00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 329 الى ص 421 (الأخير) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ: يوسف: ١٠٦، و قال و أطلق: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ: النساء: ٤٨.

و قال: ﴿وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً: طه: ٨٢، أي لمن تاب من الشرك و قال و أطلق: ﴿وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: المزمل: ٢٠.

فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفي الشرك الذي دونها.

و الآية من غرر الآيات القرآنية و للمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ المراد بالارتياب الشك في يأسهن من المحيض أ هو لكبر أم لعارض، فالمعنى: و اللائي يئسن من المحيض من نسائكم و شككتم في أمر يأسهن أ هو لبلوغ سنهن سن اليأس أم لعارض فعدتهن ثلاثة أشهر.

و قوله: ﴿وَ اَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ عطف على قوله: ﴿وَ اَللاَّئِي يَئِسْنَ إلخ، و المعنى:

و اللائي لم يحضن و هو في سن من تحيض فعدتهن ثلاثة أشهر.

و قوله: ﴿وَ أُولاَتُ اَلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي منتهى زمان عدتهن وضع الحمل.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي يسهل عليه ما يستقبله من الشدائد و المشاق، و قيل: المراد أنه يسهل عليه أمور الدنيا و الآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اَللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي ما بينه في الآيات المتقدمة حكم الله أنزله إليكم، و في قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً دلالة على أن اتباع الأوامر من التقوى كاجتناب المحرمات و لعله باعتبار أن امتثال الأمر يلازم اجتناب تركه.

و تكفير السيئات سترها بالمغفرة، و المراد بالسيئات المعاصي الصغيرة فيبقى للتقوى كبائر المعاصي، و يكون مجموع قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً في معنى قوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً

 

 

 كَرِيماً النساء: ٣١، و من الآيتين يظهر أن المراد بالمحارم في قوله (عليه السلام) في تعريف التقوى: أنها الورع عن محارم الله المعاصي الكبيرة.

و يظهر أيضا أن مخالفة ما أنزله الله من الأمر في الطلاق و العدة من الكبائر إذ التقوى المذكورة في الآية تشمل ما ذكر من أمر الطلاق و العدة لا محالة فهو غير السيئات المكفرة و إلا اختل معنى الآية.

قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ إلى آخر الآية، قال في المفردات،: و قوله تعالى: ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ أي تمكنكم و قدر غناكم، و يعبر عن الغنى بالوجدان و الجدة، و قد حكي فيه الوجد و الوجد و الوجد بالحركات الثلاث في الواو انتهى.

و ضمير ﴿أَسْكِنُوهُنَّ للمطلقات على ما يؤيده السياق، و المعنى: اسكنوا المطلقات من حيث سكنتم من المساكن على قدر تمكنكم و غناكم على الموسر قدره و على المعسر قدره.

و قوله: ﴿وَ لاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ أي لا توجهوا إليهن ضررا يشق عليهن تحمله من حيث السكنى و الكسوة و النفقة لتوردوا الضيق و الحرج عليهن.

و قوله: ﴿وَ إِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ معناه ظاهر.

و قوله: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فلهن عليكم أجر الرضاعة و هو من نفقة الولد التي على الوالد.

و قوله: ﴿وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ الائتمار بشي‏ء تشاور القوم فيه بحيث يأمر بعضهم فيه بعضا، و هو خطاب للرجل و المرأة أي تشاوروا في أمر الولد و توافقوا في معروف من العادة بحيث لا يتضرر الرجل بزيادة الأجر الذي ينفقه و لا المرأة بنقيصته و لا الولد بنقص مدة الرضاع إلى غير ذلك.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى‏َ أي و إن أراد كل منكم من الآخر ما فيه عسر و اختلفتم فسترضع الولد امرأة أخرى أجنبية غير والدته أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي.

قوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ الإنفاق من سعة هو التوسعة في الإنفاق و هو أمر لأهل السعة بأن يوسعوا على نسائهم المطلقات المرضعات أولادهم.

و قوله: ﴿وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اَللَّهُ قدر الرزق ضيقه، و الإيتاء

 

 

 الإعطاء، و المعنى: و من ضاق عليه رزقه و كان فقيرا لا يتمكن من التوسع في الإنفاق فلينفق على قدر ما أعطاه الله من المال أي فلينفق على قدر تمكنه.

و قوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا أي لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من القدرة فالجملة تنفي الحرج من التكاليف الإلهية و منها إنفاق المطلقة.

و قوله: ﴿سَيَجْعَلُ اَللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً فيه بشرى و تسلية.

(بحث روائي‏)

في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة بسبع سنين.

أقول: سورة النساء القصرى هي سورة الطلاق.

 و فيه، أخرج مالك و الشافعي و عبد الرزاق في المصنف و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و أبو يعلى و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عمر أنه طلق امرأته و هي حائض فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتغيظ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم قال: ليراجعها ثم يمسها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، و قرأ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قبل عدتهن». أقول: قوله: «في قبل عدتهن» قراءة ابن عمر و ما في المصحف ﴿لِعِدَّتِهِنَّ.

 و فيه، أخرج ابن المنذر عن ابن سيرين في قوله: ﴿لَعَلَّ اَللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً قال: في حفصة بنت عمر طلقها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحدة - فنزلت ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ إلى قوله ﴿يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً قال: فراجعها.

 و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : كل طلاق لا يكون على السنة أو على العدة فليس بشي‏ء. قال زرارة فقلت لأبي جعفر (عليه السلام) : فسر لي طلاق السنة و طلاق العدة فقال: أما طلاق السنة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فينتظر بها حتى تطمث و تطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع

 

 

و يشهد شاهدين على ذلك ثم يدعها حتى تطمث طمثين فتنقضي عدتها بثلاث حيض و قد بانت منه و يكون خاطبا من الخطاب إن شاءت تزوجته و إن شاءت لم تتزوجه، و عليه نفقتها و السكنى ما دامت في مدتها، و هما يتوارثان حتى تنقضي العدة.

قال: و أما طلاق العدة الذي قال الله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض و تخرج من حيضتها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع و يشهد شاهدين عدلين و يراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و تكون معه حتى تحيض فإذا حاضت و خرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع و يشهد على ذلك ثم يراجعها أيضا متى شاء قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و تكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلقها التطليقة الثالثة بغير جماع و يشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه و لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

قيل له: فإن كانت ممن لا تحيض؟ قال: مثل هذه تطلق طلاق السنة.

 و في قرب الإسناد، بإسناده عن صفوان قال: سمعت يعني أبا عبد الله: و جاء رجل فسأله فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس فقال: ليس بشي‏ء. ثم قال: أ ما تقرأ كتاب الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.

ثم قال: أ لا تدري ﴿لَعَلَّ اَللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ثم قال: كلما خالف كتاب الله و السنة فهو يرد إلى كتاب الله و السنة.

و في تفسير القمي،:في معنى قوله: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال: لا يحل لرجل أن يخرج امرأته إذا طلقها و كان له عليها رجعة من بيته و هي لا تحل لها أن تخرج من بيته إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.

و معنى الفاحشة أن تزني أو تسرق على الرجل، و من الفاحشة أيضا السلاطة على زوجها فإن فعلت شيئا من ذلك حل له أن يخرجها.

 و في الكافي، بإسناده عن وهب بن حفص عن أحدهما (عليه السلام) في المطلقة تعتد في بيتها، و تظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

 

 

 أقول: و في هذه المعاني و معاني جمل الآيتين روايات أخرى عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) .

 و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة، و من أعطي التوكل أعطي الكفاية.

قال: أ تلوت كتاب الله عز و جل؟ ﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ و قال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و فيه، بإسناده عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل:

﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ قال: في دنياه.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً في رجل من أشجع أصابه جهد و بلاء و كان العدو أسروا ابنه فأتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: اتق الله و اصبر، فرجع ابن له كان أسيرا قد فكه الله فأتاهم و قد أصاب أعنزا فجاء فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلت فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : هي لك.

 و فيه، أخرج أبو يعلى و أبو نعيم و الديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قال: من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و من شدائد يوم القيامة.

و فيه، أخرج الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي عن أبي ذر قال : جعل رسول الله يتلو هذه الآية ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ فجعل يرددها حتى نعست. ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و الخطيب عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة و رزقه من حيث لا يحتسب و من انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، و من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، و من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله.

 

 

أقول: و قد تقدم في ذيل الكلام على الآيات معنى هذه الروايات.

 و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : عدة المرأة التي لا تحيض و المستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، و عدة التي تحيض و يستقيم حيضها ثلاثة قروء، و سألته عن قول الله عز و جل: ﴿إِنِ اِرْتَبْتُمْ ما الريبة؟ فقال: ما زاد على شهر فهو ريبة فلتعتد ثلاثة أشهر و ليترك الحيض‏ الحديث.

 و فيه، بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : عدة الحامل أن تضع حملها و عليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها.

 و فيه، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا طلق الرجل المرأة و هي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فإذا وضعته أعطاها أجرها و لا تضارها إلا أن يجد من هي أرخص أجرا منها فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه.

