حيث (تتوازى) هذه الخطوط، وحيث تقف إلى جانبها خطوط (تتضاد) ليستكمل البناء الفني جماليته الفائقة.

وإذا تابعنا المقطع نواجه شرائح جديدة من سلوك اليهود، ومنها (أكالون للسحت). وهذه السمة هي (ضدّ) للتطهير، فالسحت هو الحرام في مستوياته المتنوعة سواء أكانت أموالاً مثل ثمن الخمر والميتة والبغي الخ، أم كانت أخذاً للرشوة في حقل القضاء. والمهم أنها سمة ضد التطهير، ومن ثم فإن النص في غمرة عرضه لهذه السمة الرابطة بين أجزاء السورة الكريمة، يطرح قضية (الاحتكام) وصلة سلوك الإسرائيليين به، لكن يعرض للقصاص منه، مبيّناً كيفية تلاعبهم بالأحكام: انسياقاً لمصالحهم الذاتية، معلقاً على ذلك بالعبارة الرابطة بين أجزاء السورة (ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم...).

 

______________________________________________________

الصفحة 388

 

بعد ذلك، يتجه النص إلى عرض الإنجيل وكونه مصدّقاً للتوراة، ملوّحاً بضرورة أن يحكم (أهل الإنجيل بما أنزل الله..) ثم اتبعه بالقرآن وبكونه مصدقاً لما قبله أيضاً، ملوّحاً بضرورة أن يحكم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بما أنزل الله تعالى، محذّراً من الحكم وفق أهواء الكتابيين.

ولا نجدنا بحاجة إلى تبيين الإحكام الهندسي لهذا المقطع من حيث صلة أجزاؤه بعضها مع الآخر. فـ(الحكمُ) هو الظاهرة أو الخيط الفكري الذي يربط بين أجزاء المقطع فيما عقّب على التوراة بعبارة:

(ومن لم يحكم بما أنزل الله) [المائدة: 44]، وعقّب على الإنجيل بالعبارة ذاتها:

(ومن لم يحكم بما أنزل الله) [المائدة: 47]، وعقّب على القرآن مخاطباً النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعبارة:

(فاحكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 48]، ومحذّراً من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله) [المائدة: 49]. مضافاً إلى ذلك، أننا نجد بأنّ كلاً من التوراة والإنجيل والقرآن تأخذ نسقاً هندسياً رابطاً بين الكتب الثلاثة، أمّا من خلال ما لحظناه من ظاهرة (الحكم) أو من خلال كون أنّ اللاحق منها مصدّق للآخر: الإنجيل مصدق للتوراة، والقرآن مصدّق لهما.

 

* * *

 

بعد ذلك، يتّجه النص إلى طرح جملة من المبادئ التي تخصّ الإسلاميين وذلك من خلال علاقتهم بالكتابيين، مخضعاً ذلك إلى نسق هندسي آخر هو: مخاطبة المؤمنين بعبارة: (يا أيها الذين آمنوا) جاعلاً من هذه العبارة خيطاً فكرياً رابطاً بين أجزاء النص، بادئاً ذلك على النحو الآتي:

 

______________________________________________________

الصفحة 389

 

1 ـ (يا أيها الذين آمنوا: لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... فاصبحوا خاسرين) [المائدة: 51 ـ 53].

2 ـ (يا أيها الذين آمنوا: من يرتدّ منكم عن دينه.... فإن حزب الله هم الغالبون) [المائدة: 54 ـ 56].

3 ـ (يا أيها الذين آمنوا: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء.... قوم لا يعقلون) [المائدة: 57 ـ 58].

فالملاحظ عمارياً، أن عمارة هذا المقطع ينتظمها:

1 ـ خيط فكري عام هو: عدم اتخاذ الكتابيين أولياء، وهذا ما تكفّل جزءان من المقطع (رقم (1) و(3))، حيث تكفّل أحدها ببيان (النفاق) الذي طبع بعض الإسلاميين والكتابيين، وتكفّل الآخر ببيان أن الكتابيين قد اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، مطالباً بعدم اتخاذهم أولياء.

2 ـ خيط فكري جزئي يتفرع من رقم (1) حيث أن النفاق الذي يطبع بعض الإسلاميين أو الضعف النفسي الذي يطبع بعضهم، يستتلي الارتداد عن الدين، ولذلك جعل لهذه الظاهرة صيغة مستقلة صيغت بالعبارة ذاتها (يا أيها الذين آمنوا).

3 ـ خيط فكري يشكّل جواباً لكل من رقم (1، 3) أي: عندما حذّر النص من عدم اتخاذ الكتابيين أولياء، حينئذٍ رسم ما ينبغي أن يتخذوه من الأولياء، قائلاً:

(إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [المائدة: 55].

 

* * *

 

______________________________________________________

الصفحة 390

 

ونواجه مقطعاً جديداً من شرائح السلوك المرتبطة بالكتابيين: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل من قبلُ وأنَّ أكثركم فاسقُون * قل هل أُنبِئُكم بشَرٍّ من ذلك مثُوبة عند الله من لعنه الله وغضِبَ عليه وجعل منهُم القِردة والخنازير وعبد الطّاغُوت أُولئك شرٌّ مكاناً وأضلُّ عن سواء السبيل * وإذا جاءوُكم قالوا آمنا وقد دخلُوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتُمُون * وترى كثيراً منهم يُسارعُون في الإثم والعُدوان وأكلهِمُ السُّحْتَ لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهُم الرّبانيون والأحبارُ عن قولِهِم الإثم وأكلهِمُ السُّحت لبئس ما كانوا يصنعُون) [المائدة: 59 ـ 63] بعد أن تحدّث النص عن سخرية الكتابيين بالإسلام، عرض لنزعة الحسد لديهم قبال الإسلاميين فسخر النص منهم: (قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير...) [المائدة: 60]، حيث تشكّل هذه السخرية التي تتحدث عن العقاب الذي ينتظر الكتابيين بأنه (مثوبة)، جواباً لسخريتهم التي عرضها النص في المقطع الأسبق، بخاصة أن النص ذكّرهم بأنه جعل منهم القردة والخنازير إمعاناً في الحطّ من شأنهم، ثم عرض لنفاقهم وكرّر الحديث عن ظاهرة (أكلهم السحت)، وهذا التكرار له موقع عضوي من عمارة النص التي تحوم فكرتها على (تطهير النفس) حيث أن التركيز على هذه الظاهرة بين حين وآخر تجعل الهيكل الهندسي للنص بمثابة شبكة تلتقي عندها خطوط الوصل بين أجزائها، يضاف إلى ذلك، أن تكرار (السحت) جاء في سياق جديد يختلف عن سياق الأسبق، فهناك كان الحديث عن (السحت) مرتبطاً بسلوك اليهود، وهنا يرتبط بالكتابيين يهوداً ونصارى، لذلك ما أن انتهى النص من الحديث عن الكتابيين، حتى أفرد اليهود من جديد بحديث آخر عبر المقطع الآتي:

 

* * *

 

______________________________________________________

الصفحة 391

 

المقطع الجديد الذي يتحدث عن اليهود، أبرز شريحة من سلوكهم المنكر وهو قوله تعالى: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم... والله لا يحب المفسدين) [المائدة: 64] وإبراز هذه الشريحة في مقطع مستقلٍ يعرض به سلسلة الحديث عن الكتابيين، يكشف عن مدى البعد الانحرافي الذي يطبع سلوك اليهود، حتى أن النص استخدم أشدّ الصيغ البلاغية في الذمّ حينما علق قائلاً: (غُلّت أيديهم) ثم أردفها بعبارة (ولُعِنوا) مما يكشف هذا عن مدى تناسب الإجابة مع سلوكهم.

