القسم الأول
المقطع الأوّل
يتألف هذا القسم من عدة مقاطع تبدأ من الآية (1) إلى الآية (32). وأول مقاطعها هو (التمهيد) أو المقدمة التي تتضمن ست آيات على هذا النحو (الم * الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيوم * نزَّل عليك الكتاب بالحق مُصدِّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هُدًى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام * إنّ الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء * هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم).
ومن الحقائق التي ينبغي عرضها هنا بالنسبة إلى (مقدمة) السور القرآنية
______________________________________________________
الصفحة 140
وعلاقتها بالبناء العام للنص، أن (المقدمة) لا تخلو من إحدى هذه الحالات:
1 ـ أن تكون مؤشّراً إلى أن موضوعات السورة الكريمة ستحوم على ما طرحته المقدمة، أي أن غالبية السورة ستركز على موضوعات مقدمتها 2 ـ أن تكون تمهيداً لموضوعات أخرى ترتبط بها من بعيد أو قريب 3 ـ أن تكون موضوعاً مستقلاً، ولكن النص إنما طرحه في المقدمة لكي يلفت نظرنا إلى أهمية موضوعاتها.
لكن ـ في الحالات جميعاً ـ هناك رابط عضوي بين المقدمة وبين الموضوعات الأخرى، هو الذي يكسب عمارة السورة القرآنية الكريمة جماليةً مدهشة بالنحو الذي سنعرض له خلال هذه الدراسات.
طبيعياً، ينبغي ألاّ نغفل عن الإشارة إلى أن كل سورة تتضمن ثلاثة خطوط بنائية (المقدمة) (الوسط) (النهاية)، فالمقدمة والنهاية لا تتجاوزان آيات معدودة. أما الوسط فهو الذي يضطلع بطرح الموضوعات وتفصيل الحديث عنها مع ملاحظة أن الوسط يشكّل رابطاً عضويا بين المقدمة والنهاية، كما أن كلاًّ من المقدمة والنهاية يرتبط أحدهما بالآخر من جانب، ويرتبطان بالوسط من جانب آخر.
والآن، بعد أن أجملنا الحديث عن عمارة السورة القرآنية من حيث علاقة مقدمتها بالوسط وبالنهاية، نبدأ بالحديث عن موضوعات المقدمة التي نحن في صدد الحديث عنها، أي مقدمة سورة آل عمران.
تتضمن هذه المقدمة ستة موضوعات هي (حضور السماء وقيموميتها) (نزول القرآن الكريم) (نزول التوراة والإنجيل) (تهديد الكفار بالعذاب الأخروي) (عدم خفاء شيء على الله تعالى) (تصويره تعالى للبشر في الأرحام).
إن استهلال السور القرآنية بإحدى صفاته تعالى، ونزول الكتاب
______________________________________________________
الصفحة 141
وبالإشارة إلى ظواهر الإبداع الكوني، يظلّ طابعاً ملحوظاً لكثير من السور بحيث يستهدف منه لفت النظر إلى هذه الظواهر. لكن عندما يقرن ذلك بإشارة إلى ظاهرة خاصة حينئذ نستخلص بأن هذه الظاهرة سوف تحتل أهمية كبيرة من موضوعات السورة وهذا ما نلحظه من التنصيص على نزول التوراة والإنجيل حيث ذكرهما بالاسم في (مقدمة) السورة. ثم أردف ذلك بتهديد الكفار والتلويح بالجزاء الأخروي. وهذا يدلنا على أن غالبية الموضوعات سوف تنصبّ على سلوك (الكتابيين)، وأن البارز من سلوكهم هو: الكفر بقرينة الذكر لكتابهما من جانب والإشارة إلى كفرهما والتلويح بالعذاب لهما (أي اليهود والنصارى) من جانب آخر.
وبالفعل، سنجد بعد هذه (المقدمة) أن (الوسط) يبدأ مباشرة بالحديث عن الكتابيين، وهذا ما يضطلع به:
المقطع الثاني
بهذا المقطع يبدأ (الوسط) من السورة، حيث قلنا: إن الوسط هو المتكفّل بالحديث عن الموضوعات بصورة مفصّلة.
ـ يبد المقطع بقوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أُمُّ الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا وما يذّكّر إلاّ أُولوا الألباب * ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهَب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهاب * ربنا إنّك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 7 ـ 9].
