00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 247 الى ص 328 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

من أتاك منا و هذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ.

قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، و لا رغبة عن أرض إلى أرض، و لا التماس دنيا، و ما خرجت إلا حبا لله و لرسوله - فاستحلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما خرجت بغضا لزوجها، و لا عشقا لرجل منا، و ما خرجت إلا رغبة في الإسلام فحلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك فأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) زوجها مهرها و ما أنفق عليها و لم يردها عليه فتزوجها عمر بن الخطاب.

فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يرد من جاءه من الرجال و يحبس من جاءه من النساء إذا امتحن و يعطي أزواجهن مهورهن.

قال: قال الزهري: و لما نزلت هذه الآية و فيها قوله: ﴿وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قريبة[1] بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان و هما على شركهما بمكة، و الأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر - فتزوجها أبو جهم بن حذاقة بن غانم رجل من قومها و هما على شركهما.

و كانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر، و كان طلحة قد هاجر و هي بمكة عند قومها كافرة ثم تزوجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية و كانت ممن فرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من نساء الكفار فحبسها و زوجها خالدا.

و أمية بنت بشر كانت عند الثابت بن الدحداحة ففرت منه و هو يومئذ كافر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سهل بن حنيف فولدت عبد الله بن سهل.

قال: قال الشعبي: و كانت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت و لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في المدينة و أقام أبو العاص مشركا بمكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردها عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

قال: و قال الجبائي: لم يدخل في شرط صلح الحديبية إلا رد الرجال دون النساء و لم

 

 

 يجز للنساء ذكر، و إن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة مهاجرة من مكة فجاء أخواها إلى المدينة - فسألا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ردها عليهما فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أن الشرط بيننا في الرجال - لا في النساء فلم يردها عليهما. أقول: و هذه المعاني مروية في روايات أخرى من طرق أهل السنة أورد كثيرا منها السيوطي في الدر المنثور، و روى امتحان المهاجرات كما تقدم ثم عدم ردهن على الكفار و إعطاءهم المهر القمي في تفسيره.

 و فيه، و قال الزهري :فكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، و فاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت و ارتدت، و بروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، و عبدة بنت عبد العزى بن فضلة و زوجها عمرو بن عبد ود، و هند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، و كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر فأعطاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مهور نسائهم من الغنيمة.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا ينبغي نكاح أهل الكتاب قلت: جعلت فداك و أين تحريمه؟ قال: قوله: ﴿وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ.

 أقول: و الرواية مبنية على عموم الإمساك بالعصم للنكاح الدائم إحداثا و إبقاء.

 و فيه، بإسناده أيضا إلى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) : عن قول الله تعالى: ﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقال: هذه منسوخة بقوله: ﴿وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ. أقول: و لعل المراد بنسخ آية الإمساك بالعصم لآية حلية محصنات أهل الكتاب اختصاص آية الممتحنة بالنكاح الدائم و تخصص آية المائدة بالنسبة إلى النكاح الدائم بها، و اختصاص ما تدل عليه من الحلية بالنكاح المنقطع، و ليس المراد به النسخ المصطلح كيف؟ و آية الممتحنة سابقة نزولا على آية المائدة و لا وجه لنسخ السابق للاحق. على أن آية المائدة مسوقة سوق الامتنان، و ما هذا شأنه يأبى النسخ.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ:

و روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : أنه منسوخ بقوله: ﴿وَ لاَ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ و بقوله:

 

 

﴿وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ. أقول: و يضعف الرواية مضافا إلى ضعف راويها أن قوله: ﴿وَ لاَ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكَاتِ إلخ، إنما يشمل المشركات من الوثنيين، و قوله: ﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ إلخ، يفيد حلية نكاح أهل الكتاب فلا تدافع بين الآيتين حتى تنسخ إحداهما الأخرى، و قد تقدم آنفا الكلام في نسخ آية الممتحنة لقوله: ﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ إلخ، و قد تقدم في تفسير قوله:

﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: المائدة: ٥، ما ينفع في هذا المقام.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : ﴿وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ فلحقن بالكفار من أهل عهدكم فاسألوهم صداقها، و إن لحقن بكم من نسائهم شي‏ء فأعطوهم صداقها ذلكم حكم الله يحكم بينكم.

 أقول: ظاهره تفسير ﴿شَيْ‏ءٌ بالمرأة.

 و في الكافي، بإسناده عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ إلى آخر الآية.

قالت هند: أما الولد فقد ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا، و قالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام و كانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله ما ذاك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟ قال: لا تلطمن خدا، و لا تخمشن وجها، و لا تنتفن شعرا، و لا تشققن جيبا، و لا تسودن ثوبا، و لا تدعين بويل، فبايعهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذا.

فقالت: يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال: أدخلن أيديكن في هذا الماء. أقول: و الروايات مستفيضة في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنة.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿وَ لاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: هو ما فرض الله عليهن من الصلاة و الزكاة و ما أمرهن به من خير.

 أقول: و الرواية تشهد بأن ما ورد في الروايات من تفسير المعروف بمثل قوله: لا تلطمن خدا إلخ، و في بعضها أن لا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

 

 

(٦١) (سورة الصف مدنية و هي أربع عشرة آية) (١٤)

[سورة الصف (٦١): الآیات ١ الی ٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ١ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ٣ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ٤ وَ إِذْ قَالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ٥ وَ إِذْ قَالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ٦ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى‏ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ٧ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ ٨ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ ٩

 

 

 (بيان)

السورة ترغب المؤمنين و تحرضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله و يقاتلوا أعداء دينه، و تنبئهم أن هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفار من أهل الكتاب أن يطفئوه بأفواههم و الله متمه و لو كره الكافرون، و مظهره على الدين كله و لو كره المشركون.

و أن هذا النبي الذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى و دين الحق، و بشر به عيسى بن مريم (عليه السلام) بني إسرائيل.

فعلى المؤمنين أن يشدوا العزم على طاعته و امتثال ما يأمرهم به من الجهاد و نصرة الله في دينه حتى يسعدهم الله في آخرتهم و ينصرهم و يفتح لهم في دنياهم و يؤيدهم على أعدائهم.

و عليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون و لا ينكصوا فيما يعدون فإن ذلك يستوجب مقتا من الله تعالى و إيذاء الرسول و فيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسى (عليه السلام) لما آذوه و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ تقدم تفسيره، و افتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون و إنذارهم بمقت الله و إزاغته قلوب الفاسقين.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴿لِمَ مخفف لما، و «ما» استفهامية، و اللام للتعليل، و الكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون و لا يصغي إلى قول بعض المفسرين: أن المراد بالذين آمنوا هم المنافقون و التوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم.

و ذلك لوفور الآيات المتضمنة لتوبيخهم و معاتبتهم و خاصة في الآيات النازلة في الغزوات و ما يلحق بها كأحد و الأحزاب و حنين و صلح الحديبية و تبوك و الإنفاق في سبيل الله و غير ذلك، و الصالحون من هؤلاء المؤمنين إنما صلحوا نفسا و جلوا قدرا بالتربية الإلهية التي تتضمنها أمثال هذه التوبيخات و العتابات المتوجهة إليهم تدريجا و لم يتصفوا بذلك من عند أنفسهم.

و مورد التوبيخ و إن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلف الفعل عن القول و خلف

 

 

 الوعد و نقض العهد و هو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن و هو النفاق لكن سياق الآيات و فيها قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا و ما سيأتي من قوله:

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏َ تِجَارَةٍ إلخ، و غير ذلك يفيد أن متعلق التوبيخ كان هو تخلف بعضهم عما وعده من الثبات في القتال و عدم الانهزام و الفرار أو تثاقلهم أو تخلفهم عن الخروج أو عدم الإنفاق في تجهز أنفسهم أو تجهيز غيرهم.

قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ المقت‏ البغض الشديد، و الآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الإنسان أن يقول ما لا يفعله لأنه من النفاق، و أن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأول من النفاق و الثاني من ضعف الإرادة و وهن العزم و هو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانية فإن الله بنى سعادة النفس الإنسانية على فعل الخير و اكتساب الحسنة من طريق الاختيار و مفتاحه العزم و الإرادة، و لا تأثير إلا للراسخ من العزم و الإرادة، و تخلف الفعل عن القول معلول وهن العزم و ضعف الإرادة و لا يرجى للإنسان مع ذلك خير و لا سعادة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ الصف‏ جعل الأشياء على خط مستو كالناس و الأشجار. كذا قاله الراغب، و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل و لذا لم يجمع، و هو حال من ضمير الفاعل في ﴿يُقَاتِلُونَ، و المعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافين.

و البنيان‏ هو البناء، و المرصوص‏ من الرصاص، و المراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.

و الآية تعلل خصوص المورد و هو أن يعدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا بالالتزام كما أن الآية السابقة تعلل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، و ذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم و لا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا معركة القتال.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى‏َ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ إلخ، في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسى (عليه السلام) و لجاجهم حتى آل إلى إزاغة الله قلوبهم. و في ذلك نهي التزامي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيئول أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ

 

 

 يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً: الأحزاب: ٥٧.

و الآية بما فيها من النهي الالتزامي في معنى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏َ فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً: الأحزاب: ٧٠.

و سياق الآيتين و ذكر تبرئة موسى (عليه السلام) يدل على أن المراد بإيذائه بما برأه الله منه ليس معصيتهم لأوامره و خروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنهم وقعوا فيه (عليه السلام) و قالوا فيه ما فيه عار و شين فتأذى فبرأه الله مما قالوا و نسبوا إليه، و قوله في الآية التالية: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يؤيد هذا الذي ذكرناه.

و يؤيد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقول أو فعل في قوله:

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى‏َ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ إلى أن قال﴿وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إلى أن قال ﴿وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيماً: الأحزاب: ٥٣.

فتحصل أن في قوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى‏َ لِقَوْمِهِ إلخ، تلويحا إلى النهي عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقول أو فعل على علم بذلك كما أن في ذيل الآية تخويفا و إنذارا أنه فسق ربما أدى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبس به.

و قوله: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ الزيغ‏ الميل عن الاستقامة و لازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل.

و إزاغته تعالى إمساك رحمته و قطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ حيث علل الإزاغة بعدم الهداية، و هي إزاغة على سبيل المجازاة و تثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦، و ليس بإزاغة بدئية و إضلال ابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى.

و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: ﴿أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ الإزاغة عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الإيمان، و أيضا كون المراد

 

 

به الإزاغة عن الإيمان يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد صاروا كفارا فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الإيمان.

وجه الفساد أن قوله: لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحدا عن الإيمان ممنوع بإطلاقه فإن الملاك فيه لزوم الظلم و إنما يلزم فيما كان من الإزاغة و الإضلال ابتدائيا و أما ما كان على سبيل المجازاة و حقيقته إمساك الرحمة و قطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه و إعراضه عن الرحمة و الهداية فلا دليل على منعه لا عقلا و لا نقلا.

و أما قوله: إن الكلام يخرج بذلك عن الفائدة فيدفعه أن الذي ينسب من الزيغ إلى العبد و يحصل معه الكفر تحقق ما له بالفسق و الذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد و الطبع عليه به فزيغ العبد عن الإيمان بسبب فسقه و حصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ و الكفر في قلبه على سبيل المجازاة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ تقدم في صدر الكلام أن هذه الآية و التي قبلها و الآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره الكافرون من أهل الكتاب، و ما جاء به من الدين نور ساطع من عند الله يريد المشركون ليطفئوه بأفواههم و الله متم نوره و لو كره المشركون.

فعلى المؤمنين أن لا يؤذوه (ص) و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم، و أن ينصروه و يجاهدوا في سبيل ربهم لإحياء دينه و نشر كلمته.

و من ذلك يعلم أن قوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إلخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رسولا مبشرا به من قبل أرسله الله بالهدى و دين الحق و دينه نوره تعالى يهتدي به الناس.

و الذي حكاه تعالى عن عيسى بن مريم (عليه السلام) أعني قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ ملخص دعوته و قد آذن بأصل دعوته بقوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ فأشار إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ إلخ.

 

 

 فقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة و لا تناقض شريعتها بل تصدقها و لم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا و النسخ بيان انتهاء أمد الحكم و ليس بإبطال، و لذا جمع (عليه السلام) بين تصديق التوراة و نسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله: ﴿وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ : آل عمران: ٥٠، و لم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ: الزخرف: ٦٣.

و قوله: ﴿وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته (عليه السلام) و قد أشار إلى الشطر الأول بقوله: ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ.

و من المعلوم أن البشرى‏ هي الخبر الذي يسر المبشر و يفرحه و لا يكون إلا بشي‏ء من الخير يوافيه و يعود إليه، و الخير المترقب من بعثة النبي و دعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم و عقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، و البشرى بالنبي بعد النبي و بالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة و استقرارها و الدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور و تقضي الأزمنة و اختلاف الأيام و الليالي إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة و الشرائع المعدلة لأعمال المجتمع و أشمل لسعادة الإنسان في دنياه و عقباه.

و بهذا البيان يظهر أن معنى قوله (عليه السلام) : ﴿وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي إلخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أرقى و أكمل مما تضمنته التوراة و بعث به عيسى (عليه السلام) و هو (عليه السلام) متوسط رابط بين الدعوتين.

و يعود معنى كلامه: ﴿إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً إلخ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة و منهاجها و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم و هي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.

و هو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة و خاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم و يعود إليه كل من المعارف الحقيقية و قد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.

و كذا الشرائع و القوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق و جل من أعمال الإنسان

 

 

 الفردية و الاجتماعية إلا عدلته و حدت حدوده و قررته على أساس التوحيد و وجهته إلى غرض السعادة.

و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاَلَ اَلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ: الأعراف: ١٥٧، و آيات أخرى يصف القرآن.

