00989338131045
 
 
 
 
 
 

 القسم الثالث 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الاول   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

القسم الثالث

يبدأ القسم الثالث من سورة آل عمران برسم شخوص (الكتابيّين)، مُلقياً عليهم ضوءً جديداً من أنماط السلوك الذي يُغلّفهم.

ولقد رأينا كيف أنّ (الكتابيين) هم الذين يحتلّون موقعاً ضخماً من

 

______________________________________________________

الصفحة 197

 

السورة. فالقسم الثاني من السورة ـ وهو المتضمن قصصاً وقفنا عليها مفصّلاً ـ، قد اتّجه نحوهم أيضاً، كما رأينا أنّ القسم الأوّل من السورة قد اتّجه في غالبيته نحوهم.

وهذا كلّه يعني أنّ هؤلاء الشخوص هم المادّة التي يتشدّد الرسمُ عليهم، بغية الانتهاء منهم إلى استخلاص أهدافٍ خاصةٍ مطروحة في السورة، وقفنا على جزءٍ منها عبر دراستنا للقسم الأول والثاني من النص.

بيد أنّ ما ينبغي أن نلفت النظر إليه هو: أنّ كلّ رسم جديدٍ لهؤلاء الشخوص، لابدّ أن يطرح موقفاً جديداً أيضاً يتواشج، في عروقه مع كلّ المواقف المرسومة لشخوص الكتابيين.

تُرى: ما هو الموقف الجديد في هذا القسم من السورة؟

 

* * *

 

لقد لحظنا أن القسم الأول من السورة، ترك مصائر الكتابيين، مفتوحةً لم يُنهِها إلى شاطئ ما، لقد تركها متأرجحة بين الإيجاب والسلب. كلّ ما في الأمر أنّ النص أنهى بعضهم من الحساب، وانتقى بعضاً فأكسبهم تقديراً خاصاً، ثم تركهم بعامة متأرجحين، مؤجّلاً رسمَ نهايتهم، لحين الانتهاء من رسم مواقفهم المتنوعة.

وهذا النحو من الرسم للشخوص ينطوي ـ كما هو بيّنٌ ـ على أكثر من مُعطىً فنيّ ونفسي. فهو أولاً يتّسق مع طبيعة التركيب الشخصي للفرد في تموّجاته النفسية واستجاباته حيال المحيط وإثاراته. فليس من السهولة بمكان أن تستجيب الشخصية لمُثير جديد يكاد يقطع صلتها بكلّ خبراتها السابقة. كما أنّه ليس من السهولة أن تتخلّى الشخصية عن ذاتها وكلّ وسائل الإشباع التي اعتادت عليها.

 

______________________________________________________

الصفحة 198

 

وأمّا ثانياً فإن الرسم المذكور يتّسق مع طبيعة التركيب الشخصي للمُتلقّي ـ أي: القارئ أو المستمع أو المُشاهد. فمن الواضح أن عملية (التعلّم) ـ والتعلّم هنا نأخذه بدلالته النفسية التي تعني طرائق الاستجابة بعامة ـ هذه العملية تُحقّق مُعطاها من خلال (الوصلات) و(الوقفات) أو المراحل الجزئية للظاهرة، وليس من خلال (الكلّ). فضلاً عن أنّ (التكرار) من خلال الطرح الجديد للظاهرة، يُساهم بدوره في تعميق الموضوعات التي يستهدفها المُبدع.

وأخيراً، فإنّ المعطى (الجمالي) وما يرافقه من التسلية الهادفة، يتحقّق بوضوح عند هذا النمط من الرسم للشخوص، أي: الرسم الذي يُعنى بتموّجات الشخصية عبْر مواجهتها لمثير جديد، والرسم الذي ينقل معالم السلوك من خلال وُصلاته التي يعمل (التكرار) على صياغتها كلَّ وصلةٍ بطرح جديد.

 

* * *

 

وعلى أيّة حال، فإن الجديد الذي يرسمه النص لشخوص الكتابيين، يتمثّل في الدعوة إلى وحدة الموقف حيال السماء، والإقرار بها، دون الانصياع للآخرين.

ولنقرأ الآية الأولى التي استُهلّ بها القسم الثالث من السورة، قال تعالى:

(قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم، ألاّ نعبدَ إلاّ الله ولا نُشركَ به شيئاً، ولا يتّخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون) [آل عمران: 64].

إنّ هذه الآية تجيء من جانب: تتويجاً لمجمل السلوك الذي رسمه النص في القسمين الأول والثاني من السورة، وتجيء من جانبٍ آخر: امتداداً

 

______________________________________________________

الصفحة 199

 

لمواقف جديدة من السلوك الذي سيرسمه النص في هذا القسم الأخير من السورة.

أمّا أنها تتويجٌ للسالف من السلوك، فلأننا نتذكر جيّداً ظاهرة (المحاجّات) و(المناقشات) التي تمّت بين النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وبينهم، ودعوته ـ من خلال لغة الحب ـ إلى رسالة الإسلام، ثم مزجه بين لغة الحب والتوعّد، ثم لغة التوعّد أيضاً. كل أولئك لحظناه بنحوٍ رافقته مواقف تتصل بتحريف الكتاب، وبالإعراض، وبالأقانيم الثلاثة وما إليها.

هنا، يجيء التتويجُ، مطالَبةً بتوحيد وجهة النظر حيال السماء والتخلّي عن تلك المواقف، وبخاصة أنّ قصة (المباهلة) التي خُتِمَ بها القسمُ الثاني من السورة، هذه القصة جاءت معزّزة لهذه المطالبة، لأنها حسمت الموقف لصالح الرسالة الإسلامية، حيث (تنازل) نصارى (نجران) عن موقفهم، وتخلّوا عن المباهلة إقراراً بمشروعية الرسالة.

وهذا يعني ـ فنيّاً ونفسياً ـ أنّ الدعوة إلى سواء الكلمة جاءت فرزاً عضوياً لما تقدّمها من عنصر قصصي فيما جاءت ـ من حيث موقع الرسم ـ بعد قصة المباهلة مباشرةً، كما تُعد تتويجاً لما سبقها بعامة من المواقف المتنوعة التي أشرنا إليها.

وأما أنها امتدادٌ لما سيجيء من الرسم، فيتمثل ذلك في تلويحها إلى عدم اتخاذ البعض، بعضاً (أرباباً)، فيما سنجد صدى هذا التلويح في المواقف الجديدة التي سيرسمها النص.

وينبغي ألاّ يفوتنا أيضاً التنبيه إلى ظاهرة (الإشهاد) وظاهرة (الإسلام) ـ ومعهما ظاهرة (الإيمان) فيما أشرنا إلى أنّ هذا الثلاثي يشعُّ بأضوائه على أبنية السورة بأكملها، وحيث ألقت بضوئها الآن على مقدمة القسم الثالث من السورة، مشيرةً ـ من خلال الآية المتقدمة ـ إلى أنّ الكتابيّين إذا قُدّر لهم أن

 

______________________________________________________

الصفحة 200

 

يعلنوا رفضهم لسواء الكلمة، فعلى المؤمنين أن يهتفوا قبال موقفهم، بهذا الهتاف:

 

(اشهدوا بأنّا مسلمون) [آل عمران: 64].

 

للمرة الجديدة، يتعيّن علينا أن نذكّر المُتلقي بأن هذا الهتاف قد ردّده الحواريون بالعبارة ذاتها:

 

(اشهدُ بأنّا مسلمون) [آل عمران: 52].

 

لقد كان الحوار مع السماءِ، عند الحواريين، وكان الحوار مع الكتابيين، عند المؤمنين. إلاّ أنّه في الحالتين عمليةُ (إشهاد)، إذن، الآية التي استُهلّ بها القسمُ الثالث من السورة، تظلّ تتويجاً لما تقدّمها من رسم الكتابيين، وتظلّ امتداداً لما سيجيء من رسم جديد لمواقفهم، فضلا عن أنّها تظلّ بعامة تواشجاً فنيّاً يصل بين جزئيات السورة بأقسامها الثلاثة.

ولكننّا إذا كان قد لحظنا تتويجها لما تقدّم، وتواشجها مع ما تقدم، فما هو امتدادها لما سيجيء؟

 

* * *

 

إن امتدادات هذه الآية التي استهلّ بها القسم الثالث، لما سيجيء بعدها من عرض شرائح السلوك الكتابي، تتمثّل أولاً في كونها أرهصت سلفاً بما سيواجهه المتلقي من السلوك المنحرف لديهم، طالما لوّح هذا الاستهلال بإمكانية تولّيهم عن الكلمة المستوية (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) وفعلاً نجدهم ـ وقد تولّوا ـ في المقطع الذي تتحدّث عنه كلمة الاستواء، حيث يعرض المقطع الجديد لنا جانباً من سلوكهم الذي عرضه في مقاطع سابقة، لكن في سياق جديد. فالمخاصمة أو المحاجة الهزيلة لا تزال تغلّف سلوكهم، كما أن كلاً من التمويه، المخادعة والكذب ونحوهما لا تزال كذلك. ويمكننا

 

______________________________________________________

الصفحة 201

 

ملاحظة هذه الأنماط من السلوك في العرض الذي يقدّمه النص على النحو الآتي:

(يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم وما أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إلاّ من بعدِه أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججْتُم فيما لكُم به علمٌ فلِمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به علمٌ والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنياً مُسْلماً وما كان من المُشركين * إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيُّ والذين آمنوا والله وليُّ المؤمنين * ودَّت طائفةٌ من أهل الكتابِ لو يُضلُّونَكُم وما يُضلُّون إلاّ أنفُسهُم وما يشعرون * يا أهل الكتابِ لِمَ تكفُرون بآياتِ الله وأنتم تشهَدُون * يا أهل الكتابِ لِمَ تَلْبسُون الحقَّ بالباطلِ وتكتمُون الحق وأنتُم تعلمونَ * وقالت طائفة من أهل الكتابِ آمنوا بالذي أُنزِلَ على الذين آمنُوا وجهَ النهارِ واكفُرُوا آخرهُ لعلّهُم يرجِعُون * ولا تؤمنوا إلاّ لمن تَبعَ دينكم قُل إنَّ الهُدى هُدى الله أن يُؤتى أحدٌ مِثل ما أُوتيتُم أو يُحاجُّوكم عند ربّكُم قل إنَّ الفضل بيدِ الله يؤتيه مَن يشاءُ والله واسع عليم * يختصُّ برحمتِهِ من يشاء والله ذو الفضلِ العظيم * ومن أهل الكتاب منْ إن تَأمَنهُ بقنطارٍ يُؤدِّه إليك ومِنهم منْ إن تأمَنهُ بدينارٍ لا يُؤدّه إليك إلاّ ما دُمتَ عليه قائماً ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأُمّيين سبيلٌ ويقولون على الله الكذِبَ وهم يعلمون * بلى منْ أوفى بعهدِه واتّقى فإنّ الله يُحبُّ المتُقّين) [آل عمران: 65 ـ 76]، أنهم يتخاصمون في إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أنه يهودي أو نصراني مع أنه سابق على الديانتين المذكورتين، فضلاً عن كونه مسلماً حنيفيّاً... وهو أمرٌ يكشف عن مدى التخلّف الذهني لديهم بحيث لا يميزون بين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وبين انتمائه الفكري من جانب، بصفة أن إسلاميته وحنيفيته تظل إلى رسالة القرآن أقرب منها إلى اليهودية والنصرانية، ولا يميزون بين آناء (الزمن) وبين انعدام علاقته بتلكم الشريعتين.

 

______________________________________________________

الصفحة 202

 

وهذا فيما يتصل بعنصر (المخاصمة) وانحطاطها الذهني في ممارستها. وأما فيما يتصل بظاهرة التمويه، فقد ألمح النص القرآني الكريم إليها بوضوح عندما خاطبهم (... لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) [آل عمران: 71]. وأما ما يتصل بالمخادعة، فإنهم ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ كانوا يحرّضون الناس على إظهار الإيمان برسالة الإسلام صباحاً والارتداد عنه مساءً حتى يحملوا الآخرين على التشكيك برسالة الإسلام، كأن يُقال لهم مثلاً: لقد وقع خطأ في صفة النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث تبيّنوا ذلك آخر النهار (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفروا آخره لعلّهم يرجعون) [آل عمران: 72].

وأما ظاهرة الكذب فقد اقترنت بـ(الخيانة) للأمانات، حيث عرض النص لسلوك البعض من الكتابيين الذين يخونون أموال الناس حتى لو كانت ضئيلة، معلّلين ذلك بالقول (... ليس علينا في الأمييّن سبيل...) [آل عمران: 75]. وتقول النصوص المفسرة: إن هذه الطائفة كانت تزعم بأن الأموال التي أصابوها إنما هي مصادرة بسبب من كون الأشخاص الذين تعاملوا وإياهم قد تركوا دينهم وانتسبوا إلى الإسلام، أي تحوّلوا عن ديانة هؤلاء الكتابيين، وقد علّق النص على هذا الزعم قائلاً (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) [آل عمران: 75].

ومن الواضح، أن هذا الزعم ينطوي على آليتين من السلوك هما: التسويغ والكذب، مع ملاحظة أن (التسويغ) هو أحد أنماط الكذب، لأن الكذب هو مطلق التعبير الذي لا واقع له، وأما التسويغ فهو: تقديم الأعذار التي لا واقع لها، أي هو: إضفاء سببٍ ما، على الممارسة التي تصدر عن الشخصية المريضة. وهذا النمط من الممارسة يُعَدّ حيلةً دفاعية يحتمي بها المريض، حتى يخفي من خلالها ما يخبره من التوترات. ومع أننا لا نميل إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 203

 

الاقتناع بالتفسيرات الأرضية لمصدر هذه التوترات، إلاّ أننا بعامة نميل إلى القول بأنّ (حيل الدفاع) ـ ذاتها مع أنها تجسّد فعلاً ـ خبراتٍ مؤلمةً دون أن تخضع لتفسير خاص، بل لمجموعة متشابكة ليس موضع تفصيل الحديث عنها في دراستنا الفنيّة هذه. وحسبنا أن نشير إلى ظاهرتها المَرَضية المتمثّلة في محاولة التماس سببٍ ما لتمرير هذا السلوك أو ذاك. فأنت ـ على سبيل المثال ـ حينما تفشل في تقديم محاضرةٍ علمية ذات قيمة، تسوّغ ذلك عادةً بضيق الوقت، وبانشغالك بأمور طارئةً حالت بينك وبين تهيئة المادة العلمية للمحاضرة، في حين أن الجدب الثقافي لدى المحاضر هو السبب في انعدام قيمته العلمية، وليس ضيق الوقت، أو الانشغال بأمور طارئة.

ومما لا شك فيه أنّ الصحة النفسية تفرض عليكَ ـ في مثل هذه الحالة ـ أن تقرّ بجدبك الثقافي، وهو مبدأ طالما يُلح التشريع الإسلامي عليه. ولكنك حينما تتأبى الإقرار بالعجز، فهذا يعني أنّك وقعت في براثن المرض، متمركزاً حول (ذاتك) ناسجاً عليها هالات (الحب)، يستوي في ذلك أن يكون المُعطى الذاتي نفسياً أم مادياً كما هو شأن الكتابيين الذين أشار القرآن الكريم إلى تسويغهم الذاهب إلى أنه لا سبيل في الأميين عليهم في أداء الأمانات إليهم.

وهذا كله في ظاهرة التسويغ.

وأمّا ظاهرة (الكذب) فلا تحتاج إلى التعقيب على إفرازها المَرَضي الواضح، ما دام (التسويغ) الذي تقدّم الحديثُ عنه، يُعدّ نمطاً من أنماط الكذب: وهذا يعني أنّ الكذب في أنماطه المتنوعة، يُعدّ قمّة الإفراز المَرَضي.

 

* * *

 

نحن الآن إذن، حيال ظاهرة مرضيّة في غاية التورّم إلا وهي (الخيانة) فيما رسمها القرآن الكريم (طابعاً) لطائفةٍ من الكتابيين.

ولقد لحظنا كيف تشابكت عدة دوافع، وعدةُ إفرازات مرضية في نسيج

 

______________________________________________________

الصفحة 204

 

الظاهرة المذكورة، حتى حوّلت الشخصية المعارضة لرسالة الإسلام، مسخاً يلغيه المتلقّي من ذاكرته تماماً.

فإذا أضفنا إلى ذلك القائمة التي تضمنت أعراضاً مرضية أخرى سبق الوقوف عندها مفصلاً في القسم الأول، والثاني، وفي القسم الثالث الذي نحن في صدد الحديث عنه. إذا أضفنا إلى ذلك قائمة (الأعراض) العصابية لهؤلاء الذين شكلوا موقفاً معارضاً لرسالة الإسلام، أدركنا حينئذٍ قيمة الرسم الخارجي والداخلي لشخوص الكتابيين، وما انطوت عليه من إنارة فنيّة تساهم في تعميق القناعة عند المتلقي بضئآلة أو بانعدام الشخصية المعارضة للرسالة، من حيث الخطوط المختلفة التي نظمّتها الشخصية المذكورة في انتسابها جميعاً إلى اشد حالات المرض والعصاب. مما يعني فقدان كل مقوّماتها التي من الممكن أن تترك أثراً أو آخر في موقفها غير الموضوعي.

 

* * *

 

وهنا، يجدر بنا قبل متابعة الرسم القرآني الكريم لشخوص الكتابيين، أن نُذكّر المتلقّي بشريحة فنيّة طالما أشرنا إليها عبر الصياغة القرآنية للمواقف والأحداث والشخوص. ونعني بها: النهاية المفتوحة لمصائر الكتابيين. فلقد أوضحنا في حينه أنّ إمكانات (التحول) ـ أو ما تسمّيه لغة الأدب القصصي بـ(النموّ) عند الشخصية ـ تسوّغ ـ من الوجهة الفنيّة ترك المصائر مفتوحة وليس مغلقةً، ما دام (التنامي) من موقف إلى آخر، يجسّد ظاهرة طبيعة في استجابات الأفراد.

كما أننا أوضحنا أيضاً، أن رسم الشخوص والأحداث والمواقف في مقاطع متنامية، يتكفّل كل منها بمهمة فنية، أي تتضّام فيما بينها من خلال طرح جديد في كل مقطع، ثم تنامي هذه المقاطع، بحيث يسلم أحدها إلى الآخر، في تصاعدٍ عضوي متلاحم. هذا النمط من الرسم ـ وقد لحظناه

 

______________________________________________________

الصفحة 205

 

بوضوح عبر متابعتنا لمختلف أنماط السلوك عند الكتابيين ـ يتطلّب بدوره ـ من الوجهة الفنية ـ ترك المصائر الشخصية مفتوحةً حتى يتناسق المصير المفتوح مع تنامي المقاطع المختلفة من السورة: فما دام كل مقطعٍ يتكفل بطرح جديد، ويتنامى بطرح آخر، فحينئذٍ يتعيّن على مصائر الشخوص أن تظل مفتوحةً حتى تتجانس فنياً مع دائرة المقاطع التي لم تقف عند نهايةٍ ما، إلاّ نهاية السورة ذاتها.

وإذن، إمكانية (النمو) في شخوص القصة من حيث التركيبة الدافعية للكائن الآدمي، وترشحّه لأن يتغيّر من حالٍ إلى حال، ثم: طبيعة الصياغة المعمارية للشخوص والأحداث والمواقف، في مقاطع مستقلة ومتداخلة مترابطة. هذه الصياغة وذلك النموّ يتطلبان فنياً ترك المصائر مفتوحة كما قلنا.

يُضاف إلى ذلك: ملحظُنا لظاهرةٍ تكررت في القسم الثالث من السورة عبْر رسمها لشخوص الكتابيين.

فقد لوحظ أنّ النص القرآني الكريم يبعّض الكتابيّين، ويشطرهم، ويُجزؤهم إلى فئاتٍ وطوائف وأبعاض، كأن يقول:

 

(وقالت طائفة من أهل الكتاب) [آل عمران: 72].

 

(ودّت طائفة من أهل الكتاب) [آل عمران: 69].

 

(ومِنْ أهل الكتاب مَنْ...الخ) [آل عمران: 75].

 

ومن البين أن تبعيضهم بهذا النحو، يعني أنهم ليسوا جميعاً على السمة المَرَضية التي رُسموا بها، ويعني ـ من ثمّ ـ أنّ تَرْكَ مصائرهم بعامةٍ، مفتوحةً، يظل متجانساً مع عملية التبعيض المذكورة. فالتأرجح بين المصير الإيجابي والسلبي لهم، يدع البعض الذي استثناه النص متساوقاً مع تصورات المتلقي في اتّشاحه بالنهاية الإيجابية، ويدع البعض المتأرجح فعلاً، متساوقاً مع تنبؤات المتلقي التي قد تفضي به إلى احتمال نموّ الشخصيات نحو المصير الإيجابي،

 

______________________________________________________

الصفحة 206

 

ما دام البعض المستثنى قد صيغ إيجابياً بالفعل.

ونكرّر ذلك من جديد، أنّ ترك المصائر مفتوحةٌ، مع تبعيض الشخوص إلى إيجابيين سلفاً، ينطوي على خطورة فنيّة يتعيّن على المتلّقي أن ينتبه إليها بنحوٍ ملحوظ حتى يكون على معرفة بطبيعة البناء المعماري للسورة القرآنية في شتى جزئياتها المتلاحمة بعضاً مع الآخر، وفي التجانس والتوازن فيما بينها.

ونتابع سلسلة الأنماط من السلوك الذي رسمه النص القرآني عند الكتابيين، فنجد أن الرسم الجديد يتمثل في عملية (التحريف) الذي كان يمارسه الكتابيون.

ولقد لحظنا أن التلميح إلى هذه الظاهرة قد تكرر في عدة مواقع من السورة، إلا أنها جاءت في سياق الإنارة لمواقف رسمها النص بالنحو الذي لحظناه في الأعراض المرضيّة التي غلّفت الشخوص المذكورين.

أمّا هنا فإنّ التحريف يجيء رسماً يحمل طابعاً مستقلاً، يتصل بمفارقته بنحو عام، وانسحابها على (الرسالة الإسلامية) ومطلق الرسالات السابقة عليها، ومكان (التحريف) منها. فثمة اشتراءٌ بعهد الله، وبالأيمان لقاء ثمنٍ عابر، لقاء مكسب دنيوي عابر (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً....) [آل عمران: 77]، وثمة تحريف عام، وافتراء صريح قائل بأن ذلك من عند الله: (يلْوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله...) [آل عمران: 78]. وإزاء مثل هذا الإلحاح على التحريف، تجيء الإجابةُ حائمة على موقف الأنبياء من السماء، وتشدّده على عبوديّتهم لها، مشفوعاً ذلك بعملية (الإشهاد) التي سبق التلميح إلى أنها تشكل أحد الأعصبة في السورة، فيما تنير بين آن وآخر، موقعاً جديداً منها، فقد جاءت الإجابة منكرةً لاتخاذ الأرباب وفقاً للفهم الكتابي على نحو ما أشرنا إليه سابقاً (ما كان لبشر أن يؤتيه الله

 

______________________________________________________

الصفحة 207

 

الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عباداً لي...الخ) [آل عمران: 79].

وجاءت مؤكدةً أخذ الميثاق من الأنبياء بتصديق رسالة الإسلام (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به...) [آل عمران: 81].

ثم جاء ذلك كله مشفوعاً بعملية (الإشهاد):

(قالوا أقررنا. قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) [آل عمران: 81].

 

* * *

 

ومثلما كان (الإشهاد) واحداً من الأعصبة التي لحظنا تمدّدها في السورة، كان (الإسلام) و(الإيمان) يمثلان عَصَباً آخر، أشرنا إلى إنارته لأكثر من موقعٍ في حينه. ولنقرأ:

(أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات...) [آل عمران: 83].

(قل آمنّا بالله، وما أُنزل علينا، وما أنزل على إبراهيم...الخ).

(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه...) [آل عمران: 85].

ولا حاجة بنا إلى التعقيب إلى أن الظواهر الثلاث (الإشهاد) (الإسلام) (الإيمان) كانت تتسرب عبر قسمي السورة، أي في عنصريها النثري والقصصي، عبر الرسم لكلٍ من شخوص الكتابيين والمؤمنين، ثم تسرّبها هنا، في أكثر من موقع، جاءت ـ في الموضوع الذي نتحدث عنه الآن ـ في سياق ظاهرة (التحريف) بصفته واحداً من أنماط السلوك عند الكتابيين، ليلاحِمَ بين جزئيات النص، وتقرع ذاكرة المتلقي بالأفكار المستهدفة، أي: المُشدّد عليها

 

______________________________________________________

الصفحة 208

 

في السورة، بصفتها (أفكاراً) تفصح عن نمط السلوك الإيجابي الذي تطالب السماء بأن تختطه الشخصية لذاتها عبر المهمة العبادية التي أُنيطت بها.

