00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النساء 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

سورة النساء

 

______________________________________________________

الصفحة 297

                           بسم الله الرحمن الرحيم

 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].

بهذه الآية التي تتحدث عن الميلاد البشري من خلال مفهوم (الأسرة) تُفتتَح سورة النساء، كما تُختَتَم هذه السورة من خلال أحد متعلقات الأسرة وهو (الإرث)، ثم تتوسّط السورة مفهوم (الإرث) أيضاً، مما يكشف ذلك عن أن هذه السورة (سورة النساء) تخضع لبناء هندسي خاص هو (الأسرة وقضاياها) ما دامت السورة كانت بدايتها ووسطها ونهايتها تحوم على (فكرة) واحدة. وخلال ذلك تُطرَح مفهومات متنوعة سنوضّح مدى صلتها الفنية بهذا البناء في حينه. والمهم، أن نبدأ الآن بالحديث عن البناء الفني لهذه المقدّمة التي افتُتِحَت بها سورة النساء.

لقد طلبت المقدّمة باتقاء الله تعالى وربطت ذلك بكونه تعالى خلق آدم ـ عليه السلام ـ من نفس واحدة وخلق منها زوجها حواء عليه السلام، وأنشأ منهما الأسرة البشرية.

طالبت المقدمة باتّقاء الله تعالى أيضاً، لكن من خلال ربط ذلك بكونه تعالى نتقدم إليه بحوائجنا (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) ثم وصَلَ بين تساؤلنا بالله تعالى وبين الأرحام التي طالبنا بألا نقطعها من حيث كون الأرحام تحتل قيمة خاصة من موقع الأسرة الشاملة التي تتجاوز العلاقات من الدرجة

 

______________________________________________________

الصفحة 298

 

الأولى إلى درجاتها الأخرى.

هنا لا بدّ أن نشير إلى أن (الأرحام) حينما أدخلها النصُ في سياق حديثه عن اتقاء الله وصلة ذلك بنشأة الأسرة البشرية، إنما تنطوي على وظيفة فنية مزدوجة، إحداهما هي: التركيز على أهمية (صلة الرحم) وإكسابها قيمة خاصة تكفّلت نصوص الحديث الشريف بتوضيحها والتشدّد فيها إلى الدرجة التي تتصدّر كبائر الذنوب ممّن لا يعطي صلة الأرحام قدسيّتها. وأمّا الوظيفة الفنية الأخرى لمصطلح (الأرحام) التي أدرجها النص ضمن حديثه عن الأسرة البشرية، فتتمثّل في كونها تشكّل إرهاصاً بأفكار لاحقة يطرحها النص بعد ذلك كما سنرى.

ثم نواجه مقطعاً جديداً هو: (وآتُوا اليتامى أَموالَهُمْ ولا تَتَبَدَّلُوا الخبيثَ بالطيّبِ، ولا تَأْكُلُوا أموالَهُمْ إلى أموالِكم إنه كان حوباً كبيراً...) [النساء: 2]. ففي هذا المقطع وما يليه: عرضٌ لقضية (اليُتم)، واليُتم هو فقدان الأب في مرحلة الطفولة، حيث يُعنى المشرع بهذه الحالة التي يحياها الطفل عناية بالغة المدى كما هو واضح.

لذلك أدرجها بعد مطالبته بتقوى الله، وبصلة الأرحام، مع ملاحظة أن صلة الرحم والعناية باليتيم يخضعان لخيطٍ مشترك بينهما، هو موقعهما من خارطة العلاقات الأولية التي تبدأ بالأسرة في أوسع دلالاتها، فاليتيم حينما يرعاه الشخص يكون بمثابة أحد أفراد أسرته من حيث الاهتمام التربوي والعاطفي به.

والمهم أن النص بدأ حديثه عن اليتامى من خلال أموالهم التي طَالَبَ النص بالمحافظة عليها إلى حين بلوغ اليتامى رُشدهم والتصرّف بها في نطاق ما هو الواجب منه مثل إنفاقها على أصحابها اليتامى أنفسهم.

ثم اتجه النصُ إلى طرح قضايا أخرى تتصل باليُتم أيضاً مفصّلاً الحديث

 

______________________________________________________

الصفحة 299

 

عمّا أجملته هذه المقدمة، طارحاً قضايا متنوّعة تتصل بالحياة الزوجية، وبالإرث، وبسواهما من الموضوعات التي سنقف عليها لاحقاً.

لكن ما يعنينا من ذلك هو: الموقع الهندسي لهذه الظاهرة وصلة ذلك بعمارة السورة الكريمة التي بدأت بالحديث عن نشأة الأسرة البشرية، فالأرحمام، فاليتامى، وكلها تحوم على صعيد مشترك وعواطف مشتركة تصب في رافد محدد من أحد أشكال ما يسمّى في اللغة الاجتماعية ـ بالعلاقات الأولية التي تجيء الأسرة والأرحام واليتامى والذين يتعهدهم الشخصُ في مقدمة أشكالها. وهو أمر يفصح عن تلاحم هذه المقدمة من حيث صلة أجزائها بعضاً مع الآخر، ومن حيث صلة المقدمة بسائر مقاطع السورة.

قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً * وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [النساء: 3 ـ 5].

هذا المقطع يطرح ثلاث ظواهر تتصل بتعدّد الزوجات، وبعدم إعطاء المال للسفهاء، وذلك في نطاق الحديث عن اليتامى وكيفية التعامل معهم، حيث طرحت السورةُ قضية اليتامى في مقطع سابق. وتواصل في هذا المقطع وما بعده معالجة هذا الجانب أيضاً.

ونتساءل: ما هو السرّ الفني وراء هذا التداخل بين موضوع اليُتم وموضوعات الزواج والمهور والسفهاء؟ فالمقطع يقول: (وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع...الخ)، كما أنه بعد ذلك يطرح قضية المهور (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) ثم يطالب بعدم إعطاء المال للسفهاء.

 

______________________________________________________

الصفحة 300

 

في تصوّرنا، بما أن النص طالبَ في مقطع سابق بأن يُعطوا اليتامى أموالَهم ولا يتبدّلوا الخبيث بالطّيب ولا يأكلوا أموال اليتامى إلى أموالهم، حينئذ فإن الرغبة في التزويج باليتيمة (وهي تحت تصرف وليّها) قد يقترن بالتجاوز على حقوقها بحيث يُخشى من ذلك عدم تحقّق الإنصاف والعدل، ولذلك طالَبَ المقطعُ ـ في مثل هذه الحالة ـ بأن يتزوج الشخص سواها. وهنا ـ في غمرة الحديث عن التزويج ـ يطرح المقطع ظاهرةً مستقلة عن اليتم، وهي السماح بالأربع في قضية التزويج، وذلك في حالة الاطمئنان إلى تحقق العدالة بينّهنَّ. ومن الواضح أن العنصر الفني المشترك بين قضية اليتم وقضية الزواج من الاثنين والثلاث والأربع، هو: تحقّق العدالة أو عدمها، فإذا خاف الإنسان ألاّ يقسط في اليتامى فليتزوج سواهن، وإذا خاف ألا يعدل بين الاثنين أو الثلاث أو الأربع فليتزوج واحدة فحسب، وهذا يعني (من زاوية الفن) أن (اختلاف) الموضوعات يتم من خلال (وحدة) الهدف، وهو سمة النص الأدبي المُحكم الذي يحقق عنصر التباين من خلال الوحدة، والوحدة من خلال التباين.

وهذا من حيث صلة اليتامى بقضية تعدد الزوجات.

لكن، ما هي صلة إيتاء النساء صدقاتهن نحلةً، باليتامى؟ إن أدنى تأمل يدلنا على أن النص قد قال بالنسبة إلى اليتامى: (وآتوا اليتامى أموالهم...) وهنا يقول بالنسبة إلى الزواج: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) فالعنصر المشترك بينهما هو: المطالبة بإيتاء كل منهما حقه من المال (اليتيم يعطى حقه من خلال المحافظة عليه، والمرأة يعطى حقها من خلال المهر). إذاً، اختلاف الموضوعين قد تمّ من خلال (وحدة) الحق المالي.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الموضوع الثالث الذي طرحه المقطع وهو قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها... الخ)

 

______________________________________________________

الصفحة 301

 

[النساء: 5]، حيث يمكن التساؤل عن علاقة اليُتم بالسفاهة؟ فنجيب: ثمة عنصر مشترك بين الموضوعين المختلفين، فكلاهما يتصل بالحق المالي، إلا أن أحدهما يضاد الآخر، فاليتيم تعطى أمواله له، والسفيه لا تُعطى له الأموال، يستوي في ذلك أن يكون يتيماً قد بلغ الرشد ولكنه سفيه لا يستطيع أن يتصرف بالمال بشكله السليم أو يكون غيره من الناس.

وقد فصّل النصُ هذا الجانب في مقطع جديد يقول فيه: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغُوا النكاحَ فإنْ آنستُم منهم رشداً فادفعُوا إليهم أموالَهُم...الخ) [النساء: 6]. حيث نستخلص بوضوح بأنّ اليتامى إن لم يُؤنس منهم الرشد فلا تدفع الأموال إليهم.

إذا أمكننا (ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية الكريمة) أن نلحظ أوّلاً كيف أن الموضوعات المختلفة قد تجمعت في مصب فكري واحد. ثانياً كيف أن الموضوعات تتنامى عضوياً وكيف يتفرع أحدهما من الآخر، حيث لحظنا كيف أن النص انتقل من الحديث عن اليتامى إلى الحديث عن الزواج والمهور والسفهاء، وكيف رجع بعد ذلك من الحديث عن السفهاء الذين طالب بعدم إعطائهم المال، منتقلاً إلى الحديث عن اليتامى الذين يعطون المال، في حالة عدم كونهم سفهاء، وهو أمرٌ يكشف لنا عن مدى خطورة وأهمية وجمالية وإحكام النص القرآني الكريم من حيث تلاحم موضوعاته واحداً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (للرّجال نصيبٌ ممّا تركَ الوالدانِ والأقربون وللنّساء نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثُرَ نصيباً مفروضاً * وإذا حَضَرَ القسمَةَ أُولُو القُربى واليتامى والمساكينُ فارْزُقُوهُمْ منهُ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً معروفاً * وليخش الذين لو تَرَكُوا مْنْ خَلْفِهِمْ ذرِّيةً ضِعافاً خافوا عَليهم فَلْيتّقوا الله وَلْيقُولُوا قَوْلاًَ سديداً * إنّ الَّذين يأكُلُونَ أموالَ اليتامى ظُلماً إنّما يأكُلُون في

 

______________________________________________________

الصفحة 302

 

بُطُونِهم ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعيراً) [النساء: 7 ـ 10].

 

هذا المقطع وما بعده يتحدث عن إحدى القضايا المتعلقة بشؤون (الأسرة) التي استُهلّت سورةُ الأنعام بها، وهي ظاهرة (الإرث) وكيفية توزيع المال الذي يخلّفه الميّت.

لقد أوضح النصُ أوّلاً بأن للرجال والمرأة حقاً في الأموال التي يخلّفها الوالدان والأقربون. ويبدو (من الزاوية الفنية) أن النص استخدم عنصر (التكرار) حيث كان بالإمكان أن يُقال: للرجال والنساء نصيبٌ، لكنه كرّر الجملة ذاتها لكلٍ من الرجال والنساء فقال (للرجالِ نصيبٌ ممّا تَركَ الوالدانِ والأقْرَبُون) ثم قال مكرّراً نفس الجملة بالنسبة للنساء (ولِلنِّساءِ نَصيبٌ مِمّا تَركَ الوَالدانِ والأقربون) ونحتمل فنياً أن هذا التكرار له صلة بعادات الجاهلية الذين كانوا يورثون الرجال دون النساء، فأكد من خلال التكرار الفني بأن النساء يشاركن الرجال في الميراث: دحضاً لعادات الجاهليين.

بعد ذلك تقدم النصُ بأحد أحكام الإرث المندوبة، فأوضح بأنه إذا شهد قسمة الميراث أقرباءُ الميت: أيتامهم وفقراؤهم، فليُعطوا من التركة شيئاً.

إدخال اليتامى في قضية الإرث المندوب يظل (من وجهة النظر الفنية) مرتبطاً بإحكام المبنى الهندسي للسورة من حيث ترابط أجزائها بعضاً مع الآخر، لذلك عاد النص إلى الربط بين الإرث واليتامى، فقال:

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). إن النص يُشير ـ حسب بعض النصوص المفسّرة ـ إلى أنه ينبغي لمن حضرته الوفاة أن لا يوصي بما يجحف به حق الورثة حتى لا يعانوا مرارة الفقر، وحسب النصوص المفسرة الأخرى أن النص يشير إلى وليّ أمر اليتيم مطالباً إيّاه بالقيام بحفظ أموال اليتيم بنحو ما يحرص

 

______________________________________________________

الصفحة 303

 

على ورثته الضعاف. ولكن في الحالين، فإن النص ينتقل بعد ذلك إلى قضية اليتامى فيتحدث عن نتائج التعامل غير المشروع مع أموالهم حيث يتوعّد آكلي أموال اليتامى بأنهم (يَأْكُلُون في بُطُونِهِمْ ناراً).

هذه الصورة الفنية، صورة (يأكلون في بطونهم ناراً) تنطوي على إثارة فنية ينبغي الوقوف عندها، ما دمنا ـ من جانبٍ ـ نُعنى بإبراز القيم الفنية في النص القرآني، وما دمنا ـ من جانبٍ آخر ـ نُعنى أساساً بعمارة السورة القرآنية، حيث وُظِّفت الصورة المشار إليها لتؤدي مهمة فنيّة بالنسبة لعمارة السورة كما سنرى.

وأول ما ينبغي أن نبحث عنه في هذه الصورة (يأكلون في بطونهم ناراً) هو: هل أن الصورة ذات بُعد (رمزيّ) بحيث يكون أكلُ مالِ اليتيم سبباً لوقوع صاحبه في السعير وأنّ أكلَ بطنِه للنار هو رمزٌ لاصطلائه في النار، أم أن هذه الصورة (واقعية) بحيث يتأجج فمُه ناراً بالفعل، كما ورد ذلك في بعض النصوص؟ أن كلاً من الاحتمالين مقبولٌ فنيّاً، بل إنّ الأهمية الفنية لهذه الصورة تتمثل في تعدّد إيحاءاتها التي ترشح بأكثر من تفسير. إنّ أكل النار ـ حتى في شكله الواقعي ـ ينطوي على إثارة فنية مدهشة، طالما تظل الصلة بين أكل مال اليتيم وبين أكل النار هي: صلة تضادٍ بين الأكلين، أكلٍ دنيوي مقرون بإمتاعٍ عابر، وأكل للنار مقرون بأشدّ العذاب. بل حتى صورة (الأكل) تظلّ ذات بُعدٍ فنّي مدهش، فالأكل لمال اليتيم هو صورة فنية أي أنه رمزٌ للسرقة لأن المال لا يُؤكل بل يُسرق ويُغتصب، ولذلك جاء (الأكل) رمزاً فنياً بالنسبة لسرقة مال اليتيم، كما جاء (أكل النار) رمزاً فنياً بالنسبة لاصطلاء صاحبه في النار، وهذا النوع من تركيب الصورة الذي يزاوج بين الأكلين (أكل المال وأكل النار) مع أن كلاً منهما (رمزٌ) مستقل عن الآخر، ثم إخضاعهما لهذا التركيب المدهش، يظل واحداً من أشد صُور القرآن دهشة وإثارة

 

______________________________________________________

الصفحة 304

 

وانبهاراً، مضافاً إلى كون هذه الصورة قد وُظّفت فنياً لإنارة قضايا اليُتم التي خصّها النص القرآني بعناية ملحوظة كما رأينا، مما يفصح ذلك ـ مضافاً لما تقدم ـ عن مدى إحكام النص من حيث تلاحم موضوعاته بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي تحدثنا عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النساء: 15 ـ 16].

هذا النص يتحدث عن العمل الجنسي غير المشروع، وكان المقطع الذي سبقه يتحدث عن الإرث ونصابه (يوصيكم الله في أولادِكم للذكَرِ مثلُ حظِّ الاُنثيين...الخ) [النساء: 11]، وأمّا المقطع الذي يعقبه فيتحدث عن التوبة فيقول (إنّما التّوْبةُ على الله للّذِينَ يَعْمَلُون السُُوءَ بجهالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فأُوْلئكَ يتُوبُ اللهُ عليهم وكانَ اللهُ عَلِيماًَ حكيماً * وَلَيْسَتِ التوبةُ للَّذِين يَعْملُونَ السَّيئات حَتّى إذا حَضَر أَحَدَهُم المَوْتُ قال إني تُبْتُ الآنَ ولا الذين يَمُوتُون وهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئكَ اعْتَدْنا لهُمْ عَذَاباً أليماً)[النساء: 17 ـ 18].

إن ما يعنينا من هذه المقاطع الثلاثة (المقطع الذي يتحدث عن الإرث، والمقطع الذي يتحدث عن الجزاء الذي يترتب على العمل الجنسي غير المشروع، والمقطع الذي يتحدث عن التوبة) يعنينا من هذه المقاطع موقعها الفنّي من عمارة السورة الكريمة ما دمنا أساساً نُعنى في هذه الدراسات ببناء السورة وإحكامها الهندسي من حيث صلة أجزائها بعضاً مع الآخر. فسورة النساء ـ كما لاحظنا ـ قد افتُتِحت بالحديث عن علاقة الرجل بالمرأة (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخَلَق منها زوجها وبث منهما

 

______________________________________________________

الصفحة 305

 

رجالاً كثيراً ونساءً...الخ) حيث تواكب هذه العلاقة مجموعة من القضايا المتصلة بالزواج، وبالبناء العائلي، وبالإرث، وبالعلاقات المشروعة وغير المشروعة في ضوء المطالبة باتقاء الله تعالى.

إن هذه القضايا قد ارتبط بعضها مع الآخر وفق مبنىً هندسي أشرنا إليه في حينه. أما الآن فنتحدث عن المبنى الهندسي الذي يربط بين موضوع العمل الجنسي غير المشروع وبين (التوبة) بصفتها ظاهرة ذات فاعلية كبيرة في تعديل السلوك البشري. لقد كان النص يتحدث عمن يمارس عملاً جنسياً غير مشروع ثم يتوب إلى الله من عمله المشار إليه (فإن تابا وأصلحا فأعرِضُوا عَنْهُما إنّ الله كانَ تَوَّاباً رَحيماً) فالنص يشير إلى التوبة من العمل الجنسي غير المشروع، ولكنه ينتقل ـ وفق منحىً فنيّ خاص ـ من الحديث عن التوبة الجنسية إلى مطلق التوبة، فيطرح مبادئ التوبة وحدودها على الشكل التالي:

1 ـ التوبة تصح ممّن يعمل السوء بجهالة. 2 ـ التوبة تصحّ إذا تمّت بعد الذنب. 3 ـ لا تصح التوبة ممّن يماطل منها بحيث إذا أحسّ بدنوّ الموت، فيتوب حينئذٍ. 4 ـ لا تصح التوبة من الكافر.

إنّ هذه المبادئ المتصلة بالتوبة تحمل (من الزاوية النفسية من معطيات ودلالات متنوعة لها خطورتها في ميدان التعديل للسلوك، فأولاً لا سبيل إلى قبول توبة الكافر، لأن الكافر أساساً لم يتعامل مع الله تعالى بل انعزل عنه فاستحق بذلك الجزاء السلبي المُعدّ له أخروياً. ثم لا توبة للفاسق الذي يصرّ على المعصية ويسوّف التوبة، حتى إذا حضره الموت واستيأس من الحياة أعلن توبته.