لنلاحظ أولاً مدى الإحكام الهندسي بين مقدمة السورة ووسطها، فقد بدأ الوسط (يفصّل) ما (أجملته) المقدمة إنّه كرّر الإشارة إلى نزول الكتاب (والمقدمة أشارت إليه كما لحظنا) وأوضح بأنه ينطوي على المحكم
______________________________________________________
الصفحة 142
والمتشابه، ثم ألمح إلى الكتابيين الذين وصفهم بسمة (الزيغ)، ألمح إلى أنهم يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وألمح إلى المؤمنين الذين هتفوا قائلين (لا تزغ قلوبنا). هنا ينبغي أن نقف ونتأمل بدقة ما ينطوي عليه هذا العرض من تخطيط هندسي لعمارة السورة الكريمة. إنّه تعرض للكتابيين. ورَسْم هذا التقابل بين الموقفين يحمل جمالية خاصّة في عمارة النص، طالما نعلم جميعاً بأن الأشياء تعرف بأضدادها. ونلاحظ أيضاً أن النص جعل الحديث عن زيغ الكتابيين (سرداً) أي وصفهم النص بالزيغ، أما بالنسبة إلى المؤمنين فلم يصفهم بعدم الزيغ، بل اعتمد عنصر (الحوار) في ذلك، بحيث جعلهم يدعون الله تعالى بألاّ يزيغ قلوبهم. ولهذا الفارق بين أسلوبي (السرد) و(الحوار) أهمية فنية كبيرة هي: أن النص قد حَكَم سلفاً على الكتابيين بأنهم زائغون (مائلون عن الحق)، أمّا المؤمنون فليسوا كذلك، لماذا؟ لأن التركيبة البشرية تقوم على قطبي الخير والشر، لذلك فإنّ استغاثتهم بالله تعالى في الابتعاد عن الزيغ، وهي على العكس تماماً من الكتابيين الذين زاغت قلوبهم فحكم عليهم النص بالزيغ من خلال (السرد) الذي يعنيه عرض الحقائق كما هي (وهو وجود الزيغ الفعلي لديهم).
إنّ أهمّ ما ينبغي لفت النظر إليه هو: أنّ النص عندما وصف الكتابيين بالزيغ (والزيغ معناه: الميل عن الحق) إنما ألغاهم من الحساب وجعل ذهن القارئ مهيّأ لأن يستقبل ما يذكره النص لاحقاً من أنماط السلوك السلبي لديهم، بخاصة أن (المناقشة) أو (المحاججة) بين الكتابيين والإسلاميين سوف تحتل مساحة كبيرة من السورة، فإذا كان الكتابيون (زائغين: مائلين عن الحق) حينئذٍ سنعرف سلفاً بأن محاججاتهم ومناقشاتهم هي: مناقشات باطلة. لماذا؟ لأنهم مائلون عن الحق، وحينئذٍ ما قيمة مناقشاتهم؟.
بهذا الأسلوب يكون النص قد هيّأ أذهاننا لأن نحكم سلفاً بتفاهة سلوك
______________________________________________________
الصفحة 143
الكتابيين وألاّ نقيم وزناً لمناقشاتهم التي سيعرضها النص.
أما بالنسبة إلى المؤمنين، فقد قلنا: إنّهم طالبوا أولاً بألاّ يزيغ الله تعالى قلوبهم، وهتفوا ثانياً (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد). إن هذه الفقرة الأخيرة (إن الله لا يخلف الميعاد) سنجد انعكاساتها في نهاية السورة (إنك لا تخلف الميعاد) فيما سنوضح العلاقة العضوية بين هاتين العبارتين في حينه.
المهم، إن كلا من سلوك المؤمنين والكتابيين قد عكس أثره على مقدمة السورة ونهايتها أو الوسط الذي سنتابع الحديث عنه، عبر المقطع الجديد، وهو:
المقطع الثالث
تنتظم هذا المقطع الآيات التالية (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادُهم من الله شيئاً وأولئك هم وقُود النار * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهُم الله بذُنُوبهم والله شديد العقاب * قل للذين كفروا ستُغلبُون وتُحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئةٌ تُقاتل في سبيل الله وأُخرى كافرةٌ يرونهم مثليهم رأي العين والله يُؤيدُ بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرة لأولي الأبصار * زُيّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المُقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسُومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة والله عنده حُسن المآب * قل أؤُنبئكم بخير من ذلكم للذين اتّقوا عند ربهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مُطهّرةٌ ورضوانٌ من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربَّنا إنّنا آمنا فاغفر لنا ذنُوبنا وقعنا عذاب النار * الصّابرين والصّادقين والقانتين والمُنفقين والمُستغفرين بالأسحار * شهِد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأُولو العِلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم * إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أُوتوا
______________________________________________________
الصفحة 144
الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العِلم بَغياً بينهم ومن يكفُر بآيات الله فإنّ الله سريعُ الحساب) [آل عمران: 10 ـ 19]. الملاحظ في هذا المقطع أنه يبدأ بالحديث عن الكفار وينتهي بالحديث عن الكتابيين الذين اختلفوا فيما بينهم بغياً. وهذا النمط من العرض بين الكفار والكتابيين يشير إلى جملة حقائق فنية منها: وحدة الكفر كتابيين ومشركين وغيرهم، ومنها: اتّشاح النص القرآني بالسمة الفنية المعروفة وهي: عمومية النص وخصوصيته من جانب، وطابعه الإيحائي من جانب آخر، بمعنى أن النص الذي يكتسب سمة الخلود الفني هو ما يتضمن حقائق (عامة) ضمن ما يطرحه من حديث (خاص) بفئة أو بسلوك أو بظاهرة خاصة من الظواهر، وما يتضمن حقائق مشتركة يستطيع القارئ أن يستخلصها وفقاً لتذوقه وخبراته الثقافية، بحيث يستطيع أن يستخلص منه حقائق عامة تنطبق على الكافرين مطلقاً، وتنطبق على أهل الكتاب أيضاً، وهذا ما نلحظه فعلاً في المقطع الذي نتحدث عنه، حيث تشير بعض النصوص إلى أن المقصود من الكفار (المشركين)، ويشير البعض الآخر إلى الكتابيين، وفي هذا النطاق أيضاً تشير بعض النصوص إلى أن المقصود هم (اليهود) ويشير البعض إلى أنهم (النصارى)، على تفاوت بين الموضوعات المتفرقة التي يتضمنها هذا المقطع. أمّا نحن (بصفتنا نعني بدراسة العمارة الفنية للسورة) لا نجد أيّ تعارض بين هذه النصوص التفسيرية ما دمنا ندرك بوضوح أن جمالية النص الأدبي تقوم على هذين الطابعين: (العام من خلال الخاص) و(إيحائية النص)، فسواء أكان المقصود منهم مطلق الكفار أم الكتابيين، فالنتيجة تظل مرتبطة بالهيكل الهندسي للنص بحيث يكون النص قد تحدث عن حقائق الكفر وربطها في النهاية بسلوك الكتابيين الذين اختلفوا بعد ما جاءهم العلم: بغياً منهم.