 

* * *

 

إنّ النص وهو يرسم جملةً من سلوك الكتابيين، بدأها في القسم الثالث من السورة من حيث أسلوب (المعرفة) لديهم، وأسلوب (التضليل)، ثم أسلوب (التحريف) أخيراً. هذا الرسمُ لأنماط السلوك المتقدمة، ختمه النص بطرحه أربع ظواهر تتصل بالتوبة، وبالإنفاق، وبالطعام، وبالحج... وبرسم هذه الظواهر الأربع ينتهي المقطع الأول من المقاطع التي تنتظم القسم الثالث من سورة آل عمران.

هنا ـ ونحن نُعنى بالبناء المعماري للسورة، يتعيّن علينا أن نستكشف الموقع العضوي لهذه الظواهر الأربع، وتواشجها مع ظواهر (المعرفة) و(التضليل) و(التحريف) وهي الظواهر التي انتهينا توّاً منها.

إلا أننا قبل ذلك، ينبغي أن نقف على الظواهر الأربع وملاحظة الرسم القرآني لها، أولاً.

 

 

* * *

 

الكفرُ، والإصرارُ عليه... ثم ما يقابله من التوبة، يشكّل أوّل الظواهر الأربع... ويُلاحظ أنّ النص يكرّر الرسم لهذه الظاهرة، ويلوّح بالعقاب عليها بالشدّة ذاتها، من نحو: (إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم...) [آل عمران: 90].

و: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به...) [آل عمران: 91].

إنّ أمثلة هذه النصوص قد رسمت كلاً من الكفر والتوبة، متجانسين في

 

______________________________________________________

الصفحة 209

 

شدّتهما مع كثافة الرسم لأنماط السلوك الملتوي بالنحو الذي لحظناه، أي: جاءت لغة الجزاء متجانسةً مع طبيعة المواقف الملتوية للشخوص، في حين أننا لحظنا في القسم الأول من السورة أنّ لُغة الحب هي التي وشّحت الموقف بما فيه لغة (الجزاء)، فيما لحظنا في حينه أن لغة (الجزاء) كانت بهذه الصياغة: (الله لا يحب الكافرين) [آل عمران: 32].

والسرُّ ـ من الوجهة الفنية ـ واضحٌ في موازنتنا بين الموقفين: الموقف الذي انتظمه القسمُ الأول من السورة، والموقف الذي انتظمه هذا الموقع من القسم الثالث في السورة.

هناك كان الرسم يتناول طريقة المحاجة والمناقشة بين الكتابيين، وبين النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عبر محاولة نقلهم إلى صعيد الهداية: فكانت ـ تبعاً لذلك ـ أن تتجانس لغة الحب مع الموقف الداعي إلى الهداية، وكان ذلك جميعاً قبل أن يتجه النص إلى رسم شتّى المواقف الملتوية عند الكتابيين. أمّا هنا، فإن النص بعد أن قدّم لنا سلسلة متتابعة من مواقف الكتابيين، وكلّها التواء حادّ وقفنا على تفصيلاته، حينئذ يتطلّب الموقف لغةً مضادة، حتى وصل الأمر إلى التلويح بعدم قبول التوبة (مع أنها مفتوحة بعامة إلا ما استثني)، بل وبعدم إنفاقهم ملء الأرض ذهباً.

وإذن، للمرة الأخرى ينبغي أن نلفت نظر المتلقي إلى معمارية هذا البناء لنمطين من لغة الجزاء: لغة الحب واللغة المضادة التي تصل إلى تخوم عدم قبول التوبة أيضاً.

ومن هذا البناء المعماري، نُدرك التواشج العضوي بين ظاهرة الكفر وهي أول الظواهر الأربع التي تساءلنا عن موقعها العضوي أي عن صلتها الفنية بالرسم الذي تناول مختلف أنماط سلوك الكتابيين عبر أساليب المعرفة والتضليل والتحريف.

 

______________________________________________________

الصفحة 210

 

والصلة بين الرسم لهذه الأساليب، وبين (الجزاء) في لغته المشدّدة، تتضح ـ إذن ـ لدى المتلقي بنحوٍ لا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.

الظاهرة الثانية من الظواهر الأربعة التي خُتِمَ بها المقطع الأول من القسم الثالث في السورة، هو ظاهرة (الإنفاق)، فيما تجسّده الآية التالية:

(لن تنالوا البرَّ حتى تُنفقوا مما تحبون...) [آل عمران: 92].

وقد حدّد بعض المفسرين طبيعة الصلة العضوية بين ظاهرة الإنفاق وما تقدّمها من ظاهرة عدم قبول التوبة حتى لو كان ذلك ملء الأرض ذهباً. حدّدها هذا البعض بأنّ ذلك عائدٌ إلى أنّ التلميح إلى الإنفاق، جاء ردماً لأية محاولة يفرضها عدم قبول الفدية، واستثمارها لعدم الإنفاق.

وفي تصوّرنا أن الموقع العضوي لهذه الظاهرة يتمثل في جملةٍ من البنى المعمارية لهيكل السورة أكمل.

فلقد لحظنا في القسم الأول من السورة، كيف أنّ إحدى الآيات تحدثت عن دافعية (المال) وأولته عناية كبيرة. وفي حينه أوضحنا طبيعة الصلة الفنية، بين رسم هذه الظاهرة وبين رسم شخوص الكتابيّين والمؤمنين.

وهنا، ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن أية ظاهرة مرسومة في القسم الأول، وفي القسم الثاني ـ وهو القسم المتمحض للعنصر القصصي ـ إنما يُلقي بإنارته على سائر أجزاء السورة: انطلاقاً من الحقيقة التي طالما أكّدنا عليها، فيما شكلت حافزاً إلى قيامنا بهذه الدراسات للنص القرآني، ونعني بها: الدراسة القائمة على معالجة السورة وفقاً لمعماريتها، وفقاً لمبناها المتماسك الذي ترتبط أجزاؤه بعضاً بالآخر، نحو ارتباط الجسم الحيّ بأجزائه بعضاً بالآخر.

إن دافعية (المال) تشكل واحداً من أقوى الدوافع إلحاحاً عند الشخصية بالنحو الذي أوضحناه في حينه. ونحن خلال معالجتنا للسلوك الكتابي لحظنا

 

______________________________________________________

الصفحة 211

 

كيف أن البُعد الاقتصادي كان يشكّل واحداً من الظواهر التي تجعل الشخصية الملتوية تمارس الالتواء إشباعاً للدافع المذكور.

وهذا يعني من جانب، أن الآية التي انتظمها القسم الأول من السورة وهي آيةُ (زُيّن للناس حب الشهوات...الخ) [آل عمران: 14]، ثم تقديم سلسلة من الممارسات التي نهض الكتابيون بها، وانسراب الدافع المذكور من أحد روافدها من جانبٍ آخر، إن هذا يعني أنّ النص القرآني قد أحكم الرباط بين طرح الظاهرة وبين رسم المواقف التي ترشح بالدافعية المذكورة.

وهنا، في الموقع الذي لا نزال نتناوله بالدراسة، يجيء الرسم للعنصر المالي مرتبطاً بما تقدم من سلوك الكتابيين وشخوص المؤمنين أيضاً، فيما كان القسم الأول قد أفرد مساحة من النص لرسم المؤمنين من خلال التضاد لرسم الملتوين، وهو أمر لا يخفى السر الفني الكامن وراء الرسم المضاد المذكور: حيث يفضي مثل هذا الرسم إلى تعميق الخبرة عند المتلقي، مثلما يفضي في نهاية المطاف إلى إحاطته خبراً بما ينبغي أن تختطه الشخصية لذاتها وهي تطمح إلى تجسيد سمة الإيمان فيما تشكّل هذه السمة هدفاً رئيساً للنص ـ كما هو واضح.

والمهم، أنّ رسم ظاهرة (الإنفاق) ترتبط بأكثر من وشيجة بما تقدمها من أجزاء وبما يلحقها من أجزاء. أمّا ما يلحقها من أجزاء، فسنجد أن النص القرآني يتجه إلى رسم جديدٍ لشخوص المؤمنين، على نحو ما لحظناه في القسم الأول من السورة في اتجاهه إلى رسم الشخوص المذكورة من خلال (التضاد).

وهذا يعني أنّ رسم ظاهرةٍ مثل (الإنفاق) عندما يَرد في هذا الموقع مرتبطاً بما تقدمه من النص، إنما يُرهص في الآن ذاته بما سيجيء من الرسم لشخوص المؤمنين أيضاً، وهذا ما سنلحظه لاحقاً.

 

______________________________________________________

الصفحة 212

 

من هنا يمكننا أن نستكشف ـ من خلال الاحتمال الفني ـ، أو بكلمةٍ أخرى، يمكننا أن نستكشف من خلال تذوقنا الفردي الخاص، ومن خلال الاستجابة التي تزودنا بها طبيعة الخبرات الفردية لهذه الشخصية أو تلك، يمكننا استكشاف دلالة الصيغة التي رُسمت عامةً، مجملةً، في الخطاب الموجّه إلى المُتلقي (لن تنالوا البرّ...) دون أن تشفعه بالاتجاه نحو الكتابي أو نحو المؤمن، ذلك: أن اتجاهه إلى العام يظل حاملاً خصيصة فنيّة ترشح بأكثر من إيحاء، بحيث يتساوق وطبيعة البناء العضوي الذي تتلاحم أجزاؤه بعضها بالآخر كأن يستخلص المتلقّي مثلاً بأن المطالبة بالإنفاق ذات صلة بدافعية المال التي احتجزت الملتوين من ممارسة السلوك الموضوعي، وذات صلة بما ينبغي أن يختطه المؤمنون لأنفسهم من تعاملٍ مع الدافع المذكور، وبخاصة أنّ اتجاه الرسم للمؤمنين سيحتل موقعه من النص بعد قليل، ثم بمقدور المتلقي أن يستخلص أيضاً دلالاتٍ فنيةً أخرى يعرفها جيداً كل من ألّم بطبيعة النصوص الأدبية الحديثة بخاصة، وهي: معالجة شتى الموضوعات المتفارقة ثم إخضاعُها لخيط عضوي يصل بين أجزائها، أو معالجة شتى الموضوعات مع محاولة التركيز والتشدد على أحدها ـ نظراً لما تنطوي عليه من أهمية من خلال وجهة نظر مبدع النص، مع إخضاع ذلك في الآن ذاته إلى الخيط العضوي الذي يصل بين أجزاء النص الأدبي. وكلنا يعرف جيداً أن (الإنفاق) يظل واحداً من الموضوعات التي تتردد بغزارة في سائر السور القرآنية، ليس بما ينطوي عليه من تدريب على وأد الذات، وتدريب على تقليص حجم الدافعية إلى المال، بل بما ينطوي عليه من معطيات اجتماعية لا مجال للحديث عنها في دراسة تحاول إبراز القيم الفنية للنص القرآني فحسب. وهذا كله ـ مثلما قلنا ـ يمكننا استخلاصه ونحن ندرس ظاهرةً رُسمت عبر آية واحدة خلال رسمٍ عام لشخوص الكتابيين وما يضادهم من شخوص المؤمنين، فيما جاء رسم الظاهرة رابطاً بين أنماط من السلوك لها صلتها بدافعية المال،

 

______________________________________________________

الصفحة 213

 

 

 

ـ وهي دافعيةٌ احتلت بعض المساحة من أجزاء السورة، ـ وفيما جاء رسم الظاهرة أيضاً مستهدفاً لمفهومٍ يستهدف النص إبرازه للمتلقي حتى تحدّد الشخصية نمط التعامل مع الدافع المذكور بالنحو الذي ينبغي أن يكون التعامل من خلاله متواسقاً مع مبادئ السماء.

 

* * *

 

وإذن، جاء رسم ظاهرة (الإنفاق) ـ وهي واحدة من أربع ظواهر قد اختُتم الموقع الأول من هذا النص الذي ندرسه، جاء هذا الرسم قائماً على معمارية خاصة، تبيّن لنا طبيعة التواشج الفني بين شريحة من النص وسائر أجزائه الأخرى.

الظاهرة الثالثة رُسمت في سياق الرسم لشخوص الكتابيين، فيما اختُتِم المقطعُ الأول بها، أي المقطع الأول من القسم الثالث في السورة. هذه الظاهرةُ هي: (الطعام).

والطعام بدوره ـ كما هو بيّنٌ ـ يشكّل واحداً من الدوافع الملحّة في تركيب الشخصية. وإذا كانت دافعية (المال) وهي الظاهرة التي انتهينا من معالجتها سابقاً، تشكل دافعاً ملحاً كل الإلحاح، فإن دافعية (الطعام) تكاد تنفرد عن سائر الدوافع بإلحاحٍ متميّز لا مناص من أشباعه بنحو أو بآخر.

وإذا كان من الممكن ممارسة (الكف) حيال دافعية (المال) فإن ممارسته حيال دافعية الطعام أمر لا يمكن تحقيقه البتة، لأنه ـ ببساطة ـ مرتبطٌ بحاجة (حيوية) لا مناص من إشباعها. بيد أننا إذا تجاوزنا الدافعية المذكورة من دائرة (الحاجة) الضرورية، إلى بُعدها (المُترف) أي إلى حاجتها الثانوية، حينئذٍ نواجه نمطاً آخر من التعامل مع الدافعية المذكورة وهو تعامل يُشبه التعامل مع (المال) من حيث إلحاحهما على الشخصية، وتعدّد مساربهما التي تترافق في أكثر من حاجة من الحاجات الثانوية.

 

______________________________________________________

الصفحة 214

 

ويهمنا الآن من الرسم لظاهرة (الطعام) صلتها العضوية بالنص، والموقع الفني الذي تحتله الظاهرة في هذا الصدد.

فلقد جاء رسمها من خلال الآية التالية بعد آية (الإنفاق): (كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنزّل التوراة..) [آل عمران: 93].

ومما ينبغي ملاحظته في البدء، أن النص القرآني وهو يرسم شخوص الكتابيين، إنما كان يرسمهم حيناً بنحوهم المُجمل ـ أي: الشامل بخاصة للنصارى واليهود. وحيناً آخر يرسمهم بنحوٍ محدّد يتجه إلى النصارى وحدهم، أو اليهود وحدهم، وهذه المستويات جميعاً لحظناها في الأقسام الثلاثة من السورة، مع ملاحظة أنّ الرسم منصبٌ في سورة آل عمران على نصارى الكتابيين، وفي سورة البقرة على يهود الكتابيّين.

 

* * *

 

وعلى أيةِ حال، فنحن نواجه الآن عبر دراستنا لهذه الشريحة من النص القرآني رسماً خاصاً بشخوص الإسرائيليين تساوقاً مع سائر الرسوم التي لحظنا ترددها بين ما هو خاص بهم، أو خاصاً بالنصارى، أو مشتركاً بينهما.

والرسم الخاص الذي نواجهه الآن يتصل بظاهرة (الطعام)، فيما تشير الآية إلى أن كلّ الطعام كان حلاً للإسرائيليين إلاّ ما حرّمه إسرائيل على نفسه بخاصة وإسرائيلُ هو (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم).

وتقول النصوص المفسرة: إن إسرائيل حرّم على نفسه لحوم الإبل لأنها سبّبت له أحد الأمراض، دون أن يحرّمه على الآخرين، ودون أن تحرّمه (التوراة) بعد ذلك. إلاّ أنّ اليهود أنكروا تحليل ذلك، وادعوا تحريمه على

 

______________________________________________________

الصفحة 215

 

إبراهيم ـ عليه السلام ـ مثلما دعاهم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى الاستشهاد بالتوراة تحقيقاً للموضوع.

وفي معرض الحديث عن الموقع العضوي لظاهرة الطعام، ذكر بعض المفسرين وجهتين من النظر: إحداهما أن الصلة قائمة بين الدعوة إلى الإنفاق لما هو مُلحّ من الدوافع مثل (المال) حيث تم رسمه على نحو ما تقدم، وبين الدعوة إلى الترغيب حيال الطعام المباح. وأما وجهة النظر الأخرى فتذهب إلى أن محاجّة اليهود ومناقشتهم مع النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ملة إبراهيم (وقد تقدّم الحديث عن ذلك في أوائل القسم الثالث من السورة) كانت تتناول ـ في جملة ما تناولته ـ الإنكار على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تحليله للطعام المذكور وادعاءها التحريم على إبراهيم عليه السلام، والاستناد في الادعاء المذكور، على التوراة.

وفي تصوّرنا أن المبنى العضوي لهذه الشريحة يتمثل في مجموعة من العناصر تتشابك جميعاً في معمارية النص بأكمله، على نحو ما لحظناه في كل شريحةٍ فنية تتواشج مع مجموعة النص، في الظواهر التي تمت دراستُها.

 

* * *

 

ثمّة أولاً تساوق عضوي يتمثّل في رسم آخر الظواهر التي خُتِمَ بها هذا الموقع الذي ندرسه، ونقصد بها ظاهرة (التحريف)، فيما ذكرنا أن أساليب ثلاثة هي: المعرفة، والتضليل، والتحريف قد اضطلع النصُ برسمها في هذا القسم الثالث من آل عمران. وكان (التحريف) هو الظاهرة الأخيرة من سلسلة الرسم كما رأينا. وفي حينه قلنا أن (التحريف) قد رُسم في عدة مواقع، إلاّ أنه أخذ طابعاً استقلالياً في الموقع الأخير الذي انتهينا منه.

هنا، يجيء الرسم جديداً لأحد أنماط (التحريف)، لكنه من خلال طرح جديد هو ظاهرة (الطعام). بيد أن الفارق بين البنى المعمارية لظاهرة التحريف يأخذ أشكالاً فنيّة متعددة تدلنا على خطورة ما نواجهه من معمارية النص القرآني الكريم. فثمة طرحٌ (للتحريف) رُسمَ في بداية السورة، وكان ذلك

 

______________________________________________________

الصفحة 216

 

بنحوه المُجمل الذي اضطلعت أجزاء السورة بتفصيله وفق بناء هندسي محكم وقفنا عليه في حينه. فقد كان الرسم التفصيلي حيناً، يجيء التحريف من خلاله وكأنه عنصر موظفٌ لإنارة السمات المرَضيَّة عند شخوص الكتابيين. فلقد لحظنا مفصّلاً كيف أن مجموعة من سمات المَرَضِ والعصاب قد غلّفت الشخوص المذكورين، فيما جاء التشدّد على إبراز ظاهرة (المرض) هدفاً بذاته، وكان (التحريف) عنصراً يُضيء معالم المرض عند الشخصيات المذكورة.

وجاء التحريف حيناً آخر هو الهدف بذاته، فكانت سائر أنماط السلوك بمثابة عناصر إنارة لتشخيص ظاهرة (التحريف)، أي جاءت على العكس تماماً من الرسم الأول.

أما هنا، فيجيء التلميح إلى ظاهرة (التحريف) نمطاً فنياً ثالثاً من أساليب الصياغة في النص القرآني الكريم. فلم يُصغ (التحريف) لإبراز ظاهرة مَرَضية تأخذ استقلالها كما هو شأن القسم الأول من الرسم الفني للظاهرة. كما لم يُصغ مستقلاً لإبراز معالمه من خلال ظواهر أخرى كما هو شأن القسم الثاني من الرسم الفني للظاهرة. بل أخَذَ هنا نمَطاً ثالثاً من أساليب الصياغة الفنية ألا وهو: النهوض بإقامة الوصلات العضوية بين أجزاء النص ولمّها في نسيج فني موحّدٍ متماسك، أي: أنّه يضطلع بإلقاء الضوء على كلٍ من الظاهرتين المتقدمتين من جانب كأن يفصح عن مزيد من سمات المَرض النفسي عند الكتابيين، وأن يفصح عن مزيد من أنماط التحريف في سلوكهم.

ومن جانب ثالث، يلقي مزيداً من الضوء على فئةٍ خاصة من التحريفيين وهم اليهود، تركيزاً لخطورة هذا التحريف، وتثبيتاً لسمة تخص الفئة المذكورة.

من جانبٍ رابع، يصل بين رسم لدوافع ملحّة يتأرجح التعامل معها بين

 

______________________________________________________

الصفحة 217

 

وأدٍ للذات لا ضرورة نفسية أو عبادية له كالتحريم لما هو مباح، وبين إقرار مثل هذا الوأد إذا كان في سياق صحّي مثلاً، أو في سياق التواضع لله، وهذا ما كان يمارسه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في تناوله لبعض الأغذية أو رفضها.

من جانبٍ خامس، يكونُ الرسمُ لهذه الظاهرة موضع تأكيدٍ مماثل لدافعية المال في رسم طرائق التعامل معها، فيما يجيء رسمها في سياق السلوك العام للكتابيين، يحمل نمطاً فنياً خاصاً من طرح الموضوعات، على نحو ما قلناه عن موضوع (الإنفاق) تماماً، فلا نعيد الكلام في ذلك.

من جانبٍ سادس، فإن توشيج الصلة بكل ما تقدم من موضوعات، ثم النهوض بعملية إرهاص لما سيجيء من موضوعات جديدة، يشكل بدوره مهمة فنية تمهّد للجديد من الرسم حيث سنرى أن الظاهرة الأخيرة من الظواهر الأربع التي خُتِمَ بها المقطع الأول من هذا القسم في السورة، يتصل بظاهرة (الحج). وستكون شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ مقدمة للظاهرة المذكورة، ويكون حينئذٍ طرح شخصية إبراهيم من خلال امتداد هذا الطرح للمحّاجة والمناقشة التي استُهلّ بها رسم الموقع الأول، ويكون إرهاصاً لما سيجيء من الموضوعات المتصلة بإبراهيم.

 

* * *

 

وإذن، نحن الآن حيال آية كريمة زخرت بهذه الصلات العضوية المتواشجة مع عناصر لا تنحصر في الجواب الستة التي ألمحنا إليها، بل مع عناصر أخرى لا تسمح تفصيلاتها إلاّ بمجلّدات ضخمة من التوفّر عليها.

الظاهرة الرابعة من الظواهر التي خُتِمَ المقطع الأولُ بها، وهو المقطع الذي استُهل به القسم الثالث من سورة آل عمران هو ظاهرة الحج.

وقد صيغت هذه الظاهرة مع مثيلاتها التي تقدم الحديث عنها في سياق الرسم لشخوص الكتابيين وما يضاده من الرسم لشخوص المؤمنين.

 

______________________________________________________

الصفحة 218

 

والموقع العضوي لهذه الظاهرة يتمثل في التواصل بين رسم الأنماط السلوكية لفئة من الكتابيين هم اليهود، وهم نفس الفئة التي أثارت قضية (الطعام) التي انتهينا تواً من الحديث عنها، وتوضيح المبنى الفنيّ الذي تحتله من أجزاء السورة.

وما قلناه عند الحديث عن ظاهرة (الطعام) وصلاته المتعددة بالنص، نقوله أيضاً عن (الحج)، يستوي في ذلك أن يكون الحديث عن البُعد الاستقلالي لهذه الظاهرة، أو البُعد الفني لها من حيث تواشج عروقه مع النسيج العام للسورة. فلقد قلنا هناك أنّ النصوص الفنية الخطيرة تتناول موضوعات شتى تتفارق فيما بينها، لكنها من الآن ذاته يلمّها خيطٌ عضويٌ تصب كل الروافد المتشعبة فيه، كما أنها تتناول موضوعاتٍ شتى يظلّ التأكيد على أحدها، أو دسّ أحد الموضوعات التي تبدو للمتلقي العادي وكأنها بعيدة الصلة عن المناخ العام للنص، يظل هذا التأكيد على الموضوع المطروح عابراً، وسيلة فنية للفت نظر المتلقي إليه، نظراً لما ينطوي عليه من خطورة فكرية يستهدفها مبدع النص.

ظاهرة (الحج) في رسمها عبر صياغة شخوص الكتابيين، تشكل (موضوعاً) مستهدفاً على نحو ما كان (الإنفاق) ـ وهو أحد الموضوعات الأربعة كما رأينا ـ مستهدفاً في السياق المذكور.