و الآية أعني قوله: ﴿وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي و إن كانت مصرحة بالبشارة لكنها لا تدل على كونها مذكورة في كتابه (عليه السلام) غير أن آية الأعراف المنقولة آنفا:

﴿يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ و كذا قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ الآية: الفتح: ٢٩، يدلان على ذلك.

و قوله: ﴿اِسْمُهُ أَحْمَدُ دلالة السياق على تعبير عيسى (عليه السلام) عنه (ص) بأحمد و على كونه اسما له يعرف به عند الناس كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها.

و يدل عليه قول حسان:

صلى الإله و من يحف بعرشه *** و الطيبون على المبارك أحمد

و من أشعار أبي طالب قوله:

و قالوا لأحمد أنت امرؤ *** خلوف اللسان ضعيف السبب

 ألا إن أحمد قد جاءهم *** بحق و لم يأتهم بالكذب‏

و قوله مخاطبا للعباس و حمزة و جعفر و علي يوصيهم بنصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) :

كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت *** في نصر أحمد دون الناس أتراسا

 و من شعره فيه (ص) و قد سماه باسمه الآخر محمد:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيا كموسى خط في أول الكتب

و يستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به (ص) في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك.

و يؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و فيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام و غيره و قد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة

 

 

 به (ص) و ذكره في التوراة و الإنجيل فتلقوه بالقبول و لم يكذبوه و لا أظهروا فيه شيئا من الشك و الترديد.

و أما خلو الأناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن و هو آية معجزة باقية في غنى عن تصديقها، و قد تقدم البحث عن سندها و اعتبارها في الجزء الثالث من الكتاب.

و قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ضمير «جاء» لأحمد (ص)، و ضمير ﴿جَاءَهُمْ لبني إسرائيل أو لهم و لغيرهم، و المراد بالبينات البشارة و معجزة القرآن و سائر آيات النبوة.

و المعنى: فلما جاء أحمد المبشر به بني إسرائيل أو أتاهم و غيرهم بالآيات البينة التي منها بشارة عيسى (عليه السلام) قالوا هذا سحر مبين، و قرئ هذا ساحر مبين.

و قيل: ضمير «جاء» لعيسى (عليه السلام) ، و السياق لا يلائمه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏َ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى‏َ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ إلخ، الاستفهام للإنكار و هو رد لقولهم: ﴿هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ فإن معناه أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليس برسول و أن ما بلغه من دين الله ليس منه تعالى.

و المراد بالإسلام الدين الذي يدعو إليه رسول الله بما أنه تسليم لله فيما يريده و يأمر به من اعتقاد و عمل، و لا ريب أن مقتضى ربوبيته و ألوهيته تعالى تسليم عباده له تسليما مطلقا فلا ريب أن الدين الذي هو الإسلام لله دينه الحق الذي يجب أن يدان به فدعوى أنه باطل ليس من الله افتراء على الله.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ هُوَ يُدْعى‏َ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ يتضمن الحجة على كون قولهم:

﴿هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ افتراء على الله.

و الافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلما و ينهى عنه الشرع و يعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممن افترى على الله الكذب.

و المعنى: و لا أظلم ممن افترى على الله الكذب بنفي نسبة دين الله إليه و الحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي لا يتضمن إلا التسليم لله فيما أراد و لا ريب أنه من الله، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

 

 

 قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ إلخ، إطفاء النور إبطاله و إذهاب شروقه، و إطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.

و قد وقعت الآية في سورة التوبة و فيها: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ قال الراغب: قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ و الفرق بين الموضعين أن في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا يقصدون إطفاء نور الله، و في قوله:

﴿لِيُطْفِؤُا يقصدون أمرا يتوصلون به إلى إطفاء نور الله. انتهى و محصله أن متعلق الإرادة في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ نفس الإطفاء، و في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ السبب الموصل إلى الإطفاء و هو النفخ بالأفواه و الإطفاء غرض و غاية.

و الآية و ما يتلوها كالشارح لمعنى ما تقدم في الآية السابقة من ظلمهم برمي الدعوة بالسحر و عدم هدايته تعالى لهم بما أنهم ظالمون، و المحصل أنهم يريدون إطفاء نور الله بنفخة أفواههم لكن الله لا يهديهم إلى مقصدهم بل يتم نوره و يظهر دينه على الدين كله.

فقوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ أي بالنفخ بالأفواه كما يطفأ الشمعة بالنفخة كناية عن أنهم زعموا أن نور الله و هو دينه نور ضعيف كنور الشمعة يطفأ بأدنى نفخة فرموه بالسحر و انقطاع نسبته إلى الله.

و قد أخطئوا في مزعمتهم فهو نور الله الذي لا يطفأ و قد شاء أن يتمه و لو كره الكافرون و الله بالغ أمره، و هو قوله: ﴿وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكَافِرُونَ.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏َ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ الإضافة في ﴿دِينِ اَلْحَقِّ بيانية كما قيل، و الظاهر أنها في الأصل إضافة لامية بعناية لطيفة هي أن لكل من الحق و الباطل دينا يقتضيه و يختص به، و قد ارتضى الله تعالى الدين الذي للحق و هو الحق تعالى فأرسل رسوله.

و إظهار شي‏ء على غيره نصرته و تغليبه عليه، و المراد بالدين كله كل سبيل مسلوك غير سبيل الله الذي هو الإسلام و الآية في مقام تعليل قوله في الآية السابقة: ﴿وَ اَللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، و المعنى: و الله متم نوره لأنه هو الذي أرسل رسوله بنوره الذي هو الهدى و دين الحق ليجعله غالبا على جميع الأديان و لو كره المشركون من أهل الأوثان.

و يستفاد من الآيتين أن دين الحق نور الله في الأرض كما يستفاد ذلك من قوله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الآية: النور: ٣٥، و قد تقدم في تفسير الآية.

 

 

 (بحث روائي)

في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ قال: يصطفون كالبنيان الذي لا يزول.

و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ مُوسى‏َ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ روي في قصة قارون أنه دس إليه امرأة و زعم أنه زنى بها، و رموه بقتل هارون.

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ الآية قال: و سأل بعض اليهود لعنهم الله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لم سميت أحمد و محمدا و بشيرا و نذيرا؟ فقال: أما محمد فإني في الأرض محمود، و أما أحمد فإني في السماء أحمد مني في الأرض، و أما البشير فأبشر من أطاع الله بالجنة، و أما النذير فأنذر من عصى الله بالنار.

 و في الدر المنثور، في الآية أخرج ابن مردويه عن العرياض بن سارية سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إني عبد الله في أم الكتاب و خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته وسوف أنبئكم تأويل ذلك، أنا دعوة إبراهيم، و بشارة عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام.

و في العيون، بإسناده إلى صفوان بن يحيى صاحب السابري قال: سألني أبو قرة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك، قال: أدخله علي فلما دخل عليه قبل بساطه و قال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا.

ثم قال: أصلحك الله ما تقول في فرقة ادعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهودا من غيرهم؟ قال: لا شي‏ء لهم.

قال: فإنا نحن ادعينا أن عيسى روح الله و كلمته فوافقنا على ذلك المسلمون، و ادعى المسلمون أن محمدا نبي فلم نتابعهم عليه، و ما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه.

فقال أبو الحسن (عليه السلام) ما اسمك؟ قال: يوحنا، قال: يا يوحنا إنا آمنا بعيسى روح الله و كلمته الذي كان يؤمن بمحمد و يبشر به و يقر على نفسه أنه عبد مربوب فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله و كلمته ليس هو الذي آمن بمحمد و بشر به و لا هو

 

 

 الذي أقر لله بالعبودية فنحن منه براء فأين اجتمعنا؟ فقام و قال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس.

 أقول: كأنه يريد بقوله: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس، أن دخوله (عليه السلام) لم يفده فائدة حيث لم ينجح ما أتى به من الحجة.

 و في كمال الدين، بإسناده إلى يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) خمس مائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبي و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (عليه السلام) ، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال: و لا يكون إلا و فيها عالم.

 أقول: المراد بالعالم الإمام الذي هو الحجة، و هناك روايات واردة في قوله تعالى:

﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، و قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ اَلْحَقِّ تذكر أن النور و الهدى و دين الحق ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و هي من الجري و التطبيق أو من البطن و ليست بمفسرة، و عد الفصل بين المسيح و بين محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) خمس مائة عام يخالف ما عليه مشهور التاريخ لكن المحققين ذكروا أن في التاريخ الميلاد اختلالا و قد مرت إشارة ما إلى ذلك في الجزء الثالث من الكتاب.

[سورة الصف (٦١): الآیات ١٠ الی ١٤]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ١٠ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ١١ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ١٢ وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ

 

 

اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اَللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اَللَّهِ قَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلى‏ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ١٤

(بيان)

دعوة للمؤمنين إلى الإيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيل الله و وعد جميل بالمغفرة و الجنة في الآخرة و بالنصر و الفتح في الدنيا، و دعوة لهم إلى أن يثبتوا على نصرهم لله و وعد جميل بالتأييد.

و المعنيان هما الغرض الأقصى في السورة و الآيات السابقة كالتوطئة و التمهيد بالنسبة إليهما.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏َ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ الاستفهام للعرض و هو في معنى الأمر.

و التجارة على ما ذكره الراغب التصرف في رأس المال طلبا للربح، و لا يوجد في كلام العرب تاء بعده جيم إلا هذه اللفظة.

فقد أخذ الإيمان و الجهاد في الآية تجارة رأس مالها النفس و ربحها النجاة من عذاب أليم، و الآية في معنى قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ إلى أن قال ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ: التوبة: ١١١.

و قد فخم تعالى أمر هذه التجارة حيث قال: ﴿عَلى‏َ تِجَارَةٍ أي تجارة جليلة القدر عظيمة الشأن، و جعل الربح الحاصل منها النجاة من عذاب أليم لا يقدر قدره.

و مصداق هذه النجاة الموعودة المغفرة و الجنة، و لذا بدل ثانيا النجاة من العذاب من قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ إلخ، و أما النصر و الفتح الموعودان فهما خارجان عن النجاة الموعودة، و لذا فصلهما عن المغفرة و الجنة فقال: ﴿وَ أُخْرى‏َ تُحِبُّونَهَا

 

 

 نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ فلا تغفل.

قوله تعالى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ إلخ، استئناف بياني يفسر التجارة المعروضة عليهم كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ فقيل:

﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ إلخ، و قد أخذ الإيمان بالرسول مع الإيمان بالله للدلالة على وجوب طاعته فيما أمر به و إلا فالإيمان لا يعد إيمانا بالله إلا مع الإيمان برسالة الرسول قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ إلى أن قال ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا: النساء: ١٥١.

و قوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد خير لكم إن كنتم من أهل العلم و أما الجهلة فلا يعتد بأعمالهم.

و قيل: المراد تعلمون خيرية ذلك إن كنتم من أهل العلم و الفقه.

قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إلخ، جواب للشرط المقدر المفهوم من الآية السابقة أي إن تؤمنوا بالله و رسوله و تجاهدوا في سبيله يغفر لكم، إلخ.

و قد أطلقت الذنوب المتعلقة بها المغفرة فالمغفور جميع الذنوب و الاعتبار يساعده إذ هذه المغفرة مقدمة الدخول في جنة الخلد و لا معنى لدخولها مع بقاء بعض الذنوب على حاله، و لعله للإشارة إلى هذه النكتة عقبها بقوله: ﴿وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي جنات ثبات و استقرار فكونها محل ثبات و موضع قرار يلوح أن المغفرة تتعلق بجميع الذنوب.

مضافا إلى ما فيه من مقابلة النفس المبذولة و هي متاع قليل معجل بجنات عدن التي هي خالدة فتطيب بذلك نفس المؤمن و تقوى إرادته لبذل النفس و تضحيتها و اختيار البقاء على الفناء.

ثم زاد في تأكيد ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ.

قوله تعالى: ﴿وَ أُخْرى‏َ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ إلخ، عطف على قوله:

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ إلخ، و ﴿أُخْرى‏َ وصف قائم مقام الموصوف و هو خبر لمبتدء محذوف، و قوله: ﴿نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ بيان لأخرى، و التقدير و لكم نعمة أو خصلة أخرى تحبونها و هي نصر من الله و فتح قريب عاجل.

 

 

 و قوله: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ معطوف على الأمر المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل:

«قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم» إلخ، و بشر المؤمنين.

و تحاذي هذه البشرى ما في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ إلى أن قال ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ: التوبة: ١١١، و به يظهر أن الذي أمر أن يبشروا به مجموع ما يؤتيهم الله من الأجر في الآخرة و الدنيا لا خصوص النصر و الفتح.

هذا كله ما يعطيه السياق في معنى الآية و إعراب أجزائها، و قد ذكر فيها أمور أخرى لا يساعد عليها السياق تلك المساعدة أغمضنا عن ذكرها، و احتمل أن يكون قوله: ﴿وَ بَشِّرِ إلخ استئنافا.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اَللَّهِ إلخ، أي اتسموا بهذه السمة و دوموا و اثبتوا عليها فالآية في معنى الترقي بالنسبة إلى قوله السابق: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏َ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ و مآل المعنى: اتجروا بأنفسكم و أموالكم فانصروا الله بالإيمان و الجهاد في سبيله و دوموا و اثبتوا على نصره.

و المراد بنصرتهم لله أن ينصروا نبيه في سلوك السبيل الذي يسلكه إلى الله على بصيرة كما قال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏َ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي: يوسف: ١٠٨.

