القسم الثاني
هذا القسم يتضمن ـ كما قلنا ـ عنصراً قصصياً مؤلفاً من خمس قصص هي:
1 ـ قصة امرأة عمران. 2 ـ قصة مريم. 3 ـ قصة زكريا 4 ـ قصة عيسى 5 ـ قصة المباهلة.
ويلاحظ أن هذه القصص (تتداخل) فيما بينها، بحيث تؤلّف ما يمكن تسميته بـ(القصة داخل القصة) على نحو ما لحظناه (في سورة البقرة) بالنسبة إلى قصص (الإماتة والإحياء) في القصص المتداخلة الثلاث (قصة إبراهيم مع طاغية عصره، قصة الطيور الأربعة، قصة المار على (القرية). كل ما في الأمر أن هذه القصص الثلاث المتداخلة قد وظّفها النص لإنارة أهمّ المحاور الفكرية التي قامت عليها عمارة السورة المذكورة.
وهنا أيضاً جاءت القصص الخمس لإنارة أهم المحاور الفكرية التي قامت عليها عمارة سورة آل عمران، ونقصد بها: سلوك الكتابيين وما يرتبط به من المواقف والأحداث والشخصيات التي تصبّ في هذا الموضوع، مما يتضح من خلاله مدى الإحكام الهندسي الممتع الذي تقوم عليه عمارة السورة المذكورة، بالنحو الذي سنعرض له.
طبيعياً، عندما تتناول هذه القصص ما يرتبط بظاهرة (الكتابيين)، فإن
(1) هذا القسم نقلناه من كتابنا (دراسات فنية في قصص القرآن)، والمفروض ان نختزل تفصيلاته، إلاّ أن الوقت لم يسمح لنا بذلك.
______________________________________________________
الصفحة 159
طَرح موضوعاتٍ أحرى ذات أهمية كبيرة سوف تأخذ مساحتها من القصص، حيث يعرض لها النص في سياق فني خاص نكتشف من خلاله مدى جمالية الصياغة القصصية التي تسلك منحى معيناً في طرح موضوعات تستهدف لفت النظر إليها، وفي مقدمتها موضوع (الجهاد) وغيره، عبر إقحامها بنحو فني كما نرى.
* * *
ويجدر بنا أن نقف عند كل واحدة من القصص الخمس، وتبدأ بتلخيصها، أولاً:
* * *
تواجهنا ـ في البدء ـ قصة امرأة عمران، وقد رسمها النص على النحو التالي:
(قالت امرأةُ عمران:
ربّ: إني نذرتُ
لكَ ما في بطني مُحرّراً، فتقبّل مني إنك أنت السمع العليم.
فلما وَضَعتها، قالت:
ربّ: إني وضعتُها أنثى.
والله أعلمُ بما وضعت.
وليس الذكر كالأنثى. وإني سميتها مريم. وإني أعيذها بكَ وذريتها من الشيطان الرجيم.
فتقبلها ربُّها بقبولٍ حسَن...) [آل عمران: 35 ـ 37].
في ضوء هذا النص القرآني ـ وفي ضوء النصوص التفسيرية ـ يُمكننا أن نلخّص قصة امرأة عمران على النحو التالي:
______________________________________________________
الصفحة 160
ثمة امرأةُ اسمُها (حنّة) تنتسب إلى آل عمران، وهم نفرٌ أشار القرآن الكريم إلى اصطفاء السماء إياهم، مع آدم ونوح وآل إبراهيم، بقوله تعالى: (إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) [آل عمران: 33].
ومن خلال هذه الآية التي أعقبتها قصةُ امرأة عمران مباشرة، نستكشف طبيعة الوظيفة الفنية للعنصر القصصي في السورة، فيما جاءت في سياق اصطفاء الله لمجموعة تمثل الصفوة البشرية في الاضطلاع بمهمة الخلافة على الأرض، وإيصال رسالة السماء إليها.
والمهم، أنّ امرأة عمران ـ وهي شخصية نسوّية ـ قُدّر لها أن تُساهم بنحوٍ أو بآخر في ممارسة الوظيفة العبادية على الأرض، قد نذرت للسماء أن تُمحضّ وليدها للخدمة في المسجد. ومجرّد كونها تمارس موقف (النذر) وتمحض ّ وليدها لممارسة الخدمة للمسجد، يفصح عن وعيها العبادي الحاد، وتقديرها مسؤولية هذا العمل، وإدراكها لمهمة الكائن الإنسان على الأرض، وليس مجرد كونه كائناً يدبّ على الأرض، ويعمل لإشباع حاجاته الحيويّة والنفسيّة.
وحين ننساق مع النصوص المفسِّرة لملاحظة خلفيّات الموقف، نجد أنّ بعضها يُشير إلى أنّ الشخصية النسوية المذكورة، لم يُتح لها الإنجاب حتى يئست من ذلك، مما حملها إلى أن تدعو الله لأن يرزقها ولداً، فيما تمّت عملية النذر المذكورة.
وهناك من النصوص ما يُشير إلى أن الله تعالى أوحى لزوجها عمران بأنه قد وهب له ولداً مباركاً يُبرء الأكمه والأبرص ويُحيى الموتى بإذن الله. فأخبر عمرانُ امرأته بذلك. ولما حملت، تمّت عملية النذر المذكورة.
والمهم، أن خلفيات الموقف، أياً كانت، فإنّ ممارسة النذر بنحوه
______________________________________________________
الصفحة 161
المذكور، يظل مفصحاً عن خطورة الوعي العبادي عند الشخصية النسوية المذكورة: أي إدراكها لخطورة الوظيفة الخلافية على الأرض.
* * *
هنا، غَمَر الموقف حدَثٌ مفاجئ. فما هو هذا الحدث؟ هذا الحدث يُلقي ضوء على وعي الشخصية النسوية المذكورة، ويفصح عن المزيد من إدراكها لمسؤولية الكائن الإنساني على الأرض.
فقد كان النذرُ حائماً على (ولدٍ ذكر) يتمحّض للخدمة في المسجد، وبخاصة أن الرواية المفسّرة، أوضحت أن الله أوحى لعمران بأنّ ولداً ذكراً سيُوهب له، يضطلع بمهمة رسالة السماء عصرئذٍ. ولكنّ (المفاجأة) جاءت بوليدٍ أنثوي، فيما لا تصلح الأنثى لعمل الرسالة، أي لا تكون نبيّاً أو رسولاً، كما يحتجزها الطمثُ والنفاس من الاستمرارية في خدمة المسجد. فما هو الحل؟ وما هي استجابة امرأة عمران لهذا الحَدَث المفاجئ؟
في لُغة العمل القصصي، يجيء عنصر (المفاجأة)، واحداً من الأدوات الفنية في استثارة القارئ أو المستمع أو المُشاهد.
فأنت حينما تتابع الإصغاء لسلسلةٍ من الأحداث والمواقف، ثم يُفاجؤك حَدَث لم يكن في الحُسبان، حينئذ ستغمرك الدهشة والانبهار إزاء المفاجأة المذكورة، مما يضاعف في اهتماماتك بمتابعة الأحداث، وانشدادك نحوها، ثم ترتب أكثر من أثر على هذه المفاجأة بما تحمله من دلالات، تسحب أثرها على طبيعة استجاباتك.
وإذا عدنا إلى قصة امرأة عمران، الشخصية النسوية التي نذرت ما في بطنها، للقيام بالممارسات العبادية التي تنشدها السماء، وجدنا أنّ (المفاجأة) قد أذهلتها عندما وجدت أن الوليد (أنثى) وليس (غلاماً). إلاّ أنّ الذهول هنا محفوف بوعي عبادي لم ينقلها ـ كأية شخصية عاديّة ـ من صعيد الشخصية
______________________________________________________
الصفحة 162
المتماسكة إلى شخصية مهزوزة، بل بقيت على تماسكها مكتفيةً بقولها: (إني وضعتها أنثى).
وهذا القول ـ كما هو واضح لديكَ ـ يشي بأكثر من دلالة تكاد تحوم على عملية (النذر) وما يواكبها من العدول عنه، متمثلاً بخاصة في التعقيب الأخير على المفاجأة بقولها: (وليس الذكر كالأنثى).
وإذن، تحددت استجابة امرأة عمران على الحَدَث المفاجئ وفق تماسكٍ واتزانٍ يتناسب مع الشخصية العبادية التي تكل أمورها إلى السماء، وترضى بالقضاء والقدر اللذين ترسمهما السماء. إلاّ إنّها في الحين ذاته لا يعني أنّ (التوتر) قد أزيح من أعماقها. لأنّ نفس قولها: (وليس الذكر كالأنثى). يفصح عن (التوتر) المذكور، وهو توتر تفرضه تبعات النذر، وما رافقه من الأخبار بأنها ستلد غلاماً.
إنّ عنصر المفاجأة المذكور ـ أي: ولادتها للأنثى ـ سيترك آثاره على سائر الشخوص والأحداث والمواقف، مما يغيّر المعادلة وتوابعها عند امرأة عمران وسواها، وسيترك أو سيُمّهد لمفاجآت أشدّ إثارة كما سنرى.
غير أنّ المتلقي ـ المستمع أو القارئ ـ يحرص بطبيعة الحال على معرفة السر في عنصر المفاجأة المذكور. فهذه المفاجأة حقّقت له إمتاعاً فنيّاً، وجعلته أشدّ إثارة واهتماماً لمتابعة الأحداث في القصة. إنه قد يتساءل: لقد أوحى الله لعمران بغلام يصبح رسولاً ذات يوم... فلِمَ جاء الوليد أنثى؟.
إنّ الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ يجيب على التساؤل المذكور، قائلاً:
((إن قلنا لكم من الرجل قولاً منا فلم يكن فيه، فكان فيه وُلْدِهِ أو ولْدِ ولْدِهِ، فلا تنكروا ذلك. إن الله أوحى إلى عمران أني واهبٌ لك ذكراً مباركاً... يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذني، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فحدّث امرأته (حنّة) بذلك، وهي أم مريم، فلما حملت بها كان
______________________________________________________
الصفحة 163
حملها عند نفسها غلاماً ذكراً. فلما وضعتها أنثى قالت ربّ إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى، لأن البنت لا تكون رسولاً.
فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشّر الله به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا لكم في الرجل منا شيئاً فكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك)).
وإذن، عنصر المفاجأة ـ ميلاد الأنثى لا الغلام ـ قد أوضحت النصوصُ المفسرةُ دلالته. إلاّ أن الغموض لا يزال ـ بطبيعة الحال ـ يلفّ الموقف. والأمر يحتاج إلى متابعة الأحداث لفك مغاليق الغموض شيئاً فشيئاً.