 و في الفقيه، بإسناده عن ربعي بن عبد الله و الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله عز و جل: ﴿وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اَللَّهُ قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع الكسوة و إلا فرق بينهما:.

أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) . و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿وَ أُولاَتُ اَلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال: المطلقة الحامل أجلها أن تضع ما في بطنها إن وضعت يوم طلقها زوجها فلها أن تتزوج إذا طهرت، و أن تضع ما في بطنها إلى تسعة أشهر لم تتزوج إلا أن تضع.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت سقطا تم أو لم يتم أو وضعته مضغة؟ قال: كل شي‏ء وضعته يستبين أنه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن مغيرة قال: قلت للشعبي: ما أصدق إن علي بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين.

قال: بلى فصدق به كأشد ما صدقت بشي‏ء كان علي يقول: إنما قوله: ﴿وَ أُولاَتُ اَلْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ في المطلقة.

 

 

 و فيه، أخرج عبد الرزاق عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، و أمر لها الحارث بن هشام و عباس بن أبي ربيعة بنفقة فاستقلتها فقالا لها و الله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكرت له أمرها فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها.

فأرسل إليها مروان يسألها عن ذلك فحدثته فقال مروان: لم أسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة: بيني و بينكم كتاب الله قال الله عز و جل: ﴿وَ لاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ حتى بلغ ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اَللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً قالت: هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة إذا لم تكن حاملا؟ فعلا م تحبسونها.؟ و لكن يتركها حتى إذا حاضت و طهرت طلقها تطليقة فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، و إن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، و إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها و أن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد على ذلك رجلين كما قال الله: ﴿وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الطلاق و عند المراجعة.

فإن راجعها فهي عنده على طلقتين و إن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت عدتها منه بواحدة و هي أملك لنفسها ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.

 [سورة الطلاق (٦٥): الآیات ٨ الی ١٢]

﴿ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً ٨ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ٩ أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ١٠ رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اَللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا

 

 

اَلصَّالِحَاتِ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اَللَّهُ لَهُ رِزْقاً ١١ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ١٢

(بيان‏)

موعظة و إنذار و تبشير تؤكد التوصية بالتمسك بما شرع الله لهم من الأحكام و من جملتها ما شرعه من أحكام الطلاق و العدة و لم يوص القرآن الكريم و لا أكد في التوصية في شي‏ء من الأحكام المشرعة كما وصى و أكد في أحكام النساء، و ليس إلا لأن لها نبأ.

قوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً قال الراغب: العتو النبوء عن الطاعة انتهى. فهو قريب المعنى من الاستكبار، و قال: النكر الدهاء و الأمر الصعب الذي لا يعرف انتهى. و المراد بالنكر في الآية المعنى الثاني، و في المجمع، النكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله انتهى.

و المراد بالقرية أهلها على سبيل التجوز كقوله: ﴿وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ﴾: يوسف: ٨٢، و في قوله: ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ إشارة إلى أنهم كفروا بالله سبحانه بالشرك و كفروا كفرا آخر برسله بتكذيبهم في دعوتهم. على أنهم كفروا بالله تعالى في ترك شرائعه المشرعة و كفروا برسله فيما أمروا به بولايتهم لهم كما مر نظيره في قوله: ﴿وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلى‏َ رَسُولِنَا اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ: التغابن: ١٢.

و شدة الحساب المناقشة فيه و الاستقصاء لتوفية الأجر كما هو عليه، و المراد به حساب الدنيا غير حساب الآخرة و الدليل على كونه حساب الدنيا قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: الشورى: ٣٠، و قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ

 

 

 آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: الأعراف: ٩٦.

فما يصيب الإنسان من مصيبة و هي المصيبة في نظر الدين هو حاصل محاسبة أعماله و الله يعفو عن كثير منها بالمسامحة و المساهلة في المحاسبة غير أنه تعالى يحاسب العاتين المستكبرين عن أمره و رسله حسابا شديدا بالمناقشة و الاستقصاء و التثريب فيعذبهم عذابا نكرا.

و المعنى: و كم من أهل قرية عتوا و استكبروا عن أمر ربهم و رسله فلم يطيعوا الله و رسله فحاسبناها حسابا شديدا ناقشنا فيه و استقصيناه، و عذبناهم عذابا صعبا غير معهود و هو عذاب الاستئصال في الدنيا.

و ما قيل: إن المراد به عذاب الآخرة، و التعبير بالفعل الماضي للدلالة على تحقق الوقوع غير سديد.

و في قوله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و نكتته الدلالة على العظمة.

قوله تعالى: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً هذا جزاؤهم في الأخرى كما كان ما في قوله: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا جزاؤهم في الدنيا.

و الفضل في قوله: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ إلخ، لكونه في مقام دفع الدخل كأنه لما قيل:

﴿وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً، قيل: ما المراد بخسرهم؟ فقيل: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً.

قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً استنتاج مما تقدم خوطب به المؤمنون ليأخذوا حذرهم و يقوا أنفسهم أن يعتوا عن أمر ربهم و يطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عتوهم و خسران عاقبتهم كما ابتليت بذلك القرى الهالكة.

و قد وصف المؤمنين بأولى الألباب فقال: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا

 

 

استمدادا من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى فإنهم لما سمعوا أن قوما عتوا عن أمر ربهم فحوسبوا حسابا شديدا و عذبوا عذابا نكرا و كان عاقبة أمرهم خسرا ثم سمعوا أن ذلك تكرر مرة بعد مرة و أباد قوما بعد قوم، قضت عقولهم بأن العتو و الاستكبار عن أمر الله تعرض لشديد حساب الله و منكر عذابه فتنبههم و تبعثهم إلى التقوى و قد أنزل الله إليهم ذكرا يذكرهم به ما لهم و ما عليهم و يهديهم إلى الحق و إلى طريق مستقيم.

قوله تعالى: ﴿رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اَللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ إلخ، عطف بيان أو بدل من ﴿ذِكْراً فالمراد بالذكر الذي أنزله هو الرسول سمي به لأنه وسيلة التذكرة بالله و آياته و سبيل الدعوة إلى دين الحق، و المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يؤيده ظاهر قوله:

﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اَللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ إلخ.

و على هذا فالمراد بإنزال الرسول بعثه من عالم الغيب و إظهاره لهم رسولا من عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون كما في قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ: الحديد: ٢٥.

و قد دعي ظهور الإنزال في كونه من السماء بعضهم كصاحب الكشاف إلى أن فسر ﴿رَسُولاً بجبريل و يكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه متبوع لقومه و وسيلة الإبلاغ لهم لكن ظاهر قوله: ﴿يَتْلُوا عَلَيْكُمْ تقدم تفسيره في نظائره.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وعد جميل و تبشير.

و قوله: ﴿قَدْ أَحْسَنَ اَللَّهُ لَهُ رِزْقاً وصف لإحسانه تعالى إليهم فيما رزقهم به من الرزق و المراد بالرزق ما رزقهم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا و الجنة في الآخرة، و قيل المراد به الجنة.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ إلخ، بيان يتأكد به ما تقدم في الآيات من حديث ربوبيته تعالى و بعثة الرسول و إنزاله

 

 

 الذكر ليطيعوه فيه و أن في تمرده و مخالفته الحساب الشديد و العذاب الأليم و في طاعته الجنة الخالدة كل ذلك لأنه قدير عليم.

فقوله: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة حم السجدة.

و قوله: ﴿وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ظاهره المثلية في العدد، و عليه فالمعنى: و خلق من الأرض سبعا كما خلق من السماء سبعا فهل الأرضون السبع سبع كرات من نوع الأرض التي نحن عليها و التي نحن عليها إحداها؟ أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات محيطة بعضها ببعض و الطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه؟ أو المراد الأقاليم السبعة التي قسموا إليها المعمور من سطح الكرة؟ وجوه ذهب إلى كل منها جمع و ربما لاح بالرجوع إلى ما تقدم في تفسير سورة حم السجدة محتمل آخر غيرها.

و ربما قيل: إن المراد بقوله: ﴿وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أنه خلق من الأرض شيئا هو مثل السماوات السبع و هو الإنسان المركب من المادة الأرضية و الروح السماوية التي فيها نماذج سماوية ملكوتية.

و قوله: ﴿يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الظاهر أن الضمير للسماوات و الأرض جميعا و الأمر هو الأمر الإلهي الذي فسره بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ: يس: ٨٣، و هو كلمة الإيجاد، و تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر إلى سماء بعد سماء حتى ينتهي إلى العالم الأرضي فيتكون ما قصد بالأمر من عين أو أثر أو رزق أو موت أو حياة أو عزة أو ذلة أو غير ذلك قال تعالى: ﴿وَ أَوْحى‏َ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا: حم السجدة: ١٢، و قال: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ: الم السجدة: ٥.

و قيل: المراد بالأمر الأمر التشريعي يتنزل ملائكة الوحي به من السماء إلى النبي و هو بالأرض. و هو تخصيص من غير مخصص و ذيل الآية ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ إلخ، لا يلائمه.