و الدليل على هذا المعنى تنظيره تعالى قوله: ﴿كُونُوا أَنْصَارَ اَللَّهِ بقوله بعده: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اَللَّهِ قَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ فكون الحواريين أنصار الله معناه كونهم أنصارا لعيسى بن مريم (عليه السلام) في سلوكه سبيل الله و توجهه إلى الله و هو التوحيد و إخلاص العبادة لله سبحانه فمحاذاة قولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ لقوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اَللَّهِ و مطابقته له تقتضي اتحاد معنى الكلمتين بحسب المراد فكون هؤلاء المخاطبين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اَللَّهِ أنصارا لله معناه كونهم أنصارا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الحق بالجهاد، و هو الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و طاعته فيما يأمر و ينهى عن قول جازم و عمل صادق كما هو مؤدى سياق آيات السورة.

و قوله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلى‏َ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ إشارة إلى ما جرى عليه و انتهى إليه أمر استنصار عيسى

 

 

 و تلبية الحواريين حيث تفرق الناس إلى طائفة مؤمنة و أخرى كافرة فأيد الله المؤمنين على عدوهم و هم الكفار فأصبحوا ظاهرين بعد ما كانوا مستخفين مضطهدين.

و فيه تلويح إلى أن أمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يجري فيهم ما جرى في أمة عيسى (عليه السلام) تؤمن منهم طائفة و تكفر طائفة فإن أجاب المؤمنون استنصاره - و قد قام هو تعالى مقامه في الاستنصار إعظاما لأمره و إعزازا له - أيدهم الله على عدوهم فيصبحون ظاهرين كما ظهر أنصار عيسى و المؤمنون به.

و قد أشار تعالى إلى هذه القصة في آخر قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران حيث قال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏َ مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اَللَّهِ قَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ: آل عمران: ٥٢، إلى تمام ست آيات، و بالتدبر فيها يتضح معنى الآية المبحوث عنها.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فقالوا: لو نعلم ما هي لنبذلن فيه الأموال و الأنفس و الأولاد، فقال الله: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ إلى قوله ﴿ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ.

 أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ أُخْرىَ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اَللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ يعني في الدنيا بفتح القائم (عليه السلام) ، و أيضا قال: فتح مكة.

 في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و لم يخل أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه و متعلم على سبيل نجاة أولئك هم الأقلون عددا، و قد بين الله ذلك من أمم الأنبياء، و جعلهم مثلا لمن تأخر مثل قوله في حواريي عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل:

﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اَللَّهِ قَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اَللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يعني مسلمون لأهل الفضل فضلهم و لا يستكبرون عن أمر ربهم فما أجابه منهم إلا الحواريون. أقول: الرواية و إن وردت في تفسير آية آل عمران لكنها مفيدة فيما نحن فيه.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) للنفر الذين لاقوه بالعقبة: أخرجوا إلى اثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم.

(٢) (سورة الجمعة مدنية و هي إحدى عشرة آية) (١١)

[سورة الجمعة (٦٢): الآیات ١ الی ٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ اَلْمَلِكِ اَلْقُدُّوسِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ ١ هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢ وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٣ ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ ٤ مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ٥ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٦ وَ لاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٧ قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٨

 

 

 (بيان)

غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة و القيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها و الاهتمام بأمرها صلاح أخراهم و دنياهم، و قد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه و الثناء عليه بما من على قوم أميين برسول منهم أمي يتلو عليهم آياته و يزكيهم بصالحات الأعمال و الزاكيات من الأخلاق و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيحملهم كتاب الله و معارف دينه أحسن التحميل هم و من يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل، و ليحذروا أن يكونوا كاليهود حملوا التوراة ثم لم يحملوا معارفها و أحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفارا.

ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع و السعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، و قرعهم على ترك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائما يخطب و الانفضاض و الانسلال إلى التجارة و اللهو، و ذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من معارف كتاب الله و أحكام، و السورة مدنية.

قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ اَلْمَلِكِ اَلْقُدُّوسِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ التسبيح‏ تنزيه الشي‏ء و نسبته إلى الطهارة و النزاهة من العيوب و النقائص، و التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، و الملك‏ هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع، و القدوس‏ مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و العزيز هو الذي لا يغلبه غالب، و الحكيم‏ هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.

و في الآية توطئة و تمهيد برهاني لما يتضمنه قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ إلخ، من بعثة الرسول لتكميل الناس و إسعادهم و هدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.

و ذلك أنه تعالى يسبحه و ينزهه الموجودات السماوية و الأرضية بما عندهم من النقص الذي هو متممه و الحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا و هو المرجو في تمامها و قضائها فهو المسبح المنزه عن كل نقص و حاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقه بما شاء، و في نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟ و هو ملك له أن يحكم في أهل مملكته و عليهم أن يطيعوه.

و إذا حكم و شرع بينهم دينا لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم و نقص فيه يتممه بعبادتهم لأنه قدوس منزه عن كل نقص و حاجة.

 

 

 ثم إذا حكم و شرع و بلغه إياهم عن غنى منه و دعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته و تمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.

ثم إن الذي حكم و شرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغي لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة و لا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم و خير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم و أخراهم.

و بالجملة فتشريعه الدين و إنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته، و يزكيهم و يعلمهم من منه تعالى و فضل كما قال: ﴿هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ إلخ، الأميون‏ جمع أمي و هو الذي لا يقرأ و لا يكتب، و المراد بهم كما قيل العرب لقلة من كان منهم يقرأ و يكتب و قد كان الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم أي من جنسهم و هو غير كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم و كان مرسلا إلى الناس كافة.

و احتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود على ما حكى الله عنهم : ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ: آل عمران: ٧٥.

و فيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ إلخ، فإنه (ص) لم يخص غير العرب و غير أهل الكتاب بشي‏ء من الدعوة لم يلقه إليهم.

و احتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.

و فيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير ﴿يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ راجعا إلى المهاجرين و من أسلم من أهل مكة بعد الفتح و أخلافهم و هو بعيد من مذاق القرآن.

و لا منافاة بين كونه (ص) من الأميين مبعوثا فيهم و بين كونه مبعوثا إليهم و إلى غيرهم و هو ظاهر، و تلاوته عليهم آياته و تزكيته و تعليمه لهم الكتاب و الحكمة لنزوله بلغتهم و هو أول مراحل دعوته و لذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ (ص) يدعو اليهود و النصارى و المجوس و كاتب العظماء و الملوك.

و كذا دعوة إبراهيم و إسماعيل (عليه السلام) على ما حكى الله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَ اِجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ إلى أن قال ﴿رَبَّنَا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ: البقرة: ١٢٩، تشمل جميع آل

 

 

 إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة و غيرهم، و لا ينافي كونه (ص) مبعوثا إليهم و إلى غيرهم.

و قوله: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ أي آيات كتابه مع كونه أميا. صفة للرسول.

و قوله: ﴿وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير و البركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحا بتعويدهم الأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم و آخرتهم يعيشون سعداء و يموتون سعداء.

و تعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته و تفسير ما أشكل من ذلك، و يقابله تعليم الحكمة و هي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن، و التعبير عن القرآن تارة بالآيات و تارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها كما قيل .

و قد قدم التزكية هاهنا على تعليم الكتاب و الحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) لأن هذه الآية تصف تربيته (ص) لمؤمني أمته، و التزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة و المعارف الحقيقية و أما ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) فإنها دعاء و سؤال أن يتحقق في ذريته هذه الزكاة و العلم بالكتاب و الحكمة، و العلوم و المعارف أقدم مرتبة و أرفع درجة في مرحلة التحقق و الاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال و الأخلاق.

و قوله: ﴿وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴿إِنْ مخففة من الثقيلة و المراد أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) في ضلال مبين، و الآية تحميد بعد تسبيح و مسوقة للامتنان كما سيأتي.

قوله تعالى: ﴿وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ عطف على الأميين و ضمير ﴿مِنْهُمْ راجع إليهم و «من» للتبعيض و المعنى: بعث في الأميين و في آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد و هو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا يلغو و لا يجازف في فعله.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ الإشارة بذلك إلى بعث الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد فخم أمره بالإشارة البعيدة فهو (ص) المخصوص بالفضل، و المعنى: ذلك البعث و كونه يتلو آيات الله و يزكي الناس و يعلمهم الكتاب و الحكمة من فضل الله و عطائه يعطيه من تعلقت به مشيته و قد شاء أن يعطيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و الله ذو

 

 

 الفضل العظيم كذا قال المفسرون.

و من الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل و المرسل إليهم، و المعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء و قد شاء أن يخص بهذا الفضل محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فاختاره رسولا، و أمته فاختارهم لذلك فجعله منهم و أرسله إليهم.

و الآية و الآيتان قبلها أعني قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ إلى قوله ﴿اَلْعَظِيمِ مسوقة سوق الامتنان.

قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً إلخ، قال الراغب: السفر بالفتح فالسكون كشف الغطاء و يختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس و الخمار عن الوجه إلى أن قال و السفر بالكسر فالسكون الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى: ﴿كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً انتهى.

و المراد بتحميل التوراة تعليمها، و المراد بحملها العمل بها على ما يؤيده السياق و يشهد به ما في ذيل الآية من قوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ، و المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام) فعلمهم ما فيها من المعارف و الشرائع فتركوها و لم يعملوا بها فحملوها و لم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا و هو لا يعرف ما فيها من المعارف و الحقائق فلا يبقى له من حملها إلا التعب بتحمل ثقلها.

و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على المسلمين من بعث نبي أمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى و من حضيض الجهل إلى أوج العلم و الحكمة و سيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب و توبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض و الانسلال إلى اللهو و التجارة و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يخطبهم يوم الجمعة و هو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينية و يكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها و لا نزلوها منزلتها.

فاعترض الله سبحانه بهذا المثل و ذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا و لا ينتفع بما فيها من المعرفة و الحكمة، فعليهم أن يهتموا بأمر الدين و يراقبوا الله في حركاتهم و سكناتهم و يعظموا رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يوقروه و لا يستهينوا

 

 

 بما جاء به، و ليحذروا أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدهم الله جهلة ظالمين و شبههم بالحمار يحمل أسفارا.

و في روح المعاني،: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة و على السنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل:

هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها و علمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار. انتهى.

و أنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم أولياء الله و أحباؤه، و قد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله: ﴿وَ قَالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصَارى‏َ نَحْنُ أَبْنَاءُ اَللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ: المائدة: ١٨، و قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ: البقرة: ٩٤، و قوله: ﴿وَ قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً: البقرة: ١١١.

و محصل المعنى: قل لليهود مخاطبا لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي يحب لقاء وليه و من أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة و لا حاجب بينه و بينها إلا الموت أحب الموت و تمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة و يتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم و الغم و المحنة و المصيبة.

قيل: و في قوله: ﴿أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير حقيقة.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أخبر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أنهم لا يتمنونه أبدا بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمني الموت.

و قد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم و هو كناية عن الظلم و الفسوق، فمعنى الآية: و لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين و الله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية بينه و بينهم و لا محبة.

و الآيتان في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ

 

 

 بِالظَّالِمِينَ: البقرة: ٩٥.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏َ عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الفاء في قوله: ﴿فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ في معنى جواب الشرط، و فيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردون إلى ربهم الذي خرجوا من زي عبوديته بمظالمهم و عادوه بأعمالهم و هو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها و باطنها فإنه عالم الغيب و الشهادة فينبؤهم بحقيقة أعمالهم و تبعاتها السيئة و هي أنواع العذاب.

ففي الآية إيذانهم أولا: أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم و يلاقيهم، و ثانيا: أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم السيئة، و ثالثا: أنه تعالى لا يخفى عليه شي‏ء من أعمالهم ظاهرها و باطنها و لا يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب و الشهادة.

ففي الآية إشارة أولا: إلى أن الموت حق مقضي كما قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ: الأنبياء: ٣٥، و قال: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ: الواقعة: ٦٠.

و ثانيا: أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.

و ثالثا: أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.

و رابعا: أنه تعالى لا يخفى عليه شي‏ء من أعمالهم و للإشارة إلى ذلك بدل اسم الجلالة من قوله: ﴿عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ: عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في الآية قال: كانوا يكتبون و لكن لم يكن معهم كتاب من عند الله و لا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين.

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال: دخلوا الإسلام بعدهم.

 و في المجمع، و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان بالثريا لنالته رجال من هؤلاء.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من جوامع الحديث منها صحيح البخاري

 

 

و مسلم و الترمذي و النسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و فيه: فوضع يده على رأس سلمان الفارسي و قال: و الذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء. و روي أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لو أن الإيمان بالثريا لناله رجال من أهل فارس. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ قال: الحمار يحمل الكتب و لا يعلم ما فيها و لا يعمل به كذلك بنو إسرائيل قد حملوا مثل الحمار لا يعلمون ما فيه و لا يعملون.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من تكلم يوم الجمعة و الإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا و الذي يقول له: أنصت ليس له جمعة.

 أقول: و فيه تأييد لما قدمناه في وجه اتصال الآية بما قبلها.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هَادُوا الآية، قال: إن في التوراة مكتوب: أولياء الله يتمنون الموت.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا و خربتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب‏

كلام في معنى تعليم الحكمة

لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمرها في هذه النشأة من سنة يستن بها فيما يريد و يكره، و يجري عليها في حركاته و سكناته و بالجملة جميع مساعيه في الحياة.

و تتبع هذه السنة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العام و حقيقة نفسه و ما بينهما من الربط، و يدل على ذلك ما نجد من اختلاف السنن و الطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود و الإنسان الذي هو جزء منها.

فمن لا يرى لما وراء المادة وجودا، و يقصر الوجود في المادي، و ينهي الوجود إلى الاتفاق، و يرى الإنسان مركبا ماديا محدود الحياة بين التولد و الموت لا يرى لنفسه من

 

 

 السعادة إلا سعادة المادة و لا غاية له في أعماله إلا المزايا المادية من مال و ولد و جاه و غير ذلك، و لا بغية له إلا التمتع بأمتعة الدنيا و الظفر بلذائذها المادية أو ما يرجع إليها و تنتهي جميعا إلى الموت الذي هو عنده انحلال للتركيب و بطلان.