والسرّ في ذلك أن مثل هذه الشخصية قد استنفذت غرضها من خلال الإشباع غير المشروع لشهواتها طيلة الحياة، فلم تمارس عملية تأجيل لشهواتها بل أصرّت على ذلك غير مباليةٍ بأوامر الله تعالى ونواهيه، وحينئذٍ عندما تتوب

 

______________________________________________________

الصفحة 306

 

عنه عند معاينة ذلك لدى الموت، لا تفصح مثلُ هذه التوبة عن رغبة صادقة بل تتمّ من أجل أنّ الشخص لا أمل له في الحياة حتى يعاود ممارسة شهواته. وهذا على العكس ممن يعلن توبته بعد مباشرته الذنب حيث يقلع عنه ويتجه إلى ممارسة العمل العبادي، أي أنه لا يزال يواجه نفس المثيرات التي استجاب لها ـ في لحظة من الضعف ـ بممارسة الذنب سابقاً، ولكنه ندم على ذلك فصمّم على وأد شهواته عبر مواجهته للمثيرات المختلفة. ومن الواضح أن هذا النمط من السلوك (أي: الندم على المعصية والعزم على تركها) يهب الشخصية قيمة كبيرة من حيث استتلاؤها تزكية النفس، ومن حيث عدم يأسها من عطاء الله تعالى عبر قبوله التوبة، مما يدفعها إلى ممارسة المزيد من الطاعات.

وأيّاً كان، فإن ما يعنينا (بعد ملاحظة الأبعاد النفسية لمفهوم التوبة) أن نلفت النظر من جديد إلى الموقع الهندسي الذي احتلّه هذا المقطعُ عن التوبة: بالنسبة لعمارة السورة الكريمة التي طالبت مقدّمتها باتقاء الله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم...الخ)، والتوبةُ تُشكل أحد أنواع الاتّقاء من الله تعالى كما هو واضحٌ، مما يعني أنها تجسّد إنماءً وتطوراً عضوياً لمفهوم الاتّقاء الذي استُهلت السورةُ به، فضلاً عن صلة التوبة بالمقطع الذي تحدث عن العمل الجنسي غير المشروع وبسائر مقاطع السورة مما يكشف ذلك جميعاً عن مدى تلاحم المقاطع بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أنْ تَرِثُوا النساء كَرْهاً ولا تَعْضُلوُهُنَ لِتذهَبُوا ببعضِ ما آتيتُمُوهُنَ، إلاّ أنْ يأتينَ بفاحِشَةٍ مُبيِّنَةٍ وعاشِرُوهُنّ بالمَعروفِ فإنْ كَرهتُمُوهنّ فعسى أن تكرَهُوا شيئاً ويجعل اللهُ فيه خَيْراً كثيراً * وإن أرَدْتُم استبدال زَوْجٍ مكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحداهُنّ قِنطاراًَ فلا تأخُذُوا منه شَيْئاً

 

______________________________________________________

الصفحة 307

 

أتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناًَ وإثماً مبيناً * وكيفَ تأْخُذُونَهُ وقد أفْضى بعضُكم إلى بعضٍ وأَخَذْنَ مِنْكُم ميثاقاً غليظاً) [النساء: 19 ـ 21].

في هذا المقطع طرحٌ جديد للتعامل مع المرأة التي شكّلت أحد المحاور الفكرية لسورة النساء. الطرحُ هنا يتصل بمن يحاول إلحاق الأذى بالمرأة، كما لو كرهها حيث يستثمر هذه الكراهية من خلال حجزها حتى تفتدي بما ساقه إليها من المهر أو ينتظر موتها ليرثها، وبالرغم من أن هذا التعامل المنهيّ عنه قد ارتبط ببعض سلوك الجاهليين، إلا أنه يرشح بدلالات عامة تخص مطلق الأشخاص الذين يستثمرون سيطرتهم على المرأة حيث يلحقون الضرر بها من خلال حجزها ومنعها من التزويج، في حالة كراهيتهم للمرأة. وقد طالب المقطعُ القرآنيُ الكريمُ الرجلَ بأن يعاشر المرأة بالمعروف حتى في حالة كراهيته، موضّحاً بأن كراهيته للمرأة قد يقترن بما هو خيرٌ له (فإنْ كَرِهْتُمُوهنَّ فعسى أنْ تكرهُوا شيئاً ويجعَلَ الله فيه خيراً كثيراً)، وهذا يعني المطالبة بان يتحمّل الرجلُ شدائد حياته الزوجية وألا يُسرعَ إلى عملية طلاق إلا في حالة الضرورة التي لا مناص منها.

وحتى في حالة الطلاق لا ينبغي أن يلحق بها أدنى ظلم (وإن أردتم استبدال زوْجٍ مكانَ زوج وآتيتُم إحداهُنَّ قنطاراً فلا تأخُذُوا منه شيئاً أتأخذُونَهُ بُهتاناً وإثماً مبيناً) ويُلاحظ أن النص أطلق سمة (البهتان) على مَن يحاول أخذ شيءٍ من المال الذي وهبه للمرأة التي يعتزم تطليقها، مع أن (البهتان) سمة للتعبير اللفظي وليس سمة للتعامل المالي. وهذا يعني (من الزاوية الفنية) أن النص قد استخدم عنصر (الصورة الفنية) لتقرير هذه الحقيقة، بمعنى أنه استخدم (الاستعارة)، حيث أكسب المال سمة شيء آخر فأطلق على مَن يأخذ مَا لا يستحقه، طابع (البهتان)، فكما أن الشخص الذي يوجّه تهمةً لا أصل لها إلى الطرف المقابل فيكون ذلك بهتاناً، كذلك حينما يأخذ الزوجُ من امرأته

 

______________________________________________________

الصفحة 308

 

التي يعتزم تطليقها، ما وهبها من مالٍ، يكون بذلك أيضاً قد مارس عملية (بهتان)، ولكنه بهتان مالي وليس بهتاناً لفظياً، بصفة أن مطالبته بما لا يحق من المال هو بهتانٌ على الحقوق المالية للمرأة.

 

* * *

 

ويواجهنا بعد ذلك مقطع جديدٌ من سورة النساء يرتبط أيضاً بقضايا الحياة الزوجية، لكن من خلال عرض ما هو محرمٌ من الزواج متمثلاً في الموارد التالية (مع حذف التفصيلات): امرأة الأب، الأم، البنت، الأخت، العمة الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت، الأم من الرضاعة، أم الزوجة، الربيبة (أي بنت المرأة من غير زوجها)، ممن يدخل بأمّها زوجة الابن، الجمع بين الأختين، المحصنة.

بعد ذلك، اتّجه النص إلى تحديد ما هو محللٌ من الزواج مقابل ما هو محرّم منه، متمثلاً في الأنماط الثلاثة المعروفة، وهي: الزواج الدائم، الزواج المنقطع، زواج الإماء.

وقد عقّب النصُ ـ بعد تحديده لأشكال الزواج المحرم والمحلل ـ بقوله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً) [النساء: 26 ـ 28].

هذا النص يطرح قضية التوبة، مبيّناً ضعف الإنسان وتورّطه في المعصية مع ملاحظة أن التوبة هنا جاءت في سياق الحديث عن الدافع الجنسي وما يستتليه من السلوك الذي أوضح النصُ معالم تحليله وتحريمه في المقاطع التي تحدثت عن الزواج، إلا أن النص صاغ هذه الحقائق وفق لغة فنية بحيث

 

______________________________________________________

الصفحة 309

 

تتجاوز ما هو خاص بالتعامل الجنسي إلى ما هو عام في مطلق السلوك البشري.

أخيراً، ينبغي ألا نغفل عن أن النص القرآني الكريم سبق أن تحدث عن مفهوم التوبة في جزء متقدم من هذه السورة عند حديثه عن التعامل الجنسي غير المشروع، وها هو الآن يطرح قضية التوبة أيضاً، لكن في سياق آخر هو: الزواج غير المشروع. وفي الحالتين كان النص القرآني الكريم ينتقل بمفهوم (التوبة) من دلالته الخاصة إلى دلالتها العامة وهو أمرٌ يكشف أوّلاً عن الأهمية الفنية لهذا النمط من صياغة الأفكار التي تجمع بين ما هو خاص وما هو عام، كما يكشف عن مدى إحكام النص، من حيث كونه بمثابة عمارة فنيّة تتلاحم مقاطعها بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء: 29 ـ 31].

هذا المقطع يتحدث عن ظاهرتين هما: التعامل المالي والقتل، أمّا التعامل المالي فهو التجارةُ عن تراضٍ بين طرفي التعامل حيث نهى النصُ القرآنيُ الكريمُ عن أكل الأموال بالباطل، وطالَبَ بأن يكون التعامل مع الأموال من خلال العمل التجاري.

 

وأمّا قتل النفس فقد حذّر منه النصُ قائلاً (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).

بعد ذلك نواجه ظاهرة أخرى يطرحها النصُ، وهي: اجتناب الكبائر،

 

______________________________________________________

الصفحة 310

 

أي المطالبة باجتناب كبائر الذنوب حتى تُكَفّر عن الشخص سيئاته.

هذه الظواهر الثلاث: عدم أكل الأموال بالباطل، قتل النفس، اجتناب الكبائر، تبدو وكأنها موضوعات لا علاقة لأحدها بالآخر، كما تبدو وكأنها بمنأىً عن المحاور الفكرية التي تقوم عليها سورة النساء ونعني بها مقدمة السورة التي طرحت قضايا العلاقة بين الجنسين، وما يترتب عليها من البناء العائلي، وما يلحق به من ولاية اليتيم وارتباط ذلك بالتعامل المالي، ثم ما يلحق بالبناء العائلي من الإرث المالي...الخ. هذه الموضوعات التي أوضحنا في حينه خطوط الترابط فيما بينها: تظل هي الرافد الفكري الذي تصبّ فيه الموضوعات الجديدة في السورة، ومنها: المطالبة بعدم أكل الأموال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض، والمطالبة بعدم قتل النفس، والمطالبة باجتناب الكبائر.

والآن، ما دُمنا نُعنى ـ في هذه الدراسات ـ بعمارة السورة القرآنية الكريمة من حيث بناء موضوعاتها وصلة بعضها بالآخر، حينئذٍ يجدر بنا أن نتعرف الموقع العضوي الذي تحتله من السورة موضوعاتُ التجارة، وعدم قتل النفس، واجتناب الكبائر.

أما الموضوع الأول (عدم أكل الأموال بالباطل إلا أن تكون تجارة) فقد طرحه النص في مقدمة السورة أيضاً، الا ان ذلك كان في سياق الحديث عن أموال اليتيم، وأما في المقطع الجديد فقد جاء في سياق الحديث عن التجارة، وهذا يعني أن النص القرآني الكريم طرح موضوعين مختلفين ولكنهما يصبّان في رافد مشترك. ودائماً، فإن سمة الفنّ هي: طرح ما هو جديد في سياق ما هو مشتركٌ من الأهداف أو الأفكار.

وأمّا المطالبة بعدم قتل النفس فهي طرحٌ جديدٌ أيضاً، لكن ما هو الخط المشترك بين القتل وبين المحاور الفكرية للسورة!. من الواضح أن النص

 

______________________________________________________

الصفحة 311

 

القرآني يستهدف إبراز الحقائق العبادية وتحديد مسؤوليتنا حيال ذلك، فإذا استهدف حقيقة جديدة وأراد التأكيد عليها، حينئذٍ يطرحها في سياق خاص حتى لو كان بمنأىً عن الموضوع الذي وردت هذه الحقيقة في سياقه.

إن قتل النفس يرشح بأكثر من دلالة وإيحاء، فقد نستوحي منه أن المقصود هو ألا يتعرض الإنسان للمهالك (وهذا ما أوضحته بعض النصوص المفسرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام)، وقد نستوحي منه أن المقصود هو: عدم مقاتلة بعضنا للآخر (وهذا ما يرتبط بأوّل السورة التي أشارت إلى خلق البشر من نفس واحدة) (اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) [النساء: 1]. وقد نستوحي منه دلالة رمزية هي عدم ارتكاب المعاصي (وهذا ما يرتبط بموضوعات السورة التي طالبت بعدم أكل مال اليتيم، وبعدم التعامل الجنسي غير المشروع...الخ)، وقد نستوحي منه قتل النفس حقيقة وليس رمزاً، كما لو أقدم الشخص على قتل نفسه في حالة التأزّم الشديد، وفي الحالات جميعاً، فإن قتل النفس دنيوياً وأخروياً، قتل النفس ذاتها أو قتل الآخرين: يظل عملاً موسوماً بالقساوة حيث عقّب النصُ على ذلك بقوله (إن الله كان بكم رحيماً)، فالرحمة تتطلب ألاّ يقسو الشخص على نفسه بممارسة المعاصي.

بعد ذلك، نواجه الظاهرة الثالثة التي طرحها المقطعُ وهي: المطالبة باجتناب الكبائر. وهذا بدوره طرحٌ جديدٌ هو: أن اجتناب كبائر الذنوب يستدعي التفكير في التكفير عن سيئات الإنسان، وبذلك ـ أي حطّ السيئات ـ نلحظ كيف أن النص القرآني ربَطَ بين مفهوم (التوبة) الذي حدّده في أكثر من مقطع من مقاطع السورة الكريمة وبين حط السيئات الذي يلتقي نفس نتائج التوبة، فالتوبة تُفضي إلى غفران الذنب، واجتناب الكبائر من الذنوب يُفضي أيضاً إلى حط السيئات، أي التجاوز عن الذنب أيضاً.

إذاً، طرح النص قضية غفران الذنب في سياق جديد هو: اجتناب الكبائر

 

______________________________________________________

الصفحة 312

 

بينا طرح قضية غفران الذنب ـ في مقطع سابق ـ في سياق التوبة، وهو أمرٌ يكشف لنا عن كيفية المنحى الفنّي الذي سلكه النص في طرح الموضوعات من حيث تلاحمها وتواشجها بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً * وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً * الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [النساء: 32 ـ 34].

بهذا المقطع من سورة النساء، يُختَم القسم الأول من السورة وهو القسم الذي خُصِصّ للحديث عن العلاقة بين الجنسين وما يواكب ذلك من قضايا الإرث وغيره.

لقد طُرِح في هذا المقطع أكثر من موضوع، ومن ذلك: قضية قواميّة الرجل على المرأة، والمطالبة بعدم تمنّي ما للآخر منهما من فضل، ثم نشوز المرأة وطريقة التعامل مع هذا الجانب.

أما بالنسبة للمطالبة، بعدم تمنّي ما للآخر منهما من فضل، فإن النصوص المفسرة تتأرجح بين الذهاب إلى أن المقصود من ذلك هو: ألا يتمنّى الرجل ما أُعطي لغيره من معطيات المال والمرأة ونحوهما، وبين الذهاب إلى أن المقصود من ذلك هو: ألا يتمنى الرجل أنه لو كان امرأة ولا تتمنى المرأة أنها لو كانت رجلاً. وفي الحالتين، فإن المقطع القرآني الكريم يستهدف لفت النظر

 

______________________________________________________

الصفحة 313

 

إلى أن تفضيل الله تعالى لأحدٍ دون الآخر إنما ينطوي على حكمة خاصة ينبغي ألا تستاقه إلى أن يتمنى ما هو خلاف ذلك. ثم يتحدث المقطعُ ـ بعد إجماله لقضية تفضيل الله تعالى لأحدٍ دون الآخر ـ عن نصيب كلٍّ من الرجل والمرأة مما اكتسباه (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبْنَ وأسألوا الله من فضله). هنا تتفاوت نصوص التفسير أيضاً في تحديد ما هو المقصود من النصيب، هل يعني ذلك أن لكلّ منهما نصيبه من معطيات الله دنيوياً، أم نصيبه من الميراث، أم نصيبه من الطاعات؟ كل واحدٍ من هذه التساؤلات له مسوّغه الفني ما دام النص القرآني الكريم قد تحدث عن الإرث والمهر ومستويات العلاقة بين الجنسين مما ترشح جميعاً بوجود الفارق بين الجنسين. بيد أن المقطع تحدث بعد ذلك عن قوامية الرجل على المرأة، مشيراً بذلك إلى إحدى قضايا الفارق بين الجنسين من حيث تفضيل أحدهما على الآخر، ألا وهو قوامية الرجل على المرأة، أي تسليطه عليها في شؤون الحياة الزوجية، وإنفاقه عليها. لكنه ـ بعد ذلك ـ يطرح سمة خاصة للمرأة قائلاً (فالصالحات قانتاتٌ حافظات للغيب) مؤكداً بهذه السمة أن المرأة الصالحة هي المطيعة لله تعالى ولزوجها والحافظة لحقوقه جنسياً أو مالياً ونحوهما.

ويُلاحظ (من زاوية عمارة المقطع وبنائه هندسياً) أن النص تحدث أوّلاً عن قواميّة الرجل، ثم صلاح المرأة من خلال تقبّلها لهذه القوامية عليها، ثم تقدّم ـ في المرحلة الثالثة ـ إلى الحديث عن المرأة غير الصالحة ممن تتمرّد على هذه القواميّة عليها، راسماً للرجل طريقة التعامل مع المرأة في حالة تمردها على الرجل: (واللاتي تخافُون نُشوزَهُنّ ـ أي عصيانهن ـ فعظوهن، واهجُروهن في المضاجع، واضربُوهُنّ فإن أطعنكم فلا تَبغُوا عليهن سبيلاً...). هذه الخطوات الواعظة أولاً فإن لم تنفع، فالهَجْرُ في المضاجع، وإن لم تنفع فالضربُ، تمثّل نمطاً من مراحل العلاج النفسي لسلوك المرأة

 

______________________________________________________

الصفحة 314

 

المتمردة على زوجها؛ طالما يشكل التمرد على الزوج مخالفة صريحة لأوامر الله تعالى بالنسبة لقواميّة الزوج عليها.

أخيراً، يرسم النصُ علاجاً للموقف: في حالة ما إذا تفاقمت المشكلات بين الرجل والمرأة، فيقول (وإنْ خِفتُمْ شِقاقَ بينهِما فابعثُوا حَكَماً من أهلِهِ، وحَكَماً من أهلها إنْ يُريدَا إصلاحاً يُوفّقِ الله بَينهُما...الخ) [النساء: 35]، أي: إذا التبس الموقف بحيث يتطلّب حلّ الخلاف بين الرجل والمرأة حينئذٍ فإن مَن له ولاية الأمر أن يبعث حكمين: أحدهما من طرف الزوج والآخر من طرف الزوجة، لإصلاح الموقف.

وأيّاً كان، بهذا المقطع الذي تحدث عن العلاقة بين الجنسين في جملة من القضايا: يُختَم ـ كما أشرنا ـ القسم الأول من سورة النساء حيث تحدث هذا القسم عن بداية العلاقة بينهما فيما استهلتها السورة بقولها: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخَلَق منها زوجها وبث منهما رجالاًَ كثيراً ونساءً...الخ) [النساء: 1]. ثم عرَضَ مستويات مختلفةً من العلاقة، وختمها بأحد أشكال العلاقة السلبية التي يمكن أن تحدث بين الرجل والمرأة وطريقة إصلاح ذلك. ومن البيّن (ونحن أساساً نُعنى بدراسة عمارة السورة الكريمة وطريقة بنائها الهندسي) أنّ الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة قد تخلّله طرحٌ متنوّع للقضايا تجاوزت نطاق العلاقة الأسرية إلى خارجها، كما تجاوزتها إلى قضايا أخرى طُرحت وفق منحىً فني غير مباشر وخُتمت بهذا المقطع الذي تحدثنا عنه، وهو أمرٌ يفصح عن جمالية وإحكام النص من حيث تلاحم مقاطعه وأجزائه بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (واعبُدوا الله ولا تُشرِكُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذِي القُربى واليتامى والمساكين والجارِ ذي القربى والجارِ الجُنبِ والصّاحِبِ

 

______________________________________________________

الصفحة 315

 

بالْجَنْبِ وابنِ السَّبيلِ وما مَلكَتْ أيمانُكُمْ إنّ الله لا يُحِبُّ مَنْ كان مُختالاً فخوراً) [النساء: 36].