بيد أننا قبل متابعة الأحداث، ينبغي أن نقف عند نهاية الموقف الذي خُتِمَ به القصُ عن امرأة عمران: الشخصية النسوية الملتزمة عبادياً. فقد أنهت الموقف بتسمية ابنتها باسم (مريم) فيما قالت:
(وإني سميتها مريم).
ومعنى مريم في لغتهم عصرئذٍ: العابدة والخادمة.
ثم أنهت الموقف بالدعاء التالي:
[وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم].
وواضح لديك، أنّ التسمية والدعاء كليهما، يفصحان عن الطابع الذي أكدناه عن شخصية امرأة عمران، وهو الوعي العبادي بوظيفة الإنسان على الأرض فيما بدأته بالنذر، والتسمية، والدعاء، وتقديم المولود فعلاً، إلى مَن يعنيهم الأمر في المسجد.
والأمر لا يتصل بمجرد التسمية، والنذر، والدعاء، بقدر ما تفصح هذه الأشكال من مضموناتٍ تنطوي عليها مشاعرُ امرأة عمران، وتركيبتها النفسية التي يكفي أن نتلمس مدى حرارة فاعلية ما تحمله من صدق عبادي، حينما
______________________________________________________
الصفحة 164
تبدي ذلك التوجس، وتلك الخيفة من السلوك الملتوي الذي يمكن أن يلحق ابنتها وذريتها.
إنّ هتافها القائل: (أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) هذا الهتاف تعبيرٌ عن أكثر من حقيقة فنية ينطوي عليها الموقف القصصي الذي نحن في صدد الحديث عنه.
ففضلاً عن أنه يفصح عن مدى حدة الوعي العبادي عند امرأة عمران وإدراكه لمهمة الكائن الإنساني الذي ينبغي أن يتمحض لما خُلِقَ من أجله، فضلاً عن ذلك كله، فإن صدى الهتاف المذكور يتردّد في أجواء المواقف والأحداث التي تلي قصة امرأة عمران... أي أن الدعاء بإبقاء مريم وذريتها بمنأى عن السلوك الملتوي، بمنأى عن الشيطان وتحركاته. هذا الدعاء، سنجد انعكاسه فعلاً، على شخصية مريم، وعلى ذريتها، بالنحو الذي سنقف عليه لاحقاً.
ويهمنا أن نلفت نَظَرك، إلى أنّ قصة امرأة عمران، قد انتهت مع الفقرة التالية، وهي قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن...) [آل عمران: 37].
فإذا أضفنا عملية تقبّل السماء لهذا النذر، إذا أضفناها إلى الدعاء الذي أعاذ المنذور وذريته من السوء... حينئذٍ أمكننا أن نُدرك خطورة ما تنطوي القصة المذكورةُ عليه، من حيث المهمة العضوية ـ أي: المهمة الفنية ـ في توشيج الصلة بين القصص بعضها بالآخر، وفي التمهيد لما نلاحظه من أحداث ومواقف وشخوص في القصص اللاحقة.
كانت امرأة عمران ـ شخصيةً نسويةً على وعي حاد بالمهمة العبادية للكائن الإنساني.
وقد أنهى القرآنُ الكريم دورَها في القصة الأولى ـ أي: قصة امرأة عمران ـ بعملية الوضع لابنتها (مريم) حينما قدمتها ـ كما تقول النصوص
______________________________________________________
الصفحة 165
المفسّرة ـ للقائمين على شؤون المسجد، تحقيقاً للنذر الذي أخذته على عاتقها، بأن تجعل مولودها متمحّضاً لخدمة المسجد.
وبهذا التسليم لمولودها الأنثوي، تنتهي القصة الأولى من القصص الخمس التي تضمّنتها سورة آل عمران.
* * *
هنا تجيء القصة الثانية من القصص الخمس، متمثلةً في قصة الفتاة المنذورة نفسها: قصة مريم.
ومريمُ بدورها تجسّد شخصيةً نسويّةً، يلفّها النشاط العبادي أيضاً، ولكن وفق سلوك يمثّل الذرى، حيث تتوالى سلسلةٌ جديدةٌ من المواقف والأحداث والشخوص، تواكب مراحل تنشئتها التي ستتمحض في نهاية المطاف عن أكثر من حَدَثٍ معجز. وقبل أن نعرض لهذه الشخصية ينبغي لفت النظر إلى مقدّمة العنصر القصصي الذي تضمّن آية: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) [آل عمران: 33]، حيث أن الاختتام بعبارة (وآل عمران) يظلّ على صلة بالقصص التي نتحدّث عنها، ومنها قصّة (مريم) عليها السلام. فلنحدّثك أوّلاً عن المقصود من ذلك.
حين ننساق مع النصوص المفسّرة لما هو مقصودٌ من عبارة (آل عمران)، نجد أنّ بعضها يُشير إلى أنّ المقصود من ذلك هو عمران نفسه فيما يمثّل شخصية سبق أن قلنا: إنّ الله أوحى لها بأنْ سيهبها غلاماً رسولاً يضطلع بمهمة الخلافة في الأرض عصرئذ.
وهناك من النصوص المفسّرة ما يشير إلى أنّ المقصود من آل عمران: مريم وعيسى وهو عمران بن أمون من ولد سليمان بن داود وهو أبو مريم.
وأيّاً كان الأمر، فإنّ النَسَبَ والآصرةَ والوشيجةَ التي تلفّ هذه الأسماء:
______________________________________________________
الصفحة 166
عمران، مريم، عيسى، تفصح عن أنّ ثمّة خطورةً تواكب مسيرةَ هذه الشخوص، وبخاصّة أنّ القرآن الكريم، قرَنَها مع آدم ونوح وآل إبراهيم، في عملية الاصطفاء، والنهوض برسالة السماء عبر مهمّة (النبوة)، وهي أعظم مهمّةٍ لتجسيد خلافة الإنسان على الأرض.
وإذن: مقدّمة القصص المشيرة إلى عبارة آل عمران، توحي بأنّ ثمّة خطورة في الأمر، وأنّ الخطورة تتمثّل في عملية (النبوة) و(الرسالة)، وهي عمليةٌ تقترن بما هو (معجزٌ) لا بما هو (مألوفٌ) من الأحداث.
إنّ رسم المعجز وتقديمه إلى المتلقّي، يعني أنّ السماء تستهدف تحقيق عملية (الإقناع) ـ إقناع القارئ ـ بمشروعية الرسالة التي تضطلع بها هذه الشخصية أو تلك. ومن ثمّ، فإنّ تقديم (المعجز) والإشارة إلى حدثه التأريخي، يعني أنّ السماء، تستهدف مطلق القارئ أو المستمع ـ بدءً من عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحتى انتهاء الحياة ـ حتى تجعله على إحاطة تامّة بكلّ ملابسات الموضوع، وما يواكبه من أحداث ومواقف، ينبغي أن تفيد منها الشخصية، بغية تعميق قناعتها برسالة الإسلام.
وهنا، ملحظٌ نُلفت إليه نظَرَك، وهو: أنّ السورة بأكملها ستظلّ حائمةً على ما تُشيعه مقدّمة قصصها من دلالات تتناثر هنا وهناك، بحيث تؤلف وحدةً عضويةً متماسكة تتواصل أصداؤها بعضها بالآخر، على نحو ما سنقف عليه عند معالجتنا لتمام السورة.
إلاّ أنّ ما نعتزمُ الإشارة إليه هنا، هو أن نجتذب انتباهَكَ لمقدّمة القصص، وهو: آل عمران وصلتها بالقصص التي رسمتها السورة، وبخاصّة: القصّة الأولى: قصّة امرأة آل عمران، وبالقصّة التي نحن الآن في صدد الحديث عنها، وهي قصّة مريم.
أمّا قصّة أمّ عمران، فقد وقفت عليها، ولحظتَ موقع عمران من الوليد
______________________________________________________
الصفحة 167
الذي ستهبه السماء له، فيما سيضطلع بمهمّة الرسالة، كما لحظت موقع أمّ عمران من هذا الوليد الذي بدأ لديها بظاهرة (النذر) وبالدعاء له بأن يعصمه الله وذريته من الشيطان، وبتقديمه للقائمين على شؤون المسجد، بغية تربيته وتنشئته على النحو العبادي المذكور.
إلاّ أنّ هذا الوليد الأنثوي ـ كما رأيت ـ لم يُتح له أن يجسّد شخصية الغلام الموعود، بل كان شخصيةً أنثويّة ستمارس وظائف عباديةً خاصة، وسيكون ابنُها هو الغلام المعهود، أو كما قال الصادق ـ عليه السلام ـ ((إن قلنا لكم من الرجل منا قولاً، فلم يكن فيه، فكان في ولده أو ولد ولده، فلا تنكروا ذلك)).
أقول: سيكون ابنُها ـ وفقاً لمقوله الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ ـ هو المقصود بذلك، خلال إيحاء السماء لزوجها عمران بميلاد الغلام. وسيكون ابنُها مشمولاً بالدعاء الذي هتفت به امرأة عمران عندما أولدت مريم وأعاذتها وذريّتها من الشيطان. فيما يمثّل أوّل الذريّة بصفته: ابن مريم.
وعلى أيّة حال، كان لا مناص من تذكيرك بهذه الحقائق، قبل أن نواصل الحديث عن القصّة الثانية من القصص الخمس التي تضمّنتها سورة آل عمران، حتّى تكون على معرفة بمقدّمة القصص وصلتها بمضمونات السورة، وصلة العنصر القصصي بذلك كلّه، فيما وقفَت أوّلاً على قصّه أمّ عمران، ولحظتَ موقعها من الأحداث التي ستتوالى، في سائر القصص، وفي طليعتها: قصّة مريم.
قلنا: إنّ قصّة امرأة عِمرانَ ـ وهي القصّة الأولى من قِصص سور آل عمران ـ قد مَهّدت للقصة الثانية، قصة مريم.
ويتمثلُ هذا التمهيدُ فنيّاً في البنت المنذورة مريم فيما ستُولد غلاماً يجسّد تحقيقاً لما أوحاه الله لعمران. من أنّهُ سيهب له رسولاً.
ويجدرُ بنا الآن، أن نتابع هذه القصة، وما حفلت به من أحداثٍ
______________________________________________________
الصفحة 168
ومواقف وبيئاتٍ وشخوص، محفوفةٍ بما يُثير الدهشة والانبهار والتشويق.
ولنلخّصها أوّلاً في ضوء النص القرآني، والنصوص المفسّرة. تقول هذه النصوص:
إنّ امرأة عمران قدّمت ابنتها المنذورة مريم إلى القائمين بشؤون المسجد ـ وهم يمثلون صفوة بشرية ـ وقالت لهم: دونكم النذيرة.