هنا ينبغي لفت النظر إلى هذه السمة الجديدة التي أطلقها النص على شخوص الكتابيين، وهي صفة (البغي)، بعد أن لحظنا من المقطع الأول أنه أطلق عليهم صفة (الزيغ). ولكل من هاتين الصفتين علاقة بتركيبة الإنسان من
______________________________________________________
الصفحة 145
جانب وبعمارة السورة القرآنية التي ينتظم هيكلها وفق الحقائق النفسية من جانب آخر.
إن السلوك الانحرافي ينطلق من نزعتي (الذات والعدوان)، أي أن الشخصية المنحرفة (دينياً أو سلوكاً عاماً) تتحكم فيها نزعتان: هما (الذات) أي البحث عن الإشباع غير المشروع لشهواتها حيال المال والجنس والسيطرة و... و... و... وسائر أمتعة الحياة الدنيا التي سرد المقطع القرآني أبرزها مثل (النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث...). وأما النزعة الأخرى فهي (العدوان) حيث إن هذه النزعة تترتّب على سابقتها حينما لا يتحقق إشباعه، مما ينمي لديه نزعة الحقد نحو الآخرين الذين يملكون هذه الأمتعة، أو تضطره إلى العدوان عليهم ليحقق بذلك إشباعه للشهوات المشار إليها.
إن النص القرآني سلك منحىً نفسياً مدهشاً حينما وصَفَ الكتابيين بهاتين السمتين (الذاتية ـ وهي الزيغ) و(العدوان ـ وهي البغي)، بيد أن المهم هو أنه رسم هاتين النزعتين من خلال ما نسميه بـ(النموّ العضوي) للنص، أي: أن الحقائق التي يذكرها النص، يبدأ بتقديمها على نحو تدريجي بحيث يترتّب أحدها على الآخر بالنحو الذي نجد فيه مراحل النمو الجسمي أو العقلي أو النفسي للشخص متدرجة من مرحلة إلى أخرى. ويمكننا ملاحظة هذا الأسلوب المرتبط بعمارة النص من خلال تقديمه أولاً نزعة (الذاتية) وهي (الزيغ، وهو الانحراف عن الحق). إن المنحرف عن الحق، ينطلق من نزعة ذاتية هي: إعراضه عن الشيء الذي لا يحقق إشباعه، فإذا نصحت ـ على سبيل المثال ـ شخصاً بأن يبتعد عن الجنس أو الجاه أو المال (وهو متشبث بها) حينئذ (يعرض) عن النصيحة، أي: يزيغ عن الحق، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكتابيين، إنهم أعرضوا عن حقائق القرآن الكريم، فوصفهم تبعاً لذلك بسمة
______________________________________________________
الصفحة 146
(الزيغ). بيد أن الأهم فنياً من ذلك هو أن النص رتّب سلوكاً خاصاً على الزيغ هو (اتّباعهم ما تشابه من القرآن)، أي أن النص ذكَرَ أولاً سمة (الزيغ) (فأمّا الذين في قلوبهم زيغ)، ثم ذكر ما يترتب على الزيغ وهو (فيتبعون ما تشابه منه)، وهذا هو أحد أسرار البناء الهندسي للنص حيث أخذ ظاهرة (النمو العضوي) بنظر الاعتبار، فجعل (اتباع الشبهة) مرحلة ترتبت على سابقتها (الزيغ).
وأما في المقطع الجديد الذي نتحدث عنه، فقد سلك أيضاً منحىً عضوياً في تدرّجه في طرح الموضوع الجديد وهو النزعة العدوانية أو البغي، حيث إنّ (الذاتية) حينما تفشل في إشباع شهواتها تلجأ إلى العدوان حينئذٍ، أي أنها تبدأ أولاً بنموّ نزعة الحسد أو الحقد فيها، ثم تبدأ بمرحلة العدوان الحقيقي، وهذا ما سلكه النص حينما أتبع حديثه عن (بغي) الكتابيين، بالحديث عن ممارسات القتل لديهم، وذلك في المقطع الرابع من السورة حيث سنعرض له بعد قليل وقد جاء فيه: (ويقتلون النبيين بغير حق) حيث يُعدّ القتل أبرز الأشكال العدوانية كما هو واضح.
المهم، أننا لا نزال مع المقطع الثالث الذي طَرَح في نهايته قضية الكتابيين الذين اختلفوا بغياً بينهم، حيث أردنا أن نوضح طبيعة العلاقة العضوية بين هذا المقطع وبين سابقه وبين لاحقه.