 

* * *

 

وندع هذا المقطع الذي اعترض به النصُ سلسلة الحديث عن الكتابيين، لنواجه مقاطع جديدة تتحدث عن الكتابيين بنحو مطلق، ثم تفرد الطائفة النصرانية في معالجة مستقلة. ولنقرأ:

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفّرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلْناهُم جنات النّعيم * ولو أنّهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزِلَ إليهم من ربَّهم لأكلُوا من فوقهم ومن تحت أرجُلِهم منهم أُمَّةٌ مُقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون * يا أيُّها الرسولُ بلّغ ما أُنزِل إليك من ربّكَ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصِمُك من الناس إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين * قل يا أهل الكتابِ لستُم على شيء حتى تُقيمُوا التوراة والإنجيل وما أنُزِل إليكُم من ربّكُم وليَزيدنّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّكَ طُغياناً وكفراً فلا تأسَ على القوم الكافرين) [المائدة: 65 ـ 68]. المقاطع السابقة عرضت شرائح السلوك المنحرف لدى الكتابيين. هنا يعرض المقطع الجديد عنصراً (ترغيبياً) يقرّر من خلاله واحداً من مبادئ الاجتماع الإسلامي، ألا وهو تكييف الظواهر الاجتماعية وفقاً لنمط السلوك الذي ينتخبه الناس، أي يرتب جزاءً اجتماعياً على السلوك المذكور، كما يرتب جزاء أخروياً على ذلك، فلو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل والقرآن،

 

______________________________________________________

الصفحة 392

 

لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وهكذا. ويختم المقطع حديثه عن هذا الجانب بالإشارة إلى أن من الكتابيين من هو مستثنى من الانحراف ـ مضيفاً طائفة الصابئين إليهم، ليستكمل بذلك حديثه عن الكتابيين في طوائفهم الثلاث المعروفة.

بيد أن ما تجدر ملاحظته في هذا المقطع، أن النص قد قطع سلسلة حديثه عن الكتابيين بالآية الكريمة القائلة: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [المائدة: 67]. إن هذه الآية الكريمة ـ كما تذكر النصوص المفسرة ـ وردت في حادثة (الغدير) التي نُصِبَ فيها الإمام علي ـ عليه السلام ـ خليفة لرسول الله تعالى. وحينئذٍ ما هو الموقع الهندسي لها في عمارة المقطع؟ لقد كرّرنا، أن أية ظاهرة تحتل أهمية خاصة، يستهدف النصُ إبرازها، إنما يصوغها النص وفق تقنيات متنوعة وفي مقدمتها: قطعها لسلسلة الموضوع ثم متابعته من جديد. لكن مع ذلك، فإن خطوطاً من التجانس بين الموضوع الرئيس والموضوع الطارئ لا بدّ أن تفرض فاعليتها في هذا الصدد استحكاماً لعمارة النص. ولقد لحظنا من خلال المقاطع جميعاً أو الغالبية منها أن النص بالرغم من كونه يتحدث عن الكتابيين، إلا أنه بين حين وآخر يتجه بالخطاب إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإلى المؤمنين ليطرح من خلال ذلك جملةً من المبادئ التي يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي. وهنا نجد أن مخاطبة النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بصيغة (يا أيها الرسول) جاءت متجانسة مع مقاطع سابقة صيغت بالعبارة ذاتها من نحو: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) [المائدة: 41] حيث جاءت في سياق الحديث عن اليهود والمنافقين ومطلق الكفار بخاصة فيما يتعلق بممارسة (الحكم) أو (القضاء)، هنا أيضاً جاءت الآية الكريمة في سياق الحديث عن الكتابيين، حيث اقترنت بممارسة (التبليغ) كما هو واضح. ولعل التجانس الأشهر أهمية

 

______________________________________________________

الصفحة 393

 

هو ما نلحظه من الآية الكريمة التي أعقبت آية التبليغ حيث تقول: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين) [المائدة: 68].

لنلحظ أولاً أن كلاً من الآيتين ختمت بعبارة (القوم الكافرين) حيث أشارت الأولى إلى أنه تعالى لا يهديهم، وأشارت الثانية إلى عدم الأسى عليهم.

ولنلحظ ثانياً أن كلاً منهما علقت شيئاً على آخر، الأولى قالت: لا تتم عملية (التبليغ) إلاّ بإيصال ما أنزل على النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى الناس. والثانية قالت: ليس الكتابيون على شيء إلاّ في حالة إقامتهم لما أنزل عليهم.

فالتبليغ والإيمان (بما أنزل) هو الطابع المشترك في الموقفين ولنلحظ ثالثاً أن الإيمان لا يستكمل أدواته في الموقف الأول إلاّ برسالة الإسلام عامة وبما أنزل من بعدُ (الغدير)، وكذلك بالنسبة إلى الكتابيين، حيث أن إيمانهم بالتوراة والإنجيل لا يستكمل أدواته إلا بالإيمان برسالة الإسلام.

هذه المستويات الثلاثة من التجانس ينبغي أن يُدقّق النظرُ فيها لملاحظة مدى جمالية المبنى الهندسي للمقطع في ضوء الحقائق المشار إليها.

 

* * *

 

ونواجه مقطعاً جديداً، يشكّل امتداداً للمقاطع السابقة التي تتحدث عن الكتابيين، إلا أن الجديد هنا هو إفراد الإسرائيليين ـ من جديد ـ بحديث خاص سبق أن طرحه النص في موقع متقدم من السورة، ألا وهو (الميثاق) الذي واثقهم به الله تعالى. فهناك جاء الميثاق في سياق خاصٍ بالصلاة والزكاة والفرض... الخ، بينا جاء هنا في سياق آخر هو: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً

 

______________________________________________________

الصفحة 394

 

كذّبوا وفريقاً يقتلون * وحسبوا ألاّ تكون فتنة فعموا وصمّوا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصمّوا كثير منهم والله بصير بما يعملون) [المائدة: 70 ـ 71].

إذن، السياقان مختلفان، وهذا هو أحد محاور البناء الهندسي للنص، حيث تجيء ظاهرة (التكرار) لتؤدي جملة وظائف فنية، منها: التأكيد على الشيء، ومنها: إبراز الجديد الذي ورد في سياق متكرر، ومنها: (وهذا ما نعتزم لفت النظر إليه) ربط أجزاء النص بعضها مع الآخر حتى لا ينفصل جزء من السورة عن الأجزاء الأخرى التي تؤلف شبكة السورة.

 

* * *

 

وكما كرّر النص حديثه عن الميثاق بالنسبة إلى الإسرائيليين، نجده يكرر حديثه عن النصارى بالنسبة إلى ذهابهم إلى أن الله تعالى هو المسيح. وكما أفرد للإسرائيليين مقطعاً، نجده يفرد للنصارى مقطعاً أيضاً.

وهذا الخطّان من التجانس يضافان إلى عشرات الخطوط الهندسية التي لحظناها بالنسبة إلى بناء العمارة.