وتُضيفُ هذه النصوص:
إنّ المعنيّين بالأمر تنافسوا على الاضطلاع بتنشئتها، بصفتها منذورةً لمهمةٍ عباديةٍ خطيرةٍ، وبصفتِها ابنة إمامِهم.
وفي رواية عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ أنّ هؤلاء الشخوص ـ وهم نبيّون كما تقول الروايةً ـ قد ساهموا عليها، أي: استخدموا القُرعَة ـ فكانت القرعةُ من نصيب زكريا ـ عليه السلام ـ وهو زوجُ أختِها.
كما أن الآية القرآنية الكريمة، صريحةٌ في عمليةِ القرعةِ المذكورة، إذ يقولُ تعالى مخاطباً النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ:
(... وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامَهم، أيُّهم يكفل مريمَ، وما كنتَ لديهم إذ يختصمون) [آل عمران: 44].
إن هذا الاختصام والتنافس على كفالة مريم يحمل دلالةً ذات خطورةٍ دون أدنى شك. إذ يُفصح بوضوح عن مدى الوعي العبادي لدى الشخوص، وتقديرهم الخطير لهذه المهمة بصفتِها إسهاماً في المسابقة إلى العمل الصالح.
وهذا الوعيُ العباديُ لدى الشخوص، وحرصُهم على ممارسة الفضيلة، يتجانسُ مع الحرص الذي لحظناهُ عند امرأةِ عمرانَ أيضاً. ويتجانسُ ثالثاً مع الحرص الذي سنلحظه عند مريم ذاتها، وهذا هو مبدأ فني آخرُ من مبادئ
______________________________________________________
الصفحة 169
التجانس بين القصص المرسومة في سورة آل عمران، في طبيعة الشخوص والمواقفِ، بل وفي طبيعةِ الأحداثِ والبيئات كما سنرى، عند متابعتنا للعنصر القصصي من السورة.
* * *
ونعودُ إلى شخصيةِ مريم، وقد رأينا أن زكريا ـ عليه السلام ـ هو الذي اضطلع بتربيتها وتنشئتها، بعد عملية التنافس والاختصامِ حولَ مَنْ يكفلُها.
ولقد أشار القرآنُ الكريم إلى أهمية تنشئتها بعامةٍ، وزكريا بخاصة، حينما قال تعالى:
(وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكرياً).
بيد أن ما يُلفِتُ النظرَ هنا، إلى أن النص القرآني، والنصوص المفسرة، ترسُم لنا (بيئة) لمريم، يطبعُها (المألوف) و(النادر) و(المعجز) من الأحداث والمواقف التي تضطربُ بها (البيئة) المذكورة.
ونقصدُ بـ(المألوفِ) ما هو عاديٌ نحياهُ، ونألفهُ من مجرى الحياة اليومية.
وأمّا (النادر) فهو الحدثُ أو الشخصيةُ أو الموقفُ الذي يبتعد عما هو عادي، بحيثُ يندر وقوعه، لكنّه غيرُ ممتنعٍ، أي: إنه خاضعٌ لما تسميه اللغةُ القصصية بـ(الإمكان) و(الاحتمال). وأمّا (المعجِزُ) فهو الذي يندّ عن (الأسباب الطبيعية) التي جعلتها السماءُ قوانين عامةً تنتظمُ شؤون الحياةِ بحيث لا يحدث إلا عند (الصفوة البشرية) من أنبياء وأئمةِ وصالحين.
وإذا عدنا إلى البيئة التي رسَمها القرآن، واكتنفت شخصية مريم، لحظنا أن (المألوف) و(النادر) منها، يتمثلُ في ابتناء موقع خاصٍ لمريم في المسجد، فيما جُعِلَ لها محراب، بابُها في الوسط، لا يرقى إليها إلاّ بسلّم مثلُ بابِ
______________________________________________________
الصفحة 170
الكعبةِ، ولا يصعدُ إليه سوى زكريا.
وأما (المعجز) فهو سلسلةٌ من الأحداث والبيئات المثيرة حقاً. فالنصوص المفسرةُ، تشيرُ إلى أنْ المحراب كان يُضيء من نورِها، بل إن فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، كانت من اشدّ معالمِ (البيئة) بروزاً، من حيث الطابع (المعجز)، فيما يُشيرُ القرآن الكريمُ بوضوحٍ إلى (الرزقِ) الذي كان يأتيها، مما جعَل زكريا يتساءلُ منبهراً:
أنّى لكِ هذا؟
فكانت تُجيبهُ، كما هو صريحُ القرآن الكريم:
(قالت هو من عند الله إنّ الله يرزقُ من يشاء بغير حساب) [آل عمران: 37]. هنا ينبغي لفت النظر إلى الصلة العضوية بين قوله تعالى (ويرزق من يشاء بغير حساب) وبين القسم الأول من السورة التي طرحت هذا المفهوم كما أشرنا في حينه، ليلقي بإنارته على هذا القسم من السورة الكريمة.
إذن، النُور والرزقُ يشكّلان (بيئة) معجزةَ، قد اكتنفتْ مريم عليها السلام.
لكننا حين نُتابعُ (المعجز) والنادرَ)، حينئذٍ نتركُ للآيات القرآنية الكريمة التالية، أن تتحدث إلينا مباشرةً: قال تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريمُ: إن الله اصطفاكِ وطهّرك واصطفاكِ على نساءِ العالمين * يا مريمُ: اقنتي لربّكِ واسجدي واركعي مع الراكعين) [آل عمران: 42 ـ 43].
هنا، يتمثل المعجزُ في سلسلةٍ من (المواقف)، المتمثلة في محاورة عنصر جديدٍ من الشخصيات، هو عنصرُ (الملائكة) مع الشخصية البشرية مريم ـ عليها السلام ـ فيما بشّروها باصطفاءِ الله إياها، وبتطهيرها...
هنا أيضاً، ينبغي ألاّ تغفل ذاكرتُك ـ دعاءَ امرأة عمران لابنتها، وتطهيرها من الوزر: الشيطان. فيما ينبغي أن يُذكّرك بالتلاحم العضوي بين القصتين:
______________________________________________________
الصفحة 171
امرأة عمران ومريم، وتمهيد إحداهما للأخرى، وإلقائها بالضوء عليها...
ولكن، فلنتابع المحاورة، محاورة الملائكة مع مريم عليها السلام.
حين نتابعُ ـ محاورة الملائكة مع مريم عليها السلام، نلحظ أن (المعجز) في الموقف وفي الحدث، يتمثل في: اصطفاء الله لمريم، وفي تطهيرها، وفي تفضيلها على نساء العصر، فترتئذٍ.
المحاورة ذاتها بصفة أنّ أحد طرفيها هم شخوص غير بشريين، ـ أي (الملائكة) ـ تفصح عن (المعجز) في الموقف. كما أن عملية الاصطفاء والتفضيل والتطهير، تفصح عن (النادر) في الموقف.
غير أنّ الحدث، والموقف، يأخذ صفة الانبهار والدهشة، حينما يكتسب (المعجز) طابعاً جديداً قائماً على (المفاجأة) المذهلة. مفاجأة (الإنجاب) من غير فحل.
ولعلك تتذكر جيداً، كيف أن عنصر (المفاجأة) التي حدثناك عنها عند الحديث عن قصة امرأة عمران، ونعني بها: مفاجأة الوضع لأنثى بدلاً من الحمل بالغلام،... لابدّ أنك تتذكّر كيف أنّ عنصر (المفاجأة) المذكور، كان يعكس أثره الفني على المتلقّي ـ المستمع أو القارئ ـ وكيف كان يعكس أثره النفسي على بطلة القصة امرأة عمران.
وفي حينه، حدثناكَ عن أهمية عنصر (المفاجأة) في أيّ نص قصص، ومساهمته في استثارة المتلقي وشدّه إلى القص. كما حدثناك عن الاستجابة التي تركتْهَا مفاجأة امرأة عمران للأنثى بدلاً من الغلام.
هنا، نلفت نظرك إلى أثر المفاجأة فنياً ونفسياً على المتلقي، وعلى شخصية مريم عليها السلام.
وقبل أن نسرد لك تفاصيل المفاجأة نذكّرك أيضاً، بالتلاحم العضوي
______________________________________________________
الصفحة 172
بين القصتين، بالتلاحم أولاً بين طبيعة الشخوص في القصتين: قصة امرأة عمران وقصة مريم، فالشخصيتان كلتاهما: نسويتان، وكلتاهما تعنيان بالممارسة العبادية الواعية. ثم نذكّرك بعنصر المفاجأة، فيما طبعت المفاجأة كلاً من الموقفين. ثم نذكّرك بسائر عناصر التجانس والتلاحم بين القصتين فيما ألمحنا إلى أكثر من واحدٍ منها، في حينه.
ولكننا نتركك الآن لعنصر المفاجأة الجديد:
(إذ قالت الملائكة، يا مريمُ إنّ الله يبشّرك بكلمةٍ منه، اسمه المسيحُ عيسى بن مريم...) [آل عمران: 47]. هنا، سوف لن تغمرك المفاجأة بدويّها الهائل، ما لم تستمع بنفسِكَ إلى محاورة مريم عليه السلام، عندما هتفت، متسائلةً، مستفهمة؟
(قالت ربّ أنّى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشر؟؟) [آل عمران: 47].
هنا، ينبغي أن تضع في ذهنك، إنّ عنصر (المفاجأة) المذكور، قد رسمه القرآن الكريم في سورة مستقلة تحمل اسم سورة مريم. وهناك في سورة مريم تفصيل للمفاجأة وما يواكبها من أحداثٍ ومواقف، سنعالجها عند دراستنا لسورة مريم، إن شاء الله.
إلاّ أننا هنا، نذكّرك بحقيقة فنيّة هي: أن النصوص القرآنية لا ترسم من أحداث القصة ـ أية قصة كانت، إلاّ ما يخدم أو يُنير الأفكار المطروحة في هذه السورة أو تلك.
وعليه، فإن التفصيلات المرسومة في سورة مريم لن تجد لها مكاناً في سورة آل عمران، إلاّ ما يفرضه سياق الأفكار المطروحة في هذه السورة.
إن الأفكار المطروحة في سورة آل عمران تعنى بالحديث عن (المعجز) بصفة عامة، وبما يتصل ـ كما سنرى ـ بمواقف الجمهور حيال رسالة النبيّ
______________________________________________________
الصفحة 173
محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتجانسها مع مواقف الجمهور حيال رسالة عيسى عليه السلام، وتقولاتهم عنه بما لا يتسق مع الواقع، على نحو ما سنفصل الحديث عنه، عند وصولنا إلى قصة عيسى في هذه السورة التي ندرسها الآن.