وقد أوضحنا ذلك على نحو الإجمال. ولكننا نعتزم هنا تفصيل الحديث عن المقطع كاملاً، وهذا ما يقتادنا إلى متابعة موضوعاته. فما هي موضوعاته؟ قلنا: إن أول الموضوعات هو أن النص أطلق سمة (الكفر) على الشخوص الذين يتحدث عنهم (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم...) وقلنا إنّ الكفر ينطبق على مطلق الكفار وعلى الكتابيين أيضاً، ومما يعزّز ويقوي هذا الاحتمال الفني هو أن النص ختم حديثه عن الكتابيين في آية (وما اختلف
______________________________________________________
الصفحة 147
الذين أوتوا الكتاب) بعبارة (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب). لنقرأ الآية جديداً (إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب). إن الدارس الأدبي الذي يعنى بالعمارة الفنية للسورة، يدرك بسهولة طبيعة العلاقة القائمة في أول المقطع في عبارة (إن الذين كفروا..) بالعبارة القائلة في آخر المقطع الذي تحدث به عن الكتابيين (ومن يكفر بآيات الله...) حيث يمكنه أن يربط بين عبارتي (الكفر) وبين عبارة (الذين أوتوا الكتاب) ويستخلص بأن أهل الكتاب هم المقصود بـ: (أهل الكفر) وهذا لا ينافي ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون المقصود مشتركاً بينهم وبين المشركين أيضاً، لأن النص ـ كما قلنا ـ تتجسّد أهميته الفنية في كونه يحتمل عدّة وجوه، وهذا هو أحد أسرار إعجازه الفني دون أدنى شك.
ومن الأدلة الفنية التي تعزّز هذا الاتجاه، أن النص حينما بدأ حديثه عن الكافرين أشار أولاً إلى نمطين من الشهوات الذاتية هما (المال والأولاد) (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم)، وأشار في آية أخرى إلى مجموعة من الشهوات الذاتية (زين للناس حبّ الشهوات...) حيث إن المشركين والكتابيين عرفوا بتشبثهم بهذه الأمتعة الدنيوية، وحيث يظل الكتابيون ـ بخاصة اليهود منهم ـ في مقدمة الرهوط الاجتماعية التي عُرِفت بتشبّثها بهذه الأمتعة كما هو واضح.
وأياً كان الأمر، إنّ المقطع عندما طرح مفهوم (الشهوة الذاتية)، طَرَحَها وفق تخطيط هندسي ممتعٍ على هذا النحو:
أولاً: أشار إلى شهوتي الأموال والأولاد، بعد ذلك أشار إلى شهوات النساء والبنين والذهب والخيل والحرث... لماذا؟ هذا ما يرتبط بعمارة المقطع، حيث ذكّر هؤلاء الكفار بحادثتين تأريخيتين قديمة وحديثة، القديمة
______________________________________________________
الصفحة 148
هي حادثة آل فرعون، والحديثة هي حادثة بدر. وكلنا يعرف أن الأموال والأولاد هما القوة التي يستخدمها الإنسان في المعارك العسكرية، حيث تحتاج المعارك إلى رجال (الأولاد) وحيث تحتاج إلى (المال) لتغطية المعركة سلاحاً ومؤنة ونحوها. من هنا ندرك لماذا اقتصر المقطع أولاً في الحديث عن الكفار على شهوتي الأموال والأولاد ولم يذكر باقي الشهوات. وأما ذِكْرُهُ لباقي الشهوات في آية لاحقة، فيمكننا أن ندرك السرّ الفني فيها سريعاً حينما نجد أنه يقول بوضوح بأن ذلك هو متاع الدنيا، وحينما يقول بوضوح أكثر (قل أؤُنبئُكُم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها...) حيث ربط المتاع الدنيوي في أبرز نماذجه بالنعيم الأخروي في أبرز نماذجه التي هي خير من متاع الدنيا ألا وهي (جنات...).
يبقى أن نشير إلى جملة خطوط هندسية ترتبط بعمارة المقطع.
منها: إن ذكر شهوتي الأولاد والأموال قد قرنهما النص أولاً بالعذاب الأخروي، في حين قرَنَ الشهوات العامة بالنعيم الأخروي. فما هو السرّ الفني؟ في تصورنا، أن النص ما دام قد قرَنَ شهوتي المال والأولاد بحادثتي آل فرعون وبدر، حينئذٍ فإن أبرز الأشكال الذاتية التي يوظفها المنحرف لمحاربة الله تعالى هي: المعارك العسكرية، وإن أشد العذاب هو ما يترتب على حمل السلاح، وهو أمر يتداعى بالذهن إلى العذاب الأخروي المترتب على حمل السلاح، أما بالنسبة إلى مطلق الشهوات التي تقتاد الشخص إلى الزهد بالآخرة، حينئذٍ فإن التذكير ـ بالجنة وليس بالنار ـ هو الذي يتناسب مع الطبيعة العامة للشخص الذي يلهث وراء الإشباع الدنيوي.