ولكن الملاحظ هنا أن النص يقطع رحلةً طويلةً في تقديمه لشرائح السلوك النصراني، حيث قلنا في حينه: إن النص القرآني الكريم رسم مساحة كبيرة لهذه الطائفة في سورة المائدة وخَتَم السورة بشريحة أخرى من سلوكهم كما سنرى، مما يكشف ذلك عن كون النص قد استهدف في هذه السورة إبراز السلوك النصراني (بنحو ما استهدف في سورة البقرة مثلاً: إبراز السلوك الإسرائيلي) ولنقرأ إذن:

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل ابعدوا الله ربي وربكم... وضلّوا عن سواء السبيل) [المائدة: 72 ـ 77].

 

______________________________________________________

الصفحة 395

 

السياق الجديد الذي ورد فيه تكرار قولهم: (إن الله هو المسيح...) هو ذهابهم إلى أنه تعالى ثالث ثلاثة...الخ. فيما لا حاجة إلى تحديد المهمة الفنية للتكرار وسياقه الجديد، بعد أن تحدثنا عنه قبل سطور.

وهكذا نجد أن النص يتحدث حيناً عن الكتابيين مطلقاً، وحيناً يتحدث عنهم على انفراد تبعاً للمواقف المشتركة أو المنفردة التي يستهدف النص إبرازها لدى الكتابيين. لذلك يعود النص من جديد ليحدثنا عن الكتابيين مطلقاً، فيقول:

(قل يا هل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعُوا أهواء قومٍ قد ضلُّوا من قبل وأضلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواء السبيل * لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوُد وعيسى ابن مريم ذلك بما عصَوا وكانُوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن مُنكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولَّونَ الذين كفروا لبئس ما قدّمت لهم أنفُسُهم أن سخِط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يُؤمِنُون بالله والنّبيّ وما أُنزِل إليه ما اتّخذُوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقُون * لتجدنَّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنُوا اليهود والذين أشرَكُوا ولتَجِدنّ أقربهُم مودّة للذّين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قِسّيسين ورُهباناً وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعُوا ما أُنزِل إلى الرسول ترى أعيُنَهُم تفيض من الدّمع مما عرفُوا من الحق يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نُؤمنُ بالله وما جاءنا من الحق ونطمَعُ أن يُدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين) [المائدة: 77 ـ 84]، هنا في غمرة حديثه عن الكتابيين يربط أولاً بين المقطع الأسبق الذي تحدث عن النصارى وغلوّهم، وبين المقطع الجديد الذي أشار إلى ظاهرة (الغلوّ) لدى الكتابيين مطلقاً (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم). ثم يتقدم ثانياً إلى عرضٍ جديد يفرز من خلاله الفارقية بين الطائفتين اليهودية والنصرانية مشيراً إلى أن اليهود هم أشد انحرافاً من

 

______________________________________________________

الصفحة 396

 

النصارى، وأن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للمؤمنين، وأن النصارى أقربهم مودة للمؤمنين... الخ.

إذن، جاء كلُ مقطع يتحدث عن الكتابيين مطلقاً أو منفردين، جاء في سياق جديد، وأن التكرار لبعض المواقف ـ فضلاً عن وروده في السياق الجديد ـ قد اضطلع بمهمة الربط العضوي بين أجزاء النص بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

وبهذا يتم القسم الخاص بالكتابيين من سورة المائدة، حيث ستُختَم السورة بحادثة خاصة بالنصارى: كما سنوضّح ذلك في حينه لملاحظة المبنى الهندسي لهذا الختام. وخلا ذلك، فإن القسم الجديد من السورة الكريمة يتمحض للحديث عن المؤمنين بالنحو الذي نبدأ بتناوله الآن:

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أَحَلَّ الله لكم ولا تَعْتَدُوا إنّ الله لا يُحبُّ المعتدين * وكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طيّباً واتقوا الله الذِي أنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون) [المائدة: 87 ـ 88].

هذا المقطع يتناول إحدى الظواهر العبادية المتصلة بالطعام وغيره من حيثُ طرائق تنظيمه، ومع هذا المقطع يبدأ قسم جديدٌ من السورة، حيث بدأت السورةُ بالحديث عن (تزكية النفس) من حيث التغذية المنتقاة وانعكاساتها على ذلك، ثم جاء القسمُ الآخرُ من السورة خاصاً بسلوك الكتابيّين حيثُ استثمر النصُ هذا الجانب فأبرز السمة المضادة لتزكية النفس عند مجتمع الكتابيين. وها هو الآن ـ في القسم الثالث من السورة ـ يعودُ إلى ظاهرة (الطعام) أو (التغذية) ليطرح مفهوماتٍ جديدةً عن علاقة ذلك بتزكية النفس.

الجديدُ في هذا المقطع ليس تحديدُ نمط الطعام من حيث حِليته وحرمته، كما لحظنا ذلك في القسم الأول من السورة بل الجديدُ هو: قضيةُ الغذاء المحلّلِ نفسِه، وطريقةُ تنظيمه، وانعكاسات ذلك على تزكية النفسِ.

 

______________________________________________________

الصفحة 397

 

لقد ذكرت النصوص المفسّرة أن هذا المقطع جاء بسببٍ من تصميم بعض الصحابة على نبذ الطيّبات من الطعام والنساء، زهداً بمتاع الحياة الدنيا وشوقاً إلى الآخرة: بعد أن حدثهم الرسولُ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ذات يومٍ عن القيامة وبيئتها.

وأيّاً كان سببُ النزول، فإن المهمّ هو أنّ السورة القرآنية الكريمة تخضع ـ في دلالاتها ـ لعمارةٍ فنيةٍ ترتبط موضوعاتُها واحداً بالآخر، وما دامت (فكرةُ) السورة تحوم ـ كما كررنا سابقاً ـ على مفهوم (تزكية النفس) من حيثُ صلة ذلك بالعناصر الحيوية من غذاءٍ وجنسٍ وتطهيرٍ وما إليها من الأحكام التشريعية التي صاغتها رسالةُ الإسلام، حينئذٍ فإن قضية (الغذاء) في سياقها الذي لحظناه قبل قليل، تشكّل مظهراً مهماً في تحديد المفهوم العبادي ووظيفة الإسلاميين حيال ذلك، فإذا كان تناولُ بعض الأطعمة مباحاً والآخرُ محظوراً بالنحو الذي تقدم الحديثُ عنه في أوائل السورة بما تتركه من انعكاسات على النفس، فإن تناول المباحِ منه محكومٌ بمبادئ أيضاً تتناولها مظانٌ أخرى من نصوصِ التشريع، والمهم هو أن النص القرآني الكريم طرحَ في هذا المقطع الذي نتحدث عنه، قضية الامتناع عن تناول الطيّبات، صحيح أنّ الزهد بالطيبات يشكّل سمةً إيجابيةً في سلوك الشخصية الإسلامية، من حيث انعكاساتها على تزكية النفس، إلا أنّ إهمالها نهائياً يُفضي إلى تصوّرٍ مخطئ عن مبادئ الله. إن القسيسين والرهبانيين سمحوا لأنفسهم بممارسة هذا النمط من السلوك وهو أمرٌ ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ شرحه النبيُّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأصحابه الذين عزموا على ترك الطيّبات ومنَعَهم من ذلك، موضحاً لهم ان سياحةَ الإسلاميين هي الصوم، ورهبانيتهم هي الجهاد، أي: ليس تركُ الطيبات مطلقاً، بل الصوم بما يستتبعه من الإفطار (وهو تناول الطيبات) كما أنه ليس (العزلة)، بل البروز إلى ساحة الجهاد.