وفي حينه سنوضّح لك صلة هذا الرسم بعنصر المفاجأة في حدوده المعنيّة بقصة عيسى ـ عليه السلام ـ وموقف الجمهور منه.
والمهم، أن يقتصر حديثُنا الآن عن السياق الفني لهذه المفاجأة، وانعكاسها على المتلقي ثم انعكاسها على استجابة مريم.
أمّا انعكاسها على المتلقي، فواضحٌ كل الوضوح، ما دام المتلقي يتابع القصص المرسومة في السورة بنحوٍ يضع في اعتباره أنّ (المعجز) هو السمة التي خلعتها السماء ـ في كل الرسالات وشخوصها ـ على أي حدثٍ أو موقف يواكب تلك الرسالاتِ وشخوصها. هذا فضلاً عما يتركه من إمتاعٍ جمالي في عملية التلقي لسلسلة الأحداث والمواقف.
أما انعكاسها على شخصية مريم، فإنه مجانس لانعكاس المفاجأة على شخصية امرأة عمران. فامرأة عمران ـ كما رأيت ـ استسلمت للأمر الواقع، ورضيت بإشاءة السماء، بعد أن استجابت ـ بادئ ذي بدء ـ بدهشة واستفهام عبر تقريرها القائل (وليس الذكر كالأنثى).
هنا قد استجابت مريم ـ عليها السلام ـ بنفس الاستجابة، حينما تساءلت مستفسرة ومستفهمة (أنّى يكون لي ولد، ولم يمسسني بشر؟؟).
إذن، نحن الآن أمام مجموعة من عناصر التجانس والتلاحم بين قصتي امرأة عمران ومريم. كلتاهما تتحركان من خلال شخصية نسوية، وكلتاهما تخضعان لاستجابة متماثلة في ظاهرة الوعي العبادي، فضلاً عن أنّ كلتيهما تحفلان بعنصر (المفاجأة)، واتّسام هذا العنصر بما هو معجزٌ ونادر، ثم فضلاً عن اتسام الاستجابة عند الشخصيتين النسويتين، بطابعي الاستفهام، ثم الإقرار
______________________________________________________
الصفحة 174
بالأمر الواقع، والاستسلام الواعي لإشاءة السماء.
هذه الألوان من التجانس والتلاحم، ينبغي أن تضعها في ذهنك... حتى تخلص من ذلك إلى إدراك أن السورة ـ كما سترى ذلك مفصلاً ـ قد رُسمت بنحو ما تخضع له ـ أيّةُ عمارة ـ لتخطيط هندسي محكم، حائم على (أفكار) خاصة تستهدفها السماء، فيما يجيء العنصر القصصي، واحداً من الأدوات التي تُنير تلك الأفكار كما سنرى.
لقد لحظت ـ كيف أنّ كلا من قصة مريم وقصة امرأة عمران قد تجانستا، وتلاحمتا في أكثر من عنصر، لا حاجة إلى إعادة القول فيه.
إلاّ أننا نذكّرك بأن أيّ تجانس أو تلاحم بين القصص، إنما يتجسد في كونه يصبّ ـ في نهاية المطاف ـ في رافدٍ أو أكثر تحوم عليه (الأفكار) التي تتضمنها السورة.
ونذكّرك أيضاً بأن طابع (المعجز) و(النادر) كان يَسمُ القصتين المذكورتين. ثم نذكّرك بأن الرسم القصصي إنما كان ينحصر في التقاط أحداثٍ أو مواقف أو بيئات يجمعها خيط متجانس من الأفكار، بحيث تُترك التفصيلات الأخرى في سور مختلفة يفرضها سياق خاص. وسترى كيف أن التفصيلات التي ثبتها القرآن في سورة مريم، قد حذفها من سورة آل عمران عندما رسم شخصية مريم عليها السلام. وفي حينه ألفتنا نظرك إلى أن الهدف في سورة آل عمران هو التركيز على (المعجز) بصفة عامة، ثم التركيز على سمات خاصة من (المعجز).
ونحن حين نتابع الحديث عن القصص التي تضمنّها سورة آل عمران، نجد أن القصة الثالثة منها، تتمّثل في قصة زكريّا عليه السلام. وحين ندقق النظر في هذه القصة، نجد أن التلاحم والتجانس بينها وبين القصتين: امرأة عمران ومريم، يتجسّد في خضوع القصص الثلاث إلى طابع (الممارسة العبادية) عند
______________________________________________________
الصفحة 175
الشخصيات الثلاث (سواء أكانت الممارسة وجدانيةً أو عملية)، أولاً، ثم في خضوع القصص الثلاث إلى عنصر (المعجز)، ثانياً، ثم في خضوعها إلى طابع معجزٍ واحدٍ، ثالثاً، كما نلحظ من جانبٍ آخر، وهذا ما يضفي خطورةً أخرى على العبارة الفنية في القرآن الكريم ـ تميّز كل قصة بخصائص تنفرد بها، أولاً، ثم اشتراك بعضٍ مع البعض الآخر بخصائص تنفرد بهما القصتان، ثانياً، ثم اشتراك القصص الثلاث في خصائص عامة تصل بينها جميعاً، ثالثاً.
ولنعُد الآن إلى قصة زكريا ـ عليه السلام ـ لملاحظة تفردّها بخصائص تُميزُها وحدها، ثم لملاحظة خصائص تجمع بينها وبين قصة مريم عليها السلام، ثم لملاحظة خصائص تجمع بين القصص الثلاث جميعاً.
وملاحظة مثل هذه الخصائص ـ تذكّرك دون أدنى شك ـ بخطورة البناء المعماري للسور القرآنية، واكتشاف المزيد من الإعجاز الفني الذي بدأ الدارسون منذ القديم، يقفون عليه في حدود قدراتهم الأدبية والعلمية، وفيما واصل الأدباء والباحثون المعاصرون، اكتشاف المزيد من عناصر الأداء الفني في القرآن، وفيما نواصل نحن بدورنا اكتشاف المزيد منه، من خلال محاولتنا توضيح البناء المعماري لكل سورة، وترابط كل الجزئيات فيها، فيما بينها، من حيث بداية السورة ووسطها ونهايتها.
* * *
وعلى أية حال، حين نعود لقصة زكريا ـ عليه السلام ـ نجدها كما قلنا، تتميز بخصائص تنفرد بها، وبخصائص تجمع بينها وبين قصة مريم، وبخصائص تجمع بينها وبين قصتي امرأة عمران ومريم...
أما الطوابع العامة التي تجمع بين القصص الثلاث، فتتمثل أولاً في إخضاع القصص إلى (المعجز) و(النادر)، ثم وحدة الطابع المعجز نفسه، أو النادر.
______________________________________________________
الصفحة 176
فامرأة عمران كان (الحدث) المتصل بها هو: الإنجاب.
ومريم أيضاً كان الحَدَث المتصل بها هو: الإنجاب.
وزكريا بدوره، كان الحدث المتصل به هو: الإنجاب أيضاً.
وإذن، قضية (الإنجاب) تمثل طابعاً تتجانس القصص الثلاثُ فيه، إلا أن كل (إنجاب) يظل حاملاً خصيصة تتفرد الشخصيةُ بها، وتُميزُها عن سواها. فامرأة عمران، كان (الإنجابُ) من خلالها، متمثلاً في ما أوحى الله لعمران زوجها بأن يهبه غلاماً، ثم كان (الإنجابُ) هو مريم. والمهم أن إيحاء السماء لعمران، يمثل طابعاً معجزاً، (والإيحاء يخص عملية إنجاب خاص).
كما أن مريم كان (الإنجابُ) من خلالها، متمثلاً في إنجابها (عيسى) بلا فحل، فيما يمثل طابعاً معجزاً.
وزكرياً ـ عليه السلام ـ أيضاً، كانت عملية (الإنجاب) تجسّد الحدثَ الرئيس في قصته. ففي خلال كفالته لمريم عليها السلام، وعند رؤيته الحدث المعجز عند مريم فيما كان (الرزق) يأتيها بنحو معجز: من السماء مباشرةً، عند مشاهدته ذلك الحدث، دعا زكريا الله أن يهبَ له ذرية طيبة، وقد كانت امرأته عاقراً، بطبيعة الحال، كما أنه قد بلغ من الكبر عتيّا.
هنا، استجابت السماء لدعائه، فوهبت له يحيى عليه السلام. والمهم أنّ (الإنجاب) أيضاً كان هو الطابع الذي رافق قصة زكريا. وإنّ ما هو (معجزٌ) و(نادرٌ) كان يواكب العملية المذكورة. فإنجاب (العاقر) عملية (نادرة الوقوع) كما هو واضح، وإيحاء السماء له بالإنجاب، أي: عملية الوحي ذاتها، تمثل ـ كما هو واضحٌ ـ طابعاً (معجزاً).
وإذن، الطابع (المعجز)، يمثّل القصص الثلاث. كما أن (الإنجاب) يمثل (الحدث) الذي واكب القصص الثلاث.
______________________________________________________
الصفحة 177
وأما سائر الطوابع التي تسم القصص الثلاث، والطوابع التي تسم قصة زكريا ومريم فحسب، ثم الطوابع التي تميّز كلاً من القصص الثلاث، كل أولئك، سنقف عليه مفصلاً بعد أن نلمّ ـ أولاً ـ بقصة زكريّا في تفصيلاتها التي ترسمها سورة آل عمران، والنصوص المفسّرة للسورة.
ويجدر بنا أن نقف أولاً عند النص القرآني الكريم.
قال تعالى، مبيّناً موقف زكريا بعد أن رأى الرزق عند مريم ـ عليها السلام ـ:
(هنالك دعا زكريا ربّه.
قال: ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبةً إنك سميع الدعاء.
فنادته الملائكة ـ وهو قائم يصلي في المحراب ـ إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمةٍ من الله، وسيداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين.
قال: ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر، وامرأتي عاقرٌ! قال: كذلك الله يفعل ما يشاء.
قال: ربّ إجعل لي آيةً. قال: آيتُك ألاّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاّ رمزاً. واذكر ربك كثيراً، وسبّح بالعشي والأبكار) [آل عمران: 38 ـ 41].
