00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الأنعام 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

سورة الأنعام

 

______________________________________________________

الصفحة 417

 

قال تعالى: (ولو نَزّلنا عليكَ كتاباً في قِرطاس فَلَمَسوه بأيديهم لقالَ الذِينَ كفَروا إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبينٌ * وقالوا لولا أُنزِلَ عليه مَلكٌ ولو أنزلنا مَلَكاً لقضيَ الأمرُ ثمّ لا يُنظرونَ * وَلَوْ جَعَلناهُ مَلَكاً لجَعَلناهُ رَجُلاً وَلَلبسْنا عَلَيهِم ما يَلْبِسُون * ولقدِ استُهزئ بِرُسُلٍ من قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ * قِلُ سيرُوا في الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبينَ) [الأنعام: 7 ـ 11].

هذا المقطعُ من سورة الأنعام امتدادٌ لمقطعٍ سابق كان يتحدثُ عن المنحرفينَ الذين تطبَعهم أربع سمات في مواجهتهم لرسالة الإسلام، وهي سماتُ: المجادلةِ، الاستهزاءِ، النفورِ وإشراكِ الغير مع الله تعالى. وها هو النص يقدّم نموذجاً لسلوك المنحرفين يجسّدُ من خلالِه تطبيعهم بالسماتِ المذكورة.

وأوضحُ نموذجٍ يقدّمه النص هو قوله تعالى: (وَلو نزّلّنا عليك كتاباً في قرطاسٍ فلمَسوه بأيديهم لقالَ الذين كفروا إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبين)، هذا النموذج يعتمدُ على صورةٍ فنية هي: (لَمسُ الكتابِ باليد) كما أنه ـ من حيثُ عمارةُ النص ـ يُشكّلُ نموّاً عضوياً لسمةِ المجادلةِ التي تطبعُ سلوكَهم حيث وصفَهم في مقطعٍ سابق بقوله: (ثمَ أنْتُم تمتَرون) [الأنعام: 2].

إن الشخصية الشاذة التي تجادلُ وتمتري وتشككُ، لا سبيلَ لعلاجها حتى لو واجَهت أوضحَ الأدلّةِ الحسيّةِ. فلو نزلَ كتابٌ في قرطاسٍ ولَمَستهُ بيدِها لقالت: هذا سحرٌ مبين.

إنّ هذه الصورة الفنيةَ التي اعتمدَت ما هو مألوفٌ من تجارِب الإنسانِ

 

______________________________________________________

الصفحة 418

 

وخبراتِه، تنطوي على أسرارٍ مدهشةٍ في لغةِ الفنّ. فأولاً قارنَت بين القرآنِ الذي نَزَل كلاماً مسموعاً وبينَ الكلام المكتوب في صحيفة، ثم قارنَت بين الكلام المكتوبِ في صحيفةٍ وبينَ لَمْسِه باليدِ بدلاً من القراءة بالعَيْن. إن أهميّة القسم الأول من هذه الصورة (كتاباًَ في قرطاس) هي: تجسيدُ الشيءِ في أوضحِ مستوياته، فقد كان من الممكنِ أن يقولَ لهم (ولو نزّلنا عليك كتاباً) مقابلَ الكلام المسموع الذي نزلَ على محمدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكانَت الصورةُ محقّقةً للغرض، إلاّ أَنَّه تعالى فَصَّلَ في هذا الجانب الحِسّي فجَعَل الكتابةِ في عيّنةٍ حسيّةٍ هي القرطاسُ حتى يوضّح التجربة في أبرزِ معالِمها ليدلّل بعد ذلك على عنادٍ المنحرفينَ الذين يواجهون أبرزَ التجارب الحسية ثم يشككون فيها أو يجادِلون في صحتِها.

وليس هذا فحسب بل نجدُ أنّ النصَ القرآني الكريم لم يكتفِ بتقديم صورة (الكتاب في قرطاس) بل أردفَها بصورة أخرى هي (فلمسوه بإيديهم)، فالمفروضُ ـ كما أشرنا ـ أنّ (الكتابة في قرطاس) أن (تُقرأ) لا أن (تُلمس) فلماذا استَخْدَمَ النصُ عبارةَ (اللَمسَ باليد) بدلاًَ من (القراءة بالعين)؟ هذا سرٌ فنيٌ آخر. إنّ لمسَ الكتاب باليد يظلُّ ـ تجريبياً ـ أمراًَ لا سبيل له إلى أيّ تشكيك بعكس ما لو كان معروضاً للقراءة فحسب حيث البصرُ قد يعشو، أو قد يلتبسُ عليهِ الأمْرُ. أمّا اللمسُ باليدِ فيظَلُّ غيرَ خاضعٍ لأيّ لَبسٍ في هذا الصدد.

بعد ذلك يتقدمُ النصُ بتفسيرٍ فنيّ لهذهِ الصورةِ حينما يُردفُها بصورةٍ أخرى هي قولُه تعالى: (ولو جعلناه مَلَكا لجعلناه رجلاً ولَلبسنا عليهم ما يَلْبِسون) فالقارئ يستخلص من هذه الصورة الجديدة أن المنحرفين ـ عبر تشكيكهم وعنادهم ومجادلتهم ـ اعترضوا بأن الرسالة نزلت على (رجل) وليس على (مَلَك)، والنص القرآني يردّ عليهم ـ في هذا الصدد ـ بنفس الدليل الذي قدّمه في الصورة الفنية السابقة حيث يقول لهم: لو أنزلناه على (مَلك) حينئذ

 

______________________________________________________

الصفحة 419

 

فإن الملك هو جنسٌ غير مرئي فلا بدّ حينئذ أن ينزل بهيئة بشر، فإذا نزل بصورة بشر لحَدَثَ اللبس والإبهام حيث يسري التشكيك به أيضاً. إذاً في الحالات جميعاً لا سبيل إلى إقناع النفوس المريضة بأيّ دليلٍ حسيّ مما يعني أن المنحرفين حينما يعترضون بأن الرسالة نزلت على بشرٍ مثلهم، إنما يصدرون عن حالة مَرَضية شاذةٍ لا يُجدي معها أيّ علاج في هذا الميدان.

والمهم بعد ذلك، أن نشير من جانبٍ إلى أهمية هذه الصورة الفنية التي قدّمها النص من حيث وظيفتُها في توضيح سلوك المنحرفين، وأن نشير من جانب آخر إلى صلة ذلك بعمارة النص التي بدأتها السورة بالحديث عن سمات المنحرفين من تشكيكٍ وعناد وسخرية (حيث تتكفّل الآيات التي تلي هذه الصورة بالإشارة إلى عنصر السخرية وما يترتب عليها من عقاب) وهو أمرٌ يفصح عن مدى إحكام النص وتلاحم جزئياته.

 

* * *

 

قال تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام: 12 ـ 13].

يتحدّثُ هذا المقطع عن إبداع الله تعالى ومعطياتِه إلاّ أنّ حديثَهُ عن الإبداعِ والمعطياتِ جاء في سياقٍ جديدٍ من الأفكار.. لقد بدأت سورةُ الأنعام بالحديثِ عن: (الحمدُ لله الذي خلق السماواتِ والأرضَ وجَعَلَ الظلماتِ والنور...) [الأنعام: 1]. وها هو المَقطعُ يتحدّثُ عن السماواتِ والأرضِ والليلِ والنهارِ أيضاً إلا أنّه عَرَضَ هذا بَعْدَ أن سَرَدَ لنا جانباً من سلوكٍ المنحرفينَ المشكّكينَ برسالةِ الإسلام.

لا شكّ، أنّ السورة الكريمةَ عندَما تستهلُّ حديثَها بعبارةِ (الحمدُ لله الذي

 

______________________________________________________

الصفحة 420

 

خَلَق السماوات...الخ) إنما يَعْني: أن عبارة (الحمد) سوفَ تعْكِس مدلولاتِها على موضوعاتِ السورة، وها هو المقطعُ الذي نتحدثُ عنه يعرضُ لنا سرَّ (الحمد) بقوله: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل للهِ كتَب على نفسه الرحمةَ ليجمعنّكُم إلى يومِ القيامة..) إذاً، عندما تساءَل النصُّ: لِمَن ما في السماوات والأرض؟ أجاب بأنّها للهِ تعالى وأنّه تعالى كتَب على نَفْسِه الرحمة ليَجمعنّكم إلى يومِ القيامة لا رَيْبَ فيه. هذا يعني أنَّ سرّ مُطالبتِنا بأن (نحمِدَ) الله هو: وجودُ (الرحمة)، وهذه الرحمةُ تتمثّلُ في إمهالِ الناس إلى يومِ القيامةِ حتى يسمَح لهم المجالُ بتعْديل السُلوك عِلْماً بأنّ المقطعَ السابقَ من السورةِ كانَ يتحدًّثُ عن هلاك القرونِ الأولى نتيجةَ تكذيبهم، ولذلك عندما يقولُ النص ـ بالنسبةِ لأمّةِ محمدٍ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ـ بأنّه يجمعهُم إلى يومِ القيامةِ حينئذِ نستخلصُ بأنّ مفهومَ (الرحمةِ) يتبلورُ في هذا الإمهالِ لهم حتى يَتمكّنُوا من تَعديلِ سلوكِهم.

هنا سَلَكَ النّصُ القرآنيُ الكريمُ منحىً فنيّاً حينما رَبَط بين جَمْعِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ وبينَ كونِ يومِ القيامةِ يَوْماً (لا رَيْبَ فيه)، فعبارةُ (لا ريب فيه) سيكونُ لها موقعٌ فنيٌ يعْكِسُ مدلولاتِه أيضاً على الموضوعاتِ اللاحقةِ مِن السورةِ، لأنّ موضوعاتِها لا تتحدّثُ عن مفهوماتِ الشرك فحَسب بل تتحدّثُ عن مفهومِ التشكيك باليومِ الآخِر أيضاً، كما سنرى.

المهم، أنّنا عندَما نتابعُ موضوعاتِ السورة نجدُ أنّها تتلاحَمُ وتترابَطُ وتتنامى بعضاً مع الآخر، فها هي السورةُ تبدأ بمقطعٍ جديدٍ تتساءَلُ فيه: (قل أغيرَ الله اتّخذُ وليّاً فاطِرِ السماواتِ والأرضِ وهو يُطعِمُ ولا يُطْعَم...) [الأنعام: 14]. هذا التساؤلُ يرتبط ـ كما نلحظ ـ بكون الله تعالى فاطر السماوات والأرض حيث يقولُ النص: (كيف أتخذُ غير الله وليّاً ومالِكاً وهو فاطِر السماواتِ والأرض؟)

 

______________________________________________________

الصفحة 421

 

إذاً جاءَ ذِكْرُ السماواتِ والأرضِ في هذا المقطع في سياقٍ جديدٍ، بينمَا جاء في أوّل السورةِ في سياقِ الحمد لله، وجاءَ بعْدَ ذلك في سياق مالكيّتهما لله، وجاءَ الآن في سياقٍ جديدٍ هو: ألاّ يُتّخَذَ غيرُ الله ولياً للإنسانِ بصفتِهِ تعالى فاطِرَ السماواتِ والأرض.

إنّ هذا التلاحُمَ بين موضوعاتِ السورة ينبغي ألاّ نغفلَ عنهُ ونحنُ نتحدّثُ عن عمارةِ السورةِ القرآنيةِ الكريمة وهو أمر لم يقف عندَ هذا الجانبِ بل يتجاوزُهُ إلى مُطلق الموضوعات ومنها مفهومُ (الرحمة) الذي عرضنا له قبل قليل.

لقد قال النصُّ بأنّ الله تعالى: (كتَبَ على نفسِه الرحمةَ لِيَجمَعَنّكُم إلى يومِ القيامة) وها هو المقطعُ الذي نتحدّثُ عنهُ يعرِضُ لمفهومِ (الرحمةِ) أيضاً في يَوْم القيامة لكن بالنسبة إلى نتائج الحساب في اليومِ الآخرِ بينَما كانَ سابِقاًَ يتحدّثُ عَن الرحمةِ بالنّسبةِ إلى تأخيرِ الحِسابِ إلى يَوم القيامة. يقولُ المقطع: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَه...) [الأنعام: 15 ـ 16].

إذاً، جاءَ مفهومُ (الرحمة) في هذا المقطعِ في سياقٍ جديدٍ هو أنّ الله تعالى كما يَغدقُ (الرحمة) من حيثُ تأجيلُ العقابِ إلى يومِ القيامة يَغْدِقُها أيضاً عند ساعةِ الحساب.

وهكذا نجدُ أنّ الموضوعاتِ التي طَرحتها السورةُ تتناسقُ وتتنامى وتتلاحَمُ بعضاً مع الآخر مما يُفصحُ ذاكَ عن مدى إحكامِ عمارةِ السورةِ القرآنية الكريمة، بالنحو الذي لَحِظناهُ.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ

 

______________________________________________________

الصفحة 422

 

بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 17 ـ 20].

هذا المقطعُ امتدادٌ لسابقهِ من المقاطعِ التي تحدّثت عن الوحدانيةِ والشرك. فبعد أن تساءَلَ مقطعٌ سابقٌ (قل أغير الله اتّخذُ وليّاً...) [الأنعام: 14]، نجد في المقطع الذي نتحدّثُ عنهُ الآن جواباً للتساؤل المذكور الجوابُ يقول: (وإن يَمْسَسْكَ الله بضرٍ فلا كاشِفَ لَهُ إلاّ هوَ وإن يَمْسَسْك بخيرٍ فهو على كلِّ شيءٍ قدير). إذاً، اتّخاذُ الله وليّاً يعني أنه تعالى يمتلكُ الفاعليةَ الوحيدةَ في توليةِ الأمور، ومنها: إذا مسَّ اللهُ الإنسان بضرٍ فلا يكشفُهُ إلا هو، وأن يُرده بخيرٍ فهو على كل ذلك قدير، وإذا كان الأمرُ كذلك فحينئذٍ لا سبيل إلى تشريك الغير مع الله تعالى. من هنا انتقل المقطعُ من الحديث عن وحدانية الله إلى الحديث عن سلوكِ المشركين رابطاً بين كونِهِ تعالى واحداً لا شريكَ لهُ وبينَ سلوكِ المنحرفين الذين يُشركون بالله تعالى بادئاً بالحديث عن تشكيكهم أولاً برسالةِ الإسلام ثم بالبراءة من الشّرك (قل إنّما هو إلهٌ واحدٌ وإنني بريء مما تشركون).

هنا ينبغي أن نقف عند سمةٍ فنيّةٍ تتّصلُ بعمارةِ المقطع. لقد بدأ المقطعُ حديثهُ عن سلوكِ المشركين بقوله (قل: أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادة قل الله شهيدٌ بيني وبينكم) ثم ختَمَ المقطعُ حديثَه عن ذلك بالآيةِ التالية (الّذينَ آتيناهُم الكتابَ يَعْرِفُونَهُ كما يَعْرفون أبْناءَهم الذين خسِروا أنفُسَهم فَهم لا يُؤمنون). ترى ما هو الربطُ الفني بينَ المشركين المشككين وبين الكتابيّين الذين يعرِفونَ القرآنَ كما يعرِفُونَ أبناءَهم؟ النّصوصُ المفسرةُ تقول: إنّ المشركين قالوا لمحمّدٍ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ:

 

______________________________________________________

الصفحة 423

 

لا أحدَ يصدّقُك برِسالة الإسلام وإنّ اليهودَ والنصارى سُئلوا عنكَ؟ فقالوا: لا نَعرْفُ شيئاً عنه... لكن بَعِيداً عن أسبابِ النزولِ والنُصوصِ المفسّرة، يمكنُنا ـ من الزاوية الفنيّة ـ أن نَستخلص هذه الحقيقة التي أشارَ المفسرون إليها، ما دامَ المقطعُ بدأ بالحديث عن الشهادة (قل أيُّ شيءٍ أكبرُ شهادةً) (قل اللهُ شهيدٌ بيني وبينكم) حينئذٍ يستخلصُ القارئُ (أو المستمع) أنّ الأمرَ يتّصلُ بطلبِ شهادةٍ على صحّة الرسالةِ أو القُرآن الكريم. وحينَما يُختَمُ المقطعُ بأنّ اليهودَ والنصارى يَعْرِفونَ هذا الأمر، حينئذٍ نستكشفُ يقيناً بأنّ القضيةَ تحومُ على طلبِ شاهدٍ على صحةِ الرسالةِ الإسلامية.

لكنّ، ما يعنينا بعدَ ذلك هو: أن نقفَ على الأسرارِ الفنيةِ لشهادةِ الكتابيّين المتمثلةِ في كونهِم يَعْرِفُونَ نبيّ الله تعالى كما يَعْرفونَ أبناءهم.

فهذا النصُ يتضمّنُ صورةً تشبيهيةً هي: أنّ معرفتهم لمحمّدٍ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تماثلُ معرفتهم لأبْنائهم. وهنا قد يتساءلُ القارئُ (أو المستمع): لماذا جاءَ التشبيهُ بالأبناءِ دونَ سواهم؟

النصوصُ المفسرة تقول: إنّ النعوتَ أو الأوصافَ التي جاءَت عن محمدٍ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في كُتبِ اليهودِ والنصارى من الوضوحِ بمكانٍ كبير. وهذا يَعني أن الكتابيّين على معرفةٍ مفصّلةٍ بذلك... لكن بعيداً عن النُصوصِ المفسّرة أيضاً، يمكنُ أن نستخلصَ هذه الحقيقة ـ وهذا جانبٌ من سماتِ الفنِ المدهش ـ وهي: أن معرفة الإنسانِ لِولدِه (وهي معرفةٌ لا سبيلَ إلى التشكيك بها) تقتادُنا إلى أن نستخلصَ بأنّ الكتابيينَ لديهم من الدلائلِ على صحةِ الرسالةِ أو على صحةِ نُزولِها على محمّدٍ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ما لا سبيلَ إلى التشكيك بها، وأنّ هذه الدلائلَ لا بدّ أن تتمثّل في شيءٍ مسطورٍ في كُتبهم لأنّ معرفةَ أبنائهم (وهي تتم من خلالِ مشاهدتِهم تجريبياً) لا بدّ أن توازنَها معرفةٌ (مكتوبةٌ) من خلالِ الأوصافِ والنُعوتِ.

 

______________________________________________________

الصفحة 424

 

المهم، خارجاً عن هذا التّشبيهِ ودلالتهِ الفنيةِ، ينبغي ألا نغفُلَ عن الموقعِ الهندسي له بالنسبةِ إلى عمارة المقطع، كما ينبغي ألا نغفُل عن الموقع الهندسي لهذا المقطع الذي تحدّث عن مفهوماتِ التوحيد والشرك وصلته بالمقاطع السابقة من حيثُ تلاحُم بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 25 ـ 26].

يتحدثُ هذا المقطع عن شريحةٍ من سلوكِ المنحرفين الذين عاصَرُوا رسالةَ الإسلام، متمثّلة في استماعِهم لآياتِ القرآنِ الكريم وتعليقهم على ذلك بأنّهُ أساطيرُ الأولين.

حيالَ هذا السلوكِ المنحرف يقدّم النصُ القرآنيُ الكريم تركيباً فنيّاً هو الصورةُ التالية: (وجعَلْنا على قلوبهم أكنةً أنْ يفقهوهُ وفي آذانِهم وقراً)، ولهذه الصُورة أهميتُها الفنيةُ بالنسبة للسياق الذي وردَت فيه. وحينما يصوغُ النصُ القرآني استعارة أو تشبيهاً أو رمزاً، إنما يوظّفهُ لإنارة الموقف. فهؤلاء المنحرفون قد تحدّثَ النصُ عنهم سابقاً (منذ بدايةِ السورة) واصِفاً إياهم بجملةٍ من الأعراضِ المَرَضيةِ وفي مقدمتها (المراء) فيقول (ثم أنتم تمترون) ويعني بالمراء المجادلة العقيمة، وها هو النص نفسه يعودُ إلى عرضِ هذه السمةِ المَرَضية بقوله: (حتى إذا جاءُوك يجادلونَكَ يقولُ الذين كفَرُوا إنْ هذا إلاّ أساطيرُ الأوّلين).

إذاً، نحن الآن أمام سمةٍ مرضيةِ، يتقدّمُ النصُ القرآني برسمِها بين الحين والآخر عبر طرحٍ جديدٍ لها وسياقٍ خاصٍ ترد فيه.

 

______________________________________________________

الصفحة 425

 

السياقُ الجديدُ هو عمليةُ (الاستماع) للقرآن. وإذا كانَت معطياتُ الاستماعِ تتمثلُ في ضرورةِ الإفادةِ من القرآنِ، فإن استماعَ المجادَلينَ المنحرفينَ سوفَ لا يقترنُ بمثلِ هذه الإفادة، بل العكس، سوف يظلّونَ عاطلينَ ذهنيا لا يَفْقهون كلامَ الله تعالى. والدليلُ على ذلك هو: تعليقهم ـ بعد استماعِهم له ـ بأنّهُ أساطيرُ الأولين. لذلك نتوقّعُ في هذا السياقِ أو الموقفِ الذي يَصدُرُ عنه هؤلاءِ المرضى، أنْ يتقدّمَ النّصُ القرآني الكريم برسمِ صورةٍ تتناسبُ معَ السياقِ المشار إليه. الصورةُ أو الاستعارةُ هي: إن الله تعالى جعلَ (على قلوبهم أكنةً) أي أغطيةً: (وفي آذانِهم وقراً) أي ثِقْلاً بحيثُ يمنعهُم الغطاءُ الملقى على أفئدتهم، والثقلُ المرمى في آذانهم من أن يُفيدوا من عمليةِ الاستماعِ للقرآن الكريم.

ويُلاحظُ أن النصَ لم يقُل: إنّ في آذانِهم وقراً أو إنَّ على قلوبهم غطاءً ـ كما هو مذكورٌ في نصوصٍ قرآنيةٍ أخرى ـ بل قال بأن الله تعالى جعَلَ غطاءً على قلوبِهم ووقراً في آذانهم.

سرُّ ذلك ـ من حيثُ المنحى الفنّي كما نتصورُه ـ هو إن سياقَ الحديثِ عن هؤلاءِ المنحرفينَ جاءَ من خلالِ عملياتٍ متنوعةٍ من الجدالِ والمماحكة التي تقدّمَ عرضُها في مقاطعَ سابقةٍ مثل قولِهم لو نَزلت الرسالةُ على مَلَكٍ أو قولِهم بأنّهم سألوا اليهودَ والنصارى عن محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولم يعثروا على الإجابة...الخ. حيثُ أن أمثلة هذا السلوك لا بدّ أن تُفْضيَ إلى أن يطبعَ الله تعالى على قلوبهم بحيثُ لا يفقهون شيئاً. وها هم لم يكتفوا بذلك بل نجِدُهم كما وَصَفهمُ القرآنُ بعدَ ذلك في نفسِ المقطع:

(وهم يَنْهَونَ عنهُ وَيَنَأْون عنه...) حيثُ أن نتيجة استماعهم المقرون بعدم التفقّه، قد اقتادَهم إلى أن يبتعدُوا عن الاستماعِ لرسالةٍ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأن يمنعوا الغيرَ من الاستماعِ أيضاً.

 

______________________________________________________

الصفحة 426

 

هنا قبل أن نختم حديثنا عن هذا المقطع، ينبغي ألاّ نغفُلَ عن العنصرِ الإيقاعي للعبارة الأخيرة (وهم يَنْهون عنهُ وينأونَ عنه) حيثُ أضفى عنصرُ (التجانس الصوتي) ونعني به (ينهون، ينأون) جماليةً فائقةً على رسمِ الموقفِ الذي اتّسَم ـ من حيثُ الدلالة ـ بتجانسٍ معنويٍ أيضاً.

كما ينبغي ألاّ نغفُلَ ـ ونحنُ نتحدّثُ أساساً عن عمارةِ السُورةِ القرآنيةِ الكريمة ـ تواشُجَ وتلاحُمَ وتجانُسَ هذا المقطع من حيثُ عناصرُه الصُوريّةُ ـ الاستعارة ـ وعناصرُه الأخرى، ثم تجانسُه مع سائرِ المقاطع السابقةِ بالنحوِ الذي تقدّم الحديثُ عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ولو ترى إذ وُقِفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنّهم لكاذبون * وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين * ولو ترى إذ وُقِفوا على ربّهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربّنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون * وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو وللدارُ الآخرة خير للذين يتّقون أفلا تعقلون) [الأنعام: 27 ـ 32].

النص يتحدّث عن فئتين منحرفتين أو فئةٍ منحرفةٍ ذاتِ موقفينِ من السلوك. الموقِفُ الأول هو: تعليقهُم على القرآنِ بأنّهُ أساطير الأولين. والموقِفُ الآخرُ قولُهُم (إنْ هي إلاّ حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).

إزاء هذين الموقفين ينقُلُ النصُ القرآني الكريم أصحابَ كلٍّ منهما إلى بيئةِ اليوم الآخِر، عارِضاً من خلالِها طبيعةَ الاستجابةِ المتمزّقةِ المتصارِعةِ التي يحياها كلُّ منهما.