فالحج ممارسةٌ لها ثقلها في المعيار العبادي لا مجال للتحدث عنها الآن، بقدر ما نعتزم الإشارة إلى خطورته بعامة، وإلى السياق العضوي الذي يرد رسم الظاهرة من خلاله.

ومن هنا ـ أي من خلال الوظيفة العضوية للحج وتواشجه مع جزئيات النص المختلفة في سورة آل عمران ـ كانت مفردات الموضوع المتصل بالحج تتواسق مع أفكار السورة وموضوعاتها. فإذا استثنينا الفقرة التالية:

 

______________________________________________________

الصفحة 219

 

(... ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا...) [آل عمران: 97]، وهي الفقرة التي أوضحنا قيمتها الفنية بصفتها رسماً لموضوع مُستهدف يُستثمر من أي نص فني خطير لترسيخه في أعماق المتلقّي. أقول: إذا استثنينا الفقرة المذكورة وما أدّته من مهمّة فكرية، واتجهنا إلى الفقرات التي تقدّمتها والفقرات التي لحقت بها حينئذٍ نستكشف بوضوح مدى التواشج العضوي بين هذه الظاهرة وبين الأفكار والموضوعات المطروحة في السورة.

فلقد بدأ الرسم للظاهرة على النحو التالي:

(قل صدق الله فاتّبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) [آل عمران: 95].

وهنا ينبغي تذكير المُتلقي بمهمة فنيّة نهضت بها الآية السابقة على هذه الآية التي نحن في صددها، تلك ظاهرة (الطعام) التي أوضحنا في حينه أنها تشكّل إرهاضاً لما سيجيء من موضوعات، وامتداداً لما سبقها من موضوعات. فكان أحد الامتدادات متمثلاً في إقامة الصلة بين محاجة ومناقشة الكتابيين للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في قضية إبراهيم ـ عليه السلام ـ وبين أحد الموضوعات المجسّدة لتلك المناقشة وهو موضوع الحل لبعض أنواعه، حيث أوضحنا صلة الرسم الأخير بأول رسمٍ استُهلّ به القسم الثالث من السورة، وصلته بما سيجيء من موضوعات أو أفكار لاحقة.

وها هو الموضوع اللاحق يتجسّد في طرح قضية إبراهيم، لتشكّل من جديد امتداداً لما سبقها وتوطئةً لما يلحقها. فالتلميح إلى ملة إبراهيم يعود بذاكرة المتلقي إلى (حنيفية) إبراهيم وانتفاء الانتساب الكتابي إليه، فيما كان الملتوون من اليهود والنصارى يتشبثون بذلك الانتساب: تحقيقاً لأغراض وقفنا عليها في حينه. هذا التلميح إلى حنيفية إبراهيم وإزاحة سمة (الشرك) عنه، يظل أمراً واضحاً كل الوضوح من صلته بجزئيات السورة، إنه تواصلٌ مع تلك

 

______________________________________________________

الصفحة 220

 

الجزئيات على نحو تواصُلِ البنى الحيوية في أجزاء الجسم.

وهنا ينضاف طرحٌ جديدٌ آخر، يفصح عن حلقة جديدة من سلسلة المواقف الملتوية عند الكتابيين ألا وهو: اللجوء إلى اصطناع مجدٍ يهودي، يتمثل في أهمية بيت المقدس، قبال الكعبة.

وجاء الردّ على الاصطناع المذكور، على النحو التالي من الرسم:

(إنّ أول بيتٍ وُضِعَ للناس، للذي ببكّة مباركاً وهدىً للعالمين * فيه آياتٌ بيّناتٌ: مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً ولله على الناس حجّ البيت....) [آل عمران: 96 ـ 97]. إن المُتلقي مدّعوٌ إلى شدّ انتباهه بقوة إلى أسرار البناء المعماري لهذه الشريحة من النص، ولسائر الشرائح التي تتواشج فيما بينها، فيما لا يُدرك المتلقي العادي خطورة ما تنطوي عليه من قيمٍ فنيّة بالغة المدى.

فلقد استخدم النص عنصر (التداعي) واستثمره لترسيخ الروابط العضوية بين جزئيات النص، وما تحققه هذه الروابط من ترسيخ (الأفكار) التي يستهدفها النص من وراء صياغته لهذه السورة أو تلك.

ولقد جسّد عنصر (التداعي) هذه السلسلة من الترابطات:

1 ـ الطعام واستدعاؤه لقضية إبراهيم.

2 ـ قضية إبراهيم قد رُسمت في موقع سابق من النص.

3 ـ الرسمُ كان متصلاً بسلوك الكتابيين.

4 ـ العودة ـ من خلال التداعي ـ إلى سلوك آخر عند الكتابيين.

5 ـ تخصيصه هذه المرة لسلوك فئة خاصة منهم هم: اليهود.

6 ـ السلوك يتصل بمعرفة تحمل سمة (السذاجة) ـ وكانت هذه (السذاجة) تمثّل سلوكا سابقاً، جسّده النص في أول السورة، ثم أردفه بتجسيد آخر للسذاجة، في أول القسم الثالث من السورة.

 

______________________________________________________

الصفحة 221

 

7 ـ المعرفة الساذجة ـ أو المناقشة الساذجة تتم من خلال التداعي بين ملة إبراهيم في الانتساب العام إليه، وفي غيابه عن أذهانهم عبر اصطناع المجد لبيت المقدس.

8 ـ الاستدعاء للكعبة من خلال بيت المقدس، بصفتهما بيتين عظيمين من بيوت الله.

9 ـ الاستدعاء بين الكعبة وبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ من حيث صلته المعروفة بالبيت المذكور.

10 ـ الاستدعاء بين البيت نفسه وبين مقام إبراهيم بصفته يحمل خطورة عبادية خاصة.

11 ـ الاستدعاء بين (الأمن) وبين البيت نفسه.

12 ـ الاستدعاء بين البيت بعامة وبين ظاهرة الحج.

وإذن، نحن الآن قبال اثني عشر تداعياً ذهنياً، رسمه النص بنحوٍ بالغ الخطورة من حيث البناء الفني للنص، وتوشيج الصلات والروابط المختلفة بين جزئياته، ولمّها في لحظة زمنيّة مكثفة في ذهن المتلقي حتى يثرى بخبرات جديدة تفضي به في نهاية المطاف إلى اكتساب قناعة خاصة بالظواهر التي يستهدفها النص، فيما تم ذلك في آنٍ واحد خلال طرح جديد لظواهر مثل الحج، وخلال طرح حلقة جديدة من سلسلة سلوك الكتابيين: مثل المحاجّة ببيت المقدس.

مضافاً إلى ذلك: لمُّ كل هذه الجزئيات في نسيج متماسك يرتبط بعضه بالآخر، ويفضي بعضه إلى البعض الآخر.

 

* * *

 

وإذن، كم كانت هذه الشريحة الصغيرة ـ ونعني بها ظاهرة الحج ـ أي واحدةٌ من ظواهر أربع خُتم بها المقطع الأول من القسم الثالث في سورة آل

 

______________________________________________________

الصفحة 222

 

عمران، كم كانت هذه الشريحةُ غنيّةً في مهمتها الفكرية، وفي مهمتها الفنية، وفي عنصرها الاستدعائي، وفي لمّها لكل جزئيات السورة في معمارية محكمةً وقفنا عليها مفصّلاً.

وأخيراً، لَمّ النص من جديد، حصيلة السلوك الكتابي في آيتين تذكر الأولى منهما التواءهم بعامة، وتذكر الثانية محاولاتهم في صدّ الآخرين واحتجازهم عن الإيمان.

ومعلوم أنّ كل جزئيات المقطع الذي انتهينا من دراسته عبر القسم الثالث من السورة، إنما كان يتناول تينك الظاهرتين.

ومعلوم أيضاً، أن تتويج الرسم لمفردات السلوك، بتقديم حصيلة نهائية لمجمل ذلك السلوك، يُعدّ من جانبٍ تثبيتاً للموضوع المرسوم، وإحكاماً لمعماريّته التي تصل بين أجزاء النص من جانبٍ آخر.

وهذا بدوره، بُعدٌ جديدٌ من أبعاد البناء الفني لموضوعاتٍ تتواشج فيما بينها، وتتواصل بين موقع من النص، وبين سائر المواقع التي تلتمّ السورة عندها.

نواجه الآن مقطعاً جديداً في القسم الثالث من سورة آل عمران. وهذا المقطع يتناول رسم شخوص المؤمنين وكان المقطع السابق يتناول سلوك الكتابيين.

وهذا يعني أننا الآن قبال توازٍ هندسي في رسم الشخوص: الكتابيين يقابلهم المؤمنون.

وهذا التوازي يقابله توازٍ آخر لحظناه عند معالجتنا للقسم الأول من سورة آل عمران. فقد كان الرسمُ هناك يتناول الكتابيين وما يقابله من السلوك المؤمن.

 

______________________________________________________

الصفحة 223

 

هنا، في القسم الثالث من السورة، يتخذ البناء الفني نفس المعمارية.

وأما القسم الثاني من السورة وهو الخاص بالعنصر القصصي فقد كان موظفاً لإنارة جزئيات السورة جميعاً.

وهكذا، نحن الآن قبال معمارية محكمة البناء قائمة على رسومٍ متوازية في هياكلها العامة، فضلاً عن قيام جزئيات كل هيكل على التواشج العضوي، فيما بينها وبين جزئيات الهياكل الأخرى.

 

* * *

 

وحين نتجه إلى الرسم المضطلع بشخوص المؤمنين، نجد أنّ هذا المقطع، يحاول في البدء أن يقيم الصلة بينه وبين المقطع السابق عليه. فالمقطع السابق تناول شخوص الكتابيين كما قلنا. وكان ختام المقطع يلخّص حصيلة السلوك الكتابي الملتوي، متمثلاً في كفره بعامة، وفي محاولاته الرامية إلى صدّ الآخرين ومنعهم من الاتجاه نحو الرسالة.

ومن الوجهة الفنية، بدأ الوصل بين المقطع السابق والمقطع الحالي، بتوجيه الكلمة إلى المؤمنين، محذراً إياهم من إطاعة الكتابيين في محاولاتهم المذكورة.

وهذا يعني أنّ الوصل بين المقطعين قد تجسّد في ربط التحذير بما ورد في ختام المقطع السابق وهو محاولة صدّ المؤمنين عن الرسالة، ومن هنا جاءت مهمة التحذير من المحاولة المذكورة.

وينبغي ألاّ يغيب عن بالنا طبيعة الصلة العضوية أيضاً بين القسم الأول من السورة فيما ورد التحذير فيها مِن أن يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء لهم.

هنا، يطرح النص بُعداً جديداً من الظاهرة متمثلة في ما يلي:

 

______________________________________________________

الصفحة 224

 

(يا أيها الذين آمنوا إنْ تطيعوا فريقاً من الذين أُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين) [آل عمران: 100].

(يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار) [آل عمران: 102 ـ 103].

(ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...) [آل عمران: 104].

(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات) [آل عمران: 105].

(يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوهٌ فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم....) [آل عمران: 106].

 

(تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق...) [آل عمران: 108].

 

هذه النصوص تمثل محتويات المقطع الثاني في القسم الثالث من سورة آل عمران.

إنّه مقطعٌ يتناول رسم شخوص المؤمنين في صياغة معمارية تصل بين القسم الأول من السورة، وبين أقسامها الأخرى، وتطرح (أفكاراً) تمد عروقها من أكثر من حقلٍ من حقول النص المتواشجة بعضاً بالآخر.

فنحن نواجه أفكاراً تتحدث عن عدم الاختلاف مثلاً، من بعد ما جاءت البيّنات صريحةً في هذا الصدد. والحديث عن عدم الاختلاف هنا، يجيء في سياق التحذير من محاولات الكتابيين، وانعكاس تأثيرهم على المؤمنين.

وهذا البُعد الفكري نجده ملموماً في القسم الأول من سورة آل عمران

 

______________________________________________________

الصفحة 225

 

في الآية: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم...)[آل عمران: 19].

وهنا في القسم الثالث من السورة عبر مقطعها الثاني الذي نتحدث عنه يرد التحذير على النحو التالي من تذكير المؤمنين بأولئك الذين اختلفوا: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البيّنات).

وإذن، هنا بعدٌ فكريٌ واحدٌ ـ على سبيل المثال ـ قد صيغ مرتبطاً بأجزاء النص: القسم الأول والثالث منه، حيث يرد في الأول رسمٌ للكتابيين وقد اختلفوا بعد العلم، وحيث يرد في الثاني رسم للمؤمنين وقد صاحبَه تحذيرٌ من أن يقع الاختلاف المماثل بعد العلم.

ثم جاء الارتباط بين أجزاء القسم الواحد أيضاً. ففي المقطع الأول من القسم الثالث، يرد الرسم لمحاولات كتابيّة في التأثير على المؤمنين. وفي المقطع الثاني منه يرد التحذير من المحاولة المذكورة، وهكذا.

 

* * *

 

ولكن، فلنتابع سائر الوصلات العضوية بين أجزاء النص.

يرد التحذير هنا، من أن يُرد المؤمنون كافرين. وكان المقطع الأول يتحدث عن مثل هذه الردّة، ويتوعّد عليها بعدم قبول التوبة.

إذن، هذا نموذج آخر من الترابط بين المقطعين.

 

* * *

 

نموذج ثالث يواجهنا أيضاً:

إنه التحذير من المصير إلاّ: (لا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران: 102].

 

______________________________________________________

الصفحة 226

 

ولا حاجة إلى التعقيب بصلة هذه الشريحة الفكرية بظاهرة تردّدت في كل أجزاء السورة ظاهرة: (إن الدين عند الله الإسلام) (ومن يبتغ غير الإسلام..) (أأسلمتم؟)...الخ.

 

* * *

 

وإذا تركنا هذه الشرائح الفكرية التي نهضت بإقامة الصلات المتواشجة بين جزئيات السورة، واتجهنا إلى الجديد المرسوم منها، ألفينا جملةً من القيم الفكرية منها:

الاعتصام بحبل الله، التأليف بين القلوب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه القيم الفكرية الثلاث، جاءت ـ كما لحظنا ـ في نطاق الرسم لشخوص المؤمنين، وهو رسمٌ قلنا أنّ مسوغات طرحه تتمثل في صياغة (الأفكار) المستهدفة في النص على نحوٍ معماري ينتظم كل شريحة، ويهبها معنى جديداً في كل حقل جديد مرسوم، ويجسّد هذا الاعتصام إعادة الشريحة في نطاق جديد، يصل من جانبٍ بينها وبين الشرائح السابقة، ويفرز أفكاراً جديدة من جانبٍ آخر.

وها هي القيم الفكرية الثلاث، تُفرز في المقطع الذي نحن في صدد الحديث عنه.

إنها أولاً: التذكير بأنّ الشخوص كانوا على شفا حفرةٍ من النار، فألّف الإسلام بين قلوبهم.

ثانياً: يترتب على ذلك: أن يعتصموا بالإسلام الذي ألف بين تلك القلوب.

ثالثاً: أن لا يكتفوا بالعطاء الذي اكتسبوه، بل يتعين أن يقدموا العطاء

 

______________________________________________________

الصفحة 227

 

بدورهم للآخرين، وذلك بأن يمارسوا عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبيّن أنّ القيمتين الفكريّتين الأولَيين جاءتا ممارسة دفاعية حيال ممارسات الكتابيين. وجاءت القيمة الفكرية الثالثة عملية بناء مضاداً لعملية الهدم الذي يمارسه الكتابيون. فالكتابيون يمارسون هدماً للقيم، والمؤمنون يمارسون عملية (بناء) للقيم من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا بدوره مبنىً معماريٌ آخر يحقق التوازي الفني بين جزئيات النص.

نتجه إلى مقطع جديد من سورة آل عمران. فنجده متمثّلاً في: رسم العلاقة القائمة بين شخوص المؤمنين والكتابيين. ومن خلال رسم هذه العلاقة، يطرح النص جملةً من أنماط السلوك الملتوي لدى الكتابيّين، يوازنها في الآن ذاته رسمٌ لبعض الظواهر المطروحة في مواقع سابقة من النص.

 

* * *

 

وقبل أن نتابع الحديث عن محتويات هذا المقطع، لا مناص من تذكير المُتلقّي بأن القسم الثالث من السورة، بدأ برسم شخوص الكتابيين، وأردفه بالمؤمنين، ثم اتّجه إلى رسم كليهما في موازنة فنية تتناول أبعاداً أخرى من أنماط السلوك، عبر هذا المقطع الجديد الذي نحن في صدد الحديث عنه.

وأول ما يواجهنا في هذا المقطع: إنماءٌ عضويٌ لظاهرةٍ تمّ رسمُها في المقطع السابق، ألا وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصفتها التجسيد العملي أو الردّ العملي على سلوك الملتوين الذين رسمهم القرآن الكريم وهم يمارسون أمراً بالمنكر، ونهياً عن المعروف عبر التضليل والتحريف وما إليهما من أنماط السلوك الذي تمّ رسمه.

هُنا في المقطع الجديد، يُنمي النصُ القرآني، ظاهرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينميها عضوياً بأن ينقلها من صعيد (المُطالبة بها) في

 

______________________________________________________

الصفحة 228

 

المقطع السابق، إلى صعيد آخر هو: رسمُها. وقد (تجسّدت) فعلاً في سلوك المؤمنين، حتى أصبحت (سمةً) تميّزهم عن غيرهم من الآدميين.

ويُمكننا إدراك ذلك بوضوح، من خلال الصياغة اللفظية لكلٍ من الرسم في المقطعين السابق والحالي. ففي المقطع السابق رَسَمَ المؤمنين بهذا النحو:

(ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...) [آل عمران: 104].

أمّا في المقطع الحالي، فقد رسَمَهم بهذا النحو:

(كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) [آل عمران: 110].

وإذن، النّموُ العضويُ، يتمثّل في عملية الانتقال الحي من أمّةٍٍ، يُطالبها النصُ بأن تدعو إلى الخير، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، إلى أمّةٍ قد جسّدت فعلاً عملية الدعوة إلى الخير، وعملية الأمر بالمعروف، وعملية النهي عن المنكر.

وهذا النماء العضوي ـ من الوجهة الفنيّة ـ يُعدّ منحىً أسلوبيّاً بالغ الخطورة في عملية الاستجابة عند المتلقّي، عبر انطوائه على العنصر التالي، ونعني به إختزال الحدث والموقف.

فمن البيّن ـ في لغة الأدب القصصي ـ أنّ الاختزال يكتسب مشروعيته، في واحدٍ من الأمور التالية:

أولهما: توفير (الاقتصاد) في العبارة، بصفة أنّ الاقتصاد ـ في حد ذاته ـ يمثّل: الاحتفاظ بالطاقة النفسية، من خلال عدم تصريفها في نشاطٍ لا ضرورة له:

الثاني: أنّ الاختزال، يساهم في إحداث عنصر (المشاركة) بين المتلقي

 

______________________________________________________

الصفحة 229

 

وبين النص. فبدلاً من أن يُقدّم النصُ للمتلقي كلّ تفصيلات الحدث والموقف، يقدّم له ما هو ضروريٌ، ويدع التفصيلات للمتلقي، تاركاً له تحريك طاقته النفسية فيما تعود عليه بالفائدة: والفائدةُ هنا تتمثّل في (الامتاع) الجمالي والعقلي. فالمتلقّي حينما يكتشف بنفسه عناصر الحدث والموقف في بعض خطوطها، يكون من جانبٍ قد أثرى معرفته الفنية بمخزونٍ جديدٍ من الخبرة، ويكون قد أشبع حاسّته الجمالية بهذا الاكتشاف الفنّي لهذا النص الأدبي أو ذاك.

الثالث: أنّ الاختزال، ويقابله (الانتقاء) يتبادلان ما هو ضروري وما هو غير ضروري من خلال قاعدةٍ فنيّة هي: تحديد وجهة النظر التي يلح النص على رسمها، ويعتزم إلقاء الضوء عليها، والتمركز عندها، دون سواها من وجهات النظر التي تحددها سياقاتٌ أخرى من النص.

وفي مثل هذه الحالة، (ينتقي) النص هذه الشريحة أو تلك، و(يختزل) ما سواها، حتّى يحسّس القارئ بأهمية ما هو (منتقىً)، وثانوية ما هو (مختزل) تاركاً له أن يستخلص بنفسه، تفصيلات ذلك.

وفي المقطع الذي نحن في صدد دراسته من النص، نجد أن (انتقاء) الحدث والموقف قد تجسّد في الإشارة أو في الدعوة إلى ممارسةٍ ما، وهي: الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وهذا ما كان منتقىً من المقطع السابق.

مّا ما هو منتقىً في المقطع الحالي، فهو: نتيجة الموقف والحدث السالفين، أي، نهايته: وهي نهايةٌ تمثلت في: اكتساب (السمة) التي طُولبَ بها، (كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف...الخ) أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

______________________________________________________

الصفحة 230

 

وإذن، ثمة (انتقاء) لحَدَثٍ أو موقفٍ شدّد النص عليه في كلٍ من المقطعين: السابق والحالي.

وهذا الموقف هو ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولقد (انتقاه) النص دون سواه من المواقف التي تصاحبه عادةً، نظراً لانطوائه على خطورةٍ يستهدف النص إلفات نظر المتلقي إليها.

كما أنه (اختزل) الأحداث والمواقف التي رافقها تذويبٌ لعنصر (الزمن)، الذي تتنامى تلك الأحداث والمواقف من خلاله.

إنه اختزل (الزمان) وما واكبه من أحداث ومواقف، تتنامى من خلاله شخصية المؤمنين من تطبيع على السلوك، وتدريبٍ على مفرداته المتنوعة: حتى الوصول إلى مرحلة جديدة هي: القدرة على الممارسة المذكورة فعلاً...

وبكلمة أخرى: اختزل النصُ المسافة الزمنية والنفسية القائمة بين المطالبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين التطبيع الفعلي على الممارسة: نظراً لأنّ النص يستهدف ـ بنحو رئيس ـ إبراز الممارسة.

أمّا الرحلة الزمنية التي استغرقتها عملية التطبيع على الممارسة، فتظلّ هدفاً ثانوياً، من الممكن للمتلقي أن يستخلصه بنفسه من خلال عنصر (التخيل)، وما يستتليه من (المشاركة) التي قلنا أنّها تحقق إمتاعاً جمالياً وعقلياً للمتلقي على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.

إنّ المقطع الجديد الذي استُهلّ برسم شخوص المؤمنين، من خلال إنمائه العضوي لظاهرة الأمر بالمعروف. هذا المقطع، يظلّ ميداناً لعمليات النموّ الفني الأخرى، مثلما يظلّ ممتداً بعروقه إلى المقاطع السابقة في تواشج تبرز من خلاله عملياتُ التوازي والتقابل، واضحةً كل الوضوح.

 

______________________________________________________

الصفحة 231

 

ولعل رسم العلاقة القائمة بين الكتابيّين والمؤمنين، تظلّ أبرز الملامح في هذا الصدد.

فلقد لحظنا القسم الأول من السورة، قد حذّر المؤمنين من أن يتخذوا الكافرين أولياءً لهم. ورأينا المقطع السابق يحذر المؤمنين أيضاً من أن يطيعوا فريقاً من الكتابيين. وها هو المقطع الجديد يرسم التحذير أيضاً من التعامل مع الكتابيين. إلاّ أنه من الواضح، أنّ الأنماط الثلاثة من التحذير ترد في سياقاتٍ متنوعةٍ، أشرنا إلى الأوّلين منهما في حينه.

أمّا النمط الثالث فيرد في سياق يتساوق والطرح الجديد لأيّة ظاهرة يتمّ رسمها في مقطع جديد.

إن هذا المقطع الذي نحن في صدد دراسته، يتناول ـ مثلما قلنا ـ رسم العلاقة بين شخوص المؤمنين والكتابيين. إلا أنّ الرسم يتناول أبعاداً جديدة من العلاقة، تتجسّد في التركيز على فضح مشاعر الكتابيين، وما تحمله من نزعاتٍ (عدوانية) حيال المؤمنين: رَسَمها النصُ في مفرداتٍ عمليّة من السلوك.