ولعل سرّ ذلك من الوضوح بمكانٍ. فالطعامُ والنساءُ ونحوهما تشكّل

 

______________________________________________________

الصفحة 398

 

حاجاتٍ حيويةً ملحةً تترتب على إشباعها نتائجُ في غاية الأهمية تتصل باستمرارية التناسل البشري، كما أن الحضورَ في الساحةِ الاجتماعية تترتب عليها أيضاً نتائج في غاية الأهمية تتصل بإشاعة مبادئ الإسلام وتوصيلها إلى الآخرين، مما يعني أنّ العزلة مطلقاً سوف تُفضي إلى عدم نشرِ مبادئ الله بين الآدميين، وأنّ الامتناعَ عن النساء سوف يُفضي إلى قطع النسل البشري، وأنّ الامتناع عن الطعام سوف يُفضي إلى شلّ الشخصية حيوياً.

طبيعياً، ثمة فارقٌ بين النّهم أو الحرصِ على الطيبات (وهو ما يُنكره المشرّع الإسلامي على أمثله هؤلاء) وبين الامتناع عنها وهو ما ينكره أيضاً لأنّ كليهما خروجٌ عن الاعتدال، لذلك رَسَم المقطعُ القرآني الكريم أمثلة هذا السلوك بالتعدّي لحدود الله (لا تُحَرِّمُوا طيّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لكُم ولا تَعْتَدُوا إنّ الله لا يُحِبُّ المُعْتَدِين) فالامتناعُ عن الطيبات هو تعدٍ لحدود الله، مقابل الحرص عليها وهو تعدٍّ أيضاً، والصائب هو تناولُها وِفق الاعتدال أو الحاجة، لأنّ تناولها وفق الحاجة إنما هو إشباعٌ طبيعيٌ لها لا يترتب عليه أيُّ ضررٍ عباديّ، والضرر ـ إنما يترتب ـ حينما يتم الإشباعُ لما هو زائدٌ على الحاجة أو حينما يمتنعُ الشخص عن تحقيق الإشباع أساساً، لأنه مضادٌ لمفهوم الحاجة نفسها.

إذن، تناول الطيّبات (من حيث انعكاساتها على تزكية النفس) يظل محكوماً بطرائق خاصةٍ من الإشباع، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

قال تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفّارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تشكرون) [المائدة: 89].

 

______________________________________________________

الصفحة 399

 

بهذه الآية الكريمة يبدأ مقطع جديد من السورة في قسمها الأخير، وهذا المقطع يتناول ظاهرة (الحلف) بالله تعالى، ولا نجدنا بحاجة إلى التذكير بأن القسَم بالله تعالى (نظراً لقدسيته تعالى) يحتل أهمية كبيرة في حقل السلوك، ويرتبط بالفكرة الرئيسة للنص (تطهير النفس)، ولا أدلّ على ذلك من المطالبة بالكفارة المترتبة على الحنث بالقسم، حيث نعرف جميعاً بأن الكفارة هي (تطهير) من الذنب، ومن ثم (تطهير) للنفس، كما هو واضح.

 

* * *

 

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [المائدة: 90 ـ 92].

هذا المقطع من سورة المائدة يتحدث عن ظاهرِ الخمرِ والقِمار كما يتحدثًُ عن (الأنصاب والأزلام)، أمّا الأنصابُ والأزلامُ فقد سبق الحديثُ عنهما، إلاّ أنهما جاءا في سياق ظاهرتي الخمر والقمار، تأكيداً على السمة النفسية المشتركة بين الظواهر المنهي عنها.

المهم أولاً أن نتحدث عن الموقع الفنّي لهذا المقطع مِنَ السورة، وهو مقطعٌ يحوم على (الفكرة العامة) التي تتسربُ في جميع موضوعات السورة ونعني بها (تزكيةَ النفس). ونحن لا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى ندرك بيُسْر فكرةَ (تزكية النفس) في هذا المقطع، حيث أن النّص نفسه أشار في تعقيبه على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، بقوله عنها إنها (رجسٌ من عمل الشيطان)، إذن كونها (رجساً) وهو سمةٌ ضدّ (تزكية النفس) تظل من الوضوح بمكانٍ كبيرٍ مما يعني أن السورة الكريمة بالغة الإحكام في بنائها الهندسي

 

______________________________________________________

الصفحة 400

 

الفخم... ويلاحَظ ـ مضافاً لما تقدم ـ أن النص أشار إلى مفارقات خاصة تترتب على ممارسة شرب الخمر ولعب القمار: موضحاً بأنهما يسببان العداوة والبغضاء (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) كما يسببان الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة (ويصدّكم ـ أي الشيطان ـ عن ذكر الله وعن الصلاة). فالمُلاحَظُ أن النص ركّز على هاتين الممارستين (الخمر والميسر) دون الأنصاب والأزلام، وهذا لجملةٍ من الاعتبارات الفنية المتصلة بعمارة السورة، فأولاً سبق أن أشار النص إلى الأنصاب والأزلام في مقطعٍ اسبق مما ينتفي معه المسوّغُ لإعادةِ الحديث عنه، وإنما ذُكِرا لمجرد التأكيد على أهميّتهما من جانب واشتراكهما مع الخمر والقمار في سمات الخبث النفسي من جانبٍ آخر.

وأمّا بالنسبة إلى الخمر والقمار فبصفة أنهما الأكثرُ شيوعاً عند المنحرفين، بخاصةٍ استمراريتهما في جميع العصور، حينئذٍ جاء المسوّغ الفنّي للتركيز عليهما في مقطع خاصٍ يتحدث بشيء من التفصيل عن المفارقات المترتبة عليهما، فأولاً أشار النص إلى أنهما يُنميان النزعة (العدوانية) عند الإنسان، وثانياً أشار إلى أنهما يصدان عن ذكر الله والصلاة.

بالنسبة إلى النزعة العدوانية لا نحتاج إلى التعقيب عليها من حيث وضوح سِمَتِها الانحرافية، فلا شيء ينأى بالشخص عن دلالته الإنسانية مثل (الكراهية) التي تُلغي معنى (الإنسان) تماماً وتحوّله إلى كائن أشد انحطاطاً من الوحش. وأمّا سبب تنمية الخمر والقمار لهذه النزعة، فلأنّ فقدان فاعلية (العقل) من خلال ممارسة شرب الخمر يفجّر فيه رواسب (الذات الكريهة) الحائمة على إشباعاتها الخاصة، ومن المعلوم أنّ (العقل) هو الجهازُ المميّز للفجور والتقوى، فإذا فَقَد عنصرَ التمييز اتجه إلى (الفجور) أو (الشر) أي إلى إشباع (الذات) دون التقيد بضوابط السلوك الموضوعي، وأوّل ما تسعى

 

______________________________________________________

الصفحة 401

 

(الذات) إليه هو إزاحة العقبات التي تعترضها متمثّلةً في وجود (الآخرين)، فتتجه إلى (كراهيتهم) للسبب المذكور.