ثانياً: يُلاحظ ـ كما قلنا ـ أن النص قد ذكّر بواقعتين، إحداهما قديمة (آل فرعون) والأخرى حديثه (معركة بدر)، فما هذا السرّ الفني في ذلك؟
في تصورنا أن الاستشهاد بالحوادث الواقعة حينما تم أحدها من خلال
______________________________________________________
الصفحة 149
الماضي والآخر من خلال الحاضر، حينئذٍ يكون الأثر أشدّ بالنسبة إلى المُخاطب، بصفة أن التاريخ (وحدة زمنية) خاضعة لقوانين اجتماعية متماثلة، فإذا ذكّرنا الشخص بالماضي واتبعناه بما هو حاضر بخاصة المعركة التي شهدها الكتابيون (بدر)، حينئذ فإن عنصر (الإقناع الفني) يأخذ أهميته الكبيرة. ليس هذا فحسب، بل نجد أن النص قد انتخب حادثتين خاصتين دون الحوادث الأخرى، فالحوادث الماضية متنوعة مثل المصائر التي انتهت إليها أقوام نوح أو هود أو صالح أو لوط أو شعيب...الخ، فلماذا انتخب النص منها: مصائر الفرعونيين فحسب؟ في تصورنا أن فرعون بصفته أعتى وأطغى شخصية منحرفة: حينئذٍ فإن الاستشهاد به دون غيره يفرض ضرورته الفنية. وهكذا بالنسبة إلى معركة بدر، أما لأنها أول واقعة يتم فيها انخذال الكفار أو لأنها أبرز حادثة يتم فيها الانخذال المذكور.
إذن، أمكننا أن ندرك السرّ الفني وراء انتخاب هاتين الحادثتين دون غيرهما، وعلاقة ذلك بعمارة المقطع.
ثالثاً: يلاحظ أن النص خلال طرحه هذه الموضوعات، طرَحَ موضوعات ثانوية يستهدف منها لفت النظر إلى أهميتها، مثل توصيفه لأهل الجنة التي قال عنها بأنها خير من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل والحرث، حيث وصف الجنة بأنها لأولئك (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). لنتأمل جيداً طبيعة الأسلوب الفني الذي أورد فيه من خلال ذلك، هذه السمات: الصبر، الصدق، القنوت...الخ، إنّه أوردها ليلفت نظرنا إليها وإلى أهمية ممارستنا لهذه الظواهر العبادية، إلا أنه أوردها في سياق تخطيط هندسي يرتبط بعمارة المقطع الذي يتحدث فيه عن المنحرفين وشهواتهم حيث ذكّرهم بأن الجنة هي أفضل من شهواتهم الدنيوية، وأنها
______________________________________________________
الصفحة 150
ستكون للصابرين والصادقين والقانتين...الخ. وبهذا الأسلوب، يكون النص قد أحكم عبارة المقطع وأكسبها بُعداً جمالياً.
رابعاً: يلاحظ أن المقطع طرح بعد ذلك آية (شهد الله...)، فما هو الموقع الهندسي لهذه الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها؟
إن ما قبلها تحدث عن المؤمنين، وإن ما بعدها تحدث عن الكتابيين المنحرفين حيث ختم به المقطع الرابع. ثم ما هي العلاقة بينهما وبين مقدمة الآية التي تحدثت عن الكتابيين حيث جاءت الآية على هذا النحو (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب...).
... هنا ينبغي أن ننتبه على جملة من الخطوط الفنية التي تربط هذه الآية، ليس بما سبقها ولحقها من الآيات الخاصة بالمقطع الذي نتحدث عنه فحسب، وإنما بالخطوط الهندسية التي تربط بينها وبين السورة بكاملها، أي في أقسامها الثلاثة.
إن (الإشهاد) كما سنرى، سوف يتكرر في السورة الكريمة، بخاصة فيما يتصل بالكتابيين وبقصصهم التي سيضطلع بها القسم الثاني من السورة الكريمة. كما أن عبارة (إن الدين عند الله الإسلام) ـ وهي الآية الأخيرة التي جاءت بعد آية الإشهاد ـ ستتكرر في أقسام السورة الكريمة، مما يعني أن لهاتين الظاهرتين (الشهادة) و(الإسلام) موقعاً عضوياً ضخماً لا يمكننا أن نتحدث عنه الآن، إلاّ عندما نصل إلى الأقسام اللاحقة من السورة، بحيث نجد أن هذين الموضوعين يشكّلان خطين كبيرين يربطان بين الشبكة التي تنتظم سورة آل عمران جميعاً، بكلّ ما تحمله هذه الشبكة من الخطوط. لكن حسبنا الآن أن نشير إلى أن لهما علاقة بسلوك الكتابيين وما تقابله من سلوك المؤمنين. فبالنسبة إلى الشهادة بعدم ألوهية غير الله تعالى، فإن لها علاقة بمقدمة السورة التي استُهلّت بـ(الله لا إله ألاّ هو الحيّ القيّوم)، إن قوله
______________________________________________________
الصفحة 151
تعالى (شهد الله أنه لا إله إلاّ هو) وقوله (لا إله إلا هو الحيّ) رابط واضح بين الآيتين.
وأمّا ظاهرة (القسط) فهي ترتبط بما بعدها (إن الدين عند الله الإسلام) حيث أن (القسط) و(الإسلام) لا يفصل أحدهما عن الآخر، إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الإسلام بمعنى التسليم قد طرحه النص في المقاطع اللاحقة، وبذلك يكون التسليم بما هو قسط بما هو عدل هو المسوّغ الفكري لعملية التسليم. فيكون القسط غير منفصل عن التسليم، أي التسليم بما هو عدلٌ، كما هو واضح.