بهذا المقطع من سورة النساء يبدأ القسم الجديد من السورة، بعد أن كان القسم الأول منها يتحدث عن العلاقة بين الجنسين وما يواكبها من مختلف القضايا.

من حيث عمارة السورة وأقسامها ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ النص الفنّي عندما يخصّص قسماً منه للحديث عن موضوع، حينئذٍ فإن كل قسم سوف يستقل بموضوعاته ثم يوصل في الختام أو البداية أو كليهما بين كل قسم وآخر.

إن القسم الجديد من السورة يطرح موضوعات مختلفة، يستهلها بتحديد العلاقات الاجتماعية المتصلة بمختلف الطبقات، وهي: الإحسان إلى الوالدين، الأقرباء، اليتامى، الفقراء، الجار القريب والبعيد أو القريب والأجنبي، رفيق السفر، ابن السبيل، العبد والأمة. هذه الشرائح أو الأنماط الاجتماعية من الناس، يُطالب المقطعُ القرآني الكريمُ بالإحسان إليها سواء أكان الإحسان مادياً أم معنوياً. ويُلاحظ أن المقطع بدأ بالمطالبة أولاً بعبادة الله وعدم الشرك، ثم أتبع ذلك بالإحسان إلى الوالدين مما يكشف مثل هذا الاستهلال والإتباع عن مدى الأهمية التي يكسبها النص للوالدين بحيث يُقرن في أكثر من موضع إطاعة الله بإطاعة الوالدين. ويلاحظ أيضاً، أن المقطع تدرّج في مطالبته بالإحسان ـ بما يسمّى في اللغة الاجتماعية بجماعة المواجهة أو الجماعة الأولية ـ تدرّج من الأوثق علاقة إلى الأقل. فبدأ بالوالدين وهما أقرب جماعة المواجهة، ثم إلى القرابة، ثم إلى (اليتامى) بصفتهم بمثابة القريب من حيث فقدانهم الأب وتبنّي المحسن لهم، ثم الجيران، القريبين من ثم البعيدين، ثم رفيق السفر فابن السبيل وهما يحتلان ـ في هذه الحالة ـ أهمية

 

______________________________________________________

الصفحة 316

 

طارئة بصفة أن رفيق السفر أو المنقطع عن أهله تطرأ عليه حالة يفتقر من خلالها إلى أن يُحسن إليه، ثم العبيد والإماء.

ويُلاحظ أيضاً، أن هناك صلات فنية بين القسم الأوّل من السورة حيث طرح قضية العلاقة بين الجنسين والقرابة واليُتم من خلال المطالبة بالمحافظة على أموال اليتيم، وبتوزيع الأموال للورثة، وبين هذا القسم الذي عرض للوالدين والأقرباء واليتامى، مضيفاً إليهم جماعات أخرى، حيث يكشف مثل هذا المنحى الفنيّ من الطرح عن إحكام المبنى الهندسي للسورة الكريمة.

بعد ذلك يتقدم النص إلى طرح موضوعات جديدة تتصل بالبعد (المالي) فيقول:

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) [النساء: 37 ـ 39].

لنلاحظ كيف أن النص القرآني الكريم قد ربط فنياً بين هذا المقطع وبين المقاطع السابقة من السورة، حيث كان البُعد الاقتصادي هو الرابطة بين المطالبة في القسم الأول من السورة بمراعاة الأموال، والمطالبة في المقطع السابق بالإحسان إلى الجماعات المشار إليهم. ومنه الإحسان بالمال؛ لأن الفقير وابن السبيل يدخلان في هذا القسم، والمطالبة في هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن بمطلق الإنفاق.

ثم طرح قضية البخل وتوعّد البخيل بالجزاء السلبي، رابطاً بين قضية البخل وبين عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، حيث جاء طرح الإيمان بالله واليوم الآخر في سياق الحديث عن الإنفاق والبخل حتى يمهّد بهذا الربط الحديث

 

______________________________________________________

الصفحة 317

 

عن موضوع جديد يطرح في الأقسام اللاحقة من السورة الكريمة.

إذاً ينبغي ـ ونحن نُعنى دائماً بدراسة عمارة السورة القرآنية ـ أن نتأمل بدقة كيف أن النص قد طرح موضوعات متشابكة وأوجد علاقات مشتركة بينها بحيث ربط بين أقسام السورة، ومهّد في كل جزء منها للحديث لاحقاً عن الجزء الآخر، طارحاً خلال ذلك أهم ما يستهدفه من السلوك الاجتماعي المرتبط من جانبٍ بالعلاقة بين الجنسين، والمرتبط من جانبٍ آخر بالقضايا المالية التي تحتل أهمية كبيرة بالنسبة لتحسين الوضع المعيشي للناس، كل ذلك من خلال التركيز على المفهوم العبادي والأخلاقي في التعامل مع القضايا المشار إليها، ما يفصح ذلك كله عن مدى جمالية المنحى الفني الذي سلكه النص في وصل الموضوعات بعضها مع الآخر، ومدى الإحكام الهندسي بينها بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء: 40 ـ 43].

في هذا المقطع وما قبله، تطرح جملة من الأفكار مثل المطالبة بالإنفاق، والتوعّد لمن يبخل ويأمر الناس بالبخل ويكتم ما آتاه الله من المال أو المعرفة. ومثل: التذكير باليوم الآخر، وشهادة كلّ نبيّ على أمّته ومنها

 

______________________________________________________

الصفحة 318

 

شهادة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أمّته حيث يود الذين كفروا لو تُسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً. ومثل: المطالبة بالصلاة الواعية غير المقرونة بالنعاس، والمطالبة بعدم دخول المساجد بالنسبة للجُنُب، والمطالبة بالتيمّم لمن لا يستطيع الغُسل...الخ.

هذه الأفكار أو الموضوعات التي تجمع بين قضايا اقتصادية عقائدية وفقهية يطرحها النص القرآني الكريم في مقطع واحد، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن شريحة اجتماعية منحرفة هي أهل الكتاب، اليهود بخاصة كما سنرى.

أمّا الموضوعات الفقهية فينبغي الإشارة إلى أنّ طرحها يتمّ في سياق الفكرة العامة مدلّلاً بذلك على أهمية الموضوع الفقهي المرتبط بالصلاة والتطهير من الحدث.

وأمّا الموضوع الاقتصادي والعقائدي فقد طرحه النص في سياق فكرة خاصة شدّد فيها وكرّرها وأبرزها بنحوٍ ملحوظٍ هو قضية الكتمان لمعطيات الله تعالى حيث توعّد النصُ في آية سابقة مَنْ (يكتمون ما آتاهم الله مِن فضلِه) [النساء: 37]. وتوعّد في المقطع الذي نتحدث عنه الآن مَن (يكتمون الله حديثاً) [النساء: 42]. إن كتمان الفضل والحديث لم يطرحه النصُ مكرراً إلاّ لغرضٍ فنّي هو: التمهيد لموضوع لاحق سوف يُفصّل الحديث عنه ألا وهو: عرض سلوك الكتابيين اليهود منهم بخاصة، حيث يتسمون بصفة الكتمان لمعطيات الله في صعيد الاقتصاد وفي صعيد العقائد كما سنرى.

وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن هذا الجانب المتصل بسلوك اليهود، ينبغي أن نقف عند بعض الصور الفنيّة التي طرحها المقطع القرآني الكريم في سياق حديثه عن الذين (يكتمون الله حديثاً) هؤلاء الذين يقول عنهم: (يومئذٍ يَوَدُّ الذينَ كفَروا وعَصَوا الرّسُولَ لو تُسَوَّى بِهِمُ الأرضُ ولا يكتمُونَ الله

 

______________________________________________________

الصفحة 319

 

حَديثاً). فهذه الصورة تشير إلى الكافرين والعصاة من حيث الجزاء الذي يلحقهم في اليوم الآخر، ثم ترسم نوع الاستجابة أو ردّ الفعل الذي يصدرون عنه عند مشاهدتهم يوم الجزاء حيث يودّون ويتمنّون أن (تُسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً).

ترى: ما هو البُعد الفني لهذه الصورة؟ صورة (تُسوى بهم الأرض) أي: الصورة التي تقول بأن المنحرف يتمنى حينئذٍ أن يُصبح هو والأرض سواء. والسؤال: لماذا يتمنّى التسوية مع الأرض دون سواها؟ هل لأنه مخلوقٌ من التراب، أم لأن البهائم ـ كما ذكر بعض المفسرين ـ تتحول إلى تراب، وحينئذٍ يتمنى المنحرف أن يُصبح تراباً مثلها فيتخلص من العذاب؟ أم أن التراب هو مجرد (رمز) فني يرمز إلى انعدام الوعي والتكليف، فيتمنى المنحرف لو أنه كذلك؟ أم يتمنّى المنحرف ـ كما ذكر بعض المفسرين أيضاً ـ بأن يمشي أهل المحشر عليه كما يمشون على الأرض؟

كل هذه الاستخلاصات أو الاحتمالات الفنية، واردة ما دام جمال الصورة هو أن تكون مرشحة لجملة من الاحتمالات بحيث يستوحي كل شخص منها ما يتسق مع تجاربه الذوقية. وفي تصوّرنا الفني أنّ الأرض أو التراب الذي يتمنى المنحرفُ أن يُسوّى به: هو (رمز) للحالة النفسية التي يحياها المنحرف عندما يتعرّض إلى الفضيحة أمام الملأ بحيث يتمنّى لو تبتلعه الأرضُ مثلاً لأن ابتلاع الأرض لشخصه أو تسويته بها، تعفيه من هول الفضيحة، نقول هذا، لأن السياق الذي وردت هذه الصورةُ فيه يتحدث عن أن سبب الهول الذي يعانيه المنحرف هو (كتمانه) النقل أو الحديث أو المعطيات بعامة، فالكتمان يقابله الإعلان أو الفضيحة في اليوم الآخر، كأن المنحرف يكتم حديث الله... وها هو يود في يوم الجزاء أن يُكتم شخصه عن الآخرين، يود لو تسوّى به الأرض.

 

______________________________________________________

الصفحة 320

 

إذاً، جاءت هذه الصورة الفنية متجانسةً مع السياق الفكري الذي وردت فيه، كما أن هذا السياق الفكري ونعني به كون المنحرف يكتم حديث الله تعالى قد شكل تمهيداً وتوطئةً لما سوف يعرضه النص القرآني الكريم من موضوعات تتصل بسلوك الكتابيين: اليهود بخاصة حيث يطبعهم سلوك الكتمان لمعطيات الله كما سنرى، مما يفصح مثل هذا المنحى من الطرح عن مدى إحكام وجمالية البناء الهندسي للسورة الكريمة.

 

* * *

 

قال تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يَشْتَرُونَ الضلالةَ ويُريدونَ أنْ تَضِلُّوا السَبيل * واللهُ أَعْلَمُ بأَعْدائكُم وكفى بالله وَلياً وكفى بالله نصيراً * مِنَ الذين هادُوا يُحرِّفُونَ الكَلِمَ عن مواضعِهِ ويقولونَ سَمِعْنَا وعَصَيْنا واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ورَاعنا لَيّاً بألْسنَتِهِمْ وطَعْناً في الدِّين ولو أنَّهُم قالوا سمِعنا وأطَعْنا واسمَعْ وانْظُرنَا لكانَ خيراً لهم وأقْوَمَ ولكِنْ لَعَنهُم اللهُ بكُفرهِم فلا يُؤمِنُونَ إلا قليلاً) [النساء: 44 ـ 46].

هذا المقطع من سورة النساء يتحدث عن سلوك الكتابيين اليهود منهم بخاصة، وأوّل طابعٍ يعرضه لنا عن سلوك اليهود هو: تحريفهم كلام الله، وقد عرض هذا التحريف في صورة فنية هي (يشترون الضلالة) حيث تشكل رمزاً للتحريف، فخلع على التحريف سمة (الاشتراء)، بمعنى أنه يدفع ثمناً فيشتري الضلال، ولا شيء أشد خسارة على المنحرف من أن يدفع ثمناً لما هو ضارٌ به. بعد ذلك يتقدم المقطع القرآني الكريم، فيفصّل إجمال الصورة الاستعارية والرمزية المشار إليها وهي: اشتراء الضلالة موضحاً ذلك بقوله: (من الذين هادون يحرّفون الكلم عن مواضعه) ففي هذا التفصيل أكثر من توظيفٍ فنيّ فهو أولاً يوضّح ما أجمله النص من قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) مبيّناً بأن المقصود من أهل الكتاب هم: اليهود، وهو ثانياً يوضح ما

 

______________________________________________________

الصفحة 321

 

أجمله النص من قوله: (يشترون الضلالة) مبيناً بأن المقصود منه هو: تحريف الكلم عن مواضعه. إذاً، سلك النص في هذا المقطع منحىً فنياً له جماليته من حيث البناء الهندسي للمقطع.

ليس هذا فحسب، بل إنّ (تحريف الكلم عن مواضعه) هو نفسه صورة فنية رمزية أو استعارية ترمز إلى أن المقصود منه هو: كتمان اليهود ما جاء في توراتهم من صفة النبيّ محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو سائر ما بدّلوه من التوراة، إشباعاً لمصالحهم غير المشروعة.

بعد ذلك، يتقدم المقطع القرآني إلى عرض سمات أخرى من سلوكهم المنحرف، وهو سلوك قد انتخب منه في هذا المقطع ما يختص بتعاملهم الاجتماعي مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو تعامل ينمّ عن أشد درجات الالتواء والعناد والخبث والوقاحة، حيث يقولون للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (سمعنا وعصينا) ويقولون له: (اسمع غير مُسمَع)، ويقولون (راعنا) سخريّة، يقولون ذلك من خلال تحريك ألسنتهم بنحوٍ يوحي بما هو سلبيٌ من الدلالة، سخرية وإيذاءً له صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ثم يتقدم النص بالخطاب التالي إليهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء: 47]. هذا الخطاب يتضمن صورة فنية هي طمس الوجوه وردّها على الأعقاب.

إن أهمية هذه الصورة الفنية تكمن في ترشحها بأكثر من استيحاء واستخلاص، فطمس الوجوه قد نستوحي منه دلالة معنوية هي: الختم على قلوبهم بحيث لا يهتدون أبداً، وقد نستوحي منه دلالة حركية كما لو تغيّرت وجوههم فعلاً من نحو أن يُمسخوا كالقِرَدة أو تُجعل عيونهم خلف ظهورهم.

إنّ ردّ الوجوه على الأدبار يشكّل صورة أخرى تزدوج مع الصورة السابقة (نطمس وجوها). إنّ النص رسم صورة (طمس الوجوه) ليعبّر بذلك عن رمز

 

______________________________________________________

الصفحة 322

 

هو ضلالتهم أو مسخهم، ثم ألحق بها صورة أخرى ذات دلالة مزرية أيضاً هي (الرد على الأعقاب). ومن المعلوم فنيّاً أنّ شَرْحَ أو تكملة صورةٍ بصورةٍ أخرى (بدلاً من شرحها أو تكملتها بواسطة اللغة المباشرة) يُعدّ من أشدّ التركيبات الفنية إثارةً وجمالاً وطرافةً.

والمهم، إن هذه الصورة المزدوجة ذات الإيحاءات المتنوعة التي أشرنا إليها قد أردفها النص بتشبيهٍ مباشر هو: (أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت)، فالمعروف أن أصحاب السبت قد مُسخوا قردة، وهذا يعني أن استيحاء الصورة السابقة ينبغي ألاّ يتجه إلى أنّ المقصود من طمس العيون وردّها إلى الأدبار هو عملية المسخ إلى قِردة لأن المسخ قد ذكره النص على سبيل الترديد بينه وبين الطمس والرد على الأعقاب. وأياً كان الأمر، فالمهم هو أن هذه الصورة الفنية المكتنزة بالدهشة وبالجمال وبالطرافة قد وظّفها النص لإنارة الأفكار المطروحة في المقطع، وهي أفكار تتحدث عن سلوك اليهود الذين مهّد النصُ القرآنيُ ـ في مقطعٍ أسبق ـ الحديث عنهم، حينما توعّدهم بالعذاب الأخروي لكونهم (يكتمون الله حديثاً) وحيث جاء في هذا المقطع ليحدثنا عن معنى كتمانهم لحديث الله وهو: تحريف الكلم عن مواضعه، وحيث توعّدهم بالجزاء الدنيوي أيضاً في هذا المقطع، وهو بهذا الربط بين المقطع السابق والمقطع الحالي، يكشف عن مدى إحكام العمارة التي تنتظم السورة من حيث تلاحم مقاطعها بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ

 

______________________________________________________

الصفحة 323

 

اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) [النساء: 49 ـ 52].

 

هذا المقطع من سورة النساء امتدادٌ لمقطع سابق يتحدث عن سلوك اليهود وموقفهم من رسالة الإسلام. لقد كان تحريف الكلم عن مواضعه هو الشريحة الفكرية التي طرحها النص سابقاً. أما الآن فيقدّم النصُ شريحةً أخرى من سلوك اليهود، ألا وهو تعاونهم مع المشركين مقابل الإسلام، فبالرغم من أنهم أصحاب كتاب، وبالرغم من أنهم يعرفون جيداً أحقية الإسلام حيث تضمّن كتابُهم هذه الحقيقة فكتموها، بالرغم من ذلك كله يتعاونون مع المشركين ويقولون لهم: أنتم أهدى سبيلاً من المؤمنين برسالة الإسلام. وإذا انسقنا مع النصوص المفسرة التي تقول بأن المشركين طلبوا من اليهود أن يسجدوا لكلٍ من الجبت والطاغوت وأنهم قد فعلوا ذلك، حقداً على رسالة الإسلام، حينئذٍ يُضاف إلى فعلهم المُنكر منكَرٌ آخر هو ـ كما ذكر النص ـ (يؤمنون بالجبت والطاغوت).

ومن الواضح ـ في ميدان اللغة النفسية ـ أنّ الشاذ والمضطرب (واليهود يمثلّون أشد الأقوام والأفراد شذوذاً طوال التاريخ) يتضخم حجم شذوذه واضطرابه بقدر ما يكتنزه في أعماقه من الكراهية التي تمزّق وتؤثّر في الشخصية، وقد بلغ الشذوذ لديهم إلى الدرجة التي لم يكتفوا من خلالها بمجرد كتمانهم أحقية رسالة الإسلام، بل اندفعوا إلى أن يتعاونوا مع الكافرين إلى درجة أنهم خلعوا على الكافر سمة (الهداية) وعلى المؤمن عكس ذلك. كل هذا تعبيراً عن شدة التمزق والانشطار النفسي. لذلك ما أن انتهى المقطعُ القرآني الكريم من تقرير هذه الحقيقة حتى أخذ يكشف جانباً من الأسباب النفسية التي تدفعهم إلى مثل هذا الموقف المُنكر.

يقول النص (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

 

______________________________________________________

الصفحة 324

 

وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء: 53 ـ 55].