تتلخص قصة زكريا ـ عليه السلام ـ وفقاً للنص القرآني والنصوص المفسرة، في أنّ زكريّا عندما كفل مريم ـ عليها السلام ـ وكان على إحاطة بالبيئة المعجزة التي اكتنفت مريم عبْر تمحّضها للعبادة في المحراب، وبخاصة عندما شاهد الرزق الذي كان يأتيها من السماء، حينئذٍ تحركت حوافزه، واستثاره ذلك لأن يتقدم بطلب إلى السماء، يتساوق وطموحه العبادي، وكان هذا الطلب يتمثل في ذرية طيّبة تمارس وظيفتها العبادية على النحو الذي تنشده السماء. وبما أنّ امرأته (عاقرٌ)، من جانبٍ، وبما أنّه قد بلغ من الكِبَرِ عتيّا من جانبٍ آخر، فإنّ طلبه ـ تبعاً لذلك ـ سيكون محفوفاً بالرغبة الملحة الجازمة، وما أيسرَ مثلَ هذا الطلبَ، ما دام مرتهناً بيد السماء القادرة على كل شيء.
______________________________________________________
الصفحة 178
وفعلاً كانت السماء عند ظنّه بها، حيث نادته الملائكةُ ذات يوم ـ وهو مشغولٌ بصلاته في المحراب ـ بأنّ الله يبشره بوليد اسمه (يحيى). وتقول النصوص: إن هذا أول اسمٍ يحمل هذه التسمية التي أطلقها الله على الوليد ـ كما هو صريح القرآن في سورةً أُخرى ـ.
وقد استجابت السماء للنمط الذرّي الذي طلبه زكريّا، فبشّرته بالسمة الخطيرة التي ستلف هذا الوليد، إنها سمة (النبوّة) فيما تمثل الصفوة من الآدميين.
كما أنّ السماء ألمحت إلى زكريّا بوظيفةٍ خطيرةٍ أخرى، سينهض بها وليدُها (يحيى)، وهذه الوظيفة تتمثّل في أنّ يحيى سيكون أول شخصيةٍ ستساند دعوة عيسى الذي سيولَدَ بعد ستة شهور من حين ولادة يحيى. وسنرى عند حديثنا عن قصة يحيى كيف أنّ لشخصية يحيى، التي عُرفت بالصدق والنزاهة، أثراً بالغاً في اجتذاب الجمهور إلى رسالة عيسى.
والمهمّ، إنّ السماء قد استجابت لطلب زكريا ـ عليه السلام ـ ووهبته يحيى.
إلاّ أنّ زكريا ـ وقد أذهلته المفاجأة التي كان يتوقعها دون أدنى شك، ـ لا يسعه إلاّ أن يتساءل، مستفهماً، ومنبهراً، وفرِحاً، عن العَلامةِ، عن الآية التي ستعمّق قناعته ويقينه باستجابة السماء لدعوته.
ولذلك هتف: ربّ اجعل لي آيةً.
فأجابته السماء، بأن آية ذلك، أن يَصوم عن الكلام ثلاثة أيام، أو أن يصوم عن الأكل والكلام جميعاً ـ كما تقول بعض النصوص المفسرة ـ وأن ينحصر تعامله بالرمز، والإيماء مع الآخرين، عدا الكلام المتصل بالله، وبالتسبيح له بالعشيّ والإبكار.
* * *
______________________________________________________
الصفحة 179
هذا هو ملخص قصة زكريا عليه السلام.
والذي نعتزم لَفْتَ نظركَ إليه من تلخيصنا لهذه القصة، هو أن تتأمل بدقة موقعها من القصتين اللتين تقدّم الحديث عنهما: أي قصة امرأة عمران ومريم.
فلقد رسمها القرآنُ الكريمُ بعد قصة امرأة عمران، وعند بداية قصة مريم عليها السلام، أي أن القرآن رسمها خلال قصة مريم، وعند الشطر الأول من حياتها المتصلة بالعمل العبادي في المحراب. فقطَعَ بذلك سلسلة الأحداث في قصة مريم، ثم تابع رسمها بعد الانتهاء من قصة زكريا.
هنا ينبغي أن نضع في ذهنك أنّ لهذا المقطع دلالته الفنية والنفسية.
فهناك أولاً: مسوغاتٌ تتصل بطلب زكريا ـ عليه السلام ـ للولد. فهو حينما شاهد (المعجز) المتمثّل في الرزق الذي كان يمطر مريم عليها السلام، تحركّت نفسه، واستُثيرت، لأن يتقدّم بطلب كان يختلج في سريرته وتنازعه نفسه إليه، فكانت المناسبة أن يتوافق طلبه زمنياً مع ظاهرة (الرزق).
وهذا ما يُشكّل المسوغ لقطع سلسلة الأحداث والمواقف في قصة مريم، للبدء بصياغة قصة زكريا عليه السلام.
بيد أنّ هذا لم يكن وحده، مسوّغاً فنياً ونفسيّاً لعملية القطع، بل ثمة مسوغ آخر له خطورته الكبيرة، وهذا المسوّغ ـ من الناحية الفنية ـ يتمثل في عملية (التمهيد) والإرهاص، بما ستكشف عنه الأحداث والمواقف، في قصة مريم ذاتها، وفي قصة وليدها عيسى، حيث أنّ وليدها عيسى ـ عليه السلام ـ قد بُشّر على لسان الملائكة بأن مهمة الرسالة ستكون على يديه، غير أن هناك حدثاً خطيراً لا زال مضمراً في قلب الأيام، ألا وهو أنّ رسالة عيسى سوف تعتمد على بعض خطواتها على مساندة (يحيى) له، ذلك بأن ليحيى شخصية ذات مركز اجتماعي خطيرة، أنها تتمتع بتقدير اجتماعي، وبسمعة اجتماعية، كفيلة بأن تجعل كلمته مسموعةً عند الجماهير، نظراً لما عُرِفَ من صدقه وزهده.
______________________________________________________
الصفحة 180
وإذن، لمّا كان من حيث (الزمان)، مولد يحيى سابقاً على مولد عيسى، حينئذٍ يكون المسوّغ الفني لمجيء قصة زكريا والحديث عن ولده يحيى، يكون هذا المسوّغُ واضحاً في قطع سلسلة الوقائع المتصلة بمريم، لأنّ الشطر الثاني من حياتها هو الذي كشفت القصةُ عن ولادة عيسى من خلاله، فكان من الطبيعي، أن تجيء قصة يحيى قبل قصة عيسى، سواء أكان مجيئها من حيث التسلسل الزمني في الولادة، حيث وُلدَ يحيى قبل عيسى بستة شهور، أو كان مجيئها من حيث التسلسل الزمني، ومن حيث التسلسل الموضوعي، في عملية المساندة لرسالة عيسى. وبكلمة أخرى، ما دام يحيى سيكون أول مساندٍ لعيسى، وستكون لكلمته أثرها على نفسية الجمهور، حينئذٍ لا بدّ أن تجيء قصته سابقة أيضاً على قصة عيسى.
إنّ هذه المسوغات الفنيّة، يجب ألا تغيب عن بالك لأنها تجسّد قيمة الفنّ العظيم في القصص القرآني.
ولكننا حين نتجاوز ذلك كلّه، ونتابع قصة زكريا، نجد أن شخصية يحيى نفسها من الممكن أن تشكّل قصة جديدة، فيكون عدد القصص في سورة آل عمران ستةً، وتكون قصة يحيى حينئذٍ: إمّا قصة مستقلة، أو متداخلة، أو قصة داخل قصة زكريّا.
ولا نُريد أن نطيل عليك الحديث عن البناء الفني لهذه القصة، ونقصد بها قصة يحيى، بل نكتفي بالإشارة، إلى أنها رسمت شخصية يحيى، وهي تحمل أربع سمات، لها مساهمتها في المواقف والأحداث، دون أدنى شك، ويكفي أنها تحمل سمة (النبوة) كما هو الحال بالنسبة لزكريا وعيسى، فضلاً عن أن القرآن رسمها شخصية تحصر نفسها عن الشهوات، وعن اللهو والأباطيل، وهي سمة (الحصور) التي أطلقها القرآن الكريم عليه، كما رسمها (سيّدا) في العلم والعبادة.
______________________________________________________
الصفحة 181
والمهم، أنّ السمات المذكورة، تظل متجانسة مع السمات التي لحظناها عند امرأة عمران، وعند مريم، وعند زكريا، فيما لا حاجة إلى إطالة الكلام في ذلك.
إنّ كلاً من قصة امرأة عمران، وقصة زكريا، وقصة يحيى وقصة مريم. هذه القصص الأربع في سورة آل عمران، ستكون ممهّدةً، للدخول إلى قصّة أكبر حجماً، وأوسع دلالةً، إنها قصة عيسى فيما وُلد بلا أب بشري. وهذه القصة نفسها، ينبغي أن تضعها في ذهنكَ لا بما أنّها تشكّل هَدَفاً بذاتها، بل ينبغي عليكَ أن تجعلها وسيلة إنارةٍ لا أكثر، تضيء الهدف الذي رسمه القرآن الكريم في هذه السورة التي ستنقل لكَ جانباً من حياًة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في جهاده مع الأعداء،وفي مواصلة اضطلاعه بمهمة الرسالة الإسلامية، فيما احتفّت بأشواك ومتاعب، يُعلّمنا القرآنُ الكريم من خلالها، نمطَ التعامل الذي نختطّه لأنفسنا في متابعة الوظيفة العبادية.
* * *
ويُهمنا الآن أن نتابع القصة الخامسة من قصص سورة آل عمران، وهي قصة عيسى ـ عليه السلام ـ لملاحظة موقعها الفني من هذه القصص، وموقعها الفني من السورة بأكملها، ثم موقعها ـ وهذا هو الهدف الرئيسي من عملية القصّ ـ من الرسالة الإسلامية عبْر اضطلاع النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بها، وعبْر الوظيفة التي يتعيّن علينا ممارستها في هذا الصدد.
لقد لحظتَ كيف أنّ سلسلة الأحداث والمواقف في القصص الأربع، قد ابتدأت من امرأة عمران، ثم إنجابها لمريم، ثم قصة زكريا وإنجابه ليحيى، كما لحظت إنجاب مريم ـ عليها السلام ـ لعيسى عليه السلام، ثم صلة يحيى ـ عليه السلام ـ بعيسى أيضاً.
ولا بدّ أنك تتذكر كيف أن يحيى سيكون مصدقاً لرسالة عيسى التي بُشِّرت مريمُ به، وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقرّبين، ويكلّم الناس في
______________________________________________________
الصفحة 182
المهد، وكهلا، ومن الصالحين، وكيف أن السماء ستعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وكيف أنها ستبعثه رسولاً إلى العصر حينذاك. ثم كيف أنّه سيجيء بأكثر من ممارسة معجزة بإذن الله من خلقه من الطين كهيئة الطير، وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى بإذن الله، وإخباره بما يأكل الناس ويدّخرونه في بيوتهم. كل أولئك، ستقفُ عليه عندما نحدثك مفصلاً عن قصة عيسى، وما يواكبها من مواقف وأحداث شتى.