 

* * *

 

وممّا لا لَبْسَ فيه، أنّ النص مهّد للقارئ أو المستمع، مناخاً نفسياً لتقبّل أيّة مشاعر عدوانية يفرزها الملتوون في تعاملهم مع الآخرين. فمنذ بداية السورة وعبْر مقاطعها أجمع، كان النصُ مضطلعاً برسم ظواهر الحقد والأنانية والحسد وكلّ أعراض المرض والعصاب لشخوص الكتابيين، بالنحو الذي وقفنا عليه مفصّلاً.

ومثل هذا التمهيد النفسي، يحمل خصيصة فنيّة، تتمثّل في صوغ الاستجابة عند المتلقي، محكومةً بقناعة تلقائية لمثل تلكم المشاعر.

 

______________________________________________________

الصفحة 232

 

والمهم، أن رسم العلاقة، أو التعامل بينهما، أي: بين الكتابيين والمؤمنين، بدأه النص بلغة المُسالمة قبال لغة العدوان لدى الكتابيين.

ويمكننا ملاحظة هذه اللغة متمثلةً عند السماء، وعند المؤمنين. فلقد بدأ النص ـ بعد أن رسم المؤمنين خيرَ أمّةٍ أُخرجت للناس ـ بدأ بهذا اللغة حيال الكتابيّين:

(... ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) [آل عمران: 110].

هنا ـ ينبغي ألا يغيب عن ذهن المتلقي رسم المصائر التي تركها النص مفتوحةً حيال الكتابيين، وما يفرزه هذا الرسم الذي يؤرجح المصير بين نهاية سوداء أو بيضاء. أقول، ينبغي ألا يغيب عن الذهن، السرَّ الفنّي الذي طالما أشرنا في تضاعيف دراستنا إلى إفصاحه عن المسوّغات الكامنة وراء التأرجح المذكور، وفيما أشرنا أيضاً إلى أنّ رسمها من خلال (طائفةٍ) أو (فريقٍ)، يندرج ضمن المسوّغ الفني المذكور أيضاً.

هنا، في المقطع الذي نواجهه، يكرّر النص هذا التبعيض للشخوص، إستحكاماً للحقيقة المذكورة، وتثبيتاً لها في خضمّ الرسم الذي يأخذ بُعداً جديداً من أنماط السلوك لديهم.

كما أنّ لغة (الحب) التي رسَمَها النصُ في بداية السورة فيما أشرنا في حينه إلى مسوغاتها، هذه اللغة كررّها النصُ بدوره هذا تثبيتاً لما سلف، وتأسيساً لما يرسمه من طبيعة التركيبة الشخصية عند المؤمنين، وهي طبيعة سويّةٌ قائمةٌ على المسالمة، على الحب.

ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح، في الفقرة التالية التي سنقف عليها لاحقاً، وهي:

 

______________________________________________________

الصفحة 233

 

(ها أنتم أُولاء تحبّونهم، ولا يحبّونكم...) [آل عمران: 119].

على أية حال، (المسالمةُ) أو (الحب) تظل هي المفتاح في رسم العلاقة التي يعتزم النص تحديدها في هذا المقطع، مقابلاً لعنصر (العدوان) الذي يغلّف الكتابيّين في تعاملهم مع المؤمنين.

 

* * *

 

لقد رَسَم النصُ القرآني عبر تحديده لنمط العلاقة القائمة بين شخوص الكتابيين والمؤمنين، رسم أنماطاً جديدة من السلوك لدى الكتابيين بعامة، مستقلة عن العلاقة المذكورة. مثلما رسم الملامح الإيجابية عن طائفةٍ منهم.

وطبيعيٌ أن يجيء كلٌ من الرسمين المتقدمين، في نطاق جديدٍ من الطرح يتساوق وطبيعة المقطع الذي نحن في صدد الحديث عنه.

لقد رسَمَ أولاً: المَصير الدنيوي البائس للكتابيين في غمرة البحث عن التعامل القائم بينهم وبين المؤمنين. فكان المصير التالي يدع صياغة المصائر في تأرجحها، يدعها إلى قرارٍ تنتهي إليه بعض المصائر دنيوياً.

والآية الكريمة التالية، ترسم معالم المصير الدنيوي المذكور (لن يضروكم إلاّ أذًى، وإن يقاتلوكم، يولّوكم الأدبار ثم لا يُنصرون) [آل عمران: 111]. ولنقرأ: (ضُربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا إلا بحبلٍ من الله، وحبلٍ من الناس. وباءوا بغضبٍ من الله، وضُربت عليهم المسكنة...) [آل عمران: 112].

ولقد جاء هذا المصير متواسقاً وطبيعة الرسم الذي تقدّمه في أنّ إضرارهم للمؤمنين لن يتجسّد عملياً إلا في نطاق الأذى اللفظي.

إلا أن الآية المذكورة، أردفت ذلك برسم السبب الذي أفضى بهم إلى المصير الدنيوي المذكور: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء

 

______________________________________________________

الصفحة 234

 

بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) [آل عمران: 112].

 

وبيّنٌ أنّ المصير المذكور قد امتدّ بجذوره إلى سلوك الأسلاف.

وبيّنٌ أيضاً أن رسم المصير في سياق الأسلاف، يُساهم بوضوح في تعميق الخبرة المزامنة لصدور النص، والخبرات المقبلة أيضاً، وبخاصة أن ظاهرة (الذل) المضروب عليهم يتجسّد في (الجزية) التي كانوا يؤدونها حتى قبل الإسلام، فضلاً عما التزموا بتأديتها في العصر الإسلامي.

إنّ المصير الدنيوي أو الأخروي عندما يرسمه النص للكتابييّن، فإن التأرجح في رسم المصائر يظل قائماً، تفرضه طبيعة الهيكل المعماري للسورة التي اضطلعت ـ كما كرّرنا التلميح إلى ذلك ـ برسم المصائر متأرجحةً بين مصير أخروي أو دنيوي ملوّح به، وبين تركه مفتوحاً بغية أن يتجانس المصير سلباً أو إيجاباً، مع الاستجابة الشرّيرة أو الخيّرة التي يفرزها الكتابيون حيال رسالة الإسلام.

من هنا، نجد النص ما أن ينتهي من رسم المصير الدنيوي البائس للكتابيين، حتّى يردفه برسم مضاد، يتناول من خلاله التلميح إلى (طائفة) منهم قد استجابوا للرسالة الإسلامية استجابةً خيرة، وهي استجابة تتجانس فنياً مع ما سبق أن لحظناه من تبعيض الكتابيين، وتجانس ذلك مع طبيعة الرسم الذي ترك المصائر ـ في بعض أنماطها ـ مفتوحة والآيتان التاليتان، تنهضان بالرسم المذكور:

(ليسوا سواءً: من أهل الكتاب أمّةٌ قائمةٌ يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات...) [آل عمران: 113 ـ 114].

هنا، ينبغي ألا يَغرب عن بالنا، تحديد الصلة العضوية بين ملامح

 

______________________________________________________

الصفحة 235

 

السلوك المؤمن الذي رُسم في بداية المقطع، وبين هذه الشريحة التي تتناول طائفةً من الكتابيين.

ففي الرسم الأول كان البُعد العضوي متمثلاً في عملية (نموّ) بدأت في مقطعٍ سابق بالمطالبة بالظواهر الثلاث: الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، السبق إلى الخيرات، وانتهت بالتجسيد الفعلي للظواهر الثلاث.

أما في الرسم الثاني فإن البُعد العضوي، يتمثل في (التواشج) و(التواصل) بين شريحتين تتبادلان الصلة فيما بينهما، وهي: تجسيد الظواهر الثلاث في سلوك كلٍ من المؤمنين، وفي سلوك طائفة من الكتابيين الذين استجابوا لرسالة الإسلام.

 

* * *

 

وإذا كان الرسم المذكور يجيء غبّ الرسم لمصيرٍ دنيويٍ بائس فإن النصّ قد أعقب ذلك برسم المصير الأخروي أيضاً: ولنقرأ:

(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * مَثَلُ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريحٍ فيها صِرٌّ أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهم فأهلكته...) [آل عمران: 116].

ولا حاجة بنا إلى التعقيب على التواشج العضوي بين رسم المصيرين: الدنيوي والأخروي، وتوسطهما، ذلكَ الرسمَ الذي يتناول طائفةً إيجابية من الكتابيين، لبداهة الأثر النفسي الواضح لهذا النمط من الرسم.

كما لا حاجة بنا إلى التعقيب على ظاهرة المال والأولاد فيما تكرّر رسمُها هنا في سياق هذا المقطع، بعد أن أوضحنا في موقعٍ سابق صلة الظاهرة المذكورة بسلوك الكتابيين، وتمهيد السورة برسم دافعية المال والأولاد في القسم الأول من النص، وتواشج الصلات بين أولئك جميعاً.

 

______________________________________________________

الصفحة 236

 

كلّ ما في الأمر أن تكرار الظاهرة يجيء في سياقٍ جديدٍ، يساهم بدوره في تعمق الأثر النفسي الذي يستهدفه النص.

 

* * *

 

الشريحة الأخيرة من المقطع الذي نحن في صدد دراسته، قائمة على تحديد التعامل السلبي عند الكتابيين. يقابله التعامل الإيجابي عند المؤمنين.

ولنقرأ في البداية، نصوص الرسم الذي يفرز المشاعر العدوانية في أشدّ ألوانها ضراوةً عند الكتابيين، مع تعقيب السماء عليها:

1 ـ (يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودّوا ما عنتّم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر...) [آل عمران: 118].

2 ـ (وإذا لقوكم قالوا آمنّا وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل من الغيظِ قل: موتوا بغيظكم...) [آل عمران: 119].

3 ـ (إن تمسَسْكُمْ حَسَنةٌ تسُؤْهُم وإن تُصِبْكم سيئةٌ يفرحوا بها وإنْ تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئاً...) [آل عمران: 120].

ولا تغرب عن بالنا، المقولة التي تلخّص نزعتهم، وما يقابلها من النزعة المسالمة عند المؤمنين، فيما وقفنا عليها سابقاً، ونعني بها (ها أنتم أُولاء تحبّونهم ولا يحبونكم) [آل عمران: 119].

وعند التأمل للنصوص المتقدمة، يمكننا أن نفرز النزعة العدوانية، متجسدة في المفردات التالية من السلوك:

 

أ ـ (لا يألونكم خبالاً): وتعني، السعيُ إلى الإضرار بعامة.

 

ب ـ (ودّوا ما عنتّم): وتعني، التمنّي، والتلذّذ بالإضرار.

 

______________________________________________________

الصفحة 237

 

جـ ـ (بدت البغضاء من أفواههم): وتعني، الإيذاء اللفظي.

 

د ـ (إن تمسسكم حَسَنةٌ تسؤهم): وتعني، الاستجابة غير المُسرّة.

 

هـ ـ (وما تخفي صدورهم): وتعني، العدوان الكامن، أو المخبوء.

 

و ـ (تحبونهم ولا يحبّونكم): وتعني، النزعة الحاقدة بعامة.

 

ز ـ (عضّوا عليكم الأنامل): وتعني، النزعة الحاسدة.

 

هذه المفردات من السلوك، تستقطب كلّ جوانب الشخصية العدوانية في ملمحها الداخلي والخارجي، ثمّ في ملمحها العام.

ولقد رَسَم النصُ ـ عبر هيكلٍ معماريٍ مُعبّر ـ كلاً من الملامح الخارجية للشخوص، متواشجةً بوضوح مع الملامح الداخلية لهم، متواشجةً جميعاً مع السمة العامة للشخصية العدوانية.

 

* * *

 

أمّا الصياغة للملمح الخارجي، فقد أبرز النص منها سمتين: إحداهما مقترنة بعنصر الرؤية، والأخرى مقترنة بعدمها.

والعنصر المقترن بالرؤية هو: الإساءة اللفظية فيما يتمثلها المؤمن عياناً.

وأما المقترن بعدمها، فهو: عضّ الأنامل، فيما لا يحيط بها علماً ما دامت الصورة تتمّ في غيابه عنها.

ومن البيّن ـ من الوجهة الفنية ـ أن النص عندما يرسم ملمحاً خارجياً، ويجعل أحد أنماطه خاضعاً لعنصر الرؤية، والآخر غير خاضعٍ لها، أي: يرسمه خافياً على الآخرين، فإنّ مثل هذا الرسم فضلاً عن أنّه يفصح للمتلقي عن المخبوء من السلوك، فإنه ينهض بوظيفةٍ فنية ثانية هي: الكشف عن التلاحم العضوي بين النزعة الداخلية وترجمتها إلى ملمح خارجي يتساوق

 

______________________________________________________

الصفحة 238

 

وكثافة ونمط النزعة المذكورة، وفضلاً عن ذلك، فإنه ينهض بوظيفةٍ فنيّة ثالثة هي: التجانس المعماري بين نمطي الرسم الداخلي والخارجي: اللذين انفصلا في عملية الرسم ظاهرياً، وبكلمة أخرى: ثمة نمطان من الرسم العام: خارجي، مثل: الإساءة اللفظية وعض الأنامل، وداخلي، مثل: البغضاء في الصدور. وهذان الرسمان المتقابلان، جانسهما رسمٌ لأحدهما وهو الرسم الخارجي، فيما كان الرسم الخارجي أيضاً منطوياً على بُعدين: يتجانسان من حيث خفاء أحدهما وظهور الآخر، مع الرسمين المتقابلين: الداخلي والخارجي.

 

* * *

 

وأمّا الرسم الداخلي، فمن الوضوح بمكانٍ لا حاجة إلى التعقيب عليه، ما دام النص قد رسم مشاعر الكراهية لدى الشخوص: في كمونها، قال عنها النص أنها أشدّ كثافةٍ مما عُرف منه (وما تخفى صدورهم ـ من البغضاء ـ أكبر).

بيد أن النّص عندما رسَمَ نموذجين آخرين هما: التلذذ بالأضرار من خلال التمني بحدوثه، ثم الاستجابة المؤلمة عند فرح الآخرين، والاستجابة المسرة عند ألَمَ الآخرين.

إنّ هذين النمطين من الاستجابة، تفصحان بوضوح عن أشدّ الأنماط عصابيةً وانحرافاً، فيما تسلخان الشخصية تماماً عن دلالة الإنسان.

فإذا أضفنا إلى ذلك، سمة عامة مثل: السعي إلى الإضرار، وعدم الحب، فيما يجسّدان الداخل والخارج من السلوك في نمطه العام وليس في مفرداتٍ بأعيانها... حينئذٍ أدركنا من جانبٍ مدى ضراوة هذه التركيبة لدى الكتابيين، وأدركنا من جانبٍ آخر مدى معمارية الرسم الذي واشَجَ بين المستويات الثلاثة من سمات الشخوص، أي: التواصل الفني بين سمات

 

______________________________________________________

الصفحة 239

 

الداخل والخارج، وبين عناصر الخارج ذاته، وبينهما وبين السمات العامة.

حين نتّجه إلى المقطع الرابع من النص، نجد أنّ هذا المقطع يتناول سلوك (المؤمنين) في رسمٍ جديدٍ للأحداث والمواقف التي تواكب شخوصهم.

لقد كان المقطعُ الأول خاصاً بالكتابيين، والمقطع الثاني بالمؤمنين، والمقطع الثالث بالصلة القائمة بينهما.

وكانت المقاطع الثلاثة ـ كما رأينا ـ تتناول شرائح صغيرةً من السلوك، أوضحنا موقعها العضويّ في حينه.

أمّا في المقطع الرابع، فإن الرسم يأخذ شريحةً كبيرةً من النص: تظلّ من جانبٍ، على صلة بجزئيات السورة التي تقدّمت عبر الأقسام الثلاثة منها وتظلّ من جانبٍ آخر، على موقعٍ مستقل في الرسم.

وهذا الاستقلال، نابعٌ من طبيعة الرسم الذي يستهدف في نهاية المطاف تركيب الرسالة في ذهن المتلقي فإذا كانت السورة في خطوطها العامة منصبّةً على تناوُلِ الكتابيين، فإنّ هذه الخطوط أو الروافد إنما تصبّ في نهرٍ واحدٍ يظل هدف النص أولاً وأخيراً في أية سورةٍ من السور القرآنية، ونعني به: رسم الخبرة الإسلامية.

فرسم الكتابيين، وسائر الشخوص، إنّما يظلّ عنصر (إنارةٍ) للخُبرة الإسلامية التي يستهدفها النص من وراء أيّ رسمٍ في هذا الصدد.

ولقد لحظنا عبر القسم الأول والثاني من السورة، أمثلة هذه الشرائح التي تأخذ طابعاً استقلالياً في الرسم، مما يُعزّز ذهابنا إلى هذا النمط من الصياغة القرآنية التي تتناول شتّى أنماط الرسم، مستقلاً ومتداخلاً، مع انصبابها ـ في نهاية المطاف ـ في رافدٍ واحدٍ هو: الخُبرة الإسلامية، مع تميّز كل رسمٍ فيها، بطرحٍ جديد. سيُرسي بنا إلى جملةٍ من الأحداث والمواقف، تُساهم في

 

______________________________________________________

الصفحة 240

 

بلورة الخبرة الإسلامية عبر رسْمِ شخوصِ المؤمنين.

تُرى... ما هي ملامحُ هذا الرسم؟؟.

 

* * *

 

إنّ أوّل ما يواجهنا من الرسم، هو: أحداث (الجهاد). ولقد لحظنا في بداية السورة أنّ النص قد لمّح بظاهرة (الجهاد) عابراً، خلال إشارته إلى معركة (بدر). إلاّ أنّ السياق هناك، كان في معرض لفت نظر الملتوين إلى الانتصار الذي حققته السماء للمؤمنين.

أما هنا، ـ في القسم الثالث من السورة ـ فقد رُسِمَ (الجهاد) في سياق مضاد،وهو لفت نظر المؤمنين إلى الانتصار.

وإذن، يظلّ كل من النطاقين متميزاً عن الآخر. فضلاً عن ذلك: فإن (الجهاد) وأحداث القتال بعامة، رُسمت هناك ـ بنحوٍ خاطف، بنحو لا يتجاوز التلميح إلى ظاهرة الانتصار في معركة (بدر). أمّا هنا، فإنّ التفصيلات للحدث تأخذ مساحةً كبيرة من النص، تتوافق وطبيعة الحديث المفصّل عن المؤمنين، فيما قلنا أن النص يعتزم في القسم المتبقّي من السورة أن يمحّضه لرسم شخوص المؤمنين، ولرسم سمات (الإيمان) الذي يظل هدف النص ـ أيّ نصٍ كان ـ من وراء طرحه شتى المواقف والأحداث، ومن وراء رسمه شتى أنماط الشخوص: كتابيّين أو ملتوين بعامة.

ويجيء التلميح إلى الكتابيين الذين احتلوا موقعاً رئيساً من السورة في أقسامها الثلاثة، يجيء التلميحُ إليهم عابراً في القسم المتبقي: واشجاً النصُ بذلك بين جزئياته.

ومن البيّن، أنّ هذا المبنى الهندسي للسورة، يحقّق أولاً توازياً في خطوطه، فضلاً عن التواشج العضوي بين جزئياته كما قلنا.

 

______________________________________________________

الصفحة 241

 

أما التوازي أو التوازن في الهيكل المعماري، فيتمثّل في أنّ السورة رسمت كلاً من شخوص الكتابيين والمؤمنين في خطين متوازيين، بدأ الأول منهما بالحديث عن الكتابيّين، وانتهى الثاني منهما بالحديث عن المؤمنين.

أما الخطوط الثانوية التي رُسمت متوازيةً داخل الهيكل المذكور، فإنها كانت تتداخل فيما بينها، أي: كان التناوب بين رسم الكتابيين والمؤمنين، يأخذ صياغةً خاصةً تتناول شتى أشكال العلاقة القائمة بينهما، بالنحو الذي لحظناه، وبالنحو الذي سنلحظه من أشكال العلاقة المتبقية.

والمهمّ، أنّ البناء المعماري، وما يحققه من إمتاعٍ جمالي وفكري على نحو ما أشرنا إليه، ينبغي ألاّ يغيب عن ذهن المتلقي عبر تلقّيه لهذا النص ومحتوياته، وهو بناءٌ تحرص هذه الدراسة على تحديد خطوطه، كلَّ الحرص.

ويعنينا الآن أن نواصل الحديث عن الخطوط المتبقية من البناء المذكور، فيما تمحّضت ـ كما قلنا ـ لرسم الخُبرة الإسلامية، وتخلله الرسم العابر للكتابيّين في نطاقٍ خاصٍ نوضحه في حينه.

وإذن، فلنعد إلى المقطع الذي مهّدنا له بالملاحظات المذكورة، ولنرَ كيفية الرسم لظاهرة (الجهاد) الذي استُهل به المقطع، وهو استهلالٌ، قلنا أنّه رُسِمَ في نطاق جديدٍ متميّزٍ عن النطاق الذي رسم به في أول السورة.

لقد بدأ النص بحَدَثٍ قتالي هو التذكير بغزوة (أُحُد) ـ حسب النصوص المفسرة ـ مشيراً إلى الانشطار الذي وقع بين طائفةٍ، تقترح الخروج إلى المشركين، وأخرى تقترح المقام في المدينة، ثم موقع نصرة السماء من ذلك.

ولنقرأ الآيتين اللتين ترسمان الحدث:

(وإذ غدوت من أهلك تبوّئُ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم *

 

______________________________________________________

الصفحة 242

 

إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليُّهما، وعلى الله فليتوكلّ المؤمنون) [آل عمران: 121 ـ 122].

ويُلاحظ هنا، أنّ التذكير بهذا الحدث، ألمح إلى إمكانات حدوث (الخذلان)، إلا أنّه أردف ذلك بنصرة السماء.

ويُلاحظ ثانياً: أنّ النص أردف التأرجح المذكور بين (الخذلان) و(الانتصار)، أردفه بحدث الانتصار المشهور في غزوة (بدر)، فيما كانت الآية التاليةُ وما بعدها تتناول الحدث المذكور:

(ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أدلةٌ، فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يُمددكم ربُّكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسوّمين * وما جعله الله إلاّ بُشرى لكم، ولتطمئن قلوبُكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) [آل عمران: 123 ـ 126].

إنّ رسمْ كلٍّ من حَدثَي (أُحُد) و(بدر) بهذا النمط من الصياغة التي تومئ إلى (الانشطار) خاطفاً، وتمسحه من ذهن المُتلقي مباشرةً من خلال نصرة السماء عبر ذلك الانشطار نفسه، أي: حَدَث (أُحُد). ثم إردافه برسم الانتصار في حَدَثٍ سابق (أي: بدر)، هذا النمط من الصياغة ينطوي على أسرارٍ فنيّةٍ، يتعيّن الوقوف عندها.

أولاً: من خلال التلميح إلى إمكان أن يكون ثمة خذلان.

ثانياً: من خلال كسر الزمن الموضوعي (أي: تسلسل الأحداث)، واستبداله بالزمن النفسي (أي: رسم حادثة أُحُد قبل حادثة بدر، مع أنّ الأخيرةَ سابقةٌ على أُحُد).

إنّ المتلقّي لَيتساءَلُ عن السرّ الفني، وراء قطع النص لتسلسل الزمن

 

______________________________________________________

الصفحة 243

 

الموضوعي، واستبداله بالزمن النفسي في رسمه لمعركة (أُحد) قبل معركة (بدر) كما يتساءل عن السر الكامن وراء التلميح إلى (الفشل) الذي رسمه بالقوّة لا بالفعل في قوله تعالى (إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا).

وعند التدقيق في هذه الصياغة، يمكننا أن نجيب بوضوح على التساؤل المذكور ـ من خلال استجابتنا الفنية ـ متمثلةً في: أنّ هذا المقطع من السورة، جاء غِبَّ المقطع السابق الذي نهض برسم الصلة القائمة بين المؤمنين والملتوين، فيما لحظنا طبيعة المشاعر العدائية التي يحملها الملتوون حيال المؤمنين: بدءً من تمنّيهم إدخال المشقة على المؤمنين، إلى السعي في إفساد أمرهم، إلى عضّهم الأنامل من الغيظ، إلى فرحهم بالأذى الذي يصيب المؤمنين... الخ. هذه المشاعر العدوانية قد عقّب النص عليها في ختام المقطع السابق، على النحو التالي: (... وإن تصبروا وتتّقوا لا يضرّكم كيدُهم شيئاً...) [آل عمران: 120].