وأما صلة (إن الدين عند الله الإسلام) بما تبعها من اختلاف الكتابيين، فأمر واضح، حيث يريد النص أن يقول: إن التسليم لله تعالى هو الحقيقة المطلقة، وأما الكتابيون فقد أعرضوا عن الحقيقة المذكورة: بغياً بينهم.
هنا ينبغي لفت النظر إلى أن العلاقة بين الإسلام وبين التسليم تأخذ السمة الفنية التي أشرنا إليها بالنسبة إلى ذهابنا إلى أن النص القرآني الكريم يحمل خصيصتين: العمومية والاستيحاء، أي من الممكن أن يحمل مصطلح (الإسلام) معنى (التسليم) في جانب منه (كما هو الحال بالنسبة إلى ما نلحظه من مناقشات الكتابيين السابقين، في الأقسام اللاحقة من السورة)، وأن يحمل هذا المصطلح نفس المفهوم لرسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، (كما هو الحال بالنسبة إلى معاصري الرسالة الإسلامية ممن يتحدث عنهم النص، ووصفه إياهم بأنهم متّبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة).
وأياً كان الأمر، المهم هو: أن هذا المقطع تضمّن بداية ونهاية ربطت بين الكافرين وبين الكتابيين، وتضمنت موضوعات ثانوية ربَط المقطع بينها وبين سلوك الكتابيين، وتضمن عملية نموّ عضوي للمقاطع السابقة عليه من حيث السمات التي خلعها النص على الكتابيين مثل سمتي (الزيغ) و(البغي)،
______________________________________________________
الصفحة 152
حيث قلنا: إن هاتين السمتين تنبعث إحداهما من الأخرى، وإنّ الأولى منها (الزيغ) قد أورد له النص مصداقاً هو (اتّباع ما تشابه)، وإن الثانية (البغي) قد أورد له النص مصداقاً هو ما يتضمنه المقطع الخامس من السورة، حيث بدأ بقوله تعالى:
المقطع الرابع
(فإن حاجّوك فقُل أسلمتُ وجهي لله ومن اتّبعنِ وقُل للذين أُوتوا الكتابَ والأُميين ءأسلَمتم فإن أسلَمُوا فقد اهتدوا وإنْ تولَّوا فإنّما عليك البلاغُ والله بصير بالعباد * إنّ الذين يكفُرُون بآيات الله ويقتُلُون النبيّين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمُرون بالقسط من النّاس فبشّرهم بعذاب أليم * أُولئك الذين حبِطَت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهُم من ناصرين * ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولّى فريقٌ منهم وهم معرِضون * ذلك بأنّهم قالوا لن تمسَّنا النارُ إلاّ أياماً معدودات وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريبَ فيه ووفّيت كلُّ نفسٍ ما كسَبت وهُم لا يُظلمُون) [آل عمران: 20 ـ 25].
في هذا المقطع نواجه أربعة موضوعات مضافاً إلى الموضوعات المتصلة بالجزاء الأخروي، حيث إن النص يربط بين حين وآخر بين الجزاء وبين السلوك لسببين: أحدهما، هو عنصر الترغيب والترهيب ما دام الهدف هو تعديل السلوك، والآخر، وهو ما يعنينا هنا، أن (المقدمة) ذاتها تضمنت التلويح بالجزاء الأخروي، فيكون سبباً من جانب ثالث.
إن أهم ما ينبغي لفت النظر إليه هنا هو جملة أمور تتصل بعمارة النص القرآني الكريم، فبالنسبة إلى (المحاجة) التي بدأها هذا المقطع، تعدّ (مقدمة) لمحاجات أخرى ترد خلال السورة، وبالنسبة إلى الأجوبة التي أمر النص النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يردّها على الكتابيين وغيرهم، نجدها متمثلة في دلالة (التسليم)
______________________________________________________
الصفحة 153
أو (الإسلام) مثل قوله تعالى (فقل: أسلمت وجهي)، وقوله تعالى (أأسلمتم) وقوله تعالى (فإن أسلموا). إن هذا التكرار ثلاث مرات، لعبارة (أسلمت) (أسلمتم) (أسلموا)، لها موقع هندسي محكم بالنسبة إلى عمارة السورة، فقد سبق أن لحظنا في المقطع الأسبق أن النص (مهّد) بمفهوم (التسليم) في آية (إن الدين عند الله الإسلام) وقلنا: إن هذه الآية لها موقع عضوي مهم من السورة لأنها ستتردد أصداؤها على مجموع السورة، وها هي أصداؤها تبدأ بالانعكاس في هذا المقطع الذي ركّز على مفهوم (التسليم) أو (الإسلام)، ثلاث مرات.
وهذا بالنسبة إلى الموضوع الأول: المحاجة أو المناقشة...