 

______________________________________________________

الصفحة 427

 

عرضت أكثر من نموذجٍ من سلوك المنحرفين القائم على المكابَرَة والعناد. وكل أولئك يكشف عن مدى إحكام النص من حيثُ تلاحُمُ وتواشج موضوعاته بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 38 ـ 41].

هذا المقطعُ يتحدثُ عن المنحرفين الذين أشركوا مع الله غيره، وهو موضوعٌ طرحتهُ السورةُ الكريمة منذُ البدايةِ، وواصَلتِ الحديثَ عنه في مقاطعَ متنوّعةٍ، إلا أنّ كل مقطعٍ يُطْرَحُ في سياقٍ جديد.

الجديدُ في هذا المقطع هو: أنّ المشركينَ عندما تواجههم شدةُ من الشدائد يْنسَون شِرْكَهم ويتّجهونَ إلى الله تعالى فيكشفُ الشدائد عمّن يشاء. والمهمّ في هذا الطرحِ هو أنّ عمليةَ الشركِ تظَلُّ مجرّدَ اشباعٍ لنزواتِ المرضى المنحرفين وليست تعبيراً عن الأعماقِ ويقينها بالله تعالى بدليل أنّ المقاطع السابقة من هذه السورة أشارت إلى أنّ هؤلاء يجحدون بآيات الله وليسَ ينكرونها، ثم جاءَ هذا المقطعُ لينمّي عضوياً أو ليفصّل إجمال الحقيقة المشار إليها، أي: اليقينُ بأنّ فاعليةَ الوجودِ لله تعالى فحسَبْ، ولا نصيب للأوثانِ في ذلك، بدليل أنّ الإنسانَ حينما يواجهُ شدة تتصلُ بمصيره مثلاً، حينئذ لا يتّجهُ إلاّ لله تعالى بحيثُ ينسى ظاهرة الشركِ التي تلفع بها في سُلوكه اليومي.

المهم، أنّ النص القرآني الكريم ألمح إلى هذا المظهرِ الفكري الزائفِ

 

______________________________________________________

الصفحة 428

 

(ولو شاءَ الله لَجَمَعهُم على الهدى)، وهذا يعني أنّ الصورةَ الفنية وظّفها النصُ لتقرير الحقيقة الذاهبة إلى أنّ المنحرفين لن يهتدوا أبداً. وتقرير مثل هذِهِ الحقيقة حينما تُستهلُّ بكلامٍ مباشر وتُعزّز بكلامٍ مُصوّر وتُختَم بكلام مباشر إنما يُحكمُ صوغُها بنحوٍ تعمّقُ قناعة المتلقّي بالحقيقة التي يستهدفُ النصُ عرضها في هذا المقطع.

أكثرُ من ذلك، نجد أنَّ النصّ يتقدّمُ إلى صورةٍ فنية جديدة لتعميق الحقيقة المذكورة، وهي الصورة التالية:

(إنما يستجيبُ الذين يسمعون والموتى يبعثُهُم الله ثم إليه يُرجعون)، فمن خلالِ هذه الصورةِ الجديدةِ يعرضُ النصُّ أكثرَ من حقيقةٍ فكرية فأوّلاً يدلّلُ على صحة الذهاب إلى أنّ المنحرفين لا أمَلَ في تعديل سلوكهم، بأنهم (موتى) والميت لا يسمع، ثم يقرّرُ حقيقةً أخرى من خلال منحىً فني غير مباشرٍ هو: أن (الموتى) يُبعثون يوم القيامة فيحاسِبُهم الله على سلوكهم المنحرف.

لنلاحظ (وهذا ما يُدهشُ فنياً) أنّ صورة (والموتى يبعثُهُم الله) تنطوي على أسرارٍ فنيّة في غاية الإمتاع فالموتى ـ من جانبٍ ـ وهو (رمزٌ) لكل حيّ منحرفٍ لا يهتدي وهو ـ من جانبٍ آخر ـ يتداعى بالذهن إلى دلالةٍ أخرى هي: الموتى الذين يُبعثون من قبورهم عند قيام الساعة مع ملاحظَةِ أن المقصودَ منهم هو الدلالةَ الأولى كما يتوضّحُ ذلِكَ لاحقاً فيما نعرِضُ بالتفصيل لهذه الصورة الممتعة. المهم أن نشيرَ إلى أنّ هذه الصورة ختمها النصُ بقوله: (وقالوا لولا نُزّل عليه آية من ربه) فهذا القول يُعدُّ (من زاوية عمارةِ المقطع) تعزيزاً للصورة السابقة (الموتى يبعثهم الله) وتعزيزاً لصورةٍ أسبق هي (النّفق والسّلم) وتعزيزاً لفكرةِ المقطع جميعاً حيث يحومُ على فكرةِ أنّ المنحرفين لا أمل في إصلاحهم، مضافاً إلى أن هذِهِ الفكرة تظلُّ على صلةٍ بالمقاطِعِ السابقة التي

 

______________________________________________________

الصفحة 429

 

هذا المقطعُ يتحدّثُ عن أسلوب التبليغ لرسالةِ الإسلام، وكيفيةِ التعامل مع المنحرفين الذين لا أمَلَ في تعديلِ سلوكهم، فالمنحرفون على إحاطةٍ بحقيقة الأمر إلاّ أنّهُم يجحدون بآيات الله عُلواً واستكباراً وعناداً إشباعاً لنزعاتهم المريضة. هذه الحقائقُ عرَضها المقطع تخفيفاً لهموم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما أحزَنَهُ موقِفُ هؤلاء المنحرفين مُذكّراً إيّاه أنّ رُسُلَ السّماء طالما واجهوا مواقِفَ مماثلةً حتى جاءَ نصرُ الله.

هنا، يتقدَّمُ النص ـ وهذا ما نحاوِلُ ملاحظتَهُ فنيّاً ـ بصياغةِ أكثرَ من صورةٍ فنيّةٍ لتجسيدِ الحقيقةِ المشار إليها.

يقول النص: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).

هذه الصورة (النزولُ إلى أعماقِ الأرض من خلال النّفق، والصعود إلى السّماء من خلال السّلم) تجسّدُ مظهراً حسيّاً للحقيقة التي عَرَضها النّصُ عن المنحرفين وهي: عَدَمُ استعدادِهم لأن يتخلّوا عن الانحراف.

ولو أمعنّا في هذِهِ الصورة لوجدنا أنّها رُكّبت فنيّاً بنحوٍ بالغِ الإثارة... فقد استخدمت طرفين متقابلين أحدُهُما النزولُ عن سطحِ الأرض إلى الأعماق، والآخرُ: الصعودُ من سطحِ الأرض إلى السماء حيث يجسّدُ (النفق) أدنى درجاتِ النزول وحيث تجسّدُ السماءُ أعلى درجاتِ الصعود. هذا التقابُلُ لهُ جماليتُهُ الفائقةُ وإمتاعُهُ المُدهشُ فنيّاً بصفةِ أنّه تجسيدٌ لأقصى ما يُمكِنُ أن نتصوّرهُ حِيال المنحرفينَ الذين لا أملَ البتة في أن يُعدّلوا من سلوكِهم ذات يوم.

إن ما يُلفِتُ النظر (من حيث البناء الهندسي لهذا المقطع) أن النصّ صدّرَ هذه الصورة (صورة النَفَق والسّلم) بكلام مباشرٍ عن عَدَم هدايةِ المنحرفين ثم عزّزهُ بصورةٍ حسيةٍ كما لحظنا، ثم ختمَهُ بكلامٍ مباشر أيضاً هو قوله تعالى:

 

______________________________________________________

الصفحة 430

 

(من قبل) أي: قد اتّضَحَ أمامَهُم ما كان الغُواةُ الذين يرتكنونَ إليهم في طَلَب شهادةِ تأييد يخفونَهُ عليهم وهم يعرفونَ كلّ شيءٍ كما يعرفون أبناءَهُم.

وأمّا الفئةُ التي عَرَضَها النّصُ أمامَ الله تعالى ـ وهي التي كانَت تُنكرُ اليوم الآخر ـ فقد صوّرها متحسّرةً على ما بَدَرَ منها، حيث سُئلت أولاً: (أليس هذا بالحق) أي اليومَ الآخِرَ الذي أنكَرَتْهُ، فتجيب (بلى وربّنا)، ولكن يُقال لها: (فذوقوا العذاب) ثم تهتفُ قائلةً: (يا حسرتنا على ما فرّطْنا فيها) لكنْ لا فائدَةَ لمثلِ هذا التّحسُّرِ بل يظلون ـ كما يقول النص ـ (يحملون أوزارَهُم على ظهورهم).

وأياً كان أمكَنَنا ملاحظةُ أنّ الموقِفَ الذي رَسَمَهُ النص القرآني الكريم عن بيئة المنحرفين يوم القيامة، قد ارتبط عُضوياً بعمارة السورة التي حدّثتنا عن جانبٍ من سلوكِ المنحرفين في الدنيا ثم نَقَلَت ردودَ الفعل التي يَصدرون عنها في مواجهَتهِم اليومَ الآخر من خلال تلاحُمِ كُلٍ من السلوكين الدنيوي والأخروي مما يُفْصِحُ ذلك عن مدى إحكام وجمالية النّص القرآني الكريم من حيث تلاحُمُ موضوعاته بعضاً مع الآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام: 33 ـ 37].

 

______________________________________________________

الصفحة 431

 

الفريق الأول يقول: (يا ليتنا نُردُّ ولا نكذّب بآياتِ ربّنا ونكونَ من المؤمنين)، إلا أنّ النصّ يَرُدّ عليهم قائلاً: (بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل ولو رُدّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون).

الفريق الآخر يقول: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها)، ويعلّقُ النصُ عليهم: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورِهم ألا ساء ما يَزِرون).

يعنينا من هذين الموقفين موقُعهما من عمارة السورة القرآنية من جانب والمنحى الفنيُّ الذي ينطويان عليه من جانب آخر. لقد عَرَض النصُ المنحرفينَ على بيئةِ النار أوّلاً ثم عَرَضهُم أمام الله تعالى.

عندما عَرَضهم على بيئة النار حينئذٍ نتوقّعُ أن تكون ردودُ فعلهم هي الندمَ وتمنّي العودِ إلى الحياة حتى يؤمنوا، إلاّ أن النصّ يوضّح بأنّهم لن يؤمنوا حتى لو عادوا إلى الحياة من جديد.

والواقع أنّ هذا التعليق على سلوكهم يرتَبِطُ هندسياً بعمارة السورة الكريمة حيث سَبَقَ أن عَرَضت لنا سلوكَ المنحرفين القائمَ على نزعةِ الجدال والمخاصمة، لقد قال القرآنُ عنهم في حينه (ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاسٍ فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلا سحرٌ مبين).

إذاً، مَن لا يؤمن حتى في حالةِ التجريب الحسي المتمثّل في مشاهدته كتابَ الله مُنزلاً من السماء لا نتوقع أن يؤمن في حالة عودته إلى الحياة الدنيا من جديد لأنّ القضيةَ لا ترتبط بكونِ المنحرفين غيرَ محيطين بالحقائق بل بكونهم يؤثرون الحياةَ الدنيا من خِلالِ سلوكِهِمُ القائمِ على حُبّ المجادَلَةِ والمخاصمة إشباعاً لحاجات (الذات) المريضة. لقد سبق أن صوّرهم النّصُ ممارسين لأكثر نوعٍ من أنواع المماحكة ومنها: طَلَبُهُم الشهادَة من الآخرين (الكتابيين) على صحةِ رسالة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث لمّحَ النصُ إلى هذا الجانب حينما نَقَلَ وقائعَ الموقِف في اليوم الآخر قائلاً: (بل بدا لَهُم ما كانوا يُخفون)

 

______________________________________________________

الصفحة 432

 

الذي يخلعه الإنسانُ عندَ المواقف الجدّية، ويرتديهِ في حالاته الأخرى: ألمحَ إلى أصحابِ هذا المظهرِ الزائفِ بقوله تعالى: (والذينَ كذّبوا بآياتنا صمٌ وبكمٌ في الظلمات) هذه الصورة الفنية (صمٌ وبكمٌ في الظلمات) تجسّدُ هذا النمطَ من البشرِ الذين يجْحَدون بآياتِ الله في غمرةِ تشبّثِهم بمتاعِ الحياة الدنيا مع قناعَتِهم وُجدانياً بخلافِ ذلك.

لقد وصفَهم النصّ بأنّهم (صُمٌ وبكم) لا يَمْلكُون استعداداً لأنْ يَسمَعُوا صوتَ الحقيقة ولا أنْ ينطِقوا بها بل هم صُمٌّ عن الاستماع إليها بُكمٌ عن النطقِ بها.

وقد أردف النصُّ هذه الصورةَ (صمْ وبكم) بصورة أخرى هي (في الظلمات) صُمّ وبكم في الظلمات.

الظلماتُ هنا ـ كما هو بيّنٌ ـ رمز للجَهْلِ والكُفْر والغَفلةِ وسائرِ السماتِ التي تطبعُ المنعزلين عن مبادئ السماء. ولا أدلّ على أنّ المنحرفين يحيونَ في الظلمات، مِن كَونِهم يَعْرِفُون آياتِ الله ثُم يُنْكرونها انسياقهم مع نزواتهم التي لا تَعْرِفُ إلى الجدية سبيلاً بقدر ما تَلْهَثُ وراءَ ما هو طارئ وعابرٌ وزائفٌ من متاع الحياةِ.

هنا ينبغي ألا نغْفُلَ عن أنّ هذا المقطع الذي يتحدّثُ عنِ المنحرفينَ الذين يُشركُون مع الله غيرَه، قد تخللته آية تُشيرُ إلى أنّه ما مِنْ دابةٍ أو طائرٍ إلا أمم أمثالُ البشر. حيث يمكن أن يتساءل المتلقي (القارئ أو المستمع) عن الموقع الهندسي لهذه الآية بالنسبة إلى عمارة المقطع. في تصوّرنا أنّ تقديرَ أية حقائق علميةٍ أو عبادية ذات خطورة عندما يستهدفُ النصُ توصيلها إلينا، لا بدّ ان تُطرَحَ في سياقِ الفكرة الرئيسةِ حتى يُحَسّسنَا النص بأهميتها. ولذلك فإن طرحَ قضيةِ العضويات غير البشرية (الدواب والطيور) من حيث كونُها (مجتمعات) مماثلةِ للمجتمعِ البشري تأخُذُ مسوّغها الفني في هذا السياق الذي

 

______________________________________________________

الصفحة 433

 

يتحدّثُ عن فاعليةِ الله تعالى وإبداعه.

وأياً كانَ الأمر، فإنّ هذا المقطعَ يظَلُّ امتداداً لمقاطعَ سابقةٍ من السورة تتحدّثُ عن المنحرفين، لكِن من خلالِ طرح جديدٍ لسُلوكهم وهو نسيانهم للشركِ حينما يواجهون الشدائد، حيث يكشف مثلُ هذا الطرحُ عن إحكام النصِ وتلاحُمِ أجزائه بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 42 ـ 45].

هذا المقطعُ يتحدّثُ عن شريحةٍ جديدةٍ من سلوكِ المنحرفين بالنسبة إلى الأمم البائدة.

المقاطِعُ السابقةُ من السورةِ أشارَتْ إلى مصائر الأمم البائدةِ أيضاً لكن في كلِّ مقطع نواجِهُ طَرْحاً جديداً يشُعُّ بنكهةٍ خاصّةٍ مما يُضفي مِثْلُ هذا التنوّعِ حيويّةً وإمتاعاً فكرياً وجمالياً.

الجديدُ في هذا المقطع ليسَ هو المطالبَةَ بأخذِ العظة من مصائرِ الماضينَ الذين كذّبوا رسالاتِ السماءِ فحَسبْ، بلِ الجديدُ هو عَرْضُ تجربتين خَبرتْهُما مجتمعاتُ البائدينَ وهما تجربةُ شدائد الحياة وتجربةٌ مضادةٌ لها هي: نِعمُ الحياة. يقولُ النصُّ عن التجربة الأولى: (فأخذناهم بالبأساء والضرّاءِ لعلّهُم يتضرّعون) ويقول عن التجربةِ المضادةِ لها: (فتحنا عليهم أبواب كُلّ شيء)، أي: أنّ الله تعالى قد اختبر الماضينَ بالشدائدِ أوّلاً لعلّهم يتضرّعون ثم اختبرهم بإغداق النِعَم عليهم لعلّهم يشكُرون إلا أنّهم في الحالتينِ لم يعدّلوا

 

______________________________________________________

الصفحة 434

 

من سُلوكِهم بل مَارسُوا الانحراف، مما تَرَتّبَ على ذلك أن يُقطعَ دابِرُهُم، أي: أبادَهُم الله نتيجةً لسلوكِهِم المنحرف (فقطع دابرُ القوم الذين ظلموا...).

هذا هو مُلَخّصُ التجربتين اللتين خَبَرتهُما مجتمعاتُ الماضين. ويعنينا من هذا أن نقِفَ على الدلالة الفكرية لهاتين التجربتين، وأن نقِفَ على المنحى الفني في صياغةِ ذلك.

أما الدلالةُ الفكريةُ فتتمثل في البدءِ بأنّ تجربةَ الشدّة والنّعيم ليست هَدَفاً في ذاتِه بقدر ما هي وسيلةُ اختبار فحسب وهو أمرٌ يواجهُهُ مطلقُ الآدميين أسوياءَ كانوا أو منحرفين، إلا أنّ النصّ عرضَ هاتين التجربتين وخصّهما بالنسبةِ للمنحرفين فحسب، فعندما عرضهم لتجربة البأساء والضّراء لم يستهدف من ذلكَ ملاحظةَ ما إذا صَبَروا على ذلك أم لا (لأن تجربةَ الصّبر تخصُّ المؤمنين) بل استهدف إمكانيةَ أن يعدّلوا من سلوكهم، أي ـ كما يقول النص ـ (لعلهم يتضرّعون) لأمرِ الله تعالى. لكن لم يفد المنحرفون من هذهِ التجربة بل ـ كما يقول النص ـ: (لكن قست قلوبُهُم وزيَّنَ لهُمُ الشيطانُ ما كانوا يعملون) [الأنعام: 43].

هنا، بعدَ أن قستْ قلوبُ المنحرفين عرّضهم لتجربةٍ جديدةٍ هي: إغداقُ النعيم عليهم (فتحنا عليهم أبوابَ كلِّ شيء).

إلاّ أن هذه التجربة لم تستهدف مجرّد إمكانيةِ تعديلِ السلوك، لأنّ هذهِ إمكانية تخصّ المؤمِن الذي يستجيبُ للنعيم بالشكر بل جاءت ـ مضافاً لما تقدم ـ نوعاً من العقوبة في الواقع. لذلك قال النص: (فلما نسوا ما ذكّروا به فَتَحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتى إذا فرِحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتةً) وهذا يعني أن تجربة النعيم جاءت بمثابة استدراج أو عقوبةٍ لأنّ إغداق النعيم على المنحرف سوف يجعلهُ فرِحاًَ كُلّ الفرحِ به بحيث إذا سُلِبَ منه يواجهُ ردّ فعلٍ مضادٍ للفرح كلّ التضاد وهو أمرٌ ينتهي به إلى الكآبة والتمزّق والألم في أشدّ مستوياتها وهذا

 

______________________________________________________

الصفحة 435

 

ما أوضحه النّص حينما عقّب على فَرحِ المنحرفين بقوله: (حتى إذا فَرِحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلِسون)، أي: يحيَون غاية التحسّر على فقدانِهُم النعيم الذي فرحوا به ذاتَ يوم.

أخيراً لا نغفلُ ـ من حيث المنحى الفني ـ أن النص قد استخدَمَ صورةً استعارية بالنسبة إلى النعيم الذي أغدِقَ على المنحرفين هي: (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) فيما تعني أنّهم قد استمتعوا كلّ الاستمتاع دون أن يحتجزهم شيٌّ عن ذلك، وقد قابلته صورة مضادّةٌ بالنسبة للشدائد وهي: (فأخذناهم بالبأساء والضراء) حيث أنّ البأساء والضرّاء كلّ الشدائد نفسياً وبدنياً ومادياً. هذا التقابُلُ بين مستويي النِعَم والشدة له إثارته الفنية كما هو واضح من حيث التجانس وذلك يفصح عن مدى الإحكام الهندسي للنص...

 

* * *

 

قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام: 46 ـ 50].

في هذا المقطع يطرح النصُ القرآني الكريم معطى جديداً من معطيات الله المتنوعة ألا وهو: البصيرةُ أو وسائلُ الإدراك من قلب وبصرٍ وسمع. هذا المعطى، يطرحُهُ النّص في سياقِ الحديث عن المكذبين أو المشركين أو المشككين برسالة الإسلام بعد أن كانت المقاطعُ السابقةُ من السورة تطرحُ

 

______________________________________________________

الصفحة 436

 

ظواهِرَ مختلفةً في هذا الساق.

الجديدُ في هذا المقطع الذي نتحدّثُ عنه هو: أنّ أهمّ ما يميّزُ الإنسان عن غيرهِ هو قواه الإدراكية في شتّى أدواتِها من سمعٍ وبَصَرٍ وقلب وهذه القوى قد أودعها الله تعالى في تركيبة الإنسان. وإذا كان الأمرُ كذلك حينئذٍ يتساءلُ النصُ قائلاً: (قل: أرأيتُم إنْ أخذَ الله سمعكُم وأبصارَكُم وخَتَم على قلوبكم مَن إله غيرُ الله يأتيكم به؟).

معنى هذا التساؤل أن النص يستهدف ـ وفق منحى فنّي غير مباشر ـ أنْ يلفِتَ نظرَ المشركين مع الله قوى أخرى مثل الأصنام إلى أنّ هذهِ الأصنامَ لا تملِك فاعليةً لِخْلْقِ مثلِ هذه القوى السمع، البصر، القلب.

نفهَمُ هذا من خلالِ نمطِ الصياغةِ الفنية التي طَرَحها النص وهي قوله تعالى: (مَن إلهٌ غيرُ الله يأتيكم به) أي: أنّ الأصنامَ وغيرها لا تملكُ فاعلية العطاء بل الله تعالى فحسب هو الذي مَنَحَ الإنسان تلكمُ القوى الثلاث السمع، البصر، القلب.

ويُلاحظ (من حيثُ عمارةُ المقطع) أنّ النصّ طرَحَ في نهايةِ المقطعَ فكرةً تحومُ على هذِهِ الدّلالةِ ألا وهي تساؤُلُه: (قل هي يستوي الأعمى والبصير) هذا التساؤل ينطوي على أهميةٍ فنيةٍ كبيرة، فأولاً: طَرَحَ معادلَةً بين السمعِ والبصر والفؤادِ بصفتها وسائلَ المعرفة البشرية التي تميّز الإنسان عن غيره وبين (البصير) و(الأعمى)، أي: بَعدَ أنْ ذَكَر بأنّ السّمع والبصر والفؤاد هي معطياتُ المعرفة البشرية قارن بينهما وبين مَن هو عارفٌ مُدركٌ مميّزٌ وبين مَن هو جاهِلٌ للمعرفةِ: (قل هي يستوي الأعمى والبصير).

ثانياً: لقد جاء هذا الطرحُ أو المقارنةُ بين العارفِ والجاهل من خلالِ تركيبٍ صوري هو (الرمز) أو الاستعارة، فـ(الأعمى) هنا رمزٌ للجهل، و(البصير) رمزٌ للمعرفة. ومن المعلوم أنّ الرّمز ـ في لغةِ الفن ـ هو الأداةُ التي

 

______________________________________________________

الصفحة 437

 

تُشحَنُ بإيحاءات ودلالاتٍ متنوّعة، ولذلك عندَما طَرَح النّصُ هذا الرمز من خلال صيغةِ التساؤل (هل يستوي الأعمى والبصير) إنّما نَفَذَ إلى صميم المتلقّي الذي خاطبه بهذه اللغة موضّحاً له كم هو الفارقُ بين العارفِ الذي ملّكهُ الله سمعاً وبصراً وقلباً وبين الفاقِدِ لهذه المعطيات.

ويُلاحظُ أيضاً أنّ النصّ قد استخدَمَ (الصورة) الفنية أيضاً عند عَرْضِهِ لظاهرةِ السمع والبصر والقلب (قل أرأيتُم إن أخذَ الله سمعكم وأبصاركم وخَتَم على قلوبكم). فمِنَ الواضحِ إنّ أخذَ السمع والبصر لا يعني عدم وجودهما البتة بل يعني تعطيلهما عن الفاعلية أي عدم توظيفهما في إدراك الحقائق،... ولذلك نجدُ أنّ النصّ يقول (بالنسبة إلى القلب): (وخَتَمَ على قلوبكم) فالختمُ على القلبِ هو: استعارةٌ وليس كلاماً مباشراً أي أنّه أعارَ سمةَ (الختم) ـ وهي سمةٌ ماديةٌ للقلب ليشيرَ بذلكَ إلى انغلاق القلبِ عن إدراكِ الحقائق وليس إلى انعدامِه من تركيبة الإنسان.