ومن هذا التعقيب، نُدرك بوضوح طبيعة الترابط العضوي بين المقطع المتقدم وبين المقطع الذين نحن في صدد الحديث عنه، فالمقطعُ الحالي وهو يرسم ملامح الخُبرة الإسلامية: من خلال رسمه لشخوص المؤمنين وما تواكبهم من أحداثٍ ومواقف، هذا المقطع يظل إنماء عضوياً لما تقدّمته من مواقف تفرز مشاعر العدوان عند الملتوين من جانب، وتَعِدُ بانتصار السماء للمؤمنين من جانب آخر.

وطبيعيٌ، أن تجيء حادثة (أُحُد) تجسيماً للإنماء العضوي المذكور. بصفة أنّ (أحد) قد رافقها منذ البداية انشطارٌ في وجهات النظر حول بدء عملية القتال، من بقاءٍ في المدينة، أو خروجٍ منها لمقابلة المشركين الموتورين. كما رافقها عند انتهاء القتال انشطار يتمثّل في عدم الالتزام بالخطة العسكرية التي رسمها النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حينما وضع مجموعةً من الرُماة على باب الشعب وأمَرَهم

 

______________________________________________________

الصفحة 244

 

بألا يبرحوا المكان المذكور، حتى لا يقعوا في كمين العدو، إلاّ أنّ الغالبية أخلت موقعها حينما لاح الانتصار، وحينما وجدوا أنّ الآخرين قد انتهبوا الغنائم، فيما حرّكت نفوسهم نحوها واقتادتهم إلى إخلاء مواقعهم.

والمهم، أنّ التعجل في اكتساب الغنيمة، وعدم الاصطبار على ذلك، يُفصح عن وقوع مفارقة في السلوك لا ترتضيها السماء دون أدنى شك، إنها لا تتوافق مع (التقوى)، ولا تتوافق مع (الصبر) وهما الظاهرتان اللتان ذيّل بهما النص خاتمة المقطع السابق. فالتقوى تفرض على المُقاتل أن يلتزم بخطة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والصبر يفرض عليه ألاّ يتعجل بإخلاء الموقع.

بيد أن السماء وهي بعامة تعد المؤمنين بالنصر، بقدر التزامهم بالتقوى وبالصبر، تظل معطياتها موسومة بالتدفق والاستمرار.

من هنا، أردف النص مباشرةً، حادثة (أحد) بحادث (بدر)، وهي زمنياً، سابقة على أُحُد، مذكّراً بالنصر العظيم الذي واكب المعركة، مع قلّتهم عدداً ومَؤنةً.

وإذن، رَسْمُ (الفشل) و(النصر)، سيقا في نطاق الالتزام بالتقوى والصبر من جانب ومن جانب آخر رُسِمَ (النصر) مع التلميح إلى أنّ السماء في بعض إمكانات (الفشل) الذي قد يصيب المؤمنين، تتدخّل للحيلولة من إمكان الفشل المذكور، كما هو شأن القتال البادئ الذي شطر المؤمنين.

هذا كله يعني أنّ نصر (السماء) يظلّ: العَصبَ الذي يلتمُّ عنده كل موقفٍ أو حدثٍ يواكب رحلة المؤمنين ومنها: معركة بدر.

هنا يبدأ النصُ برسم التفصيلات للحدث، مُوهّجاً بها ملامح النصر. وهو أمر يقتادنا إلى الوقوف عند التفصيلات وملاحظة القيم الفنيّة التي انطوت عليها، بعد أن لحظنا القيم الفنيّة التي انطوى المبنى العضويّ عليها عبر هذه الشريحة التي وصلت بين المقطع السابق، والمقطع الحالي.

 

______________________________________________________

الصفحة 245

 

إنّ التفصيلات للحكاية تتمثلُ في شخوص الملائكة بخاصة، حيث رَسَمهم النص طابعاً (معجزاً) يتجاوز المألوف من الشخوص والأحداث.

وتقول النصوص المفسّرة، في رسم الملامح الخارجية لشخوص الملائكة، أنّها معتمةٌ بالعمائم البيض.

والمهمّ، أنّ إضفاء طابع (المعجز) في شخوصٍ وأحداث خارجية عن (بيئة) الحكاية، يجيء مفصحاً عن خطورة النصر الذي تعده السماء للمؤمنين في حالة التزامهم بظاهرتي (التقوى) و(الصبر). إنّ النصر الداخلي، طالما تعد السماءُ به عبر رسمها لشتى الأحداث. بيد أن الجديد هنا هو العنصر الخارجي المحدّد، أي: المجسّم لأدوات النصر، متمثلاً في شخوص الملائكة، في ملمحها الخارجي المذكور.

وجاءت السمة الثالثة للشخوص، متجسدةً في (العدد) الذي حدده النص بثلاثة آلاف مَلَك.

وتقول النصوص المفسرة أنّ عدد أصحاب النبيّ ـ صلّى عليه وآله وسلم ـ كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر (313) رجلاً، بينا كان عدد المشركين ألف رجل.

وفي ضوء هذا التفارق بين شخوص المؤمنين والملتوين، يمكننا ن نستخلص الدلالة الفنية للعدد الملائكي الذي حدّده النص بثلاثة آلاف.

فلقد كان عدد الملتوين ضِعْفَيْ عدد المؤمنين، وهي نسبةٌ إذا سلخناها من نصرة السماء، فحينئذ توحي بأن الانتصار سيكون لصالح الفئة الكثيرة.

ولا يغرب عن بالنا أن النص ألمح إلى ما يضاد هذا الإيحاء في بداية السورة من أن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكبيرة... مما يقتادنا هذا التلميح أولاً إلى التواشج العضوي الذي يصل بَين القسم الأول من السورة وقسمها

 

______________________________________________________

الصفحة 246

 

الأخير الذي نتحدث عنه حالياً، وثانياً تقتادنا إلى إلقاء الضوء على الحقيقة التي يغيم من خلالها الإيحاء بأن العدد الأكثر يكون الانتصار لصالحه بالضرورة. بل تظل الحقيقة مشيرة بوضوح إلى أن (السماء) وليس سواها، هي التي ستحدد النصر أو الهزيمة بقدر الالتزام بالتقوى وبالصبر عند المؤمنين.

ولقد جسّد النصُ هذه الحقيقةَ، بعنصرٍ حسّي، أو لنقل: بعنصرٍ تجريبي يتساوق مع طبيعة الإدراك البشري واستجابته لأحداث الحياة، فتعامل معه بلغة الأرقام التي يخضعها الكائن الآدمي لحساباته عند قيامه بأية مُعادلة في هذا الصدد.

من هنا يمكننا أن نذهب إلى أنّ تحديد شخوص الملائكة بثلاثة آلاف، من المحتمل ـ من حيث استجابتنا الفنيّة الصرف ـ أن يحقّق تلك المعادلة الحسابية التي تغلّف استجابة الكائن الآدمي. فهذا العدد هو: ضعفا عدد المشركين، وعددُ المشركين هو: ضعفا عدد المؤمنين.

فإذا احتملنا أنّ المؤمنين من الممكن أن يداخلهم الفزع من حصيلة المعركة بسببٍ من قناعتهم بأنّ الضعفين يغلب الواحد، فحينئذٍ ستتحول قناعتهم إلى ما يضاد الهزيمة، ستتحول قناعتهم إلى النصر عندما يُدركون أنّ الإمداد لهم سيكون بالضعفين، أي بالثلاثة آلاف مَلَك قبال الواحد وهو الألف مشرك. بعد أن كانت قناعتهم مضادة للسبب نفسه ما دام العدد قبل الإمداد كان ألفاً من المشركين قبال 313 من المؤمنين.

ولكننا خارجاً عن الاستجابة المذكورة فحينئذٍ لا يمكننا أن نستخلص من ظاهرة العدد دلالةً محددة بل تبقى مرتكنة إلى علم السماء، وجهلنا المطلق حيال ذلك، شأنها شأن سائر ظواهر العدد الذي سنرى بعد قليل كيف أن الخمسة آلاف وهو الإمداد المشروط بالتقوى وبالصبر، لا يخضع للاحتمال الفنّي السابق، بل يظل مثل الأعداد التي ألفناها مبهمةً حيال قصورنا العقلي

 

______________________________________________________

الصفحة 247

 

نحو السبعين أو المائة وسواهما.

إنّ النص القرآني ـ وهو يرسم ملامح الشخوص الملائكية ـ وما يواكبها من أحدَاث المعركة ببدر، إنما يلحّ على ظاهرتي (التقوى) و(الصبر) بصفتهما ثمناً لإحراز النصر.

ولقد تمثّل الإلحاح المذكور في المقطع السابق، فيما خُتم بفقرة (... وأن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدُهم...) [آل عمران: 120]. كما تمثّل عند التعقب على معركة بدر مطالباً باستمرارية التقوى.

وأخيراً تمثّل عند الارتداد بالرسم إلى معركة (أُحُد) من جديد، فيما قال النص:

(بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين) [آل عمران: 125].

إنّ الآية المذكورة، تضطلع برسم حكاية جديدة، تظلّ مع سابقتيها مؤرجحةً قضية النصر والإخفاق تبعاً لتوفّر عنصري التقوى والصبر أو عدمها.

وهذه الحكاية الجديدة تنطوي على نمطين من الصياغة من حيث البُعد الزمني فيها.

فهي من جانبٍ تجسّد الزمن النفسي، أو لنقل: تجسد امتداداً للزمن النفسي الذي بدأه بالتلميح إلى معركة (أحد) ثم أعقبه برسم معركة (بدر)، وارتدّ من جديدٍ إلى (أُحد) فيما قرّر أن المؤمنين إذا قدّر لهم أن يتقوا ويصبروا، فإن السماء ستمدهم بخمسة آلاف ملك في حالة عودة المشركين إلى قتال المؤمنين بعد المعركة المذكورة.

ومن جانب آخر، تجسّد هذه الحكاية: الزمن الموضوعي، بصفة أن غزوة (أُحد) جاءت عقب معركة (بدر).

 

______________________________________________________

الصفحة 248

 

ولا يخفى على المتلقّي أنّ هذا النمط من الصياغة ينطوي على امتاعٍ جمالي بالغ المدى، مثلما ينطوي على معمارية بالغة الإحكام في الحبك القصصي. فالتداخل بين الزمنين: النفسي والموضوعي بهذا النحو من التواشج بينهما، وليس بنحوٍ من التناوب، يظلّ صياغة بالغة الخطورة من حيث تميّزها نمطاً ثالثاً من أنماط الأداء، قبال كلٍ من نمطي: الزمان النفسي والزمان الموضوعي، سواء أكانت صياغتهما على نحو التناوب أو الانفراد.

والمهم، أن الحكايات الثلاث صيغت وفق البطانة الفكرية المتمثلة ـ مثلما قلنا ـ في ظاهرتي (التقوى) و(الصبر) فيما كان التلميح إلى (أحد) في البدء، إجابةً على التلكؤ الذي غلّف الموقف. وفيما كان التلميح إلى (بدر)، إجابةً على عدم التلكّؤ وفيما كان التلميح إلى ذيول معركة (أحد) في الحكاية الثالثة، إجابةً مشروطةً بعدم التلكؤ في السلوك اللاحق.

وهكذا تتوازى الحكايات الثلاث معمارياً، مع التوازي لأنماط ثلاثة من السلوك: سلوك طَبَعه التلكؤ، وثانٍ طَبَعه عدم التلكؤ، وثالث معلق على شرط.

 

* * *

 

وإذا تركنا ظاهرة (الزمن) وصلتها بظاهرتي (التقوى) و(الصبر)، واتجهنا إلى الشخوص الملائكيين أنفسهم، وتابعنا طبيعة الرسم لملامحهم، أمكننا ملاحظة نفس الطوابع التي لحظناها عند الحديث عن حكاية (بدر)، ودور الشخوص الملائكيين فيها. فقد رسَمهم النصُ هنا في رقم يزيد على الرقم السابق، إنهم خمسة آلاف، تعد السماء بإرسالهم في حالة التزام المؤمنين بظاهرتي (التقوى) و(الصبر)، إذا قُدّر للمشركين أن يفكروا في العودة إلى القتال.

ولا يخفى على المتلقي أنّ تضخيم العدد، ليتوافق مع إمكانات

 

______________________________________________________

الصفحة 249

 

الاستعداد الذي قد يطبع نشاط المشركين، وهم يفكرون في العود إلى القتال، أنه نمطٌ من إشاعة الثقة في نفوس المؤمنين في غمار المعادلات العسكرية التي تأخذ مساحة كبيرة من أذهانهم.

وهذا ما يعززه ختام الحكاية ذاتها، فيما عقّب النصُ قائلاً:

(وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به...) [آل عمران: 126]. فالبشرى، والاطمئنان، يتساوقان مع طبيعة التركيبة النفسية للآدميين وهم يتعاملون مع الأرقام والحجوم في أية معادلة ينهضون بها، بما في ذلك التعامل مع السماء حيث يُشيع العددُ من حيث سعته، والحجمُ من حيث ضخامته، مزيداً من الاطمئنان والفرح والثقة.

 

* * *

 

إلى هنا، يكون النص قد انتهى من رسم الحوادث التي واكبت المؤمنين، وهي حوادث تجسّد شريحةً واحدة من الشرائح التي نهض القسمُ الأخير من سورة آل عمران برسمها في غمرة الحديث عن شخوص المؤمنين، وما يستهدفه من تركيز الخبرة الإسلامية.

وقد خُتمت هذه الشريحة بالآيات الثلاث التالية: (ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين * ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون * ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم).

إنّ هذا الختام، يطرح طبيعة ما ينبغي أن تستجيب له الشخصيةُ الإسلاميةُ حيال الجزاء الأخروي متمثلةٌ في أنّ التوبة على ذوي المفارقات أو تعذيبهم يظل أمراً عائداً إلى السماء في نهاية المطاف، نظراً لإحاطتها التامة بطبيعة هذه الشخصية أو تلك. وتذهب التفاسير المأثورة إلى أن هذا التعقيب جاء على ذوي المفارقات التي سحبتها ذيول (أُحُد).

 

______________________________________________________

الصفحة 250

 

وقد سبق هذا الختام، تلميحٌ إلى المصير الدنيوي للمشركين من أنّ السماء ستتولى النهوض بمسحهم أو بإفشالهم وهو أمرٌ يتساوق وما لحظناه من المقطع السابق الذي طالب المؤمنين بالتقوى وبالتصبر، ومِن أنّ السماء ستتدخّل في احتجاز أيّ أذًى يصيب المؤمنين.

إنّ هذا الختام للمقطعين ينبغي أن يضعه المتلقي في اعتباره، بصفته رابطة عضويةً تصل بين جزئيات النص.

ولسوف نرى في القسم المتبقي من السورة، صدى هذا الختام، وتردده في عصب النص أجمع، حيث يظل رسم الخبرة الإسلامية (وهي الأفكار المستهدفة في النص) متواشجاً في كل قضاياه المطروحة، مع ظواهر (التقوى) و(الصبر) من جانب، ونصرة السماء بعامة من جانبٍ ثانٍ، وتحديد موقع الجزاء: إيجاباً أو سلباً من جانبٍ ثالث.

هذه الظواهر التي أفرزتها المقاطعُ المتقدمة ـ ومنها المقطع الذي انتهينا توّاً منه، ستتردد أصداؤها في القسم المتبقي من السورة، فيما تجيء مع جملةٍ من مبادئ الخبرة الإسلامية الجديدة التي يطرحها النص، متواشجةً بنحوٍ يُعيد إلى الأذهان ضرورة أن يعيَ المتلقي ما تفرزه الصياغة القرآنية من مبادئ جمالية في توصيل الأفكار إلى المتلقّي، متمثلةً بخاصةً في أحكام البناء العضوي، وما يؤدّيه هذا الإحكام من إمتاع فنّي ونفسي، ومن ثم ما يتركه من تركيز الخبرة عند المتلقي وهو هدف الفن العظيم.

نتجه الآن إلى شريحة جديدة من سورة آل عمران في قسمها الأخير الذي يتمحّض لرسم مبادئ الخبرة الإسلامية عبر تناوله لشخوص المؤمنين.

لقد كانت الشريحة الأولى التي استُهل بها المقطع الأخير من السورة، تتناول سلوك المؤمنين في قضية القتال وما يواكبها من استجابات تمثّلت في الالتزام بالتقوى، وبالصبر، ومن وعدٍ بالنصر في حالة الالتزام، وعدمه في

 

______________________________________________________

الصفحة 251

 

حالة عدم الالتزام، ومن تعليق قضية الجزاء وتحديد إيجابية المصير أو سلبيّته على السماء، وليس على الكائن الآدمي.

وكانت هذه الظواهر تُصاغ جميعاً في ضوء معركة (أُحُد) و(بدر)، وما أفرزتا من نتائج واستجابات بشرية متنوعة.

وفي تصوّرنا فنيّاً، أن معركتي بدر وأُحُد تظلان عنصراً حكائياً موظفاً لإنارة (الأفكار)، تماماً كما لحظنا ذلك في العنصر القصصي الذي احتلّ القسم الثاني من سورة آل عمران، فيما كانت القصص هناك: امرأة عمران، مريم، زكريا، عيسى...الخ، قد وُظّفت لإنارة (أفكار) حددناها في حينه.

وكما كانت القصص المذكورة، تلقي بإضاءتها على أكثر من موقف، فإن حكايتي (بدر) و(أُحُد) منهما بخاصة ستلقي بإضاءتها أيضاً على أكثر من موقف في الشرائح المتبقية من السورة.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن (الأفكار) تظل ـ من ثم ـ هي (الهدف) الذي ستتنوع مفرداته، ويحتل بعضها تأكيداً دون سواه، تبعاً للنطاق النفسي والاجتماعي الذي يتوافق مع هذه المفردة أو تلك.

 

* * *

 

من هنا، تتّجه الشريحة الجديدة، لطرح مجموعة من مفردات السلوك للخبرة الإسلامية المستهدفة، يصلها في نهاية المطاف بذيول العنصر الحكائي، أي: معركة أُحُد، إحكاماً للتواشج العضوي بين جزئيات النص.

ومن البيّن الذي طالما نكرّره، أن الفنّ الخطير يلمّ في شكله الأدبي جملةً من الموضوعات المتنوعة، يخضعها لبُعد نفسي أو فكري يوحّد بينها، فيما يحقق بذلك تطابقاً بين التجربة البشرية في استجابتها لأحداث الحياة المتنوعة، وبين الشكل الأدبي لها.

 

______________________________________________________

الصفحة 252

 

والشريحة الجديدة التي نحن في صدد الحديث عنها، ترسم جملة من الظواهر المتنوعة يتصل بعضها بالتعامل الاقتصادي، والآخر بالتعامل الأخلاقي، فيما يخضعها النص لبُعدٍ نفسي واحد، تتكامل من خلاله مبادئ الخبرة الإسلامية والظواهر المطروحة هي:

أ ـ (الربا) و(الإنفاق) فيما يمثّلان التعامل الاقتصادي. وأحدُهما مضادٌ للآخر تماماً في إفصاحهما عن استواء الشخصية أو عصابها.

ب ـ (كظم الغيظ) و(العفو) فيما يمثلان التعامل الأخلاقي. وأحدهما يمثّل مرحلة محدّدة من التصعيد نحو السويّة، والآخر مرحلة عاديةً منها.

جـ ـ التوبة، والمسارعة إلى الطاعة، فيما تمثلان تعاملاً خاصاً مع السماء.

هذه الظواهر الست تحددها الآيات التالية: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفةً واتقّوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 130].

(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومَن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) [آل عمران: 133 ـ 135].

إنّ الظواهر الست التي أشرنا إليها، فيما رسمتها الآيات المتقدمة، يطرحها النصُ هنا، ملفتاً أنظارنا إلى خطورتها.

وطبيعي فإن مجرّد رسمها، يعني أنها تنطوي على أهميةٍ ما، بغض النظر عن النطاق الاجتماعي الذي يرتبط عادةً بأسباب النزول في لغة البحث القرآني.

إنها باختصار: مجموعة من مبادئ الخُبرة الإسلامية، يستهدف النص

 

______________________________________________________

الصفحة 253

 

توصيلها إلينا في هذه الجزئية من النص، متضامنةً مع المجموعات الأخرى التي تتوزعها سائر النصوص القرآنية.

ولنقف عند الظواهر المذكورة عابراً، وملاحظة المبنى الفنّي لها:

 

أ ـ الربا والإنفاق

 

الربا والإنفاق يتّصلان بدافعية المال وأحدهُما يضادّ الآخر في تمركز أولهما حول الذات وانسلاخ الثاني عنها.

إنّ الربا يجسّد الحرص بنحوه المرَضيّ الذي يشكّل واحداً من أركان الكفر، تبعاً لما يقرّره أهل البيت عليهم السلام. كما أنّه يقترن بالتلذذ على حساب الآخرين، وهذا بُعدٌ ثانٍ من أبعاد التمركز على الذات فضلاً عن أنّه ـ من جانبٍ ثالث ـ يعكس أثره السلبي على الآخرين، فيما لا تبقى الظاهرة منحصرة في انعكاس أثرها السلبي على المرابي فحسب.

من هنا علينا إدراك خطورة الظاهرة واقترانها بالتحريم وليس بالكراهة مثلاً.

يقابل (الربا) ـ من تمركزه حول الذات ـ (الإنفاق)، فهذا الأخيرُ وأدٌ للذات، والتوجه إلى الآخرين. وبكلمة أخرى: أننا إذا استعرنا لغة البحث النفسي، للحظنا أنّ المرابي، يمثل شخصية عصابيةً حادة: في أنانيتها من جانبٍ، وكراهيتها للآخرين من جانب ثان، وتلذذها بتعذيب الآخرين من جانبٍ ثالث.

وعلى الضدّ منها، تقف شخصية المُنفق حيث تمثل (السويّة) تماماً... فالمنفق (يُحب) الآخرين ويحبه (الآخرون)، وهذا هو معيار (السوية) في لغة البحث النفسي، وحين يُحب المنفقُ الآخرين، فهذا يعني أنه تحرّر من ذاته، من مشاعر الأنانية، كما أنه يعني التحرر من مشاعر الكراهية، وأخيراً فإن تلذذه

 

______________________________________________________

الصفحة 254

 

لن يكون على حساب الآخرين، بل لحسابهم، وهذا ما يجسّد قمّة السوية.

إن النص وهو يطرح ظاهرتين ماليتين، إنما يدلّنا على معمارية البناء النفسي في عملية توازن بين ممارستين تدعو إحداهما إلى نبذ قمة العصاب، والأخرى إلى التدريب على قمة السوّية.

ولا يغيب عن بالنا، أنّ كلاً من الجهاد بالنفس وبالمال مقترنان في حقل التشريع بالدعوة إلى الاتجاه نحوهما، ويفصحان عن تجسيد دلالة (المجاهد) وبلورتها قبالة القاعدين عن الجهاد.

وهذا ما يجعلنا نقف على خيط واحد من خيوط العضوية التي تصل بين رسم دلالة (الجهاد) بالنفس في الجزئية (المتقدمة) وبين الجهاد بالمال في الجزئية التي نحن في صدد الحديث عنها.

ونعثر على خيط عضوي آخر، حينما نتجه إلى ظاهرتي (كظم الغيظ) و(العفو) فيما تتصلان بالجهاد الأكبر حيث تلتمّ دلالات الجهاد في تضامّ هاتين الظاهرتين مع الأوليين: الجهاد بالنفس، وبالمال. تلتمّ أولئك جميعاً في توحّدٍ عضوي واضح المعالم.

ويتوهّج هذا التوحّد عندما نُدرك بوضوح أنّ التدريب على الاستجابة الكاظمة، وعلى العفو حيال الإساءة، يمثّل دلالة (الصبر) التي أفرزها النص في المقاطع السابقة، وفي المقطع الرابع الذي حام على دلالتي (الصبر) و(التقوى)، أي: حين رسمها كما رأينا في سياق التعامل مع الكتابيين في المقطع السابق، وفي سياق معركتي (أُحُد) و(بدر) على نحو ما فصّلنا الحديث عنه.

وإذن، التواشج العضوي بين هذه الشريحة، وبين ما تقدمها من جزئية سابقة من المقطع، تظل واضحة كل الوضوح.

 

______________________________________________________

الصفحة 255

 

لقد لحظنا التواشج العضوي بين ظاهرتي (الكظم) و(العفو) وبين الجزئيات السابقة من النص.