إذاً، القضية قضية (حسدٍ) من اليهود حيال (المُلك) الذي آتاه الله محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم. ومن المعلوم أن (الحسد) هو أبرز مظاهر الانشطار النفسي وأشد أشكاله تعبيراً عن قتامة الأعماق وكراهيتها، حيث يدفع الحسد الشخصية إلى أن تشوه الحقائق من جانب وأن تعمل أشد الموبقات (ومنها: السجود للصنم وهذا أشد مظاهر الذل) من جانبٍ آخر، حيث يخفّف مثل هذا السجود للأصنام ومثل هذا الافتراء والتشويه للحقائق إلى درجة الذهاب إلى أن الكافر أهدى سبيلاً من المؤمن برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يخفّف شيئاً من الأزمة والتمزق والكراهية التي تنطوي عليها أعماق اليهود. بعد ذلك يتجه النص القرآني الكريم، إلى رسم مصائر الكافرين حيث يقرر بأنه تعالى يُصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم منها تُبدّل بجلود غيرها، كما لوّح مقابل ذلك بالجنّات التي تجري تحتها الأنهار بالنسبة إلى المؤمنين.

ويهمنا ـ بعد هذا كله ـ أن نشير إلى المبنى الهندسي لهذا المقطع وصلته بعمارة السورة الكريمة. فالملاحظ أولاً أن النص وهو يتحدث عن اليهود بأنه لا نصيب لهم من المُلك، يعقب على ذلك بقوله: (فإذاً لا يُؤْتُون الناسَ نَقِيراً)، أي: أوضح النصُ سمة منكرة جديدةً من سمات اليهود، ألا وهي (البخل)، هذه السمة المنكرة التي تضاف إلى سمة (الحسد) قد طرحها النصُ هنا وفق منحىً فني غير مباشر حيث ربطه مع قضية (الملك) الذي يحسدون النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عليه، مستثمراً هذا الجانب ليؤكد حقيقة مرتبطة بالمُلك، ألا وهي قضية الإنفاق أو العطاء المقترن بالملك، موضحاً بأن اليهود لو أتيح لهم المُلك لَمَا أَعْطوا أحداً شيئاً. هنا ينبغي أن نتذكّر بأن النص القرآني الكريم عندما حدثنا في المقاطع السابقة عن سلوك اليهود، طرح هناك قضيتين:

 

______________________________________________________

الصفحة 325

 

إحداهما البخل والأخرى كتمانُهم الحديثَ عن الإسلام، وها هو الآن يربط النص ـ في المقطع الحالي ـ بين قضية البخل التي وصَفَهم بها هُناك (الذين يَبْخَلُون ويَأْمُرونَ الناسَ بِالبُخُلِ) [النساء: 37]، وبين قوله تعالى في هذا الموضع: (فإذاً لا يؤتون الناسَ نَقِيراً) حيث يفصح هذا القول عن أن اليهود (بخلاء) لا يُؤتون الناس نقيراً أي لا يعطونهم شيئاً.

إذاً، ربط النصُ بين هذا المقطع وبين المقاطع السابقة، مفصحاً بهذا عن أهمية وجمالية وإحكام النص القرآني الكريم من حيث تلاحم أجزائه بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 58 ـ 59].

في هذا المقطع من سورة النساء، طرحٌ جديد لقضايا تتصل بالحكم والقضاء والأمانة، والعلاقة بين الراعي والرعيّة.

ويُلاحظ أن العنصر الفنيّ المشترك بين هذه المسائل المتنوعة هو: تحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال العدالة.

إن المقطع طالبَ بأن تُؤدّى الأمانات إلى أهلها، وهذه الأمانات تردّد المفسّرون فيها بين الذهاب إلى أن المقصود من ذلك هو تأدية مطلق الأمانة، سواء أكانت تتّصل بأمانات الله أو الناس، وبين الذهاب إلى أن المقصود منها ولاةُ الأمر (وهم أهل البيت عليهم السلام) من حيث تسليم الأمرِ من كلّ واحدٍ منهم إلى الآخر، مع ملاحظة أن التفسير الأخير يتساوق (من حيث المبنى الهندسي

 

______________________________________________________

الصفحة 326

 

للنص) مع الآية اللاحقة التي تقول (يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم) حيث أن أولي الأمر ـ وفقاً للنصوص المأثورة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ هم أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أنفسهم، وحيث ذكرت هذه النصوص المفسّرة أن تأدية الأمانة تشكّل خطاباً إلى أهل البيت عليهم السلام، والإطاعة لهم تشكّل خطاباً إلى الناس باتباعهم عليهم السلام. ويلاحظ أيضاً ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى أن المقطع طرح مفهوم (العدالة في الحكم)، وهو طرحٌ يتساوق مع وظيفة الحكم كما هو واضح.

بعد ذلك يتّجه النص إلى طرحٍ آخر يتصل بقضايا الحكم أيضاً وهو (القضاء) وما يستتبعه من الأحكام، يقول النص: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء: 60].

لا نغفل، أن النص القرآني الكريم، كان ـ في مقاطع سابقة ـ يتحدث عن سلوك الكتابيين، وها هو الآن يتقدم إلى الحديث عن المنافقين في شريحة خاصة من سلوكهم تتصل بقضية (التحاكم) بعد أن مهّد لها (من حيث المبنى الهندسي للمقطع) حديثاً عن الحكم والقضاء والعدل، كما لحظنا. هنا، يعرض النص لنفرٍ منهم يزعم أنه يؤمن برسالة الإسلام وبالرسالات السابقة، لكنه (من حيث السلوك) يتحاكم إلى الطاغوت في خصوماته، والطاغوت هو رمزٌ فني للباطل كما هو واضح.. أي أن هذا النفر تحقيقاً لمكاسبه الذاتية يتّجه إلى المرتشين مثلاً في خصوماته حتى يحكموا لصالحه، ولا يتّجه إلى الحاكم الإسلامي في ذلك، للسبب نفسه. إن (المنافق) يتميّز عن سواه بكونه أشد الناس حرصاً على إشباع رغباته غير المشروعة، لأنّ إبطان الكفر وإظهار الإيمان لا مسوّغ له إلاّ في حالة الحرص الشديد على تحقيق الشهوات، وهو ما يميّز (المنافق) في الدرجة الأولى. لذلك نجد أن النص استثمر هذا الجانب من

 

______________________________________________________

الصفحة 327

 

سلوك المنافق فطرحه من خلال أهمّ الوظائف الاجتماعية في ظاهرة الحكم، ونعني بها قضية (العدالة) في الحكم (ومنه: القضاء) حيث طالَبَ الإسلاميين بتطبيق (العدل)، وأبرز نموذجاً مضاداً هو: سلوك المنافقين الذي ينزع إلى الحيف فيتحاكم في قضاياه إلى الطاغوت بدلاً من التحاكم إلى الإسلاميين، تحقيقاً لمصالحه المضادة للعدالة في الحكم.

ويلاحظ أن النص (في معرض حديثه عن التحاكم إلى الطاغوت) يعلّق على هذه القضية قائلاً (وقد أُمِروا أن يكْفُروا بهِ ـ أي الطاغوت ـ ويُريدُ الشيطانُ أنْ يُضِلَّهُم ضَلالاً بعيداً). هذا التعليق له أهمية فنية كبيرة من حيث علاقته بعمارة السورة الكريمة، حيث لحظنا في القسم الأول من سورة النساء (وهو القسم الخاص بالعلاقة بين الجنسين) من النصّ يطرح مثل هذا التعليق أيضاً (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) [النساء: 27].

ومن الواضح أن الرابط الفنّي أو الفكرة المشتركة بين الموضوعات تتجسّد في أمثلة هذا التعليق الذي يُوجِد صلات بين موضوع (كالجنس مثلاً) وبين موضوع آخر لا علاقة له بالجنس (كالعدالة في الحكم مثلاً) مما يُفصح مثل هذا الربط عن جمالية البناء الهندسي للسورة من حيث تلاحم أقسامه وجزئياته بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء: 61 ـ 63].

 

______________________________________________________

الصفحة 328

 

هذا المقطع من سورة النساء امتدادٌ لمقطع سابق يتحدث عن المنافقين الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، مع أنهم يزعمون بأنهم آمنوا برسالة الإسلام. إن المقطع يفضح هؤلاء المنافقين الذين إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول يصدون عن النبيّ صدوداً، فالمُلاحظ أن النص أكّد ظاهرة صدود المنافق عندما استخدم المفعول المطلق (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) حيث أن تأكد النص بهذه الصيغة ينطوي على مهمة فنيّة هي: التقابل بين زعم المنافقين بأنهم يؤمنون بالإسلام وبين هذا السلوك الذي يضاد زعمهم كل التضاد حيث أنهم لا يصدّون عن الإسلام مجرّد الصدّ العادي بل يبلغون أعلى درجة الصدود، وهذا يعني أن النص ـ فنيّاً ـ أراد أن يوضح الهوّة الفاصلة في سلوك المنافق بين ما يقوله وبين ما يعمله.

هنا يتوعّد النصُ المنافقين بنحو يتوافق ودرجة حرصهم على تحقيق المكاسب الذاتية التي ألجأتهم إلى النفاق. يقول النص: (فكيفَ إذا أصابَتْهم مُصيبة بما قَدَّمَتْ أيدِيهم). إنّ التهديد هنا يعتمد منحىً فنيّاً قائماً على عنصر التذويب الزمني وتحويله إلى الزمن النفسي، فالعقوبة التي لوّح بها النصُ ـ حسب ما يذكره المفسرون ـ ترتبط بزمان خاص قد يكون ماضياً وقد يكون لاحقاً، قد يكون مرتبطاً بتحاكم إلى الطاغوت ثم الاعتذار عنه بقول المنافقين: (إن أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً) أي: أنهم حلفوا بالله بأنهم لم يلجأوا إلى الطاغوت إلاّ بسبب كونهم لا يريدون إزعاج النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في رفع أصواتهم أمامه.

وقد يكون مرتبطاً بحادثة خاصة في إحدى معارك النبيّ حيث حصل تنازع بين أحد الأنصار وأحد المهاجرين فاستثمر أحدُ المنافقين هذه الحادثة وهدّد قائلاً: (لئن رَجَعْنا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنّ الأَعْزُّ مِنْها الأذلَّ...الخ). وأياً كان المقصود من ذلك، فإن المهم (من الزاوية الفنية) أن النص لوّح بالجزاء

 

______________________________________________________

الصفحة 329

 

السلبي الذي يلحق المنافقين، منتقلاً من هذا التلويح إلى تقرير حقيقتين، إحداهما: أن المنافقين سوف يحلفون بالله كذباً بأنهم لم يريدوا إلا إحساناً وتوفيقاً، والحقيقة الأخرى هي: أنّ المنافقين ما داموا كذلك، فعليك ـ والخطاب موجّه إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ـ أن تعرض عنهم وتعظهم وتهددهم بلغة الجزاء المناسب. يقول النص (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأَعْرِضْ عنهم وعظْهُم وقُلْ لهُمْ في أَنْفُسِهم قولاً بليغاً).

هذا التعقيب على سلوك المنافقين ينطوي ـ كما أشرنا ـ على تسجيل ظاهرتين، الأولى: أن المنافقين لا يخفون على الله تعالى، أنه تعالى يعلم ما في قلوبهم، وتبعاً لذلك، أعلَم الله تعالى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بحقائقهم ففضحهم، وهذا هو أحد المعطيات، وأما الظاهرة الأخرى فتتصل بقضية التعامل مع المنافقين، وهو تعامل سياسي تفرضه طبيعة الواقع الاجتماعي الذي يحياه مجتمع الإسلام حينئذٍ، فالمنافقون تظاهروا بالإيمان من جانب، واضطرّوا إلى المساهمة في بعض المعارك أو المواقف (مع أنّ التخريب ظهر واضحاً في مساهماتهم المشار إليها)، إلا أنه من الممكن ألا تكون المصلحة ـ في الفقرة المذكورة ـ محاربتهم مباشرة أو جهاراً، لذلك رسم النص طريقة خاصة في التعامل مع هذه الشريحة الاجتماعية المنحرفة، هي: أن يُعرَض عنهم من جانب، وأن يوعظوا من جانبٍ آخر (إذ أن في العظة خيط أملٍ بإصلاح البعض منهم)، ثم ـ من جانب ثالث ـ يأتي دور التلويح بالجزاء: وهو دور خاص حدده النص بقوله (وقُلْ لَهُمْ في أنفسِهِم قولاً بليغاً)، أي أن يوجّه النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إليهم خطاباً بلغة خاصة كأن يقول لهم مثلاً: إن أبرزتم ما في أعماقكم من العدوان أو الذاتية في السلوك: فسوف تُقتلون حينئذ.

أخيراً، ينبغي ألاّ نغفل الموقع الهندسي لهذا المقطع من عمارة النص، حيث لحظنا كيف أن هذا المقطع يتناول شريحة اجتماعية من المنحرفين هي:

 

______________________________________________________

الصفحة 330

 

فئة المنافقين بعد أن عرض لها في مقطع أسبق فئة منحرفة هي: اليهود، حيث كان الطابع المشترك بين السلوكيين: اليهودي والمنافق، هو تغيير الحقائق، فاليهودي فضحه النص القرآني من خلال عرضه للتحريف الذي مارسه اليهود في كتبهم، والمنافق فضحه النص من خلال عرضه للتحريف الذي يمارسه المنافق لحقيقة أعماقه. إذاً، ثمة طابع مشترك بين السلوكيين هو (تغيير الحقائق) وهو أمرٌ يكشف لنا عن جمالية البناء الهندسي للنص القرآني الكريم: من حيث تجانس وتلاحم موضوعاته بعضاً مع الآخر بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) [النساء: 64 ـ 68].

هذا المقطع امتدادٌ لمقاطع سابقة تتحدث عن المنافقين الذين كانوا يتحاكمون إلى الطاغوت، تحقيقاً لمكاسبهم الذاتية، مع زعمهم بأنّهم يؤمنون بالله. هنا يقدّم النص دليلاً على كذب ادعاءاتهم وتسويغاتهم السابقة التي تقول بأن تحاكُمَهم إلى الطاغوت إنما كان إحساناً وتوفيقاً. فأولاً يطالب النص القرآني الكريم بأن يعترفوا بخطأهم بدلاً من المكابرة والتبرير، (لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله...) فالصادق أو السويّ مَن يقرّ بعيوبه وليس مَن يتقنّع ويُلبسُ سلوكَه قناعاً من التبرير، حيث أن الإقرار بالذنب والندم

 

______________________________________________________

الصفحة 331

 

عليه، كما لو جاؤوا إلى الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ واستغفر لهم حينئذٍ (لوجدوا الله توّاباً رحيماً)، لكن بما أنهم مرضى (والمريض لا يقرّ بواقعه الشاذ بل يحاول تغطية عيوبه بتبريرات يحفظ بها ماء وجهه) حينئذٍ لا إمكان بأن تُصدّق أقوالهم، لذلك أوضح النص القرآني الكريم بأن زعمهم الذاهب إلى أنهم إنما تحاكموا إلى الطاغوت لسببٍ معقول لا يمكن تصديقه ما لم يرجعوا إلى صوابهم ويقدّموا دليلاً عملياً على صدق نواياهم، وهو أن يتحاكموا إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فعلاً.

(فلا وَرَبّك لا يُؤْمِنُون حَتى يُحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يَجِدوا في أنفُسهم حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلّمُوا تَسْليماً). هنا قد يتساءَلُ البعض عن السرّ الفنيّ الكامن وراء تشدّد النص على قضية التحاكم إلى النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والتأكيد المتكرر على هذا الجانب. في تصوّرنا، أن هذا التأكيد ينطوي على تقرير الحقائق النفسية الخطيرة التي تكشف واقع الشخصية المنافقة أو المريضة بشكل عام، فمن الممكن أن يكشف سلوك بسيط: عن واقع التركيبة المريضة للشخص وشدة التوائه ومفارقاته. لذلك نجد أن النص طالبَ بأن يتحاكم هؤلاء إلى النبيّ على نحو لا يجدون (حرجاً) في أنفسهم من ذلك (ثم لا يجدوا في أنفسهم حَرَجاً مما قضيت ويسلّموا تسليما).

إن المنافق الذي يستبطن الكفر ليس من السهل عليه أن يذعن للحق ما دام نفاقه أساساً يقوم على البحث وراء الإشباع لشهواته، إنّ بحثه عن الشهوات هو الذي يدفعه إلى النفاق، وحينئذٍ كيف يسمح لنفسه بأن يتقبّل قرارات الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عندما يحكم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لغير صالح المنافق. من هنا أكّد النص على ظاهرة نفسية خطيرة للغاية مع أنها قد تبدو بسيطة ألا وهي قوله تعالى: (ثم لا يَجِدُوا في أنْفُسِهِم حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلّمُوا تَسْليماً) فالحرج هنا قد يبدو شيئاً عادياً يمكن أن يتجاوزه الشخص، لكن بما أن المنافق يقوم سلوكه أساساً

 

______________________________________________________

الصفحة 332

 

على البحث وراء الإشباع الدنيوي، حينئذٍ سيجد حرجاً بالضرورة حيال الحكم الذي يصدره النبيّ لغير صالحه.

من هنا أوضح النص بأنّ فرز الصدق عن الكذب في ادعاءات المنافقين هو: ألا يجدوا حرجاً في أحكام النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأن يسلّموا بها لأن التسليم بها هو المظهر النفسي للإيمان حتى لو كان في غير صالح الشخص. وتقول النصوص المفسرة بأن سبب نزول هذه الآية يعود إلى أن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حكم في قضية زراعية لأحد الأشخاص في مخاصمة بينه وبين أحد المنافقين، حيث دفع هذا الحكمُ المنافقَ إلى أن يتّهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في قراراته لصالح الخصم. وهذا يعني (من الزاوية النفسية) أنّ المنافق لم يستطع أن يسيطر على أعماقه لدرجة أنه اتّهم النبيّ في القضاء: كل ذلك من أجل أنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم يحكم لصالح المنافق، وإذاً، أين صدق الادعاء بأن المنافقين مؤمنون بالله ورسوله ـ كما زعموا ـ إذا كانوا لا يتورعون من اتهام النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في إصدار قراراته. لذلك جاء التأكيدُ على أن هؤلاء لا يؤمنون إلا إذا سلّموا بقضاء النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بحيث لا يجدون حرجاً في ذلك، جاء هذا التأكيد منطوياً على دلالة نفسية لها أهميتها الكبيرة كما أوضحنا.

بعد ذلك، يقدّم النص اقتراحاً تجريبياً لفرز السلوك السويّ عن السلوك المنافق قائلاً: (ولو أنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِم أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُم أو اخرجوا مِن دِيارِكُم ما فَعَلُوه إلا قليلٌ مِنهم...) هذا الاقتراح بالقتل يقف على التقابل بين أبسط تضحية (وهو أن يتقبل المنافق قضاء النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وبين أشد تضحية (وهو أن يقتل المنافق نفسه إذا طولبَ بذلك)، ولكن الواقع أن كليهما (أي التنازل والقتل) يعبّران عن حقيقة واحدة في سلوك المنافق، كل ما في الأمر، أن النص استهدف تقديم أعزّ ما يملكه الإنسان وهو: التضحية بالنفس والمال ليبرهن على كذب ادعاءات المنافقين.