وأما بالنسبة إلى الموضوع الثاني (قتلهم الأنبياء) فهذا الموضوع بدوره يظل على صلة بالمقطع الأسبق، حيث قلنا: إن النص عندما عرض موضوع (البغي) أردفه بمصداق للبغي هو: التذكير بممارسات القتل الذي يعدّ قمة (البغي): بخاصة أن النص قد انتخب قتلهم الأنبياء ليدلّل على أشد أنواع النزعة العدوانية لدى اليهود بخاصة. وسنرى أن الموضوع الرابع هو (عدم إمساسهم النار إلا أيامً معدودة) تخص اليهود أيضاً. غير أن النص (وهو يجمع بصورة فنية بين ذكر النصارى واليهود) يطرح الموضوعات التي تنطبق حيناً على اليهود وأخرى على النصارى. ويبقى الموضوع الثالث (وهو أن الكتابيين عندما يُدعَون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، حينئذٍ يعرضون عن ذلك). وهذا الموضوع امتداد لما ذكره المقطع الأول الذي وصفهم بالزيغ وباتباع الشبهة، حيث أنهم عندما يعرضون عن الكتاب إنما يعرضون عن الحق، وكما قلنا: فإن الزيغ معناه: الميل عن الحق، وها هو النص يعرض لنا سلوكاً جديداً من الزيغ، هو تولّيهم عن حكم الله، بعد أن كان المقطع الأول قدم سلوكاً هو: اتباعهم ما تشابه من الكتاب.
______________________________________________________
الصفحة 154
إذن، الموضوع الجديد الذي طرحه النص في هذا المقطع، يشكّل أسلوباً ذكرناه بالنسبة إلى توزيع السلوك الكتابي في مقاطع، كل واحد منها يضطلع بتقديم سلوك جديد، وها هو السلوك الجديد نلحظه الآن وقد طُرح في المقطع الذي نتحدث عنه.
أما الموضوع الأخير، وهو قولهم: إنّ النار لا تمسهم إلاّ أياماً معدودة، فهذا أسلوب فني جديد يسلكه النص في عرض السلوك الكتابي. إننا لحظنا أن النص قد مسَحَ أية قيمة للشخصية الكتابية. مسحها أولاً من الزاوية النفسية فوصفهم بالزيغ والبغي، وها هو الآن يمسحهم من الزاوية الذهنية، فيسمهم بصفة هي (التخلّف الذهني) لديهم. وقد قدّم لنا هذا الوصف ليس بنحو مباشر، أي لم يقل لنا: إنّ هؤلاء متخلّفون ذهنياً، بل قدّم لنا نموذجاً من سلوكهم ليجعلنا نحن القراء نستكشف ذلك. إنّه عَرضَ علينا نموذجاً من عقليتهم القائلة بأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة. إنّ مثل هذا القول ينطوي على سذاجة وبلادة وقصور ذهني يحملك على السخرية منه والإشفاق عليه. فإذا كانوا منحرفين، حينئذٍ لماذا لا تمسهم النار إلاّ أياماً؟ وما داموا معترفين بأن النار تمسّهم، حينئذ قد اعترفوا بأنهم منحرفون، وإلاّ لماذا لا تمسّهم النار؟ أرأيت مدى التخلّف الذهني لدى هؤلاء اليهود؟
إذن، عندما عرض لنا النص نماذج من سلوكهم الذهني بعد أن عرض نماذج من سلوكهم (النفسي)، كشف لنا النص بذلك عن مدى تفاهة هؤلاء الشخوص، ومن ثم فإن لهذا أثره ـ كما كررنا ـ على مناقشاتهم التي سيذكرها النص في الأقسام اللاحقة من السورة الكريمة.
وبهذا ينتهي المقطع الخامس من هذا القسم، ليواجهنا:
المقطع الخامس
يبدأ هذا المقطع (قل اللهم مالك الملك تُؤتي المُلكَ مَن تشاءُ وتنزع المُلك ممَن تشاءُ وتُعزُّ من تشاءُ وتُذلُّ من تشاءُ بيدِكَ الخير إنّك على كل شيءٍ قدير * تُولجُ الليل في النّهار وتُولِجُ النهارَ في الليل وتُخرجُ الحي من الميّت وتُخرج الميّت من الحي وترزُق من تشاء بغير حساب * لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومَن يفعَل ذلك فليس من الله في شيء إلاّ أن تتّقوا منهُم تُقاة ويُحذركُم الله نفسَهُ وإلى الله المصيرُ * قل إن تُخفُوا ما في صُدُوركم أو تُبدُوه يعلمه الله ويعلمُ ما في السماوات وما في الأرْضِ والله على كل شيٍ قدير * يومَ تجدُ كلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ مُحضراً وما عملت من سُوءٍ تودُّ لو أن بينها وبينه أمَداً بعيداً ويُحذِّركُم الله نفسَهُ والله رؤوف بالعِباد * قل إن كُنتم تُحبّون الله فاتّبعُوني يُحببكُمُ الله ويغفِر لكم ذُنُوبكُم والله غفورٌ رحيم * قل أطيعُوا الله والرسول فإن تولَّوا فإنَّ الله لا يُحبُّ الكافرين) [آل عمران: 26 ـ 32]. وبهذا المقطع ينتهي القسم الأول من السورة ليواجهنا القسم الثاني بعد ذلك... لكن ينبغي أن نقف عند هذا المقطع لملاحظة موقعه الهندسي من المقاطع السابقة والمقاطع اللاحقة والهيكل العالم للسورة، فماذا نجد؟.
إن هذا المقطع يتضمن آية (الملك...) ويتضمن مطالبة المؤمنين بألاّ يتخذوا الكافرين أولياء، ويتضمن الإشارة إلى أنه تعالى يعلم ما يبدي البشر وما يخفي في صدره، ويتضمن مطالبة الكتابيين بأن يتبعوا الإسلام إذا كانوا صادقين في محبتهم لله تعالى كما يزعمون.