وحين نتابع خيوط هذا التواشج، نظفر بالمزيد منها حينما نتذكر أنّ الجزئية السابقة قد اختُتمت بالتعقيب على ذوي المفارقات التي سحبتها ذيول معركة (أحد)، فيما حدّدت ظاهرة التوبة لبعض الشخوص، من أنها عائدة إلى السماء من حيث تقويم الشخصية وتحديد موقعها من الجزاء الإيجابي والسلبي.

وتقول بعض النصوص المفسّرة، انّ حصر التقويم بالسماء وليس بسواها، إنما جاء عقب بعض الدعوات على ذوي المفارقات، وهذا يعني أنّ كلاً من العفو وكظم الاستجابة الغاضبة يجيء في سياق بعض مفرداته التي نقلها النص من صعيد ما هو خاصٌ إلى ما هو عام، مع ملاحظة أنّ ما هو خاص لا يحمل بُعداً سلبياً بقدر ما هو تعاملٌ خاص مع الصفوة التي يندّ عن الوصول إلى تركيبتها الخيّرة، سائر الآدميين.

والمهم بعد ذلك كله، أنّ النص يتّجه إلى طرح ظاهرتي (الكظم) و(العفو) بصفتهما موضوعاتٍ مستقلةً تتضامّ مع سائر الموضوعات الستة التي تضمّنتها هذه الجزئية من النص.

إنهما، بغض النظر عن الصلات المتنوعة التي تربطها بجزئيات النص، تظلان مفردتين من مبادئ الخبرة الإسلامية التي يستهدف النصُ تركيزها عند المتلقي.

وأخيراً، تجيء مفردتا: (المسابقة إلى الطاعة) و(التوبة)، مفردتين أخريين من مبادئ الخبرة الإسلامية، تظلان على صلة عضوية بالجزئية السابقة: معركتي (أحد) و(بدر)، تلك الجزئية التي واكبها رسم (التقوى) و(الصبر) حيث تجانس الصبر مع (الكظم) و(العفو) كما ذكرنا، وحيث

 

______________________________________________________

الصفحة 256

 

تتجانس (التقوى) مع المسارعة إلى (الطاعة) ومع (التوبة) عن الذنوب.

إذن، يمكننا أن ندرك سرّ التلاحم العضوي بين مطالبة النص في هذه الجزئية بالمسارعة إلى الطاعة وبالتوبة، وبين الجزئية السابقة المُطالبة بالتقوى في غمرة الحديث عن معركتي (بدر) و(أُحد).

ولا يغيب عن بالنا أيضاً، بروز خيط عضويّ آخر بين الشريحتين السابقة والحاليّة، يتمثّل: في الصلة بين المفارقات التي سحبتها ذيول معركة (أحد) وبين إمكان تلافيها من خلال (التوبة) و(المسارعة إلى الطاعة).

 

* * *

 

إلى هنا، نكون قد انتهينا من الحديث عن الشريحة الثانية في المقطع الخاص برسم شخوص المؤمنين. فقد كانت الجزئية الأولى أو لنقل الموقف الأول خاصاً بمعركتي بدر وأُحُد. وكان الموقف الثاني خاصاً برسم ست ظواهر هي: (الربا) و(الإنفاق) و(الكظم) و(العفو) و(التوبة) و(المسارعة إلى الطاعة)، حيث لحظنا معمارية هذه الظواهر فنيّاً، وصلتها بالموقف الأول عضوياً، إذ رُسمت الظواهر متوازيةً هندسياً من خلال التضاد والتماثل بين كل ظاهرتين، التوازي من خلال التضاد، وهما الربا والإنفاق، والتوازي من خلال التماثل، وهما الكظم والعفو، والتوازي من خلال كليهما، أي: التماثل والتضاد متجسّد في التوبة والطاعة.

فالتوبة إقلاعٌ عن الذنب. والطاعة مسارعةٌ إلى عمل إيجابي.

والمهم بعد ذلك كله، أنّ هذه الخطوط المعمارية المتوازية تضاداً وتماثلاً لا يمكن للباحث أن يُقرّبها إلى ذهن المتلقي ما لم تتوفر حاسة فنيّة أحكمتها الدِربةُ على تذوق النص الأدبي.

بيد أن المتلقي بعامة ـ وهنا تكمن خطورة الفن ـ يظل في عملية

 

______________________________________________________

الصفحة 257

 

الاستجابة للنص الفني، في صعيد تذوقٍ جماليٍ محدّد الأطراف، إلاّ أنّه مُبهمُ المصادر، إنه يتحسّس بجمالية النص دون أن يدرك السرّ في ذلك.

والخطورة تكمن ـ في نهاية المطاف ـ أنّ النص يترك تأثيره المتشدد في حصيلة الاستجابة المُجملة عند المتلقي.

بكلمة أخرى، إنّ مُبدع النص يأخذ مبادئ الاستجابة البشرية بالنحو الذي يتوافق وتركيبتها عن عمليّة التوصيل وإحداث الأمر المطلوب من وراء ذلك.

وبعامة، فقد لحظنا ـ من جانب ـ معمارية هذه الظواهر الست التي تضمّنها الموقف الثاني كما لحظنا ـ من جانبٍ آخر ـ الترابط العضوي بين الموقف الثاني وبين الموقف الأوّل الذي رسم معركتي (بدر) و(أُحُد).

 

* * *

 

ونتجه الآن، إلى الموقف الثالث، لملاحظة مفرداته أولاً، وملاحظة ترابطه العضوي بالجزئيات السابقة.

فما هي محتويات هذا الموقف؟؟.

لنقرأ النص أولاً:

(قد خلت من قبلكم سُننّ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظة للمتقين * ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسَسْكم قَرْحٌ فقد مسّ القومَ قَرْحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذّ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين * ولقد كنتم

 

______________________________________________________

الصفحة 258

 

تمنّون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)[آل عمران: 137 ـ 143].

هذه النصوص تظلّ واضحة الصلة كل الوضوح بمعركة (أحد)، إنّها المعركة التي سحبت ذيولها على المقطع الأخير من السورة، ونعني به المقطع الخاص برسم المؤمنين، وبرسم الخبرة الإسلامية بعامة، فيما انتهينا من الحديث عن موقفين منها. كان الموقف الأول بادئاً لمعركة (أحد) كما رأينا، وفيما كان الموقفُ الثاني يطرح جملةً من الظواهر، أوضحنا استقلالها الموضوعي من جانب، بصفتها تمثل مبادئ الخبرة الإسلامية، كما أوضحنا تلاحمها العضوي، أي صلتها بالموقف الأول، بذيول معركة (أحد) من جانبٍ آخر.

هنا، أي في الموقف الثالث، فإن الصلة العضوية بمعركة (أُحُد) تظلّ من الوضوح بمكان كبير من خلال التلميح إلى (القرح) الذي أصاب المؤمنين في (أحد) قبال (القرح) الذي أصاب المشركين في (بدر)، ومن خلال التلميحات الأخرى التي سنقف عليها مفصّلاً.

والمهم، أن التلاحم العضوي ـ وهو محط اهتمامنا في الدراسة القرآنية ـ بين جزئيات السورة بأكملها، ينبغي ألا يغيب عن ذهن المتلقي، ومنها هذه الجزئية التي تضمنت سبع آيات آن لنا أن نقف عند تفصيلاتها.

 

* * *

 

يتضمّن الموقف الثالث من النص، جملةً من الظواهر، تشكّل إنماءً عضوياً لما سبقها.

وقد استُهلّ الموقف بعملية (تذكير) لتجارب الماضين نتيجة التوائهم.

وهذا التذكير من الوجهة النفسيّة، يشير النص بذاته إليه، فيما يقرر أنه

 

______________________________________________________

الصفحة 259

 

هدىً وموعظةٌ وبيان للمتقين.

وما دامت (التقوى) أحد الركنين اللذين لحظناهما في المقطع الذي تنتهي السورة به، حيث شكل مع ظاهرة (الصبر) البطانة التي فُرِشَ بها الموقفان السابقان، أي المقطع الخاص برسم سمات المؤمنين والخُبرة الإسلامية بعامة. أقول: ما دامت (التقوى) تشكّل أحد وجهي البطانة فإنّ عملية التذكير بتجارب الماضين، لتُعدّ ـ من الوجهة النفسية كما لمحّ النص بذلك ـ ترسيخاً لظاهرة (التقوى) وتثبيتها في الأذهان.

ولقد أردف النص ذلك، برسم الركن الآخر من العملية، من البطانة التي تغلّف رسم المؤمنين والخبرة الإسلامية، ونعني به (الصبر)، أردف (التقوى) بظاهرة (الصبر)، مُطالباً المؤمنين بها، مُنمياً بذلك دلالة هاتين الظاهرتين.

وقد استخدم النص في رسم ظاهرة (الصبر) صياغة غير مباشرة، فقدم بديلاً موضوعياً لها يتمثل في المطالبة التالية: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون).

فبدلاً من أن يُطالب بالصبر، رَسَم مُعادلاً موضوعياً له، هو: عدم الوهن والحزن.

هنا، تابع النصُ عملية الإنماء العضوي للمواقف السابقة، تابعها بصياغة ذات منحىً نفسي في استجابة المتلقي حيالها.

وهذا المنحى النفسي يتمثل في تخفيف أو إزاحة التوتّر الذي تركته ذيول معركة (أحد)، حيث استخدم النص عنصر (التذكير) بالألم الذي أصاب المشركين عبر هزيمتهم في معركة (بدر).

ومن البيّن، أن الشخصية ـ وهي متوترةٌ نتيجة جرح في معركة ـ سيخفّ أو سيُزاح توتّرها إذا ذُكّرت بجرحٍ مماثلٍ أو أشدّ، واجهه عدوّها.

 

______________________________________________________

الصفحة 260

 

وهذا ما استخدمه النص القرآني الكريم حينما قرّر ما يلي:

(إن يمسسكم قَرْحٌ فقد مسّ القوم قَرْحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء...).

 

* * *

 

إنّ الإنماء العضوي في هذا الموقف الجديد، يتمثّل في تقديم النص بدائل موضوعية، وفي تجارب نفسية للمتلقي، بغية بلورة ظاهرتي (التقوى) و(الصبر) ورسمهما في نكهة جديدة تساهم في تعميقهما، مع طرح جديدٍ لمفردات الظاهرة.

وهذا ما ذيّل به النص عملية التذكير بالقَرْح الذي أصاب الملتوين، فيما قرّر بهذه العبارة: (ويتّخذ منكم شهداء).

قرّر بها، مبدأ خطيراً كلّ الخطورة في تجربة المهمّة العبادية للكائن الإنساني، ألا وهو: مبدأ (الشهادة).

من هنا، تابع النص عملية التواشج العضوي الذي وصل الرسم من خلاله إلى تقرير مبدأ (الشهادة)، تابعه ببلورة مفهوم (الشهادة)، حيث بلورها النص على النحو التالي:

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).

إن النص ربط بين الجزاء الأخروي ـ الجنة ـ (والمواقف السابقة ملأى برسم المصير المذكور كما هو واضح)، ربط بينها وبين (الجهاد)، إحدى قمم المهمة العبادية ـ الخلافة على الأرض ـ، وبين ظاهرة (الصبر)، الظاهرة التي تشكل مع زميلتها (التقوى)، البطانة الفكرية للمقطع الأخير من السورة. كما أوضحناه مفصلاً.

 

______________________________________________________

الصفحة 261

 

ولقد استخدم النص منحىً نفسياً جديداً في تحفيز المتلقي، وإضفاء القناعة بالظاهرة المستهدفة، حينما رسم عملية تذكير أخرى، ألا وهي قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون).

وتقول النصوص المفسّرة، إنّ هذا التذكير يخص أولئك الذين تمنّوا أن يواجهوا الشهادة في معركة بدر نظراً لما تنطوي الشهادة عليه من وعدٍ بالمصير الأخروي.

وقد ذكّرهم النص بهذا التمنّي في غمرة مواجهتهم الحرب، وتسمّرهم عندها.

 

* * *

 

ولا نجدنا بحاجة إلى تذكر المتلقي بهذه المعمارية التي بُني الموقفُ الثالثُ عليها. فقد حفلت بقيم فنيّة ونفسيّة بالغة الخطورة في عملية التواشج العضوي بين هذا الموقف وما تقدمه، وفي إثراء وتنوّع خطوط هذا التواشج العظيم. فلقد رأينا كيف أن ظاهرتي (التقوى) و(الصبر) قد رُسمتا في هذا الموقف على نحو البديل الموضوعي غير المباشر، ولحظنا الإنماء لهما في تجارب جديدة، يقوم بعضها على طرح مفهومٍ جديد هو (الشهادة)، ويقوم بعضها الآخر على عنصر فنّي يستخدمه النص في هذا النطاق، ألا وهو: (التذكير) بالتجارب الماضية، ولحظنا كيف أن هذه التجارب يظل بعضها متصلاً باستجابات المتلقين، وبعضها بمصائر الملتوين ولحظنا كيف أن هذه المصائر، يتصل بعضها بالبائدين، وبعضها بذيول معركة (أُحد).

كل هذه المستويات من التجانس والتوازي في عمليات التذكير المتنوعة، مصحوبة بالمنحى النفسي الذي يرسم النص معالم انعكاسه على المتلقّي، فضلاً عن الإنماء العضوي للمواقف السابقة، وطرح الجديد فيها، ثم وصلها جميعاً بعضها بالآخر، على النحو الذي وقفنا عليه، كلّ أولئك يتحسّسه

 

______________________________________________________

الصفحة 262

 

الدارس فنيّاً، فيما يقف منبهراً حيال هذه الجماليّة الفائقة، وهو يتلقّى المواقف واحداً بعد الآخر، والجزئيات المنطوية عليها: في نسيجٍ يتشابكٍ من عمليات التوازي والتوازن والتجانس والتلاحم.

 

* * *

 

على أيّة حالة، فإنّ الموقف الثالث، ينتهي بعملية التذكير بتمنّي (الشهادة)، ثم التذكير بالتسمّر عندها عبر سلسلة من عمليات (التذكير) الأخرى، وقفنا عندها مفصلاً.

يواجهنا الآن الموقف الرابع من النص.

ولقد لحظنا المواقف الثلاثة السابقة، وكانت حائمة على رسم سمات المؤمنين، ومعالم الخبرة الإسلامية بعامة.

وكانت معركة (بدر) و(أُحد) بخاصة، مادةً تتحرك الموضوعات خلالها، ناثرة (جملة) من الظواهر التي اتخذت كلاً من (التقوى) و(الصبر) بطانةً فكرية لها، فيما انتهى الموقف الأخير منها إلى طرح ظاهرة (الجهاد) من خلال البطانة المذكورة.

وحين نتجه إلى الموقف الرابع، نلحظ أنّ (الجهاد) وبلورة دلالته، يتّخذ مجال الرسم في هذا الموقف.

وقد استُهلّ الموقف بذيول معركة (أحد) توثيقاً لوشائج الصلة العضوية بين المواقف.

وتقول بعض النصوص المفسّرة أنه قد أُرجف بأن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد قُتِل في (أحد) فيما ترتّب على ذلك انشطار في استجابات الجمهور حيال الحدث المُرجف به: من بقاء على الاستقامة في السلوك ومن ارتداد عن الدعوة... الخ، والآية التالية تُحدد الاستجابات المذكورة:

 

______________________________________________________

الصفحة 263

 

(وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم...) [آل عمران: 144].

وأيّاً كان الصائب من التفسير، فإن النص يعقّب على الحدث بقوله (فلن يضر الله شيئاً) [آل عمران: 144].

ومعلومٌ أنّ هذا التعقيب يظل امتداداً عضوياً لما سبقه من التعقيب في المواقف السابقة من أن الالتواء لن يضرّ الرسالة الإسلامية والمؤمنين بها.

وقد أردف النص ذلك، بما يلي:

(وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً...) [آل عمران: 145]. ومن البيّن أن رسم النص لهذه الظاهرة يظل بلورةً لدلالة (الجهاد) وموقع الاستشهاد منه، فيما يعتزم النص تقرير حقيقة العمر الإنساني وتحديد السماء له أمداً معيّناً لا يخترقه أيّ حَدثٍ، وفيما يظلّ الاستشهاد إفصاحاً عن ذرى الإيجابية في اختيار الأجل المحدّد.

وفي ضوء تحديد الأجل وموقع الاستشهاد منه، يتّجه النص إلى رسم ظاهرة جديدة هي:

(وكأيّن من نبيّ قاتل معه ربيُّون كثيرٌ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)[آل عمران: 146 ـ147].

هذه النصوص واضحة الصلة كلّ الوضوح ـ من الوجهة الفنيّة ـ بالمواقف المتقدمة، بل وبعصب السورة أكملها، فيما يحسن بالمتلقي أن يرتدّ بذاكرته إلى بداية السورة التي أجملت رسم المؤمنين، وألمحت إلى موقعهم من معركة بدر، بل إلى ملمحهم بعامة فيما كانت هتافاتهم بالمغفرة، وتثبت

 

______________________________________________________

الصفحة 264

 

الأقدام، والانتصار على الكافرين، تشكّل حواراً أوضحنا دلالته في حينه، كما أوضحنا صلته فنيّاً بما لحقته من مواقف أوضحناها في حينه أيضاً. هنا تمتدّ وشائجُ الصلة وتتشابك فنياً لتمُدَّ عصبَ السورة بوحدةٍ فكرية تجمع بين جزئياتها من جهة عامة، وتجمع بين محتويات القسم الأخير من السورة من جهة خاصة.

فظاهرة (الصبر) مثلاً، لحظناها وقد شكّلت واحداً من البطانة الفكرية في القسم الأخير من السورة.

وظاهرة المطالبة بعدم الضعف والحزن والوهن، شكّلت جزءً من هذا القسم أيضاً.

وهاتان الظاهرتان، وما سبقتهما، قد رسمت من جديدٍ في هذا الموقف، حيث صيغ لها سياقٌ جديدٌ يتمثّل في التذكير بظاهرة الأنبياء الذين طالما قاتلت معهم جماهير ذات أعداد هائلة دونما أن يصيبهم وهن وضعف واستكانة.

ومن الواضح فنيّاً، أنّ هذا التذكير يساهم في بلورة دلالة (الجهاد) وتثبيت مشروعيته في الأذهان.

ومن الواضح أيضاً أنّ رسمَ مثل هذا العنصر، إنما يُصاغ في نطاق المواقف المتأرجحة التي يحياها البعض، فيما ألمح النص إليها عبْر الإرجاف بموت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وإحكاماً للتواشج العضوي، نجد النص يردف الرسم المذكور، برسم مواقف مقبلة خاضعة للوقوع في أحد طرفي الصراع: الإيمان والارتداد حيث يجيء الرسم مُلوّحاً بالخسار للمرتد، وبالرباح للمتماسك، مُذكّراً من جديد وقوف السماء لصالح الأخير، وإلقاءها الرعب في الأول.

 

______________________________________________________

الصفحة 265

 

ولنقرأ الآيات:

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم، فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين * سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب...) [آل عمران 149 ـ 151].

هنا، بعد أن يصل النصُ فنيّاً ـ من خلال النظرية ـ بين الجهاد وبين المواقف المُترقّبة،... يتجه ـ من خلال التطبيق ـ إلى الوصل بينهما جديداً، حيث يرتدّ إلى معركة (أحد)، واشجاً بين شرائح الزمن الذي قطّعه النص إلى شرائح نفسية يفصّل كلاً منها في موقف جديدٍ يتطلّبه السياق.

وهكذا تجيء (معركة أحد) مفصلة شرائح زمنية، ينهض النص ـ في هذا الموقف ـ برسم تفصيلات جديدة من المعركة تتوافق والسياق الجديد: ألا وهو: الجهاد ووحدة الكلمة أو الانشطار حياله وهو: السياق الذي قلنا أنّ النص قد حذّر الجمهور منه، وألمح إلى ارتداد البعض منهم عند الإرجاف بموت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ:

أقول: هذا السياق، سيُصاغ من خلاله رسمٌ لتفصيلات الأحداث والمواقف التي واكبت معركة (أحد) فيما يقف القارئ عندها على مزيدٍ من الأسرار الفنية في بناء هذا الموقف الحكائي أو القصصي.

ولنقرأ الآيات:

(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم مَن يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين * إذ تصعدون ولا تلوون على أَحَدٍ والرسول يدعوكم في أُخراكم فأثابكم غماً بغمٍ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل

 

______________________________________________________

الصفحة 266

 

عليكم من بعد الغمّ أمَنَةً نعاساً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفُسهم يظّنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيءٍ قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتِلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور * إن الذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان، إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) [آل عمران 152 ـ 155].

هذه النصوص، من حيث البناء المعماري لها، تنطوي على تفصيلات جديدة من الحدث والموقف، لم يرسمها النص في المواقف الثلاثة التي تقدمت من السورة، بل رسم النصُ هناك أحداثاً ومواقف، متميزةً عما رسمه هنا في الموقف الرابع.

لقد رَسَم النصُ تفصيلاتٍ جديدة متصلة بذيول معركة (أُحُد)، تحدّدت في سياق (الجهاد) وانشطار الكلمة مقابلاً لوحدة الكلمة التي يُطالب النصُ بها في الجهاد وفي سائر أنماط السلوك.

إنّ معركة (أُحد) ـ في النطاقات السابقة ـ رسمت بادئ ذي بدء عبر عملية (فشلٍ) همّت به طائفتان: الطائفة التي اقترحت البقاء داخل المدينة، والطائفة التي اقترحت الخروج منها، فيما خُتمت عملية الفشل بنصرة السماء.

ثم رُسمت عبر المطالبة بالصبر، والتقوى، والإمداد بالملائكة، ورُسمت في سياق المطالبة بعدم الوهن والحزن عبر المقارنة بين الجراح التي أصابت طرفي الصراع: الإيمان والكفر. ورُسمت في نطاق المواجهة العملية، والتلكؤ حيال تلك المواجهة عبر التذكير بتمنّي مثل هذه المواجهة خلال معركة (بدر).

هذه الأنماط الأربعة من الرسم لملامح معركة (أحد) قد صيغت ـ كما

 

______________________________________________________

الصفحة 267

 

هو بيّنٌ ـ في نطاقات مختلفة، تتميّز عن النطاق الجديد الذي نهض به الموقف الذي نحن في صدد دراسته.

هناك في النطاقات السابقة: تذكير ببدء المعركة وتخطي الفشل، ووعدٌ بالإمداد الملائكي في حالة الالتزام بالتقوى والصبر، وتذكيرٌ بالتقابل بين الجراح، وتذكيرٌ بالتلكؤ حيال الاستمرارية في الجهاد. أمّا هنا، فإن النطاق ليتميّز في رسم جديد حائم على التذكير بعنصر النصر في المعركة ذاتها ـ وليس في معركة بدر كما هو سياق الرسم السابق ـ ثم مقابلة العنصر بالانخذال أيضاً عبر التنازع والانشطار والمعصية. بكلمة أخرى: إنّ النص رسم تفصيلات جديدة عن أحد تتمثّل في المقارنة بين النصر والفشل في معركة واحدة، كان النصرُ يواكبها في البداية، ثم كان الفشل يواكبها عند وقوع الانشطار.

وهذا يعني أنّ الرسم في الموقف الجديد، صيغ في سياق وحدة الكلمة التي يطالب النصُ بها في هذا الموقف، وفي سياق الرسم لظاهرة (الجهاد) وبلورة دلالته التي تمّ رسمُ أبعادٍ منه في جزئيات سابقة.

والمهم، أنّ التقابل بين النصر والفشل في معركة أحد يحدده الرسمُ التالي:

(ولقد صدقاكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه) وهذا هو عنصر النصر.

 

وأمّا عنصر الفشل، فيتمثله الرسم التالي، المباشر لما تقدم.

(حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة... ولقد عفا عنكم...).

هذا التقابل بين عنصري النصر والفشل، أردفه النص ـ تحقيقاً لعملية التجانس الفني والنفسي ـ برسم ملامح نمطين من الشخوص يتقابلان

 

______________________________________________________

الصفحة 268

 

بدورهما: النمط الدنيوي، والنمط الأخروي ثم خَتَم الرسم بظاهرة (العفو) عن المفارقة التي أفرزها الدنيويون من الشخوص.

 

* * *

 

وحين نتابع جزئيات الوقف، نلحظ استمرارية الرسم للحدث المذكور (معركة أحد)، والدخول في تفصيل ملامح الفشل الذي واكب الحدث بعد أن أجمله النص في الجزئية المتقدمة.