وأياً كان الأمر يعنينا أن نُشير إلى عمارةِ هذا المقطع أولاً من حيث كونهُ قد بدأ بالحديث عن معطيات الله المتمثّلة في منحِ الإنسان سمعاً وبصراً وقلباً وانتهى بالحديثِ عن المعادلة بين البصر الذي يملكُ هذه الأدوات السمع، البصر، الفؤاد وبين الأعمى الفاقد لها، مضافاً إلى أنّ هذا المقطعَ يظلُّ امتداداً لمقاطع سابقة من السورة تحومُ على هذا الموضوع مما يُفصحُ ذلك عن مدى إحكامِ النص وتلاحُم جزئياتِهِ بعضاً مع الآخر، كما لحظنا.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ

 

______________________________________________________

الصفحة 438

 

اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 51 ـ 54].

هذا المقطعُ يتحدّثُ عن جملةٍ من أنماط السّلوك العبادي في غمرةِ الحديث الاستمراري عن المنحرفين وعلاقة الإسلاميين بهم من حيثُ نمطُ السّلوك الذي ينبغي أن يختطّوه في هذا الميدان. يقولُ المقطعُ ثمّة طبقةٌ من الفُقراء الذين آمنوا بالله تعالى، يتّجهون إليه بالغداة والعشي، يُريدون وجهَهُ. هؤلاء الفقراء لم يَرُق للمنحرفين أن يروهُم سباقين في الاستجابة لرسالة الإسلام، كما أنّ بعض المؤمنين حرصاً منهُم على كسبِ أكبرِ عددٍ مُمكنٍ من الناس إلى تقبّلِ الإسلام قد اقتنعوا بأنّ المصلَحَةَ قد تتطلّبُ إبعادَ الفقراء أو العبيدِ الذين سبَقوا أسيادَهُم إلى الإسلام ـ عن واجهةِ المجلِسِ الذي يَفدُ إليه الناس ممّن يحتمل دخولُهُم في الإسلام.

النصُّ القرآني الكريم رَسَمَ توصيتَهُ في هذا الصّدد وهي: أنه ما على الإسلاميين من حساب هؤلاء الفقراء من شيءٍ وما من حسابِهِم على الفقراء من شيء بل أن القضيةَ هي: قضيةُ اختبار البعض من الناس ببعضهم الآخر، اختبار الغني بالفقير، والفقير بالغني حتى يتبيّن المؤمِنُ عن سواه.

لقد تورّمَت ذواتُ المستكبرين وهم مجموعةٌ من المرضى الذين يُعنَون بزخارِف الحياةِ الدنيا من أموالٍ ومواقعَ اجتماعية حتى تساءلوا قائلين عن هؤلاء الفقراء المؤمنين: (أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا). لقد كَبُر عليهم أن يَرَوا الفقراءَ سبّاقين إلى الدّخول في الإسلام فاستيقظتَ في أعماقِهِم نزعاتُ الكِبر والتعالي والسيطرة فهتفوا ساخرين (أهؤلاء منّ الله عليهم)... هنا أجابَهُم النصُّ القرآني قائلاً: (أليس الله بأعلم بالشاكرين).

بعد ذلك طَرَحَ المقطعُ قضيةً جديدةً هي: (وإذا جاءَك الذين يؤمنون

 

______________________________________________________

الصفحة 439

 

بآياتنا فقل: سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسه الرحمة أنّه مَن عَمِلَ منكم سوءً بجهالةٍ ثم تابَ من بعدهِ وأصلحَ فأنّهُ غفورٌ رحيم). هذا الطّرحُ ليس طارئاً على المقطع بل إنه يرتبطُ بالقضية السابقة قضيةِ المؤمنين الذين حَرَصوا على أن يكسبوا أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس للدخول في الإسلام فيما أوضح النّصّ بأنّ مثلَ هذا الحرص لا ينبغي أن يتمّ على حسابِ طردِ الفقراء، أو قضية المؤمنين بعامّة ممّن ألمّ ببعض الذنوب، أو قضية الفقراء الذين اقتُرحَ طردُهُم.

المهمّ أن النصّ يستثمِرُ هذا الجانبَ ليطرحَ ظاهرةً عبادية تتصلُ بالذّنبِ وطريقةِ معالجتِهِ متمثلةً في التوبة من جانبٍ وإصلاح السلوك وتعديلهِ من جانب آخر.

هنا ينبغي ألاّ نغفُلَ عن عمارةِ هذا المقطع وصلتِهِ بعمارةِ السورة الكريمة ما دُمْنا ـ أساساً ـ نُعنى بالبناء الفني للنصّ من حيث صلةُ مقاطِعِه بعضاً مع الآخر. حيث سَبَقَ للنّص أن طرح مفهوم (الرحمة) في أوائل السورة الكريمة وهي قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمةَ ليَجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) [الأنعام: 12]. هناك طرَح النصُ مفهومَ (الرحمة) في سياق الحديثِ عن مطلق المنحرفين من أنّ الله كتَبَ على نفسه الرحمة بأنْ يُمهِلَ الناس إلى يوم القيامةِ بأملِ تعديل سلوكهم، وهنا ـ في المقطع الذي نتحدّثُ عنه ـ طرَحَ النّصُ مفهوم (الرحمة) في سياق الحديث عن مطلق المؤمنين فيما طالبَهم بالتوبة.

إذاً، ينبغي أن نلحَظَ هذا التقابُلَ الهندسي بينَ مفهومِ (الرحمة) التي كتَبها الله على مطلق المنحرفين بأمل تعديل سلوكهم وبين مفهوم الرحمةِ التي كتبها على مطلقِ المؤمنين بأمل التوبة عن ذنوبهم.

وبهذا الرّبط بينَ أوائلِ السورة وأوسطها نتبيّنُ مدى إحكام النص وتلاحم جزئياتهِ بعضاً مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.

 

* * *

 

______________________________________________________

الصفحة 440

 

قال تعالى: (قل إنّي نُهيتُ أن اعبُدَ الذين تَدعونَ من دون الله قل لا أتّبعُ أهواءَكم قد ضَلَلتُ إذاً وما أنا من المهتدين * قل إنّي على بيّنةٍ من ربّي وكذّبتُم به ما عِندي ما تستعجلون به إن الحكمُ إلاّ لله يقصُّ الحق وهو خيرُ الفاصلين * قلْ لو أنّ عندي ما تَستعجلونَ بهِ لقُضيَ الأمر بيْني وبينكُم واللهًُ أعْلمُ بالظّالمين * وَعِندَهُ مفاتُِح الغيب لاَ يَعلَمُها إلاّ هَوَ ويَعلمُ مَا فِي البَرِ والبَحرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن ورقَةٍ إلاّ يَعْلَمُها وَلاَ حَبّةٍ في ظُلُماتِ الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاّ في كتابٍ مبين) [الأنعام: 56 ـ 59].

في هذا المقطع طرحٌ جديدٌ لسلوك المنحرفين عبر تعامُلهم مع رسالة الإسلام. الجديدُ هو استعجالهُم بنزولِ العقابِ الدنيوي الذي لوّح به النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في غمرةِ تذكيرهم بمصائرِ المجتمعاتِ السابقة.

في سياق هذا الطّرح (ونعني به استعجالهمُ العذاب) يطرَحُ المقطعُ قضيةً جديدةً تتّصلُ بمعرفةِ الله المطلقة وهي: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمُها إلا هو...الخ).

وإذاً، نحنُ الآن أمامَ مبنى هندسي خاص في هذا المقطع الذي يواصلُ من جانبٍ عرضَ سلوك المنحرفين ويقدّمُ ـ من جانبٍ آخر ـ حقائقَ عباديةً يستهدفُ توصيلها إلينا.

إنّ طلبَ المنحرفين استعجالَ العذاب يكشفُ عن بُعدٍ جديدٍ من أبعاد سلوكهمُ المَرضيّ، أي: أنّهُ امتداد لنزعةِ التشكيك والتكذيب والعناد التي عرضها النصُ في المقاطع السابقة من السورة، بيد أن المهم بعد ذلك هو: أن النص استثمر هذا الجانب ليقدّم ـ كما قلنا ـ حقيقةً عبادية هي معرفةُ الله المطلقة. فالمنحرفون عندما طلبوا استعجال العذاب أجابَهم النصُ بأنّ الأمر عائدٌ إلى الله تعالى من حيثُ التوقيتُ في نزول العذاب، أي: أنّ معرفة وقتِ العذاب هو من اختصاصِ علم الله تعالى.

 

______________________________________________________

الصفحة 441

 

هنا ـ في هذا السياق الذي ربَطَ وقتَ نزولِ العذاب بعلم الغيب ـ طرَحَ النصُ حقيقة هذا العلم ومستوياته فقال: (وعنده مفاتحُ الغيب لا يعلمُها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقُطُ من ورقةٍ إلاّ يعلمها ولا حَبّةٍ في ظلمات الأرض ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلاّ في كتاب مبين).

هذه الحقيقة تتضمّنُ جملةً من أسرار الفن.

فأوّلاً: انتقلَ النصُ من قضيةٍ (خاصة) هي معرفة الله بوقتِ نزولِ العذاب إلى قضيةٍ (عامةٍ) هي معرفتُهُ بمطلق الغيب (يعلم ما في البر والبحر) (وما تسقُطُ من ورقة ولا حبّة) (ما هو رطبٌ ويابس).

ثانياً طرحت قضيةُ (الغيب) وفقَ لغةِ فنيةِ اعتمدَت عنصرَ (الصورة) من استعارةٍ ورمزٍ.

ثالثاً: طرحت هذهِ القضيةُ وفقَ أسلوبٍ يعتمد عنصر (الانتقاء) لمفرداتِ العلم بالغيب بحيث نلمُّ بما هو محقّقٌ لعنصر الإقناع الفني. فعلمه بما في البر والبحر يشملُ البُعدَ الجغرافي للظواهر، وعلمُهُ بما هو رطبٌ ويابس يشملُ كلّ الأجسام التي يحتويها البُعد الجغرافي المذكورة، وعلمُه بما تسقط من ورقة وحبّة يشمل أدقّ العينات الحسية التي يحتويها هذا البُعد الجغرافي.

إذاً، انتقاءُ هذه العناصر جاء وفق صياغةٍ فنيّة لصور حسيّةً تجسّدُ مفهومَ علم الغيب.

وأما الصورُ التركيبةُ التي قدّمها النصُ في هذا السياق ونعني بها الاستعارة والرّمز في قوله تعالى: (وعنده مفاتِحُ الغيب) وقوله تعالى: (ولا حبّةٍ في ظلمات الأرض) هذهِ الصورة تنطوي على سماتٍ فنيّة قد وُظفت لإنارة الموقف.

لقد استعارَ النصُ لعلمِ الغيب سمةً (المفاتح) أو (المفاتيح) وأهميةُ هذِه

 

______________________________________________________

الصفحة 442

 

الاستعارة هي أنّ (المفتاح) هو الأداةُ التي تفتحُ الأبوابَ للدخول إلى الساحة مما يعني أنّ دخولَ الساحة لا يُتاحُ إلاّ لمن يملكُ المفاتيح وهي بيد الله تعالى فحسب، وليسَ بيد البشر (لنتذكر أنّ المنحرفين طلَبوا استعجال العذاب وأجيبوا بأنّ علمَ ذلك عند الله)، إذاً، جاءت الصورةُ (الاستعارة) موظّفةً لإنارةِ أفكار المقطع كما قلنا.

وهذا ما يتصل بصورةِ المفاتح وأما ما يتصل بصورة الظلمات، فيلاحَظُ أنّ (الظلمات) تشكّل استعارةً أو رمزاً لباطن الأرض. وكان مِن الممكِن أنْ تُصاغَ الصورةُ بشكلٍ مباشرٍ فيقال: (ولا حبةٍ في باطنِ الأرض) لكن قد استُخدمَت صورةُ (الظلمات) بصفتها ترمُزُ إلى ما هو غيرُ متاحٍ للمعرفة البشرية فالكائنُ الآدميُّ لا يمكنُهُ أن يُبصِرَ شيئاً في الظلمات بعكْسِ ما لو كان في باطنِ الأرض حيث يمكنُهُ من خلالِ الحفر مثلاً أن يُبْصِرَ ما في باطن الأرض.

إذاً، جاءت صورةُ (الظلمات) لتجسّدَ اختصاصَ معرفةِ الغيب بالله تعالى فحسب ومن ثمّ جاء عنصر الصورة وغيرُها من العناصر الفنيةِ لترتبطُ عضوياً بعمارةِ المقطع من جانب وعمارة السورة الكريمة من جانب آخر، مما يفصح ذلك عن مدى إحكام النص.

 

* * *

 

قال تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليلِ ويعْلمُ ما جرحْتُم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليُقضي أجلٌ مسمّى ثم إليه مَرجعُكم ثم يُنبّؤُكم بما كنتُم تعملون * وهو القاهر فوق عبادِه ويرسِلُ عليكم حفظةً حتى إذا جاءَ أحدَكم الموتُ توفّته رُسُلُنا وهم لا يفرّطون * ثم رُدُّوا إلى الله مولاهُم الحق ألا لَهُ الحكمُ وهو أسْرَعُ الحاسبين) [الأنعام: 60 ـ 62].

في هذا المقطع نواجه طرحاً لإحدى الظواهر الإبداعية وهي: (النوم واليقظة) رابطاً بينَ هذهِ الظاهرةِ وظاهرةِ اليوم الآخر التي تُشكّلُ أحَدَ محاوِرِ

 

______________________________________________________

الصفحة 443

 

السورةِ الكريمة، حيث تجيءُ قضايا التشكيك والتكذيب عند المنحرفين موضوعاً يُتابعُ النصُ رسْمَ مستوياتِهِ في مقاطِعَ مختلفةٍ لحظناها سابقاً.

المُلاحظ أنّ رَسْمَ ظاهرةِ (النوم واليقظة) جاءَ وفقَ صورةٍ فنيةٍ هي الاستعارةُ أو الرمز. فقد رمَزَ للنوم بقوله تعالى: (وهو الذي يتوفّاكم بالليل) بصفةِ أنّ الوفاةَ هي قبضٌ للروح حيثُ خَلعَها على النّوم من خلال إعارة شيءٍ صفةَ شيء آخر وهو مفهومُ الاستعارة.

هنا، طرَحَ النّصُ قضية الذنوب ثم طرَحَ بعْدَ ذلك ظاهرةَ (اليقظة) مقابِلَ (النوم) وهذا النوعُ من الطرْحِ يتضمّنُ سِرّاً فنّياً من الأهمية بمكانٍ كبير. إنّ النصّ يتحدّثُ عن نوم الإنسانِ ويقظتهِ والقارئ أو المستمعُ يتوقّع أن يحدّثنا النص عن اليقظة مباشرة بعد حديثهِ عن النوم، إلاّ أنّه قطعَ هذا التسلسل ليطرح قضية ذنوب الإنسان في النهار الذي يشكّل زمانَ اليقظةِ مقابل الليل الذي يشكّل زمانَ النوم فقال: (ويعلمُ ما جرحتم بالنهار ثم يبعثُكُم فيه)، تُرى، ما هو السّر الفني وراء ذلك؟.

عندما قال النصّ بأنّ الله تعالى يتوفّى الناس بالليل عقّب على ذلك بأنّهُ تعالى: (يعلم ما جرحتُم بالنهار) محسّساً الناس بهذا التقديم للذنوب مدى رعايةِ الله تعالى من جانبٍ وخطورةَ ما يمارسُهُ الناسُ من ذنوبِ من جانب آخر فالنهارُ هنا رمزٌ لليقظةِ التي يمارسُ الإنسانُ فيها ذنوبهُ أي أنّ النصّ يُريد أن يقول لنا إنّ النهار الذي يحيا الإنسانُ فيه مقابل الليل الذي ينامُ فيه قد استثمره الإنسانُ في ممارسة الذنب وهذا هو أعظم مفارقةٍ للإنسان الذي لم يُقدر نِعَمَ الله عليه في إتاحتِهِ معطيات النوم واليقظة.

بعد ذلكَ، أتّجهَ النصُّ إلى عملية اليقظة (ثم يبعثُكثم فيه)، أي: يبعثُكُم في النهار الذي استثمرتموه في ممارسة الذنب.

إذاً، بدلاً من أن يقول النصُ (ثم يبعثكمُ في النهار) قال: (يعلَمُ ما

 

______________________________________________________

الصفحة 444

 

جرحتم بالنهار ثم يبعثُكُم فيه) أي: قدّم النهار هنا ليجعلهُ مقدّمة تلفتُ نظرنا إلى المفارقات التي تصدُرُ عنّا في النهار.

والمهمُّ بعدَ ذلك أنّ قضيةَ الذنب وظاهرةَ اليقظة في النهار قد صاغهُما النصُ وفق صورةٍ فنية أيضاً، أي: الاستعارة أو الرمز، لقد رمَزَ للذنب بقولهِ: (ويعلمُ ما جرحتم بالنهار) فخلَعَ سمةَ (الاجتراح) على ممارسة الذنب كما خَلَع سمةَ (الانبعاث) على (اليقظةِ في النهار) لأنّ الانبعاث هو سمةُ اليوم الآخر كما هو واضح.

وعندما نُدَقّقُ في هذين الرّمزين نجدُ أنّ الأسرار الفنية هما مثار للدهشة، فالاجتراحُ بالرّغم من كونِه (لُغوياً) هو: الاكتسابُ أو ارتكابُ الذنب، إلاّ أنّ ارتباطهُ بظاهرةِ (الجرح) أكسبَهُ دلالة رمزية، كما أن بعثَ الإنسانِ في النهار أكسب مفهومَ (اليقظة) دلالة رمزية ما دام الانبعاث يستدعي بالذهن إلى الحياة بعد الموت، فإذا قارنّا قوله تعالى بأنه: (يتوفى الإنسان بالليل) بقولِهِ أنه: (يبعث الإنسانَ في النهار) حينئذٍ نُدرك مدى جماليةِ هذه الاستعارة المثيرةِ للانتباه فيما تقرنُ بينَ موتَ الإنسانِ وبعثِهِ في الحياة الدنيا والآخرة وبين نومِهِ ويقظتهِ في الليل والنهار.

بعد ذلك يطرَحُ النصُ قضيةً أخرى هي: (ويُرسلُ عليكم حفظةً حتى إذا جاءَ أحدَكمُ الموتُ توفّتْهُ رُسُلُنا وهم لا يفرطون * ثم رُدّوا إلى الله...).

فبهذا الطرحِ يربط النصُ بوضوح بينَ ممارسة الذّنب وبين (الحفظة) الذين يسجّلون أعمال الإنسان، ثم يربطُ بين النومِ واليقظةِ وبين الموتِ والانبعاث في اليوم الآخر حيث لم يكتف النص برسمِ النومِ واليقظة وممارسة الذنب من خلال الاستعارة، بل أعقبَ (الاستعارة) بكلامٍ مباشرٍ عن الحفظةِ الذين يُحصون الذنوب والرّسلِ الذين يتوفّون الناس، ومن ثمّ انبعاثُهُم في اليوم الآخر، وهو اليومُ الذي تتمُّ فيه محاسبةُ الإنسان.

 

______________________________________________________

الصفحة 445

 

ومن الواضح أن انتهاء المقطعِ إلى قضيةِ اليوم الآخر ومحاسبةِ الإنسانِ فيه يظل مرتبطاً ـ كما أشرنا ـ بمحور السورة الفكري حيث يتناول النص في مختلفِ مقاطعِهِ السابقة سلوك المنحرفين المشكّكين باليوم الآخر. وهذا ما يُفصحُ عن مدى تلاحم مقاطع السورة بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام: 63 ـ 67].

هذا المقطع استمرارُ لمقاطع سابقة تتحدث عن سلوك المنحرفين المشركين.

الجديد في هذا المقطع هو: أن يُذكِّر هؤلاءِ بالشدائد التي يواجهونها حيثُ يدعون الله قائلين: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين)، ويُجيبُهُم النص: (الله ينجّيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون).

في مقطعٍ أسبق قال النصُّ بأنّ المشركين حينما يواجهون شدائدَ الحياة يتّجهون إلى الله وينسون ما يُشركون. هنا يقول النص بأنّ هؤلاء عندما يتّجهون إلى الله وينسَون ما يشركون حيث يدعون وحيث يستجيبُ الله دعاءَهُم، إذا بهم يُشركون من جديد.

إذاً، من حيث عمارةُ السورة جاءَ هذا المقطعُ بمثابةِ نموٍّ عضويٍّ للمقطع الأسبق، أي جاءَ تكملةً له وتطويراً لفكرته. وهذا أحدُ الأسرار المدهشة فنيّاً

 

______________________________________________________

الصفحة 446

 

من حيث عمارةُ السورة الكريمة.

ويُلاحظ (من حيث العنصر الصوري) إن النّص قد اتجه إلى صياغة صورة فنيّة لشدائد الحياة هي الرمز أو (الاستعارة) القائلة: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) فقد أعار أو رَمزَ للبر والبحر سمة (الظلمات) التي ترمزُ إلى التّيه والحيرة وسائرِ المخاوفِ التي تكتنف رحلةَ الإنسانِ في الصحراء والبحر، وأهميةُ هذا الرّمز أو الاستعارة أن (الظلمات) تشملُ كلّ أنواع الشدائد سواء أكانت ناجمةً من عمليةِ غرق في البحر أو افتراس الوحوش للإنسان في الصحراء أو التيه، والحيرة في الرّحلات البرية والبحريّة.

يلاحظُ أيضاً أن عنصرَ الصورةِ يتكثّفُ في هذا المقطع فنواجه صورةً أخرى تتصلُ بالشدائدِ أيضاً حيث هدّدهم النصُ بأنّ الله تعالى: (هو القادِرُ على أن يبعَثَ عليكم عذاياً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلبسكُم شيعاً ويذيقَ بعضكم باسَ بعض). فصورةُ من فوقكم أو من تحت أرجلكم تتضمّنُ عنصراً إيحائياً مُرشّحاً بأكثرَ من دلالة، فقد تعني عذاباً مِثلَ الصيحة والرّياح والحجارة بالنسبة إلى صورة (من فوقكم) وتعني الخسفَ وأمثالهُ (بالنسبة إلى صورة مِن تحت أرجلكم)، وقد تعني تسليط الظالم على المنحرفين بحيث يجسّم الملوكُ والرؤساء صورة (من فوقكم) ويجسّمُ صغارُ الموظفين صورةَ (من تحت أرجلكم).

وهناك صورةٌ فنيةٌ ثالثةٌ هي صورةُ: (أو يلبسَكمُ شيعاً ويُذيقَ بعضكُم بأس بعض) حيث تجسّم مفهومُ الخلط والمزج بحيث يصبحون فِرَقاً متناحرةً تتقاتل فيما بينها.

وهناك صورةٌ فنية رابعةٌ هي: (لكل نبإٍ مستقرٌ) وهذه الصورةُ التي خُتِمَ بها المقطعُ تتضمّنُ التلويح بالنتائج أو المصائرِ التي سينتهي إليها المنحرفون وقد صيغت على نحو (استعارةٍ) تتمثل في خلع سمة مكانيةٍ هي (الاستقرار)

 

______________________________________________________

الصفحة 447

 

على ظاهرة معنويةٍ هي: النبأُ أو الخبر حيث تستهدفُ الصورةُ أن تقول: بأنّ لإخبار الله تعالى بمصائركم وقتاً سوف يأتي لا محالة سوأء أكان ذلك في نطاقِ الحياة الدنيا (كما هو شأنُ المصائر الكسيحة التي انتهى إليها المشركون في معركة بدر مثلاً) أو كان ذلك في نطاق العقاب الأخروي.

المهم، أن هذهِ الصور الفنيّة المختلفة التي تضمّنها هذا المقطعُ قد وظّفت فنيّاً لإنارة الأفكار المطروحة فيه، هي كونُ المنحرفين أو المشركين يدعون الله في الشدائد لكنّهم يشركون بعد انفراجها حيث سيترتّبُ على مثلِ هذا السلوك جزاءٌ دنيويٌ وأخرويٌ سوف يقفونَ عليه في الزمان المحدّدِ لها.

والمهم أيضاً أنّ هذهِ الأفكار ـ كما أشرنا ـ تظلُّ على صلَة بالمقاطع السابقة التي أشارت إلى ظاهرة الشدائد وموقفِ المنحرفين منها حيث كانوا ينسون شركهم بالله ويدعونَهُ وحيث يعودون إلى شركهم بعد إجابة الدعاء، كما أوضح ذلكَ هذا المقطعُ الذي نتحدّث عنه، فيما تفصح هذه جميعاً عن مدى تلاحُم السورة بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [الأنعام: 68 ـ 70].

هذا المقطعُ يتحدّثُ عن نمطِ السلوك الذي ينبغي أن يختطّه الإسلاميون في علاقتهم مع المنحرفين. لقد حددت سورةُ الأنعام أنماطاً متنوعَةً من العلاقةِ

 

______________________________________________________

الصفحة 448

 

بينهما إلاّ أنّ الجديدَ في هذا المقطع هو: كيفية التعامُل مع المنحرفين الذين يخوضون في آيات الله تعالى، أي أولئك الذين يطرحون الأفكار ليس على سبيل النقاش الموضوعي بل من أجل اللّهو والعبث. لقد طالبَ النصُ الإسلاميين بأنْ يُقاطعوا أمثلةَ هذهِ المواقف العبثية (وإذا رأيتَ الذين يَخوضونَ في آياتِنا فأعرِض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره). وأهميةُ هذه المطالبةِ تتمثّلُ في انطوائها على جملةٍ من الدلالات النفسية والفنية. فمن حيثُ الدلالةُ الفنيةُ ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ سورةَ الأنعام استهَلّتِ الحديثَ عن المنحرفينَ بكونِهم مجادلين أو مُمترين (ثم أنتم تمترون) [المائدة: 2] أي أنّهم يثيرون الشبهات غيرَ المُرتكنة إلى المنطق حيثُ قدّمت السورةُ في حينهِ نماذجَ من سلوكِ المنحرفين القائمِ على المُماراة.