و قوله: ﴿أَنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً من الغايات المترتبة على خلقة السماوات السبع و من الأرض مثلهن و تنزيله الأمر بينهن، و في ذلك انتساب الخلق و الأمر إليه و اختصاصهما به فإن المتفكر في ذلك لا يرتاب في قدرته على كل

 

 

 شي‏ء و علمه بكل شي‏ء فليتق مخالفة أمره أولوا الألباب من المؤمنين فإن سنة هذا القدير العليم تجري على إثابة المطيعين لأوامره، و مجازاة العاتين المستكبرين و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد.

(بحث روائي)

في تفسير القمي :في قوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ قال: أهل القرية.

 و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السلام) في حديث المأمون قال : الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و نحن أهله و ذلك بين في كتاب الله حيث يقول في سورة الطلاق: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ يَا أُولِي اَلْأَلْبَابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اَللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ قال: فالذكر رسول الله و نحن أهله.

 و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: ﴿وَ اَلسَّمَاءِ ذَاتِ اَلْحُبُكِ فقال: هي محبوكة إلى الأرض و شبك بين أصابعه فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و الله يقول:

﴿رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا؟ فقال: سبحان الله أ ليس الله يقول: بغير عمد ترونها؟ قلت: بلى. قال: فثم عمد و لكن لا ترونها.

قلت: فكيف ذلك جعلني الله فداك؟ قال: فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا و السماء الدنيا فوقها قبة، و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا و السماء الثانية فوقها قبة، و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية و السماء الثالثة فوقها قبة، و الأرض الرابعة فوق السماء الثالثة و السماء الرابعة فوقها قبة، و الأرض الخامسة فوق السماء الرابعة و السماء الخامسة فوقها قبة، و الأرض السادسة فوق السماء الخامسة و السماء السادسة فوقها قبة، و الأرض السابعة فوق السماء السادسة و السماء السابعة فوقها قبة و عرش الرحمن تبارك و تعالى فوق السماء السابعة و هو قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ.

فأما صاحب الأمر فهو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و الوصي بعد رسول الله قائم على وجه الأرض فإنما يتنزل الأمر إليه من فوق السماء من بين السماوات و الأرضين.

 

 

 قلت: فما تحتنا إلا أرض واحدة؟ فقال: ما تحتنا إلا أرض واحدة و إن الست لهن فوقنا:.

أقول: و عن الطبرسي عن العياشي عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) : مثله. و الحديث نادر في بابه، و هو و خاصة ما في ذيله من تنزل الأمر أقرب إلى الحمل على المعنى منه إلى الحمل على الصورة و الله أعلم.

(٦٦) سورة التحريم مدنية و هي اثنتا عشرة آية (١٢)

[سورة التحريم (٦٦): الآیات ١ الی ٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١ قَدْ فَرَضَ اَللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَ اَللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ٢ وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اَللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ اَلْعَلِيمُ اَلْخَبِيرُ ٣ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ٤ عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَ أَبْكَاراً ٥ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ

 

 

﴿شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ٦ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٧ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اِغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٨ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٩

(بيان‏)

تبدأ السورة بالإشارة إلى ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين بعض أزواجه من قصة التحريم فيعاتب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتحريمه ما أحل الله له ابتغاء لمرضاة بعض أزواجه و مرجعه إلى عتاب تلك البعض و الانتصار له (ص) كما يدل عليه سياق الآيات.

ثم تخاطب المؤمنين أن يقوا أنفسهم من عذاب الله النار التي وقودها الناس و الحجارة و ليسوا يجزون إلا بأعمالهم و لا مخلص منها إلا للنبي و الذين آمنوا معه ثم تخاطب النبي بجهاد الكفار و المنافقين.

و تختتم السورة بضربه تعالى مثلا من النساء للكفار و مثلا منهن للمؤمنين.

و ظهور السياق في كون السورة مدنية لا ريب فيه.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ خطاب مشوب بعتاب لتحريمه (ص) لنفسه بعض ما أحل الله له، و لم يصرح تعالى به و لم يبين أنه ما هو؟ و ما ذا كان؟ غير أن قوله: ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ يومئ

 

 

 أنه كان عملا من الأعمال المحللة التي يقترفها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا ترتضيه أزواجه فضيقن عليه و آذينه حتى أرضاهن بالحلف على أن يتركه و لا يأتي به بعد.

فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ علق الخطاب و النداء بوصف النبي دون الرسول لاختصاصه به في نفسه دون غيره حتى يلائم وصف الرسالة.

و قوله: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ المراد بالتحريم التسبب إلى الحرمة بالحلف على ما تدل عليه الآية التالية فإن ظاهر قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ اَللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ إلخ، إنه (ص) حلف على ذلك و من شأن اليمين أن يوجب عروض الوجوب إن كان الحلف على الفعل و الحرمة إن كان الحلف على الترك، و إذ كان (ص) حلف على ترك ما أحل الله له فقد حرم ما أحل الله له بالحلف.

و ليس المراد بالتحريم تشريعه (ص) على نفسه الحرمة فيما شرع الله له فيه الحلية فليس له ذلك.

و قوله: ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ أي تطلب بالتحريم رضاهن بدل من ﴿تُحَرِّمُ إلخ، أو حال من فاعله، و الجملة قرينة على أن العتاب بالحقيقة متوجه إليهن، و يؤيده قوله خطابا لهما: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا إلخ، مع قوله فيه: ﴿وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اَللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَ اَللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ قال الراغب: كل موضع ورد فرض الله عليه ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما ورد من فرض الله له فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو ﴿مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ و قوله: ﴿قَدْ فَرَضَ اَللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ. انتهى. و التحلة أصلها تحللة على وزن تذكرة و تكرمة مصدر كالتحليل، قال الراغب: و قوله عز و جل: ﴿قَدْ فَرَضَ اَللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ أي بين ما تحل به عقدة أيمانكم من الكفارة.

فالمعنى: قد قدر الله لكم كأنه قدره نصيبا لهم حيث لم يمنعهم عن حل عقدة اليمين تحليل أيمانكم بالكفارة و الله وليكم الذي يتولى تدبير أموركم بالتشريع و الهداية و هو العليم الحكيم.

و في الآية دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان قد حلف على الترك، و أمر له بتحلة يمينه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلى‏َ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اَللَّهُ

 

 

 عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ اَلْعَلِيمُ اَلْخَبِيرُ السر هو الحديث الذي تكتمه في نفسك و تخفيه، و الإسرار إفضاؤك الحديث إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه، و ضمير ﴿نَبَّأَتْ لبعض أزواجه، و ضمير ﴿بِهِ للحديث الذي أسره النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إليها، و ضمير ﴿أَظْهَرَهُ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ضمير ﴿عَلَيْهِ لإنبائها به غيرها و إفشائها السر، و ضمير ﴿عَرَّفَ و ﴿أَعْرَضَ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ضمير ﴿بَعْضَهُ للحديث، و الإشارة بقوله: ﴿هَذَا لإنبائها غيره و إفشائها السر.

و محصل المعنى: و إذ أفضى النبي إلى بعض أزواجه و هي حفصة بنت عمر بن الخطاب حديثا و أوصاها بكتمانه فلما أخبرت به غيرها و أفشت السر خلافا لما أوصاها به، و أعلم الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنها نبأت به غيرها و أفشت السر عرف و أعلم بعضه و أعرض عن بعض آخر، فلما خبرها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالحديث قالت للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من أنبأك و أخبرك أني نبأت به غيري و أفشيت السر؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : نبأني و خبرني العليم الخبير و هو الله العليم بالسر و العلانية الخبير بالسرائر.

قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ أي إن تتوبا إلى الله فقد تحقق منكما ما يستوجب عليكما التوبة و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه، إلخ.

و قد اتفق النقل على أنهما عائشة و حفصة زوجا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

و الصغو الميل و المراد به الميل إلى الباطل و الخروج عن الاستقامة و قد كان ما كان منهما من إيذائه و التظاهر عليه (ص) من الكبائر و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً: الأحزاب: ٥٧، و قال:

﴿وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: التوبة: ٦١.

و التعبير بقلوبكما و إرادة معنى التثنية من الجمع كثير النظير في الاستعمال.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ إلخ، التظاهر التعاون، و أصل ﴿وَ إِنْ تَظَاهَرَا و إن تتظاهرا، و ضمير الفصل في قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ للدلالة على أن لله سبحانه عناية خاصة به (ص) ينصره و يتولى أمره من غير واسطة من خلقه، و المولى الولي الذي يتولى أمره و ينصره على من يريده بسوء.

و ﴿جِبْرِيلُ عطف على لفظ الجلالة، و ﴿صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ عطف كجبريل، و المراد

 

 

 بصالح المؤمنين على ما قيل الصلحاء من المؤمنين فصالح المؤمنين واحد أريد به الجمع كقولك:

لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد به الجنس كقولك لا يفعله من صلح منه و مثله قولك:

كنت في السامر و الحاضر.

و فيه قياس المضاف إلى الجمع إلى مدخول اللام فظاهر ﴿صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ غير ظاهر «الصالح من المؤمنين».

و وردت الرواية من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بصالح المؤمنين علي عليه أفضل السلام، و ستوافيك إن شاء الله.

و في المراد منه أقوال أخر أغمضنا عنها لعدم دليل عليها.