 

______________________________________________________

الصفحة 333

 

وأياً كان، من الملاحَظ (من حيث عمارة النص القرآني الكريم) أنّ هذا المقطع الذي تحدثنا عنه، يظل مرتبطاً بمقاطع سابقة تحدثت عن ظاهرة التحاكم إلى الطاغوت فيما شكّلت الخيط الفكري المشترك بين هذه المقاطع، مع أن كل واحدٍ منها يتضمّن موضوعاً مستقلاً عن الآخر كما لحظنا، مما يُفصح ذلك عن جمالية هذا التجانس بين المقاطع بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً... * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء: 69 ـ 73].

هذا المقطع امتداد لمقاطع سابقة تعرض سلوك المنافقين، وقد كان العرض السابق يتصل بتحاكمهم إلى الطاغوت... أما المقطع الحالي فيتحدث عن شريحة أخرى من سلوك المنافقين ألا وهي موقفهم من الجهاد في سبيل الله... فأولاً يتسم سلوك هؤلاء المنافقين بالبطء في الاستجابة حيال أيّة دعوة إلى الجهاد (وإنّ منكم لمن ليبطئنّ)... ثانياً، إذا قدر للإسلاميين أن تصيبهم مصيبة في القتال، يقول المنافق (قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً)، ثالثاً: إذا قدّر للإسلاميين أن ينتصروا، يقول: (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً).

هذه السمات الثلاث من السلوك تكشف بوضوح عن التركيبة الشخصية للمنافق، وهي تركيبة ـ كما كرّرنا ـ تقوم أساساً على البحث عن الإمتاع الدنيوي فحسب، ولأنها كذلك، تضطر إلى أن تظهر الإيمان حتى تحقق

 

______________________________________________________

الصفحة 334

 

الإمتاع من خلال تأمين حاجاتها وإلا فإن مصيرها القتل أو لا أقل حرمانها من المكاسب الاقتصادية أو المعنوية التي تتطلع إليها... وهذا المعيار هو الذي يتحكم في سلوكها، فكما أنها ـ في قضية تحاكمها إلى الطاغوت ـ إنما فعلت ذلك فلأنها تستطيع أن تقدم الرشوة مثلاً إلى الطاغوت فيحكم في الخصومة لصالحها، كذلك في قضية الدعوة إلى الجهاد، فهي تبطئ في تقبّل هذه الدعوة لأنّ تقبّلها يعرّضها لاحتمال القتل، وهذا ما لا ينسجم مع تطلعاتها الدنيوية، ولذلك تقدم مختلف الأعذار للتخلّف عن الجهاد، ثم بعد أن تتخلّف عن الجهاد تظل مترقبةً لنتائج المعركة، فإذا انتصر المسلمون تمنّى المنافق أن يكون معهم فيفوز بالغنائم، وإذا لم ينتصر المسلمون، اغتبط المنافق، وقال: إن الله قد أنعم عليه إذ لم يكن حاضراً في المعركة. وإذاً، في الحالات الثلاث ينطلق المنافق من سمة سلوكية واحدة هي (النفعية) التي تغلّف كل تحركاته ومواقفه في الحياة.

والآن، بعد أن يفضح النص القرآني الكريم سلوك المنافقين المتّصل بموقفهم من الجهاد، يستثمر النص قضيّة الجهاد ليحدثنا عنها وعن معطياتها وعن المبادئ التي يصدر عنها الإسلاميون في التعامل مع هذه القضية، فيقول:

(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 74].

إن هذا الطرح عن الجهاد يجيء في سياق فنّي له أهميته الكبيرة دون أدنى شك، فالنص يستهدف تقديم جملة من الأفكار، إنه يستهدف التأكيد على أهمية الجهاد، ويستهدف التأكيد على سلوك المنافقين حيال ظاهرة الجهاد، ويستهدف الوصول إلى نتيجة محددة وراء عرضه لهذه الجوانب ألا وهي أن الجهاد في الحالات جميعاً يقترن بمعطياتٍ ضخمة لا ترديد فيها، فالمقاتل في

 

______________________________________________________

الصفحة 335

 

سبيل الله إمّا أن يستشهد وإما أن ينتصر، وفي الحالين ـ يقول النص ـ (فسوف نُؤتيه أجراً عظيماً). إذاً لا خسارة البتة حتى في حالة الاستشهاد.

بعد ذلك، يقدم النص أدلة حسيّة في صعيد تجربة الدنيا ذاتها فضلاً عن الآخرة التي أمّنها للمقاتل من حيث الأجر الذي يتسلّمه... يقول النص (وما لكم لا تُقاتِلُون في سبيل الله والمُسْتَضعفينَ مِنَ الرجالِ والنِساءِ والولدان الذِينَ يَقُولُون ربَّنا أخرجنا مِن هذه القرية الظالِم أهلها...) [النساء: 75].

فالنص ينطلق من صعيد إنساني في حثه على الجهاد ألا وهو وجود المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان. كما أنه يسلك منحىً فنيّاً له أهميته في إثارة المشاعر ودفعها إلى الجهاد ألا وهو: رسمُ المستضعفين في أشد حالاتهم من الأذى بدليل أنهم يقولون ويهتفون بأسى (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) فهذا الهتاف يكشف أن المستضعفين ـ وكانوا في مكة حينئذٍ ـ قد اشتدّ بهم الأذى إلى درجة أنهم يعتصرون أفئدتهم ويتوسّلون بحرارة أن ينقذهم الله من الظَلَمة المشركين.

إذاً، في حثّه على الجهاد ـ قد سلك النص منحى فنياً ونفسياً ـ حينما ربط قضية الجهاد ليس بالعطاء الأخروي فحسب، بل بدلالات إنسانية لا يملك الشخص حيالها إلا أن يستجيب للجهاد من أجل إنقاذ المستضعفين الذين يعانون من الظلمة أشدّ العذاب بحيث يتوسّلون بمرارة أن ينقذهم الله من الشدائد.

بعد ذلك، يعقّب النص على قضية الجهاد قائلاً (الذين آمَنُوا يُقاتلُونَ في سبيلِ الله والذينَ كَفروا يُقاتِلُونَ في سَبيلِ الطاغوت...) [النساء: 76].

هنا ينبغي ألا نغفل عن العمارة الفنية للسورة الكريمة التي بدأت في عرضها لسلوك المنافقين بالحديث عن كونهم يتحاكمون إلى الطاغوت، وها هو المقطع الحالي يربط بين المقاطع السابقة التي تحدثت عن احتكام المنافقين

 

______________________________________________________

الصفحة 336

 

إلى الطاغوت وبين المقطع الحالي الذي نتحدث عنه حيث وازن بين المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله وبين الكافرين الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت، وبهذا الربط بين المقاطع يكشف لنا النص عن مدى إحكام عمارته من حيث تجانس وتلاحم جزئياته بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: 77].

هذا المقطع أو الآية الكريمة تتحدث عن الجهاد في سبيل الله، وكان المقطع الأسبق من السورة يتحدث عن الجهاد أيضاً إلا أنّه عَرَض قضية الجهاد في سياق الحديث عن المنافقين الذين كانوا يتخلّفون عن الجهاد إيثاراً للعافية. هنا يتحدّث النص عن الجهاد أيضاً، ولكن في سياق جديد هو: موقف بعض الضعفاء نفسياً من قضية الجهاد. إن هذا البعض ـ عندما كان في مكة يعاني جانباً من الاضطهاد الذي كان المشركون يمارسونه حيال المؤمنين ـ كان يُقال لهم: لَمْ يُحن القتالُ بعد، فلا تقاتلوا المشركين، لكن عندما كُتب القتال عليهم إذا بهم يجبنون عن القتال ويقولون (ربَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَينا القِتالَ لولا أَخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيب...) هذا الحوار قد يكون داخلياً، أي: قد يكون تساؤلاً يلقيه الشخص على نفسه كأن يكون بمثابة خواطر تحوم على ذهنه، وقد يكون هذا الحوار خارجياً، أي: قد يكون تساؤلاً يلقيه الأشخاص (وهم يتحدثون فيما بينهم) ثم يتجهون إلى الله تعالى ويقولون: (ربنا لم كتبتَ علينا القتال). وفي الحالين فإن هذا الحوار يكشف (من حيث العنصر الفني) عن حقيقة الأعماق التي تنطوي عليها بعض الشخوص ممن لم يرسخ الإيمان فيها.

 

______________________________________________________

الصفحة 337

 

وقد استخدم المقطع القرآني الكريم عنصر (التشبيه) في عَرضِه لهذه السمة التي تطبع بعض الشخوص الضعاف عبادياً، فقال عنهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). هذا التشبيه يجسّد نوعاً من التركيب الفنّي الذي يقوم على إحداث علاقة بين طرفين من خلال إبراز ما هو أشدّ وليس من خلال إبراز ما هو مماثلٌ بين طرفي التشبيه، وأهمية هذا النوع من التشبيه الفني تكمن في إبراز إحدى الحقائق التي تستهدف الذهاب إلى أنّ (المشبّه) هو أشد فاعليةً من (المشبّه به)، لذلك قال النص أولاً: إن بعض الناسِ يخافون القتل أو الموت من قِبَلِ الآخرين مثل خوفهم الموت من قِبل الله تعالى، بل أنهم يخافون القتل من الناس أكثر مما يخافون الموت من قبل الله تعالى.

أهمية هذا التشبيه ـ كما قلنا ـ تتمثل في تجسيد حقيقةٍ ذات خطورة هي: قضية الموت، فالموت نهاية كلّ إنسان، طال أمدُه أو قصر، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يخاف البعضُ من الناس الموتَ إذا كان في سبيل الله بل لماذا يخافونه أكثر مما يخافون الله تعالى؟ هذا هو التساؤل الذي يطرحه المقطع القرآني الكريم حيال البعض من الناس، مستهدفاً تأكيد الحقيقة الذاهبة إلى أن الموت في سبيل الله ينبغي أن يحتل عناية المؤمنين وألا ينزلق إلى هوّة المتاع العابر للحياة الدنيا، لذلك عقّب النص على الحقيقة المذكورة فقال: (قل مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ والآخِرةُ خَيْرٌ لِمَن اتَّقَى...).

ومن الواضح أن هذا التعقيب على كلام المتخاذلين الذين قالوا (رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتالَ لولا أَخَّرْتَنَا إلى أجَلٍ قرِيب)، هذا التعقيب ينطوي على مهمة فنية تتطلبها طبيعة التساؤل الذي صدر عن أولئك المتخاذلين. أنهم طلبوا تأجيل القتال إلى وقت آخر، وهذا يعني أنهم أكسبوا دنياهم جانباً من الأهمية إيثاراً للعافية، مضافاً إلى أنّ خشيتهم من الموت أشدّ خشية من الله تعالى تعبّر

 

______________________________________________________

الصفحة 338

 

عن نفس التطلّع إلى متاع الحياة الدنيا، لذلك تقدّم النصُ ليوضّح لهم خطأ تصوراتهم، عندما أوضح بأن متاع الدنيا قليل، وإن الآخرة أشدّ إمتاعاً لمن اتقّى، فإذا كان هدف هؤلاء الذين طالبوا بتأجيل القتال هو إشباع حاجاتهم دنيوياً، فإن الآخرة أشد إشباعاً لهم، مما يتعين ـ في مثل هذه الحالة ـ أن ينصبّ اهتمامهم على الإشباع الأخروي.

مضافاً لذلك، نجد أن المقطع يتقدم بدليلٍ آخر ليعمّق هذه الحقيقة في أذهان هذا الفريق من الناس، فيقول (أيْنَما تكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْت ولو كُنْتُم في بُروجٍ مُشيَّدة...)[النساء: 78].

من الواضح، أن هذا التعقيب (من حيث البُعد الفني) يحسم كل شيء، فبعد أن يوضح النص بأن الإشباع الأخروي أشدّ إمتاعاً من الإشباع الدنيوي، يجيء إلى قضية الموت الذي يخشاه بعض الناس إيثاراً لمتاع الدنيا، فيقرر أن الموت نفسه لا بدّ منه حتى لو هرب الناس منه في بروجٍ مشيدة.

ومن الواضح أن (البروج المشيدة) تظل رمزاً لكل موقعٍ حصين يخال الإنسان أنه يقيه من الشدة التي يخشاها. والمهم، أن النص قد تدرّج فنياً من خلال عنصر الحوار والسرد لتعميق قناعة المتلقّي بأنّ القتل في سبيل الله ينبغي أن يستبشر به المؤمن لأنه يحقق الإمتاع في أضخم مستوياته التي يتطلع إليها، والمهم أيضاً، أن النص من خلال عرضه لهذا النمط من الناس الذين يخافون الموت أكثر مما يخافون الله، يكون قد أحكم عمارة النص القرآني الكريم حينما تحدث عن هذا الجانب في سياق حديثه عن فئة أخرى سبق أن عرض مواقفها من الجهاد، وهو التخلّف عنه إيثاراً لمتاع الدنيا، حيث يظل العنصر المشترك بين هذين الفريقين (بالرغم من كون أحدهما مؤمناً والآخر منافقاً) هو الخيط الفني الذي يربط بين أجزاء السورة، مما يفصح ذلك عن مدى جمالية وإحكام النص.

 

______________________________________________________

الصفحة 339

 

قال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء: 78 ـ 79].

هذا المقطع من سورة النساء يطرح قضية فكرية تعدّ مثيرةً بالنسبة إلى السلوك الطوعي عند الإنسان، وبالنسبة إلى الظواهر الكونية وصلتها بالمبدع تعالى، ثم صلة أولئك جميعاً بالعمل العبادي الذي يصدر عنه الإنسان وانعكاساته إيجاباً أو سلباً.

إن المقطع يطرح هذه الفكرة الجديدة في سياق عرضه المفصّل لسلوك المنافقين الذين احتل الحديثُ عنهم مساحة كبيرة في هذا القسم من سورة النساء، وحيث كان العرض لسلوك اليهود والمشركين وضعاف النفوس من المسلمين قد احتلّ من السورة مكانه أيضاً.

هنا ـ في هذه الشريحة الفكرية الجديدة ـ يطرح النص موضوعاً يمكن (من الزاوية الفنية) أن ينسحب على سلوك هذه الفئات المنحرفة جميعاً: كتابيين، ومنافقين، وضعاف النفوس. فالنصوص التفسيرية تتفاوت في تحديد ذلك، مما نستكشف من خلاله أهمية هذا الطرح الفنّي الذي يترشح بإيحاءات مختلفة. ولكن الأهمّ من ذلك كله، أن المقطع القرآني الكريم يطرح هذه الفكرة وفق منحىً فني في غاية الإثارة والجمال، حيث يقول لنا أولاً: إن المنحرفين إذا أصابتهم حسنة، قالوا: هذه من عند الله.

وإذا أصابتهم سيئة قالوا هذه من عند الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ويقول لنا ثانياً: إن كلاً من الحسنة والسيئة هما: من عند الله.

 

______________________________________________________

الصفحة 340

 

ثم يقول لنا ثالثاً: إن الحسنة من عند الله وإن السيئة من عند الإنسان المنحرف.

فالمُلاحظ أن القارئ إذا كان عادي التأمل فسوف يتوقّف قليلاً ويتساءل قائلاً: إن النص يقول لنا من جانبٍ إن الحسنة والسيئة من عند الله، ثم يقول لنا: إن الحسنة من الله، والسيئة من الإنسان من جانب آخر، فكيف يتم التوفيق بين هذين الاتجاهين؟

لكن ـ وهنا تكمن أسرارُ الفن القرآني الكريم ـ لو دققنا النظر، لوجدنا أن الصياغة الفنية لطرح هذه المشكلة الفكرية هي التي تُكسب النص مثل هذه الأهمية، وهذا ما يقتادنا إلى التحليل الفني لها، فنقول: إن المنافقين واليهود أو مطلق المنحرفين الذين كان النص القرآني في صدد الحديث عنهم، قالوا: ما أصابنا من نصر عسكري أو من خصب زراعي فمن عند الله، وما أصابتنا من هزيمة عسكرية أو جدبٍ زراعي فمن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وفي ضوء هذا الزعم لا بدّ أن يتقدم النص، فينسب كل شيءٍ إلى الله تعالى. لكن بما أن قضية النصر والهزيمة أو الخصب والجدب يتكيفان ـ من جانبٍ آخر ـ بمقدار ما يسلكه الإنسان من تعامل خيّر أو شرير، حينئذٍ يترك هذا التعاملُ أثره على النصر والهزيمة أو الخصب والجدب، وهذا يعني أن الحسنة والسيئة ـ وهما رمز للنصر والهزيمة أو رمزٌ للخصب والجدب ـ في نفس الوقت الذي يرتبطان من خلاله بمشيئة الله تعالى، يكيّفهما الله وفقاً لنمط التعامل الإيجابي أو السلبي عند الإنسان أيضاً. لكن قد يُثار السؤال من جديد إذا كان الأمر كذلك، فلماذا ينسب النصُ الحسنة إلى الله، والسيئة إلى الناس: (ما أصابَكَ مِنْ حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما أصابَك مِنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَفْسِك).

هنا أيضاً تكمن خطورة الفن العظيم الذي يصوغ الحقائق وفق لغةً فنية إيحائية يدع القارئ من خلاله يستخلص الحقيقة القائلة: إن النصر أو الخصب

 

______________________________________________________

الصفحة 341

 

أو الهداية مقابل الهزيمة أو الجدب أو الضلال، ناجمة من الله بصفة أنه تعالى مصدر الخير، وأن الهزيمة والجدب والضلال، وإن كانت فاعليتها من الله تعالى أيضاً، ولكن بما أن الإنسان قد كفر بنعمة الله، حينئذٍ فإن هذه السيئة (الهزيمة والجدب والضلال) تنتسب إلى الإنسان الذي اختار السلوك الشرير، وبكلمة أشد وضوحاً أن كل خيرٍ فمن الله وكل شر فمن الإنسان (وهذه قاعدة عامة). ولكن بما أن الطاعة والمعصية تتركان أثرهما على تكييف الأحداث حينئذٍ فإن الله تعالى ينزل بركات السماء على أهل الطاعة وينزل نقماته على أهل المعصية، فتكون الحسنة والسيئة من جانبٍ هي بسبب من الله تعالى في نفس الوقت الذي يختصّ فيه الله بالحسنة لأنه لا يصدر عن الحسَن، ويختص الإنسان بالسيئة لأنه قد يختارها بملء إرادته.

وأياً كان الأمر، يعنينا، بعد ما تقدم؛ أن نشير في النهاية إلى المبنى الهندسي للنص من حيث صلة هذه الفكرة التي طرحها المقطع القرآني الكريم بهيكل السورة، وهو أمرٌ لحظناه بوضوح: ما دامت قضية النصر أو الخصب أو الهداية مقابل الهزيمة أو الجدب أو الضلالة قد ارتبطت بسلوك المنافقين واليهود والضعاف نفوساً: ممن عَرَضَ النص القرآني جانباً من سلوكهم في مقاطع سابقة من السورة الكريمة، فيما يكشف مثل هذا الوصل بين المقاطع عن إحكام عمارة النص وجماليته، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) [النساء: 80 ـ 81].