وها هو المقطع الذي نتحدّث عنه الآن يُنمي عُضوياً هذهِ الحقيقةَ ليحدّثنا عن كيفية التعامُلِ مع أمثلةِ هذهِ النماذج حيث يطالِبُ بمقاطعَةِ المنحرفين الذين يمارسون هذا النّمط من الكلام العابث.

هناك في المقاطع السابقةِ من السورة كان النصُ يَرُدُّ على العابثين ويدحضُ مقولاتِهم، هنا ـ في المقطعِ الذي نتحدث عنه ـ يُطالبُنا بمقاطعتِهم، فما هو السرُّ في ذلك؟ في تصوّرنا أنّ لكُلّ موقفٍ سياقاً خاصاً، فبعضُ المواقفِ يتطلّب الردّ على المنحرفين وبعضُها يتطلّبُ الإعراض عنهم. والدلالةُ النفسية للإعراض تتمثّلُ في عَدَم تشجيعهم على مثل هذا السلوك وفي عدم إضاعةِ وقتِ المؤمن فضلاً عن أنّ الاستماع إلى العبث يترُكُ ظلمةً في النفس. لذلكَ نجِدُ أنّ النصّ القرآني الكريم أخذ في الاعتبار إمكانية أن ينسى المؤمنُ هذا الجانب فطالبهُ أن ينسحبَ من المشاركةِ حالةَ تذكُّرِهِ ذلك (وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشيطانُ فلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مع القوم الظالمين). وقد عقّب النصُ على مشاركتهم في الجلوس بقوله: (وما على الذين يَتّقُونَ من حسابِهِم من شيءٍ

 

______________________________________________________

الصفحة 449

 

ولكن ذكرى لعلّهم يتّقون) أي: لا حسابَ عليهم من المشاركةِ بقدرِ ما ينبغي عدمُ تشجيعهم على ممارسةِ الباطل لعلّهم يُعدّلون من سلوكِهم إذا أرادوا الإعراضَ عنهم بصفةِ أن الإقبالَ على الاستماع إلى الباطِلِ يشجّعُ أصحابَهُ على ذلك ما دام الذي في قلبِهِ مرضٌ يستهدفُ لفت النّظر إلى ذاتِهِ الكريهةِ في خوضِهِ لأحاديث الباطل.

أخيراً، خَتَمَ المقطعُ كلامَهُ عن هذا الجانب بالتأكيد ثانيةً على ضرورة مقاطعةِ المنحرفين الذين يُعْنون باللّعب واللهو (وَذَر الذين اتّخذوا دينهُم لَعِباً ولهواً وغَرّتْهُمُ الحياةُ الدنيا وذكّر به أنّ تُبْسَلَ نفسٌ بما كسبت). إنّ هذا التحذير ليسَ مجرّد تكرارٍ بقدرٍ ما هو مطالبةٌ جديدةٌ بتحديد العلاقةِ بين الإسلاميين والمنحرفين من حيثُ ضرورةُ مقاطعَتِهم من جانبٍ وضرورة التذكير بالوظيفةِ العباديةِ للإسلاميين من جانبٍ آخر. فالنصُ القرآني الكريمُ انتقلَ ـ فنيّا ـ من الخاصّ إلى العام، انتقل من الحديث عن الخوض في أحاديث الباطل إلى مطلقِ الباطِلِ المتمثل فيمن اتخذوا دينَهُم لهواً ولعباً وغرّتهُمُ الحياةُ الدنيا، حيث طالبَ بتركِ هؤلاءِ المنحرفين كما طالب بأنْ يمارسَ المسلمُ وظيفتُه حيالَهُم في الآن نفسهِ وذلك بتذكيرهم بالمصائر التي سينتهون إليها في حالة استمرارية الانحراف (وذكّر به أن تُبسلَ نفسٌ بما كسبت). أي التذكير بالعذاب الذي ينتظرهم في اليوم الآخر.. وأياً كان فإنَّ هذا المقطع يظل ـ من جانبٍ ـ طرْحاً جديداً لنمط السّلوك الذي ينبغي أنْ يختطّهُ الإسلاميون حيال المنحرفين كما أنّهُ ـ من جانبٍ آخر ـ امتدادٌ لمقاطعَ سابقة تتحدّثُ عن شريحةٍ من سلوك المنحرفين متمثلةٌ في كونِهم يُعنون بالمجادلةِ والمماراةِ من أجل اللعب واللهو حيث طوّر المقطعُ هذا الجانبَ عضوياً كما لحظنا.

 

* * *

 

قال تعالى: (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعُنا ولا يضرّنا ونُرَدُّ على

______________________________________________________

الصفحة 450

 

أعقابِنا بعد إذ هدانا الله كالذي استَهْوتْهُ الشياطينُ في الأرضِ حيران لَهُ أصحابٌ يدعونَهُ إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى الله هو الهُدى وأُمِرْنا لِنُسلِمَ لربِّ العالمين * وأنْ أقيموا الصلاةَ واتّقوه وهو الذي إليه تُحشرون * وهو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق ويومَ يقولُ كن فيكون قولُهُ الحق وله المُلْكُ يوم يُنْفَخُ في الصّور عالِمُ الغيبِ والشهادةِ وهو الحكيمُ الخبيرُ) [الأنعام: 71 ـ 73].

هذا المقطعُ امتدادٌ لمقاطعَ سابقةٍ تتحدّثُ عن سلوكِ المشركين والردّ عليهم. الجديدُ في المقطع هو: الرّدُ على المشركين من خلالِ مناقشتهم لمفهوم الشرك وانسحاب آثارِهِ على الشخصية. ضمن ذلك يطرَحُ النّصُ جملةً من الظواهر التي يستهدفُ توصيلها إلى المتلقّي في سياق الفكرة العامّة للنص منها: إبداعُ السماء والأرض، النفخُ في الصور، الحشر، المُطالبةُ بالصلاة وبالاتّقاء عامة. طبيعياً، ينبغي التذكيرُ بأنّ أهمية الفن هي: أن تُطرَحَ مختلفُ الموضوعات ضِمْنَ كلّ مقطعٍ جديد ثم تُصبُّ في النهاية في الفكرة العامة للنص. ويُلاحظُ أنّ الموضوع العامّ للنص ـ وهو ظاهرةُ الشرك والتشكيك والمجادلةِ وإيثار المتاع الدنيوي فيما تقترنُ جميعاً بظاهرةِ الشرك ـ قد طَرَحهُ النصُ هنا في صياغةٍ جديدةٍ تربطُ بينه وبين مفهوم التوحيد عند الإسلاميين حيث يقومُ النص بعملية مقارنة بين المفهومين (الشرك والتوحيد) وانسحاب كلّ منهما على مصائر الشخوص وذلك من خلال لغةٍ (مصوّرةٍ) أي: لغة قائمة على مفهوم (الصورة الفنية) متمثلةً في صورتي (الرمز) و(التشبيه).

يقول النص: (قل أندعوا من دونِ الله ما لا ينفعُنا ولا يضرّنا ونُردُّ على أعقابنا بَعْدَ إذ هدانا الله كالذي أستهوتْهُ الشياطينُ في الأرض حيرانَ لَهُ أصحابٌ يدعونه إلى الهُدى ائتنا).

الصورة الرمزية هي صورةُ (نُرَدُّ على أعقابنا)، والصورةُ التشبيهيةُ هي صورةُ (كالذي استهوتهُ الشياطين...) أما صورةُ (نُرَدُّ على أعقابنا) فتَرْمُزُ

 

______________________________________________________

الصفحة 451

 

إلى الارتداد عن الدين أو التوحيد حيث أنّ النص ينقلُ لنا كيفية مناقشةِ الإسلاميين للمشركين الذين يجادلونَهُم في توحيدهم أو يطالبونهم بمشاركةِ الرأي في الاتجاهاتِ المنحرفة فيما طالبَ النصُ الإسلاميين بأن يُنكروا ذلك لأنّهُ عودة إلى الوراء، بَعْدَ أنْ هداهُم الله للإيمان حيث أنّ الرّدّ على الأعقاب يُجسّدُ مفهومَ العودةِ إلى الضّلالِ أدقّ تجسيدٍ كما هو واضح.

وأمّا (التشبيه) أي: أنّ التشبيهَ للعودةِ إلى الوراء بمن تستهويه الشياطين وهو حيرانُ مقابلَ كونِهِ ذا أصحابٍ يدعونه إلى الهدى.

هذا التشبيهُ ينطوي على أهمية فنية كبيرة في هذا الميدان. فهو أولاً يوضّحُ ـ بصورة غير مباشرة ـ بأنّ (الشيطان) ـ وليس التفكير المنطقي ـ هو الذي يستهوي الشخصَ ويَدَعُهُ حيرانَ لا يهتدي إلى سبيل الحق، ويوضّحُ ثانياً بأنّ القوى التي تقابِلُ الشيطان وتجاهِدُهُ هي القوى الحقةُ التي تدعو الإنسان إلى سبيل الهدى (له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى (ائتنا)). هنا ينبغي ملاحظة بُعدٍ فنيّ آخر هو هذا الحوارُ القائمُ بين الشّخص وبين الأصحاب الذين يقولون له: (ائتنا) حيث يجسّدُ هذا الحوار طبيعةَ الصّراع الذي يحياه الإنسانُ بين (شياطين) تستهويه وبينَ قوى مضادةٍ تقولُ له: (ائتنا). فصياغةُ هذه الحقيقة من خلال عبارة (ائتنا) تكشفُ بأنّ القوى الخيّرة حريصةٌ كلّ الحِرْصِ على أن تحتضن المؤمنَ حيث تهتفُ قائلة (ائتنا) في حين أنّ الشيطان لا يملِكُ إلاّ أن يستهوي الشّخصَ بطريقٍ أو بآخر. إنه يستهويه فحسب ويَدَعُهُ حيران (كالذي استهوته الشياطينُ في الأرض حيران).

إذاً، جاءت صياغةُ الحوار من خلالِ عبارة (ائتنا) في قوله تعالى: (له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا) ذات دلالةٍ فنيةٍ ونفسيةٍ بالغةِ المدى من حيث المعطياتُ التي تنطوي عليها قوى الإيمان مقابل النزعة الشريرة التي تنطوي عليها قوى الشيطان.

 

______________________________________________________

الصفحة 452

 

المهم، أنّ هذِهِ الصوَر الفنية (الردّ على الأعقاب، استهواء الشياطين، محاورَةَ قوى الإيمان) تظل (من حيثُ عمارةُ السورة القرآنية الكريمة) تظل على صلةٍ بالفكرةِ العامّة للسورة التي تحومُ على إبراز سلوك المنحرفين عِبْرَ مفهوماتِ الشرك والتشكيك والمجادلة وسواها من أنماطِ السلوك المنحرف حيث يحاولُ النص في كلّ مقطعٍ أن يعرِضَ جانباً منها وفق طرحٍ جديدٍ لها مما يُفصِحُ ذلكَ عن مدى تلاحُمِ النص في مختلفِ مقاطِعِه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذ قالَ إبراهيمُ لأبيه آزرَ أتتّخذُ أصناماً آلهةً إنّي أراكَ وقومَكَ في ضَلالٍ مبين * وكذلك نُرِي إبراهِيمَ ملكوتَ السماوات والأرضِ وليَكونَ من الموقنين * فلما جَنَّ عليهِ الليلُ رأى كوكباً قال هذا رّبي فلما أَفَلَ قالَ لا أُحبُّ الآفلين * فلما رأى القمرَ بازغاً قال هذا ربّي فلمَا أفَلَ قال لئنْ لَم يهْدِني رَبّي لأكوننّ من القوم الضالّين * فلما رأى الشمسَ بازغة قال هذا ربّي هذا أكبرُ فلما أَفلَت قالَ يا قومِ إنّي بريء مما تُشْرِكُونَ * إنّي وجّهت وجْهِي للّذي فطَر السماواتِ والأرضَ حنيفاً وما أنا مَنَ المُشركين) [الأنعام: 74 ـ 79].

هذا المقطعُ وما بعدَه من سورةِ الأنعام، ينطوي على عنصرٍ قصصي هو: أقصوصةُ إبراهيم ـ عليه السلام ـ من حيثُ علاقتُه مع أبيهِ وقومهِ المشركين ومن حيثُ نمط شخصيته الفكرية التي حدّدت علاقتها بالله تعالى وبتوحيدِه وفقَ خصوصيةٍ تَميَّزَ بها إبراهيم عليه السلام.

وقبلَ أن نتحدّثَ عن هذه الأقصوصة، ينبغي أن نشير إلى موقعها الهندسي من عمارة السورة، حيث أنّ سورة الأنعام منذُ بدايتها طرحَت قضيةَ الشركِ، واستمرّت في هذا الطرح حتى جاءت هذه الأقصوصةُ لتُوظّف ـ فنيّاً ـ في إنارةِ هذه القضيةِ: قضية الشرك وما يقابلُه من التوحيد.

 

______________________________________________________

الصفحة 453

 

إذاً، من حيثُ عمارةُ السورة جاءَت الأقصوصةُ لتحتلَّ موقعاً مُحكماً من بناءِ السورةِ الكريمة.

وأمّا بناء الأقصوصةِ ذاتها فينطوي بدورِه على أسرارٍ فنيةٍ ينبغي الوقوف عندَها ولو عابراً.

لقد استُهِلّتِ القصة بحوارِ إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ لأبيه (أتتّخذُ أصناماً ألهة انّي أراكَ وقومَك في ضلال مبين) فلماذا انتُخبَ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ دونَ غيرهِ من الأنبياء في هذِهِ الأقصوصة؟

في تصوّرنا الفنّي أنّ لذلك أسراراً، فاسمُ إبراهيمَ يرتبطُ بالحنيفية، وبكونِه خليلَ الله تعالى، وبكونِه مرتبطاًَ ببناءِ الكعبة، وبكونه جدّاً واضحُ الانتساب إليه من قِبَل أكثر الطوائف. وهذا من حيثُ الشخصية.

وأما من حيثُ الارتباطُ بالموقف الذي صيغت الأقصوصة من خلاله ونعني به: طرحَ مفهوم الشركِ والموقفِ التوحيدي حياله، فإنّ ارتباط إبراهيم بأبيه (سواءاً كان هذا الأبُ هو عمّ إبراهيم أو جدّه لأمه) وهو: (آزر) فرضَ فنيّاً انتخاب إبراهيمَ بطَلاً للأقصوصةِ دون غيرهِ، طالما كان (آزر) مشركاً، وكانت السورةُ الكريمة في صدد طرح مفهوم الشرك كما قُلنا. كما أنّ إبراهيمَ قد تَمَيَّز عن غيره بأنّهُ كانَ أمّةً وحدَه حيثُ واجه مجتمعاً مشركاً بأكمله بما في ذلك (آزر) الذي ينتسبَ إليه بأقربِ الروابط، عدا زوجتهِ ولوطِ اللذين آمنا بالله تعالى. حينئذٍ فإنّ انتخابَهُ شخصيةً منفردةً قبالة الشرك، يُجسّدُ دلالةً فنيةً في هذا الصدد ما دام الشركُ ومواجهتُه هو المطروح في فكرة السورة الكريمة. ولعلَ الأهم مَن ذلك كله، أنّ الموقف الفكري لإبراهيمَ وهو ما طرَحتهُ السورةُ ـ كما سنرى ـ من خلال محاورته مع نفسه عندما واجهَ كلاً من الكوكب والقمرِ والشمس وانتهى إلى رفضها حيثُ عقّبَ على ذلك: (إنّي وجّهْتُ وجهيَ للّذي فِطَر السماواتِ والأرضَ حنيفاً وما أنا من المشركينَ) هذا الموقفُ الفكريُ

 

______________________________________________________

الصفحة 454

 

لإبراهيم يجسّد مسوّغا فنياً كبيراً في انتخابهِ بطلاً للأقصوصة ما دامَت الأقصوصةُ ـ كما قلنا ـ قد وُظّفت فنياً لإنارة فكرة السورة الكريمة: فكرة الشرك ومواجهته.

يُضافُ إلى ذلك، أن نمَطَ مواجهةِ إبراهيمَ للشركِ من حيثُ استدلالاتُه المتنوعةُ التي ذُكرت في هذه السورة وفي سورٍ أخرى، هذه الاستدلالاتُ التي أخَذَتْ صيغاً مختلفةً، بعضُها يُأخذُ صيغة الحوارِ مع النفس (أي: الحوار الداخلي)، وبعضُها يأخُذُ صيغةَ الحوارِ مع آزَرَ أبيهِ، وبعضُها الثالثُ يأخُذُ صيغةَ الحوارِ مع قومِه ومجتمعهِ. كل أولئك تشكل مسوّغاتٍ فنيةً لجعل إبراهيم ـ عليه السلام ـ دونَ سواهُ هو البَطَل لهذهِ الأقصوصة، وهو أمرٌ يكشفُ عن مدى خطورة هذه الأسرار الفنية التي اكتنفت صياغة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بطلاً لأقصوصةِ تحفَلُ بأسرار فنية أخرى نقفُ عليها لاحقاً، هذا فضلاً عن الأسرارِ المتصلةِ بعمارة السورةِ الكريمة فيما قُلنا: إنّ فكرتها تقومُ أساساً على طرحِ مفهوم الشرك ومواجهته بمختلف المواقف التي عرَضتْها المقاطعُ السابقة من السورة مما يكشفُ ذلك عن مدى جماليةِ النصِ وصلةِ أجزائه بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 74 ـ 79].

 

______________________________________________________

الصفحة 455

 

لحظنا جانباً من الأسرار الفنية لانتخابِ إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ بطلاً لهذه الأقصوصة. أمّا أحداثُ الأقصوصة ومواقفها ذاتها فتنطوي بدورها على أسرارٍ فنيةٍ ينبغي الوقوف عندها. حيث اتخذت المحاورةُ صياغةً خطابيةً على صوره استفهام أو إنكار، وهو أمرٌ ينسجمُ مع طبيعة الموقفِ المنحرفِ الذي صدَر عنه (آزرُ) ما دامَ قد اتّخذ الأصنام آلهةً له.

ويُلاحظُ أنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ بعد أن أنكر على آزر هذا السلوك، عقّب عليه قائلاً: (إنّي أراك وقومَكَ في ضَلالٍ مبين). من حيثُ الصياغة الفنية لهذا الحوار، نجدُ أوّلاً أنّ عنصر الحوار ساهمَ في الكشف عن ظاهرةٍ خاصةٍ لم يتضمّنها القسمُ الأوّلُ من الحوار وهو تساؤلُ إبراهيم: (أتتخذ أصناماً آلهة؟) بل إن القسمُ الآخر من الحوار وهو قولُه: (أني أراكَ وقَومكَ) كشفَ عن هذه الظاهرة ونعني بها (قوم آزر) أي: أنّ إبراهيمَ استنكرَ من أبيه اتخاذ الأصنام ثم ألحقَ قومَة بأبيهِ في القسم الثاني من الحوار وهو أمر له أهميتُه الفنيةُ من حيثُ الصياغة، أما المسوّغُ الفني لأن يختص القسمُ الأول من الحوار بتوجيهه إلى آزر فحسب فلأن العلاقة المباشرة بين إبراهيم وآزر تسمحُ بمثل هذا التوجيه بينا لا يمكنُ أن يوجّه خطابَه لقومِ آزر كما هو واضحٌ. وأما المسوّغُ الفني لأن يذكُرَ إبراهيمُ قومَ آزر في القسم الآخر من حواره فلأن آزر بعد أن أحيط بحقيقةِ الموقف كان من الطبيعي أن يُلفت نظره إلى أنّ قومَه مشمولون بنفس السمة التي خلعها إبراهيمُ عليهم وهي سمةُ (الضلالِ المبين). هنا نواجهُ سمةً فنية ثالثة في هذا الحوارِ وهو: أن سمة (الضلال) لم يرسمها النصُّ في القسم الأوّل من الحوارِ بل جعلها مشتركةً في القسم الآخر حتّى يتحقّق الاقتصادُ اللغوي.

بعد ذلك اتّجه النصُ إلى رسم حقيقة تتصلُ بسلوك إبراهيم نفسه وليسَ بسلوك أبيه وقومهِ، فقال: (وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السماواتِ والأرض وليكونَ من الموقنين). هذه الآيةُ أو التعقيبُ القصصي على سلوكِ إبراهيم مع

 

______________________________________________________

الصفحة 456

 

أبيه وقومه، تثيرُ أكثر من تساؤلٍ فني. فالمتلقّي قد استكشف من حوارِ إبراهيمَ مع أبيهِ وقومه أن إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ يمتلك بصيرةً خاصة هي: عدم الإيمان بالأصنام، وعدّها نوعاً من الضلال المبين. أمّا ما هي خصائصُ هذه البصيرةِ الفكرية فأمرٌ لا يعرفُ المتلقي عنه أيّ شيء. لكن عندما عقّب النص على ذلك بقوله: (وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السماواتِ والأرضِ ولِيكونَ من الموقنينَ) حينئذٍ بدأ المتلقي يدركُ جانباً من الحقيقة وهو: أنّ الله تعالى أطلَع إبراهيم ـ عليه السلام ـ على ملكوت السماوات والأرضِ مما يعني أنّه ـ عليه السلام ـ يختصُّ بموقعٍ عباديٍ عندَ الله تعالى بحيثُ يطلعُه على ملكوت السماوات والأرض. كما يستكشف المتلقي بأنّ مسحة (اليقين) في الإيمان هي التي طبعت فكرَ إبراهيم ـ عليه السلام ـ (وليكون من الموقنين). فما دامَ إبراهيمُ قد استشرف ملكوت السماوات والأرض حينئذٍ لا بُدّ أنْ يكونَ من الموقنين. بيد أنّ الأهمّ من ذلك هو أنّ عبارة (وليكون من المُوقنين) سوف تحتلُّ موقعاً عضوياً من عمارةِ هذه الأقصوصةِ له أهميتُه الكبيرةُ بالنسبة إلى الأحداث والمواقف اللاحقةِ التي ستكشفُ عنها الأقصوصة، حيثُ أن مواجهته للكوكب والقمر والشمس ومحاورتهُ مع نفسه حيال هذه الظواهر التي استدلّ من خلالها على وحدانية الله تعالى، هذه المواجهة والاستدلال يظلان على صلةٍ فنيةٍ بسمة (اليقين) التي خلعها النص عليه (وليكون من الموقنين)، هذا فضلاً عن أنّ سمة (اليقين) من حيثُ صلتُها بعمارةِ السورةِ الكريمةِ (سورة الأنعام) تظلّ من الوثاقةِ بمكانٍ كبيرٍ ما دامَ النص قد طرحَ قضيةَ (الشرك) وما يقابله من (التوحيد) عصباً فكرياً تحومُ عليه موضوعاتُ السورة، مما يكشفُ ذلك كلُّه عن مدى تلاحُم أجزاء النص بعضه مع الآخر بالنحوِ الذي لحظناه، وبالنحوِ الذي سنلحظُه لاحقاً (إن شاء الله).

 

* * *

 

قال تعالى: (فلما جنَّ عليه الليلُ، رأى كوكباً، قال: هذا ربّي فلّما أَفَل

 

______________________________________________________

الصفحة 457

 

قال لا أُحبُّ الآفلينَ * فلما رأى القمرَ بازِغاً قال هذا ربّي فلما أَفَل قالَ لئنْ لم يهدِني ربّي لأكونَنَّ من القوم الضالّين * فلما رأى الشمس بازغةً قالَ هذا ربّي هذا أكبرُ فلما أفلَت قال يا قوْمِ أنّي بريءٌ مما تُشركونَ * إنّي وجّهتُ وجهي للذّي فطَر السماواتِ والأرضَ حنيفاً وما أنا منَ المشركين).