وأما تنميةُ (القمار) للنزعة العدوانية فإنها من الوضوح بمكان، طالما نعرفُ أنّ المقامر يسعى إلى كسب الرهان أو المنفعة لـ(ذاته)، محاولاً تهشيمَ (الطرف الآخر)، وهوَ قمةُ النزعةِ المجسّدة لمفهوم العدوان.

وهذا ما يتصل بالسمة الأولى التي ذكرها النص: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) وأما السمة الأخرى وهي: (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) فأمر من الوضوح بمكانٍ أيضاً. فالممارس لشرب الخمر حينما يلغي فاعلية (العقل) وهو الجهاز المسيطر والمميز للأشياء حينئذٍ سوف ينأى عن ذكر الله، كما ينأى عن الصلاة (والإتيان بظاهرة الصلاة هنا يجسّد دلالة فنية هي أهمية هذه الممارسة في الحياة العبادية للإنسان).

كما أن (القمار) أيضاً، بصفته انشغالاً بهموم (الذات) وتحطيم الآخرين، سوف ينأى بالشخص عن ذكر الله والصلاة، طالما نعرف أنّ إشباعات (الذات) هي الحاجز الوحيد عن التعامل مع (الله) أو المبادئ الموضوعية، وحينئذٍ تضعف أو تتلاشى نهائياً.

إذن، أدركنا الآن السبب الفنّي الكامن وراء عرض النص لهاتين الممارستين وصلتهما بالفكرة العامة للسورة وهي تزكية النص (بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه).

 

* * *

 

قال تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طَعِمُوا إذا ما اتّقَوا وآمَنُوا وعملوا الصالحات ثم اتّقَوا وآمنُوا ثم اتَّقَوا وأحْسَنُوا والله يُحِبُّ المحسنين) [المائدة: 93].

 

______________________________________________________

الصفحة 402

 

هذا المقطع أو الآية من سورة المائدة تتضمن الإشارة إلى ظاهرة (الطعام). وقد سبق أن لحظنا أن كثيراً من مقاطع السورة تتحدث عن قضية (الطعام) وصلته بالفكرة العامة للسورة وهي (تزكية النفس) من حيث الأساس الكيميائي لها (الطعام) ومن حيث سائر الأسس التي تساهم في تزكية النفس أو عدمها.

إن المقطع هنا يتحدث عن سياقٍ خاص من (الطعام) هو: صلة الطعام بالسلوك المُجمل للمؤمن، فإذا كانت بعض الأطعمة تساهم في تزكية النفس مثلُ الذبح المشروع مثلاً كما عرضته السورة في مواقعَ سابقة أو كان بعضها يساهم في الخبث النفسي مثلُ أشكال وأجزاء الحيوان التي لحظناها في بداية السورة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ...الخ) [المائدة: 3] (الطعام) من جهة ثالثة يظل (لا جناح فيه) إذا اقترنت بالإيمان بالله، وبممارسة العمل الصالح بعامة (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) فقد أضاف النصُ هنا (التقوى) إلى جانب الإيمان بالله، وممارسة الأعمال الصالحة، إذ أن (التقوى) هي الدرجة العليا من الممارسات، كما هو واضح.

لكن يلاحظ أن النص أضاف قائلاً: (ثم اتَّقَوا وآمَنُوا) (ثم اتَّقَوا وأحْسَنُوا)، وهذه الإضافة ظلت مادةً تفسيرية قد اختلف المفسّرون حيالها من حيث تكرار مفرداتها. وفي تصوّرنا ـ ونحن نتحدث عن الهيكل الفني للسورة ـ ان هذا النمط من التكرار لمفرداتٍ بأعيانها وحذفَ مفرداتٍ أخرى، يتضمن دلالاتٍ متنوّعة من حيث مراحل الإيمان ومُنحنياتُهُ.

فالنص أوّلاً ذكَر بأن: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لا جناح عليهم فيما (يُطْعَمونَهُ) إذا اقترن ذلك بالتقوى أي: بأرفع درجات الإيمان (إذا ما اتقوا وآمنوا وعلموا الصالحات) حيث جاء التكرار مضافاً بظاهرة (التقوى). ثم كرر

 

______________________________________________________

الصفحة 403

 

التقوى ثانية حينما قال: (ثم اتقوا وآمنوا) حيث قرن التقوى بمزيد من الإيمان، ثم كرر التقوى ثالثةً وقرنها بالإحسان فقال: (ثم اتقوا وأحسنوا) فالملاحظ هنا أن (التقوى) هي المادة المركّز عليها في المواقع الثلاثة المتكررة، ولكن أضاف (الإحسان) إليها في التكرار الثالث، تأكيداً لِسمَةٍ مميّزة اجتماعية ونفسية هي (الإحسان) من حيث كونه ذا صلةٍ بالآخرين أيضاً وليس منحصراً في السلوك الفردي.

المهمّ أن النص تقدّم بعد هذا العرض لصلة (الطعام) بتزكية النفس، تقدم بنمط جديد من ظواهر الطعام، لكن من حيث صلتها بإحدى العمليات وهي (الصيد)، حيث سبق أن عَرَض النصُ هذه الظاهرة إجمالاً في أول السورة، لكنه الآن يفصّل الحديث عنها تباعاً للطريقة الفنية التي يسلكها النص في تنمية الموضوعات: (يا أيُّها الذين آمَنُا لَيَبْلُونَّكُمُ اللهُ بشيء مِنَ الصيدِ تنالُه أيدِيكم ورِماحُكُم لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُه بالغَيْب) [المائدة: 94]. إن إشارة النص إلى أن الله تعالى يستهدف (اختبار) الشخصية (لَيَبْلُونَّكُم اللهُ بشيء من الصيد) تظل ذات صلةٍ بالفكرة الرئيسة للسورة (وهي تزكية النفس) فالالتزامُ بأوامر الله هي ذاتُها (عمليةُ تزكية) مضافاً إلى الأساس الغذائي (المادي) لها، لذلك أعقب النصّ هذه الإشارة الاختبارية، أعقبها بعرض جملة من الأحكام المتصلة بالصيد براً وبحراً وبحالةِ الإحرام والحِلّ، مثل إشارته إلى عَدَمِ جواز قتل الصيد في حالة الاحرام ثم كفارة ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومَن قتله منكم متعمداً فجزاءٌ مثل ما قتَل من النّعَم...الخ) [المائدة: 95]. ومثل إشارته إلى إباحة صيد البحر وطعامه: (أحلّ لكم صيدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ متاعاً لكُم وللسّيّارةِ وحُرِّمَ عليكم صيدُ البّرّ ما دُمْتُم حُرماً..) [المائدة: 96] ومثل الإشارة إلى أنه تعالى: (جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البَيْتَ الحرامَ قِياماً للنّاسِ والشّهْرَ الحرامَ والهديَ والقلائدَ ذلِك لِتَعْلَمُوا أنّ الله يَعْلمُ ما فِي السماواتِ وما في الأرض وأنّ الله بكلِ شيء عليم) [المائدة: 97]. إن هذه

 

______________________________________________________

الصفحة 404

 

الإشارات جميعاً ذاتُ صلة بالطعام من حيث كونه مساهماً في تزكية النفس وعدمها من خلال الالتزام أيضاً بهذه المبادئ، حيث يُساهم الالتزامُ بها في تزكية النفس أيضاً.