هذا المقطع امتدادٌ لمقاطع سابقة تتحدث عن المنافقين الذين يعرض

 

______________________________________________________

الصفحة 342

 

النص القرآنيُ شرائح مفصلةً عن سلوكهم. الجديد في هذا المقطع هو: إبراز مواقفهم من الجهاد في سبيل الله من خلال إبراز مشاعرهم الداخلية التي يصدرون عنها مقابل السلوك اللفظي الذي يصطنعونه للتمويه، أنهم يقولون للنبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (طاعة) أي يتظاهرون بإطاعة الرسول في كلّ ما يأمرهم به، ولكن، ما إن فارقوه حتى بيّتوا شيئاً غير الذي تظاهروا به أمام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. ويُلاحظ أن المقطع كشف بهذا عن أن المنافق لم يتردّد بين لحظات الخير والشر بحيث يقطع مراحل من التفكير ومدارسة الأمر وتقليب مختلف النظرات للوصول إلى ما هو في صالحه، بل أن نزعة الشر غلبته بنحوٍ ما أن يستمع إلى اقتراح من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حتى يتظاهر بتقبله سريعاً لدرجة أنه يقول (طاعة) تعبيراً عن تمام القناعة التي يتظاهر بها، ثم ما أن يفارقه حتى يبيّت ما هو خلاف الطاعة، بمعنى أنه سلفاً قد حدّد موقفه من رفض الخير والإمعان في الشر.

ثم يتقدم النص بشريحة أخرى من سلوك المنافق، فيقول (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) [النساء: 83].

لا نغفل، أن النص عندما يتحدث عن المنافقين أو الكتابيين أو الضعاف إيماناً لا يطلق صفة (التعميم) عليهم، بل نجد صفة (التبعيض) هي التي تتردد في العبارة القرآنية مثل قوله (فإذا برزوا من عندك بيّت طائفة منهم غير الذي تقول) فهو يحدد (طائفة) منهم وليس كلّهم. سرّ ذلك: أن للانحراف درجاته، كما أن لتعديل سلوك الإنسان فرصه المختلفة، وما دام هدف العرض لسلوك المنافقين وسواهم هو فضحهم من جانب، فإن الجانب الآخر من الهدف يتمثل في إمكانية تعديل سلوك البعض منهم ممن لم يتجذّر الشر في أعماقهم بعد. لذلك نجد في المقطع الذي نتحدث عنه أن النص في الوقت الذي يقول فيه إنّ هؤلاء (وإذا جاءَهُم أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه)، أي:

 

______________________________________________________

الصفحة 343

 

أنهم يرجفون ويشيعون أخبار القتال أو السلم، نجده يعاتب هؤلاء بقوله: (ولو رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإِلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونه) حيث نستخلص من هذا العتاب أنّ إمكانية التعديل لسلوك البعض منهم أمرٌ لا تشكيك فيه، وأن البعض منهم إذا كان الشرّ قد تجذر فيه إلى درجة أنه يبيّت في نيّته شيئاً غير الذي قاله للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن البعض الآخر منهم يظل متأرجحاً أو غافلاً يرجف بإشاعات وأقاويل لو ردّها إلى الرسول وإلى أولي الأمر لانكشفت الحقيقة له، وهذا يعني أن قسماً من المنحرفين من الممكن أن يتعدل سلوكه فيتجه إلى الرسول وإلى أولي الأمر.

هنا ينبغي أن نلفت النظر إلى الجانب العماري أو الهندسي من النص، حيث نلحظ أن النص وهو يتحدث عن المنافقين، يطرح في الوقت نفسه أفكاراً أو موضوعاتٍ سبق أن تحدث عنها أو موضوعات جديدة تبدو وكأنها طارئةً على النص. من ذلك مثلاً قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وقوله تعالى (أفلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآن ولو كان مِنْ عِند غير الله لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كثيراً) [النساء: 82]، وقوله: (وَلَو رَدُّوهُ إلى الرسولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ... الخ)، هذه الإشارات إلى الله، والرسول، وأولي الأمر، ثم: الإشارة إلى القرآن وكونه لا اختلاف في طبيعة أساليبه ومضموناته، لا بدّ أن تنطوي على أسرار فنية تتصل بعمارة السورة الكريمة وبأهداف فكرية يُراد توصيلها إلى القارئ.

إن أدنى تأمل يقتادنا إلى التذكر بأن مقدمة هذا القسم من السورة بدأت بالحديث عن اليهود وتحريفاتهم ثم بالحديث عن المنافقين وتحاكمهم إلى الطاغوت، وفي غمرة الحديث عن التحريف والتحاكم كان النص يؤكّد بين الحين والآخر على إطاعة الله والرسول وأولي الأمر، راسماً بذلك للإسلاميين مصادر التشريع التي ينبغي أن يتّجه الناسُ إليها، ها هو النص يربط بين

 

______________________________________________________

الصفحة 344

 

المقاطع المتقدمة وبين هذا المقطع الجديد من خلال نفس الفكرة التي تستهدف لفت النظر إلى لزوم طاعة الله، والرسول، وأولي الأمر سواء أكان ذلك في نطاق (العقائد) التي استهدفها التحريفيون اليهود، أو نطاق (القضاء) الذي استثمره المنافقون ليكون الحكمُ لصالحهم أو نطاق (القتال) الذي أرجف به الضعاف نفوساً.

كل ذلك قد استهدفه النص في غمرة حديثه عن سلوك المنافقين، حيث أن التذكير بأهمية الرجوع إلى مصادر التشريع: الله، الرسول، (أولي الأمر) وهم أهل البيت عليهم السلام، يظلّ هدفاً فكرياً يبرزه النص من آن لآخر حتى تركّز هذا المفهوم الخطير في الذهان، وذلك من خلال المنحى الفنّي المتمثل في عملية الربط بين أجزاء السورة الكريمة، مُفصحاً بذلك عن مدى جمالية وإحكام المبنى الهندسي للنص.

 

* * *

 

قال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً * مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً * وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً * اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً * فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 84 ـ 88].

هذا المقطع من سورة النساء لا يزال يتحدث عن المنافقين الذي خُصّص هذا القسم الكبير من النص في الحديث عنهم. طبيعياً، ينبغي أن نكرّر بأن أهمية النص الفنيّ تتمثّل ـ في جملة ما تتمثّل به ـ في كونه يطرح مختلف

 

______________________________________________________

الصفحة 345

 

الأفكار في سياق حديثه عن موضوع محدد مثل المنافقين، حتى أنه ليمكن القول بأن الأفكار الأشد أهمية من غيرها تأتي غالباً في سياق موضوع ثانوي الأهمية، فالمنافقون يشكّلون موضوعاً ذا أهمية دون أدنى شك لأنهم عنصر تخريبي ينبغي أن يُحذّر منه في ميدان القتال الذي يندب إليه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلا أن القتال في سبيل الله هو الهدف الأشدّ أهمية من غيره، لكن نجد أنه يُرسَم في سياق الحديث عن المنافقين، وما ذاك إلا بسبب فنّي هو: أن كل سورة أو مقطع يتكفل بطرح فكرة من الأفكار فتحتل أهميةً نسبية بالقياس إلى غيرها. هنا ـ في المقطع الذي نتحدث عنه ـ يطرح النصُ جملةً من الموضوعات، وفي مقدمتها: المطالبة بالقتال في سبيل الله، وتحريض المؤمنين، وعدم الاهتمام بالمنافقين الذين يتذرّعون بحجج مختلفة للهروب من مسؤولية القتال، وهو موضوع ـ كما نلحظ ـ يمثل الأهمية الرئيسة في النص، لكنه ـ أي القتال ـ طُرِح في سياق الحديث عن المنافقين للسبب الفني الذي ذكرناه.

ولو ذهبنا نتابع محتويات المقطع الذي نتحدث عنه لوجدنا أن من الموضوعات ما يبدو وكأنه طارئ، وبعضها قليل الأهمية بالنسبة إلى غيره... لكن إذا أخضعنا هذه الظاهرة إلى مفهوم (النسبية) التي أشرنا إليها، حينئذٍ ندرك أهمية الفن الذي يتحدث عن مختلف الموضوعات في سياق خيطٍ فكري يوحّد فيما بينها في النهاية أو ينتقل من أحدها إلى الآخر من خلال إيجادٍ رابط فكريّ بينها.

نسوق هذه الحقائق ونكرّرها لأننا في صدد المواجهة لموضوعات تُطرح في هذا المقطع وفي مقاطع لاحقة تخضع غالبيتها لهذا البناء العماري الذي أشرنا إليه. فالمقطع يحدّثنا عن أحد مبادئ القتال وهو ألاّ يهتمّ المقاتل إلاّ بوظيفته دون غيرها ويحدثنا عن مفهوم (الشفاعة) التي قد تعني الإصلاح بين اثنين أو الدعاء أو الوساطة، ويحدثنا عن (التحيّة) ووجوب الردّ عليها بمثلها

 

______________________________________________________

الصفحة 346

 

أو بأحسن منها، ويحدثنا عن اليوم الآخر وحشر الناس للحساب، ويحدثنا ـ بعد ذلك ـ عن الموضوع الرئيس الذي يحوم عليه هذا القسم من السورة ونعني به: الحديث عن المنافقين حيث يطالب الإسلاميين ألا يشغلوا أنفسهم بسلوك المنافقين ومصائرهم حيث انشطر الإسلاميون إلى فريق يكفّر المنافقين وفريق لا يكفّرهم، مُنتهياً من ذلك إلى أن الله تعالى أدرجهم في قائمة الكفّار وأنه لا سبيل إلى هدايتهم، إلا البعض. فالملاحظ من كل ما تقدّم، أن المقطع طرح علينا جملة من الموضوعات المختلفة، لكنه وصَلَ بينها وبين الفكرة الرئيسة في النص وهي: رسم سلوك المنافقين. ثم طرح موضوعاً جديداً يتصل بوظيفة الإسلاميين من هؤلاء، من حيث السلوك العسكري حيالهم، فأوضح بأن وظيفة الإسلاميين هي: أن يقاتلوا هؤلاء إلاّ إذا هاجروا في سبيل الله، وإلا في حالة وجود معاهدة بين الطرفين بعدم القتال، أو في حالة وجود فريقٍ محايدٍ منهم، وأمّا في حالة وجود فريق رابع يحاول أن يتجاوب مع الإسلاميين والمشركين في آنٍ واحد، حينئذٍ إذا كف هؤلاء عن محاربة الإسلاميين، فهو، وإلا فعلى الإسلاميين مقاتلتهم.

الملاحَظ ـ من كل ما تقدم ـ أن النص القرآني الكريم، قطع رحلة طويلة يحدّثنا فيها عن سلوك المنافقين، ثم أنهى هذه الرحلة بالحديث عن موقف الإسلاميين منهم، من حيث القتال، حيث رسم جملة من مبادئ القتال، وبذلك مهّد لموضوع جديد سوفَ يتناوله قسم آخر من سورة النساء، ألا وهو: القتال أو الجهاد في سبيل الله وما تواكبه من المبادئ التي ينبغي أن يلتزم بها الإسلاميون.

وبهذا اللون من التمهيد الفنّي لموضوع (القتال في سبيل الله)، يكون النص القرآني الكريم قد أخضع ـ لحد الآن ـ هيكل السورة الكريمة (سورة النساء) إلى أقسام ثلاثة، تحدث في القسم الأول منها عن العلاقة بين الجنسين

 

______________________________________________________

الصفحة 347

 

وما ترتبط بهما من موضوعات، وتحدث في القسم الثاني منها عن المنافقين، ويتحدث في القسم الثالث منها عن: القتال ومبادئه كما سنرى ذلك لاحقاً، أولئك جميعاً قد تمت صياغته من خلال هيكل فنّي محكم من حيث تلاحم أجزاء النص وتواشج بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 92].

بهذا المقطع وما بعده، يبدأ القسم الثالث من سورة النساء وهو خاص بقضيّة (القتال) ومبادئه، حيث مهّد له النص من خلال حديثه عن المنافقين وموقفهم من القتال بعامة. المبدأ الذي يطرحه النص في هذا المقطع يتصل بقتل الخطأ وما يترتّب عليه من الجزاء الاجتماعي من تحرير رقبةٍ مؤمنة وديةٍ...الخ، حسب التفصيل الذي يرد في الكتب الفقهية. هنا يستثمر النص حديثه عن قتل الخطأ ليعلّق على القتل المتعمد فيقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]، ثم يستثمر النص هذا الجانب أيضاً، ليطرح قضية بالغة الأهمية هي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 94].

إن هذه القضية ترتبط بالقتال من جانبٍ وبسمة الشخصية المقاتلة ـ من

 

______________________________________________________

الصفحة 348

 

جانب آخر ـ من حيث استواء الشخصية أو شذوذها، فالمقاتل من الممكن أن تطبع شخصيته سماتٌ سلبية، كما لو كان ذا نزعة عدوانية أو كان حريصاً يُعنى بالغنيمة من أجل الإشباع العابر في الحياة الدنيا، لذلك حذّر هذا المقطعُ أمثلة هؤلاء المقاتلين من أن ينصاعوا لشهواتهم الذاتية مُطالباً إياهم أن يتريثّوا وألاّ يقتلوا مَن حيّاهم بتحية الإسلام لمجرد تشكيكهم بصدق تحيّته. ومن الطبيعي أن التشكيك قد يقترن بخلفية ذاتية تتخذ منه قناعاً يسوّغ عملية القتل حتى يظفر بالغنيمة، وقد يكون عاملاً للتسرّع في القتل نظراً لكون القاتل يتعجل الظفر بالغنيمة، ففي الحالين ينبغي ألا يمارس المقاتل أي سلوك تترشح منه ذاتيته وحبّه لعرض الحياة الدنيا.

بعد ذلك، يطرح النص مبادئ أخرى من القتال في سبيل الله، منها: وظيفة الشخصية حيال الالتحاق بميادين القتال وفرز المعذور عن ذلك، ودرجة المقاتل والقاعد فيقول: (لا يَسْتوي القاعِدُون من المُؤمنينَ غَيْرُ أُولي الضَرَرِ والمجاهدونَ في سبيلِ الله بأمْوالهم وأنْفُسهم فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوالِهم وأنفسِهم على القاعدين درجةً، وكلاً وعَدَ الله الحسنى، وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أَجْراًَ عظيماً) [النساء: 95].

النص يطرح هنا قضية المساهمة في القتال من زاوية التفضيل وليس من زاوية الوجوب أو الندب، فإذا استثنينا ما يُصبح إلزامياً ـ كما لو تطوّع قسم فسقط عن الآخرين وجوبُ الالتحاق ـ حينئذٍ فإن المجاهد غير القاعد لا بدّ أن يُفضّل على الأخير إلا في حالة كون القاعد معذوراً فحينئذٍ لا تفضيل لأحدهما على الآخر بخاصة إذا اقترنت نيّة القاعد بالمساهمة في القتال لولا أنّ المرض أو غيره حَجَزه عن ذلك. ويُلاحظ أن النص أكد على أن التفضيل هو درجات كبيرة وليس مجرد تفضيل عادي حيث كرّر الجملة قائلاً: (وفضّل الله المجاهدينَ على القاعدينَ أَجْراً عظيماً درجاتٍ منهُ ومغفرةً ورحمةً...)

 

______________________________________________________

الصفحة 349

 

[النساء: 95 ـ 96]، فبالرغم من أن النص قال في البداية: (فضّل الله المجاهدينَ بأموالِهم وأنفُسِهم على القاعدينَ درجةً...) نجده يكرّر ذلك ويقول: (وفضّل الله المجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أَجْراً عظيماً * دَرجاتٍ منه...). وفي تصوّرنا ـ أن القاعد المعذور إذا كان بمقدوره أن يساهم في المعركة ـ حينئذٍ قد تتعاظهم درجات فضله على غيره، مما يفسّر لنا السرّ الفني لهذا التكرار، علماً بأن المفسّرين تراوحوا في تحديد هذا الفارق بين الذهاب إلى أن المقصود من الجملة الأولى (وهي التفضيل بدرجات) على غير أولي الضرر وبين الذهاب إلى أن المقصود (بالدرجة) علو المنزلة فحسب، وبالدرجات الجزاء الأخروي.

وأيّاً كان، فإن المهم بعد ذلك أن نشير إلى عمارة المقطع وصلته بهيكل النص، حيث لحظنا كيف أن النص قد انتقل من الحديث عن المنافقين وموقفهم من القتال إلى الحديث عن المؤمنين وموقفهم من القتال، فيم يفصح ذلك عن الإحكام الجمالي لعمارة النص التي جمعت بين موضوعات مختلفة من خلال توحيدها في خيط مشترك بينهما، ممّا يكشف ذلك عن مدى تلاحم أجزاء النص بعضها مع الآخر.

 

***

 

قال تعالى: (إنّ الذينَ توفّاهم الملائكةً ظالمي أنفسِهم قالوا فِيمَ كنتمْ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكنْ أرضُ الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهُم جهنمُ وساءَتْ مصيرا * إلا المستضعفين من الرِجال والنساءِ والولدانِ لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدونَ سبيلاً) [النساء: 97 ـ 98].

هذا المقطع امتدادٌ لمقطعٍ سابقٍ يتحدثُ عن القتالِ ومبادئه وما يواكب ذلك من قضايا ترتبط بالتعامل مع العدو. فهناك نمطٌ من الناس قد استضعفهم أهل الكفر وطبعهم شيءٌ من الانحراف نتيجة بقائهم في بيئة الكفر. هؤلاء

 

______________________________________________________

الصفحة 350

 

رسمهم النص في صياغة حوارية تدور بينهم وبين ملائكة الموت، حيث توجّه ملائكة الموت إليهم سؤالاً هو (فِيمَ كنتُم؟) ويجيبون: (كنّا مستضعفين في الأرض) فتقول الملائكة: (ألم تكُن أرضُ الله واسعةً فتهاجِروا فيها؟) ثم يعقّب النص على هذه المحاورة قائلاً: (فأولئك مأواهُم جهنَّمُ وساءَتْ مصيرا * إلا المستضْعفينَ من الرجالِ والنساءِ والوِلْدان لا يَستطيعونَ حيلةً ولا يَهْتدون سَبيلا).

لقد تضمنت هذه المحاورة والتعقيب عليها مبدءً هو: ضرورة المهاجرة من بلاد الكفر إذا كانت السلطة تحتجزهم من ممارسة العمل العبادي، وإلا فإنّهم يتحملون مسؤولية سلوكهم ويصيرون إلى جهنم وساءَت مَصيراً، ويُستثنى من ذلك مَن لا يملِكُ حيلة في الخروج بحيث يضطر إلى البقاء هناك.

بعد ذلك يتحدث المقطع عن المهاجرة في سبيل الله وما تنطوي عليه من إثابة فيقول: (ومن يهاجرُ في سبيل الله يَجدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وسَعَةً ومن يخرُجْ من بيتِه مهاجراً إلى الله ورسولِهِ ثم يدركْهُ الموت فقدْ وقعَ أجرُهُ على الله وكان اللهُ غفوراً رحيماً) [النساء: 100].

وهذا يعني أن المهاجر سوف يجد سعة عما فارقه من الأرض، كما أنه إذا أدركه الموت فإن الله يجازيه بالإثابة على هذه المهاجرة.

إذاً، هذا المقطع الذي تحدث عن المهاجرة في سبيل الله، جاء في سياق الحديث عن الجهاد في سبيل الله، بحيث تظل المهاجرة جزءً من الجهاد أيضاً. وقد طرحها النص في هذا السياق نظراً لأهميتها من جانب (حيث أنها تحفظ للشخصية دينها وسلامتها) ولكونها جزء من الجهاد من جانب آخر.

بعد ذلك، يطرح النص قضية الصلاة في ساحة القتال (وإذا ضربْتُم في الأرضِ فلَيسَ عليْكم جُناحٌ أن تَقْصُرُوا منَ الصلاة..) [النساء: 101]، مبيّناً أحكام صلاة الخوف من حيث قصر الرباعيةِ إلى ركعتين، ومن حيثُ إقامتُها

 

______________________________________________________

الصفحة 351

 

جماعةً حيث تتمُ من قِبل طائفتين تصلي كلُ واحدةٍ ركعةً مع إمام ليتسنّى للطائفةِ الأخرى الحراسة والمحاربة. بعدها يعقب النص على ذلك قائلاً: (فإذا قضيتُمُ الصلاةَ فاذكُروا الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبكم فإذا اطمأنَنتُمْ فأقيموا الصلاةَ إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) [النساء: 103].