و من يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزه عن المادة، و أن وراء الدار دارا و بعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنته و طريقته الطائفة المتقدم ذكرها فيتوخى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى و يختلف صور أعمالهم و غاياتهم و آراؤهم مع الطائفة الأولى.

و يختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيين من البرهميين و البوذيين و غيرهم و المليين من المجوسية و الكليمية و المسيحية و المسلمين فلكل وجهة هو موليها.

و بالجملة الملي يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبدة و يذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادعائه أنه يجب على الإنسان أن يمهد لعالم البقاء و أن يتوجه إلى ربه، و أن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الفانية و غير الملي الخاضع للمادة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كله مما لا ريب فيه.

غير أن الإنسان لما كان بحسب طبعه المادي رهينا للمادة مترددا بين الأسباب الظاهرية فاعلا بها منفعلا عنها لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك، يرى بحسب ما يخيل إليه أن الأصالة لحياته الدنيوية المنقطعة، و أنها و ما تنتهي إليه من المقاصد و المزايا هي الغاية الأخيرة و الغرض الأقصى من وجوده الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.

فالحياة الدنيا هي الحياة و ما عند أهلها من القنية و النعمة و المنية و القوة و العزة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، و ما يعدونه فقرا و نقمة و حرمانا و ضعفا و ذلة و رزية و مصيبة و خسرانا هي هي و بالجملة كل ما تهواه النفس من خير معجل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق و نفع مطلق، و كل ما لا تهواه فهو شر أو ضر.

فمن كان منهم من غير أهل الملة جرى على هذه الآراء و لا خبر عنده عما وراء ذلك، و من كان منهم من أهل الملة جرى عليها عملا و هو معترف بخلافها قولا فلا يزال في تدافع بين قوله و فعله قال تعالى: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا: البقرة: ٢٠.

و الذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد و العمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة

 

 

 الإنسانية التي فطر عليها الإنسان و تثبت عليه خلقته كما قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ: الروم: ٣٠.

و من المعلوم أن الفطرة لا تهتدي علما و لا تميل عملا إلا إلى ما فيه كمالها الواقعي و سعادتها الحقيقية فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ و المعاد و ما يتفرع عليها من الآراء و العقائد الفرعية علوم و آراء حقة لا تتعدى سعادة الإنسان و كذا ما تميل إليه من الأعمال.

و لذا سمى الله تعالى هذا الدين المبني على الفطرة بدين الحق في مواضع من كلامه كقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ اَلْحَقِّ: الصف: ٩. و قال في القرآن المتضمن لدعوته: ﴿يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ: الأحقاف: ٣٠.

و ليس الحق إلا الرأي و الاعتقاد الذي يطابقه الواقع و يلازمه الرشد من غير غي، و هذا هو الحكمة - الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، و في نفعه فلا يعقبه ضرر و قد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله: ﴿وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ: النساء: ١١٣، و وصف كلامه المنزل بها فقال: ﴿وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ: يس: ٢، و عد رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) معلما للحكمة في مواضع من كلامه كقوله: ﴿وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ: الجمعة: ٢.

فالتعليم القرآني الذي تصداه الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) المبين لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة و شأنه بيان ما هو الحق في أصول الاعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود و حقيقة الإنسان الذي هو جزء منه كما تقدمت الإشارة إليه و ما هو الحق في الاعتقادات الفرعية المترتبة على تلك الأصول مما كان مبدأ للأعمال الإنسانية و عناوين لغاياتها و مقاصدها.

فالناس مثلا يرون أن الأصالة لحياتهم المادية حتى قال قائلهم: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا: الجاثية: ٢٤، و القرآن ينبههم بقوله: ﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ: العنكبوت: ٦٤، و يرون أن العلل و الأسباب هي المولدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة و موت و صحة و مرض و غنى و فقر و نعمة و نقمة و رزق و حرمان ﴿بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ: سبأ: ٣٣، و القرآن يذكرهم بقوله:

﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ: الأعراف: ٥٤، و قوله: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ: يوسف: ٦٧،

 

 

 و غير ذلك من آيات الحكمة، و يرون أن لهم الاستقلال في المشية يفعلون ما يشاءون و القرآن يخطئهم بقوله: ﴿وَ مَا تَشَاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ: الإنسان: ٣٠، و يرون أن لهم أن يطيعوا و يعصوا و يهدوا و يهتدوا و القرآن ينبئهم بقوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ: القصص: ٥٦.

و يرون أن لهم قوة و القرآن ينكر ذلك بقوله: ﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: البقرة: ١٦٥.

و يرون أن لهم عزة بمال و بنين و أنصار و القرآن يحكم بخلافه بقوله: ﴿أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: النساء: ١٣٩. و قوله: ﴿وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ: المنافقون: ٨.

و يرون أن القتل في سبيل الله موت و انعدام و القرآن يعده حياة إذ يقول: ﴿وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَ لَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ: البقرة: ١٥٤، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يدعو بها الناس قال: ﴿اُدْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ: النحل: ١٢٥.

و هي علوم و آراء جمة صورت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس و زينة فنبه تعالى لها في كتابه و أمر بتعليمها رسوله و ندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما قال: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ: العصر: ٣، و قال: ﴿يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ مَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ: البقرة: ٢٦٩.

فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم و العمل حديث و يصوغه صوغا جديدا فيحيي حياة لا يتعقبها موت أبدا، و إليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ: الأنفال: ٢٤، و قوله: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا: الأنعام: ١٢٢.

و قد بينا وجه الحكمة في كل من آياتها عند التعرض لتفسيرها على قدر مجال البحث في الكتاب.

و مما تقدم يتبين فساد قول من قال: إن تفسير القرآن تلاوته، و إن التعمق في مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.

 

 

[سورة الجمعة (٦٢): الآیات ٩ الی ١١]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٩ فَإِذَا قُضِيَتِ اَلصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٠ وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجَارَةِ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ١١

(بيان)

تأكيد إيجاب صلاة الجمعة و تحريم البيع عند حضورها و فيها عتاب لمن انفض إلى اللهو و التجارة عند ذلك و استهجان لفعلهم.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ إلخ، المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة الأذان كما في قوله: ﴿وَ إِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاَةِ اِتَّخَذُوهَا هُزُواً وَ لَعِباً: المائدة: ٥٨.

و الجمعة بضمتين أو بالضم فالسكون أحد أيام الأسبوع و كان يسمى أولا يوم العروبة ثم غلب عليه اسم الجمعة، و المراد بالصلاة من يوم الجمعة صلاة الجمعة المشرعة يومها، و السعي‏ هو المشي بالإسراع، و المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله: ﴿وَ لَذِكْرُ اَللَّهِ أَكْبَرُ: العنكبوت: ٤٥، على ما قيل و قيل: المراد به الخطبة قبل الصلاة و قوله: ﴿وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ أمر بتركه، و المراد به على ما يفيده السياق النهي عن الاشتغال بكل عمل يشغل عن صلاة الجمعة سواء كان بيعا أو غيره و إنما علق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة.

 

 

 و المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أذن لصلاة الجمعة يومها فجدوا في المشي إلى الصلاة و اتركوا البيع و كل ما يشغلكم عنها.

و قوله: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حث و تحريض لهم لما أمر به من الصلاة و ترك البيع.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ اَلصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ إلخ، المراد بقضاء الصلاة إقامة صلاة الجمعة، و الانتشار في الأرض التفرق فيها، و ابتغاء فضل الله طلب الرزق نظرا إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة لكن تقدم أن المراد ترك كل ما يشغل عن صلاة الجمعة، و على هذا فابتغاء فضل الله طلب مطلق عطيته في التفرق لطلب رزقه بالبيع و الشرى، و طلب ثوابه بعيادة مريض و السعي في حاجة مسلم و زيارة أخ في الله، و حضور مجلس علم و نحو ذلك.

و قوله: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ أمر واقع بعد الحظر فيفيد الجواز و الإباحة دون الوجوب و كذا قوله: ﴿وَ اِبْتَغُوا، ﴿وَ اُذْكُرُوا.

و قوله: ﴿وَ اُذْكُرُوا اَللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي فيشمل ذكره تعالى قلبا بالتوجه إليه باطنا، و الفلاح النجاة من كل شقاء، و هو في المورد بالنظر إلى ما تقدم من حديث التزكية و التعليم و ما في الآية التالية من التوبيخ و العتاب الشديد، الزكاة و العلم و ذلك أن كثرة الذكر يفيد رسوخ المعنى المذكور في النفس و انتقاشه في الذهن فتنقطع به منابت الغفلة و يورث التقوى الديني الذي هو مظنة الفلاح قال تعالى:

﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: آل عمران: ٢٠٠.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً إلخ، الانفضاض‏ على ما ذكره الراغب استعارة عن الانفضاض بمعنى انكسار الشي‏ء و تفرق بعضه من بعض.

و قد اتفقت روايات الشيعة و أهل السنة على أنه ورد المدينة عير معها تجارة و ذلك يوم الجمعة و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يخطب فضربوا بالطبل و الدف لإعلام الناس فانفض أهل المسجد إليهم و تركوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائما يخطب فنزلت الآية. فالمراد باللهو استعمال المعازف و آلات الطرب ليجتمع الناس للتجارة، و ضمير ﴿إِلَيْهَا راجع إلى التجارة لأنها كانت المقصودة في نفسها و اللهو مقصود لأجلها، و قيل: الضمير لأحدهما كأنه قيل: انفضوا

 

 

 إليه و انفضوا إليها و ذلك أن كلا منهما سبب لانفضاض الناس إليه و تجمعهم عليه، و لذا ردد بينهما و قال: ﴿تِجَارَةً أَوْ لَهْواً و لم يقل: تجارة و لهوا و الضمير يصلح للرجوع إلى كل منهما لأن اللهو في الأصل مصدر يجوز فيه الوجهان التذكير و التأنيث.

و لذا أيضا عد ﴿مَا عِنْدَ اَللَّهِ خيرا من كل منهما بحياله فقال: ﴿مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجَارَةِ و لم يقل: من اللهو و التجارة.

و قوله: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجَارَةِ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ أمر للنبي أن ينبههم على خطئهم فيما فعلوا و ما أفظعه و المراد بما عند الله الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة و الموعظة.

و المعنى قل لهم: ما عند الله من الثواب خير من اللهو و من التجارة لأن ثوابه تعالى خير حقيقي دائم غير منقطع، و ما في اللهو و التجارة من الخير أمر خيالي زائل باطل و ربما استتبع سخطه تعالى كما في اللهو.

و قيل: خير مستعمل في الآية مجردا عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: ﴿أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ: يوسف: ٣٩، و هو شائع في الاستعمال.

و في الآية أعني قوله: ﴿وَ إِذَا رَأَوْا التفات من الخطاب إلى الغيبة، و النكتة فيه تأكيد ما يفيده السياق من العتاب و استهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب و تركهم في مقام الغيبة لا يواجههم ربهم بوجهه الكريم.

و يلوح إلى هذا الإعراض قوله: ﴿قُلْ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ حيث لم يشر إلى من يقول له، و لم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أولا من غير سبق مرجعه فقال: ﴿وَ إِذَا رَأَوْا و اكتفى بدلالة السياق.

و خير الرازقين من أسمائه تعالى الحسنى كالرزاق و قد تقدم الكلام في معنى الرزق فيما تقدم.

(بحث روائي)

في الفقيه، روي: أنه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد: حرم البيع لقول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ.

 

 

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن ميمون بن مهران و لفظه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ينادون في الأسواق: حرم البيع حرم البيع.

 و تفسير القمي، :و قوله: ﴿فَاسْعَوْا إِلىَ ذِكْرِ اَللَّهِ﴾ قال: الإسراع في المشي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في الآية يقال: فاسعوا أي امضوا، و يقال: اسعوا اعملوا لها و هو قص الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الغسل و لبس أنظف الثياب و التطيب للجمعة فهو السعي يقول الله: ﴿وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ.

 أقول: يريد أن السعي ليس هو الإسراع في المشي فحسب.

 و في المجمع، و روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: في قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ اَلصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ الآية ليس بطلب الدنيا و لكن عيادة مريض و حضور جنازة و زيارة أخ في الله:.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن ابن مردويه عن ابن عباس عنه (ص).

 و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت.

 أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.

 و فيه، و روى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال أ ما تسمع قول الله عز اسمه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ اَلصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ.؟ أ رأيت لو أن رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال: رزقي ينزل علي أ كان يكون هذا؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم.

قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها، و الرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به، و الرجل يكون عنده الشي‏ء فيجلس في بيته و لا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له.

 و فيه، قال جابر بن عبد الله :أقبل عير و نحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية ﴿وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً.

 

 

 و عن عوالي اللئالي، روى مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة، و كان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق‏[2] إلا أتته، و كان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيق و بر و غيره ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون منه.

فقدم ذات جمعة، و كان قبل أن يسلم، و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يخطب على المنبر فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر - فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لو لا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء و أنزل الله الآية في سورة الجمعة. أقول: و القصة مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة و اختلفت الأخبار في عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين.

و فيه ﴿اِنْفَضُّوا أي تفرقوا، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: انصرفوا إليها و تركوك قائما تخطب على المنبر.

 قال جابر بن سمرة :ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يخطب إلا و هو قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه.

أقول: و هو مروي أيضا في روايات أخرى.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال : خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قائما و أبو بكر و عمر و عثمان، و إن أول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان.