وتتمثل التفصيلات في رسم عملية الذهاب إلى وادي أُحُد فراراً من المعركة، فيما كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يناديهم بالرجوع، على نحو ما تحدده الفقرات التالية:

(إذ تُصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم...).

وعلى نحو ما تفصّله النصوص المفسّرة، فيما ألمحنا إلى بعض تفصيلاتها في مواقع سابقة.

ويهمنا مما سبق، أن نتابع رسم تفصيلات الحديث، بما يواكبها من تعقيبات النص على ذلك، وما يتخلّلها من رسم لمواقف بعض الشخوص: إذ أنّ كلاً من التعقيب، ورسم الموقف، هو الذي يحدد طبيعة السياق الذي صيغ الموقف الجديد من خلاله.

 

* * *

 

إن التعقيب، ورسم الموقف، يتحدد في الجزئيات التالية من أحداث المعركة ومواقفها:

أ ـ (فأثابكم غماً بغمٍ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم).

ب ـ (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمَنةً نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق...).

 

______________________________________________________

الصفحة 269

 

جـ ـ (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبَرز الذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم).

 

د ـ (وليبتلي الله ما في صدوركم وليُمحّص ما في قلوبكم).

 

هـ ـ (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كَسَبُوا).

 

و ـ (ولقد عفا الله عنهم).

 

إن هذه التفصيلات للموقف والحَدَث، تتلخص في أنّ (العفو) يظل وراء كل تجربةٍ ذات مفارقة، فالفرار من المعركة متمثلاً في بعض الشخوص الذين تركوا مواقعهم في الجبل، قد (عفت) السماء عنه، وجعلته جرحاً مكان جرح، جرح الهزيمة قبال الألم الذي أصاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في عصيانهم إيّاه.

ومن هنا طالب النص بعدم الحزن على ما فات من الهزيمة، بقدر ما ينبغي أن يتجسّد في حُزن المخالفة لأوامر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

كما أن أولئك النفر الذين فرّوا من المعركة ـ وقد استزلّهم الشيطان ـ قد (عفت) السماءُ عنهم أيضاً.

وإذن، (العفو) أحد المعطيات التي رسمها النص في هذا الموقف، جسّده بهذا النحو: إزاحةً للتوترات الناجمة من المفارقة، وتحفيزاً للسلوك الجديد الذي طالب به النص، وحذّر من الاستمرار في المفارقة، وهو ما تمّ رسمه في صدر هذا الموقف عندما حظر إطاعة الملتوين، وأنهم سيردونهم على أعقابهم فيما لو خالفوا ذلك.

هذا (العفو)، يتساوق وعملية (التحفيز) التي لحظناها أيضاً في صدر هذا الموقف، فيما قرّر النص بأنه سيلقي الرعب في قلوب الملتوين:

وإذن، للمرة الجديدة، يظل (العفو) ظاهرةً تلقي إنارتها على الموقف

 

______________________________________________________

الصفحة 270

 

في عملية صياغة الإنسان الجديد بعد سلسلة الإحباطات التي واجهت بعض الشخوص، والمفارقات التي انطووا عليها.

ولقد رسم النص حدثين أو موقفين لكلٍ من المؤمنين وما يقابلهم من ذوي المفارقات، مؤكداً بهذا الرسم نصرة السماء للنمط الأول من الشخوص، امتداداً لمفهوم النصرة الذي تخلّل جزئيات النص السابقة كما لحظنا، إذ رسم ظاهرة (النعاس) الذي غشي المؤمنين، مُزيحاً بذلك توتّراتهم، مُهيّئاً لهم فرصة للراحة، في حين أنّ المنافقين قد فقدوا الراحة والطمأنينة وعاشوا في أزمات وتوتّرات تفرضها طبيعة الخوف من عدوهم: المؤمنين.

يقابل هذه النصرة، رسمٌ لذوي المفارقات الذين تعللوا بعدم النصر، وتمسكوا بما لحظوه من الانتصار الزائف أو العابر أو الدنيوي للمشركين، فيما ردّ النصُ عليهم بإجابةٍ سبق أن رُسمت في جزئيات النص السابقة، وجاءت مكررةً هنا، في السياق الجديد الذي تحدّثنا عنه (سباق الجهاد ووحدة الكلمة) ألا وهي: أن القتل أو الموت بعامة يظل محكوماً بالأجل، لنتذكر الآية التي تقدّمت في صدر الحقل عن الكتاب المؤجل للنفوس، والتواشج العضوي، أو لنقل: الإنماء العضوي لظاهرة (الأجل) التي أُنميت في هذا الموقف الجديد خلال العودة إلى المسوغات والتعليلات التي يقدّمها ذوو المفارقة: هروباً من الجهاد.

من هنا، كان ختام الموقف، يرسم سلوك أولئك الذين فرّوا من المعركة (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان...الخ) مؤكداً بهذا الرسم: التواشج والإنماء العضويين في صياغة الموقف فقد رسم الملتوين وقد تعلّلوا ببعض الأعذار، ثم تقدم بالردّ عليهم، وأخيراً (عفا) عنهم (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم).

هذه المستويات من رسم المسوّغ لذوي المفارقات، ثمّ الرد عليهم بما

 

______________________________________________________

الصفحة 271

 

يتساوق والمواقف السابقة ثم العفو عنهم يظل تتويجاً عضوياً لجزئيات الموقف التي تجانست من جانبٍ مع بعضها الآخر، وتنامت، أي تطوّر بعضها إلى نهايةٍ معيّنة من جانبٍ ثان، وتلاقت كل روافدها ـ من جانب ثالث ـ عند ظاهرة (العفو) التي غلّفت الموقف، يواكبها ظاهرة (الجهاد) في نطاق وحدة الكلمة التي طالب بها النص.

أولئك جميعاً مستويات متنوعة من التلاحم العضوي في معمارية الموقف الرابع من النص، يتعيّن على المتلقي ألاّ يغيب عنها عبر استجابته لنص فني خطير، يرسم له معالم الخبرة الإسلامية.

الموقف الخامس من النص، يظل امتداداً عضوياً للموقفين اللذين سبقاه في معالجة ظاهرة (الجهاد).

لقد كان (الجهاد) من خلال (وحدة الكلمة) هو الطابع الذي رسَمَ ذينك الموقفين: مع ملاحظة أنّ (العفو) عن المتخاذلين، وكان موضع تشدّد في الرسم المذكور، كما لحظنا.

هنا يرسم النص مستوياتٍ جديدةً، يصلها أيضاً ـ في نهاية المطاف بذيول معركة (أحد) و(بدر) ـ المعركة التي تظل ذيولها منسحبةً على المقطع الأخير من سورة آل عمران: في شتى مواقفه التي لحظناها، وفيما سنلحظها في بقايا السورة، مشكّلةً بذلك رافداً فكرياً يصل بين جزئيات المقطع.

ولنقرأ النصوص أولاً: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يُحيي ويُميت والله بما تعملون بصير * ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم لمغفرة من الله ورحمةٌ خيرٌ مما يجمعون). [آل عمران: 156 ـ 157].

ينبغي ألا يغيب من بالنا استهلال الرسم لظاهرة الجهاد، إنما كان برسم

 

______________________________________________________

الصفحة 272

 

التساؤل التالي:

 

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...الخ) [آل عمران: 142].

 

هذا الرسم الذي لحظناه في موقفٍ أسبق، يصوغه النص هنا في نطاقٍ جديد قائمٍ على طرحه لظاهرتين يصل بينهما وبين الجزاء الأخروي: الجنّة.

الأولى: ظاهرة نفسية تتمثل في (الحسرة) الدنيوية التي ستُصيب الملتوين وهم يعون أنّ المؤمنين قد حققوا أكثر من مكسب مادي (الغنيمة)، ومكسب معنويّ (النصر)، بعد أن كانت أعماق الملتوين تهتف أمام المؤمنين بهذه الصرخة: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا).

ولكنّ النص القرآني الكريم أجاب على هتافهم المذكور بما يلي: (ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم).

إنّ النص رسَمَ هنا موازنةً بين موقف الملتوين، وبين الحصيلة التي انتهى المؤمنون إليها، وهي حصيلة (المغنم) و(الحياة) أي: غنائم الحرب، وعدم الموت.

وهاتان الحصيلتان ـ من خلال المنطق النفسي ـ تضادّان التوقّع الذي افترضه الملتوون، وحَمَلهم على تبسيط عزم المؤمنين في التوجّه نحو ساحات القتال.

وطبيعيٌ أن الملتوين ـ وهم معنيّون بمتاع الحياة العابر ـ سوف يستجيبون لظاهرة الغنم والحياة ـ على عكس ما أرجفوا به ـ استجابةََ (الحسرة) لهذه النتيجة، مما تُضاعف الحسرةُ من توتّراتهم الداخلية وتضخّم حجم المَرَض لديهم.

وينبغي ـ تبعاً لما تقدّم ـ أن يُدرك المُتلقّي بوضوح قيمة هذا المنحى النفسي من الصياغة القرآنية، حيث أنهى الملتوين نفسياً، وطَرَحَهم بلا إشباع،

 

______________________________________________________

الصفحة 273

 

لكل حاجاتهم المريضة التي سعوا من خلالها إلى وأد حركة (الجهاد)، فيما كانت الحصيلةُ معكوسةً تماماً، إنّها (حسرة) كم يبدو ضخماً، حجمها المَرَضيّ الذي دَأَبَ النص ـ من خلال جزئيات السورة بأكملها ـ على إبرازه في أعراض شتى تتصل بالحقد والحسد والعدوان وما إليها من السمات التي لحظها المتلقّي في جزئيات السورة.

 

* * *

 

قبال هذا المنحى النفسي الذي رسمه النص حيال الملتوين، تقدّم النص برسم استجابة المؤمنين حيال (المتاع العابر)، حيث زهّدهم فيه، وأوضح بجلاء ـ من خلال الفقرة التالية ـ انتفاء أهميته بالقياس إلى المعطى الأخروي: الجنة.

(ولئن قُتلتم في سبيل الله أو متّم لمغفرة من الله ورحمة خيرٌ مما يجمعون).

إن إشارة النص إلى (خير مما يجمعون) تنطوي على دلالة نفسية بالغة الخطورة في عملية البناء المعماري لهذه الشريحة من النص.

فالنص، يضخّم من حجم المتاع الدنيوي في نَظَر الملتوين، ويخفّفه في نظر المؤمنين، مع ملاحظة أن التخفيف أو انتفاء قيمته أساساً هو وجهة نظر السماء. بيد أنّ النص يختط هذا المسار ليُعامل كلاً من نمطي الشخصية بقدر استجابته الخيّرة أو الشريرة. يتعامل مع الملتوين من خلال طبيعة نظرتهم ذاتها، فيجعل (المتاع الدنيوي) حسرةً في قلوبهم عبر مشاهدتهم المؤمنين وقد ظفروا بالغنم.

ويتعامل مع المؤمنين من خلال نظرة السماء ذاتها للمتاع المذكور، حيث يجعله عديم القيمة بالقياس إلى قيمة العطاء الأخروي.

 

______________________________________________________

الصفحة 274

 

إنه يقوم بتوازنٍ هندسي بين طَرفَي المعادلة، حين يجعل المتاع (حسرةً) عند أحد الطرفين، ويجعله ضئيل القيمة أو عديمها عند الطرف الآخر في صراعهما المذكور.

 

* * *

 

وعلى أية حال، فنحن إذا تجاوزنا الشريحة المتقدمة وتابعنا شرائح الموقف، واجهَنا النصُ التالي:

(فبما رحمةٍ من الله لِنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكل على الله...) [آل عمران: 159]. هذه الآية تجيء عقيب الموازنة التي تقدم الحديث عنها.

وفي البدء، ينبغي أن نُذكّر المتلقّي ـ ونحن حريصون على توضيح التواصل الفني بين شرائح النص ـ بأن الموقف الأسبق كان حائماً على ظاهرة (عفو) السماء، حيث رسم النصُ (العفو) بِطانةً تخللت عدة شرائح من الموقف كما لحظنا.

هنا، فإنّ الإنماء العضوي، ليتبدّى أمامنا بوضوح، حينما نجد أن ظاهرة (العفو) عند السماء، قد (أُنميت) عُضوياً، وتطوّرت إلى مطالبة (بشرية) بالعفو، متجسدة في سلوك النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بصفته مضطلعاً برسالة السماء المتحدثة عن (العفو).

إنّ التطور أو النموّ العضوي، يتمثّل في الارتداد والرسم نحو عملية الهروب من مواقع القتال التي رسمها النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في معركة (أُحد)، فيما كان المسوغ للهروب هو: البحث عن المتاع الدنيوي العابر: غنائم الحرب.

ولا حاجة بنا، إلى لفت نظر المتلقي للرابطة العضوية بين هذه الشريحة

 

______________________________________________________

الصفحة 275

 

وما تقدمتها من الصياغة المتصلة برسم المغنم ومعادلته بين الملتوي والمؤمن، فإنّ الصلة لواضحة في هذا الصدد، فضلاً عن الصلة بين المواقف المتقدمة والموقف الحالي.

كما ينبغي ـ في نهاية المطاف ـ لفت نظر المتلقّي، إلى أن المطالبة بالعفو جاءت في سياق الحديث عن التعامل الأخلاقي عند الشخصية الإسلامية (اللين والمرونة) مشفوعةً بظاهرتين هما: التشاور والتصميم.

ولا يخفى، أنّ هذه المستويات من التعامل، تظل على صلةٍ بمناخ الجهاد، وما يتطلّبه من حشدٍ كمي ونوعيّ، تسهم (المرونةُ) في توفيره، و(التشاورُ)، في التحضير إليه، و(العزمُ)، في تيسير تنفيذه... فضلاً عن أن (العفو) وهو البطانة العامة للموقف، هو الذي يتكفّل بتهيئة الحشد المذكور.

لقد لحظنا، كيف أنّ النص رسَمَ الموازنة بين الملتوين والمؤمنين، في صياغته لدافعية (المتاع) الدنيوي: حيث أنهاهُ (حسرةً) عند النمط الأول، وزهّد بقيمته عند النمط الآخر.

ولحظنا أيضاً كيف أن النص في موازنته المعمارية المذكورة، قد رسم ملامح الشخوص الملتوية وهي تحاول حجز الجمهور من التوجه نحو ساحة القتال، في حين رسَمَ قبالها ـ على نحوٍ متوازنٍ معمارياً شخوص المؤمنين وهم (يحشّدون) عدداً أكبر، ونوعاً أشدّ وعياً حينما طالبَ النص بالعفو، والمرونة، والتشاور، والعزم. هذه الأنماط الأربعةُ من السلوك، تشكّل ـ من حيث البناء الهندسي، أي البناء الفني لهذه لشريحة من النص ـ تُشكل إجابةً فنيةً على سلوك الملتوين ـ فالملتوون يبذلون شتى المساعي من الإرجاف بأنّ الموت سوف لن يجابه الجمهور لو قعد عن القتال. هذا النمط من النشاط الملتوي، رَسَمَ النصُ حياله، نشاطاً مضاداً بهدم الأبنية الواهية التي حاول الملتوون إقامتها، حيث رَسَمَ العفو عن المتخاذلين، والمرونة حيالهم،

 

______________________________________________________

الصفحة 276

 

والتشاور معهم، ثم (العزم) على القتال.

كل أولئك، يتعيّن على المتلقّي أن يضعه في ذهنه، حتى يقف على طبيعة البناء المعماري للنص الذي صاغ مثل هذه الموازنة، وهي موازنةٌ لا تقوم على الرسم المباشر ـ بل على الرسم غير المباشر، على تقديم سلسلة من أنماط النشاط تشكّل بمجموعها إجابةً على نشاطٍ مضاد يحاول هدم ظاهرة الجهاد، في حين تُفصح السلسلة الإيجابية (عفو، مرونة، مشاورة، عزم) تفصح هذه السلسلة بنحوٍ غير مباشر عن أنّ النشاط المضادّ سيفقد فاعليّته عند توفّر السلسلة المذكورة.

 

* * *

 

تأسيساً على ما تقدم، يتابع النص تقديم أنماط أخرى من السلوك الملتوي، من المحاولات البائسة، في غمرة رسم (المتاع الدنيوي ـ الغنائم) وطبيعة استجابة كلٍ من المؤمنين والملتوين حياله على النحو الذي تقدمت الإشارةُ إليه، حيث يتقدم النص برسم ارجافٍ جديد يحاول النيل من شخصية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي شخصية مهّد لها النص عضوياً بإكسابها أعلى سمات الأخلاق، ثم أردف ذلك بإرجافٍ يحاول النيل من تلك الشخصية خلال تهمة تتصل بالغنائم ومحاولة الاستئثار بها.

 

(وما كان لنبيّ أن يغلّ...الخ) [آل عمران: 161].

 

وواضحٌ ـ من الوجهة الفنية ـ أنّ النص رسَمَ هنا نمطاً آخر من الموازنة الهندسية بين طَرَفي الصراع، وقدّم إجابةً ضمنية تمثل الرد على التهمة.

والإجابة من حيث البعد الزمني (وهذا واحدٌ من أنماط العبارة الفنية) تقدمت على التهمة، بكلمةٍ أخرى: النصُ رسم شخصية النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في آية متقدمة في أعلى سمات الأخلاق، ثم رَسَم تهمة الملتوين بعد ذلك، حيث يُفصح مثلُ هذا الرسم عن نمطٍ آخر من العبارة الفنية في صياغة الحقائق.

 

______________________________________________________

الصفحة 277

 

ومع ذلك، فإن النص أردف الرسم المذكور، بصياغة عامة لشخصية النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تتجاوز السمات التي حددتها مفردات معينة من السلوك مثل اللين والمرونة ونحوهما، تتجاوزها إلى سمة عامة، تحمل طابع (الرسول) إلى الآخرين.

ومعلوم، أن طابع (الرسول) يردم كل تهمةٍ بائسةٍ تحاول النيل من الشخصية، حيث تنقل مثلُ هذه الشخصية رسالة السماء إلى الآدميين، تتلو عليهم آيات السماء وتزكيهم وتعلّمهم الكتاب والحكمة. وهذا ما حددته الآية التالية:

(لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة...) [آل عمران: 164].

وإذن، بهذا النمط من الرسم، نكونُ قد وقفنا على طبيعة الموازنة الهندسية التي صاغها النصُ القرآني في رسمه لسمات الملتوين، واستجابة المؤمنين حيالها في خضمّ النشاط المتصل بالجهاد.

 

* * *

 

هنا، يتقدّم النص برسم موقفٍ جديد ألا وهو: الموقف السادس، فيما يمثّل طرحاً آخر للظواهر المتصلة بذيول معركة (أُحُد) و(بدر).

ولقد كرّرنا التلميح إلى أن أصداء المعركتين المذكورتين، تظل تتردّد في جزئيات القسم الأخير من سورة آل عمران.

وفي المواقف الخمسة التي تقدم الحديث عنها، لحظنا كيف أنّ كل موقفٍ منها كان يختص بشطرٍ معيّنٍ من الأصداء حيث تصاغ في سياقات متنوعة.

وها نحن الآن نلحظ النص،وقد عاد إلى (أُحد) في سياقٍ جديد، يجدر

 

______________________________________________________

الصفحة 278

 

بنا أن نقرأ نصوصه أوّلاً: (أوَلمّا أصابتكم مصيبةٌ قد أَصبتم مثلَيها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير * وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقربُ منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون * الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين * ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهمْ الاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون) [آل عمران: 165 ـ 170].

هذه النصوص ترسُمُ ظواهرَ سبق أن أخذت موقعاً سابقاً من الرسم لها، إلاّ أنّها هنا صيغت في نطاق جديد، سواء أكان هذا النطاق يتصل بذيول المعركتين، أو بحصيلتهما وموقع دلالة (الشهادة) من ذلك.

ففيما يتصل بالمعركتين،فإنّ النطاق الجديد لرسمهما يتمثّل في أنّ النص ـ وهو يلقي تبعة الهزيمة في (أُحُد) على مفارقات المُقاتلين ـ يتقدم بطرح نمط آخر من المفارقات لم يرد في الرسم السابق الذي تناول ذلك.

فقد لحظنا مثلاً أنّ تَرْكَ الموقع في الجبل، ومخالفة أوامر النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ذلك، كان يُشكّل واحداً من المفارقات التي تمّت الإشارةُ إليها في مواقع سابقة.

هنا ـ حسب النصوص المفسرة ـ يومئ البعض منها إلى أنّ المفارقة تمّت في (بدر) لا في (أُحُد) حيث اختير الفداء من الأسرى بدلاً من القتل.

وحتى مع افتراض صحة التفسير الذاهب إلى (أحد) فإن البعض من المأثور المفسِّر يحدده من مخالفتهم للنبيّ في الخروج من المدينة حيث دعاهم إلى التحصّن بها. وحتى أيضاً مع افتراض صحة التفسير الذاهب إلى المخالفة

 

______________________________________________________

الصفحة 279

 

المتمثلة في ترك الموقع في الجبل. أقول: حتّى مع صحة الافتراضات المذكورة، فإن جدّة السياق تتمثل في أنّ الجمهور هو الذي يتساءل، لا أنّ السماء هي التي تقرر الحكم منذ البداية كما هو شأن الرسم الذي تقدم في المواقف السابقة.

فلقد تساءل هؤلاء بقولهم:

(أنّى هذا) أي: أصابتنا الهزيمةُ ونحن مسلمون؟! حيث أجابتهم السماء: (هو من عند أنفسكم).

أما الشريحة الأخرى المتصلة بذيول المعركة، في قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان...الخ).

فإنّ السياق الجديد فيها، يتمثل في طرح سلوكٍ جديد تماماً، لم تعرض لها المواقف السابقة، ألا وهو: تعلّل المنافقين ـ في هروبهم من المعركة ـ بقولهم (لو نعلم قتالاً لاتبعناكم).

ففي هذه الجزئية يرسم النصُ بعداً جديداً من أحداث المعركة ومواقفها متمثلاً في السلوك المنافق المذكور.

وهكذا، نجد أنّ النص في رسمه الأحداث القصصيّة يتوسل بالزمن النفسي، بدلاً من تسلسله الوجودي، مقتطعاً شرائحه على نحوٍ يفصّلها في الموقع القصصي الملائم لها، محقّقاً بذلك للمتلقي إمتاعاً جمالياً ونفسيّاً في صياغة الحدث بنحوه المذكور، وهو نحوٌ لحظناه في المواقف الخمسة التي تناولت أحداث (بدر) و(أُحُد)، حيث قطّعها النص، ووصل بينها وبين الزمان النفسي للمتلقّي.

 

______________________________________________________

الصفحة 280

 

في متابعتنا للموقف السادس من النص، نجد أن الشريحة الثالثة التي صيغت عبر الحديث عن معركة (أُحُد)، تتمثّل في قول المنافقين لإخوانهم لو أنّ الآخرين قعدوا عن القتال مثلهم، وأطاعوهم في النصح بعدم الذهاب إلى المعركة، لما قُتلوا حينئذٍ.

وواضحٌ، أن النص في موقفٍ متقدم، رسم مثل هذا الموقف، لكنّه أردف ذلك برسم (الحسرة) في قلوبهم، حيث أبرز النص الجانب الإيجابي من المعركة، متمثلاً في (الغنيمة) وفي (الحياة). أما هنا، فإن (السياق) لَمُتميّزٌ كل التميّز عن السياق المتقدم: سواء أكان ذلك من حيث حصيلة المعركة أو من حيث تعقيب السماء على ذلك.

فمن حيث حصيلة المعركة، فقد كان نطاق الرسم في موقفٍ متقدم هو: إبراز التشفّي في سلوكهم من خلال قولهم: (لو كانوا عندنا ما ماتوا) ثم ردم هذا التشفي مباشرةً، بإبراز جانب الغنيمة والحياة بدلاً من الموت، ثم تحوّل (التشفّي) إلى (حسرة)، أي: إلى إحساس مضاد.

أما هنا، فإن حصيلة المعركة، لم يُبرز النص جانبَها الدنيوي الذي لحظناه في الموقف المتقدم (الغنيمة والحياة) بل أبرز نفس الحصيلة (الموت ـ الشهادة) لكنّه ـ من حيث التعقيب ـ ردَمَ إحساس (التشفي) بعنصر مماثل لذلك الإحساس ألا وهو (الموت) ذاتُه للمنافقين، حيث طالبهم بإبعاد الموت عن أنفسهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وبيّن، أنّ هذه الإجابة تمسح أية بقايا من الممكن أن يحتفظ المنافق بانفعالها المسرّ في أعماقه، ما دام النص يذكّره بالحقيقة المرّة التي لا يحب أن يواجهها، أو أن يفكّر بها، ألا وهي: الموت.