إلا أنّنا الآن، نعتزم أن نلفت انتباهك إلى أكثر من ملحظ، لا مناص لنا من اقتطافه من القصص الأربع التي حدثناكَ عنها، لأنّ هذه المَلاحظ ذات صلة وثيقة بهذه القصة، وبما يحلقها من أحداث ومواقف.
فقد لحظنا منذ البداية أنّ الأمر يتصل بممارسات عبادية وفقاً لمفهوم الخلافة الإنسانية على الأرض. فامرأة عمران تمارس ظاهرة النذر لتحقيق مهمة عبادية لوليدها، وابنتُها تمحّض للعبادة بالنحو الذي وقفت عليه، وزكريّا بدوره، يتّجه إلى مناشدة السماء أن تهبه ذريّه طيّبة. وذريته التي تمثلت في يحيى قد حققت المناشدةَ العبادية المذكورة كما عرفت. وزكريا نفسه، قد مارس الكفالة لمريم ـ وهي مهمة تربوية عباديّة خطيرة، فضلاً عن أنه تمحّض لفترةٍ ما، لممارسات عبادية خاصة، امتثالاً لأمر السماء.
هذا كله، ينبغي أن تضعه في ذهنك وأنت تتابع سلسلة المواقف من تحركات الشخوص المذكورة ـ في صعيد الممارسة العبادية.
وإذا انتقلت بذاكرتك إلى (الأحداث)، للحظت، أنها قد تتابعت وهي تحمل نمطاً متماثلاً في عملية الإنجاب وما واكبها من الظواهر، فأنت تجد نفسك أمام أبوّة وبنوّة... أمام أبٍ وابن، أو أب، وبنت، أو أمّ وبنت، أو أمّ وابن. ستجد نفسك أمام امرأة عمران وابنتها، وأمام مريم وابنها، وأمام زكريا وابنه. وكل هذه السلسلة الأبويّة والبُنويّة، تبدأُ إما من الدعاء بطلب ذرّية، أو
______________________________________________________
الصفحة 183
التحقيق لها بنحوٍ غير مباشر. لكنك في الحالتين، تُلاحظ أنّ الإعجاز هو الطابع الوحيد الذي غلّف كل هذه السلسلة من عمليات (الإنجاب)... فيما بدأت من (العقم) أو (الكبر)، ثم انتهت إلى أخطر ظاهرة في الإنجاب ألا وهي الولادة بلا أب متمثلة في شخصية عيسى التي انتهت القصص إليها، ومهّدت لها، لكي يتسلم القارئ أو المستمع شخصية عيسى، وقد رسمها النصُ أيضاً سلسلةً من الأحداث والمواقف المعجزة كما سترى.
هنا نطالبُك بملاحظة الأحداث والمواقف، وشدّها بعضِها بالآخر، وبخاصة بين ولادة عيسى بلا أب. (وهي ظاهرة إبداع خاصة)، ثم ممارسات عيسى نفسه (وهي ظواهر إبداعية خاصة أيضاً).
وهذه الظواهر الخاصة، رسمها القرآن الكريم لعيسى في مستويات ثلاثة، تجسّد قوى الشخصية، فيما تستكمل بها كل معالمها التي تنتزع التقدير عادة.
هذه القوى الثلاث هي: العلم، والاقتدار، والتعبير. ومن الواضح، أنّ هذه السمات الثلاث تكتسب المزيد من التقدير، بقدر ما يضخم حجمها عند الشخصية. ولقد رسمها القرآن الكريم جميعاً، على أشدّ ما يمكن تصوّره في الشخصية، رَسَمَها في أقصى الإمكانات الخاضعة للتخيّل البشري. فقد صوّر السمة التعبيرية ـ أي الكلام ـ متمثلةً في التحدث مع الآخرين ـ والشخصيةُ لا تزال في المهد ـ في حين أن الطفل لا يقوى في مرحلته النمائية المذكورة، حتى على مجرد النطق، فضلاً عن أن يكوّن له ثروةً لغوية يُحاور بها الآخرين.
وأما السمة العلمية، فقد رسمها لعيسى على النحو الذي يجعله على معرفة حتّى بما يدّخره الناس في بيوتهم أو يأكلونه مثلاً. ولا تعقيب ـ بطبيعة الحال ـ على مثل هذه المعرفة التي تندّ عن الإمكان في التجربة البشرية العادية.
______________________________________________________
الصفحة 184
أمّا سمة الاقتدار، فقد رسمها القرآن الكريم لشخصية عيسى، بنحوٍ لا يحتاج إلى التعقيب أيضاً، ما دام الاقتدار هذا، قد تجاوز مجرد عملية التطبيب من إبراء الأكمه والأبرص، إلى عملية إبداعٍ وإحياء، إبداع للجنس الحيواني، متمثلاً في صنع هيكل طائر، يبعث فيه الروح، وإحياء للجنس البشري، متمثلاً في نفخ الروح فيه من جديد بإذن الله.
والآن، إذا تابعتَ قصة عيسى، للحظت أنّ السمات الإعجازية الثلاث التي قدّمها عيسى ـ عليه السلام ـ للجمهور. ونعني بها سمات العلم والاقتدار والكلام، إنما جاءت امتداداً لما سبقها من القصص ـ كما وقفت على ذلك ـ وإرهاصاً لما سيجيء من أحداث ومواقف في قصته، وفي قصة الرسالة الإسلامية كما سنرى.
وقبل أن نتابع هذا الامتداد والإرهاص، ينبغي علينا أن نلفت نظرك إلى أنّ كلاً من السمات المعجزة الثلاث، لا ينحصر رسمها في استقطابها لقوى الشخصية التي تنتزع التقدير فحسب، بل في إلقائها الضوء أيضاً على أكثر من موقفٍ وحدث. فسمة الكلام جاءت ـ أي تكليم عيسى وهو في المهد ـ لتعميق القناعة بالحَدَث المعجز لولادته، من خلال مسح أيّ تشكيك أو ضبابية أو سوء تفسير في ولادته، فكأن نطقه بالحقائق ـ وهو في مهده ـ ردٌّ على أيّ لَغَطٍ يصدر عن الآخرين في هذا الصدد.
وأمّا سمة (الخلق والإحياء). أي خلقه من الطين هيئة طائر ـ بإذن الله، ثم إحياؤه للميت ـ بإذن الله، هذه السمة، لا تحتاج إلى التعقيب في صلتها فنيّاً ونفسياً بكلّ ما تحمله القصصُ الأربع السابقة على قصة عيسى، من (أفكار) تتصل جميعاً بقُدُرات السماء في عملية التوليد البشري.
إنّ قدرات السماء في الإنجاب من العقم، وفي الإنجاب بلا فحلٍ، شكلت رسماً كان بمثابة العَصَب الذي يمتدّ في هياكل القصص الأربع جميعاً،
______________________________________________________
الصفحة 185
فجاءت عملية التوليد والإحياء ـ بإذن الله ـ في شخصية عيسى، تتويجاً، وتفسيراً، للقدرات المذكورة، مع إضافة عنصر جديد هو (الإحياء) في قصة عيسى.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار، أنّ إحياء الآدميين بعد موتهم، يُشكّل القطبَ الآخر من استدلال السماء على قدراتها، وانسحاب ذلك على ظاهرة (الإقناع) التي تحرص السماء على توفيره للمتلقّي، حينئذٍ أدركنا قيمة العنصر الجديد الذي رسمته السماء لشخصية عيسى، في إحيائه الموتى بإذن الله، وهذا يعني أنّ السماء مهّدت بهذا العنصر، إضفاء صفة (القناعة) على العملية الأخرى للتجربة البشرية، وهي عملية إحياء البشر بعد موتهم، والتهيؤ للمرحلة الخالدة في الحياة الأخروية.
ولسوف نرى صدى هذا العنصر على بقية أجزاء السورة في متابعتنا لها.
وأمّا انعكاس هذا الرسم، على سياق رسالة عيسى، فواضح كل الوضوح، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تقوله لنا النصوص المفسّرة من أنّ أيّ حدثٍ معجز يواكب رسالة شخصية ما، إنما يتساوق مع طابع العصر ومعطياته الحضارية... فيما كان الطبّ ـ كما تقول النصوص المفسرة ـ طابع العصر الذي واكب عيسى، فكان إبراء الأكمه والأبرص، تجسيداً معجزاً لطابع العصر، ثم كان الخلق والإحياء ـ بإذن الله ـ تتويجاً عالياً، وتجسيداً لأعلى قمم التصرف بالمصائر البشرية وولادتها.
وأما السمة العلمية، فقد جاءت تأكيداً آخراً لظاهرة الرسالة، بصفة أنّ العلم حتى بدقائق الأمور من نحو ما يدخّره الناس في البيوت، وما يتناولونه من طعام. هذا النمط من الإحاطة العلمية، يُعدّ ـ دون أدنى شك ـ عنصراً بالغ الأثر في تحقيق ظاهرة (الاقتناع) بمشروعية الرسالة، وانتسابها إلى قُدرات خارجة عن الإطار القاعديّ للتجربة البشرية.
______________________________________________________
الصفحة 186
أولئك جميعاً، رسمته السماء، من خلال تحقيق مهمتين مزدوجتين، تحقق أولاهما عنصر التجانس فنياً ونفسياً في إطار القصص المرسومة التي تمهّد بكل أحداثها ومواقفها، لرسالة عيسى، وتحقق الأخرى عنصر الإرهاص بما يمكن أن تحققه مرحلة الرسالة ذاتها.
وبالفعل، نلحظ من هنا، كيف أن النصّ القرآني بدأ برسم مرحلة الرسالة التي اضطلع بها عيسى فيما بدأها بمطالبة الجمهور، بالإيمان إلى رسالته، بعد أن توّج ذلك كله، بالإلماح إلى الرسالة التي عليه ـ وهي رسالة موسى ـ من أنّه جاء مصدّقاً بها من خلال ما تضمّنته من التبشير برسالة عيسى.
هنا ينبغي ألا تفوتنا الإشارة، إلى أن رسم التبشير برسالة عيسى، سوف يترك وقعه الفني والنفسي، على التبشير الذي ستصوغه رسالة عيسى بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيما تمثل هذه الرسالة، خاتمة المبادئ للسماء، وفيما يستهدف النص القرآني من وراء الرسم المذكور، ترسيخ القناعة بمشروعية الرسالة الإسلامية في خاتمة المطاف.
* * *
وعلى أية حال، فإن الأحداث والمواقف، تبدأ من الآن فصاعداً، تتّخذ مساراً جديداً هو: نمط استجابة الجمهور لرسالة عيسى، ثم تعامله وإياهم، وأخيراً: كيفية إنهاء السماء لحياة عيسى. وانسحاب أولئك جميعاً على الرسالة الإسلامية.