ويُلاحظ أن النص طَرَحَ بعضَ هذه الأحكام في سياق الحجّ والكعبة من جانب وفي سياق الأشهر الحُرُم من جانبٍ آخر تدليلاً على أهمية هذه المناسِكِ والمواقع والأزمنة وهي طريقةٌ فنيّة لطرح موضوعاتٍ جديدة في المقطع، من خلال (الفكرة العامة) للسورة (تزكية النفس)، ومن خلال المادّة الرئيسة (الطعام) بحيث يفيد المتلقّي منها في معرفة المزيد من الأحكام والمبادئ العامة للسلوك بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال الله تعالى: (قل لا يَسْتوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أُولي الألباب لعلكم تفلحون * يا أيّها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم وإنْ تسالوا عنها حين ينزّل القرآن تُبْدَ لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين * ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولوا كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) المائدة 100 ـ 104.

هذا المقطع من سورة المائدة امتداد لمقاطع سابقة تتحدث عن ظاهرة (الطعام) ونحوه مما شملته موارد الإباحة والحظر وانعكاسات ذلك على النفس من حيث تزكيتها وعدمها حيث تشكل هذه الظاهرة (فكرة) النص بعامة. لقد أوضح النصّ بصراحة حينما قال: (لا يستوي الخبيث والطيب)، وهو تعقيب على ما تعكسه الأطعمة أو التذكية من آثار على الشخص بحيث يقدّر النصّ بأنّه لا يستوي الخبيث من الطعام أو أيّ عنصر آخر مع (الطيب) منه من حيث منعكساته العبادية على النفس: بطبيعة الحال.

ثم يتقدّم المقطع إلى طرح ظاهرة عباديّة في هذا السياق ليعود إلى المحور الفكري للسورة من جديد.

الظاهرة هي: السؤال عن أشياء مجهولة عند الآدميين أو غير مقدور لهم ان يجسدوها في سلوك في حالة معرفتهم ذلك... سرّ ذلك أنّ السؤال عن الشيء إمّا يُعدّ مظهراً لما تحمله أعماق الشخص من شكّ أو نزعة عدوانية أو ضعف الخ. لذلك حظره المقطع القرآني المذكور مستشهداً بتجربة إحدى المجتمعات التي مارست عملية سؤال عن أشياء لا ينبغي لها أن تمارسها ثمّ أصبحت (كافرة) بذلك (قد سألها قومٌ من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين) وقد أبهم المقطع هذه التجربة أو الحادثة: مع أنّه كان من الممكن أن يعرضها بوضوح، بيد أن الغموض هنا ينطوي على

 

______________________________________________________

الصفحة 406

 

أسرار جمالية في عمارة المقطع.

فالمفسّرون يذكر بعضهم أنّها تجربة مجتمع عيسى ـ عليه السلام ـ حينما سألوه إنزال المائدة من السماء ثمّ كفروا بها.

وبعضهم يذكر أمثلة أُخرى.

إلاّ أنّنا ـ من الزاوية الفنية ـ نتوقّع أن تكون هذه التجربة موحية ـ لا أقلّ ـ أو ممهّدة لحادثة إنزال المائدة التي سنواجه رسمها في خاتمة السورة لأنها تجسّد فعلاً السؤال عن إنزال مائدة ثم: الكفر بها... والأهميّة الفنية لمثل هذا النمط من الرسم والإبهام تتمثّل في ان المتلقّي عندما يواجه حادثة المائدة سوف لن يُفاجأُ بها بل تمرّ أمامه بنحو طبيعي ممهّد له والمهمّ هو استخلاص العظة من هذا المقطع وهي عدم السماح لإبراز لحظات الضعف عند الشخص من خلال المواقف الانفعاليّة المتشرعة.

بعد ذلك يعود النصّ إلى عرض بعض التجارب الجاهليّة المتصلة بتذكية الحيوان وطعامه وهي تجارب لا ترتكن إلى أيّة مسوغات عقليّة مثل عدم نحر الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن الخ... مما ذكرته الآية القائلة (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكنّ الّذين كفروا يفترون على الله الكذب) فالبحيرة هي الناقة التي أشرنا إليها قبل قليل وكذلك سائر ما ذكرته الآية من تجارب مماثلة لذلك وهي تجارب لا تنطوي على أيّة مسوّغات بقدر ما ترتكن إلى جهل بها فنمط التذكية عندما يتّخذ إسلاميّا هذا الشكل أو ذاك إنّما يعني أنّ تلكم التذكية لها فاعليّتها في طهارة النفس... أمّا ما يتّخذ الجاهليّون وغيرهم من طرائق خاصّة في نحر الإبل أو ذبح البقر والغنم فأمر لا مستند له كما قلنا المهم أنّ ما ينبغي أن يستخلصه المتلقّي من هذا كلّه هو أن قضيّة تذكية الحيوان لها أهمّيتها الكبيرة في صياغة النفس البشرية من حيث منعكسات ذلك على الصياغة المذكورة بخاصة أنّ المقطع القرآني الكريم أكّد هذا الجانب بقوله: (قل لا يستوي الخبيث

 

______________________________________________________

الصفحة 407

 

والطيّب) كما لحظنا سابقاً... وإذا كان الأمر ينعكس على خبث النفس أو صفاتها فحينئذٍ كم ينبغي أن نعنى بعنصر التغذية المنتقاة إلى سائر العناصر الأخرى التي تساهم في التطهير النفسي بالنحو الذي لحظناه في المقاطع السابقة من النص القرآني الكريم.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) المائدة: 106 ـ 108.

في هذا المقطع: عرض لقضيّة الشهادة بالنسبة إلى وصايا الميّت، ثمّ قضيّه القَسَم في حالة حصول الشكّ حيال الشهادة... وهو أمرٌ يتّصل بأحد الأحكام الشرعيّة فيما قلنا إن النص القرآني الكريم يطرح في تضاعيف السورة (وهي تحوم على فكرة تزكية النفس) مختلف الموضوعات، ومنها بعضُ الأحكام الشرعيّة، يطرحها وفق منحى فنيّ بحيث تعالج موضوعات ثانويّة في سياق الموضوع الرئيس. والمهمّ أن مسألة الشهادة تتصل بقضيّة حفظ الأموال وايصالها وفقاً للوصية، إلاّ أنّ ذلك قد عرضه النصُّ خلال ظاهرةِ الشهادة وما يواكبُها من القَسَم به: حيث سَبَقَ أن لحظنا في مقاطِعَ سابقةٍ من السورة انّ ظاهرة القَسَم ذاتُ صلةٍ وثيقة بتزكية النفس أو عَدَمِها من حيث القدسية المترتبةُ على القسم... اما في هذا المقطع فان القَسَم يأخُذُ دلالةً جديدةً هي إنارتُهُ لأهمية الأموال وغيرها بالنسبة إلى التوصية ووصلها إلى اصحابها الشرعيين... وهي بدورِها ظاهرةً لها

 

______________________________________________________

الصفحة 408

 

اهميتُها بالنسبة إلى (تزكية النفس) ما دُمنا قد عَرَفنا خلال مقاطِعٍ السورة بانّ الأموالَ المُحلّلةَ أو المحرمة تعكِسُ آثارَها على النفس...