هذه المحاورةُ التي تنقُلُ لنا حديثَ إبراهيم مع نفسه عند رؤيتهِ لكُلٍ من الكوكب والقمر والشمس، ليس من السّهلِ أن تتحدّد دلالتُها بقدر ما تظلُ خاضعةً لإمكانات وإيحاءات متنوعة. إن النصوص المفسرة تتفاوتُ في تحديد هذه المحاورة فبعضُها يذهَبُ إلى أنّ هذه المحاورةَ تمّتْ في صِغَرِ سنّهِ وبعضُها يذهبُ إلى أنّها تمت في كبَرِ سنّهِ. وفي هذا النّطاق تذهبُ بعضُ النصوص إلى أنّ ذلك تمّ على نحوِ الفرضية ليخرُجَ من الاستدلال إلى يقين علمي، ويذهب البعضُ الآخرُ منها إلى أنّ هذا الاستدلال هو: استفهامٌ إنكاريٌ حذفت أداتُه، ويذهبُ بعضٌ منها إلى أنّه موجّهٌ إلى قومِه على سبيل السخريةِ من عبادتِهم للأوثانِ وللكواكب، كما أنّ هناك من النصوص المفسّرة ما يشيرُ إلى أنّه ـ عليه السلام ـ عندَما انتهى من استدلاله المذكور، عقّب النصُ على ذلك بقولِه: (وكذلك نُري إبراهيمَ ملكُوتَ السماواتِ والأرضِ وليكونَ من الموقنين). إلا أنّ الملاحظَ أن هذه الآيةَ ذكرت قبل هذه المحاورةِ وهو أمرٌ قد لا يَنسجمُ فنياً مع عمارة المقطع، إلا إذا قُلنا بأنَّ هذه الآيةَ تمثّلُ ـ في المفهوم القصصي ـ صياغةَ الموقفِ من خاتمتِه. ثم الارتداد من الخاتمة إلى بداية الموقف.

وأياً كان الأمرُ، فنحنُ نحتمِلُ ـ فنيّاً ـ أن تكونَ هذه المحاورةُ نوعاً من العمليات الذهنيةِ التي طالما يلجأُ الإنسانُ إليها عندما يفكّرُ مع نفسه حيالَ ما يواجهُه من مواقفِ الناس حيثُ يستحضرُ في ذهنهِ استدلالات النّاس ويناقشُها ذهنياً كما لو افترضنا أنّ إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد استحضرَ في ذهنه كيف أنّ الوثنيين قد اتخذوا هذا الوثنَ أو ذاك شريكاً لله تعالى فتساءَلَ مع نفسه عندما رأى

 

______________________________________________________

الصفحة 458

 

الكوكب، هل هذا يملكُ فاعليةَ الحركة والإبداع والإرادة والهيمنة...الخ، فقال لنفسه: لا، لأنه قد أفَلَ. وكذلك عندما شاهَدَ القمر ووجدهُ أكبر حجْماً من الكوكب كرّر نفسَ التساؤل وعقّب عليه بنفس التعقيب، وهكذا بالنسبةِ للشمس التي وجدها أكبَر من القمر أيضاً، فكرّر نفسَ التساؤل ونفسَ الإجابة. ثم عقّبَ على ذلك قائلاً: (إنّي وجهتُ وجهيَ للذي فطَر السماواتِ والأرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين).

ومما يعزّزُ هذه الوجهة من النظرِ التي احتملناها هو تعليقُ إبراهيم على رؤيته للقمر حيث قال: (لئن لم يَهْدِني ربّي لأكونَنَّ من القوم الضالين)، فقوله ـ عليه السلام ـ (لئن لم يهدني ربي) يتنافى مع صحةِ التشكيك، فلو كان معتقداً ـ في لحظة الاستدلال ـ بإمكانيةِ ربوبيّة القمر لما قال: (لئن لم يَهْدِني ربي) وهذا يعني أنّه ـ عليه السلام ـ معتقدٌ كل الاعتقاد بالله تعالى لأنه طلبَ الهدايةَ منه وأنّ رؤيَتَهُ للقمر وتساؤُله عن فاعليةِ هذا القمر إنما كانت مجرّد استحضارٍ ذهني لمناقشةِ أفكار الناس، أي أنّه ـ عليه السلام ـ عندَما شاهد القمر خاطبَ نفسه قائلاً: هل يملِكُ القمر فاعلية الربوبية؟ فأجابَ: كلاّ، لأنّه آفِل. ثم استمرّ مخاطباً نفسه لئن لم يهدِ الله الإنسانَ ليكوننَّ من القوم الضالين.

إذاً، ما احتملناهُ فنياً ينسجمُ ليس مع واقع شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ فحسب بل إنّ النص القصصي نفسه ساعدنا على هذا الاحتمال وذلك من خلال تعليق إبراهيمَ على استدلاله بالقول: (لئنْ لم يهدني ربّي لأكونَنّ من القوم الضالين). وهذا واحدٌ من أسرار الفنّ القرآني المدهش المرتبط بالإحكام الهندسي للقصة القرآنية وللسورة القرآنية الكريمة حيث أنّ أجزاء النّص يُلقي بعضهُ إنارةً على الآخر وحيثُ أن مقدّمة القصةِ نفسها أوضحت بأنّ إبراهيمَ قد قال لآزر: (إنّي أراك وقومَكَ في ضلالٍ مبين) وها هو إبراهيمُ نفسهُ يقولُ في استدلاله (لئن لم يَهْدِني ربّي لأكونَنَّ من القوم الضالين) فعبارةُ (القوم

 

______________________________________________________

الصفحة 459

 

الضالين) هنا تتآزرُ فنياً مع العبارة التي استُهلّت بها قصةُ إبراهيم (أراكَ وقومكَ في ضلالٍ مبين). كلُ أولئك يكشفُ ـ كما قلنا ـ عن مدى تلاحم أجزاءِ النص بعضه مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناهُ.

 

* * *

 

قال تعالى ـ في أقصوصة إبراهيم ـ: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 80 ـ 83].

لقد بدأت أقصوصة إبراهيم بمناقشتهِ أباهُ وقومه على سلوكهم الوثني ثم عرضت الأقصوصة استدلال إبراهيم (في قضية الكوكب والقمر والشمس) على توحيد الله. وها هي الأقصوصة تربط من جديدٍ بين مناقشة إبراهيم السابقة وبين مناقشةٍ جديدة مع قومه، حيث حاجّهُ قومه من خلالِ تخويفهم إيّاهُ من ترْكِ عبادةِ الأصنام، هنا أجابَه إبراهيمُ قائلاً: (وكيفَ أخافُ ما أشركتُم ولا تخافونَ أنّكم أشركتُم بالله). إن هذه المناقشةَ امتدادٌ للسمةِ الفكريةِ التي خلعتها الأقصوصةُ على شخصيةِ إبراهيم، وهي سمةُ (الاستدلال) المنطقي. لقد خوّفوهُ من تركِ عبادةِ الأصنامِ، وهو أمرٌ يُسعفُ إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأن يَرُدَّ عليهم بوضوحٍ بأنّه كيفَ يخافُ من أصنامٍ عديمةِ الفاعليةِ ولا يخافون من الله تعالى؛ هذه المعادلةُ الواضحة أردفها إبراهيم ـ عليه السلام ـ بنتيجة منطقية هي (فأيُّ الفريقَينِ أحقُ بالأَمْنِ)، أي، إذا كان الأمرُ هو توفيرَ (الأمن) للإنسان، حينئذٍ فإنَّ الأمنَ لمتوفّرٌ في الاتجاهِ المؤمن بالله، لكونه يملكُ فاعليةَ التحقيق، وليسَ في

 

______________________________________________________

الصفحة 460

 

الاتجاهِ الوثني الذي يفتقدُ الفاعلية تماماً.

هنا يتدخّلُ النصُ ليعقّب على مناقشةِ إبراهيمَ مع قومه في قضية (أي الفريقين أحق بالأمن) فيقول: (الذين آمنوا ولم يلبِسُوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمنُ وهم مُهتدون). هذا التعقيبُ له أهميتُه الكبيرةُ في ميدانِ الأدبِ القصصي. فما دامَ الحوارُ بين إبراهيمَ وقومه قد ارتكن إلى استدلال منطقي من قِبل إبراهيم ومن ثمَ قد طرح سؤالاً هو: (فأي الفريقين أحق بالأمن) حينئذٍ لا بدّ من إجابةٍ على هذا السؤال، لذلك ـ فإن لغة الفن ـ تتطلّب أن يتدخل النص أو إبراهيم ـ في تقديم الإجابة، وهو ما لحظناه في قوله تعالى ـ تعقيباً على أيّ من الفريقين أحق بالأمن ـ بأنّ الفريق المؤمن بالله تعالى هو الأحق بالأمن (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن). من هنا، يمكننا أن نرجّح ـ من خلال لغة الفن القصصي ـ التفسير الذاهب إلى أن هذا الكلام (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن) هو تعقيبٌ من النص مقابل الاتجاه التفسيري الذاهب إلى أن هذا الكلام هو تعقيب إبراهيم نفسه، حيث أنّ هذا الاتجاه يمكن ترجيحه أيضاً ما دام الأمر يتطلب جواباً لسؤالٍ في غاية الأهمية.

وأيّاً كان الأمر، فإن هذه الإجابة ـ مضافاً إلى الاستدلالات السابقة ـ تشكّل ـ كما قلنا ـ سمة فكرية خلعها النص على إبراهيم عليه السلام، وهذا ما أوضحه النص القرآني نفسُهُ حينما عقّب على مناقشات إبراهيم قائلاً: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجاتٍ من نشاء إن ربك حكيم عليم) أي: أن هذه السمة الاستدلالية قد آتاها الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأنه تعالى يرفع من يشاء من عباده درجاتٍ بالنسبة لأداء الرسالة. لذلك ختم النصُ هذه الأقصوصة بالإشارة إلى آباء إبراهيم وذريته ممّن آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة بدءً من نوح وامتداداً إلى إسحاق، يعقوب، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى،

 

______________________________________________________

الصفحة 461

 

هارون، زكريا، يحيى، عيسى، إلياس، إسماعيل، اليسع، يونس، لوط. معقباً على ذلك بقوله (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) [الأنعام: 88]. ثم ختم الأقصوصة، من خلال الربط الفني بين هؤلاء الشخوص المصطفين وبين محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من حيث أداء الرسالة.

طبيعياً ينبغي ألاّ نغفل عن أهمية مثل هذا الرّبط من جانب وبين العنصُرِ القصصيّ الذي عرَضنا لهُ من جانبٍ، من حيث صلةُ ذلك بعمارة السورةِ القرآنية الكريمة (سورة الأنعام) حيث لحظنا كيف أنّ هذهِ السورة تحومُ فكرتُها على عرْضِ مواقف الشرك والتوحيد وكيف أنّ قِصّة إبراهيم ـ عليه السلام ـ قد وظّفت فنياً لإنارة هذا الجانب، ثم لحظنا كيفيةَ الرّبط بين نهاية الأقصوصة (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وبين محور السورة الكريمة، مما يُفصحُ بوضوحَ عن مدى إحكام النّص وجماليتهِ من حيث تلاحم أجزاء السورة بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (وما قدروا الله حقَّ قدرِه إذ قالوا ما أنْزَل الله على بشَرٍ من شيءٍ قُل من أنْزَلَ الكِتابَ الذي جاءَ به موسى نوراًَ وهدىً للنّاس تجعلونَهُ قراطيس تُبدونَها وتخفونَ كثيراً وعُلِّمتُم ما لم تَعلموا أنتُم ولا آباؤُكم قُلِ الله ثم ذَرْهمُ في خَوْضِهم يلعَبون) [الأنعام: 91].

هذا المقطع يتحدث عن جانبٍ جديد من سلوك المنحرفين، ألا وهو إنكارهم نزول الرسالات على البشر. لقد كانوا قبلاً ـ في سورة الأنعام ـ يُنكرون رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويتهمون الرسالة بالأساطير، ويستعينون بالكتابيين في نكران رسالة الإسلام. أما الآن فينكرون نزول الرسالات على البشر أساساً، وها هو النص يقدّم نموذجاً من الحقائق التي تدمغ أمثلة هذا الادعاء ونعني به

 

______________________________________________________

الصفحة 462

 

قولَهُم: (ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ). ـ يجيب النص هؤلاء بقوله ـ: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى).

هذه الإجابة لها أهميتها الفنية الكبيرة من زوايا متنوعة بخاصة فيما يتصل بالبناء الهندسي للسورة، حيث لحظنا ـ في مقطع أسبق ـ أن هؤلاء المنحرفين (أي: المشركين) ينكرون رسالة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من خلال الركون إلى أقوال الكتابيين في زعمهمُ القائل بأنهم سألوا الكتابيين عن أوصاف محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في كُتُبهم فانكروا ـ أي الكتابيين ـ وجودَ ذكرٍ له صلّى الله عليه وآله وسلّم. وهذا يعني أن المشركين قد أقرّوا بنزول رسالاتٍ سابقة. والآن يُنكرون نزول الرسالات أساساً، أليس هذا الإنكارُ مُضاداً لإقرارهم سابقاً بنزول الرسالات؟ لذلك جاءَ هذا المقطعُ الذي نتحدث عنه الآن، مذكّراً إيّاهم بالحقيقة التالية: (قل مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى). إذاً، هذه الإجابة تدمَغُ المنحرفين وتجعل إنكارَهُم لنزولِ الرسالات أمراً لا قيمةَ له ما دام إنكارُهُم يتناقضُ مع ادعاءاتهم كما هو واضح.

بعد ذلك، يتقدّمُ النصُّ إلى عَرْضِ الأسباب الكامنة وراء ذلك فيقول: (تجعلونه قراطيس تبدونَها وتخفون كثيراً). إن الكتابيين ـ وهم يساهِمون مع المشركين في مناهضتهم لرسالة الإسلام ـ يُظهرون من كُتُبهِم شيئاً ويخفون منها شيئاً آخر، ومما يخفونه هو عدَمُ إبراز الإشارةِ إلى رسالة الإسلام التي بشّرت بها كُتبهم، أو أنهم أبرزوا ذلك، لكنّ المشركين ـ إمعاناً في الإنكار ـ يتجاهلون هذه الحقيقة. وفي الحالين ـ سواءٌ أكان الكتابيون (اليهود منهم بخاصة) هم الذين تُعنيهم هذِهِ الآية أو كان المشركون هم المعنيّين ـ فإنّ إنكارهُم لنزولِ الرسالات أساساً يظل أمراً لا قيمةَ له ما دام متناقضاً مع ادعاءاتهم ذاتِها كما لحظنا.

بعد ذلك عقّب النصُ على هذا النمط من سلوك المنحرفين في قيامهِ على المكابرة والجحود قائلاً: (ثم ذرهم في خوضِهم يلعبون).

 

______________________________________________________

الصفحة 463

 

هذا التعقيب يتضمّنُ بدوره سمةً فنية لها أهميتها في صياغة الموقف، فقد نسبَهم إلى الخوض في الباطلِ واللّعب، مما يعني أنّ ادعاءاتهم تقومُ على مجرّد العنادِ واللعب بالحقائق ومن ثمَ لا قيمة البتةَ لإنكارِهم نزولَ الرسالةِ على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. والآن بَعْدَ أنْ أنهى النصُ المنحرفين من الحساب، اتّجه إلى المؤمنين ليفيدوا من الرسالة التي أنكرها أولئك المنحرفون، يقول النص:

(وهذا كتابٌ أنزلناه، مبارَكٌ مُصَدِّقُ الذي بين يديه وَلِتُنْذِرَ أمّ القرى ومَن حولها والذين يُؤمنون بالآخرة يُؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون).

لا نغفُلُ أنّ النصّ وهو ينتقلُ من الحديث عن المنحرفين إلى المؤمنين قد رَبَطَ بين رسالةِ الإسلام التي أنكَرَها المنحرفون وبين الرسالات السابقة التي لم يتركُ النصُّ مجالاً للمنحرفين بإنكارها، قد ربط بينهما بنحوٍ فنّي غير مباشر عبر قوله تعالى: (مصدِّقُ الذي بينَ يديه) فالتصديقُ هنا هو تركيزٌ وتثبيتٌ للحقيقة التي أنكرها المنحرفون ظاهِراً وأقرّوا بها باطناً. كما ينبغي ألاّ نغفلَ عن حقيقةٍ فنيةٍ أخرى هي أنّ النص قد ختم حديثَهُ عن المؤمنين بقوله: (وهم على صلاتهم يحافظون) فبالرغم من أنّ المقطعَ كان في صدَدِ رَسْمِ حقائق عامّة عن نزول الرسالة حيث طالَبَ الرسولَ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بأن يُنذِرَ أمّ القرى ومَن حولها بالرغم من أنّ هذه المطالبة تنحصرُ في صعيد الإيمان بالرسالة مقابل نكرانها من قبل المنحرفين، بالرّغم من ذلك نجد أن اختتامَ الحديثِ بفقرة (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون). هذه الإشارةُ إلى المحافظةِ على الصلاة في سياق الحديثِ العامّ تعني ـ من الوجهة الفنية ـ أنّ النصّ يستهدِفُ لفتَ نظرنا إلى أهميةِ هذهِ الممارسة كما هو واضح.

أخيراً، ينبغي ألاّ نغفل أيضاً ـ ونحن نُعنى بعمارة السورة الكريمة ـ عن تلاحم هذا المقطع مع الأجزاء السابقة من النص مما يُفضِحُ عن مدى إحكامِ السورة الكريمة بالنحو الذي عرضنا له.

 

______________________________________________________

الصفحة 464

 

قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام: 93 ـ 94].

هذا المقطع (من حيثُ عمارةُ السورة القرآنية الكريمة) امتدادٌ لمقاطعَ سابقةٍ تحومُ عليها فكرةُ السورةِ ونعني بها عرضَ مواقفِ المشركين وما يقابلُها من مواقفِ التوحيد.

الجديدُ في هذا المقطع (وكلُّ مقطعٍ يَطْرَحُ شريحةً جديدةً من السُلوك) هو: الردُّ على المنحرفينَ من خلالِ ذهابهم إلى أنّ محمداً ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قدِ افترى على الله كذباً بالنسبة إلى الوحي، ومن خلالِ ذهابهم إلى أنّ بمقدورِهم أن يأتوا بكلامٍ مماثلٍ للقرآنِ الكريم.

هنا ربطَ النصُّ بين هذه المزاعم وبين المسؤولية المترتبة عليها، من خلال عَرْض أحد المواقف أو الوقائع التي تسبقُ اليوم الآخرَ ألا وهو: الاحتضارُ وما ترافقُه من الأهوالِ والشدائد.

الوقائع هي: (ولو ترى إذ الظالمون في غَمَراتِ الموتِ والملائكةُ باسطُوا أيديهم أَخْرِجُوا أنفُسَكم...). والمُلاحظ ـ فنياً ـ أنّ هذه الصورة تنقُل لنا تعامُل ملائكةِ الموتِ مع المنحرفين من خلال اللغة النفسية التي تضيفُ إلى العذابِ المادّي عذاباً آخر.

فالملائكةُ باسطُوا أيديهم أولاً، وهذا وحدَهُ كافٍ في إرعابِ المنحرفينَ سلَفاً، بخاصةٍ أن بسطَ اليدِ يتزامنُ مع قبضِ الروحِ حيثُ لا يملكُ المنحرفُ أية

 

______________________________________________________

الصفحة 465

 

فاعليةٍ في الدفاعِ عن حياته، أنه مشغول بالنزعَ الأخير، أنه يتحسسُ بخروجِ الروحِ من البدن، أنه لا يملكُ حتى مجرد المصارعةِ مع الموت، أنّه ـ في مثل هذه الحالة الملبّدةِ باليأس والمرارة والتمزّق ـ يشاهدُ ملائكةَ الموتِ وهم يبسُطونَ أيديَهم حيالَه، ثم يقولون له ـ وهذا هو ما يضاعفُ من شدائدِ الحالة ـ يقولونَ له ولأمثالِه: (أخْرِجُوا أنفسَكم اليوم تُجزون عذابَ الهُون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتُم عن آياته تستكبرونَ).

هنا ينبغي ألاّ نغفُلَ عن التقابُلِ الفنّي بين كونِ المنحرفين قد استكبروا عن آياتِ الله في حياتهِم وبينَ ما يُضادُّ هذه الحالة تماماً وهو: الاستسلامُ للموتِ والملائكة باسِطُوا أيديهم حيالهم، كما ينبغي ألاّ نغفُلَ عن هذا الموقف الذي يتزامنُ مع خروجِ الرّوح حيثُ تقولُ الملائكة: (أَخْرِجُوا أنفسكم).

ترى، ماذا تعني هذه العبارة؟

هل المقصودُ منها أنّ الملائكةَ تقولُ للمنحرفين: أَخْرِجُوا أنفُسَكم من العذابِ الذي ينتظركم؟ أم يقولونَ على سبيلِ السخرية أو على سبيلِ اللغة المجازية أو على سبيلِ الواقع (أخرجوا أنفُسكم من هذا الموتِ الذي جاءكم الساعة). أياً كان المقصودُ، فإنّ الهول والشدّة والتمزّق والمرارة تظلُّ هي المتحكمة في مثل هذا الموقف.

 

* * *

 

بعد ذلك، يتّجهُ النصُّ إلى مرحلةٍ ما بعدَ الموت، فيعرضُ إلى شدائد الموقف بعد أن عرضَ شدائد الموت (ولقد جئتمُونا فُرادى كما خلقناكم أول مّرةٍ، وتركتُم ما خوّلناكُم وراء ظُهوركم، وما نرى معكُم شفعاءكم الذينَ زعمتمُ أنّهم فيكم شركاءُ...) لا تغفل أن النصّ يتحدّثُ عن المشركين. وها هو يعرضُ للأصنامِ التي أَشركُوها مع الله وزَعمُوا أنّها تشفعُ لهم، يعرضُها في

 

______________________________________________________

الصفحة 466

 

غمرة هذا الموقف المصحوب بأشدّ الأهوالِ، يعرضُها عبر عمليةِ تذكيرٍ بسلوكِ المنحرفين حيث تركُوا ـ في دُنياهم ـ وراءَ ظهورهم ما ملّكهم الله من أمتعةِ الحياةِ، يعرضُها عبْر لفتِ نظَرهِم إلى الحقيقةِ التي يواجهونَها في الموقفِ وهي قوله تعالى: (لقد تَقطّعَ بينكُم وضَّلَ عنكُم ما كُنتُم تزعمون). أي: قد انقطعت الرابطةُ الزائفةُ التي وصلت بينَ المنحرفينَ وبين أصنامِهم التي أشرَكُوها مع الله، وظهر لهم مدى الضلال الذي تاهُوا فيه.

إذاً، أمكَننا أن نُلاحِظَ مدى الإحكام الهندسي في هذا المقطع الذي وَصلَ بين سلوك المنحرفين في بيئة الدنيا وبينَ المصائر التي ينتهونَ إليها في بيئة الآخرة، بدءً من الموتِ ومُرورا بالموقفِ، أما الجزاءُ ذاتهُ (وهو المرحلةُ الثالثةُ) فتتكفلُ مقاطعُ أخرى بعَرْضِِه.

والمهم هو: ملاحظةُ الخطوط التي أحكم بناؤُها فنياً في هذا المقطع، فضلاً عن تلاحُمهِ مع فكرة السورة الكريمة التي تحومُ على هذا الجانبِ، مما تفصح جميعاً عن مدى تواشُجِ النصِ وتآزر جزئياتِه بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ

 

______________________________________________________

الصفحة 467

 

فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 95 ـ 99].

هذا المقطعُ من سورةِ الأنعام يتحدثُ عن جملةٍ من الظواهِرِ الإبداعيةِ للكون، شقّ الحبَ والنّوى، إخراج الحي من الميت والعكس، شقّ الاصباح، جعلِ الليل سكناً، والشمس والقمر حسبانا، خلْقِ الإنسانِ من نفسٍ واحدة، إنزال المطر...الخ. وتعنينا من هذا الحديثِ عن ظاهرة الإبداع الكوني طريقةُ الصياغة الفنية لها من جانب، وصلتُها بعمارةِ السورةِ الكريمة من جانبٍ آخر.

أمّا المنحى الفني في صياغة هذه الظواهر فيتمثّلُ في مستوياتٍ متنوعةٍ، منها: ربطِ كلّ ظاهرةٍ إبداعيةٍ بنوعٍ خاصٍ من التأمّلِ الفكريّ لها، فمثلاً عقّبَ النصُ على جعلِ النجوم وسيلةً يُهتدى بها من ظُلمات البرّ والبحر، عقّب على ذلك بقوله: (قد فصّلنا الآيات لقومٍ يعلمون) فـ(العلمُ) هنا هو الحصيلةُ التي ينبغي أن نُفيدَ منها، بينما علّق النصُ على ظاهرةِ خلقِ الإنسان من نفسٍ واحدةٍ بقولهِ: (قد فصّلنا الآياتِ لقومٍ يفقهون) فـ(الفقه) هنا هو الحصيلة التي ينبغي أن نفيد منها. وأمّا بالنسبةِ لإنزال المطر فقد علق عليه بقوله: (إن في ذلكم لآيات لقومٍ يُؤمنون)، فالإيمانُ هنا هو الحصيلةُ التي ينبغي أن نفيدَ منها.