 (٦٣) سورة المنافقون مدنية، و هي إحدى عشرة آية (١١)

[سورة المنافقون (٦٣): الآیات ١ الی ٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ١ اِتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّهُمْ

 

 

﴿سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ٣ وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ٤ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اَللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ٥ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ٦ هُمُ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى‏ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ ٧ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ٨

(بيان‏)

تصف السورة المنافقين و تسمهم بشدة العداوة و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحذرهم و تعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته و لا يجرهم إلى النار، و السورة مدنية.

قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ اَلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ المنافق‏ اسم فاعل من النفاق و هو في عرف القرآن إظهار الإيمان و إبطان الكفر.

 

 

و الكذب‏ خلاف الصدق و هو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق و ربما اعتبرت مطابقة الخبر و لا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقا منه و عدم مطابقته له كذبا فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج و فلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده و يسمى النوع الأول صدقا و كذبا خبريين، و الثاني صدقا و كذبا مخبريين.

فقوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ اَلْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ حكاية لإظهارهم الإيمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتضمن الإيمان بوحدانيته تعالى و بالمعاد، و هو الإيمان الكامل.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ تثبيت منه تعالى لرسالته (صلى الله عليه وآله و سلم)، و إنما أورده مع أن وحي القرآن و مخاطبته (ص) كان كافيا في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون و إن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا خبريا فقوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ أريد به الكذب المخبري لا الخبري.

قوله تعالى: ﴿اِتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إلخ، الأيمان‏ جمع يمين بمعنى القسم، و الجنة الترس و المراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، و الصد يجي‏ء بمعنى الإعراض و عليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله و هو الدين و بمعنى الصرف و عليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين و هم في وقاية من إيمانهم الكاذبة.

و المعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل الله و دينه أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الأمور و إفساد العزائم.

و قوله: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ الظاهر أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، و قيل: الإشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم و استجنانهم بالأيمان الفاجرة و صدهم عن سبيل الله و مساءة أعمالهم.

و المراد بإيمانهم على ما قيل إيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا الله و أن

 

 

 محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم: ﴿وَ إِذَا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلى‏َ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ: البقرة: ١٤.

و لا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد و كتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏َ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اَللَّهَ مَا وَعَدُوهُ: التوبة: ٧٧، و قد عبر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم بمثل قوله: ﴿وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ: التوبة: ٧٤.

فالظاهر أن المراد بقوله: ﴿آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين و رد بعض الأحكام.

و قوله: ﴿فَطُبِعَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آيس من الإيمان محروم من الحق.

و الطبع‏ على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق و لا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى: ﴿طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ: سورة محمد: ١٦، فلا يفقه و لا يسمع و لا يعلم كما قال تعالى: ﴿وَ طُبِعَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ: التوبة: ٨٧، و قال: ﴿وَ نَطْبَعُ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ: الأعراف: ١٠٠، و قال: ﴿وَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: التوبة: ٩٣، و الطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال و الذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي و قد مر مرارا.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ إلخ، الظاهر أن الخطاب في ﴿رَأَيْتَهُمْ و ﴿تَسْمَعْ خطاب عام يشمل كل من رآهم و سمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة و بلاغة من الكلام، و ليس خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المراد أنهم على صباحة من المنظر و تناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، و فصاحة و بلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره و حسن نظمه.

و قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ذم لهم بحسب باطنهم و الخشب‏ بضمتين جمع خشبة،

 

 

 و التسنيد نصب الشي‏ء معتمدا على شي‏ء آخر كحائط و نحوه.

و الجملة مسوقة لذمهم و هي متممة لسابقتها، و المراد أن لهم أجساما حسنة معجبة و قولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها و لا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.

و قوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ذم آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر و كتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف و وجل و وحشة يخافون ظهور أمرهم و اطلاع الناس على باطنهم و يظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم و أنهم المقصودون بها.

و قوله: ﴿هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك و أنت تحسبه صديقك.

و قوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ دعاء عليهم بالقتل و هو أشد شدائد الدنيا و كان استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.

و قيل: المراد به الطرد و الإبعاد من الرحمة، و قيل: المراد به الإخبار دون الدعاء، و المعنى: أن شمول اللعن و الطرد لهم مقرر ثابت، و قيل: الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال:

قاتله الله ما أشعره، و الظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.

و قوله: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ و قيل: هو توبيخ و تقريع و ليس باستفهام.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اَللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ إلخ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال.

و المعنى: و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله و ذلك عند ما ظهر منهم بعض خياناتهم و فسوقهم أمالوا رءوسهم إعراضا و استكبارا و رآهم الرائي يعرضون عن القائل و هم مستكبرون عن إجابة قوله.

قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ إلخ، أي يتساوى الاستغفار و عدمه في حقهم و تساوي الشي‏ء و عدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك و لا ينفعهم.

و قوله: ﴿لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ دفع دخل كان سائلا يسأل: لما ذا يتساوى الاستغفار لهم و عدمه؟ فأجيب: لن يغفر الله لهم.

 

 

 و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ تعليل لقوله: ﴿لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ، و المعنى: لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة و الجنة و هم فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر و الطبع على قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين.

قوله تعالى: ﴿هُمُ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلى‏َ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلخ، الانفضاض‏ التفرق، و المعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله و اجتمعوا عنده لنصرته و إنفاذ أمره و إجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.

و قوله: ﴿وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ جواب عن قولهم: ﴿لاَ تُنْفِقُوا إلخ، أي إن الدين دين الله و لا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات و الأرض ينفق منها و يرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر و يتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما و يهديهم صراطا مستقيما و المنافقون في جهل من ذلك.

و هذا معنى قوله: ﴿وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك و احتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله و هو الرازق لا رازق غيره فلو شاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى و الفقر بيد الأسباب فلو لم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم.

قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، و كذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا إلخ، و إنما عبر بصيغة الجمع تشريكا لأصحابه الراضين بقوله معه.

و مراده بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يريد بهذا القول تهديد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها و قد رد الله عليه و على من يشاركه في نفاقه بقوله:

﴿وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فقصر العزة في نفسه و رسوله و المؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة و نفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة و الجهالة.

 

 

(بحث روائي‏)

 في المجمع، :نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق و أصحابه و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه و قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل منهم من قتل و نفل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أبناءهم و نساءهم و أموالهم.

فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه و سنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال و كان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك فقال: و ما يمنعني أن أفعل ذلك؟ و اشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله: و الذي يحلف به لأزرنك و يهمك غير هذا.

و غضب ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا، و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم.

فقال زيد بن أرقم: أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب.

فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالرحيل و أرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله و الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط و إن زيدا

 

 

 لكاذب، و قال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه.

فعذره رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و فشت الملامة من الأنصار لزيد.

و لما استقل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال:

يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

أ و ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت و الله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو و الله الذليل و أنت العزيز. ثم قال:

يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه و إنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال:

يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال (ص): بل ترفق به و تحسن صحبته ما بقي معنا.

قالوا: و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي.

ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجازفويق البقيع يقال له: بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم و تخوفوها و ضلت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك ليلا فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل: من هو؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب و لا يعلم مكان ناقته؟ أ لا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق و بمكان الناقة، و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بذلك أصحابه و قال: ما أزعم أني أعلم الغيب و ما أعلمه و لكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق و بمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاءوا بها و آمن ذلك المنافق.

فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع و كان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم.

 

 

قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة جلست في البيت لما بي من الهم و الحياء فنزلت سورة المنافقون في تصديق زيد و تكذيب عبد الله بن أبي. ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك، و وعت أذناك، و وعى قلبك، و قد أنزل الله فيما قلت قرآنا.

و كان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك؟ فقال: و الله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله و لتعلمن اليوم من الأعز؟ و من الأذل؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى و مات.

فلما نزلت هذه الآيات و بان كذب عبد الله قيل له: نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزل: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اَللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ إلى قوله ﴿لاَ يَعْلَمُونَ. أقول: ما أورده من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم و ابن عباس و عكرمة و محمد بن سيرين و ابن إسحاق و غيرهم دخل حديث بعضهم في بعض.

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ اَلْمُنَافِقُونَ الآية قال: قال: نزلت في غزوة المريسيع و هي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر و كان الماء قليلا فيها.

و كان أنس بن سيار حليف الأنصار، و كان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب - فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه فقال سيار: دلوي و قال جهجاه:

دلوي - فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم - فنادى سيار بالخزرج و نادى جهجاه بقريش - و أخذ الناس السلاح و كاد أن تقع الفتنة.

فسمع عبد الله بن أبي النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثم قال: قد كنت كارها لهذا المسير إني لأذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير.

ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم و واسيتموهم بأموالكم

 

 

و وقيتموهم بأنفسكم و أبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم و أيتم صبيانكم و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

و كان في القوم زيد بن أرقم و كان غلاما قد راهق، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في ظل شجرة في وقت الهاجرة و عنده قوم من أصحابه من المهاجرين و الأنصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لعلك وهمت يا غلام، قال: لا و الله ما وهمت. قال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا و الله ما غضبت عليه، قال: فلعله سفه عليك، فقال: لا و الله.

فقال رسول الله لشقران مولاه: أحدج فأحدج راحلته و ركب و تسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك السلام، فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت، فقال: أ و ما سمعت قولا قال صاحبكم؟ قال:

و أي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله فإنك و أصحابك الأعز و هو و أصحابه الأذل.

فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يومه كله لا يكلمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه - فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه فلوى عنقه.

فلما جن الليل سار رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزل أصحابه و قد أمهدهم‏[3] الأرض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك، و أنه يشهد أن لا إله إلا الله و أنك لرسول الله و إن زيدا قد كذب علي، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) منه و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه و يقولون له: كذبت على عبد الله سيدنا.

فلما رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما كان يأخذه من البرحاء[4]

 

 

 

 عند نزول الوحي فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال:

يا غلام صدق قولك و وعى قلبك و أنزل الله فيما قلت قرآنا.

فلما نزل جمع أصحابه و قرأ عليهم سورة المنافقين: ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُنَافِقُونَ إلى قوله ﴿وَ لَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ففضح الله عبد الله بن أبي.

 و في تفسير القمي أيضا، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يقول: لا يسمعون و لا يعقلون ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يعني كل صوت ﴿هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اَللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.

فلما أنبأ الله رسوله خبرهم مشى إليهم عشائرهم و قالوا افتضحتم ويلكم فأتوا رسول الله يستغفر لكم فلووا رءوسهم و زهدوا في الاستغفار، يقول الله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اَللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.

 و في الكافي، بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها، و لم يفوض إليه أن يذل نفسه أ لم تر قول الله سبحانه و تعالى هاهنا ﴿لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ و المؤمن ينبغي أن يكون عزيزا و لا يكون ذليلا:.

أقول: و روي هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي و الحسن الأحمسي و بطريق آخر عن سماعة. و فيه، بإسناده عن مفضل بن عمر قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قلت: بما يذل نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه.

(كلام حول النفاق في صدر الإسلام‏)

يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماما بالغا و يكر عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم و أكاذيبهم و خدائعهم و دسائسهم و الفتن التي أقاموها على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و على المسلمين، و قد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و العنكبوت و الأحزاب و الفتح و الحديد و الحشر و المنافقون و التحريم.

و قد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة

 

 

 على سمعهم و على أبصارهم و إذهاب نورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون و في الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

و ليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام و المسلمين من كيدهم و مكرهم و أنواع دسائسهم فلم ينل المشركون و اليهود و النصارى من دين الله ما نالوه، و ناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) يشير إليهم: ﴿هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ: المنافقون: ٤.

و قد ظهر آثار دسائسهم و مكائدهم أوائل ما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة و قد نزلت على ما قيل على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم و فنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد و هم ثلثهم تقريبا، و عقدهم الحلف مع اليهود و استنهاضهم على المسلمين و بنائهم مسجد الضرار و إشاعتهم حديث الإفك، و إثارتهم الفتنة في قصة السقاية و قصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد و تقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى حيث هددهم الله بمثل قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً: الأحزاب: ٦١.

و قد استفاضت الأخبار و تكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول و أصحابه من المنافقين و هم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتربصون به الدوائر و كانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم و هم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم و رجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم و هم عبد الله بن أبي و أصحابه.

و من هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة و استمرت إلى قرب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

هذا ما ذكره جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة و الاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر:

أما أولا: فلا دليل مقنعا على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المؤمنين بمكة قبل الهجرة، و قول القائل: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس و يتقوهم أو يرجوا منهم خيرا حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهرا و يتقربوا منهم بالإسلام، و هم مضطهدون مفتنون معذبون

 

 

 بأيدي صناديد قريش و مشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة بعد الهجرة فإنه (ص) هاجر إليها و قد كسب أنصارا من الأوس و الخزرج و استوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم و أهليهم، و قد دخل الإسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهرا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به و بقوا على شركهم و لم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم و يظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهرا و هم على كفرهم باطنا فدسوا الدسائس و مكروا ما مكروا.

غير تام، فما القدرة و القوة المخالفة المهيبة و رجاء الخير بالفعل و الاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيرا ما نجد في المجتمعات رجالا يتبعون كل داع و يتجمعون إلى كل ناعق و لا يعبئون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، و يعيشون على خطر مصرين على ذلك رجاء أن يوفقوا يوما لإجراء مرامهم و يتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع و العلو في الأرض و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به و اتبعوه كانوا ملوك الأرض.

فمن الجائز عقلا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعا في البلوغ بذلك إلى أمنيته و هي التقدم و الرئاسة و الاستعلاء، و الأثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الأمور و تربص الدوائر على الإسلام و المسلمين و إفساد المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن و تفديته بالمال و الجاه لينتظم بذلك الأمور و يتهيأ لاستفادته منه و استدراره لنفع شخصه. نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة و المضادة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما يخالف أمنية تقدمه و تسلطه إرجاعا للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.