إذاً: في نهاية المطاف، لا يزالُ هذا المقطعُ من السورة حائماً مثلَ سواهُ على الفكرةِ الرئيسة التي تطبَعُ جميعَ موضوعاتِ السورة وهي تزكيةُ النفس من خلال الطرائقِ المفضية إلى ذلك.

 

* * *

 

إلى هنا يكون النصُّ القرآني الكريم قد طَرَحَ مختلف الموضوعات التي تصُبُّ في النهاية في الرافد الفكري الرئيس للسورة، بَدَأها بعرضِ الأطعمة وغيرها من الأحكام التي تُساهِمُ في تطهير الشخص بدنيّاً ونفسيّاً، أردفها بعد ذلك بعرض سلوك الكتابيين ثمّ الجاهليّين، ثمّ طرح أحكاماً مختلفة في تضاعيف ذلك... وها هو الآن يعود إلى الكتابيّين أيضاً ولكن من خلال حادثة جديدة تتّصل بعيسى ـ عليه السلام ـ ومجتمعه، وبها تُختم السورة الكريمة وفق مبنى هندسي ترتبط خاتمته بوسط السورة وبدايتها: كما سنرى.

ولنقرأ: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) المائدة 109 ـ 110.

يُمكن القول بأن هذا المقطع وما يليه يشكّل حكايةً أو اقصوصة بطلها هو عيسى بنُ مريم وبيئتها التي تتحرّك فيها المواقف والأحداث هي بيئتا القيامة والدنيا،... فقد تحرّكت الأقصوصة من البيئة الأخرويّة حينما يوجّه الله تعالى إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 409

 

عيسى كلاماً خاصّاً في خضمّ ذلك اليوم الذي يجمع الله الرُّسل فيه فيسألهم عن ردود الفعل التي صدرت عنها مجتمعاتهم... الكلام الموجّه إلى عيسى هو تذكيره بنعم الله عليه من تأييده بروح القدس وتكليمه الناس في المهد وخلقه بإذن الله الطيرَ وإبرائه الأكمه والأبرص، وانقاذه من مؤامرات اليهود ثمّ كفران مجتمعه برسالة عيسى حينئذ مع كونها قد اقترنت بالظواهر الاعجازيّة المذكورة.

واضح، انّ هذا النمط من العرَض للبيئة الأخرويّة ينطوي على دلالة فنيّة ممتعةٍ حين نخذ بنظر الاعتبار أنّ النصّ يستهدف توصيل هذه الحقائق إلى المتلقي ليفيدَ منها في تعديل سلوكه إلاّ أنّه بدلاً من أنّ يسرد هذه الحقائق في نطاقها الدنيوي سرَدَها في النطاق الأخروي حيث نستخلص منها المكانية أن يفيد المتلقي من هذه الحقائق ليس مسألة الإيمان بالله فحسب بل مسألة اليوم الآخر بما يواكِبُه من الحساب بمعنى أن هدفاً مُزدَوَجاً سوف يواجه المتلقّي حينما تتحرّك الأقصوصة في بيئة الآخرة لتنقلُه ـ من ثمّ ـ إلى البيئة الدنيويّة فيتمثّل حقيقة اليوم الآخر مضافاً إلى حقائق الحياة الدنيويّة من خلال اقصوصة واحدة بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه.

قال تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ).

هذا المقطع امتدادٌ لمقطع سابق يُعد بمثابة حكاية أو أقصوصة من مجتمع عيسى ـ عليه السلام ـ حيث عَرضَ المقطعُ السابقُ قضية الكفر برسالة عيسى... اما في هذا المقطع فيعرض نموذجاً من ذلك: لكن مع الإشارة إلى بعض الايجابيين منهم وهم (الحواريين) الذين آمنوا برسالة عيسى... بيد ان الملاحظ ان حادثةً خاصة يعرضها المقطع من خلال طلب الحواريين من عيسى ان ينزّلَ عليهم اللهُ مائدة من السماء من أجل اليقين والاطمئنان الوجداني والقناعة الكاملة التي لا يشوبُها تردُّد في رسالة السماء... وقد تمّ إنزالُ المائدةِ بالفعل بَعْدَ أن حَذّرَهُم عيسى من أمثلة هذا الطلب الاعجازي... وهنا ينبغي أن نذكر بأنّ النص القرآني الكريم سبق له أن حذّر في مقطع متقدّم من أن يسأل النّاس عن أشياء إن تُبْدَ لهُمْ تسُؤهُم... وها هو الآن يُقدّمُ المقطع نموذجاً للأمثلةِ المتقدّمة متمثّلاً في طلب إنزال المائدة وتحذير عيسى للقوم... فيه أن عيسى ـ في نهاية المطاف ـ استجاب لطلبهم فأنزل الله المائدة: لكن بشرط ألاّ يكفر بها القوم، وإلاّ فيَلْحقُهم جزاءٌ رهيبٌ لا مثيل له.

وقد سكت النصُّ القرآني الكريم عن مواصلة سرْد القصّة وهل أن القوم كفروا بها أم لا إلاّ أنّ المتلقّي قد يستخلص من الزاوية الفنيّة أنّ الكفران بالمائدة قد تجسّد فعلاً بدليل التحذير المذكور مضافاً إلى النصوص المفسّرة التي ذكرت أنّ جزاء ذلك قد تجسد في مسخهم خنازير وهو ما يأتلف مع اللغة المحذّرة من أنّه (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ) حيث يتفرّد الجزاءُ المتمثّل في (المسخ) عن غيره من الجزاءات التي لحقت غالبيّة الأقوام الكافرين... كما أنّ المقطع اللاحق لهذه القصّة يدعم المصائر السلبية المذكورة التي لحقت القوم، حيث يعرض المقطع الآتي بجانبٍ من سلوكهم المنحرف:

(وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ... الخ) المائدة: 116.

ومهما يكن، فإن هذه القصّة ومُلحقها تظلُّ حائمةً على عرض سلوك مجتمع عيسى ـ عليه السلام ـ بعد ان كانت مقاطع سابقة من السورة تعرض لنا سلوك

 

______________________________________________________

الصفحة 411

 

مجتمع موسى ـ عليه السلام ـ ومن خلال عرض هذين المجتمعين طرح النصّ مجموعةً من الأحكام الشرعية والمبادئ العامّة للسّلوك العباديّ أوْضحنا في حينه موقعها الهندسي من عمارة السورة ويغنينا الآن أن نعرض للموقع الفني الذي تحتلّه خاتمَة السورة بالنسبة إلى الفكرة العامّة لها وهي (تزكية النّفس) من خلال الوسائل المساهمة في ذلك مثل عنصر (التغذية) البدنيّة ومساهمته في تطهير النفس ومثال عنصر الطهارة من وضوء وغُسل ونحوهما ومساهمته في التطهير المعنويّ للنفس وبما أنّ السورة بدأت بالحديث عن عنصر (التغذية) من خلال إشارتها إلى الأنعام من حيث الحلية ثمّ إشارتها إلى أنواع كثيرة من موارد الحظر أو الحرمة (حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير...الخ).