إذاً، نحنُ أمامَ ثلاثةِ مصطلحاتٍ متشابهةٍ هي (يعلمون، يفقهون، يؤمنون)، والسؤال هو: إذا كان الهدَفُ من هذه الظواهر الإبداعية هو أخذَ العظةِ منها، فلماذا لم يستخدم النصُ عبارةً واحدة بل استخدَم ثلاثة مصطلحاتٍ كلُ واحدٍ منها يختلفُ عن الآخرِ مع أنّها متماثلة من حيثُ انتسابُها جميعاً إلى التأمّلِ الفكري؟

هناكَ أسرارٌ فنيّةٌ دونَ أدنى شكٍ وراءَ هذا التفاوُتِ بين المصطلحاتِ المتشابهة. فالنجومُ التي جُعلت لكي يُهتدى بها في الظلمات، تتناسب مع عبارةِ (فصّلنا الآيات لقومٍ يعلمون) لأنّ معرفة مواقعِ النجومِ لا تتطلبُ إلاّ

 

______________________________________________________

الصفحة 468

 

(علماً) بمواقعها ولذلك جُعلت دليلاً لقومٍ (يعلمون). أما خلقُ الإنسانِ من نفسٍ واحدةٍ فقد جُعلتْ دليلاً لقومٍ (يفقهون) والفقهُ غيرُ العلم، لأنّ العلم هو مجردُ معرفةِ الشيء. أما (الفقه) فهو درجةٌ أعلى من التأمُّل، إنّه إدراكٌ لفلسفةِ الشيء وإحاطةٌ بأسرارِه وتفصيلاتِه، ولذلكَ ربَطَ النصُّ بين خلقِ الإنسان من نفسٍ واحدةٍ وبين (تفقّهِ) هذا الخلق الذي يتمثلُ في انتسابه لنفسٍ واحدةٍ هي آدمُ، حيثُ أنّ إدراك هذه الحقيقةِ يقتادُ الإنسانَ إلى تأمُّلٍ عميقٍ حيال فلسفةِ خلقِ الإنسان وانتسابه إلى أصلٍ واحدٍ بما يترتّبُ على ذلك من تحقيق لوحدةِ السلوكِ البشري في مختلفِ مجالاتِه.

وأمّا خلق النبات والحبّ والنخل والأعناب والزيتون والرمّان والأثمار...الخ، فقد ربطها النص بنمط آخر من المعرفة هي (الإيمان) ولم يربطها بالعلم أو الفقه. وسرّ ذلك، أن هذا التنوعَ في الخلقِ: إنزال المطرِ من السحاب، إخراج النبات بواسطته، إخراجَ الحبِ من النبات، إخراجَ الرُطبِ من النخْل، إخراجَ الزيتونِ والرمان، ابتداءً من خروجها إلى ثمرها، كل ذلك من خلال كونِ الثمر متشابهاً وغير متشابه لا بدّ أن يقتاد الشخص إلى (الإيمان) بالقدرةِ الإبداعية لله تعالى. ولذلك ربطَ النصّ بين تأمُّلِ هذه الظواهر وبينَ (الإيمان) فجعلها آية (لقوم يؤمنون) بينما جعلَ معرفةَ النجومِ آية (لقوم يعلمون) وجعلَ إدراكنا للنفس الواحدةِ آيةٌ (لقومٍ يفقهون).

أما صلةُ هذا المقطعِ بعمارةِ السورة الكريمة التي تتحدثُ عن سلوكِ المشركين، فتتّضح تماماً حينما يعقّبُ النصُ على ما تقدّم بقوله: (وجَعلُوا لله شُركاءَ الجنّ وخَلَقَهُم وخَرقُوا له بنينَ وبنات بغير علمٍ سبحانه وتعالى عمّا يصفون * بَديعُ السماواتِ والأرض أنّى يكونُ له ولدٌ ولم تكُن له صاحبةٌ وخلَقَ كُلَّ شيءٍ وهو بكلِّ شيءٍ عليم) [الأنعام: 100 ـ 101].

واضح أن النصّ ربطَ بين قوله (وخلَقَ كلّ شيء) حيث يشيرُ الخلقُ إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 469

 

صلته بخلقِ الحبِ والنوى والإصباح والليلِ والنباتِ كما لحظنا ـ وبين سلوكِ المشركين حيث طرح نَمطاً آخرِ من سلوكِهمُ المشرك هو: جَعْلهُم الجنّ شركاءَ لهُ وجعلهُم البنت والابن.

إذن، أمكننا ملاحظةُ هذا المبنى الهندسي الذي وصَلَ بين أقسام السورة الكريمة، مما يُفْصِحُ عن مَدى إحكام النص وتلاحُمِ مقاطِعه بعضاً مع الآخر بالنحو الذي تقدَّمَ الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ * وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 102 ـ 108].

هذا المقطع من السورة امتداد لسابقها من المقاطع التي تعرض لنا سلوك المشركين. الجديد في هذا المقطع هو: المطالبة بالإعراض عن المشركين وعدم سبّهم. بينما كانت المقاطع السابقة تناقش وترد عليهم، كما أن المقاطع اللاحقة تطرح الموضوع ذاته، مما يعني أن لكل مقامٍ سياقه الخاص، أي: أن بعض المواقف تتطلب الردّ وبعضها يتطلب الإعراض وبعضها يتطلب السكوت، وهكذا.

في المقطع الذي نتحدث عنه يعلّل النص سبب المطالبة بالإعراض عن المنحرفين وهو: (لو شاء الله ما أشركوا، وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت

 

______________________________________________________

الصفحة 470

 

عليهم بوكيل)، فمهمة الشخصية الإسلامية هي: إيصال أو إبلاغ الرسالة، أمّا الاستجابة لها أو عدم ذلك فأمرٌ يعود على الناس أنفسهم، ما دام الهدف هو: اختبارهم، وإلاّ (لو شاء الله ما أشركوا) كما يقول النص.

والأمر نفسه بالنسبة إلى سبّ المنحرفين أو أصنامهم، حيث أن السبّ لا يغيّر من واقعهم شيئاً بل العكس يقتادهم إلى أن يسبّوا الله تعالى.

هنا يقدّم النص (وهذا منحى فنيّ في صياغة الموضوع) دليلاً عملياً على عدم جدوى مناقشتهم وسبّهم فيقول: (وأقسموا بالله جَهْدَ أيْمانِهِم لَئِنْ جاءتْهُم آيةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بها قل إنّما الآياتُ عند الله...) [الأنعام: 109]. ثم يعقّب النص قائلاً: (ونُقَلِبُّ أفئِدَتَهُم وأَبْصارَهُم كما لم يُؤْمِنُوا به أوّلَ مرّةٍ ونَذَرُهُم في طُغيانِهِم يعمهون * ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهُم الموتى وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيءٍ قُبُلاً ما كانوا لِيُؤْمنوا...) [الأنعام: 110 ـ 111].

فالملاحظ هنا أن النص قدّم دليلاً فنيّاً في غاية الإقناع من حيث عدم جدوى مناقشة المشركين وسبّهم. فالمشركون أقسموا بأنه لو جاءهم دليلٌ حسيّ بالنسبة إلى رسالة الإسلام لآمنوا، لكن لنلاحظ كيف أن النص عقّب على هذا الادعاء بأنه: (ولو أننا نزّلْنا إليهُم الملائكةَ وكلّمهم الموتى وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيءٍ قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا). إذاً (من حيث المنحى الفنيّ لهذه الصياغة) تكفّل النص بالردّ على ادعائهم القائل بأنه لو نزلت آية أو دليل حسيّ لآمنوا، ردّ عليهم بأنه لو نزلت الملائكة لما آمنوا، ولو كلّمهم الموتى الذين عاينوا حقيقة الأمر وبعثهم الله أحياء وشهدوا برسالة الإسلام لما آمنوا، بل ولو جمع لهم كل الدلائل الحسية مباشرةً أي من خلال المواجهة والمعاينة لما آمنوا أيضاً.

إذاً، أدركنا السرّ الفني الكامن وراء المطالبة بالإعراض عن المشركين، لأنّ احتمال تعديلهم لسلوكهم المنحرف أمرٌ ممتنع للسبب المشار إليه.

 

______________________________________________________

الصفحة 471

 

هنا يتقدم النص (وفق منحى فنيّ آخر) بتجربة سالفة للأنبياء معزّزاً بذلك سببيّة المطالبة بالإعراض عن المشركين. يقول النص: (وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً شياطينَ الإنسِ والجنِ يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُرُوراً ولو شاء ربُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُم وما يفترون * ولِتصْغى إليه أفئدةُ الذينَ لا يؤمنونَ بالآخرةِ ولِيرْضَوهُ وليَقْترِفُوا ما هم مُقْتَرِفُون) [الأنعام: 112 ـ 113]. إن تعقيب النص على هذه الحقيقة بقوله تعالى (فذرهم وما يفترون) هو امتداد أو نموّ عضويّ للأفكار السابقة المطروحة في النص، أيّ أن عبارة (فذرهم وما يفترون) هو إنما نمو لقوله سابقاً (واعرض عن المشركين) حيث نجد أن النص قطع مرحلة من الاستدلال على سببية المطالبة بالإعراض عن المشركين، ثم ختم ذلك بنفس المطالبة بأن يعرض عنهم.

ولا نغفل، إن النص قدم خلال ذلك صورة فنية استعارية هي: (ونقلبُ أفئدَتَهُم وأبصارَهُم كما لم يؤمنوا به أوّلَ مرة) وذلك تعقيباً على مطالبة المشركين بنزول آية جديدة حتى يؤمنوا برسالة الإسلام. حيث جاءت صورة (تقليب أفئدتهم وأبصارهم) (رمزاً) للحيرة والشك والاضطراب الذي يكابدون منه، بحيث لو جاءت الآية الجديدة التي زعموا أنهم سيؤمنون بها لكانت النتيجة هي عدم الإيمان أيضاً (كما لم يؤمنوا به أوّل مرةٍ). إذاً، جاءت الصورة الرمزية أو الاستعارية موظفةً فنياً لإنارة الأفكار التي طرحها النص وهي: المطالبة بالإعراض عن المشركين بسبب أنهم لن يؤمنوا برسالة الإسلام حتى لو واجهوا مختلف الأدلة الحسية المباشرة، كما لحظنا. والمهم، بعد ذلك، أن النص ـ وهو في صدد تقرير هذه الحقيقة ـ قد أحكم بناء المقاطع وأنماها عضوياً ووظّفها لإنارة هذه الحقيقة، مما يفصح ذلك عن مدى جمالية النص وتلاحم مقاطعه بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

______________________________________________________

الصفحة 472

 

قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 114 ـ 117].

هذا المقطع امتدادٌ لسابقه من المقاطع التي تتحدّث عن سلوك المنحرفين (المشركين)، حيث طالب النصُ القرآنيُ الكريمُ بالإعراض عنهم. هنا يؤكد المقطعُ هذه المطالبةَ من جديد، لكن من خلال تبيين الآثار المترتبة على عدم الإعراض (وإن تُطعْ أكثرَ مَنْ في الأرضِ يضلُّوكَ عن سبيلِ الله إن يتّبِعونَ إلاَّ الظّنَّ وإن هُم إلاّ يخرصون). هذا التحذيرُ ينطوي على وظيفة فنيةٍ بالنسبةِ إلى عمارة السورة الكريمة، فقد أكد النّص قبل ذلك بأنّ حُكْمَ الله هو الحاسِمُ في كلِ شيءٍ وأكد بأنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك حق العلم وحينئذٍ فإنّ ما عداهُ من أقوال هؤلاءِ المنحرفين لا يتجاوزُ كونه ظناً أو تخميناً في الأحكام.

والسؤال: ما هيَ هذه الأحكامُ المطبوعةُ بسمةِ الظن والخرص؟ لقد أبهمها النصُ كما هو ملاحظ، والقارئ قد يقف منها حائراً في إدراكه لهذا الجانب، إلا أنّنا من خلال لغةِ الفن المُدهش سرعان ما نكتشف السرّ في ذلك عندما نُواجهُ مقطعاً جديداً يتحدّثُ عن موضوعٍ جديدٍ هو قوله تعالى: (فَكُلوا ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليهِ إنْ كُنتم بآياتِه مؤمنينَ * وما لَكُم ألاّ تأكلوا ممّا ذُكِرَ اسمُ الله عليهِ وقد فصّل لكم ما حرّم عليكمُ إلاّ ما اضطُرِرتُم إليه وإنّ كثيراً ليُضلونَ بأهوائهم بغيرِ علمٍ...) [الأنعام: 118 ـ 119].

لنلاحظ بدقةٍ هذه المنحى الفني المُدهش في صياغة هذه الموضوعات. فالنصّ قد انتقل من حديثه عن المشركين إلى الحديثِ عن الذبائح، أي:

 

______________________________________________________

الصفحة 473

 

الأحكام المتصلة بتذكية الحيوان المعدّ لحمُه للأكل. ونحنُ نعرفُ أن أيّ نصٍ أدبي خطيرٍ عندما يستهدفُ لفت أنظارنا إلى قضيةٍ مهمّةٍ، فإنّه يعرضُ هذه القضيةَ ضمنَ حديثهِ عن قضيةٍ أخرى، بحيثُ يقطعُ سلسلة الموضوع السابق ويعرضُ القضية الجديدة حتى تتركز في الأذهان، وهذا ما سلكَهُ المقطعُ الذي نتحدث عنه عندما عرضَ لنا أهم قضيةٍ تتصلُ بطعام الإنسان، من حيثُ أثرُ الطعام في تزكية النفس وعدمها، عرضها في سياق حديثه عن المشركين وضرورة عدم الالتفات إلى أقوالهم التي وصفها بأنّها تُضل عن سبيلِ الله وأنها مجرّد ظن، ومجردُ خرص (إن يتّبعون إلاّ الظن وإنْ هم إلاّ يَخْرصُون). كلّ ذلك أدركناهُ حينما عقب النصُ على قوله: (فكُلوا مما ذُكِر اسمُ الله عليه...الخ) عقّب عليه بقوله: (وإنّ كَثيراً لِيُضلُّونَ بأهوائهم بغَير عِلْم) إذاً، هذا التعقيبُ حينما نربطهُ بكلامٍ سابق على الحديث عن الذبائح وهو قولُه: (إن يتّبعُونَ إلا الظّن...الخ)، أقول: حينَ نربطُ بينَ هذا كلّه، حينئذٍ نستكشفُ مدى الأهمية الفنية المدهشة لهذا النمط من صياغة التعبير.

والآن لنتابع المقطع:

(ولا تَأَكُلوا مما لم يُذكَر اسمُ اللهِ عليهِ وإنّه لفسقٌ وإنّ الشياطينَ ليُوحونَ إلى أوليائهم ليُجادلوكُم وإن أطَعتمُوهم إنّكم لمشركون) [الأنعام: 121].

أرأيت كيفَ أنّ النصَ قطع سلسلة حديثه عن المشركين عندما أدخلَ قضية التسمية بالنسبة إلى الذبائح، ثم كيف عادَ إلى حديثه عنِ المشركينَ عندَما قال في هذا المقطع: (وإنّ الشياطينَ ليُوحُونَ إلى أوليائهم لِيجادِلُوكُم وإنْ أطَعْتُموهم إنّكم لَمُشرِكون) حيث ربطَ الإطاعة لمن جادَلوا المسلمين في قضية الذبائح ربطها بالشرك، وبها الربط أعادَ النصّ سلسلة حديثهِ عن المشركين.

وأياً كان الأمر، فإنّ أهمية هذا المقطعِ (موضوعياً) ـ بعد أن لحظنا أهميته فنيّاً ـ هو ما تضمّنهُ من التأكيد على قضية (التسمية) في الذبائح، حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 474

 

تذكُر نصوصُ التفسير أنّ المشركين كانوا يجادلون الإسلاميينَ في تحليلهم للحيوان المذكّى دونَ الحيوانِ الميّت وأن الأخير هو ممّن قتله الله، والأولُ ممّن قتلهُ الناسُ، وإنّ ما قتلهُ الله أولى بالأكلِ ممن قتلهُ الناس.

هذا النمط من مجادلة المشركين القائمة على الظن والخَرْص إنْ هو إلاّ من وحي الشياطين لأتباعِهم (كما يقولُ النص) وأن المهم هو: اتّباعُ حكم الله المتمثل في عدم تناول الطعام غير المذكى بالتسمية (اسم الله تعالى) إلا ما اضطرّ الإنسانُ إليه... وكما قلنا ـ فإنّ أهميةَ مثل هذا التأكيد على الطعام المذكى ـ ترتبط بانعكاساته على النفس من حيثُ تزكيتها، مما يفسّرُ لنا السرّ الفني أيضاً من خلال عرض هذا الموضوع الطارئ في سياق الحديث عن سلوك المشركين، وهو أمرٌ يُفصح ـ مضافاً لما تقدم ـ عن مدى إحكام النص من حيثُ ترابطُ وتلاحمُ موضوعاته بعضاً مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (أو مَنْ كانَ ميْتاً فأحْييناهُ وجَعلنا له نُوراً يَمشي به في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظَلُماتِ ليسَ بخارجٍ منها كذلكَ زُيّنَ للكافرينَ ما كانوا يعملون * وكذلك جعلنا في كلِ قريةٍ أكابِرَ مُجرميها لِيَمْكُروا فيها وما يَمكُرونَ إلاّ بأنفُسِهم وما يَشْعُرون) [الأنعام: 122 ـ 123].

هذا المقطعُ الجديد من سورة الأنعام يتضمّنُ تركيباً صُورياً من أشدّ الصور القرآنية إثارةً ودهشةً وجمالاً. أنه يتضمنُ أكثرَ من رمزٍ وتشبيهٍ تمّت صياغتُها وفقَ تركيبٍ خاصٍ لا يقفُ عند مجرّد الصورة المفردة التي يتألّفُ من طرفين بل يتمُّ ذلك وفق الصورة المركبة التي تتداخلُ أو تزْدوجُ صورُها الجزئيةُ بنحوٍ بالغِ الإثارة.

ولنقرأ من جديد: (أوَ من كان مَيْتاً فأحَيْينَاهُ وجَعلنا لَهُ نوراً يَمشي به في الناسِ). هذا هو القسمُ الأول من الصورة الامتدادية الضخمةِ التي نتحدثُ

 

______________________________________________________

الصفحة 475

 

عنها. (فالميتُ) هنا هو رمزٌ للكفر أو الضلال، (والإحياء) رمزٌ للإيمان أو الهداية، وكأنّ المقطعَ يقول: (إنّ من كان ضالاً فهديناه).

ثم ماذا؟ (وجَعْلنا له نوراً يمشي به في الناسِ). وهذه صورةٌ فنيّةٌ أخرى تعتمدُ (الرمزُ) أيضاً، (فالنور) رمزٌ للإيمان والهداية أيضاً. لكن إذا كان (الإحياءُ) هو الهدايةَ و(النور) هو الهدايةُ أيضاً فلماذا يتخالفُ الرمزان؟ هنا تكمُن خطورةُ الفنِ القرآني الكريم في صياغةِ أمثلةِ هذه الصور.

ولكي تتضحَ معالِمُ هذه الصورِ بشكلٍ أكثرَ جلاءً، يحسن بنَا أنْ نترجم القسم الأول منها إلى اللغة المباشرةِ أي اللغة الإخبارية بدلاً من اللغة المصوّرة. هل أن النص يريد أن يقول: أفَمَن كان ضالاً فهديناهُ وجعَلنا لهُ من الهدايةِ نُوراً يمشي به في الناس كمَن في الظلماتِ ليسَ بخارجٍ منها ؟؟ لكن، لا يزالُ هذا الكلامُ يعتمدُ الرمز أيضاً لأنّ (النور) هو (رمزٌ) وليسَ شيئاً مادياً، كما أنّ الظلمات هي رمزٌ للكفر والضّلال وليست شيئاً مادياً وهذا يعني أنّ محاولتنا بأن نترجم الرموزَ إلى كلامٍ مباشرٍ تظلُ غيرَ كافيةٍ، فلا بدّ من أن نقدّم ترجمةً أخرى، فنقول:

هل أنّ النص يريدُ أن يقول: أفمن كان ضالاً فهديناه، وجعلناهُ ذا بصيرةٍ في سلوكه كمن هو يعيشُ ضالاً لا إمكان لأن يهتدي ذات يوم؟ يبدو أن النصَ يستهدف هذه الحقيقة. لكن، دعنا نتابع استكشاف السرّ الكامن وراء تقرير هذه الحقيقة. لقد كان بإمكان النص أن يكتفي بالقول: أفمن كان مهتدياً كمن كان ضالاً فيكتفي من ذلك بأن يرمز له بالقول: أفمن كان حيّاً كمن هو في الظلمات؟ أو أفمن جعلنا له نوراً كمن هو في الظلمات؟ أقول: كان بإمكان النص أن يكتفي بهذا المستوى من الرَمْزِ لأنّه يحققُ الهدفَ المطلوبَ في هذه المقارنةِ، إلا أنّ النص ـ في الواقع ـ لا يستهدفُ هذا المستوى من الرمز بقدر ما يستهدِفُ تقرير حقيقةٍ بالغة الأهمية بالنسبة للإيمان والهداية من الله تعالى

 

______________________________________________________

الصفحة 476

 

بحيثُ يستكشفُ خطورةَ وأهميةَ العطاءِ الكبير الذي يغدقُه الله تعالى على الإنسانِ عندما يهديه إلى الإيمان.

هذه الحقيقة، أي خطورة النعمةِ أو العطاء الذي ينثُره الله تعالى على عبدهِ. لابدّ أن نلتمسَ لها ـ من حيثُ الصياغةُ الفنيةُ ـ مستوىً خاصاً من التركيب الصوري الذي يجمعُ بين الرموز والتشبيهات من جانب، وأن يُداخلَ ويزاوج بينها بشكلٍ يتناسبُ مع خطورة هذه النعمة، نعمةِ الهدايةِ من جانبٍ آخر. لذلك، اتّجه إلى أنْ يقارن أولاً بين الحيّ والميت، بين المهتدي والضال (أو من كانَ ميتاً فأَحْييناهُ) ثم اتّجَه إلى جعل المقارنة بينهما (ليس على تقرير ما هو كائن فعلاً أي أنّ هناك حيّاً وإنّ هناك ميتاً) بل على تقرير ما قد كان سابقاً ميتاً ثم أُحيي بعد الموت، ومن الواضح أن النعمةَ تكونُ أكثر ضخامةً في حالة إعادة ميت إلى الحياة من النعمة التي تشملُ الحيّ. إذاً قوله تعالى (أوَمنْ كان ميتاً فأحييناهُ) ينطوي على سرٍّ خاصٍ في التعبير عن خطورةِ نعمةِ الإيمان والهداية. يبقى بعد ذلك، أن نستكشفَ الأسرار الكامنة وراءَ الرموزِ الأخرى التي تضمّنتها هذه الصورةُ الفنيّة.

لكن قبلَ أن نتابعَ هذا الاستكشافَ لا بدّ من التذكير بأنّ هذه الصورة الفنية جاءَت في سياق الحديث عن المشركين الذين وصفَهم مقطعٌ أسبقُ بأنّهم (يُضِلّونَ بأهوائِهم بغَيرِ علم) (وإن الشياطينَ ليوحونَ إلى أوليائهم) بالمجادلة، مما يعني أن هذه الصورة الفنية وظفّت عضويا لإنارة الحقيقة المتصلة بسلوك المشركين مقابل سلوك المؤمنين الذين طالبَهم النصُ بعدم إطاعة المشركين، حيث يكشف هذا التوظيفُ الفنيّ عن مدى تلاحم مقاطع النص بعضها مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

إنّ صورةَ (أوَمَنْ كان مَيْتاً فأَحْييناهُ...الخ) يمكنُ تفكيكُها إلى ثلاثِ

 

______________________________________________________

الصفحة 477

 

صورة جزئية: صورة (الميت الذي أُحيي) وصورةُ (النور الذي يَمْشي به) وصورةُ (الظلمات التي لا مَخْرَج للكافرِ منها). أما الصورةُ الأولى فقد تحدّثنا عنها، قلنا: إنّ أهميتها تتمثّلُ في كونها (رمزاً) للتائهِ الذي اهتدى إلى الإيمان. وأما صورةُ (وجَعلنا له نُوراًَ يمشي به في الناس) فتنطوي على أسرارٍ فنيةٍ مدهشةٍ أيضاً. فالمُلاحظ أن (الميت) إذا كان رمزاً للتائه و(الحي) رمزاً للمهتدي، فإنّ جعلَ النورِ للمُهتدي يظلُ (رمزاً) بدوره ولكنّه ذو دلالةٍ أخرى بالرّغم من أنّ كليهما (أي: الإحياء والنور) رمزان للهداية، بيد أنّ النص القرآني الكريم جعلَ رمزَ (النور) مرشّحاً بأكثرَ من دلالةٍ، منها: أنّ الشخص الذي يحييه الله تعالى (من خلال الهداية) يظلُّ إحياؤه مجرَد نفثِ الحياة فيه بعد أن كان ميتاً. وأما (النُور) فهو المبادئ والمفرداتُ التي تحدّدُ له معالمَ الهداية، وحينئذٍ يُصبح رمزْ (النور) غيرَ رمز (الإحياء) متمثلاً في مبادئ القرآن الذي تحومُ عليه السورة الكريمة في عرضها لسلوك المشركين المكذّبين للقرآن. ومنها: أنّ (النور) هو (الإحياءُ) نفسُه، لكن بما أنّ فائدة الإحياء هي جعلُ الشخصية متحركةً حينئذٍ فإن الرمزَ المناسب للحركةِ هو (النُور) الذي يضيءُ لها معالِمَ الطريق. والمهم، أن استخدام رمزين لدلالةٍ واحدةٍ أو لدلالةٍ متفرعة عن أخرى: يُعدُّ (من الزاوية الفنية) صياغةً صورية متميّزةً لها إثارتُها وعمقُها المتناسبان مع ضخامة النعم التي ينثُرها الله تعالى على الشخصية حينما ينْقُلها من التّيه، من الموت، إلى الهداية، إلى الحياة.