و أيضا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد و يكتم ارتداده كما مرت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الآية، و كما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ: المائدة: ٥٤.

و أيضا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق و إخلاص و من البديهي عند من تدبر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة و ما والاها و خاصة صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لو لا سواد جنود غشيتهم و بريق

 

 

 سيوف مسلطة فوق رءوسهم يوم الفتح و كيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم و الظرف هذا الظرف نور الإيمان و في نفوسهم الإخلاص و اليقين فآمنوا بالله طوعا عن آخرهم و لم يدب فيهم دبيب النفاق أصلا.

و أما ثانيا: فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و انقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة و انعقاد الخلافة و انمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة و المكائد و الدسائس المشئومة.

فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام و أخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه أمنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم و بين المسلمين فوردوا جميعا في مشرعة سواء فارتفع التصاك و التصادم.؟ و لعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الأسئلة.

و الذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجمالية إلى سبيل البحث.

[سورة المنافقون (٦٣): الآیات ٩ الی ١١]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٩ وَ أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاَ أَخَّرْتَنِي إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ١٠ وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١١

 

 

(بيان)

تنبيه للمؤمنين أن يتجنبوا عن بعض الصفات التي تورث النفاق و هو التلهي بالمال و الأولاد و البخل.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ إلخ، الإلهاء الإشغال، و المراد بالهاء الأموال و الأولاد عن ذكر الله إشغالها القلب بالتعلق بها بحيث يوجب الإعراض عن التوجه إلى الله بما أنها زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿اَلْمَالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا: الكهف: ٤٦، و الاشتغال بها يوجب خلو القلب عن ذكر الله و نسيانه تعالى فلا يبقى له إلا القول من غير عمل و تصديق قلبي و نسيان العبد لربه يستعقب نسيانه تعالى له، قال تعالى: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ: التوبة: ٦٧، و هو الخسران المبين، قال تعالى في صفة المنافقين: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاَلَةَ بِالْهُدى‏ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ: البقرة: ١٦.

و إليه الإشارة بما في ذيل الآية من قوله: ﴿وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ.

و الأصل هو نهي المؤمنين عن التلهي بالأموال و الأولاد و تبديله من نهي الأموال و الأولاد عن إلهائهم للتلويح إلى أن من طبعها الإلهاء فلا ينبغي لهم أن يتعلقوا بها فتلهيهم عن ذكر الله سبحانه فهو نهي كنائي آكد من التصريح.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إلخ، أمر بالإنفاق في البر أعم من الإنفاق الواجب كالزكاة و الكفارات أو المندوب، و تقييده بقوله: ﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ للإشعار بأن أمره هذا ليس سؤالا لما يملكونه دونه، و إنما هو شي‏ء هو معطيه لهم و رزق هو رازقه و ملك هو ملكهم إياه من غير أن يخرج عن ملكه يأمرهم بإنفاق شي‏ء منه فيما يريد فله المنة عليهم في كل حال.

و قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في ماله بالإنفاق في سبيل الله.

و قوله: ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاَ أَخَّرْتَنِي إِلى‏َ أَجَلٍ قَرِيبٍ عطف على قوله: ﴿أَنْ يَأْتِيَ إلخ، و تقييد الأجل بالقريب للإشعار بأنه قانع بقليل من التمديد و هو مقدار ما يسع

 

 

 الإنفاق من العمر ليسهل إجابته، و لأن الأجل أيا ما كان فهو قريب، و من كلامه (ص): كل ما هو آت قريب.

و قوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ نصب ﴿فَأَصَّدَّقَ لكونه في جواب التمني، و جزم ﴿أَكُنْ لكونه في معنى جزاء الشرط، و التقدير إن أتصدق أكن من الصالحين.

قوله تعالى: ﴿وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا إياس لهم من استجابة دعاء من يسأل تأخير الأجل بعد حلوله و الموت بعد نزوله و ظهور آيات الآخرة، و قد تكرر في كلامه تعالى أن الأجل المسمى من مصاديق القضاء المحتوم كقوله: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ: يونس: ٤٩.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ حال من ضمير ﴿أَحَدَكُمُ أو عطف على أول الكلام و يفيد فائدة التعليل، و المعنى: لا تتلهوا و أنفقوا فإن الله عليم بأعمالكم يجازيكم بها.

(بحث روائي‏)

 في الفقيه،: و سئل عن قول الله تعالى: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ قال: ﴿فَأَصَّدَّقَ من الصدقة، و ﴿أَكُنْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ أحج.

أقول: الظاهر أن ذيل الحديث من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

 و في المجمع، عن ابن عباس قال :ما من أحد يموت و كان له مال فلم يؤد زكاته و أطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت.

قالوا: يا ابن عباس اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال: أنا أقرأ به عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية يعني قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ إلى قوله ﴿مِنَ اَلصَّالِحِينَ قال: الصلاح هنا الحج:، و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) . أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله: ﴿وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا قال: إن عند الله كتبا موقوفة يقدم منها ما يشاء و يؤخر ما يشاء فإذا كان ليلة القدر أنزل الله فيها كل شي‏ء يكون إلى مثلها فذلك قوله: ﴿وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا إذا نزله الله و كتبه كتاب السماوات و هو الذي لا يؤخر.

 

 

(٦٤) سورة التغابن مدنية و هي ثماني عشرة آية (١٨)

[سورة التغابن (٦٤): الآیات ١ الی ١٠]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ١ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ ٣ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٤ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٥ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ وَ اَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ٦ زَعَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ‏وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ٧ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَا وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٨ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اَلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ اَلتَّغَابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٩

 

 

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ١٠

(بيان‏)

السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها و نظم كنظمها كأنها ملخصة منها و غرضها تحريض المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله و رفع ما يهجس في قلوبهم و يدب في نفوسهم من الأسى و الأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله و الإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله.

و الآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمه و تمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى و صفاته العليا تقضي بالبعث و رجوع الكل إليه تعالى رجوعا يساق فيه أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنة خالدة، و أهل الكفر و التكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله و رسوله و الصبر على المصائب و الإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع و لا خوف من لومة لائم.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ تقدم الكلام في معنى التسبيح و الملك و الحمد و القدرة، و أن المراد بما في السماوات و الأرض يشمل نفس السماوات و الأرض و من فيها و ما فيها.

و قوله: ﴿لَهُ اَلْمُلْكُ مطلق يفيد إطلاق الملك و عدم محدوديته بحد و لا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه، و لا حكم له إلا نافذا على ما أراد.

و كذا قوله: ﴿وَ لَهُ اَلْحَمْدُ مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لأن الخلق و الأمر إليه فلا ذات و لا صفة و لا فعل جميلا محمودا إلا منه و إليه.

و كذا قوله: ﴿وَ هُوَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة و لا مقيدة بقيد أو شرط.

 

 

 و إذ كانت الآيات كما تقدمت الإشارة إليه مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الأولى لإثباته، و تفيد أن الله منزه عن كل نقص و شين في ذاته و صفاته و أفعاله يملك الحكم على كل شي‏ء و التصرف فيه كيفما شاء و أراد، و لا يتصرف إلا جميلا و قدرته تسع كل شي‏ء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم بالإيذاء الإحداث و الإبقاء فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته و لا تتعلق إلا بحكمه.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الفاء في ﴿فَمِنْكُمْ تدل على مجرد ترتب الكفر و الإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر و الإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، و إنما المراد انشعابهم فرقتين:

بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و قدم ذكر الكافر لكثرة الكفار و غلبتهم.

و «من» في قوله: ﴿فَمِنْكُمْ و ﴿فَمِنْكُمْ للتبعيض أي فبعضكم كافر و بعضكم مؤمن.

و قد نبه بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ على أن انقسامهم قسمين و تفرقهم فرقتين حق كما ذكر، و هم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها و باطنها و الله بما يعملون بصير لا تخفى عليه و لا تشتبه.

و تتضمن الآية مقدمة أخرى لإثبات المعاد و تنجزه و هي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر و الإيمان و صالح العمل و طالحه.

قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ المراد بالحق خلاف الباطل و هو خلقها من غير غاية ثابتة و غرض ثابت كما قال: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا: الأنبياء: ١٧، و قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: الدخان: ٣٩.

و قوله: ﴿وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ المراد بالتصوير إعطاء الصورة و صورة الشي‏ء قوامه و نحو وجوده كما قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ: التين: ٤، و حسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض و المجموع لغاية وجودها، و ليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر و ملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ: الم السجدة: ٧.

و لعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت الإشارة إليه.

 

 

 و بهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث و رجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكا قادرا على الإطلاق له أن يحكم بما شاء و يتصرف كيف أراد و هو منزه عن كل نقص و شين محمود في أفعاله، و كان الناس مختلفين بالكفر و الإيمان و هو بصير بأعمالهم، و كانت الخلقة لغاية من غير لغو و جزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر و الإيمان و هو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم و يشقى به كافرهم.

و إلى هذه النتيجة يشير بقوله: ﴿وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ.

قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد و هي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات و هي فانية بائدة و حوادث العالم لا تحصى و الأعمال و الصفات لا تعد، منها ظاهرة علنية و منها باطنة سرية و منها مشهودة و منها مغيبة، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ قيل: إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرون و ما يعلنون و المعنى: أنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شي‏ء مما تسرونه و ما تعلنونه.

و في قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ إلخ، وضع الظاهر موضع الضمير و الأصل «و هو عليم» إلخ و النكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم، و ليكون ضابطا يجري مجرى المثل.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وبال‏ الأمر تبعته السيئة و المراد بأمرهم كفرهم و ما تفرع عليه من فسوقهم.

لما كان مقتضى أسمائه الحسنى و صفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس و مصيرهم إلى ربهم للحساب و الجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه و هو الشرع، و الطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار و التبشير بعقاب الآخرة و ثوابها و سخطه تعالى و رضاه.

ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل و أنهم ذاقوا وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم و هو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك و هو إنكار البعث و المعاد.

 

 

 ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله و رسوله و الدين الذي أنزله عليه و ختم التمهيد المذكور بالتبشير و الإنذار بالإشارة إلى ما هيئ للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة و لغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.

فقوله: ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ الخطاب للمشركين و فيه إشارة إلى قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، ممن أهلكهم الله بذنوبهم، و قوله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال و قوله:

﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى عذابهم الأخروي.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا إلخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال و عذاب الآخرة، و لذلك جي‏ء بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ إلخ، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.

و في التعبير عن إتيان الرسل و دعوتهم بقوله: ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ الدال على الاستمرار، و عن كفرهم و قولهم بقوله: ﴿فَقَالُوا و ﴿فَكَفَرُوا و ﴿تَوَلَّوْا﴾ الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها و ثبتوا عليها و هو العناد و اللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ اَلْقُرى‏َ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَ لَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اَللَّهُ عَلى‏َ قُلُوبِ اَلْكَافِرِينَ : الأعراف: ١٠١، و قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ (أي بعد نوح) ﴿رُسُلاً إِلى‏َ قَوْمِهِمْ فَجَاؤُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلى‏َ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ: يونس: ٧٤.

و قوله: ﴿فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا يطلق البشر على الواحد و الجمع و المراد به الثاني بدليل قوله: ﴿يَهْدُونَنَا و التنكير للتحقير، و الاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار:

أ آحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا.؟ و هذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا وثنيين و هم منكرون للنبوة و هو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، و لذلك فرع تعالى على قولهم:

﴿أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا قوله: ﴿فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا أي بنوا عليه كفرهم و إعراضهم.

و قوله: ﴿وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ الاستغناء طلب الغنى و هو من الله سبحانه و هو غني بالذات إظهار الغنى و ذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم و القوة و الاستطاعة ما يدفع عن جمعهم

 

 

الفناء و يضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم:

﴿قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً: الكهف: ٣٥، و قال: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً: حم السجدة: ٥٠.

و مآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم و فيهم و هو الغني بالذات فإهلاكه تعالى لهم و إفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، و على هذا فالمراد بقوله:

﴿وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ استئصالهم المدلول عليه بقوله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ.

على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كان من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كان لله سبحانه حاجة إلى إسعاده و الإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏َ: حم السجدة:

 ٥٠، و قوله: ﴿وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‏َ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً» : الكهف: ٣٦.

و مآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم و تعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَغْنَى اَللَّهُ و الثاني منهما أشمل، و في الكلمة على أي حال من سطوع العظمة و القدرة ما لا يخفى، و هو في معنى قوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ: المؤمنون: ٤٤.

و قيل: المراد و استغنى الله بإقامة البرهان و إتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم و هدايتهم إلى الإيمان.

و قيل: المراد و استغنى الله عن طاعتهم و عبادتهم أزلا و أبدا لأنه غني بالذات، و الوجهان كما ترى.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ في محل التعليل لمضمون الآية، و المعنى: و الله غني في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم و تعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم و توليهم من غناه و عدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿زَعَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى‏َ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين و هو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الأمر و النهي و الحساب و الجزاء و يصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ و الوعيد.

و المراد بالذين كفروا عامة الوثنيين و منهم من عاصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم كأهل مكة و ما والاها، و قيل: المراد أهل مكة خاصة.

و قوله: ﴿قُلْ بَلى‏َ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم و اللام و النون.

و ﴿ثُمَّ في ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ للتراخي بحسب رتبة الكلام، و في الجملة إشارة إلى غاية البعث و هو الحساب و قوله: ﴿وَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ أي ما ذكر من البعث و الإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، و فيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا، و قد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ: الروم: ٢٧.

و الدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى و صفاته من الخلق و الملك و العلم و أنه مسبح محمود، و يجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.

و يظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: ﴿وَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ للإيماء إلى التعليل، و المفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله، و الكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.

و ذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقسم بربه على وقوع المعاد و هي ثلاث: إحداها قوله: ﴿وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي: يونس: ٥٣، و الثانية قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا اَلسَّاعَةُ قُلْ بَلى‏َ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ: سبأ: ٣، و الثالثة الآية التي نحن فيها.

قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَا وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزله على رسوله و هو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، و يبين شرائع الدين.

 

 

 و في قوله: ﴿وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَا التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير و لعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة و هي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا:

و النور الذي أنزل و هو إخبار، و قوله: ﴿وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنَا ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، و الشهادة آكد من الإخبار المجرد.

لا يقال: ما ذا ينفع ذلك و هم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده و لو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد و أغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور.

لأنه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله، و الشهادة على أي حال آكد و أقوى من الإخبار و إن كان مدللا.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الأمر في قوله: ﴿فَآمِنُوا و المعنى: آمنوا و جدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شي‏ء منها و هو مجازيكم بها لا محالة.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اَلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ اَلتَّغَابُنِ إلخ، ﴿يَوْمَ﴾ ظرف لقوله السابق: ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ إلخ، و المراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً: الكهف: ٩٩، و قد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، و يفسره أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: الجاثية: ١٧، و قوله: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: البقرة: ١١٣، و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: السجدة: ٢٥، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.

و قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ اَلتَّغَابُنِ قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء. قال: و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اَللَّهِ و بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الآية، و بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ أَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة و فيما تعاطوه من ذلك جميعا.

و سئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا.

انتهى موضع الحاجة.

و ما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة

 

 

 خاسرة و تركهم معاملة رابحة، و هو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.

و ما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، و يؤيده مثل قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ: الم السجدة: ١٧، و قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ: ق: ٣٥، و قوله: ﴿وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ: الزمر: ٤٧.

و مقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن و كافر أما المؤمن فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مما عمل، و أما الكافر فلأنه لم يعمل أصلا، و الوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدرا اليوم حق قدره.

و يرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.

و هناك وجه ثالث و هو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم و تابعيهم فالمتبوعون و هم المستكبرون يغبنون تابعيهم و هم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا و ترك الآخرة فيضلون، و التابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره و مغبون من غيره.

و هناك وجه رابع وردت به الرواية و هو أن لكل عبد منزلا في الجنة لو أطاع الله لدخله، و منزلا في النار لو عصى الله لدخله و يوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، و يعطى منازل أهل الجنة في النار لأهل النار فيكون أهل الجنة و هم المؤمنون غابنين لأهل النار و هم الكفار و الكفار هم المغبونون.

و قال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: و قد فسر التغابن قوله ذيلا: ﴿وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إلى قوله ﴿وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ انتهى. و ليس بظاهر ذاك الظهور.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً إلى قوله ﴿وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ تقدم تفسيره مرارا.

(بحث روائي)

 في صحيح البخاري، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة.

 

 

 أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة و الخاصة و قد تقدم بعضها في تفسير أول سورة المؤمنون.

 و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و الأرض، و يوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنة ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ اَلْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ و يوم التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، و يوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.

 أقول: و في ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات بشئون الولاية كالذي ورد أن الإيمان و الكفر هما الإيمان و الكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، و ما ورد أن المراد بالبينات الأئمة، و ما ورد أن المراد بالنور الإمام و هي جميعا ناظرة إلى بطن الآيات و ليست بمفسرة البتة.

[سورة التغابن (٦٤): الآیات ١١ الی ١٨]

﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ١١ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلى‏َ رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٢ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١٣ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٤ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٥ فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَ اِسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ١٦ إِنْ تُقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ

 

 

﴿وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ١٧ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ١٨

(بيان‏)

شروع فيما هو الغرض من السورة بعد ما مر من التمهيد و التوطئة و هو الندب إلى الإنفاق في سبيل الله و الصبر على ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في الله سبحانه.

و قدم ذكر المصيبة و الإشارة إلى الصبر عليها ليصفو المقام لما سيندب إليه من الإنفاق و ينقطع العذر.

قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ المصيبة صفة شاع استعمالها في الحوادث السوء التي تصحب الضر، و الإذن‏ الاعلام بالرخصة و عدم المانع و يلازم علم الإذن بما أذن فيه، و ليس هو العلم كما قيل.

فظهر بما تقدم أولا أن إذنه تعالى في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه و بين مسببيه برفع الموانع التي تتخلل بينه و بين مسببه فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيته كالنار تقتضي إحراق القطن مثلا لو لا الفصل بينهما و الرطوبة فرفع الفصل بينهما و الرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.

و قد كان استعمال الإذن في العرف العام مختصا بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معنى الاعلام في مفهومه فيقال: أذنت لفلان أن يفعل كذا و لا يقال: أذنت للنار أن تحرق، و لا أذنت للفرس أن يعدو، لكن القرآن الكريم يستعمله فيما يعم العقلاء و غيرهم بالتحليل كقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ: النساء: ٦٤.، و قوله: ﴿وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ: الأعراف: ٥٨، و لا يبعد أن يكون هذا التعميم مبنيا على ما يفيده القرآن من سريان العلم و الإدراك في الموجودات كما قدمناه في تفسير قوله: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ: حم السجدة: ٢١.

و كيف كان فلا يتم عمل من عامل و لا تأثير من مؤثر إلا بإذن من الله سبحانه فما كان من الأسباب غير تام له موانع لو تحققت منعت من تأثيره فإذنه تعالى له في أن يؤثر رفعه

 

 

 الموانع، و ما كان منها تاما لا مانع له يمنعه فإذنه له عدم جعله له شيئا من الموانع فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.

و ثانيا: أن المصائب و هي الحوادث التي تصيب الإنسان فتؤثر فيه آثارا سيئة مكروهة إنما تقع بإذن من الله سبحانه كما أن الحسنات كذلك لاستيعاب إذنه تعالى صدور كل أثر من كل مؤثر.

و ثالثا: أن هذا الإذن إذن تكويني غير الإذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن الفعل فإصابة المصيبة تصاحب إذنا من الله في وقوعها و إن كانت من الظلم الممنوع فإن كون الظلم ممنوعا غير مأذون فيه إنما هو من جهة التشريع دون التكوين.

و لذا كانت بعض المصائب غير جائزة الصبر عليها و لا مأذونا في تحملها و يجب على الإنسان أن يقاومها ما استطاع كالمظالم المتعلقة بالأعراض و النفوس.

و من هنا يظهر أن المصائب التي ندب إلى الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب عندها بالذب و الامتناع عن تحملها كالمصائب العامة الكونية من موت و مرض مما لا شأن لاختيار الإنسان فيها، و أما ما للاختيار فيها دخل كالمظالم المتعلقة نوع تعلق بالاختيار من المظالم المتوجهة إلى الأعراض فلإنسان أن يتوقاها ما استطاع.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ كان ظاهر سياق قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ يفيد أن لله سبحانه في الحوادث التي تسوء الإنسان علما و مشية فليست تصيبه مصيبة إلا بعد علمه تعالى و مشيته فليس لسبب من الأسباب الكونية أن يستقل بنفسه فيما يؤثره فإنما هو نظام الخلقة لا رب يملكه إلا خالقه فلا تحدث حادثة و لا تقع واقعة إلا بعلم منه و مشية فلم يكن ليخطئه ما أصابه و لم يكن ليصيبه ما أخطأه.

و هذه هي الحقيقة التي بينها بلسان آخر في قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ: الحديد: ٢٢.

فالله سبحانه رب العالمين و لازم ربوبيته العامة أنه وحده يملك كل شي‏ء لا مالك بالحقيقة سواه، و النظام الجاري في الوجود مجموع من أنحاء تصرفاته في خلقه فلا يتحرك متحرك و لا يسكن ساكن إلا عن إذن منه، و لا يفعل فاعل و لا يقبل قابل إلا عن علم سابق منه و مشية لا يخطئ علمه و مشيته و لا يرد قضاؤه.

فالإذعان بكونه تعالى هو الله يستعقب اهتداء النفس إلى هذه الحقائق و اطمئنان

 

 

 القلب و سكونه و عدم اضطرابه و قلقه من جهة تعلقه بالأسباب الظاهرية و إسناده المصائب و النوائب المرة إليها دون الله سبحانه.

و هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.

و قيل: معنى الجملة: و من يؤمن بتوحيد الله و يصبر لأمر الله يهد قلبه للاسترجاع حتى يقول: إنا لله و إنا إليه راجعون، و فيه إدخال الصبر في معنى الإيمان.

و قيل: المعنى: و من يؤمن بالله يهد قلبه إلى ما عليه أن يفعل فإن ابتلي صبر و إن أعطي شكر و إن ظلم غفر، و هذا الوجه قريب مما قدمناه.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ تأكيد للاستثناء المتقدم، و يمكن أن يكون إشارة إلى ما يفيده قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا: الحديد: ٢٢.

قوله تعالى: ﴿وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلى‏َ رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ظاهر تكرار ﴿أَطِيعُوا دون أن يقال: أطيعوا الله و الرسول اختلاف المراد بالإطاعة، فالمراد بإطاعة الله تعالى الانقياد له فيما شرعه لهم من شرائع الدين و المراد بإطاعة الرسول الانقياد له و امتثال ما يأمر به بحسب ولايته للأمة على ما جعلها الله له.

و قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلى‏َ رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ التولي‏ الإعراض، و البلاغ‏ التبليغ، و المعنى: فإن أعرضتم عن إطاعة الله فيما شرع من الدين أو عن إطاعة الرسول فيما أمركم به بما أنه ولي أمركم، فلم يكرهكم رسولنا على الطاعة فإنه لم يؤمر بذلك، و إنما أمر بالتبليغ و قد بلغ.

و من هنا يظهر أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما وراء الأحكام و الشرائع من تبليغ رسالة الله فأمره و نهيه فيما توليه من أمر الله و نهيه، و طاعته فيهما من طاعة الله تعالى كما يدل عليه إطلاق قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ: النساء: ٦٤. الظاهر في أن طاعة الرسول فيما يأمر و ينهى مطلقا مأذون فيه بإذن الله، و إذنه في طاعته يستلزم علمه و مشيته لطاعته، و إرادة طاعة الأمر و النهي إرادة لنفس الأمر و النهي فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نهيه من أمر الله و نهيه و إن كان فيما وراء الأحكام و الشرائع المجعولة له تعالى.

و لما تقدم من رجوع طاعة الرسول إلى طاعة الله التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله:

 

 

﴿رَسُولِنَا و فيه مع ذلك شي‏ء من شائبة التهديد.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ في مقام التعليل لوجوب إطاعة الله على ما تقدم أن طاعة الرسول من طاعة الله، توضيح ذلك أن الطاعة بمعنى الانقياد و الائتمار للأمر و الانتهاء عن النهي من شئون العبودية حيث لا أثر لملك المولى رقبة عبده إلا مالكيته لإرادته و عمله فلا يريد إلا ما يريد المولى أن يريده و لا يعمل إلا ما يريد المولى أن يعمله فالطاعة نحو من العبودية كما يشير إليه قوله: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ: يس: ٦٠، يعاتبهم بعبادة الشيطان و إنما أطاعوه.

فطاعة المطيع بالنسبة إلى المطاع نوع عبادة له، و إذ لا معبود إلا الله فلا طاعة إلا لله عز اسمه أو من أمر بطاعته فالمعنى: أطيعوا الله سبحانه إذ لا طاعة إلا لمعبود و لا معبود بالحق إلا الله فيجب عليكم أن تعبدوه و لا تشركوا به بطاعة غيره و عبادته كالشيطان و هوى النفس و هذا معنى كون الجملة في مقام التعليل.

و بما مر يظهر وجه تخصيص صفة الألوهية التي تفيد معنى المعبودية، بالذكر دون صفة الربوبية فلم يقل: الله لا رب غيره.

و قوله: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ تأكيد لمعنى الجملة السابقة أعني قوله: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.

توضيحه: أن التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إدارة أموره و لازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكلة و فعله مقام فعله فينطبق بوجه على الإطاعة فإن المطيع يجعل إرادته و عمله تبعا لإرادة المطاع فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته و يعود عمله متعلقا لإرادة المطاع صادرا منها اعتبارا فترجع الإطاعة توكيلا بوجه كما أن التوكيل إطاعة بوجه.

فإطاعة العبد لربه اتباع إرادته لإرادة ربه و الإتيان بالفعل على هذا النمط و بعبارة أخرى إيثار إرادته و ما يتعلق بها من العمل على إرادة نفسه و ما يتعلق بها من العمل.

فطاعته تعالى فيما شرع لعباده و ما يتعلق بها نوع تعلق من التوكل عليه، و طاعته واجبة لمن عرفه و آمن به فعلى الله فليتوكل المؤمنون و إياه فليطيعوا، و أما من لم يعرفه و لم يؤمن به فلا تتحقق منه طاعة.

و قد بان بما تقدم أن الإيمان و العمل الصالح نوع من التوكل على الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ إلخ

 

 

﴿مِنْ في ﴿أَزْوَاجِكُمْ للتبعيض، و سياق الخطاب بلفظ ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا و تعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي إنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، و العداوة من جهة الإيمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الإيمان أو عن الأعمال الصالحة كالإنفاق في سبيل الله و الهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الإنفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد و الأزواج و الغصب و اكتساب المال من غير طريق حله.