و قوله: ﴿وَ اَلْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ إفراد الخبر للدلالة على أنهم متفقون في نصره متحدون صفا واحدا، و في جعلهم بعد ذلك أي بعد ولاية الله و جبريل و صالح المؤمنين تعظيم و تفخيم.

و لحن الآيات في إظهار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على من يؤذيه و يريده بسوء و تشديد العتاب على من يتظاهر عليه عجيب، و قد خوطب فيها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أولا و عوتب على تحريمه ما أحل الله له و أشير عليه بتحلة يمينه و هو إظهار و تأييد و انتصار له و إن كان في صورة العتاب.

ثم التفت من خطابه إلى خطاب المؤمنين في قوله: ﴿وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلى‏َ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ يشير إلى القصة و قد أبهمها إبهاما و قد كان أيد النبي و أظهره قبل الإشارة إلى القصة و إفشائها مختوما عليها، و فيه مزيد إظهاره.

ثم التفت من خطاب المؤمنين إلى خطابهما و قرر أن قلوبهما قد صغت بما فعلتا و لم يأمرهما أن تتوبا من ذنبهما بل بين لهما أنهما واقعتان بين أمرين إما أن تتوبا و إما أن تظاهرا على من الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك أجمع ثم أظهر الرجاء إن طلقهن أن يرزقه الله نساء خيرا منهن. ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم.

و انتهى الكلام إلى ضربه تعالى مثلين مثلا للذين كفروا و مثلا للذين آمنوا.

و قد أدار تعالى الكلام في السورة بعد التعرض لحالهما بقوله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ إلخ، بين التعرض لحال المؤمنين و التعرض لحال الكفار

 

 

 فقال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ إلخ، و ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا إلخ، و قال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلخ، و ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ إلخ، و قال:

﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا.

قوله تعالى: ﴿عَسى‏َ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ إلى آخر الآية استغناء إلهي فإنهن و إن كن مشرفات بشرف زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن الكرامة عند الله بالتقوى كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً: الأحزاب:

 ٢٩، انظر إلى مكان ﴿مِنْكُنَّ و قال: ﴿يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً: الأحزاب: ٣١.

و لذا ساق الاستغناء بترجي إبداله إن طلقهن أزواجا خيرا منهن، و علق الخبر بما ذكر لأزواجه الجديدة من صفات الكرامة و هي أن يكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات أي صائمات ثيبات و أبكارا.

فمن تزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كانت متصفة بمجموع هذه الصفات كانت خيرا منهن و ليس إلا لأجل اختصاص منها بالقنوت و التوبة أو القنوت فقط مع مشاركتها لهن في باقي الصفات، و القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع.

و يتأيد هذا المعنى بما في مثل مريم الآتي في آخر السورة من ذكر القنوت ﴿وَ كَانَتْ مِنَ اَلْقَانِتِينَ فالقنوت هو الذي يفقدنه و هو لزومهن طاعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) التي فيها طاعة الله و اتقاؤهن أن يعصين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يؤذينه.

و بما مر يظهر فساد قول من قال إن وجه خيرية أزواجه اللاحقة من أزواجه السابقة إن طلقهن، هو تزوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بهن و انفصال الأزواج السابقة و زوجيته (ص) شرف لا يقدر قدره.

و ذلك أنه لو كان ملاك ما ذكر في الآية من الخير هو الزوجية كان كل من تزوج (ص) من النساء أفضل و أشرف منهن إن طلقهن و إن لم تتلبس بشي‏ء مما ذكر من صفات الكرامة فلم يكن مورد لعد ما عد من الصفات.

قال في الكشاف،: فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف و وسط بين الثيبات و الأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات. انتهى.

 

 

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ إلخ، ﴿قُوا أمر من الوقاية بمعنى حفظ الشي‏ء مما يؤذيه و يضره، و الوقود بفتح الواو اسم لما توقد به النار من حطب و نحوه. و المراد بالنار نار جهنم و كون الناس المعذبين فيها وقودا لها معناه اشتعال الناس فيها بأنفسهم كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ فِي اَلنَّارِ يُسْجَرُونَ : المؤمن: ٧٢. فيناسب تجسم الأعمال كما هو ظاهر الآية التالية ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلخ، و فسرت الحجارة بالأصنام.

و قوله: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أي وكل عليها لإجراء أنواع العذاب على أهلها ملائكة غلاظ شداد.

و الغلاظ جمع غليظ ضد الرقيق و الأنسب للمقام كون المراد بالغلظة خشونة العمل كما في قوله الآتي: ﴿جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ الآية ٩ من السورة، و الشداد جمع شديد بمعنى القوي في عزمه و فعله.

و قوله: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ كالمفسر لقوله: ﴿غِلاَظٌ شِدَادٌ أي هم ملتزمون بما أمرهم الله من أنواع العذاب لا يعصونه بالمخالفة و الرد و يفعلون ما يؤمرون به على ما أمروا به من غير أن يفوت منهم فائت أو ينقص منه شي‏ء لضعف فيهم أو فتور فهم غلاظ شداد.

و بهذا يظهر أن قوله: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ناظر إلى التزامهم بالتكليف، و قوله: ﴿وَ يَفْعَلُونَ إلخ، ناظر إلى العمل على طبقه فلا تكرار كما قيل.

قال في التفسير الكبير، في ذيل الآية: و فيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به و بما ينهاهم عنه، و العصيان منهم مخالفة للأمر و النهي.

و فيه أن الآية و غيرها مما تصف الملائكة بمحض الطاعة من غير معصية مطلقة تشمل الدنيا و الآخرة فلا وجه لتخصيص تكليفهم بالآخرة.

ثم إن تكليفهم غير سنخ التكليف المعهود في المجتمع الإنساني بمعنى تعليق المكلف بالكسر إرادته بفعل المكلف بالفتح تعليقا اعتباريا يستتبع الثواب و العقاب في ظرف الاختيار و إمكان الطاعة و المعصية بل هم خلق من خلق الله لهم ذوات طاهرة نورية لا يريدون إلا ما أراد الله و لا يفعلون إلا ما يؤمرون، قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ: الأنبياء، ٢٧ و لذلك لا جزاء لهم

 

 

 على أعمالهم من ثواب أو عقاب فهم مكلفون بتكليف تكويني غير تشريعي مختلف باختلاف درجاتهم، قال تعالى: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ: الصافات: ١٦٤، و قال عنهم:

﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا: مريم: ٦٤.

و الآية الكريمة بعد الآيات السابقة كالتعميم بعد التخصيص فإنه تعالى لما أدب نساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببيان ما لإيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الأثر السيئ عمم الخطاب فخاطب المؤمنين عامة أن يؤدبوا أنفسهم و أهليهم و يقوهم من النار التي وقودها نفس الداخلين فيها أي إن أعمالهم السيئة تلزمهم و تعود نارا تعذبهم و لا مخلص لهم منها و لا مناص عنها.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب عام للكفار بعد ما جوزوا بالنار فإنهم يعتذرون عن كفرهم و معاصيهم فيخاطبون أن لا تعتذروا اليوم - و هو يوم الجزاء إنما تجزون نفس ما كنتم تعملون أي إن العذاب الذي تعذبون بها هو عملكم السيئ الذي عملتموه و قد برز لكم اليوم حقيقته و إذ عملتموه فقد لزمكم أنكم عملتموه و الواقع لا يتغير و ما حق عليكم من كلمة العذاب لا يعود باطلا فهذا ظاهر الخطاب.

و قيل: المعنى: لا تعتذرو اليوم بعد دخول النار فإن الاعتذار توبة و التوبة غير مقبولة بعد دخول النار إنما تجزون ما لزم في مقابل عملكم من الجزاء في الحكمة.

و في اتباع الآيات السابقة بما في هذه الآية من خطاب القهر تهديد ضمني و إشعار بأن معصية الله و رسوله ربما أدى إلى الكفر.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏َ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إلخ، النصح‏ تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، و يأتي بمعنى الإخلاص نحو نصحت له الود أي أخلصته على ما ذكره الراغب فالتوبة النصوح ما يصرف صاحبه عن العود إلى المعصية أو ما يخلص العبد للرجوع عن الذنب فلا يرجع إلى ما تاب منه.

لما أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم و أهليهم من النار أمرهم جميعا ثانيا بالتوبة و فرع عليه رجاء أن يستر الله سيئاتهم و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

و قوله: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قال الراغب: يقال: خزي‏ الرجل يخزي من باب علم يعلم إذا لحقه انكسار إما من نفسه و إما من غيره فالذي يلحقه

 

 

 من نفسه و هو الحياء المفرط مصدره الخزاية، و الذي يلحقه من غيره و يعد ضربا من الاستخفاف مصدره الخزي و الإخزاء من الخزاية و الخزي جميعا قال: و على نحو ما قلنا في خزي ذل و هان فإن ذلك متى كان من الإنسان نفسه يقال له الهون بفتح الهاء و الذل و يكون محمودا، و متى كان من غيره يقال له: الهون بضم الهاء و الهوان و الذل و يكون مذموما. انتهى ملخصا.