وهذا فيما يتصلُ بالقسمين الأوّلين من الصورةِ الاستمرارية المشارِ إليها. أما القسمُ الأخيرُ منها، أي: القسمْ الذي يقارنُ بين الميت الذي أُحيي وجُعِلَ له النورُ، وبين من هو في الظلمات، أي صورة (كمن مثله في الظلماتِ ليس بخارجٍ منها). هذه الصورة بدورها تنطوي على أسرار فنيةٍ مدهشةٍ. فبالرُغم من أنّ الصورة بمجموعها ملأى بعنصرِ الرمز (الميت، الإحياء، النور) ثم رمز (الظلمات) الذي يشيرُ إلى (الكفر)، بالرُغم من قيامِ هذه الصورةِ الاستمرارية

 

______________________________________________________

الصفحة 478

 

على عنصرِ (الرمز) فإنّ هذه الصورة قد اعتمدت (التشبيه) في عمليةِ المقارنة بين رموز الهداية ورموز الضلال، متمثلاً في عبارةِ (كمَن مثلُه).

ولا يخفى أنّ من يمتلكُ حِسّاً بلاغياً يُدركُ مدى جماليةِ وطرافةِ مثلِ هذه الصياغاتِ القائمة على التزاوج بين (الرمز) و(التشبيه) في تجسيد الدلالة، فالمألوف في تجارب الفن أن يُستخدم إمّا الرمزُ أو التشبيهُ أو الاستعارةُ أو غيرُها من أدواتِ التركيبِ الصُوري، أمّا أن تُستخدمَ أداتان من خلالِ توكّؤ إحداهما على الأُخرى فأمرٌ مثيرٌ للدّهشة الفنيةِ دُونَ أدنى شكّ، وهذا ما نلحظهُ في أدوات (الرموز) الأربعة (الميت، الإحياء، النور، الظلمات) التي توكّأت على أداة (التشبيه) (كمَن مثلُهُ في الظُلمات). يضافُ لذلك، أنّ أداة (التشبيه) قد استخدمت أيضاً من خلال مفردتين توكّأت إحداهما على الأخرى أيضاً ألـ(ك) و(مَثَل) (كمَنْ مثلُهُ)، أي أن (ك) تمثّلُ أداة تشبيهِ و(مثَل) تمثلُ أداة تشبيهٍ أخرى، وقد استخدمها النص في دلالةٍ واحدةٍ هي (الظلمات) معمّقاً بهذا الاستخدام مدى الضلال والتيه الذي يحياهُ الكافرُ مقابل مدى الهداية التي يحياها المؤمنُ. وأيّاً كان، يعنينا أنْ نُشيرَ من جانبٍ إلى مدى الأهمية الفنية لصورِ الإحياء والنور والموت والظلام في تعميق الدلالة، وأن نُشيرَ من جانبٍ آخر إلى موقعها من عمارة السورة القرآنيةِ الكريمةِ (سورة الأنعام)، حيثُ تحومُ فكرتُها ـ كما هو واضحُ ـ على عَرْض سُلوكِ المنحرفين وما يقابلُه من سلوكِ المؤمنين، وحيثُ جاءت الصور أو الرموزُ المشارُ إليها موظفةً فنياً لإنارة هذا المحور الفكري للسورة الكريمة، مما يُفصحُ ذلك عن مدى إحكامِ وجماليةِ النصِ من حيثُ تلاحُم مقاطعِ بعضاً مع الآخرِ.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ

 

______________________________________________________

الصفحة 479

 

شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ * فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 124 ـ 125].

هذا المقطع من سورة الأنعام يكشف عن شريحة جديدة من سلوك المنحرفين (المشركين). إن السورة الكريمة تقدّم في كلّ مقطعٍ جانباً من الانحرافات أو الدعاوى أو التخرّصات التي يهذي بها هؤلاء المعاندون لرسالة الإسلام، وها هم الآن يقولون لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسلُ الله.

ترى، هل أنّ الإيمان وعدمه مرتبطٌ بمكاسب ذاتية أم بقناعة من الداخل بحقيقة الرسالة؟ يبدو أن الحسد ـ والمنحرفون عصرئذٍ مشدودون لنعرات قبليّة ـ هو الذي يتحكّم في دوافع السلوك لدى المنحرفين. والنص بهذا الكشف عن دوافع السلوك يقدّم فضيحة جديدة من سمات المنعزلين عن مبادئ السماء موضحاً ـ بطريقة فنية ـ كيف أن المنحرف ـ كافراً كان أو مشركاً أو منافقاً أو فاسقاً ـ يتحرك من موقع ذاتي (مَرَضي) في رفضه لرسالات الله تعالى.

والمهم، أن النص يردّ أمثلة هذه الادعاءات بدليل منطقي هو أن الله تعالى: (أعلم: حيث يجعل رسالته). ثم يلوّح بالجزاء الذي سيلحق أمثلة هذه النماذج المكابرة، يقول النص: (سَيُصيبُ الذينَ أجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ الله وعذابٌ شديدٌ) لنلاحظ كيف أن النص رسمَ الجزاء متناسباً مع نمط الجريمة، فدوافع الجريمة ـ كما قلنا ـ نبعت من نظرة ذاتية مشدودة إلى التعصّب القبليّ وهو تعصب مقرون بالكبر والمشاعر العرقية، ولذلك رسم الجزاء بما يقابل التكبّر والعزة بالإثم وهو الذل والهوان، فقال: (سيصيب الذين أجرموا صغارٌ) والصَغار هو (الذل) كما هو واضح، أي أنّ هؤلاء الذين صدروا عن التكبّر في رفضهم لرسالة الإسلام سيصيبهم ذل في الآخرة.

 

______________________________________________________

الصفحة 480

 

بعد ذلك، يتقدّم النص بتركيب فنيّ هو: صورة (فَمَن يُرِد الله أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلامِ، ومَن يُرِدْ أنْ يُضلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كأنّما يَصَّعَّدُ في السّماء..).

هذه الصورة تتضمن تقريراً وتشبيهاً فنياً وظّفه النص لإنارة الموضوع الذي نتحدث عنه. فالنص يريد أن يقول ـ وفق لغة الفن غير المباشرة ـ أن هؤلاء المنحرفين لا أمل في تعديل سلوكهم ما داموا قد انطلقوا في ممارساتهم من دوافع مرَضية مثل التعصّب، لذلك ختم الله على أفئدتهم وحَجَزهم عن إدراك الخير والمعرفة على العكس من المؤمنين الذين ساندتهم السماء في التعرّف على مسالك الخير والمعرفة.

هذه الحقيقة صاغها النص من خلال الصورة الفنية التي تقابل بين مَن يريد الله أن يهديه (فيشرح صدره للإسلام) وبين من يريد أن يضلّه (فيجعل صدره ضيقاً حَرَجاً كأنما يصعّد في السماء).

هذه الصورة الفنية تنطوي على أسرار علمية ونفسية بالغة الإثارة والدهشة مما تتطلّب الوقوف عندها. لكن قبل أن نتحدث عن هذه الصورة ينبغي ألاّ نغفل عن أن إرادة الله تعالى في هدي الشخص السوي إلى الإيمان وجعل صدره منشرحاً في تقبّل الإسلام مقابل إرادته في إضلال الشواذ وجعل صدورهم ضيقة عن تقبّل الإسلام، هذه الإرادة ينبغي ألاّ نفصلها عن الحقيقة الذاهبة إلى أن الهدي والإضلال هما نتيجة للسلوك الذي يختاره الشخص بملء إرادته خيراً كان أم شراً، بحيث أن معرفة الله سلفاً بسلوك الأشخاص تجعل قضية الهدي والإضلال مترتبة على السلوك المشار إليه، وقد سبق للنص أن أشار في هذه السورة إلى أن المنحرفين لو نزلت الملائكة عليهم، ولو لمسوا الكتاب في قرطاس، ولو كلّمهم الموتى، ولو حشر الله لهم كل شيء معاينةً لما آمنوا، مما يعني أن إضلال الله لأمثلة هؤلاء ناجم عن عدم استعدادهم لأن

 

______________________________________________________

الصفحة 481

 

يذعنوا للحقيقة، عناداً ومكابرة وهو أمر يشير النص إليه في نهاية هذه الصورة الفنية. كما أنّ هذه الظاهرة تظل مرتبطةً ـ كما هو واضح ـ بما طرحه النص في المقاطع السابقة من السورة الكريمة، مما يُفصح عن إحكام عمارة النص وتلاحم جزئياته بعضاً مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

إنّ هذه الصورةُ الفنيةُ تنطوي على جملةٍ من الأسرار الجمالية المدهشة. فهي تمتازُ أولاً بغموض فني يهبُها مزيداً من الإثارة، بصفة أنّ الصورة الناجحة هي التي تتعدّدُ إيحاءاتها بحيثُ يستجيبُ لها كلُ قارئٍ بحسب خبرته، وهي ثانياً تتضمّنُ عنصر (التقابل) بين متضادّين (يشرحُ صدرَه ـ يجعل صدْرَهُ ضيّقاً حرَجاً)، ثم مضافاً إلى التشبيه (كأنّما يصعّدُ في السماء) ـ تتضمن تشبيهاً آخرَ أو تعليقاًَ أو لنقُل (تشبيهاً تعليقياً) هو قولُه تعالى: (كذلك يَجْعَلُ الله الرجسَ على الذينَ لا يُؤمنون).

من زاويةٍ فنيةٍ أخرى، تُشكّلُ هذه الصورةُ الاستمرارية (أي التي تتألّفُ من عدة صورٍ جزئيةٍ) ثلاث صورٍ يتداخلُ بعضُها مع الآخر على نحوٍ منطقي من حيثُ السببُ والنتيجةُ. ولنقف عندَ كلٍّ منها: أما الصورةُ الأولى فهي: (فمن يُرِد الله أن يَهْدِيَهُ يَشْرَح صدرَه للإسلام) فتجسّدُ استعارةً تخلعُ على الصدر سمة (الانشراح النفسي) من تقبّل الإسلام، وهذه الاستعارةُ تلخص كلّ معطيات الإسلام في كلماتٍ قليلة مصوّرةٍ بصفةِ أنّ الإسلام هو الصياغةُ التي اختارَها الله تعالى للإنسان، وهو تعالى خيرٌ محض.

وأما الصورةُ الثانيةُ: (ومَن يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حرجاً كأنما يصّعّد في السماء) فتجسّدُ واحدةً من الصورِ المُذهلةِ في القرآنِ الكريم، أنها تحتشدُ بقيمٍ فنيّةٍ يعجزُ الباحثُ عن الإفصاحِ عنها، فهي تتضمّن استعارة وتشبيهاً على نحوٍ مزدوج، الاستعارةُ هي ضيقُ الصدرِ، والتشبيه هو كأنما يصعّد إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 482

 

السماء، أي أن (التشبيه) قد وظّف لتوضيح (الاستعارة)، وبكلمة بديلة: الصورة تُوظّف لصورة أخرى لا أن الصورة توظف من أجل العبارة التقريرية. والأهم من ذلك كله، أن تشبيه ضيق الصدر بـ(يصعّد في السماء) يظل من أشدّ تشبيهات القرآن الكريم إثارة واندهاشاً وإيحاءً. فالتصعّد نحو السماء قد يقترن بأسباب فيزيائية تتصل بطبقات الجو العليا مما تُسبّب خللاً في عملية التنفس، فيضيق الصدر تبعاً لذلك (كما أشار إلى ذلك بعض المعنيّين بشؤون التفسير العلمي لنصوص القرآن الكريم)، وقد يقترن التصعّد نحو السماء بأسباب نفسية (كما أشار إلى ذلك قدماء المفسرين)، أي: أن ضيق الصدر أو الحرج إنما هو سمة نفسية نابعة من انغلاق الخير أو الحكمة أو الاطمئنان، كما لو أُرغِمَ شخص على أن يصعد إلى الأعلى حيث يكلّفه ذلك إرهاقاً ومشقة. هذا إلى أن المفسّرين قدّموا جملة من الاستخلاصات والاستيحاءات التي رشحت بهذه الصورة المذهلة، خبراتهم المتنوعة.

وفي تصوّرنا أن الاستحياءات جميعاً تظل موضع التقبّل ما دامت الصورة المعجزة هي التي ترشح بأكثر من إيحاء كما قلنا. والمهم أن المنحرف (وهذا من أوضح الحقائق في اللغة النفسية) يحيا توتراتٍ وتمزقاتٍ داخلية نابعة من طبيعة الخلل الذي يصيب جهازه الفكري، وهو جهاز قد فطره الله تعالى على التوحيد، وحينما يشكك الشخص في هذا الجانب، لا بدّ أن يكشف ذلك عن الخلل في جهازه الفطري المذكور، مما يقتاده إلى التمزق والتوتّر بالضرورة، هو ما ألمح النص إليه في صورة ضيق الصدر، الحرج، التصعّد إلى السماء.

وأمّا الصورة الثالثة (وكذلك يجعل الله الرجسَ على الذين لا يؤمنون) فتشكل ـ كما قلنا ـ تعليقاً على الصورة الثانية، أي: أنها (تشبّه) حالة مَن أضلّه الله بحالة مَن ختمَ على فؤاده (والرجس هنا: يعني انغلاق الخير كما نحتمل فنياً، مما نخلص من ذلك إلى أن النص يستهدف في نهاية المطاف تأكيد

 

______________________________________________________

الصفحة 483

 

الحقيقة التي أشرنا إليها، وهي: أن معرفة الله تعالى بسلوك المنحرفين سَلَفاً ممن لو قُدِّمت لهم كلّ الدلائل الحسيّة على حقيقة الإسلام ورسالته: لما آمنوا به، هذه المعرفة سلفاً بسلوك هؤلاء، تستتلي أن يضلّهم الله تعالى فيجعل صدورهم ضيقة، يختم على أفئدتهم، يُحجزهم عن الخير.

هذه الحقائق التي عرضها النص في الصورة الفنية المتقدمة، تظل على صلة بالمقاطع السابقة من السورة الكريمة فيما تحدثت عن المنحرفين الذين لو قُدمت لهم جميع الدلائل الحسية، ما كانوا ليؤمنوا، حيث تفصح مثل هذه الصلة بين الصورة الفنية التي وقفنا عندها وبين المقاطع السابقة، عن مدى إحكام النص وتلاحم أجزائه بعضاً مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام: 128 ـ 131].

هذا المقطع من سورة الأنعام امتدادٌ للمقاطع السابقة: في عرضها لسلوك المنحرفين، إلاّ أنّ لكل مقطعٍ جدة وطرحاً آخر من السلوك. الجديد هنا هو: دخول عنصر (الجن) في قائمة المنحرفين، أو لنقل: قد استهدف النص تحديد علاقة الإنس بالجن في ظاهرة الانحراف، حيث سلك النصُ منحى فنيّاً خاصاً في صياغة هذا الطرح الجديد.

 

______________________________________________________

الصفحة 484

 

لقد تحدث النص عن البيئة الأخروية، ونقل لنا حواراً يجري بين الله تعالى وبين الإنس والجن، ومن خلال هذا الحوار نستكشف قضية مشاركة النوعين (الإنس والجن) في الانحراف. ومن الواضح (في ميدان اللغة القصصية) إن الحوار ينطوي على وظائف مهمة تجيء في مقدمتها: وظيفة الاستكشاف لأعماق الشخوص والوقائع.

لقد سَرَد النصُ أولاً قضية الحشر (ويوم يحشرهم جميعاً) ثم خاطب الجن قائلاً: (يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس). ومن خلال هذا السرد والحوار نستخلص حقيقة فنية هي أنّ دخول عنصر الجن في ميدان العرض بسلوك المنحرفين قد تمّ بنحوٍ ممتعٍ فنياً وذلك من خلال قوله تعالى أولاً: (يوم يحشرهم جميعاً) ثم من خلال مخاطبته الجنّ مباشرة، حيث يستخلص القارئ أن الحشر قد قُصيِدَ منه حشر الإنس والجن (وهذا طرحٌ فني لتقديم المعرفة أو عرض الحقائق من خلال اللغة القصصية) فبدلاً من أن يقول لنا النص: أن الحشر يشمل الإنس والجن، وجّه خطاباً إلى الجن حتى نستخلص بأن الجن داخلون في الحشر أيضاً، وهذا واحدٌ من أشد الطرائق الفنية إمتاعاً كما هو واضح.

والحق، أن العنصر الفنيّ في هذا الميدان لم يقف عند الحقيقة المذكورة فحسب، بل تجاوز قضية إدخال الجن في المحشر، إلى عرض السلوك المنحرف لدى النوعين الإنس والجن، ثم علاقة بعضهما بالآخر.

والآن، ما هي هذه العلاقة الرابطة بينهما؟

لقد خاطبَ النصُ معشر الجنّ قائلاً: (يا معشرَ الجِنِّ قد استكثرتُمْ مِنَ الإنس). نستخلص من هذا الحوار أن عنصر الجن قد ساهم في تضليل الناس وتكثير عدد المنحرفين منهم.

وبعد أن طرح هذه الحقيقة أمامنا (أي: حقيقة أن الجن ساهموا في تكثير

 

______________________________________________________

الصفحة 485

 

عدد المنحرفين) بدأ يكشف عن بعض التفاصيل المرتبطة بهذا الجانب، وذلك من خلال عنصر (الحوار) أيضاً... الحوار هنا قد تمّ على لسان الإنسان بعد أن كان الحوار السابق قد تمّ من خلال توجيه الخطاب إلى الجن، وهذا التنوع في الحوار أي: توجيه الخطاب إلى الجن، وتسلّم الإجابة من الإنس يُعدّ في القمة من الإثارة الفنية المُمتعة كما هو واضح لأدنى مَن له خبرة ذوقية في لغة القصص. حيث كان من الممكن عندما يخاطب الله الجن: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) أن يتلقّى الإجابة من الجن، ولكنه تلقى الإجابة من الإنس بهذا النحو: (وقال أولياؤهم مِن الإنْسِ ربَّنا اسْتَمتَعَ بَعْضُنَا بِبعْضٍ وبلغنا أَجَلنا الذِي أَجّلْتَ لَنَا...الخ).

في هذه الإجابة حقائق متنوعة في ميدان المعرفة بقضايا اليوم الآخر وانعكاسات السلوك الدنيوي عليه، إلاّ أننا قبل أن نتحدث عن هذا الجانب، قد استهدفنا الإشارة إلى الإمتاع الفني لهذا النمط من الحوار المتنوع (تقديم السؤال إلى الجن،وتلقّي الإجابة من الإنس)، ومن ثم ينبغي ألاّ نغفل (ونحن نعنى في الدرجة الأولى بعمارة السورة القرآنية الكريمة) ألا نغفل عن هذا النمط من العرض الفني الذي ربط بين سلوك الجن وبين سلوك الإنس الذين شكّلوا محور السورة الكريمة في عرضها لمختلف أنماط الانحراف، مما يفصح ذلك عن مدى إحكام النص وتلاحم جزئياته بعضاً مع الآخر كما أوضحنا.

 

* * *

 

إنّ النصّ عندما يوجّه خطاً إلى (الجن) في اليوم الآخر من حيث علاقة هذا العنصر بتضليل العنصر البشري (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) حينئذ يجيب البشر (بدلاً من الجن) على السؤال المتقدم: (وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضُنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم

 

______________________________________________________

الصفحة 486

 

خالدين فيها إلاّ ما شاء الله). هذه المحاورة بين الله تعالى وبين البشر تنطوي على وظائف فنيّة متنوعة، منها: لماذا أجاب الإنس بدلاً من الجن عندما يوجّه الله تعالى السؤال إلى الجن في تضليلهم للبشر؟ لا نحتاج إلى أدنى تأمل حتى ندرك بأن السر الفني في عدم الإجابة هو أن المستهدف هو عنصر الإنس بالنسبة إلى المحاكمة، أما عنصر الجن فله شأن آخر في المحاكمة ليس النصُ في صدده، بل أن النص يستهدف تقديم حقيقة هي: أن الجن ساهم في تكثير عدد المنحرفين (لا نغفل أن النص تحدث عن معاصري رسالة الإسلام). والآن إذا كان الأمر كذلك، فنتوقع أن يجيب الإنس ـ بدلاً من الجن ـ على السؤال المتقدم، ومن ثمّ نجد أن إجابة البشر تحدد العلاقة النفعية أي المصالح المتبادلة بين الجن والإنس.

لنقرأ الجواب من جديد: (وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله). إن قول البشر: (ربنا استمتع بعضنا ببعض) تنطوي على ما هو مجملٌ من أن الجن والإنس قد أفاد كل منهم من الآخر، أما نوع الإفادة لم يتحدد في هذا الجواب، فلماذا؟. في تصورنا الفنيّ أن النص يستهدف الإشارة إلى المتاع الدنيوي العابر بشكل عام، لذلك قدم مجرد (الاستمتاع) دون تفصيل، إلا ان القارئ سوف يقفز إلى ذهنه سريعاً بأن البشر المُحاكم هو من النمط المُشرك الذي حامت على عرض سلوكه سورةُ الأنعام، فالمقاطع السابقة للسورة تحوم على هذا الموضوع كما هو واضح. مضافاً لذلك، فهناك دلالة فنية أخرى تضمنتها إجابة البشر وهي قولهم: (وبلغنا أجَلَنا الذي أجّلت لنا) أي: الموت، علماً بأن المنحرفين كانوا مشككين باليوم الآخر، فعندما يقرّون حينئذٍ ببلوغهم الأجل وبتقديمهم إلى المحاكمة حينئذٍ نستخلص بأن المقصود من الاستمتاع هو: مساهمة الجن في تضليل الإنس من حيث تشكيكهم باليوم الآخر.

 

______________________________________________________

الصفحة 487

 

وأمّا الاستمتاع الذي حققه الجن، فهو استمتاع نفسي بطبيعة الحال، ما داموا قد اتخذوا الإنس أتباعاً خاضعين لهم.

وأياً كان الأمر، فإن النص بعد أن يقدّم هذه الحقائق المتصلة باليوم الآخر وعلاقة عنصري الإنس والجن بعضهما مع الآخر، يعقّب على هذه المحاورة: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله). أما التعقيب بأن مصائرهم إلى النار فواضح، لكنّ الملاحظ أن النص طرح حقيقة جديدة في هذا السياق وهو قوله تعالى (خالدين فيها إلا ما شاء الله). النصوص المفسرة تقدّم أكثر من احتمال في تفسير الخلود والاستثناء من ذلك. لكننا نتوقف عن تقديم الإجابة لقصورنا عن إدراك ذلك. والمهم، أن النص يخاطب كلاً من الإنس والجن، بعد أن يحدد مصائرهم الأخروية قائلاً: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين).

من الواضح، أن هذا التعقيب أو المخاطبة التي نقلت الحديث عن اليوم الآخر إلى الحديث عن السلوك الدنيوي لكل من الجن والإنس ينطوي على وظائف فنية متنوعة، منها: ما أشرنا إليه من أنها تفسّر معنى الجواب الذي قدّمه البشر في قولهم: (ربنا استمتع بعضنا ببعض) حيث كان الاستمتاع مبهماً، وحيث فسّره الآن هذا المقطعُ الذي يقول (ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا) وهو ما استخلصناه قبل قليل عندما قلنا بأن المقصود من الاستمتاع هو تزيين الجن للإنس مطلق المتاع الدنيوي وفي مقدمته التشكيك باليوم الآخر بما يستتبع ويواكب ذلك من مصالح متبادلة بين عنصري الجن والإنس، حيث يستمتع الجن بالترؤس على الإنس، وحيث يستمتع الإنس بما زيّنه لهم الجن من الإشباعات الدنيوية المختلفة.

 

______________________________________________________

الصفحة 488

 

أخيراً، ينبغي ألاّ نغفل عن صلة هذا المقطع وما قبله من المواقف التي حددت علاقة الجن والإنس فيما بينهما، ينبغي ألا نغفل عن صلة ذلك بفكرة السورة الكريمة (سورة الأنعام) ونعني بها: عرض سلوك المنحرفين، حيث وصَلَ النص بين هذا المحور الفكري وبين المقطع الذي تحدثنا عنه، وهو أمرٌ يُفصح عن مدى الإحكام الهندسي للسورة الكريمة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام: 133 ـ 135].

هذا المقطع الجديد من سورة الأنعام، امتدادٌ للمقاطع السابقة التي تحوم عليها السورة الكريمة في عرضه لسلوك المنحرفين.

الجديدُ في هذا المقطع هو: قضية العمل العبادي (أي: خلافة الإنسان في الأرض) وانسحاب معطيات ذلك على الإنسان، واستغناء الله تعالى عن مثل هذا العمل، ومن ثم التلويح بالخسارة الأخروية لِمن يتخلّف عن ممارسة وظيفته العبادية.