هذه الموضوعات تتخللها موضوعات ثانوية يوردها النص للفت نظرنا إلى أهميتها من جانب، ويجعلها بمثابة خط هندسي يعكس أثره على المقاطع اللاحقة من السورة من جانب آخر.
______________________________________________________
الصفحة 156
ولنتحدث أولاً عن الموضوعات الرئيسة. فما هو الجديد فيها؟ الجديد هو (آية الملك...)، وهذه الآية هي انعكاس لمقدمة السورة التي استهلت بأنه تعالى (حي قيوم) و(لا إله إلاّ هو)... والإشارة إلى الملك وإتيانه تعالى لمن يشاء وإعزازه من يشاء وإذلاله من يشاء، وقدرته على كل شيء...الخ، أولئك جميعاً تجسيد لقيوميّته تعالى، كما هو واضح، بيد أن ما ينبغي الوقوف عنده هو ختم هذه الآية بعبارة (ويرزق من يشاء بغير حساب)، وسنجد أن هذه العبارة ستنعكس على القسم الثاني من السورة، مثل قوله تعالى بالنسبة إلى مريم ـ عليها السلام ـ في القصة التي سنعرض لها لاحقاً (ويرزق من يشاء بغير حساب) وذلك عندما سألها زكريّا عن الرزق الذي كان يجده عندها.
وأما الموضوع الذي يتضمن بألا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، فيعدّ جديداً دون أدنى شك... لكن هدفنا هو أن نبيّن الموقع الهندسي لهذا الموضوع وصلته بعمارة النص.
إن هدف النص ـ كما كررنا ـ هو تعديل السلوك، وإن المؤمنين يظلون هم الهدف في كل نص، ولذلك نلحظ خصوصية في الأسلوب القرآني هي ربطه دائما بين سلوك المنحرفين الذي يعرض لهم وبين سلوك المؤمنين، أو العكس. والهدف تعديل سلوكهم كما قلنا. ولكن النص لا يصنع ذلك إلاّ من خلال شبكة من الخطوط التي تصل بين (أجزاء السورة). فالنص ـ في الموضوع الأول ـ عرض جملة من ظواهر (قيوميّته)، وهي: (يعز ويذل من يشاء)، وإذا كان الأمر كذلك، حينئذ فإن على المؤمن ألاّ يتجه إلى الكفار الذين وصفهم النص بالأوصاف السابقة: اُتباعاً لمتاع الدنيا، بل ينبغي أن يتعزز بالله تعالى. هنا، ربط النص بين هذا الموضوع (عدم اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياءه) وبين أحد الموضوعات التي طرحها في مقدمة السورة، وهي (إن الله لا يخفى عليه شيء...) حيث عقب على عدم اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء،
______________________________________________________
الصفحة 157
عقّب (إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) فبهذه الفقرة ربط بين مقدمة السورة التي تقول (لا يخفى عليه) وبين سلوك البعض الذي قد يخفي (مودته) للكافرين، وبهذا يكون قد ربَط أساساً بين الموضوع الجديد الذي طرحه وبين مقدمة السورة.
أما الموضوع الأخير لهذا المقطع فإنه يخص الكتابيين حيث طالبهم بأن يتبعوا النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إذا كانوا يزعمون بأنهم يحبّون الله تعالى.
إن علاقة هذا الموضوع بهيكل السورة لا يحتاج إلى تعقيب ما دامت غالبية السورة تنصبّ على الكتابيين، وما دامت هذه المقاطع التي نتحدث عنها ترتبط جميعاً بالكتابيين، إلا أن ما نستهدفه هو: تبيين الأسلوب الذي اتبعه النص لإيجاد الرابطة بين سلوك الكتابيين وبين السلوك السابق الذي طالب المؤمنين فيه بألاّ يتخذوا الكافرين أولياء. الأسلوب الذي اتبعه هو: ظاهرة (الحب) وظاهرة (العلاقات) بين أطراف الحب. فأحد الأطراف هو: المؤمن والكافر حيث طالبه بألا يتخذه ولياً، وأحد الأطراف هو: الكتابي والإسلام، حيث طالبه بأن يتّبع الإسلام إذا كان حبّه هو لله تعالى، وهذا يجرّنا إلى طرف ثالث من العلاقات هو: الكتابي والله تعالى، حيث طالبه بالاتجاه إليه تعالى من خلال الإيمان بالإسلام.
وبهذا تتبيّن مدى جمالية هذا الأسلوب الذي سلكه النص في الربط بين الموضوعات الجديدة والموضوعات الخاصة بالكتابيين.
* * *
المهم، أن النص بهذا المقطع يختم القسم الأول من السورة، ليواجهنا بالقسم الثاني من السورة، وهو قسم خاص يتضمن عنصراً قصصياً ممتعاً، مهّد له النص بالقسم الأول، ليتجه إلى القسم الثاني الذي يتناول القصص التي ترتبط بعلاقات خاصة بالكتابيين. ومما يزيد جمالية هذا الأسلوب هو: اعتماده
______________________________________________________
الصفحة 158
القصة عنصراً لتوضيح الحقائق، حيث نعرف جميعاً بأن القصة هي أشدّ الوسائل التعبيرية إمتاعاً للقارئ.
إذن، لنتجه إلى القسم الآخر من السورة الكريمة:
|