ولنقف عند هذه الملاحظ الأربعة: تعامل الجمهور، تعامل عيسى، خاتمة حياته، انسحاب ذلك على الرسالة الإسلامية.
* * *
______________________________________________________
الصفحة 187
ولنقف مع الملحظ الأوّل والثاني:
لقد رسم القرآن الكريم، بيئة الرسالة التي اكتنفت عيسى عليه السلام، منحصرةً في موقف الرفض لرسالته، وموقف المساندة لها من قِبَل حواريّيه، دون أن يرسم تفصيلات الأحداث في رسالة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما رُسمت قصةُ عيسى لتُلقي الضوء على البيئة التي تكتنف الرسالة الإسلاميّة، كما هو واضح.
ولنقرأ الآيات الثلاثَ التالية، فيما رسمت الموقفين المذكورين، أي: الرفض بعامة، والمساندة من الصفوة.
(فلما أحسّ عيسى منهم الكفر، قال:
من أنصاري إلى الله؟؟
قال الحواريون:
نحن أنصار الله، آمنّا بالله، واشهد بأنّا مسلمون.
ربّنا، آمنا بما أنزلت، واتّبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين. ومكروا، ومكر الله، والله خير الماكرين) [آل عمران: 52 ـ 54].
إنّ هذه الآيات الثلاث، تلخّص بيئة الرسالة، مختزلةً كل التفصيلات التي كان من الممكن أن يرسمها القرآن. إلاّ أنّ الانتقاء كان لهذه المواقف التالية فحسب، وهي:
1 ـ الجمهور يرفض الرسالة 2 ـ عيسى يناشد الآخرين بمساندته، فيستجيب له عدد ضئيلٌ من الشخصيات. 3 ـ الرافضون ـ وهم كفار بني إسرائيل ـ يحوكون مؤامرةً ضد عيسى 4 ـ السماء تئد المؤامرة، وتسحقها من الأساس. وتقول النصوص المفسِّرة: إنّ المتمردين كانت مؤامرتهم تتحدد في محاولةٍ لقتل عيسى، إلاّ أن السماء ألقت على صاحب المحاولة: أي الذي أراد قتل عيسى، ألقت عليه الشبه، فقُتِل من قِبَل أصحابه، ورَفعَ الله عيسى إلى السماء.
______________________________________________________
الصفحة 188
والمهم، أنّ القرآن الكريم اكتفى بالإشارة إلى عملية محاولة القتل، اكتفى بقوله تعالى (ومكروا). واكتفى من عملية إنقاذ عيسى بقوله تعالى (ومكر الله، والله خير الماكرين) واكتفى أساساً من موقف الرفض، بقوله تعالى (فلما أحس عيسى منهم الكفر). إلاّ أنّه فصّل الحديث عن (أنصار عيسى) فحسب.
تُرى... ما هو المبنى الفني لهذا التفصيل، وذلك الاختزال؟؟
لقد اختزل القرآنُ الكريمُ رسم الحوادث والمواقف المتصلة برفض دعوته، وبالمؤامرة التي دُبّرت حياله، وبالقضاء على المؤامرة، مكتفياً بالإشارة العابرة لها، لكنّه فصّل في موقف المساندين لعيسى وهم إثنا عشر رجلاً، خلع النصُ عليهم اسم (الحواريين)... هؤلاء الحواريون رسمهم النص بأنهم (أنصار الله) وأنّهم (آمنوا بالله) وأنهم (مسلمون) وأنهم (آمنوا بما أنزلته السماء على الرسل) وأنهم (اتبعوا الرسول) وأنهم في نهاية المطاف أكّدوا مبدأً ذا خطورة، وكرّروه مرّتين، ألا وهو ظاهرة (الإشهاد)، الإشهاد بأنهم مسلمون، والمطالبة بأن يُكتبوا مع الشاهدين.
إن رسم هذه التفاصيل لشخصيات الحواريّين، يحمل دلالةً فنية ونفسيّة تتمثل في إلقائها الضوء على (الأفكار) المطروحة في سورة آل عمران، حيث نجد كيف أن كلاً من (الإشهاد) و(الإيمان) و(الإسلام) الذي يعني (الانقياد)، كيف أن هذه الظواهر الثلاث قد كرّرها النص من أكثر من موقع من السورة، ومنها هذا القسم، وفي القسم الأخير أيضاً، فضلاً عن القسم الأول من السورة الكريمة.
وهذه الظواهر الثلاث رسمها النص في سائر أجزاء السورة عبر سياقاتٍ متنوعةٍ تتصل بالجهاد، وبمواقف المؤمنين الذين ساندوا النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في معركته ضد الكفر، وبمواقف خاصة وعامة، جاء من خلالها رسمُ هذه الظواهر الثلاث
______________________________________________________
الصفحة 189
بنحو لافت للنظر، من نحو آية (شهد الله أنه لا إله إلاّ هو...) وآية (إن الدين عند الله الإسلام) وآية (فقل أسلمتُ وجهي..) وآية (يقولون آمنّا به...) الخ. هذه الآيات التي وقفنا عندها مفصّلاً تشكّل العَصَب الذي يمتدّ إلى جزئيات كبيرة من السورة بنحو تتآزر وتتساند فيما بينها وبين سائر الأفكار المطروحة، فيما يستهدف النصُ القرآني من رسمها بهذا النحو المتناسق، إحداث تأثيرٍ خاص في المتلقّي يتصل بطبيعة الاستجابة البشرية لرسالة النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتلميح بخاصة إلى ذلك النفر المُجاهد الذي كرّس حياته لرسالة الإسلام، بعد أن نفض عنه كل تراكمات البيئة الملتوية، واتّجه إلى السماء، بكل كيانه في ضوء فحصه الموضوعي للحقائق...
وإذن، جاء التفصيل في رسم شخوص الحواريين، بتلك السمات التي وقفنا عليها متجانساً مع السمات التي ركّز القرآن الكريم عليها عبر رسمه لشخوص المؤمنين الذين واكبوا رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومطلق المؤمنين الذين رسمهم القرآن بالسمة المذكورة. وهذا التجانس يتمثل في مستويين، أولهما: العناية بالتفاصيل، والآخر: العناية بشخوصٍ متميزين. وكلاهما متصلٌ بالتفاصيل وبالشخوص الذين رسمهم القرآن في كل أجزاء السورة.
وإذن، للمرّة الأخرى، يتعيّن علينا أن نؤكد خطورة هذا الرسم للحواريين، وتفاصيل سماتهم، بصفة أن هذا الرسمَ المفصل (جزءٌ) من (أفكار) السورة التي يحوم الرسم القصصي عليها أيضاً، أي بصفة أن العنصر القصصي موظفٌ لإنارة الأفكار المطروحة في السورة.
* * *
وبعامة فإن متابعتنا لقصة عيسى، لا تزال في مرحلتها غير المنتهية. فلقد كان الشطر الأول من القصة يتجسد في ولادة عيسى بالنحو الذي وقفنا عليه. وكان الشطر الثاني من القصة، يتجسّد في الإعلان عن دعوته عبر الإشارة إلى
______________________________________________________
الصفحة 190
الظواهر المعجزة التي قدّمها للجمهور من إبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير، وإحياء الميت بإذن الله ـ والعلم بدقائق الظواهر.
ثم كان الشطر الثالث من قصة عيسى، يتجسّد في استجابة الجمهور حياله، حيث تميّزت الاستجابةُ بالرفض، وحيث أعلن عن مناشدته للنصرة فيما سانده الحواريون، وحيث أعدّت مؤامرة لقتله، وحيث أحبطت المؤامرة.
وإذن، لقد تابَعْنا مراحلَ ثلاثاًَ من قصة عيسى.
ولكن، لا تزال هذه القصة، ذات مراحل أخرى، رسمها القرآن الكريم وفق بناءٍ معماري خاص، يتعين علينا متابعته، فنقول:
الشطر الرابع من قصة عيسى يُجسّد إنهاء حياة هذه الشخصية، فلقد رأينا كيف أنّ الملتوين ـ كفار بني إسرائيل ـ دبروا مؤامرةً لقتله، وإنهاء حياته؛ إلا أن السماء هنا، تدخّلت لإنهاء حياته، وإنقاذها من القتل، فيما أنهتها بنحوٍ آخر، ترسمه الآيةُ التالية:
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) [آل عمران: 55].
إن إنهاء حياة عيسى، من قِبَل السماء، بهذا النحو الذي رسمته الآية، ينطوي على (إثارة) بالغة المدى... فكما كانت ولادتُه محفوفةً بالإثارة، والانبهار، والدهشة... كذلك: خاتمة حياته لقد أوجدت السماء عيسى بنحو (معجز) مثير، وأنهت حياته بنحوٍ معجزٍ مثير. فقد وُلِدَ بلا أب، وتوفي بلا أرض.
إنه لم يمت بالنحو الاعتيادي، كما لو يُولد بالنحو الاعتيادي، في
______________________________________________________
الصفحة 191
الحالتين تخطّت قصتُه قوانين الأرض التي رسمتها السماء لكلّ الآدميين، ما عدا البعض.
لقد رفعت السماءُ عيسى، إليها، بعد أن خُيَّل للمتآمرين أنهم قد نجحوا في اغتيال عيسى عليه السلام.
ومثل هذه الحادثة تحمل أكثر مِن دلالة فنية ونفسية، فلقد دحضت هذه الحادثةُ أسطورة (الصُلب) التي لا يزال صداها الأسطوري حاضراً في بعض الأذهان، وكأنه حقيقة تأريخية. كما أن هذه الحادثة ـ من جانبٍ ثانٍ ـ ألقت الضوء على مساندة السماء لأيّة شخصية تجاهد في سبيل الله، من نحو شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ مثلاً فيما ساندتها السماء عبر إنقاذها من النار التي أراد المتآمرون إحراقه فيها فيما جعلها الله برداً وسلاماً على إبراهيم.
ومن جانبٍ ثالث، فإنّ هذه الحادثة تحقق مبدأ التجانس في الرسم القصصي للشخصيات ولادةً وحياةً وموتاً. فقد تجانس الولادة بلا أب، مع الوفاة بلا موت. فكما أرسلت السماء روحاً لإنجاب عيسى، فكذلك رفعته إليها دون أن تُميته على الأرض، ومثل هذا التجانس ينطوي على خطورة فنيّة ونفسيّة لا يتحسسها إلاّ مَن استخدم ذائقته الفنية بنحو دقيق مستأنٍ...