فقوله: ﴿يَوْمَ ظرف لما تقدمه، و المعنى: توبوا إلى الله عسى أن يكفر عنكم سيئاتكم و يدخلكم الجنة في يوم لا يخزي و لا يكسر الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بجعلهم محرومين من الكرامة و خلفه ما وعدهم من الوعد الجميل.

و في قوله: ﴿اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ اعتبار المعية في الإيمان في الدنيا و لازمه ملازمتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و طاعتهم له من غير مخالفة و مشاقة.

و من المحتمل أن يكون قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ خبره ﴿مَعَهُ و قوله: ﴿نُورُهُمْ يَسْعى‏َ إلخ، خبرا ثانيا، و قوله: ﴿يَقُولُونَ إلخ، خبرا ثالثا فيفيد أنهم لا يفارقون النبي و لا يفارقهم يوم القيامة، و هذا وجه جيد لازمه كون عدم الخزي خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سعي النور و سؤال إتمامه خاصا بالذين معه من المؤمنين و تؤيده آية الحديد الآتية.

و من الممكن أن يكون ﴿مَعَهُ متعلقا بقوله: ﴿آمَنُوا و قوله: ﴿نُورُهُمْ يَسْعى‏َ إلخ، خبرا أولا و ثانيا للموصول.

و قوله: ﴿يَسْعى‏َ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ تقدم بعض الكلام في معناه في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعى‏َ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ: الحديد: ١٢، و لا يبعد أن يكون ما بين أيديهم من النور نور الإيمان و ما بأيمانهم نور العمل.

و قوله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اِغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ يفيد السياق أن المغفرة المسئولة سبب لتمام النور أو هو ملازم لتمام النور فيفيد أن في نورهم نقصا و النور نور الإيمان و العمل فلهم نقائص بحسب درجات الإيمان أو آثار السيئات التي خلت محالها في صحائفهم من العبودية في العمل فيسألون ربهم أن يتم لهم نورهم و يغفر لهم، و إليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ الحديد: ١٩.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ

 

 

 وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ المراد بالجهاد بذل الجهد في إصلاح الأمر من جهتهم و دفع شرهم ففي الكفار ببيان الحق و تبليغه فإن آمنوا و إلا فالحرب و في المنافقين باستمالتهم و تأليف قلوبهم حتى تطمئن قلوبهم إلى الإيمان و إلا فلم يقاتل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منافقا قط.

و قيل: المراد اشدد عليهم في إقامة الحدود لأن أكثر من يصيب الحد في ذلك الزمان المنافقون. و هما كما ترى.

(بحث روائي‏)

 في تفسير القمي، بإسناده عن ابن سيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ قال: اطلعت عائشة و حفصة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مع مارية فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و الله لا أقربها فأمر الله أن يكفر بها عن يمينه.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن رجل قال لامرأته:

أنت علي حرام فقال: لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه و قلت: الله أحلها لك فما حرمها عليك؟ أنه لم يزد على أن كذب فزعم أن ما أحل الله له حرام و لا يدخل عليه طلاق و لا كفارة.

فقلت: قول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ فجعل فيه كفارة؟ فقال: إنما حرم عليه جاريته مارية القبطية و حلف أن لا يقربها، و إنما جعل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الكفارة في الحلف و لم يجعل عليه في التحريم.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يشرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحا، فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة و الله لا أشربه، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ الآية. أقول: و الحديث مروي بطرق متشتتة و ألفاظ مختلفة، و في انطباقها على الآيات و هي ذات سياق واحد خفاء.

 

 

 و فيه، أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن عباس قال : كانت عائشة و حفصة متحابتين فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدث عنده فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى جاريته فظلت معه في بيت حفصة و كان اليوم الذي يأتي فيه عائشة فوجدتهما في بيتها فجعلت تنتظر خروجها و غارت غيرة شديدة فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جاريته و دخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك و الله لقد سوأتني، فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و الله لأرضينك و إني مسر إليك سرا فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضا لك.

فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها أن أبشري أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قد حرم عليه فتاته فلما أخبرت بسر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أظهر الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليه فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ. أقول: انطباق ما في الحديث على الآيات و خاصة قوله: «عرف بعضه و أعرض عن بعض» فيه خفاء.

 و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً قال: دخلت حفصة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بيتها و هو يطأ مارية، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا تخبري عائشة حتى أبشرك بشارة فإن أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا مت.

فذهبت حفصة فأخبرت عائشة فقالت عائشة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): من أنبأك هذا؟ قال:

نبأني العليم الخبير، فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ. أقول: و الآثار في هذا الباب كثيرة على اختلاف فيها، و في أكثرها أنه (ص) حرم مارية على نفسه لقول حفصة لا لقول عائشة، و أن التي قالت للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا هي حفصة تريد من أخبرك أني أفشيت السر دون عائشة.

و هي مع ذلك لا تزيل إبهام قوله تعالى: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. نعم فيما رواه ابن مردويه عن علي قال: ما استقصى كريم قط لأن الله يقول: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، و روي عن أبي حاتم عن مجاهد، و ابن مردويه عن ابن عباس : أن الذي عرف أمر مارية و الذي أعرض عنه قوله: إن أباك و أباها يليان الناس بعدي مخافة أن يفشو.

 

 

 و يتوجه عليه أنه ما وجه الكرم في أن يعرف (ص) ما قاله من تحريم مارية و يعرض عما أخبرها من ولايتهما مع أن العكس أولى و أقرب.

و قد روي بعده طرق عن عمر بن الخطاب سبب نزول الآيات و لم يذكر ذلك‏ ففي عدة من جوامع الحديث منها البخاري و مسلم و الترمذي عن ابن عباس قال :لم أزل حريصا أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي اللتين قال الله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا حتى حج عمر و حججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر و عدلت معه بالإداوة - فتبرز ثم أتى فصببت على يديه فتوضأ.

فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اللتان قال الله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة و حفصة ثم أنشأ يحدثني.

فقال: كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر من ذلك؟ فو الله إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قلت: قد خابت من فعلت ذلك منهن و خسرت.

قال: و كان منزلي بالعوالي و كان لي جار من الأنصار كنا نتناوب النزول إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فينزل يوما فيأتيني بخبر الوحي و غيره و أنزل يوما فآتيه بمثل ذلك.

قال: و كنا نحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فجاء يوما فضرب على الباب فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: أ جاءت غسان؟ قال: أعظم من ذلك طلق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نساءه. قلت في نفسي: قد خابت حفصة و خسرت قد كنت أرى ذلك كائنا فلما صلينا الصبح شددت علي ثيابي ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: أ طلقكن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ قالت: لا أدري هو ذا معتزل في المشربة فانطلقت فأتيت غلاما أسود فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئا فانطلقت إلى المسجد فإذا حول المسجد نفر يبكون فجلست إليهم.

ثم غلبني ما أجد فانطلقت فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال:

قد ذكرتك له فلم يقل شيئا فوليت منطلقا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فإذا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) متكئ على حصير قد رأيت أثره في جنبه فقلت: يا رسول الله

 

 

 أ طلقت نساءك؟ قال: لا. قلت: الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله و كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك - فقالت: ما تنكر؟ فو الله إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن، فدخلت على حفصة فقلت: أ تراجع إحداكن رسول الله و تهجره اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منكن و خسرت أ تأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

فقلت لحفصة: لا تراجعي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا تسأليه شيئا و سليني ما بدا لك و لا يغرنك إن كانت جارتك أوسم منك و أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتبسم أخرى.

فقلت: يا رسول الله أستأنس قال: نعم. فرفعت رأسي فما رأيت في البيت إلا أهبة ثلاثة فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس و الروم و هم لا يعبدون الله فاستوى جالسا و قال: أ و في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، و كان قد أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا فعاتبه الله في ذلك و جعل له كفارة اليمين. أقول: و هذا المعنى مروي عنه مفصلا و مختصرا بطرق مختلفة، و الرواية كما ترى لا تذكر ما أسره النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى بعض أزواجه؟ و ما هو بعض النبإ الذي عرفه و ما هو الذي أعرض عنه و له شأن من الشأن.

و هي مع ذلك ظاهرة في أن المراد بالتحريم في الآية تحريم عامة أزواجه و ذلك لا ينطبق عليها و فيها قوله تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اَللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ مضافا إلى أنه لا تبين به وجه التخصيص في قوله: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ إلخ.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اَللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ قال: صالح المؤمنين علي (عليه السلام) .

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)

 

 

يقول: ﴿وَ صَالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ قال: علي بن أبي طالب.

 أقول: ذكر صاحب البرهان بعد إيراد رواية أبي بصير السابقة أن محمد بن العباس أورد في هذا المعنى اثنين و خمسين حديثا من طرق الخاصة و العامة ثم أورد نبذة منها.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً جلس رجل من المؤمنين يبكي و قال: أنا عجزت عن نفسي و كلفت أهلي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، و تنهاهم عما تنهى عنه نفسك.

 و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي بصير في قوله: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً قلت:

كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله و تنهاهم عما نهى الله فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم و إن عصوك كنت قد قضيت ما عليك:.