واضحٌ، أن النص ـ وهو يتحدث عن الجهاد ـ عندما يطرح قضية الصلاة في هذا السياق إنما يعني ـ من الزاوية الفنية ـ مدى الأهمية الكبيرة التي يمنحها لهذه الممارسة العبادية بحيث تؤدّى في حالات الخوف من العدو بهذا النحو المصحوب بحمل السلاح، وبركعة جماعةً وركعةٍ فرادى، وبحالة دفاع، كل أولئك، نظراً لأهمية هذه الممارسة. ليس هذا فحسب، بل إنّ النص يؤكد أهمية هذه الممارسة ويكررها في آخر المقطع عندما يقول (إنّ الصلاةَ كانَت على المؤمنينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي: أنّ النص بعد أن أوضح كيفية الصلاة في ساحة المعركة، وأردفها بضرورة ذكر الله قياماً وقعوداً واضطجاعاً، أوضح بأن هذه الصلاة كتابٌ موقوتٌ ينبغي على الشخصية أن تُعنى به بعد الانتهاء من الحرب بشكل تام كما ينبغي أن تعنى به في ساحة القتال من خلال قصرها، وأن يذكر الله ـ مضافاً لما تقدم ـ في الحالات جميعاً.

أخيراً، ينبغي لفت النظر إلى الموقع الهندسي الذي يحتلُه هذا القسم من السورة الكريمة حيث ختم بهذه الآية: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء: 104]، فهذه الآية تشكل خيطاً يربط بين موضوع الصلاة التي أدخلها النص في سياق حديثه عن القتال والجهاد في سبيل الله، حيث عاد إلى الحديث عن الجهاد ووصل بين مقاطع السورة ليستكمل بذلك إحكام العمارة الفنية للنص، ويهبها جماليةً وإمتاعاً من حيث تلاحم وتواشج أجزاء النص بعضها مع الآخر.

 

______________________________________________________

الصفحة 352

 

قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) [النساء: 105 ـ 109].

هذا المقطع من سورة النساء يتحدث عن ظاهرة (القضاء) بين الناس، وكانت السورة سابقاً قد طرحت موضوع (القضاء) بين الناس أيضاً، إلا أن ذلك كان في سياق آخر، فهناك كان الحديث عن المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت من أجل مصالحهم وكانوا يتهربون من المحاكمة الإسلامية لأنها تحكم بالحق. هنا ـ في المقطع الذي نتحدث عنه الآن ـ تظل القضية معكوسةً، أي: أن النص يتحدث عن القضاء الإسلامي وما ينبغي أن يختطّه من مبادئ القضاء التي رسمها الله تعالى، كما أن النص يتحدث عن المحكومين الإسلاميين وما ينبغي أن يختطّوه من السلوك في تحاكمهم إلى القضاء الإسلامي.

إذاً، هناك طرحان أحدُهما غير الآخر، والجامعُ الفنّي بينهما هو (القضاء) من حيث صفات القاضي، كما أن هناك جامعاً فنياً آخر بينهما هو: صفات المحكوم عليهم من حيث الصدق في إفاداتهم التي يدلون بها إلى الحاكم الإسلامي.

هناك، عَرضَ النصُ صفات المنافقين الذين يبطنون نوايا سيئة بخلاف ما يظهرونه أمام الإسلاميين. هنا، في المقطع الذي نتحدث عنه، يعرض النص

 

______________________________________________________

الصفحة 353

 

صفات بعض الإسلاميين الذي يبطنون أيضاً نوايا سيئة بخلاف ما يظهرونه أمام القضاء.

إذاً، نحن الآن أمام مبنًى هندسي مُحكَم يطرح الموضوعات المختلفة ويخضعها فنياً لخيطٍ فكريٍ مشترك يُوحّد بين أجزاء السورة الكريمة. والمهم بعد ذلك ـ أن النص يطرح قضايا إسلامية في ميدان القضاء يستهدف توصيلها إلينا لتعديل السلوك. القيمة الأولى في هذا الطرح هي: أن يحكم الإسلاميون وفق مبادئ الله (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) ثم، ألا يتأثر الحاكم بأقوال الآخرين ممن تطبعهم سمات الخيانة (ولا تكن للخائنينَ خَصِيماً)...

وهذا ما يتصل بالحاكم...

وأمّا ما يتصل بالمحكوم فهو: ألا يستخفوا من الناس بل ينبغي عليهم أن يستخفوا من الله (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ)، وألا يبطنوا نوايا سيئة بخلاف ما يظهرونه (إذ يُبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)، ثُم ألا يتّهموا بريئاً (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء: 112].

إن الإسلاميين من الممكن أن تنتابهم لحظات الضعف، عندما يتحاكمون إلى القاضي، كأن يتّهم البعض بريئاً مثلاً من أجل مكسبٍ ذاتي فيكون بذلك مشابهاً لسلوك المنافقين الذين عَرَضَ النصُ القرآنيُ الكريم لسلوكهم في مقطع أسبق. كما أنه من الممكن أن تنتاب بعض الإسلاميين لحظات من الضعف أخرى تتصل بمطلق سلوكهم، وهذا ما عَرضه النص أيضاً عندما تحدّث عن بعضهم قائلاً: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114].

 

______________________________________________________

الصفحة 354

 

واضح، أن الأمر بالصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس تظل أنماطاً من السلوك الذي يساهم في تحقيق التوازن الاجتماعي، حيث طرحها النص في سياق الحديث عن القضاء ومشكلاته، وحيث تظل هذه الأنماط من السلوك العام مرتبطة من جانبٍ بأهم أشكال العلاقة الاجتماعية وهي علاقات (التعاون) حسب اللغة الاجتماعية، كما أنها من جانب آخر ذات صلة بمفهوم (القضاء) الذي يستهدف الإصلاح بين الناس وتحقيق المعروف وجعل المال في أهله الذي يستحقونه.

إذاً، من حيث عمارة النص، أمكننا ملاحظة مدى جمالية المقطع الذي عرضنا له، حيث طرح موضوعات مختلفة، وأخضعها فنياً لخيوط مشتركة توحّد بين جزئيات المقطع، وبين المقاطع جميعاً، حيث لحظنا كيف أن النص طرح مفهومات القضاء ومفهومات السلوك الاجتماعي عبر وصْلِها بعضاً مع الآخر، مُفصحاً لذلك عن مدى إحكام النص وتلاحم جزئياته، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) [النساء: 116 ـ 120].

يعرض هذا المقطعُ جانباً من سلوك المشركين، بعدما كانت المقاطع السابقة تعرض جانباً من سلوك الكتابيين والمنافقين وضعاف الإسلاميين. الجديدُ في المقطع هو: طرحه أوّلاً مفهوم (التوبة) حيث حدّدها ضمنيّاً حينما

 

______________________________________________________

الصفحة 355

 

وضح بأن الله يغفر ما دون الشرك ولا يغفر أن يُشرَك به، وهذا التحديد له أهميته في ميدان تعديل السلوك للإسلاميين الذين يمارسون الذنب حيث فُتِحت لهم مجالات التوبة مادامت ذنوبهم لم ترتبط بالشرك.

ثم يعرض المقطع جانباً من سلوك المشركين وإطاعتهم للشيطان الذي أجرى النصُ على لسانه حواراً يهدّد من خلاله بإضلال الناس: (وقال لاتخذن من عبادك نصِيباً مفروضاً * ولأضلنّهم ولأمنينهم ولآمرنهم...الخ) حيث تناول التهديد مختلف الانحرافات من: عبادةٍ لوثن، وتغيير لخلق الله، وتزيينٍ لمتاع الحياة الدنيا، وغير ذلك مما يطبع حياة المشركين المعاصرين لرسالة الإسلام.

ومن الواضح فنيّاً، أنّ إجراء الحوار على لسان الشيطان من خلال تهديده بإضلال الناس ينطوي على أهمية جمالية في هذا الصدد حيث يركّز بهذا مفهوماً غائباً عن أذهان المشركين ألا وهو: أن الشيطان دون سواه هو الذي يتولّى عملية إضلال الناس فيزيّن لهم عبادة الصنم وما يرتبط بذلك من عادات جاهلية تتصل بتعاملهم مع الأنعام والمخلوقات الأخرى من حيث تغييرهم لبعض مظاهرها الفيزيقية انسياقاً لمعتقدات فاسدة تنمّ عن الانحطاط الذهني لديهم.

بعد ذلك، يتحدث النصُ عابراً عن جانبٍ من سلوك الكتابيين وعلاقته بسلوك المشركين في نظرة كلٍ منهما عن اليوم الآخر، حيث يمنّي الكتابيون أنفسهم بأنه لا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً، وحيث يمنّي المشركون أنفسهم بنفي الجزاء أساساً، والرابطُ الفني بين هذا الطرح لسلوك الكتابيين في سياق الحديث عن المشركين هو ما نحتمله من وجود علاقة بين تمنيات كل من الفئتين الضالتين وبين محاورة الشيطان وتهديده بأنه ليُمنين أتباعه بمختلف الأماني التي تصرفهم عن العبادة الحقة (وَلأُضِلّنّهُمْ

 

______________________________________________________

الصفحة 356

 

وَلأُمَنّينّهُمْ...) ولذلك عقب النص على هذا التمنّي بقوله (يَعِدُهُم ـ أي الشيطان ـ ويُمنّيهمْ وما يَعِدُهُم الشَّيْطانُ إلا غُروراً).

بعدها، يتجه النص القرآني الكريم إلى الطرح العبادي التالي (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) [النساء:125]. هذا الطرح، يُشكّل تعقيباً على تمنيّات كلٍ من الكتابيّين والمشركين، حيث يوضّح مبدءً عاماً هو: شريعة إبراهيم التي انطوت على جملة من الحقائق التي ظلت محتفظةً بها حتى بالنسبة للشرائع اللاحقة بها. ولا نستبعد ـ فنياً ـ أن يكون الخطاب القائل (ليس بأمَانِيكُم ولا أمَانِيّ أَهْلِ الكتاب) [النساء: 123]، متوجهاً إلى الإسلاميين ـ وليس المشركين ـ حيث تذكر النصوص المفسّرة بأن الآية نازلة بسببٍ من تفاخر الإسلاميين والكتابيين، بأن شريعة الكتابيّين سابقة على الإسلام (في تصورهم)، وبأن شريعة الإسلام خاتمة لسابقتها من الشرائع، وحينئذ يكون الطرحُ القرآني لشريعة إبراهيم جواباً مشتركاً لهما، بصفة أن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وإن شريعته بالنسبة للإسلاميين ظلت محتفظة ببعض مبادئها التي أقرّها الإسلام.

إلى هنا، نجد النص القرآني الكريم قد قطع رحلةً فكرية عَرَض من خلالها لشرائح مختلفة من سلوك الكتابيين، والمنافقين، وضعاف الإسلاميين، ومطلق الإسلاميين، عَرَض ذلك كله في سياق الفكرة العامة لسورة النساء فيما كانت منصبّة على العلاقة بين الجنسين (الرجل والمرأة)، ويعود الآن إلى الحديث عن هذه العلاقة بما يواكبها من الأحكام المتصلة بالزواج والإرث واليتم وغيرها مما وقفنا عنده في القسم الأول من السورة. ويعنينا من هذا كله، أن نشير إلى مادة السورة القرآنية الكريمة من حيث بناؤها القائم على طرح فكرة عامة ثم طرح الأفكار الثانوية في سياق الفكرة العامة، مما يُفصح

 

______________________________________________________

الصفحة 357

 

ذلك عن إحكام النص من حيث تلاحم جزئياته بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً) [النساء: 127].

بهذا المقطع وما بعده، يربط النصُ القرآني الكريم بين أوّل السورة التي تحدّثت عن أحكام اليُتم وبين أحكام جديدة يضيفها المقطعُ إلى ذلك. الحديث هنا يتصل باليتيمة من حيث ميراثها وتزويجها وصداقها، كما يتصل باليتيم من الغلمان فيما كان الجاهليون لا يورثونه المال. ومن الواضح أن إعادة الحديث عن اليتيم من خلال الإرث وغيره يظل إفصاحاً عن الأهمية التي يمنحها النص القرآني لليتامى رجالاً ونساءاً، أحراراً وعبيداً، من حيث التعامل المالي والجنسي وسواهما.

بعد ذلك، يتقدّم النص إلى طرح العلاقة بين الرجل والمرأة من حيث التنافر الذي يسبّبه الرجل لزوجته، فيقول:

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 128].

الجديدُ هنا، أنّ المقطعَ يتحدثُ عن التنافُرِ الذي يسبّبُه الرجلُ للمرأةِ، بينما كانَ القسم الأول من السورة يتحدثُ عن التنافر الذي تسبّبه المرأة للرجل، لكن في الحالتين نجد طرحاً مماثلاً هو: تقديم جانب الصلح مثل التفكير بالافتراق بينهما ممّا يعني أن النص يستهدف تثبيت علاقات التعاون بدلاً من التنافر الذي يفضي إلى تصدّع المجتمعات كما هو واضح.

 

______________________________________________________

الصفحة 358

 

بعد ذلك يواجهنا طرحٌ آخر من العلاقات بين الجنسين هو قضية المعادلة بين الزوجات في حالة التعدّد، يقول النص: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [النساء: 129 ـ 130].

النص يطرح هنا قضية ترتبط بأهم الدوافع والتركيبة النفسية لها، فالحاجة إلى الجنس والحاجة الجمالية والحاجة العاطفية لا يمكن أن يتصاعد بها الشخص فطرياً بل يتصاعد بها نفسياً، بمعنى أن الشخص لا يمكنه أن يعدل في الرغبة أو الميل بين هذه الزوجة أو تلك، نظراً لوجود عناصر فطرية تفرض عليه الميل أو الرغبة لهذا الجانب دون ذاك، ولذلك فليس المطلوب هو تحقيق المعادلة الذاتية بل تحقيق المعادلة الموضوعية أي: تحقيق المعادلة بين الزوجات من حيث النفقة والقسمة ونحوهما من السلوك الخارجي الذي يحسّس الزوجات بموقفه غير المتحيّز لإحداهن دون الأخرى، لذلك شدّد النص على هذا الجانب قائلاً: (فلا تميلوا كل الميل ولا تذروها كالمعلقة) بصفة أن الشخص إذا لم يكن بمقدوره أن يساوي بينهن من حيث الميل النفسي، فإنه بمقدوره أن يساوي بينهن من حيث المظهر الخارجي للسلوك، فإذا لم يساوِ بينهن من حيث المظهر الخارجي حينئذٍ يصبح سلوكه مؤشّراً إلى كونه حاملاً لسمة الانحراف: طالما لا يمارس عملية تأجيل لشهواته التي يتعين أن يسيطر عليها، إذ من الواضح أنّ النزعة الإيجابية لدى الشخص تفرض عليه أن يتعامل خارجياً بشكل موضوعي كأن يصرف وقتاً لهذه الزوجة التي لا يميل إليها كلياً يماثل الوقت الذي يصرفه لمن يميل إليها. والأمر كذلك بالنسبة للنفقة من حيث المسكن والمطعم ونحوهما، حيث يظل إجبارُه نفسه على هذا التعامل الموضوعي، مفصحاً عن كونه سويّاً لا شذوذ فيه، كما أنه يدرّبه على

 

______________________________________________________

الصفحة 359

 

تعلّم السلوك السوي في حالة إجباره ذاتَه على مثل هذا التعامل.

وأياً كان، يعنينا بعد ذلك أن نشير إلى العمارة الفنية لهذا المقطع وصلته بهيكل السورة العام، وهو هيكل قائم على عرض مختلف العلاقات بين الجنسين وما يواكبها من علاقات اجتماعية، حيث لحظنا كيف أنّ القسم الأول من السورة عَرض لقضية العلاقة بين الرجل والمرأة والحرص على تثبيت علاقة التعاون بينهما، حتى في حالات التنافر الذي يحدث من قِبل أحدهما، حيث يطالب النص بمحاولة الإصلاح ما أمكن، إلا في حالة تعذّر ذلك، وحينئذٍ يقرّر قائلاً: (وإن يتفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كلاً من سعَتِه) حيثُ يصبحُ الافتراقُ بينهما محكوماً بالضرورة، ما دام الهدف هو تحقيق علاقات التعاون وليس التنافر كما هو واضح. والمهم بعد ذلك، أن النص القرآني الكريم طَرحَ هذه الأشكال من العلاقات المختلفة من خلال إخضاعها لعنصرٍ فكري مشترك بينها، مُفصحاً بذلك عن إحكام عمارة النص القرآني الكريم بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً حَمِيداً * وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 131 ـ 134].

بهذا المقطع، يبدأ قسمٌ جديد من سورة النساء التي تحوم فكرتها على العلاقة بين الجنسين وما يواكبها من العلاقات الممتدة إلى الأقارب والبشرية جميعاً. إلا أن النص يطرح في تضاعيف ذلك أشكالاً من العلاقات وأنماطاً من

 

______________________________________________________

الصفحة 360

 

السلوك لمختلف الشرائح البشرية، مثل الكتابيين والمنافقين والضعاف نفوساً والمؤمنين بعامة.

هنا، يعود النص إلى المؤمنين والكتابيين فيوصيهم بالتقوى بعد أن كانت المقاطع السابقة تعرض شيئاً من السلوك السلبي لديهم، طارحاً خلال ذلك فكرتين، أولاً هي: أن الله تعالى بمقدوره أن يُذهب الكافرين بنعمه ويأتي بآخرين، وأخراهما: أنّ من يبتغي ثواب الدنيا فعند الله ثوابها وثواب الآخرة أيضاً. ومن الواضح أن مثل هذا الطرح يشكّل جواباً لهذه الشرائح البشرية التي تدفعها رغبتها في متاع الدنيا إلى الانحراف عن مبادئ الله فيتوعدها حيناً بالاستئصال ويرغبها حيناً بالإطاعة ملوّحاً لها بأن الطاعة تحقّق كلا الإشباعين: دنيوياً وأخروياً.

بعد ذلك يتجه النص إلى طرح آخر هو: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 135]. فَفِي هذا الطرح عودٌ إلى الأجزاء السابقة من السورة التي كانَتْ تتحدَّثُ عن المحاكمةِ والقضاء، وعودٌ إلى بعض أشكال العلاقة البشرية (علاقة الوالدين والأقربين) حيثُ طالَبَ النصُ بممارسةِ سلوكِ جديدٍ هو: الشهادةُ بعد أن كانَت المقاطعُ السابقةُ تتحدثُ عن المدّعي والمدّعى عليه، فالشهادةُ التي يُطالبُ بها النص قد طرحَها في سياق (العدل) الذي ينبغي أن يطبع سلوك الشاهد وهو نفس العدلِ الذي طالَبَ به النص كلاً من المدّعي والمدّعى عليه، وقد شدّد النصُ في هذا الجانب مؤكداً بأنّ الشهادةَ العدل ينبغي ألاّ تصرفَ الإنسان عنها حتى لو كانَتْ حيالَ الوالدين والأقرَبين وألاّ تتأثَر بغنى الآخرين أو فقرهم.