أقول: بما أنّ السورة بدأت بعرض هذا العنصر حينئذٍ ختمتها بعنصرٍ (مجانس) لها وهي: اقصوصةُ (المائدة) التي تمثّل أزكى (التغذية) بطبيعة الحال... إلاّ أنّ النصّ ـ عرض ضِمن ذلك أكثر من دلالةٍ فكريّة قد استهدفت توصيلها إلى المتلقي مثل قضيّة عدم التورّط في السؤال عن أشياء ليست في صالح الآدميّين (مثل الاقتراح المذكور: إنزال المائدة)، كما طرح المقطع قضيّة (الإيمان) ومستوياته من حيث سردُه لسلوك الحواريّين وتخلّله أمثلةً خاصّة إعجازيّة من أجل اليقين الوجداني بالرسالة أو إلى أنّه من الممكن تحقيق أمثلة هذا الطلب إلاّ أنّه ينبغي الالتزام بنتائجه. كلّ أولئك طرحه النصّ كما رأينا من خلال هيكلٍ فنيٍّ تتلاحم موضوعاته بعضاً مع الآخر بالرغم من اختلافها، إلاّ أنّها تصبّ من رافد فكريّ موحّد بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه.

 

______________________________________________________

الصفحة 412

 

قال تعالى: (الحمدُ للهِ الّذي خَلق السّموات والأرضَ وجَعلَ الظّلماتِ والنّور ثمّ الّذين كفروا بربّهم يَعْدِلُونَ * وهو الّذي خَلقَكُمْ من طينٍ ثمّ قضى اَجَلاً واَجَلٌ مُسَمًّى عنده ثمّ انتم تمترون * وَهُوَ اللهُ في السمواتِ وفي الأرضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) الأنعام 1 ـ 3.

بهذا المقطع افتتحت سورة الأنعام، وهي من السور الكبار التي تتضمّن موضوعات مختلفة، إلاّ أنّها تنتظم في خيطٍ فكريّ يوحّد بينها عبر هيكلٍ هندسيّ نقف على تفصيلاته لاحقاً.

لقد بدأت السورة بالإشارة إلى خلق السموات والأرض، وجَعْل الظلمات والنور... أنّ الظلمات والنّور من الممكن أن يكونا (رَمْزينِ) لكلّ من الليل والنهار، ومن الممكن ـ كما ذكر بعض المفسّرين بأنّهما رمزان للنّار والجنّة، ومن الممكن أن يكونا رمزين للكفر والإيمان حيث استُخدم هذان الرمزان في أكثر من موقع للتعبير عن الدلالة الأخيرة،... ومن الممكن أن يكونا رمزين للمعرفة وعدمها بصفة أنّ النّور يقتادُ الشخص إلى معرفة الحقّ، والظلام يحتجزه عن ذلك.

وأيّاً كان، فإنّ النصّ القرآني الكريم عقّب على هذا الموضوع بقوله: (ثمّ الّذين كفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي: يُشركون به غيره، حيث يمكن أن يتوافق هذا التعقيب مع جميع الرموز المحتملة التي أشرنا إليها... إنّ إشراك الغير مع الله تعالى لا ينحصر في التعامل مع الأصنام مثلاً؛ بل يتجاوزه إلى مطلق السلوك الذي يتعامل عن الفاعليّة الوحيدة التي تطبعُ حركة الوجود من قِبلَ الله تعالى... المهمّ انّ هذا التعقيب (ثمّ الذين كفروا بربّهم يَعْدِلون) سوفَ تنعكسُ أصداؤهُ على الأقسام اللاحقة من السورة الكريمة، كما ينعكسُ غيرها من الموضوعات التي تضمنتها مقدّمةُ السورة ومنها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) والإمتراءُ هو: التشكيك... ومنها قوله تعالى أيضاً: (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا

 

______________________________________________________

الصفحة 413

 

تَكْسِبُونَ) حيث ستنعكس آثارُ التشكيك عندَ المنحرفينَ وما يمارسُه الإنسان من السلوك: على موضوعات السورةِ التي يبدأُ تفصيلُ الحديثِ فيها بالنحو التالي:

(وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

إذاً: هذا هو أوّل آثارِ الانعكاسِ الذي تضمّنته مقدّمةُ السورة، آثارِ الشرك والتشكيك والانحراف: متمثلاً في أنّ المنحرفين يُعرضون عن جميع آيات الله، آياتِ خلقِهِ للسماوات والأرض والإنسان وأجَلِه.

ان الإنسان عندنا يُعرضُ عن آيةٍ أو حُجّةٍ أو دليلٍ؛ إنّما يَصْدرُ عن التواءٍ داخلي...، عن عنادٍ... عن عَمَدٍ؛ إشباعاً لنزواته فحسب... لذلك هددّهم الله تعالى بالمصير السيء الذي ينتظرُهم، مستراً إلى انّهم كانوا (يستهزؤن) بآيات الله تعالى... وعمليّة (الاستهزاء) تفصح أنّ التشكيك والانحراف عند هؤلاء ناجم عن وساخة أعماقهم، لأنّ الاستهزاء نوع من التعبير العدوانيّ كما هو واضح ممّا يتطلّب ترتيب العقاب عليه بالنحو الذي هدّدهم النصّ به (فسوفَ يأتيِهم أنبَاءُ مَا كَانُوا بهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

هنا، يلفتُ النصّ المنحرفين إلى تجارب المجتمعات السابقة التي أنعم الله عليها بمختلف المعطيات ومنها: أنّه تعالى مكّنهم ما لم يمكّن المجتمع المعاصر لرسالة الإسلام،... لكن قد أُبيدت المجتمعات المذكورة وأعقبتها مجتمعات أخرى.

النصّ القرآنيّ طالب مجتمع الرسالة الإسلاميّة بأن يعتبر بمصائر المجتمعات السابقة. وأهميّة هذه المطالبة تتمثّل في إشارتها إلى أنّ المجتمعات

 

______________________________________________________

الصفحة 414

 

السابقة كانت ذات إمكانات أكبر والإمكانات التي غرّت هؤلاء المُخاطبين: ومع ذلك أُبيدوا نتيجة تكذيبهم لرسالات السماء، ممّا يعني أنّ تمكين الإنسان من جانب، وإنحرافه بمختلف المعطيات من جانب آخر: إنّما يظلّ مجرّد اختبار عباديّ ينبغي أن يُؤخذ بنظر الاعتبار.

وأيّا كان، يعنينا أن نشير أنّ النصّ القرآني الكريم ـ وهو يتحدّث بضمير الغائب عن المنحرفين ـ قد حوّله إلى ضمير المخاطب بقوله تعالى: (مكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ ما لم نمكّن لَكُمْ) أي: وجّه الخطاب إلى مجتمع رسالة الإسلام بعامة، بينما كان الخطاب موجّهاً إلى المنحرفين فحسب (وما تأتيهمْ مِنْ آية من آيات ربّهم) (فسوفَ يأتيهِمْ أنباءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)، وهذا يعني أنّ الوجهة الفنيّة أن عمليّة الاختبار العباديّ موجّهة إلى المجتمع الإسلاميّ بعامّة كلّ ما في الأمر المشكّكين يجسّدون قمّة الالتواء في السلوك، أو أنّ منهم الممكن أن يتعظ بمصائر اقرانه المشككّين وهو ما يستشهد فيه النصّ بالنسبة لإمكانيّة تعديل السلوك كما هو واضح.

 

______________________________________________________

الصفحة 415




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215644

  • التاريخ : 3/02/2025 - 21:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net