والمهم، ـ وهذا ما نودّ أن نُشدّد عليه ـ أنّ الرسم تمّ هنا في نطاق

 

______________________________________________________

الصفحة 281

 

جديد، تماماً كما لحظناه في سائر الشرائح التي انطوى عليها الموقفُ السادس من السورة.

 

* * *

 

وتبقى الشريحة الأخيرة من الموقف، وهي (الشهادة) محكومة بالطابع ذاته من الجدّة في الرسم، حيث تمّت في سياقٍ جديدٍ متميّز عن السياقين اللذين رُسمت (الشهادةُ) من خلالهما في جزئيتين سابقتين.

ففي الجزئية الأولى رُسمت (الشهادة) في طابعها المطلق من حيث الحصيلة النهائية لها متمثلة في الظفر بالجنّة (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران: 142].

وفي حينه أوضحنا أنّ النص كان في سياق التحدث عن ظاهرة (التقوى) و(الصبر)، وهما ظاهرتان شكّلتا بطانةً داخلية لمواقف سابقة شرحناها مفصلاً، فكان رسمُ (الشهادة) حائماً على ظاهرة (الصبر)، أي في سياق الحديث عن (الصبر) ومعطياته، ومن خلال تلك الظاهرة مهّد النصُ لرسم ظاهرة (الجهاد) بالنحو الذي أوضحناه في حينه.

وأمّا الجزئية الثانية التي تم رسم الشهادة فيها وحصيلتها (أي: الجنة) فكانت متمثّلةً في سياق المقارنة بين المتاع الدنيوي الذي شكّل (حسرةً) في أعماق المنافقين وهم يشاهدون المؤمنين قد غلّفهم المغنم والحياة، وبين تزهيد المؤمنين بذلك المتاع، حيث ألمح النص إلى أن (الجنة) خير مما أكسبه المنافقون من متاع الدنيا.

وإذن، كلٌ من الرسمين المتقدمين لظاهرة (الشهادة) وحصيلتيها (الجنة) قد تمّ في سياقين مختلفين.

هنا، في الشريحة الثالثة التي رُسِمَت الشهادةُ من خلالها، يجيء الرسمُ

 

______________________________________________________

الصفحة 282

 

أيضاً في سياق جديد، يتوافق وما لحظناه من الشرائح التي تقدّمت عليه في الموقف السادس. فقد رَسَمَ النصُ ـ كما رأينا ـ مقولةَ المنافقين لإخوانهم (لو أطاعونا ما قُتلوا) عبر التشفّي من شهادة المؤمنين، وعبر الردّ عليهم بإبعاد الموت عنهم لو كانوا صادقين.

فقد تمّ الرسمُ هنا بتقرير حقيقة بالغة الخطورة تتناسب وطبيعة الرد على الإحساس الذي غلّف أولئك المُتشفّين، حيث أوضح أولاً أنهم (أحياء) وليسوا أمواتاً كما تصورهم المنافقون.

وهذا هو الردّ الأول فيما يُفصح عن معطىً نفسيّ يتوافق وحَجم التشفّي ـ وهو مشفوعٌ عادة بخُبرةٍ مُسرّة عند المرضى المنافقين ـ بيد أن هذه الاستجابة أو الانفعال المُسَر لديهم، سيواكبه انفعال مؤلمٌ دون أدنى شك، حينما يُجابهون بحقيقةٍ تقول لهم: أنّ الموتى هم (أحياء)، وحينئذٍ ينتفي موضوع (التشفّي) أساساً.

أكثر من ذلك، فإن الظاهرة لا تقف عند انطفاء التشفّي، بل يصحبها إذكاءٌ لخبرة مؤلمة جديدة ألا وهي: المصير المُبهج لأولئك الشهداء.

وقد رسَمَ النصُ فعلاً ملامح ذلك المصير، فشدّد على رسمِ ظاهرة (الفرح) لديهم: (فرحين بما آتاهم الله) [آل عمران: 170].

ولم يكتف النص بإبراز ظاهرة (الفرح) التي ستولّد (حسرةً) طويلة المدى عند (المنافقين) وهم يُواجهون بحقيقة المصير الإيجابي للشهداء، بل أردف ذلك برسم ظاهرة أخرى تنطوي على معطى فنيّ ونفسي خطير كل الخطورة، ألا وهي:

(يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم مِن خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [آل عمران: 170].

 

______________________________________________________

الصفحة 283

 

 

إنّ خطورة الرسم لظاهرة الاستبشار، يمكننا أن نتحسسها فنيّاً، حينما ندرك طبيعة المنحى النفسي الذي سيستجيب له المتلقي في مواجهته لهذه الصورة التي قدّمها النصُ القرآني الكريم.

فالمُتلقّي مُدركٌ بأنّ المنافقين، سيُجابهون من أوّل خطوة، بخبرة مؤلمةٍ هي (أنّ الموتى المؤمنين ليسوا موتى حقاً بل هم أحياء).

ثم تضاعف خبرتهم المؤلمة حينما يُجابهون بحقيقة (الفرح) الذي قد غَمَر الشهداء فهم ليسوا (أحياء) فحسب، بل يحيون (الفرح أيضاً).

هنا، يبدأ المتلقّي، فيتحسّس من الناحية الفنيّة أنّه من الممكن أن يُشكك المنافقون في الإقرار بالحقيقة المتقدمة.

أو يمكننا، أن نذهب إلى أنّ النص يبدأ بطريقة نفسيّة بالغة التأثير، تتمثّل في تعميق الانفعال المؤلم عند المنافقين، أو تعميق القناعة لديهم بحقيقة الإحياء والفرح.

أو يمكننا حتّى الذهاب إلى أنّ النص حينما يقرّر بأن الشهداء (يستبشرون بالذين لم يلحقوا)، فإنه بهذا التقرير يعمّق من القناعة بأنّ عملية (الشهادة) أمرٌ مفروغٌ من حصيلتها المعطاء، حتى أنهم ينتظرون لحاق الباقين بهم.

وبكلمة أخرى، فإن النص بهذا النمط ـ من حيث التأثير النفسي على المتلقي ـ لم يكتفِ بالردّ على حقيقةٍ ماضية قد انتهت فاعليتها بانتهاء حفنة من الشهداء، بل يتجاوز ذلك إلى تحفيز الآخرين الذين لم يلحقوا بالشهداء بعد، يدعوهم إلى الالتحاق بقافلة الشهداء تحقيقاً للفرح الذي يحدثهم به شهداءُ الماضي.

وإذن، مثلُ هذا الرد على المنافقين، يردم كل محاولاتهم البائسة،

 

______________________________________________________

الصفحة 284

 

ويقتلعها من الجذر، حينما لا يكتفي بمسح انفعالاتهم المسرّة التي تمتّعوا بها قليلاً غبّ رؤيتهم (موتى المؤمنين) وكأنهم مجرد موتى فارقوا متع الحياة، بل مَسَح كل إمكانات الإشباع لديهم، حينما قطع عليهم السبيل في التغرير بالآخرين، عبر رسمه (الآخرين) وقد أُخبروا بأن (الفَرَح) ينتظرهم من خلال (الشهادة)، والمُخبرون هم (الشهداءُ) أنفُسُهم، أي: هم الذين مارسوا تجربة (الفرح).

وبيّنٌ ـ من الوجهة الفنية ـ أن التجريب يترك آثاراً بالغة المدى عند المتلقي، بنحوٍ أشد فاعليةً من مجرد الإخبار بالفرح.

يواجهنا الموقف السابع من النص، وقد حام على ذيول معركة (أُحُد) أيضاً.

إلاّ أنّ هذا الموقف يُمحضه النص لرسم معلمٍ من معالم الانتصار، يصل النصُ بينه وبين المواقف السابقة من خلال التقابل بين معارك الهزيمة فيما تنجم بسببٍ من أنفسهم، كما أشار إلى ذلك: الموقفُ السادسُ من النص (قل هو من عند أنفسكم)[آل عمران:165]، وبين معارك النصر، فيما نجم عن السلوك الإيجابي حيال الرسالة وقائدها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والآيات التالية، تفصح عن الحقيقة المذكورة:

(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرْح، للذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل لم يمسسهم سوء...الخ) [آل عمران: 172 ـ 174].

هذه النصوص، ترسم لنا بوضوح ذيول معركة (أحد) فيما أصاب (القرحُ) جمهور المسلمين. وقد أعقب ذلك أنّ المشركين ـ فيما تقول بعضُ النصوص المفسّرة ـ جعلوا العام القابل موعداً بينهم وبين المسلمين، وفيما

 

______________________________________________________

الصفحة 285

 

تقول بعض النصوص الأخرى، إن المشركين ندموا على تركهم المسلمين وعدم استئصالهم.

وأيّاً كان، فإن المسلمين استجابوا لدعوة النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حينما بلَغَه خَبَر المشركين، أو حينما أطلّ الموعد، ودعا المسلمين إلى قتالهم، فاستجابوا له بالرغم من جراحاتهم من جانب، وبالرغم من تضخيم حجم العدوّ أمام أعينهم من جانبٍ آخر.

ونتيجة لهذه الاستجابة، كانت السماء تمدّ يد العون للمسلمين، فيما صرَفت المشركين عن التوجّه إلى القتال.

والمهمّ أنّ رسم هذا الحَدَث الجديد، يجيء خاتمةً للمواقف التي نهضت برسم معركة (أحد) بخاصة، ورسم المعارك بعامة، فيما كان النص يُخلّل أحداث المعركة ومواقفها، في كل شريحةٍ من شرائح النص ـ في مواقفه السبعة: راسماً في كل موقف جملةً من الظواهر تتصل بالتقوى، وبالصبر، وبالجهاد، وبالعفو، وبظواهر أخرى وقفنا مفصلاً عليها.

 

* * *

 

ولا يغيب عن بالنا، أنّ هذه المواقف السبعة التي انتهى الرسمُ بها عند (الحَدَث) الأخير: حَدَث (الانتصار)، إنما تشكّل القسم الأخير من سور آل عمران. فيما يواجهنا آخر موقفٍ فيها، ألا وهو الموقف الثامن الذي تنتهي السورةُ به.

وقبل أن نتحدث عن الموقف الأخير، يجدر بنا أن نذكّر المتلقي بالبناء الهندسي للسورة، والموقع العضوي لهذا الموقف الأخير، من البناء المذكور.

فالسورة ـ مثلما لحظنا ـ تظل حائمةً على رسم سلوك الكتابيين حيث كان القسم الأول منها، مركّزاً على صياغة سلوكهم، كما أن القسم الثاني من

 

______________________________________________________

الصفحة 286

 

السورة (وهو العنصر القصصي) قد وُظّف ـ كما لحظنا ـ لإنارة القسم الأول. وأخيراً، فإن القسم الثالث من السورة، كان منصباً على الكتابيّين أيضاً، ومن خلال شتى العلاقات بينهم وبين المؤمنين. فقد كانت المقاطع الثلاثة الأولى حائمةً على الرسم المذكور. بينا تمحّض المقطع الرابع بمواقفه الثمانية التي انتهينا تواً منها، تمحّض لرسم الخبرة الإسلامية ـ وهي مستهدفةٌ كما أوضحنا ـ أي: تشكّل هدفَ الرسم لكل موضوعات السورة.

وفي ضوء هذا، فإن الموقف الأخير من السورة، سيتحدّد: في تقديمه حصيلة نهائية لكل أشكال الرسم في أجزاء السورة.

فما هي هذه الحصيلة؟

 

* * *

 

في البدء، يرسم النص عملية الاتجاه نحو السماء أو الأرض، مطالباً بالاتجاه نحو الأول، مبيناً أنّ الاتجاه نحو الأرض مجسّداً في الشيطان، إنما ينحصر في أولئك الذين يتعاملون مع دوافعهم الذاتية، إنّهم (أولياء الشيطان) يخوفهم من الجهاد، من ممارسة السلوك الخيّر. وحريٌّ بالمؤمنين أن يخافوا الله، وأن يتعاملوا مع دوافعهم الموضوعية، أي: وفق مبادئ السماء.

يتّجه النص بعد ذلك، إلى التقليل من خطورة أولئك الذين يسارعون إلى الكفر، مُشدّداً على أنهم لن يضروا الله شيئاً.

هنا ينبغي أن يتذكر المتلقّي، أن المواقف السابقة قد شدّدت على ظاهرة انتفاء الخطورة عند الشخوص السلبية بدءً من الكتابيين الذين حملوا معهم أمراضهم وإفرازاتها المتنوعة من بغضاء وأنانية، متمثلة في تمنّيهم الأذى للآخرين، وعضّهم الأنامل من الغيظ...الخ، وانتهاءً بالملتوين: منافقين ومشركين، في تثبيطهم الآخرين عن الجهاد، وتشفّيهم من الشهداء... الخ،

 

______________________________________________________

الصفحة 287

 

فيما كانت تعقيبات السماء على مواقفهم تؤكد بأنهم لن يضروا الله، ولن يضروا المؤمنين...الخ.

ويتابع النص، رسم هذه الظاهرة، مؤكداً أنّ المتاع الدنيوي الذي يغلّفهم، لن يُفصح عن أنّ ذلك خيرٌ لهم، بل ليزدادوا إثماً.

ويُنهي النص هذه الشريحة بحرص السماء على تمييز الخبيث من الطيّب، مؤكداً على الإيمان والتقوى في نهاية المطاف.

وبيّن أنّ أشكال الرسم المتقدمة، طرحت مفهوماً يتلخص في أن السلوك السلبي لن يطال ضرره بأحد، وأنّ الاتجاه نحو السماء هو الفرز الحقّ في هذا الميدان.

وهذا المفهوم، تركه النص مفتوحاً من حيث المصير الذي سيغلّف الملتوين: تحقيقاً للتجانس الذي لحظنا شتى خطوطه التي بدأت منذ أوائل السورة، متأرجحة، تتعامل مع الكتابيين وسواهم تعاملاً لم يُنهِهِمْ أساساً، كما لم يُنهِ مواقفهم إلى الإيجاب، بل جعل المصائر مفتوحة تتواسق وطبيعة الرسم الذي يطرح شتى المواقف بغية إحداث التأثير على المتلقي، حيث تجيء النهاية إما ركوباً للالتواء، أو اتجاهاً نحو السماء.

يتّجه النص بعد ذلك، إلى رسم ظاهرة تتصل بالإنفاق (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة... * لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...) [آل عمران: 180 ـ 181].

إن رسم هذه الظاهرة، يظل على صلة بالمتاع الدنيوي الذي عقّبت السماء عليه في الشريحة السابقة.

والنصُ هنا، يرتدّ بنا فنيّاً إلى مواقف سابقة من السورة واصلاً بين

 

______________________________________________________

الصفحة 288

 

أجزائها، مقدّماً نموذجين من سلوك الكتابيين، أحدهما يتصل بالبخل فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، بعد أن بيّنا في حينه صلة البخل بالعصاب وبالمرض الذي يغلّف الشخصيّة الكتابية.

وأما النموذج الآخر، فهو بدوره امتدادٌ للكشف عن (سذاجة) الفكر الكتابي (اليهودي منه بخاصة) فيما نقل النص في المواقف السابقة نماذج من (السذاجة الفكريّة) التي تغلّفهم من نحو: أنّ النار لن تمسّهم ألا أياماً معدودة...الخ.

وها هو النص يقدم نموذجاً آخر من (السذاجة) لديهم، متمثّلاً في ذهابهم إلى أن السماء (فقيرة) حينما تقرّر (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) وأنهم تبعاً لواقعهم (أغنياء).

مثل هذه المحاكمة الفكرية، تنطوي على بُعدين أحدهما: السذاجة، والآخر: الالتواء، أي: تقوم على قطبي الجهل والمرض فهم يتخبطون في نسج المسوّغات لسلوكهم، فيما يفصح ذلك عن ظلمة أعماقهم وتوتراتها وصراعاتها، حتى لتدفعهم إلى التصور الساذج المذكور، ما دامت الظلمةُ والتوتر والصراع تقتاد بالضرورة إلى إفراز أمثلة المحاكمة المذكورة.

وقد رسم النص نموذجاً آخر من المحاجة ـ في نهاية المطاف ـ تتمثل في التعلل بأن الله عهد إليهم ألاّ يؤمنوا برسولٍ حتّى يأتيهم بقربان تأكله النار.

والمهم أن أمثلة هذه المحاجة والمحاكمة ونحوهما، مما ألقينا عليه الضوء مفصّلاً، لا نجدنا بحاجة إلى إعادة الكلام فيه، بقدر ما نعتزم الإشارة إلى المبنى العضويّ لهذه الشريحة، حيث وَصَلَ النص بينها وبين الأجزاء السابقة من خلال الربط بين أنماط الملتوين: مشركين ومنافقين وكتابيين، في تماثل أساليبهم ـ على تنوعها ـ حيال رسالة الإسلام، فيما قدّم النصُ أيضاً إجاباتٍ متماثلة حيال أنماط سلوكهم المذكور.

 

______________________________________________________

الصفحة 289

 

يتجه النص في خاتمته التي تنتهي بها السورة، إلى رسم شريحتين: إحداهما، تظلّ امتداداً لرسم الكتابيّين الذين احتلّوا عصب السورة الموضوعي، واحتواهُم العنوان الذي حمل اسم السورة.

وأما الشريحة الأخرى، فتظل إفرازاً فكرياً لما طرحته السورة في أجزائها أجمع، من ظواهر ـ كان رسمُ الكتابيين يُفضي بالضرورة ـ من الوجهة الفنية ـ إلى لفت نظر المتلقي نحو تلك الظواهر التي خُتِمتِ السورةُ بها.

إن الرسم لمواقف الكتابيّين، ينتهي النصُ به إلى ربطٍ عضويٍ أشرنا إليه، من أنّه متمثل في التوحيد بين المشركين والمنافقين والكتابيين حيال رسالة السماء.

وهذا ما حدده النص بوضوح عبر الآية التالية:

(لتُبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) [آل عمران: 186].

ومن البيّن أنّ التلاحم العضوي بين هذه الجزئية وما تقدّمها، تتمثل أولاً في التوحّد بين فئات الالتواء، وفي رسم طبيعة الاستجابة الصابرة المتقية حيالها.

ولعلّ المتلقي يتذكّر جيداً كيف أن المقطع الأخير من السورة، في شتى مواقفه قد اتخذ من ظاهرتي (الصبر) و(التقوى) بطانةً فكرية، تخلّلت جملةً من الظواهر المطروحة.

والنص ـ في ختام السورة ـ يُلاحم عضوياً بين تلك البطانة الفكرية (الصبر والتقوى) وبين طبيعة المُثير الملتوي الذي يوحّد بين فئات المشركين والكتابيين.

وكان آخر رسمٍ للكتابيين ـ وهم عصب السورة كما لحظنا ـ قد انتهى بهم

 

______________________________________________________

الصفحة 290

 

إلى مصير سلبي، بعد أن تركهم مفتوحي المصائر طوال السورة.

ولنقرأ المصير:

(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيّننّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم...) [آل عمران: 187].

هنا، ينبغي أن نلفت نظر المتلقي إلى جملة من الأسرار الفنية لهذا المصير من حيث الرسم المعماري له.

فقد ارتدّ إلى أول السورة التي استهلت الحديث عن الكتابيين، فيما أشارت إلى التلاعب بكتبهم، وكتمان الحقائق. وبهذا الارتداد يكون النص قد جانس بين بداية السورة ونهايتها.

من جانبٍ ثانٍ، أغلق النص مصائر الكتابيين بعد أن جَعلها طوال السورة، مفتوحة، متأرجحة. وبهذا الإغلاق يتم التجانس بين مصيرهم: خاتمة رسمهم وخاتمة النص.

من جانبٍ ثالث: أبقى النصُ شريحة واحدة من سلوكهم، تتمثل في الآية التالية:

(لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا، ويُحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبّنهم بمفازة من العذاب...) [آل عمران: 188].

هذه الشريحة التي خُتِمَ بها رسمُ الكتابيين، تنطوي على تقديم خلاصة المصير الكتابي في طرفيه الدنيوي والأخروي. فقد كانت الحصيلة ـ في تصوّر السماء ـ سلسلةً من المفارقات، وكانت ـ في تصوّرهم ـ مجداً (يفرحون به ويحبون أن يُحمدوا عليه). هذا في بعده الدنيوي.

بيد أن النص أنهى هذا الفرح حينما رسم المصير الأخروي، مُشدّداً على أنهم لن يكونوا بمفازةٍ من العذاب.

 

______________________________________________________

الصفحة 291

 

وبهذه الإجابة، يكون النص قد أبرز حصيلة دنيوية للكتابيين كانت وراء كل مفارقاتهم، ثم ألغاها تماماً حينما رسم النهاية الحقة لمصيرهم: الجزاء الأخروي.

إذن، هذه المستويات من توشيج الصلة، والنماءات العضوية لها، ينبغي أن نضعها في الاعتبار عبر حرصنا على توضيح البناء المعماري للسورة.

 

* * *

 

أخر جزئيةٍ من النص (سورة آل عمران)، تبدأ مع الآيات التالية: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار...الخ) [آل عمران: 190].

وبينٌ، أنّ هذه الآيات، تشكل إنماءً عضوياً للهتافات التي لحظناها في بداية السورة وهي تعرض لسمات المؤمنين بنحو مجمل عبر مقارنتها بالملتوين. وتمتد أيضاً إلى هتافات الحواريين في القسم القصصي من السورة، وها هي تتضخم في القسم الأخير من السورة، ملخّصة كل الخطوات المفضية إلى الخبرة الإسلامية، الخبرة التي قطع النص من خلالها مسافاتٍ متنوعةً وصلت بين الكتابيين والمنافقين والمشركين، وصلت بينهم من جانبٍ، وبين المؤمنين من جانب آخر، حتى انتهت إلى تقرير من نحو: (إنّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان...الخ) [آل عمران: 193].

وهذه هي حصيلة الخبرة الإسلامية.

 

* * *

 

وبعدُ، فما ذا بقي من خاتمة النص؟

 

______________________________________________________

الصفحة 292

 

أولاً: إنهاء لحياة الكفر (لا يغرّنّك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاعٌ قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) [آل عمران: 196 ـ 197].

ولا يغيب عن بالنا، إن هذا الإنهاء يجيء بعد غلق مصير الكتابيين كما رأينا. وهم ـ في الآن ذاته ـ داخلون في طابعه الملتوي.

ثانياً: رسم لمصير الإيجابيين: كتابيين ومؤمنين.

وإذا كنا قد لحظنا رسماً لمصير الكافرين بنمطيهم: الكتابي والمطلق، فثمةٌ رسمٌ لمصير الإيجابيين بنمطيهم أيضاً: الكتابي والمؤمن.

بيد أننا لحظنا خلال وقوفنا على رسم الكتابيين، أنّ النص رسمهم طائفتين: إحداهما إيجابية، والأخرى سلبية. وها هو الآن يحدد مصير كل منهما، حيث يتجه ـ بعد أن حدّد السلبيين ـ إلى الإيجابيين:

(وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم...) [آل عمران: 199].

وأخيراً يجيء رسم مصير المؤمنين، بنحوٍ لا حاجة إلى التعقيب عليه، بقدر ما ينبغي التلميح إلى المبنى الهندسي الذي رسَمَ بنحوٍ متعاقب مصائر أربعة أنماط من الشخوص، مُجانساً بذلك بين ختام النص، وختام الحياة لأولئك الشخوص أي: مصائرهم.

 

* * *

 

آخر آية خُتمت بها السورة، هي الآية التالية: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200].

ولا حاجة بنا، إلى توضيح أنّ الآية تُجسّد معالم الخُبرة الإسلامية التي

 

______________________________________________________

الصفحة 293

 

اضطلعت مواقف السورة بها، بغية توصيلها إلى المتلقي، حيث أفضت إلى تحقيق طابع (الإيمان) أولاً، ثمّ شدّدت على دلالة (الجهاد) بصفتها إحدى قمم الخُبرة الإسلامية، مصحوبة بظاهرتي (الصبر) و(التقوى) اللتين شكّلتا بطانة فكرية كانت تتخللان مواقف النص بالنحو الذي وقفنا عليه مفصّلاً.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400869

  • التاريخ : 19/04/2024 - 02:30

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net