أقول: و رواه بطريق آخر عن ذرعة عن أبي بصير عنه (عليه السلام) . و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و البيهقي في المدخل عن علي بن أبي طالب: في قوله:

﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً قال: علموا أنفسكم و أهليكم الخير و أدبوهم.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال : تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً فقالوا: يا رسول الله كيف نقي أهلنا نارا؟ قال: تأمرونهم بما يحبه الله و تنهونهم عما يكره الله.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه.

قال محمد بن الفضيل: سألت عنها أبا الحسن (عليه السلام) فقال: يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه‏، الحديث.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع. أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة من الفريقين.

 

 

و في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : في قوله:

﴿يَسْعى‏َ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ أئمة المؤمنين يوم القيامة يسعى‏[1] بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية: من كان له نور يومئذ نجا، و كل مؤمن له نور.

 [سورة التحريم (٦٦): الآیات ١٠ الی ١٢]

﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ اُدْخُلاَ اَلنَّارَ مَعَ اَلدَّاخِلِينَ ١٠ وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ١١ وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرَانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَ كُتُبِهِ وَ كَانَتْ مِنَ اَلْقَانِتِينَ ١٢

(بيان‏)

تتضمن الآيات الكريمة مثلين يمثل بهما الله سبحانه حال الكفار و المؤمنين في أن شقاء الكفار و هلاكهم إنما كان بخيانتهم لله و رسوله و كفرهم و لم ينفعهم اتصال بسبب إلى الأنبياء المكرمين، و أن سعادة المؤمنين و فلاحهم إنما كان بإخلاصهم الإيمان بالله و رسوله و القنوت و حسن الطاعة و لم يضرهم اتصال بأعداء الله بسبب فإنما ملاك الكرامة عند الله التقوى.

 

 

 

 يمثل الحال أولا: بحال امرأتين كانتا زوجين لنبيين كريمين عدهما الله سبحانه عبدين صالحين - و يا له من كرامة - فخانتاهما فأمرتا بدخول النار مع الداخلين فلم ينفعهما زوجيتهما للنبيين الكريمين شيئا فهلكتا في ضمن الهالكين من غير أدنى تميز و كرامة.

و ثانيا: بحال امرأتين إحداهما امرأة فرعون الذي كانت منزلته في الكفر بالله أن نادى في الناس فقال: أنا ربكم الأعلى، فآمنت بالله و أخلصت الإيمان فأنجاها الله و أدخلها الجنة و لم يضرها زوجية مثل فرعون شيئا، و ثانيتهما مريم ابنة عمران الصديقة القانتة أكرمها الله بكرامته و نفخ فيها من روحه.

و في التمثيل تعريض ظاهر شديد لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حيث خانتاه في إفشاء سره و تظاهرتا عليه و آذتاه بذلك، و خاصة من حيث التعبير بلفظ الكفر و الخيانة و ذكر الأمر بدخول النار.

قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا إلخ، قال الراغب: الخيانة و النفاق‏ واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر و نقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلانا و خنت أمانة فلان. انتهى.

و قوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن كان متعلقا بالمثل كان المعنى: ضرب الله مثلا يمثل به حال الذين كفروا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالعباد الصالحين، و إن كان متعلقا بضرب كان المعنى: ضرب الله الامرأتين و ما انتهت إليه حالهما مثلا للذين كفروا ليعتبروا به و يعلموا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالصالحين من عباده و أنهم بخيانتهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أهل النار لا محالة.

و قوله: ﴿اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ مفعول ﴿ضَرَبَ و المراد بكونهما تحتهما زوجيتهما لهما.

و قوله: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً ضمير التثنية الأولى للعبدين، و الثانية للامرأتين، و المراد أنه لم ينفع المرأتين زوجيتهما للعبدين الصالحين.

و قوله: ﴿وَ قِيلَ اُدْخُلاَ اَلنَّارَ مَعَ اَلدَّاخِلِينَ أي مع الداخلين فيها من قوميهما كما يلوح من قوله في امرأة نوح: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ

 

 

 اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ: هود: ٤٠، و قوله في امرأة لوط: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ: هود: ٨١، أو المعنى مع الداخلين فيها من الكفار.

و في التعبير بقيل بالبناء للمفعول، و إطلاق الداخلين إشارة إلى هوان أمرهما و عدم كرامة لهما أصلا فلم يبال بهما أين هلكتا.

قوله تعالى: ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ إلخ، الكلام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا كالكلام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا.

و قوله: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ لخص سبحانه جميع ما كانت تبتغيه في حياتها و ترومه في مسير عبوديتها في مسألة سألت ربها و ذلك أن الإيمان إذا كمل تواطأ الظاهر و الباطن و توافق القلب و اللسان فلا يقول الإنسان إلا ما يفعل و لا يفعل إلا ما يقول فيكون ما يرجوه أو يتمناه أو يسأله بلسانه هو الذي يريده كذلك بعمله.

و إذ حكى الله فيما يمثل به حالها و يشير إلى منزلتها الخاصة في العبودية دعاء دعت به دل ذلك على أنه عنوان جامع لعبوديتها و على ذلك كانت تسير مدى حياتها، و الذي تتضمنه مسألتها أن يبني الله لها عنده بيتا في الجنة و ينجيها من فرعون و عمله و ينجيها من القوم الظالمين فقد اختارت جوار ربه و القرب منه على أن تكون أنيسة فرعون و عشيقته و هي ملكة مصر و آثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون الذي فيه مما تشتهيه الأنفس و تتمناه القلوب ما تقف دونه الآمال فقد كانت عزفت نفسها ما هي فيه من زينة الحياة الدنيا و هي لها خاضعة و تعلقت بما عند ربه من الكرامة و الزلفى فآمنت بالغيب و استقامت على إيمانها حتى قضت.

و هذه القدم هي التي قدمتها إلى أن جعلها الله مثلا للذين آمنوا و لخص حالها و ما كانت تبتغيه و تعمل له مدى حياتها في مسير العبودية في مسألة حكى عنها و ما معناها إلا أنها انتزعت من كل ما يلهوها عن ربها و لاذت بربها تريد القرب منه تعالى و الإقامة في دار كرامته.

فقوله: ﴿اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ اسمها على ما في الرواية آسية، و قوله: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ الجمع بين كون البيت المبني لها عند الله و في الجنة لكون الجنة

 

 

 دار القرب من الله و جوار رب العالمين كما قال تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ : آل عمران: ١٦٩.

على أن الحضور عنده تعالى و القرب منه كرامة معنوية و الاستقرار في الجنة كرامة صورية، و سؤال الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين.

و قوله: ﴿وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ تبر منها و سؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون و من عمله الذي تدعو ضرورة المصاحبة و المعاشرة إلى الشركة فيه و التلبس به، و قيل:

المراد بالعمل الجماع.

و قوله: ﴿وَ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ و هم قوم فرعون و هو تبر آخر و سؤال أن ينجيها الله من المجتمع العام كما أن الجملة السابقة كانت سؤال أن ينجيها من المجتمع الخاص.

قوله تعالى: ﴿وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرَانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا إلخ، عطف على امرأة فرعون و التقدير و ضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم إلخ.

ضربها الله مثلا باسمها و أثنى عليها و لم يذكر في كلامه تعالى امرأة باسمها غيرها ذكر اسمها في القرآن في بضع و ثلاثين موضعا في نيف و عشرين سورة.

و قوله: ﴿اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ثناء عليها على عفتها، و قد تكرر في القرآن ذكر ذلك و لعل ذلك بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها كما قال تعالى: ﴿وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏َ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً: النساء: ١٥٦، و في سورة الأنبياء في مثل القصة: ﴿وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا: الأنبياء: ٩١.

و قوله: ﴿وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا أي بما تكلم به الله سبحانه من الوحي إلى أنبيائه كما قيل، و قيل: المراد بها وعده تعالى و وعيده و أمره و نهيه، و فيه أنه يستلزم كون ذكر الكتب مستدركا.

و قوله: ﴿وَ كُتُبِهِ و هي المشتملة على شرائع الله المنزلة من السماء كالتوراة و الإنجيل كما هو مصطلح القرآن و لعل المراد من تصديقها كلمات ربها و كتبه كونها صديقة كما في قوله تعالى: ﴿مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: المائدة: ٧٥.

و قوله: ﴿وَ كَانَتْ مِنَ اَلْقَانِتِينَ أي من القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه غلب فيه المذكر على المؤنث.

 

 

 و يؤيد هذا المعنى كون القنوت بهذا المعنى واقعا فيما حكى الله من نداء الملائكة لها ﴿يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرَّاكِعِينَ: آل عمران: ٤٣، و قيل: يجوز أن يراد بالقانتين رهطها و عشيرتها الذين كانت مريم منهم و كانوا أهل بيت صلاح و طاعة، و هو بعيد لما تقدم.

على أن المناسب لكون المثل تعريضا لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يراد بالقانتين مطلق أهل الطاعة و الخضوع لله تعالى.

(بحث روائي‏)

 في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَتَ نُوحٍ وَ اِمْرَأَتَ لُوطٍ الآية مثل ضربه الله لعائشة و حفصة أن تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أفشتا سره.

 و في المجمع،: عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن ﴿قَالَتْ رَبِّ اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ.