فالله سبحانه يعد بعض الأولاد و الأزواج عدوا للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الإيمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة و ربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم و حبا لهم فأمرهم الله بالحذر منهم.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال الراغب: العفو القصد لتناول الشي‏ء يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولا ما عنده إلى أن قال و عفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه، و قال: الصفح‏ ترك التثريب و هو أبلغ من العفو، و لذلك قال تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ و قد يعفو الإنسان و لا يصفح، و قال: الغفر البأس ما يصونه عن الدنس، و منه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، و الغفران و المغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال: ﴿غُفْرَانَكَ رَبَّنَا و ﴿مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴿وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللَّهُ انتهى.

ففي قوله: «فاعفوا و اصفحوا و اغفروا» ندب إلى كمال الإغماض عن الأولاد و الأزواج.

إذا ظهر منهم شي‏ء من آثار المعاداة المذكورة مع الحذر من أن يفتتن بهم.

و في قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن كان المراد خصوص مغفرته و رحمته للمخاطبين أن يعفوا و يصفحوا و يغفروا كان وعدا جميلا لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله تعالى:

﴿وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَكُمْ: النور: ٢٢.

و إن أريد مغفرته و رحمته العامتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أن المغفرة و الرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا و صفحوا و غفروا فقد اتصفوا بصفات الله و تخلقوا بأخلاقه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ الفتنة ما يبتلى و يمتحن

 

 

 به، و كون الأموال و البنين فتنة إنما هو لكونهما زينة الحياة تنجذب إليهما النفس انجذابا فتفتتن و تلهو بهما عما يهمها من أمر آخرته و طاعة ربه، قال تعالى: ﴿اَلْمَالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا: الكهف: ٤٦.

و الجملة كناية عن النهي عن التلهي بهما و التفريط في جنب الله باللي إليهما و يؤكده قوله:

﴿وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ إلخ، أي مبلغ استطاعتكم على ما يفيده السياق فإن السياق سياق الدعوة و الندب إلى السمع و الطاعة و الإنفاق و المجاهدة في الله و الجملة تفريع على قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ إلخ، فالمعنى: اتقوه مبلغ استطاعتكم و لا تدعوا من الاتقاء شيئا تسعه طاقتكم و جهدكم فتجري الآية مجرى قوله: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ: آل عمران: ١٠٢، و ليست الآية ناظرة إلى نفي التكليف بالاتقاء فيما وراء الاستطاعة و فوق الطاقة كما في قوله: ﴿وَ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ: البقرة: ٢٨٦.

و قد بان مما مر:

أولا: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ و قوله: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ و أن الاختلاف بينهما كالاختلاف بالكمية و الكيفية، فقوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ أمر باستيعاب جميع الموارد التي تسعها الاستطاعة بالتقوى، و قوله: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أمر بالتلبس في كل من موارد التقوى بحق التقوى دون شبحها و صورتها.

و ثانيا: فساد قول بعضهم: إن قوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ ناسخ لقوله: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ و هو ظاهر.

و قوله: ﴿وَ اِسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ توضيح و تأكيد لقوله:

﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ و السمع‏ الاستجابة و القبول و هو في مقام الالتزام القلبي، و الطاعة الانقياد و هو في مقام العمل، و الإنفاق المراد به بذل المال في سبيل الله.

و ﴿خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منصوب بمحذوف على ما في الكشاف، و التقدير آمنوا خيرا لأنفسكم، و يحتمل أن يكون ﴿أَنْفِقُوا مضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام، و في قوله: ﴿لِأَنْفُسِكُمْ دون أن يقال: خيرا لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إن الإنفاق خير لكم لا ينتفع به إلا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم و سعة قدرتكم على رفع حوائج مجتمعكم.

 

 

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ تقدم تفسيره في تفسير سورة الحشر.

قوله تعالى: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ المراد بإقراض الله الإنفاق في سبيله سماه الله إقراضا لله و سمي المال المنفق قرضا حسنا حثا و ترغيبا لهم فيه.

و قوله: ﴿يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا و الآخرة.

و الشكور و الحليم و عالم الغيب و الشهادة و العزيز و الحكيم خمسة من أسماء الله الحسنى تقدم شرحها، و وجه مناسبتها لما أمر به في الآية من السمع و الطاعة و الإنفاق ظاهر.

(بحث روائي‏)

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ و ذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه و امرأته و قالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم - فحذرهم الله أبناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم، و منهم من يمضي و يذرهم و يقول:

أما و الله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني و بينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي‏ء أبدا.

فلما جمع الله بينه و بينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال: ﴿وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن ابن عباس. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ: عن ابن مردويه عن عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لكل أمة فتنة و فتنة أمتي المال:.

أقول: و روي مثله أيضا عنه عن كعب بن عياض عنه (ص).

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و الحاكم و ابن مردويه عن بريدة قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخطب فأقبل الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق

 

 

 و واحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله قال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان و يعثران لم أصبر إن قطعت كلامي و نزلت إليهما.

 أقول: و الرواية لا تخلو من شي‏ء و أنى تنال الفتنة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو سيد الأنبياء المخلصين معصوم مؤيد بروح القدس.

و أفظع لحنا من هذا الحديث‏ ما رواه عن ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن علي فوطأ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن المنبر.

فلما رأى الناس أسرعوا إلى الحسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، و الذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري.

 و مثله ما عن ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير قال : سمع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بكاء حسن أو حسين فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الولد فتنة لقد قمت إليه و ما أعقل.

 فالوجه طرح الروايات إلا أن تؤول.

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع حدثنا سفيان بن مرة الهمداني عن عبد خير سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: و الله ما عمل بها غير أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). نحن ذكرنا الله فلا ننساه و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن أطعناه فلم نعصه.

فلما نزلت هذه قالت الصحابة: لا نطيق ذلك فأنزل الله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ.

الحديث. و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الفضل بن أبي مرة قال : رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) يطوف من أول الليل إلى الصباح و هو يقول: اللهم و قني شح نفسي فقلت: جعلت فداك ما رأيتك تدعو بغير هذا الدعاء فقال: و أي شي‏ء أشد من شح النفس؟ إن الله يقول:

﴿وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ.

 

 

(٦٥) سورة الطلاق مدنية و هي اثنتا عشرة آية (١٢)

[سورة الطلاق (٦٥): الآیات ١ الی ٧]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اَللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ١ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ٢ وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ٣ وَ اَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاَتُ اَلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ٤ ذَلِكَ أَمْرُ اَللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ٥ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ

 

 

فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى‏ ٦ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اَللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اَللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ٧

(بيان)

تتضمن السورة بيان كليات من أحكام الطلاق تعقبه عظة و إنذار و تبشير، و السورة مدنية بشهادة سياقها.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ إلى آخر الآية، بدئ الخطاب بنداء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لأنه الرسول إلى الأمة و إمامهم فيصلح لخطابه أن يشمله و أتباعه من أمته و هذا شائع في الاستعمال يخص مقدم القوم و سيدهم بالنداء و يخاطب بما يعمه و قومه فلا موجب لقول بعضهم: إن التقدير يا أيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء إلخ.

و قوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء و أشرفتم على ذلك إذ لا معنى لتحقق الطلاق بعد وقوع الطلاق فهو كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا الآية: المائدة: ٦.

و العدة قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة شرعا، و المراد بتطليقهن لعدتهن تطليقهن لزمان عدتهن بحيث يأخذ زمان العدة من يوم تحقق التطليقة و ذلك بأن تكون التطليقة في طهر لا مواقعة فيه حتى تنقضي أقراؤها.

و قوله: ﴿وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ أي عدوا الأقراء التي تعتد بها، و هو الاحتفاظ عليها لأن للمرأة فيها حق النفقة و السكنى على زوجها و للزوج فيها حق الرجوع.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ظاهر السياق كون ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ إلخ، بدلا من ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ رَبَّكُمْ و يفيد ذلك تأكيد النهي في ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ و المراد

 

 

 ببيوتهن البيوت التي كن يسكنه قبل الطلاق أضيفت إليهن بعناية السكنى.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَخْرُجْنَ نهي عن خروجهن أنفسهن كما كان سابقه نهيا عن إخراجهن.

و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة كالزنا و البذاء و إيذاء أهلها كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) .

و قوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي الأحكام المذكورة للطلاق حدود الله حد بها أعمالكم و من يتعد و يتجاوز حدود الله بأن لم يراعها و خالفها فقد ظلم نفسه أي عصى ربه.

و قوله: ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اَللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً أي أمرا يقضي بتغير الحال و تبدل رأي الزوج في طلاقها بأن يميل إلا الالتيام و يظهر في قلبه محبة حب الرجوع إلى سابق الحال.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إلى قوله ﴿وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ المراد من بلوغهن أجلهن اقترابهن من آخر زمان العدة و إشرافهن عليه، و المراد بإمساكهن الرجوع على سبيل الاستعارة، و بمفارقتهن تركهن ليخرجن من العدة و يبن.

و المراد بكون الإمساك بمعروف حسن الصحبة و رعاية ما جعل الله لهن من الحقوق، و بكون فراقهن بمعروف أيضا استرام الحقوق الشرعية فالتقدير بمعروف من الشرع.

و قوله: ﴿وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي أشهدوا على الطلاق رجلين منكم صاحبي عدل، و قد مر توضيح معنى العدل في تفسير سورة البقرة.

و قوله: ﴿وَ أَقِيمُوا اَلشَّهَادَةَ لِلَّهِ تقدم توضيحه في تفسير سورة البقرة.

و قوله: ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أي ما مر من الأمر بتقوى الله و إقامة الشهادة لله و النهي عن تعدي حدود الله أو مجموع ما مر من الأحكام و البعث إلى التقوى و الإخلاص في الشهادة و الزجر عن تعدي حدود الله يوعظ به المؤمنون ليركنوا إلى الحق و ينقلعوا عن الباطل، و فيه إيهام أن في الإعراض عن هذه الأحكام أو تغييرها خروجا من الإيمان.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ إلى قوله ﴿قَدْراً أي ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ و يتورع عن محارمه و لم يتعد حدوده و احترم

 

 

 لشرائعه فعمل بها ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من مضائق مشكلات الحياة فإن شريعته فطرية يهدي بها الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته و تقضي به حاجته و تضمن سعادته في الدنيا و الآخرة ﴿وَ يَرْزُقْهُ من الزوج و المال و كل ما يفتقر إليه في طيب عيشه و زكاة حياته ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ و لا يتوقع فلا يخف المؤمن أنه إن اتقى الله و احترم حدوده حرم طيب الحياة و ابتلي بضنك المعيشة فإن الرزق مضمون و الله على ما ضمنه قادر.

﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ باعتزاله عن نفسه فيما تهواه و تأمر به و إيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه و العمل الذي يريده الله على العمل الذي تهواه و تريده نفسه و بعبارة أخرى تدين بدين الله و عمل بأحكامه ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه فيما يريده من طيب العيش و يتمناه من السعادة بفطرته لا بواهمته الكاذبة.

و ذلك أنه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب فإذا أراد شيئا فعله و بلغ ما أراده من غير أن تتغير إرادته فهو القائل: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ: ق: ٢٩، أو يحول بينه و بين ما أراده مانع فهو القائل: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: الرعد: ٤١، و أما الأسباب الآخر التي يتشبث بها الإنسان في رفع حوائجه فإنما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه و هو المالك لما ملكها و القادر على ما عليه أقدرها و لها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه.

فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره ﴿إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ يبلغ حيث أراد، و هو القائل:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً فما من شي‏ء إلا له قدر مقدور و حد محدود و الله سبحانه لا يحده حد و لا يحيط به شي‏ء و هو المحيط بكل شي‏ء.

هذا هو معنى الآية بالنظر إلى وقوعها في سياق آيات الطلاق و انطباقها على المورد.

و أما بالنظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه و لا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه و صفاته ثم تورعه و اتقائه بالاجتناب عن المحرمات و تحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم، و لازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أو ترك، و لازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.

 

 

 و لازم ذلك أن يرى نفسه و ما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكا طلقا لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء و هو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شي‏ء إلا ما ملكه الله سبحانه و هو المالك لما ملكه و الملك لله عز اسمه.

و عند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم و سجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية و ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه و الأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها و ما كان يعلم من الأسباب إلا قليلا من كثير كقبس من نار يضي‏ء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه و هو غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب و هو الناظم لها ينظمها كيف يشاء و يأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.

و أما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي يعيش به النفس الإنسانية و تبقى فهو مما لم يكن يحتسبه و لا يحتسب طريق وروده عليه.

و بالجملة هو سبحانه يتولى أمره و يخرجه من مهبط الهلاك و يرزقه من حيث لا يحتسب، و لا يفقد من كماله و النعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا لأنه توكل على الله و فوض إلى ربه ما كان لنفسه ﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة و تصيب أخرى ﴿إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و ﴿قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به.

و هذا نصيب الصالحين من الأولياء من هذه الآية.

و أما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث المعرفة و العمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الإيمان و العمل الصالح و قد قال تعالى و أطلق: ﴿وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ: آل عمران: ٦٨، و قال و أطلق: ﴿وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ: الجاثية: ١٩.

و تدينهم بدين الحق و هي سنة الحياة و ورودهم و صدورهم في الأمور عن إرادته تعالى هو تقوى الله و التوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون من سعادة الحياة بحسبه و يجعل الله لهم مخرجا و يرزقهم من حيث لا يحتسبون، و حسبهم ربهم فهو بالغ أمره و قد جعل لكل شي‏ء قدرا.

و عليهم من حرمان السعادة قدر ما دب من الشرك في إيمانهم و عملهم و قد قال تعالى:

 

 

[1]  قريبة خ.

[2]  العاتق: الجارية أوائل ما أدركت.

[3]  أمهدهم الأرض: أي صارت لهم مهادا فناموا.

[4]  البرحاء: حالة شبه الإغماء كانت تأخذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عند نزول الوحي.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22380699

  • التاريخ : 13/03/2025 - 17:16

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net