هذا فضلاً عن سائر مبادئ التجانس في السمات (المعجزة) التي لحظناها، تتابع مع القصص الخمس التي شكلت جزءً من السورة وقفنا على تفصيلاتها، فيما لا حاجة إلى إعادة القول فيها، ما دام التجانس واضحاً كل الوضوح في كل السمات التي رسمها القرآن الكريم لشخصيات عيسى وزكريا ومريم وامرأة عمران، وفي كل الخصائص التي اكتنفت رسم الأحداث والمواقف، والبيئات التي كانت الشخوص المذكورة تتحرك من خلالها.
* * *
إلى هنا، فإنّ قصة عيسى في مراحلها الأربع، تكون قد أوشكت على
______________________________________________________
الصفحة 192
النهاية، لولا أن أصداءها لا تزال تُلقي على الأحداث والمواقف، أكثر من دلالة. كما أنّ التمهيد لها بأكثر من قصة، كان له صداه ـ كما رأينا ـ في القصص الأربع.
ولكن ما هي الأصداءُ المذكورة...؟؟
إنّ هذه الأصداء تنعكس على رسالة النبي محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وما واكبها من أحداث ومواقف وشخوص وبيئات.
قلنا: إنّ العنصر القصصي ـ بحكاياته وقصصه الخمس ـ وظّف من أجل إنارة البيئة الإسلامية في هذا الصدد. إنّ النص القرآني يستهدف منه التوظيف المذكورة، إحاطة المتلقّي بطبيعة رسالة السماء، ومشروعيتها، وضرورة الإيمان بها، وتعميق اليقين بذلك.
لقد تركت قصةُ عيسى أصداءها على بيئة الرسالة الإسلاميّة، عبر شرائح متنوعةٍ منها.
بل إنها تحرّكت، لتكشف عن رسم قصةٍ أو حكاية سادسة تنضمّ إلى العنصر القصصي في سورة آل عمران: امرأة عمران، زكريا، يحيى، مريم، عيسى. وأخيراً: الحكاية السادسة وهي ظاهرة (المباهلة).
إنّ ولادة عيسى بلا أب ـ بصفتها رسماً معجزاً تقدَّم الحديثُ عنه ـ لا بدّ أن يترك عدة استجابات عند الآدميين، وكانت إحدى هذه الاستجابات، أنه ابن الله أو ثاني اثنين، أو ثالِثُ ثلاثة: أبٍ، وابن، وروح القدس.
ومن الطبيعي، أنّ الرسالة الإسلاميّة ـ وهي تواجه جبهاتٍ متنوعةً من الأعداء ـ أن يتحرك نحوها جبهةُ المسيحيين ـ في اتجاهها الثقافي المنحرف ـ كما سنلحظ ذلك في مواقع شتى من سورة آل عمران. هذه الجبهة، كانت تتوكأ ـ في جملة ما تتوكأ عليه ـ على قضية المسيح نفسه عبر أحد نشاطاتها
______________________________________________________
الصفحة 193
المعادية، ومنه: النشاط المتصل بالمناقشة والمحاجّة ونحوهما.
وكانت المحاجة المتصلة ببنوّة المسيح أو إقنيميته الأسطورية، تجسّد واحداً من ضروب المحاجّة.
وتقول النصوصُ المفسّرة: إنّ نصارى نجران، قالوا للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى ما تدعونا؟ فأجابهم: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وإلى أني رسوله. كما حدثهم عن عيسى وانتسابه البشرى، وعندما سألوه عن أب عيسى، كانت الإجابةُ تتحدد وفقاً للآية القرآنية الكريمة، التالية، فيما تنقل لنا قصة المباهلة التي نحن في صدد الحديث عنها، عبر آيتين أخريين.
والآيات الكريمة هي:
(إنّ مثل عيسى عند الله، كمثل آدم خلقه من تراب، ثمّ قال له كن فيكون).
(الحقُّ من ربك فلا تكن من الممترين).
(فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل: تعالوا ندعُ أبناءها وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 59 ـ 61].
لقد جاء التلميح إلى قصة آدم ونمط مولده، امتداداً لرسم (الحدث المعجز) الذي غلّف كل القصص التي وقفنا عليها في سورة آل عمران. ومن الواضح أن ربط سلسلة من الأحداث المعجزة ـ عبر القصص الخمس، بالحدث المعجز لعيسى، يعني ربطَ هذا الحدَثَ الأخير بأول حدثٍ معجزٍ في التجربة البشرية ـ أي: صياغةِ آدم عليه السلام. أقول: إن ربط سلسلةٍ من الأحداث المعجزة التي تُمثّل امتداداً زمنياً، يعني ربطَ هذا الامتداد، بأوّلية الحدث تاريخياً في حمله لسمة (المعجز) ذاته، هذا الربطُ يُعدّ رسماً فنياً ونفسياً له خطورته في
______________________________________________________
الصفحة 194
تحقيق عنصر (الاقتناع) الذي يظل هدفاً لأية قصة.
فإذا تجاوزنا هذا العنصر فيما حققته القصة القرآنية عبر الربط بين ولادة عيسى وولادة آدم. نكون قد انتقلنا إلى قصة الإبداع نفسه، إلى تجربة المولد البشري، ودلالة الخلافة على الأرض، متجسدةٌ في رسالة الإسلام (فيما تجسّد الصياغة الوحيدة لفهم ظاهرة الكون والمجتمع والفرد)، وفيما ينقلنا النص القرآني إلى بيئته التي واكبت ظهور الرسالة، ونموّها، ومنها: رسم البيئة الملتوية من مشركين وملحدين وكتابيّين منحرفين.
* * *
وحكاية أو قصة (المباهلة) تمثّل نموذجاً واحداً من تلكم البيئة التي أفرزت مجموعة نجران في عملية المحاجة التي أشرنا إليها. وكانت نهاية هذه القصة في صالح الرسالة الإسلامية، فيما تنقل لنا النصوص المفسرة أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أراد أن يباهلهم بشخصيته وبعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، تلك المجموعة، إلاّ أنّ المجموعة فَزِعت من المغامرة بقبول المباهلة، فصالحهم النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على الجزية فانصرفوا.
والمهم، أنّ النهاية القصصية لحدث المباهلة، كانت (انتصاراً) للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، تماماً كما كانت النهاية القصصية في حياة عيسى (انتصاراً) له، بعد أن رفعه الله إلى السماء، وأنقذه من المؤامرة.
هاتان النهايتان القصصيتان، ينبغي أن لا تغربا عن أذهاننا، ونحن نتحدث عن البناء المعماري (لقصص آل عمران، وعن التجانس في كلّ أحداثها ومواقفها وشخوصها وبيئاتها، بالنحو الذي لحظناه مفصّلاً، وبالنحو الذي نلحظه الآن متجسّداً في عملية التجانس بين نهاية كلّ قصة، حيث كان (الانتصار) لصالح كلٍ من الشخصية، بعد أن نَقلَنا النصُ القرآني من البيئة القصصية المتمثلةٍ في قصص كلٍ من امرأة عمران، وزكريا، ويحيى، وعيسى،
______________________________________________________
الصفحة 195
نقلنا منها، إلى بيئة الرسالة الإسلامية، إلى رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى البيئة التي تواكب الرسالة وما يكتنفها من ظواهر (الجهاد) الفكري والعسكري كما سنرى أيضاً.
* * *
وإذن، نحن الآن أمام بيئة جديدة، أمام الرسالة الإسلامية ذاتها، بعد أن وُظّفت القصصُ المذكورةُ جميعاً، لكي تُلقي الإنارة على رسالة السماء، وما تستهدفه السماء من (أفكار) طرحتها في سورة آل عمران.
وهذا يعني، أننا الآن سنتجه إلى دراسة القسم الثالث من السورة، وعلاقته بباقي الأقسام، وما ينتظم هذا البناء من (أفكار) أخذت بداياتٍ معينةً من السورة، وقطعت مراحل متنوعة منها، ثم انتهت إلى نحوٍ خاصٍ خُتمت السورةُ به. ثم كان العنصر القصصيُ جزءً من هذا البناء، قد وُظّف لإنارة (الأفكار) التي انتظمت السورة.
وإذن، يتعيّن علينا الآن أن نتّجه إلى دراسة تلك (الأفكار) وطريقة البناء الفني لها.
* * *
لقد رأينا مفصلاً صلة العنصر القصصي بعبارة (آل عمران) عبر سلسلة الأحداث والشخصيات التي بدأت من أسرة عمران في تلاحمٍ وترابطٍ وتجانس بالغ المدى بينها، وانتهت إلى الشكل الذي وقفنا عليه، فيما برزت ـ من خلال القصص ـ جملة الأفكار تحوم حول تجربة الميلاد المعجز أو الحدث النادر، حول تجربة الموت المعجز، حول تجربة الإحياء المعجز.
ثم لحظنا تجربة الممارسات العبادية ـ وجدانية وعملية ـ وما واكب هذه الممارسات من بيئات معجزة، كالرزق مثلاً.
______________________________________________________
الصفحة 196
كما لحظنا تجربة الحواريين ونمط استجابتهم، وطبيعة التركيبة العبادية لشخصياتهم، وفرز ظواهر الإشهاد، والإسلام، والإيمان من بينها.
هذه الأفكار وسواها، إذا استحضرناها في الذهن، ثم ربطنا بينها وبين (الأفكار) المتنوعة التي تنتشر في مجموع السورة إذا ربطنا بين أولئك جميعاً، فحينئذٍ سنكتشف المزيد من أسرار الهيكل المعماري للسورة القرآنية، وملاحظة كيف أنّ هذا الهيكل سيترك عند المتلقّي استجابة منظمّةً تتمركز عند اطر محدّدة، تساهم في تعميق وإثراء تجربته بعامة، وفي إغناء تجربته عند تلك الاُطر المحددة بخاصة.
ونقصد بها مجموعة (الأفكار) التي تتميز بالضرورة، عن (الأفكار) الأخرى التي قد تنتظم في سورة غيرها أيضاً، لكنها تبقى (متميزة) دون أدنى شك. وهذا ما يشكّل واحداً من أسرار البناء الفني، فضلاً عن أسرار فنية أخرى نقف عليها في حينه إن شاء الله.
ونتجّه إلى القسم الثالث ـ وهو القسمُ الأخير ـ من سورة آل عمران، فنجده مستغرقاً غالبيّة السورة كما قلنا.
ويهمنا أن نتابع محتويات هذا القسم وصلتها العضوية بالقسمين الأول والثاني.
وهذا القسمُ من السورة يتمحض للنثر الفني. بعد أن رأينا القسم الثاني يتمحض للنثر القصصي، والقسم الأول يتمحّض للنثر.
|