إذاً، لحظنا كيف ربط النص في هذا المقطع بين الأجزاء المتباعدة من

 

______________________________________________________

الصفحة 361

 

السورة الكريمة، رَبَط بين العلاقة النسبية (الوالدين والأقرباء) وبين قضية المتحاكم والقضاء وبين الكتابيّين الذين تحدث سابقاً عن سلوكهم حيال القضاء وعن الإسلاميين الذين تحدث عنهم باللغة نفسها، مستجمعاً بذلك بين أجزاء السورة، محققاً عنصر التلاحم فيها بهذا النحو من الربط الفني الذي لحظناه.

وبعد ذلك يتّجه النص إلى طرح جديد، يطالب من خلاله بالإيمان بالله ورسوله والكتاب المنزل على رسوله وعلى من قبله، ملوحاً بالعقاب لمن آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ارداد كفراً، منتقلاً من ذلك إلى الحديث عن المنافقين من خلال طرحه نمطاً جديداً من سلوكهم، فيقول: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً) [النساء: 138 ـ 139].

واضحٌ، أنّ المنافقين حينما يتخذون الكافرين أولياء، فإن ذلك بسببٍ من إيثارهم متاع الدنيا مادياً ومعنوياً وهذا ما يحملهم على أن يبطنوا غير ما يظهرون وأن يُظهروا غير ما يبطنون، تحقيقاً للمتاع العابر. وقد حذّرهم النص من ذلك، كما حذّر المؤمنين من مجالستهم ومجالسة الكافرين الذي اتخذهم المنافقون أولياء:

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء: 140].

لنلاحظ البناء العماري لهذه الشريحة الفكرية الجديدة التي طرحها النص فيما نتحدث عنها بعد، حيث لوّح النص في حديثه عن المنافقين الذين يتخذون الكافرين أولياء: بأنهم يبتغون العزة، في حين أن (العزة لله جميعاً) وها هو الآن يقول عن الكافرين والمنافقين بأنه تعالى يجمعهما (في جهنم جميعاً).

 

______________________________________________________

الصفحة 362

 

فهنا نلحظ التجانس والربط الفني في المقطع الذي يشير إلى أن العزة لله جميعاً، وليس للكافرين الذين اتخذهم المنافقون أولياء وفي المقطع الذين يشير إلى أنه تعالى يجمعهما في جهنم جميعاً، حيث جانس بين العزة (جميعاً) وبين مجازاتهم سلبياً جميعاً، محققاً بذلك الإحكام الفني بين أجزاء السورة بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 140 ـ 141].

هذا المقطع يتحدث عن المنافقين والكافرين وهما من الفئات المنحرفة التي سبق أن تحدث عنها النصُ مفصّلاً في مقاطع سابقة. لكن، لكل مقطع أعيد سياقٌ جديد من الطرح، فضلاً عن أن الإعادة ذاتها أسلوبٌ فني لتأكيد الأفكار التي يستهدفها النص.

الجديد هنا أولاً هو: المطالبة بعدم مجالسة الشخصية المؤمنة للشخصيات المنحرفة إلا في حالة عدم خوضهم في الباطل.

ثانياً: تلخيص مواقف المنافقين بالفقرة الحوارية التالية التي أجراها على لسانهم: (فإنْ كان لكم فتحٌ من الله قالُوا ألم نكُن معكم؟

 

وإنْ كان للكافرين نصيبٌ قالوا:

 

ألم نستحوِذْ عليكُم ونمنعْكم من المؤمنين؟)

 

______________________________________________________

الصفحة 363

 

ثالثاً: صياغةُ المبدأ الاجتماعي القائل: ولن يَجعل اللهُ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً.

هذا المبدأ الاجتماعي سوف يكون له موقع فنّي يسحب أثره على المقاطع اللاحقة من السورة، بمعنى أنّه يشكّل إنماءً عضوياً للأفكار المطروحة في النص. وفعلاً نجد أنّ المقطع اللاحق من السورة يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ..) [النساء: 144 ـ 146].

لقد طالبَ هذا المقطعُ بألاّ يتخّذ المؤمنون الكافرين أولياءَ، وقبل ذلك طالب النص المنافقين بألا يتخذوا الكافرين أولياء. لكن كيف تمت هذه المطالبة المشتركة بين المنافقين والمؤمنين حيال العدو المشترك بينهما: فئة الكافرين؟

بما أن المنافقين كانوا ـ في ظاهرهم ـ مع المؤمنين، حينئذٍ فإن اتخاذهم الكافر وليّاً يُعد خرقاً للمبدأ الظاهري الذي يصدرون عنه، لذلك جاءت المطالبة بعدم اتخاذهم الكافر وليّاً، له مسوّغه الفني. لكن بما أن المنافق ـ في سلوكه الباطني ـ كافر، حينئذ جاءت مطالبة المؤمنين بعدم اتخاذ المنافق والكافر وليّاً، له مسوّغه الفنّي أيضاً، بصفة أنهما يخضعان لملة واحدة من الكفر. لكن، بما أن فريقاً من المنافقين لم يتعمق النفاق في قلوبهم بقدر ما كانت المصالح الذاتية تدفعهم إلى النفاق، حينئذٍ توسّم النصُ إمكانية الخير في بعضهم وذلك باحتمال أن يعدّلوا من سلوكهم، ولذلك خاطب هذا البعض منهم قائلاً: (إلا الذين تابُوا وأصْلَحُوا...).

إذاً (من حيث عمارة النص) لحظنا كيف أن النص واشَجَ بين جزئيات

 

______________________________________________________

الصفحة 364

 

الموقف فربط بعضها مع الآخر بهذا النحو من الوصل بين المؤمنين والمنافقين والكافرين.

بعد ذلك اتجه النص إلى طرحٍ جديد من الأفكار فقال:

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) [النساء: 148 ـ 149].

هذا الطرح الأخلاقي جاء في سياق التوبة والإصلاح اللذين لحظناهما بالنسبة لسلوك المنافقين الذين يصلحون أنفسهم ويتوبون إلى الله. وقد استثمر النص هذا الجانب، ليطرح من خلاله أهم أنماط السلوك أخلاقيةً واستواءً ألا وهو قضية الحب والعفو والتسامح، فالإنسان قد يسيء للآخر، وهذا الآخر له أن يدافع عن نفسه ما دام قد لحقه الظلم، لكن بالرغم من ذلك فإن العفو عن الظلم هو الموقف الأشد خيراً.

وما يعنينا من هذا الطرح هو: موقعه الهندسي من عمارة النص، حيث أن النص طرح مفهوم العفو من قِبَل الله بالنسبة لعباده، وطلب من عباده أن يمارسوا العفو من قِبَل بعضهم الآخر، فتمّ بذلك إحكام الموضوعات المختلفة ووصل بعضها مع الآخر بهذا النحو.

إلى هنا يكون النص قد طرح مفهومات مختلفة في سياق حديثه عن المنافقين.

بعد ذلك يتجه النص إلى رسم سلوك الكتابيين (اليهود منهم بخاصة) حيث يعرض لنا ـ كما سنرى ـ جانباً جديداً من سلوكهم، علماً بأن النص القرآني الكريم سبق أن عَرَض لنا جوانب من سلوكهم في مقاطع سابقة جاءت تتحدث عن سلوك الكتابيين والمنافقين والضعاف نفسياً، وها هو يعرض ذلك من جديد في سياقات جديدة بالنحو الذي لحظناه في حديثه عن المنافقين،

 

______________________________________________________

الصفحة 365

 

وهو أمر، يكشف لنا عن مدى جمالية وإحكام العمارة القرآنية الكريمة.

 

* * *

 

قال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) [النساء: 153 ـ 154].

بهذا المقطع وما بعده يبدأ قسمٌ جديد من سورة النساء يحدّثنا عن شرائح جديدة من سلوك اليهود وموقفهم من رسالة الإسلام (بعد أن كان المقطع السابق يحدثنا عن سلوك المنافقين وموقفهم من الإسلام).

الموقف الذي يعرضه النصُ في هذا المقطع القرآني الكريم هو: سؤالُهم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء.

إن أمثلة هذا السؤال تظل مجرّد قناعٍ تستّر به المنحرف للهروب من مواجهة الواقع، لذلك عَرَض النصُ مواقفَ سابقةً لليهود تعدّ أكبر جنايةً من جنايتهم حيال محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث طلبوا من موسى قائلين: (أَرِنَا الله جهرةً)، ثم اتخذوا العجل آلهة لهم، فأخذتهم الصاعقة جزاءً لسؤالهم الأول، ثم عُفيَ عنهم، بل مُنحوا فرصاً جديدة لتعديل السلوك وأُغدِقت النِعَمُ عليهم حيث يتابع النص عَرْض ذلك بقوله: (ورفَعْنا فوقَهُم الطُّورَ بميثاقِهم وقلنا لهُم ادخُلوا البابَ سُجّدا وقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدوا في السبتِ وأَخَذْنا مِنْهم ميثاقاًَ غليظاً) لكنهم ينقضون الميثاق من جديد، إنهم يخالفون كل أوامر السماء. لذلك يجيء سؤالهم لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بأن ينزّل عليهم كتاباً من السماء مجرد قناعٍ ـ كما قلنا ـ يتستّرون به للهروب من مواجهة الرسالة الإسلامية. وما يعنينا من ذلك هو: المنحى الفنيّ الذي سلكه النص في الكشف عن حقيقة الشخصية اليهودية

 

______________________________________________________

الصفحة 366

 

وذلك من خلال عرضه لمواقف سابقة لهم، حيث يتابع عرض المواقف ويعقّب على ذلك بعرض مواقف أخرى عبر صياغة قصصية على هذا النحو:

(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء: 155 ـ 158].

إن هذا المنحى من عرض المواقف اليهودية ينطوي على أسرار فنية في غاية الإثارة، إنه يعرض قضاياهم التي صدروا عنها في سلوك عملي ولفظيّ لا مماثل له في السلوك البشري من حيث بشاعته وعدوانيته وشذوذه.

أما السلوك العملي فيعرضه من خلال إشارته إلى قتلهم للأنبياء، وهل ثمة جناية أعظم من قتل رُسل الله تعالى؟ ثم يعرض جناية كبيرة لهم وهي تصورهم المخطئ بأنهم قتلوا عيسى أيضاً. صحيحٌ أنه شبّه لهم بأنهم قتلوا عيسى إلا أن مجرد محاولة قتلهم لعيسى هو عمل عدواني في غاية البشاعة.

وخلال هذا العرض الفني لسلوكهم العدواني البشع، يعرض النص حقيقة الموقف ويقدّمه حقيقة تاريخية هي: أن عيسى رفعه الله تعالى، وإن القضية هي ليست قتلاً ولا صلباً لعيسى بقدر ما هي مجرد (تشبّه). ومن الواضح أن عرض هذه الحقيقة التاريخية قد انطوى على أكثر من سرّ فني، منه إبراز النزعة العدوانية التي تمتد لتحاول قتل نبي مثل عيسى، ومنه أن الله تعالى يقف بالمرصاد لمن يخيّل إليه أنه بمقدوره أن يمارس عدوانه في الحالات جميعاً.

وهذا فيما يتصل بمواقفهم عملياً.

 

______________________________________________________

الصفحة 367

 

أمّا ما يتصل بمواقفهم لفظياً، فقد عَرَض النص موقفين منها (حيث عرض موقفين عمليين كما رأينا)، (وهذا واحد من أبعاد الفن الذي يحقق جمالية التوازن والتوازي بين المواقف) والموقف الأول الذي عرضه هو قولهم: (قلوبُنا غلف) والموقف الآخر هو (قولهم على مريمَ بهتاناً عظيماً)، وبالرغم من أن السلوك اللفظي هو غير السلوك العملي المتمثل في قتل الأنبياء، وعيسى، إلا أن السلوك اللفظي نفسه ينطوي على نزعة عدوانية لا تقل عن سابقتها، لأن قولهم بأن قلوبهم غلفٌ هو: تعبيرً عن مدى استهتارهم ورفضهم وعنادهم لتقبّل مبادئ الله تعالى. كما أن بهتانهم واتهامهم لمريم ـ عليها السلام ـ ينطوي على نزعة أشد عدواناً من عملية القتل، لأن طهارة مريم ـ عليها السلام ـ لا تحتاج إلى تعقيب، وحينئذٍ عندما تصدر أمثلة هذه التُهّم فهذا يعني منتهى الوقاحة والصفاقة حيال مبادئ الله تعالى.

وأياً كان، فقد ختم النص حديثه عن اليهود بالإشارة إلى ظاهرة أخرى هي الربا حيث تمثل هذه الظاهرة بُعداً آخر من نزعات اليهود العدوانية لأن الربا هو عدوان على حقوق الآخرين، كما أن إلقاء التهم عدوان على ذوات الآخر، وأن قتلهم الآخرين عدوانٌ على حياتهم.

إذاً، لاحظنا مدى التجانس الفني بين هذه المواقف التي عرضها النص في حديثه عن سلوك اليهود حيث أخضع مختلف مستوياته إلى خيط فني مشترك يجمع بين المواقف المختلفة من قتل وتُهم وربا في خضوعها لخيط مشترك هو: النزعة العدوانية.

خلال ذلك طرح النص قضية ذات خطورة كبيرة هي (وإن مِنْ أهْلِ الكتابِ إلا ليُؤمِنَنَّ بهِ قبلَ موتهِ ويومَ القيامةِ يكونُ عليهم شهيداً) [النساء: 159]. هذه الإشارة إلى أن من أهل الكتاب من يؤمن بعيسى لم يمت بل رفع إلى الله، والحقيقة الأخرى الذاهبة إلى ظهور المهديّ ـ عليه السلام ـ وصلاة عيسى

 

______________________________________________________

الصفحة 368

 

مأموماً. والمهم بعد ذلك كله، أن النص القرآني الكريم عَرَض هذه الحقائق المختلفة في سياق حديثه عن اليهود بهذا النحو الذي انطوى على أسرار جمالية في غاية الإثارة والطرافة، مما يفصح عن مدى إحكام عمارة النص بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أَهْلَ الكتابِ لا تَغْلُوا في دينِكم ولا تَقُولوا على الله إلا الحقّ إنّما المَسيحُ عيسى ابنُ مَرْيَم رَسولُ الله وَكلِِمتُهُ ألْقَاها إلى مريمَ ورُوحٌ منهُ فآمِنُوا باللهِ ورُسلِه ولا تَقُولُوا ثلاثةٌ انتهَوا خَيراًَ لكم إنّما اللهُ إلهٌ واحدٌ سبحانَهُ أنْ يكُونَ لَهُ وَلَدٌ ما في السّماواتِ وما في الأرْضِ وكفى بالله وَكيلاً) [النساء: 171].

بهذا المقطع وما بعده تُختم سورة النساء التي بدأت الحديث عن الميلاد البشري وقطعت رحلة تحدثت خلالها عن العلاقات الاجتماعية بخاصة العلاقة بين الرجل والمرأة وما يواكبها من العلاقات النَسبيّة، وعرضت لمختلف العلاقات العامة التي تخصّ الهدف العبادي الذي أنشأ الله من أجله الإنسان فتحدثت عن الإسلاميين والمنافقين واليهود، وختمته بالحديث عن المسيحيين الذين نعرض لهم الآن. وإذا كانت الفئات اليهودية قد كشفتهم السورة بأقذر سلوكهم، والفئات المنافقة بمستوى أقلّ منهم، فإن الفئات المسيحية عرضت لهم بمستوى أقل من المنافقين، مكتفية من ذلك بالحديث عن مغالاتهم في المسيح وتشريكهم الثلاثي، أي أنها تحدثت عن الموقف العقائدي المنحرف لهم دون الموقف العملي المتمثل في العدوان ونحوه، لذلك طالبتهم بأن يؤمنوا بالله ورسوله وأن يكفّوا عن المغالاة والتشريك، مقدمةً خلال ذلك تدليلاً منطقياً هو (لن يَستنكفَ المسيحُ أن يكونَ عبداَ للهِ ولا الملائكةُ المقرَّبون ومَنْ يستنكفْ عَنْ عِبادتهِ ويَستكبرْ فسيحشُرهم إليه جميعاً) [النساء: 172]،

 

______________________________________________________

الصفحة 369

 

وعندما تحدث عنهم وعن الكافرين عقّب قائلاً: (إنَّ الله جامعُ المنافقينَ والكافرين في جَهنّمَ جميعاً) [النساء: 140]، وعندما تحدث الآن عن المسيحيين عقّب قائلاً: (فسيَحشُرهُم إليه جميعاً). إن هذه الصيغة (جميعاً) لها موقع هندسي يربط ويجانس بين المقاطع بحيث تظل الموضوعات المختلفة مشدودة بخيطٍ فني يصل بينها، محقّقاً بذلك وحدة السورة الكريمة.

وإذا تابعنا الآن ما تبقّى من السورة الكريمة، نجد أن النص يخلص من خلال عرضه لهذه الفئات المنحرفة، يخلص إلى التأكيد على الهدف الفكري العام الذي تحوم عليها كل النصوص، ونعني به الإيمان بالله وبرسالة الإسلام. لذلك خلّل النصُ حديثَه عن الموضوعات المشار إليها: إشارات إلى الأنبياء السابقين: نوح، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، الأسباط، عيسى، أيوب، يونس، هارون، سليمان، داوُد، موسى مع تأكيد على الاسم الأخير نظراً لشذوذ قومه الذين تفردوا عن سائر الفئات بالعدوانية المتفردة، كما خلّلها إشارات إلى أن رسالة الإسلام هي برهان ونور، منتهياً من ذلك إلى القول:

(فأمَّا الذينَ آمَنُوا باللهِ واعتَصَمُوا بهِ فَسيُدْخِلهُم في رحمةٍ منهً وفضلٍ ويَهديهم إليه صِراطاً مستقيماً) [النساء: 175]، حيث تشكّل هذه النهايةُ الهدف العبادي العام لمطلق النصوص القرآنية الكريمة.

لكن ينبغي أن نلفت الانتباه (ونحن نُعنى بإبراز العمارة الفنية للسورة من حيث تلاحم موضوعاتها) بأن السورة الكريمة قد خُتِمت بآية تتحدث عن الإرث بالنسبة للأخوة والأخوات، ولا بدّ حينئذٍ من التساؤل عن السرّ الفني لهذا الختام الذي يبدو وكأنه منفصم عن المقطع الأخير الذي تحدث عن الإيمان.

لا شك أن عرض موضوعٍ ما في الختام أو البداية أو خلال عرض موضوع آخر يعني (من الزاوية الفنية) أن النص يستهدف لفت النظر إلى أهمية

 

______________________________________________________

الصفحة 370

 

هذا الموضوع الذي بُدِئ به أو خُتِمَ به أو عُرِض في سياق موضوع آخر. يُضاف إلى ذلك أن سورة النساء قد بدأت بالحديث عن العلاقة بين الجنسين من زواج وقربى ونحوهما، كما عرضت قضية الإرث وشدّدت فيه وبيّنت أحكامه مفصّلاً مما يَعْني أهميةَ هذه الظاهرة المالية عند المشرّع الإسلامي، وحينما يُختم النص بالحديث عن الإرث أيضاً، نستخلص حينئذ مدى الأهمية المشار إليها، والمهمّ بعد ذلك أن نذكّر المتلقي بالخيوط العامة لعمارة السورة التي تقدم الحديث عنها من حيث تداخل موضوعاتها وإيجاد الوصلات الفنية بينها وإعادة الحديث عنها في سياقات جديدة، مما يفصح ذلك عن مدى جمالية وإحكام المبنى المذكور بالنحو الذي عرضنا له.

 

______________________________________________________

الصفحة 371




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338456

  • التاريخ : 29/03/2024 - 10:57

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net