وقد واكبت هذا الطرح صياغةٌ فنيّة تتصل بالمبنى الهندسي لنصّ القرآن الكريم. لقد خاطب النصُ المنحرفين (أي: المشركين الذين تقدّم الحديث عنهم في مقطع سابق وهم من الإنس والجن) خاطبهم بقوله: (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). إن القارئ قد يتساءل عن السرّ الفني لقضية الاستخلاف من ذرية قوم آخرين. لكنه سرعان

 

______________________________________________________

الصفحة 489

 

ما يستخلص بوضوح بأن النص كان في صدد الحديث عن منحرفي الإنس والجنّ وهما يمثلان جنساً أو نوعاً من المخلوقات التي أوكل إليها مهمّة العمل العبادي، وحينئذٍ فإن الإشارة إلى أنه بمقدوره تعالى أن يبيد هذه الأجناس وأن يُنشئ آخرين يقومون بأداء المهمة العبادية.

هنا يتقدّم النص بـ(تشبيهٍ) هو قوله تعالى: (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين)، وأهمية هذا التشبيه تتمثل في انطوائه على وظيفة فنية مزدوجة، فمن جانبٍ نرى أنّ المنحرفين كانوا قد شككوا في النشأة الأخروية، وحينئذٍ فإن تذكير هؤلاء المنحرفين من خلال تجربة حسيّة هي خلق الإنسان نفسه في تجربة الحياة يشكّل جواباً لإمكانية خلق الإنسان من جديد في تجربة الآخرة. النص لم يقل هذا مباشرةً بل أشار إلى أن الله تعالى بمقدوره أن يبيد المنحرفين ويستخلف من يشاء كما أنشأهم أول مرّةٍ من ذرية قوم آخرين، وهذا ما يجعل القارئ يتداعى بذهنه سريعاً إلى أن الله تعالى بمقدوره أن ينشئ الإنسان من جديد في اليوم الآخر. ولذلك أردف هذا الكلام بكلامٍ مباشر عن الحياة الأخروية، بقوله: (إنّ ما توعدون لآتٍ...). إذاً، أمكننا ملاحظة الصياغة الفنية المدهشة التي جعلت عملية التداعي الذهني تتلاحق لتصبّ في الغرض الذي يستهدفه النص ألا وهو: حتمية اليوم الآخر الذي شكّك به المنحرفون.

وأياً كان، فإن النص بعد أن يطرح هذه الظاهرة يعود ليواصل عرض جوانب جديدة من سلوك المنحرفين أي: المشركين الذي شكّلوا مادّة السورة الكريمة.

يقول المقطع الجديد: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) [الأنعام: 136]. النص هنا يعرض شريحة جديدة من الانغلاق والجدب والتعطّل الذهني لدى المشركين

 

______________________________________________________

الصفحة 490

 

حيث جعلوا لله ما خلق من الزرع والأنعام نصيباً في الأوثان (فقالوا هذا لله ـ بزعمهم ـ وهذا لشركائنا)، وهنا يتصاعد الانغلاق الذهني لديهم إلى درجة التعطّل التام حينما يحتالون لأصنامهم في عملية فرز الحصص (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) لكن (ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم).

إن أمثلة هذا السلوك الذهني المعطّل لا يحتاج إلى الردّ، نظراً لهول السخافة التي يصدر عنها ذهنُهم. لذلك لم يناقشهم النصُ القرآني الكريم، بل علّق عليه بالقول: (ساء ما يحكمون)، تاركاً للقارئ مجال الحكم عليهم واستخلاصه درجة الغباء التي ما بعدها من غباء بالنسبة للذهنية التي تطبع كل منحرفٍ ومنعزلٍ عن مبادئ الله تعالى.

وأياً كان، فالملاحظ أن النص القرآني الكريم سبق أن طرح موضوع التشريك لله في مواضع متقدمة من السورة، إلا أن الطرح هناك كان متصلاً لجعلهم (الجن) شركاء لله، أما في هذا المقطع فقد طرح النص نموذجاً آخر من ذهنياتهم التشريكية المتصلة بالثروات الطبيعية وغيرها، انسجاماً مع موضوعات السورة التي ستتحدث لاحقً عن إبداع الله تعالى للثروات الطبيعية والحيوانية كما سنلاحظ، مما يُفصح مثل هذا الطرح المتجانس عن مدى إحكام السورة هندسياً من حيث تلاحم جزئياتها بعضاً مع الآخر، كما سنوضح ذلك لاحقاً إن شاء الله.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا

 

______________________________________________________

الصفحة 491

 

وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام: 137 ـ 140].

يواصل النص القرآني الكريم في هذا المقطع من سورة الأنعام، حديثه عن ذهنية المشركين في تعاملهم مع الثروات النباتية والحيوانية. ثم يطرح في هذا السياق ـ وفق منحىً فنيّ خاص ـ قضيةً اجتماعية هي (وأد البنات).

المنحرفون أو الجاهليون جعلوا لله شركاء. إلا أن النص خلع صفة (الشركاء) على الشياطين والأصنام من حيث علاقتها بالمنحرفين، أي جُعلت الشياطين والأصنام (شركاء) للمنحرفين من حيث أنهم جعلوا للأوثان نصيباً من زروعهم وماشيتهم، ومن حيث أنهم انصاعوا للشياطين في تضليلهم إيّاهم. يقول النص في المقطع الذي نتحدث عنه: (وكذلك زَيّنَ لكثيرٍ مِن المشركين قَتْلَ أولادِهم شركاؤُهم) أي: أن شركاء المنحرفين ـ وهم الشياطين ـ قد زيّنوا للمنحرفين عملية وأد البنات.

ومن الواضح، أن إطلاق النص مصطلح (الشركاء) على الشياطين، إنما هو جوابٌ فني لإفراغ مفهوم الشرك من دلالته الجاهلية، وجعله مفهوماً يرتبط بعنصر (المشاركة) بين المنحرفين وبين الشياطين الذي يزيّنون لهم الانحراف.

وأياً كان، فالملاحظ أن النص طرح قضيتين ـ في هذا المقطع ـ هما: قتل أو وأد البنات من جانبٍ، والتعامل المنحرف مع الثروات الطبيعية والحيوانية من جانب آخر. أما التعامل الأخير فيتمثل في جملة من الأفكار الهزيلة التي تستدر الإشفاق والسخرية، مثل ذهابهم إلى أن الزرع والأنعام ينبغي ألاّ يُطعم بعضها إلاّ للقائمين على شؤون الأوثان من الرجال دون النساء، ومثل ذهابهم إلى أنّ ألبانها، وما في بطونها بعامة، خاصٌ بالرجال دون النساء. أيضاً، ومثل ذهابهم إلى أن أجنّة الأنعام الميتة ـ دون غيرها ـ

 

______________________________________________________

الصفحة 492

 

يُسمح للرجال والنساء بالإفادة منها، أي: أنّ هذا النوع هو المسموح له بمشاركة النساء للرجال في الأكل منه (وهو: الميتة).

هذه المستويات من التفكير المتدنّي لا تحتاج إلى التعقيب نظراً لعدم قيامها على أي استدلال، حتى لو كان سخيفاً، أنها مجرد وساوس وخيالات أوحتها الشياطين فتقبّلوها بلا إعمال أيّ فكرٍ فيها. ولعلّ أشد المفارقات سخرية ـ وإيلاماً أيضاً ـ هو ربط هذه العادات بقضية وأد الإنات، وهو أمرٌ أكّده النص وكرّره مرتين حينما ذكرَ أولاً: (وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتْلَ أولادِهم شركاؤهم ليردُوهم) وحينما ذكر ذلك في نهاية المقطع ثانياً: (قد خَسِرَ الذينَ قَتَلوا أولادَهم سَفَهاً بغيرِ علمٍ). لقد تعامل الجاهليون مع المرأة تعاملاً وحشياً، سواء أكانت بنتاً أو زوجة، فالزوجة تُحرم مما في بطون الأنعام، والبنت تحرم من الحياة ذاتِها من خلال عملية الوأد الوحشية. وهذه العملية الأخيرة تظل من الخطورة بمكانٍ يستطيع المُلاحظ من خلالها أن يربط بين المرض العقلي وبين النزعة العدوانية، بين مرض النفس الذي يقتات على الوهم في تحرّكاته وبين استتلائه النزوعَ إلى الجريمة بالنحو المذكور.

ومهما يكن، فإن النص القرآني الكريم (من حيث المبنى الهندسي للسورة) طرح قضية وأد البنات من خلال طرحه لكلٍ من الزرع والأنعام (وهما مصدر الثروة الرئيسة كما هو واضح) حيث تلاعبوا في توزيعها بالنحو الذي لحظناه، وحيث كانت المرأة جزءً من عملية التلاعب المذكور، وذلك بحرمانها من تناول مما في بطون الأنعام، ومن ثم جاء الربط بين الحرمان من الإطعام والحرمان من الحياة (وهو الوأد) معبّراً عن وحدة المبنى الهندسي للمقطع، وهو مبنىً قائمٌ على ربط الأفكار بعضها مع الآخر، حيث لحظنا أولاً كيف أن النص عَرَض لنا طريقة تعامل المنحرفين مع الثروات التي أتاحها الله تعالى للإنسان، معقّباً على ذلك بأنهم: (وحَرَّموا ما رزَقهم الله) وحيث

 

______________________________________________________

الصفحة 493

 

يعرض لنا بعد ذلك ما ينبغي أن نسلكه حيال هذه الثرواتِ فيقول: (وهو الذي أنشأ جنات معروشاتٍ وغير معروشاتٍ والنخل والزرع مختلفاً أُكُله والزيتونَ والرمان متشابهاً وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين * ومن الأنعام حمولة وفرشاً كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان...) [الأنعام: 141 ـ 142]. وهكذا نجد أن النص ربط بين الكيفية التي ينبغي أن يفيد الإنسان منها في الثروتين الطبيعية والحيوانية (الزرع والأنعام)، وبين الكيفية التي صدرت عن المنحرفين في تلاعبهم بهذه المعطيات، مما يُفصح مثل هذا الربط عن مدى إحكام السورة من حيث تلاحم جزئياتها بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 145 ـ 147].

هذا المقطع وما قبله حيث تحدّث عن الزرع والأنعام التي أباحها الله، يجيء رداً على المشركين أو مطلق المنحرفين الذين جعلوا لهاتين الثروتين: (النباتية والحيوانية) نصيباً لأصنامهم أو حرّموا قسماً من ذلك على الأناث.

ويُلاحظ في هذا المقطع أن النص قد استثنى مما هو مباحٌ، كلاً من الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما ذُبح بغير تذكية شرعية من حيث عدم التسمية بالله. مع أن هناك استثناءات أخرى لم تُذكر في هذا النص بل

 

______________________________________________________

الصفحة 494

 

ذكِرت في نصٍ آخر، وهذا يعني (من الزاوية الفنية) إن النص يستهدف التركيز على هذه المحرّمات نظراً لشدّة ما تنطوي عليه من مفارقات وأضرار. فالميتةُ ـ وهي ما لم يُذكر اسمُ الله تعالى عليها أو مطلقِ الحيوان الذي يفارق الحياة ولم يكن ذلك على الوجه الشرعي ـ والدمُ المصبوب المستقل غير المختلط باللحم، ولحمُ الخنزير، وما ذُبح باسم الأصنام. هذه الأشكال المحرّمة من الطعوم إنما تمّ التركيزُ عليها دون ما هو محرمٌ من الأشكال الأخرى، فلأنّها ـ من حيث الصحة الروحية والجسمية ـ ذات أضرار ملحوظة. فمن حيث الصحة النفسية يظل مطلق ما هو محظورٌ من الطعام منسحباً على النفس من حيث نقاؤها وتزكيتُها فما يُذبح على اسم غير الله مثلاً يفقد خصوصيته الغذائية التي لا تختلف عن أية مادة كيميائية يستخدمها الطب النفسي في علاج الأمراض العقلية والنفسية. والأمر نفسه بالنسبة إلى الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، فضلاً عما تنطوي عليه من أضرار جسمية قد خبرها الطبُ الجسمي في تقريره مستويات هذه الأضرار جسمياً.

 

* * *

 

لقد طرَحَ النصُ القرآني الكريم قضية الأنعام والزرع في سياق حديثه عن المشركين الذين شكّلوا موضوعاً للسورة. وها هو النص يتقدم بمقطعٍ جديدٍ ليعرض لنا شريحة جديدة من سلوك المشركين يقول المقطع:

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُون * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام: 148 ـ 150].

 

______________________________________________________

الصفحة 495

 

في هذا المقطع يكشف المنحرفون عن بُعدٍ جديد من تفكيرهم الهزيل، إنهم يزعمون بأنّ عبادتهم للأصنام وتحريمهم لبعض الأطعمة بالنحو الذي لحظناه إنما هو عمل مشروع، لأنه ـ لو لم يكن كذلك ـ لما سمح لهم بأن يشركوا ويحرّموا. هذا المنطق هو امتدادٌ لمواقف عقلية سابقة تبتعث السخرية والإشفاق، منطق يقوم على الاستدلال الغبيّ الذي ما بعده من غباء، حيث يعتمد على الذهاب إلى أنهم ما داموا قد اشركوا ولم يحجزهم الله عن ذلك فهذا يعني مشروعية الشرك وإلا لو شاء الله لما أشركوا. إنّ أمثلة هذا الاستدلال تكشف عن أن غباء المنحرف عن مبادئ الله تعالى لا يضارعه أيُّ غباء حيث يغيب عن ذهنهم أنّ الحياة هي تجربة أو اختبارٌ عبادي مُنحَ الإنسان من خلاله قابلية التمييز بين الفجور والتقوى، كما مُنح قابليةً على أن يختار أحدهما ملء إرادته دون إجبارٍ على ذلك، مما تترتب على اختياره مسؤولية العمل ما دام حرّاً في عملية الاختيار، فلو سلب الله تعالى حرّية الاختيار وأجبرهم على ألاّ يُشركوا بطلَ حينئذٍ مفهوم التجربة العبادية وسقط التكليف وانتهى كل شيء.

وأيّاً كان، فإن النص القرآني الكريم، وهو يعرض لنا شريحة جديدة من نمط التفكير لدى المنحرفين تُضاف إلى السلسلة التي عرضها منذ بداية السورة، إنما يظل (من حيث عمارة السورة الكريمة) مفصحاً عن مدى جمالية وإحكام النص من حيث ارتباط مقاطعه حيث يتكفل كل مقطع بعرض جزء منها، ثم يصل بين هذه المقاطع بعضاً مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.

 

* * *

 

قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ

 

______________________________________________________

الصفحة 496

 

وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ...) [الأنعام: 151].

هذا المقطع وما بعده امتدادٌ للفكرة التي تنطوي عليها سورة الأنعام، حيث تعرض في كل مقطع: شريحةً من سلوك المشركين. فقد زعم المشركون أن الله لو شاء ما أشركوا ولما حرّموا من شيءٍ، وها هو النص القرآني الكريم بعد أن يردّهم على هذه التخرصات، يتجه إلى عرض بعض المحرّمات التي يطالِبُ بتركها، ومنها: عدم الشرك، إطاعة الوالدين، عدم قتل الأولاد بسبب الفقر، وعدم ممارسة الفواحش، وعدم قتل النفس إلاّ بالحق، وعدم التصرف بمال اليتيم حتى يكبر، وعدم التفرقة.

ثم طالَب النصُ بإيفاء الكيل والميزان، وقول الحق حتى بالنسبة إلى القرابة، والإيفاء بالعهد.

الملاحظ (من الزاوية الفنية) إن هذه الأوامر والنواهي عامة تشمل كلّ الناس، مشركين كانوا أو موحدين إذا استثنينا المطالبة بعدم الشرك. وقد استخدم النص المنحى الفنيّ المعروف في طرح هذه الأوامر والنواحي ضمن الفكرة الرئيسة للسورة، حيث يُدخل النص ـ ضمن حديثه عن المشركين ـ مجموعة من الأفكار التي يستهدف توصيلها إلى الناس، وهي الأفكار التي عرضنا لها.

فإذا تجاوزنا الجانب الفني لهذا العرض، واتجهنا إلى الأفكار ذاتها، وجدنا أنها تتضمن أوامر ونواهي محددة ـ وليس مطلق الأوامر والنواهي ـ حيث تنحصر في عشر ظواهر فحسب، مُشعراً بهذا التحديد بأهمية الظواهر المشار إليها، وهذا بدوره واحدٌ من أشكال اللغة الفنية حيث أن النص الأدبي يختلف عن النص العادي بكونه يوزّع أهدافه في مقاطع وسور متنوعة، ويطرح كلّ واحد منها في سياق خاص.

وهنا ـ في المقطع الذي نتحدث عنه ـ طرح جملة من الظواهر المتصلة

 

______________________________________________________

الصفحة 497

 

بشؤون الاقتصاد والسياسة والجنس والأسرة والأخلاقيات...الخ. لقد طالب بإطاعة الوالدين بعد مطالبته بعدم الشرك، وهذا الاقتران بين الشرك ومعصية الوالدين (حيث تضمّن النهي عن الشرك، والمطالبة بالإحسان إلى الوالدين) (ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً). هذا الاقتران بينهما ينطوي على دلالة فنية هي مدى أهمية الإحسان إلى الوالدين بحيث تجيء بعد أهمية توحيد الله تعالى، ولذلك لم يجعل المطالبة بالإحسان إلى الوالدين في فقرة مستقلة بل أدمجها في سياق المطالبة بعدم الشرك، بينما جعل باقي الأوامر والنواهي كل واحدٍ منها في فقرة مستقلة مثل: (ولا تقتلوا أولادكم) (ولا تقربوا الفواحش) (ولا تقتلوا النفس) (ولا تقربوا مال اليتيم) (وأوفوا الكيل) (وإذا قلتم فاعدلوا)...الخ.

ويُلاحظ أيضاً أن النص قد وزّع هذه الأوامر والنواهي في آيتين وليس في آية واحدة، وهذا بدوره لا بدّ أن ينطوي على دلالة فنية، فقد جعل المطالبة بعدم الشرك، والإحسان بالوالدين، وعدم قتل الأولاد، وعدم قتل النفس، وعدم ممارسة الفواحش، جعلها في آية، ثم جعل المطالبة بعدم التصرّف بمال اليتيم، وإيفاء الكيل، وقول الحق، والإيفاء بالعهد في آية أخرى. وحينئذٍ لا بدّ أن ينطوي هذا التقسيم للأوامر والنواهي على نكتة فنيّة هي: إما مجانسة بعضها مع الآخر بحيث يستقل ما هو مجانس في آية، وإمّا أن تكون الظواهر الأولى مثل قتل الأولاد، وقتل النفس، وممارسة الفواحش، والشرك، تخصّ ما هو مشهور عند المشركين، وأن تكون الظواهر الثانية تخص الإسلاميين، حيث أن الوفاء بالعهد، وقول الحق، والمحافظة على مال اليتيم، وإيفاء الكيل، تجسّد أنماطاً من السلوك الذي قد لا يلتزم به الإسلاميون.

إذاً، جاء هذا التقسيم لأنماط السلوك منطوياً على دلالة فنية من جانب، كما أنه يحسّسنا بأهمية هذه الأنماط من السلوك من حيث كونها ظواهر من

 

______________________________________________________

الصفحة 498

 

الممكن أن تكون شائعة في زمن النص فأكد عليها دون غيرها من أنماط السلوك.

وأيّاً كان، فإن الأهمية الفنية والفكرية لهذا النمط من العرض لا تقف عند الخطوط التي أشرنا إليها فحسب، بل تتمثل أيضاً في طريقة البناء الهندسي لها، حيث جاءت متجانسة مع سائر مقاطع السورة الكريمة التي تحوم على عرض سلوك المشركين، وحيث تطرح الأفكار أو الموضوعات الأخرى في سياق العرض المشار إليه، وهو أمرٌ يُفصح عن مدى إحكام العمارة الفنية للنص القرآني الكريم، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام: 154 ـ 157].

بهذا المقطع وما بعده تنتهي سورة الأنعام التي تناولت موضوعاً محدداً هو: عرض سلوك المشركين حيال رسالة الإسلام، ثم عرضت خلال ذلك جملة من المبادئ الإسلامية التي أكّدت السورةُ عليها، ثم ختمها بهذا المقطع الذي يلخّص ويُجمل التفصيلات التي طرحتها السورة.

في هذا المقطع يُطالب النص باتّباع القرآن الكريم، مذكّراً بأنّه حجّة على الناس حتى لا يقولوا بأن الرسالات نزلت على أمم قبلنا. وانا كنّا غافلين عن ذلك، أو حتى لا يقولوا: لو أن الله أنزل الكتاب علينا لكنا أهدى من

 

______________________________________________________

الصفحة 499

 

السابقين، ثم يُذكّر النصُ هؤلاء بمغبة التلكؤ في الإيمان قائلاً: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أي: هل ينتظرون أن يأتيهم الجزاء الدنيوي، وحينئذٍ (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) [الأنعام: 158].

بعد ذلك، يوجّه النص خطاباً إلى المؤمنين مطالباً إيّاهم بأن يقولوا:

 

(إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم) [الأنعام: 161].

 

(إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله) [الأنعام: 162].

 

(أغير الله أبغي رباً وهو ربُّ كلِ شيءٍ) [الأنعام: 164].

 

ثم تختم السورة بالآية التالية: (وهو الذي جَعَلكُمْ خلائِفَ الأرضِ ورَفَع بعضَكُمْ فوق بعضٍ درجاتٍ لِيَبلوَكُمْ في ما آتاكُمْ إن رَبَّكَ سريعُ العقابِ وإنّه لغفورٌ رحيم)[الأنعام:165].

ويعنينا من هذا الختام أن نعرض لموقعه الفني من عمارة السورة الكريمة، وما ينطوي عليه من قيم جمالية.

فالملاحظ أولاً أن النص اتجه إلى عنصر (الحوار) الداخلي، أي: حديث الإنسان مع نفسه أو عنصر الحوار المبُهم الذي يتردد بين كونه خطاباً للنفس أو خطاباً للناس، وهو الحوار الذي أجراه الله على هذا النحو:

 

(قل: إنني هداني ربي).

 

(إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله).

 

(قل أغير الله أبغي رباً وهو ربّ كل شيء).

 

في تصوّرنا أن سورة الأنعام بما أنها قد طبعها عنصرُ الحوار في غالبية أقسامها، حيث أنّ عرضَ سلوك المشركين قد تمّ من خلال محاورة النبيّ وأجوبتهم أو من خلال محاورتهم وأجوبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، لذلك فإن اختتام السورة بعنصر مماثل هو (الحوار) أيضاً يظل (من حيث المبنى الهندسي لأجزاء

 

______________________________________________________

الصفحة 500

 

السورة) متجانساً مع أجزائها، وهو أمرٌ يُضفي جماليةً ملحوظة على النص، فما دام النص قد ردّ على المشركين من خلال لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، حينئذٍ فإن التعبير عن الهداية التي أتاحها الله للمؤمنين يأخذ نفس الطابع فيتمّ من خلال ألسنتهم (إنني هداني ربي. إنّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله.. الخ). وأهمية هذا الحوار ـ مضافاً لمجانسته مع أسلوب العَرض القرآني الذي أشرنا إليه ـ تمثل في وظائف فنية متنوعة، أهمّها: أن يدلّ المؤمن ويتباهى بأن هداه الله تعالى إلى الإيمان، فيردّد هذا على لسانه، تعبيراً عن فرَح الهداية، سواء أكان هذا التعبير أو الهتاف موجهاً إلى الآخرين أو موجّهاً إلى نفسه.

فإذا تجاوزنا هذا الحوار ووظيفته الفنية واتجهنا إلى الآية التي خُتمت بها السورة، وجدنا أنّ الختام يؤكد حقيقة حاسمة هي استخلاف الإنسان في الأرض (وهو الذي جعلكم خلائف.. الخ) وسواء أكان المقصود من (الخلائف) هو أن يخلف كلُّ جيلٍ الجيلَ السابق، أو كان المقصود أمة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما جعلها الله خلفاً لسائر الأمم، أو كان المقصود (وهذا ما نحتمله فنيّاً) هو خلافة الإنسان في الأرض، فإن النتيجة تظل مطبوعة بطابعٍ واحد هو: أن يمارس الإنسان مهمته العبادية التي خُلِقَ من أجلها.

أخيراً، ينبغي أن نتذكر (ونحن نُعنى بدراسة السورة القرآنية الكريمة من حيث عمارتها وصلة أجزائها بعضاً مع الآخر) أن السورة عندما تعرض في الختام قضية الخلافة في الأرض، مع أن جميع أجزاء السورة كانت منصبةً على عرض شبهات المشركين والردّ عليها، فلأنّ الهدف من عرض الشبهات هو الخلوص منها إلى بلورة مفهوم التوحيد ومن ثمّ وظيفة الكائن الآدمي حيال المبادئ المتصلة بهذا الجانب متمثلة في هذا الختام الذي يشير إلى جَعْلِ الإنسان أو جَعْلِنا (خلائف الأرض) ليختبرنا الله تعالى فيما آتانا.

إذاً، جاءت نهايةُ السورةِ الكريمةِ حصيلةً للهدف الفكري الذي انطوت عليه، مما يفصح ذلك عن إحكام السورة وتلاحم أجزائها بعضاً مع الآخر بالنحو الذي لحظناه.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401067

  • التاريخ : 19/04/2024 - 04:25

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net