 و فيه، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران و امرأة فرعون و أخت موسى. أقول: و امرأة فرعون على ما وردت به الروايات مقتولة قتلها زوجها فرعون لما اطلع أنها آمنت بالله وحده، و قد اختلفت الروايات في كيفية قتلها.

ففي بعضها أنه لما اطلع على إيمانها كلفها الرجوع إلى الكفر فأبت إلا الإيمان فأمر بها أن ترمى عليها بصخرة عظيمة حتى ترضح تحتها ففعل بها ذلك.

و في بعضها لما أحضرت للعذاب دعت بما حكى الله عنها في كلامه من قولها: ﴿رَبِّ

 

 

 اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ إلخ، فاستجاب الله لها و رأت بيتها في الجنة و انتزعت منها الروح و ألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.

و في بعضها أن فرعون وتد لها أربعة أوتاد و أضجعها على صدرها و جعل على صدرها رحى و استقبل بها عين الشمس. و الله أعلم.

 (٦٧) سورة الملك مكية و هي ثلاثون آية (٣٠)

[سورة الملك (٦٧): الآیات ١ الی ١٤]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ تَبَارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ١ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ ٢ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرى‏ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرى‏ مِنْ فُطُورٍ ٣ ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ ٤ وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ جَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ اَلسَّعِيرِ ٥ وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٦ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ ٧ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ اَلْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ٨ قَالُوا بَلى‏ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ٩ وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ ١٠

 

 

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ ١١ إِنَّ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ١٢ وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ١٣ أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ ١٤

(بيان‏)

غرض السورة بيان عموم ربوبيته تعالى للعالمين تجاه قول الوثنية إن لكل شطر من العالم ربا من الملائكة و غيرهم و إنه تعالى رب الأرباب فقط.

و لذا يعد سبحانه كثيرا من نعمه في الخلق و التدبير و هو في معنى الاحتجاج على ربوبيته و يفتتح الكلام بتباركه و هو كثرة صدور البركات عنه، و يكرر توصيفه بالرحمن و هو مبالغة في الرحمة التي هي العطية قبال الاستدعاء فقرا و فيها إنذار ينتهي إلى ذكر الحشر و البعث.

و تتلخص مضامين آياتها في الدعوة إلى توحيد الربوبية و القول بالمعاد.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ تبارك‏ الشي‏ء كثرة صدور الخيرات و البركات عنه.

و قوله: ﴿اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ يشمل بإطلاقه كل ملك، و جعل الملك في يده استعارة بالكناية عن كمال تسلطه عليه و كونه متصرفا فيه كيف يشاء كما يتصرف ذو اليد فيما بيده و يقلبه كيف يشاء فهو تعالى يملك بنفسه كل شي‏ء من جميع جهاته، و يملك ما يملكه كل شي‏ء.

فتوصيفه تعالى بالذي بيده الملك أوسع من توصيفه بالمليك في قوله: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ: القمر: ٥٥، و أصرح و آكد من توصيفه في قوله: ﴿لَهُ اَلْمُلْكُ: التغابن: ١.

و قوله: ﴿وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى كون قدرته غير محدودة بحد و لا منتهية

 

 

إلى نهاية و هو لازم إطلاق الملك بحسب السياق، و إن كان إطلاق الملك و هو من صفات الفعل من لوازم إطلاق القدرة و هي من صفات الذات.

و في الآية مع ذلك إيماء إلى الحجة على إمكان ما سيأتي من أمر المعاد.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ الحياة كون الشي‏ء بحيث يشعر و يريد، و الموت‏ عدم ذلك لكن الموت على ما يظهر من تعليم القرآن انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة أخرى كما تقدم استفادة ذلك من قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ إلى قوله ﴿فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ: الواقعة: ٦١، فلا مانع من تعلق الخلق بالموت كالحياة.

على أنه لو أخذ عدميا كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة و له حظ من الوجود يصحح تعلق الخلق به كالعمى من البصر و الظلمة من النور.

و قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً غاية خلقه تعالى الموت و الحياة، و البلاء الامتحان و المراد أن خلقكم هذا النوع من الخلق و هو أنكم تحيون ثم تموتون خلق مقدمي امتحاني يمتاز به منكم من هو أحسن عملا من غيره و من المعلوم أن الامتحان و التمييز لا يكون إلا لأمر ما يستقبلكم بعد ذلك و هو جزاء كل بحسب عمله.

و في الكلام مع ذلك إشارة إلى أن المقصود بالذات من الخلقة هو إيصال الخير من الجزاء حيث ذكر حسن العمل و امتياز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملا هم المقصودون بالخلقة و غيرهم مقصودون لأجلهم.

و قد ذيل الكلام بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ فهو العزيز لأن الملك و القدرة المطلقين له وحده فلا يغلبه غالب و ما أقدر أحدا على مخالفته إلا بلاء و امتحانا و سينتقم منهم و هو الغفور لأنه يعفو عن كثير من سيئاتهم في الدنيا و سيغفر كثيرا منها في الآخرة كما وعد.

و في التذييل بالاسمين مع ذلك تخويف و تطميع على ما يدعو إلى ذلك سياق الدعوة.

و اعلم أن مضمون الآية ليس مجرد دعوى خالية عن الحجة يراد به التلقين كما ربما يتوهم بل هي مقدمة قريبة من الضرورة أو هي ضرورية تستدعي الحكم بضرورة البعث للجزاء فإن الإنسان المتلبس بهذه الحياة الدنيوية الملحوقة للموت لا يخلو من أن يحصل له وصف حسن العمل أو خلافه و هو مجهز بحسب الفطرة بما لو لا عروض عارض السوء لساقه

 

 

 إلى حسن العمل، و قلما يخلو إنسان من حصول أحد الوصفين كالأطفال و من في حكمهم.

و الوصف الحاصل المترتب على وجود الشي‏ء الساري في أغلب أفراده غاية في وجوده مقصودة في إيجاده فكما أن الحياة النباتية لشجرة كذا إذ كانت تؤدي في الغالب إلى أثمارها ثمرة كذا يعد ذلك غاية لوجودها مقصودة منها كذلك حسن العمل و الصلاح غاية لخلق الإنسان، و من المعلوم أيضا أن الصلاح و حسن العمل لو كان مطلوبا لكان مطلوبا لغيره لا لنفسه، و المطلوب بالذات الحياة الطيبة التي لا يشوبها نقص و لا يعرضها لغو و لا تأثيم فالآية في معنى قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً: الأنبياء: ٣٥.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً إلخ، أي مطابقة بعضها فوق بعض أو بعضها يشبه البعض على ما احتمل و قد مر في تفسير حم السجدة بعض ما يمكننا من القول فيها.

و قوله: ﴿مَا تَرى‏ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ قال الراغب: الفوت‏ بعد الشي‏ء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: ﴿وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى اَلْكُفَّارِ.

قال: و التفاوت‏ الاختلاف في الأوصاف كأنه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كل واحد منهما الآخر، قال تعالى: ﴿مَا تَرى‏َ فِي خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ أي ليس فيها ما يخرج عن مقتضى الحكمة. انتهى.

فالمراد بنفي التفاوت اتصال التدبير و ارتباط الأشياء بعضها ببعض من حيث الغايات و المنافع المترتبة على تفاعل بعضها في بعض، فاصطكاك الأسباب المختلفة في الخلقة و تنازعها كتشاجر كفتي الميزان و تصارعهما بالثقل و الخفة و الارتفاع و الانخفاض فإنهما في عين أنهما تختلفان تنفقان في إعانة من بيده الميزان فيما يريده من تشخيص وزن السلعة الموزونة.

فقد رتب الله أجزاء الخلقة بحيث تؤدي إلى مقاصدها من غير أن يفوت بعضها غرض بعض أو يفوت من بعضها الوصف اللازم فيه لحصول الغاية المطلوبة.

و الخطاب في ﴿مَا تَرى‏ خطاب عام لكل من يمكنه الرؤية و في إضافة الخلق إلى الرحمن إشارة إلى أن الغاية منه هي الرحمة العامة، و تنكير ﴿تَفَاوُتٍ و هو في سياق النفي و إدخال ﴿اَلرَّحْمَنِ عليه لإفادة العموم.

و قوله: ﴿فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرىَ مِنْ فُطُورٍ الفطور الاختلال و الوهي، و المراد بإرجاع البصر النظر ثانيا و هو كناية عن المداقة في النظر و الإمعان فيه.

 

 

 قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ الخاسئ‏ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، و قال أيضا: الخاسر المعيا لانكشاف قواه، و يقال للمعيا: حاسر و محسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر قوته، و أما المحسور فتصور أن التعب قد حسرة، و قوله عز و جل: ﴿يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ يصح أن يكون بمعنى حاسر و أن يكون بمعنى محسور. انتهى.

و قوله: ﴿كَرَّتَيْنِ الكرة الرجعة و المراد بالتثنية التكثير و التكرير، و المعنى: ثم ارجع البصر رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب إليك البصر منقبضة مهينة و الحال أنه كليل معيا لم يجد فطورا.

فقد أشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الأجزاء مرتبط الأبعاض.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ إلى آخر الآية، المصابيح‏ جمع مصباح و هو السراج سمي الكواكب مصابيح لإنارتها و إضاءتها و قد تقدم كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ أي و جعلنا الكواكب التي زينا بها السماء رجوما يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ: الحجر: ١٨، و قال: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ: الصافات: ١٠.

قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب الأصلية و الشهب السماوية فإن الكواكب الأصلية لا تزول عن مستقرها و الكواكب و النجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الأجرام الأصلية.

و قيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست تزول إلا أن يريد الله إفناءها.

و هذا الوجه أوفق للأنظار العلمية الحاضرة، و قد تقدم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب.

و قوله: ﴿وَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ اَلسَّعِيرِ أي و هيأنا للشياطين و هم أشرار الجن عذاب النار المسعرة المشتعلة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ لما أورد بعض آيات ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج و الوعيد و الإنذار.

و المراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم القائلين بأنه تعالى رب الأرباب فقط، و النافين لها مطلقا و المثبتين لربوبيته مع التفريق بينه و بين رسله كاليهود و النصارى حيث آمنوا ببعض رسله و كفروا ببعض.

و الآية مع ذلك متصلة بقوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفُورُ لما فيها من الإشارة إلى البعث و الجزاء متصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص.

قوله تعالى: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ اَلْغَيْظِ قال الراغب: الشهيق‏ طول الزفير و هو رد النفس و الزفير مدة انتهى، و الفوران‏ كما في المجمع، ارتفاع الغليان، و التميز: التقطع و التفرق، و الغيظ: شدة الغضب، و المعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقا أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر و هي تغلي بهم فترفعهم و تخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب.

قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ الفوج كما قاله الراغب الجماعة المارة المسرعة، و في قوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ إشارة إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله: ﴿وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏َ جَهَنَّمَ زُمَراً: الزمر: ٧١، و إنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى: ﴿وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏َ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ: الأنفال: ٣٧، و قد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الأنفال.

و الخزنة جمع خازن و هو الحافظ على الشي‏ء المدخر و المراد بهم الملائكة الموكلون على النار المدبرون لأنواع عذابها قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ: التحريم: ٦، و قال: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ إلى أن قال ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً: المدثر: ٣١.

و المعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخا - أ لم يأتكم نذير؟ و هو النبي المنذر.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلى‏َ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، و فيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب و اعتراف.

و قوله: ﴿مَا نَزَّلَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ بيان لتكذيبهم، و كذا قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ و قيل: قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إلخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، و هو بعيد من السياق، و كذا احتمال كونه من كلام الرسل الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لأولئك الكفار.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ يطلق السمع‏ و يراد به إدراك الصوت و القول بالجارحة و ربما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء و هو الالتزام بمقتضاه من الفعل و الترك، و يطلق العقل‏ على تمييز الخير من الشر و النافع من الضار، و ربما يراد به ما هو الغاية منه و هو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير و النفع و اجتناب الشر و الضر، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ: الأعراف: ١٧٩.

و أكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الأمور و إدراك حقيقتها و الاهتداء إلى مصالحها و مفاسدها و إنما ينتفع بالعقل الخاصة.

فقوله: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل و الالتزام بمقتضى قولهم و هم النصحاء الأمناء، و بالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله و الاهتداء العقلي إلى أنه حق و من الواجب أن يخضع الإنسان للحق.

و إنما قدم السمع على العقل لأن استعماله من شأن عامة الناس و هم الأكثرون و العقل شأن الخاصة و هم آحاد قليلون.

و المعنى: لو كنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم و مواعظهم أو عقلنا حجة الحق ما كنا اليوم في أصحاب السعير و هم مصاحبو النار المخلدون فيها.

و قيل: إنما جمع بين السمع و العقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع و العقل.

قوله تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ كانوا إنما قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ ندامة على ما فرطوا في جنب الله و فوتوا على

 

 

 أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار و كان عليهم أن لا يأتوا به، و هذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.

و إنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه و هو في الأصل مصدر.

و قوله: ﴿فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ السحق‏ تفتيت الشي‏ء كما ذكره الراغب و هو دعاء عليهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ لما ذكر حال الكفار و ما يجازون به على كفرهم قابلة بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم و ذكر من وصفهم الخشية لأن المقام مقام الإنذار و الوعيد.

و عد خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.

قوله تعالى: ﴿وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ رفع شبهة يمكن أن تختلج في قلوبهم مبنية على الاستبعاد و ذلك أنه تعالى ساق الكلام في بيان ربوبيته لكل شي‏ء المستتبعة للبعث و الجزاء و ذكر ملكه و قدرته المطلقين و خلقه و تدبيره و لم يذكر علمه المحيط بهم و بأحوالهم و أعمالهم و هو مما لا يتم البعث و الجزاء بدونه.

و كان من الممكن أن يتوهموا أن الأعمال على كثرتها الخارجة عن الإحصاء لا يتأتى ضبطها و خاصة ما تكنه الصدور منها فإن الإنسان يقيس الأشياء بنفسه و يزنها بزنة نفسه و هو غير قادر على إحصاء جزئيات الأعمال التي هي حركات مختلفة متقضية و خاصة أعمال القلوب المستكنة في زواياها.

فدفعه بأن إظهار القول و إخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنه عليم بذات الصدور، و السياق يشهد أن المراد استواء خفايا الأعمال و جلاياها بالنسبة إليه، و إنما ذكر أسرار القول و جهره من حيث ظهور معنى الخفاء و الظهور فيه بالجهر و الإسرار.

قوله تعالى: ﴿أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ استفهام إنكاري مأخوذ حجة على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها و باطنها و سرها و جهرها و ذلك أن أعمال الخلق و من جملتها أعمال الإنسان الاختيارية و إن نسبت إلى فواعلها لكن الله سبحانه هو الذي يريدها و يوجدها من طريق اختيار الإنسان و اقتضاء سائر الأسباب فهو الخالق لأعيان الأشياء و المقدر لها آثارها كيفما كانت و الرابط بينها و بين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ: الزمر: ٦٢، و قال:

 

 

﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏َ: الأعلى: ٣، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه و أثره و من أثره أعماله الظاهرة و الباطنة و ما أسره و ما جهر به و كيف يحيط به و لا يعلمه.

و في الآية إشارة إلى أن أحوال الأشياء و أعمالها غير خارجة عن خلقها لأنه تعالى استدل بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيات أحواله و أعماله و لو لا كون الأحوال و الأعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتم الاستدلال.

على أن الأحوال و الأعمال من مقتضيات موضوعاتها و الذي ينتسب إليه وجود الشي‏ء ينتسب إليه آثار وجوده.

و قوله: ﴿وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ أي النافذ في بواطن الأشياء المطلع على جزئيات وجودها و آثارها، و الجملة حالية تعلل ما قبلها و الاسمان الكريمان من الأسماء الحسنى ذيلت بهما الآية لتأكيد مضمونها.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل:

﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً قال: ليس يعني أكثركم عملا و لكن أصوبكم عملا، و إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة و الخشية.

ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل.

ألا و العمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله، و النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل. ثم تلا قوله: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شَاكِلَتِهِ يعني على نيته.

 و في المجمع، قال أبو قتادة: سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله تعالى: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ما عنى به؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا. ثم قال: أتمكم عقلا و أشدكم لله خوفا، و أحسنكم فيما أمر الله به و نهى عنه نظرا و إن كان أقلكم تطوعا.

 و فيه، عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه تلا قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اَلَّذِي بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ إلى قوله ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ثم قال: أيكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم الله و أسرع في طاعة الله.

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً قال: بعضها طبق لبعض.

 

 

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿مِنْ تَفَاوُتٍ قال: من فساد.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ قال: انظر في ملكوت السماوات و الأرض.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿بِمَصَابِيحَ قال: بالنجوم.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً قال: وقعا.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ اَلْغَيْظِ قال: على أعداء الله.

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ قال:

قد سمعوا و عقلوا و لكنهم لم يطيعوا و لم يقبلوا، و الدليل على أنهم قد سمعوا و عقلوا و لم يقبلوا، قوله: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ.

أقول: يعني (عليه السلام) أنه يدل على أن المراد من عدم السمع و العقل عدم الإطاعة و القبول بعد السمع و العقل أنه تعالى سمى قولهم ذلك اعترافا بالذنب، و لا يعد فعل ذنبا من فاعله إلا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل.

[سورة الملك (٦٧): الآیات ١٥ الی ٢٢]

﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ ١٥ أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ١٦ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ١٧ وَ لَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ١٨ أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ ١٩ أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ إِنِ اَلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ ٢٠ أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ

 

 

لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ ٢١ أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٢٢

(بيان‏)

في الآيات كرة بعد كرة بآيات التدبير الدالة على ربوبيته تعالى مقرونة بالإنذار و التخويف أعني قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً الآية، و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ الآية بعد قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيَاةَ الآية، و قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ الآية، و قوله: ﴿وَ لَقَدْ زَيَّنَّا الآية.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ الذلول‏ من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب و يجمح و المناكب‏ جمع منكب و هو مجتمع ما بين العضد و الكتف و أستعير لسطح الأرض، قال الراغب:

و استعارته للأرض كاستعارة الظهر لها في قوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ و تسمية الأرض ذلولا و جعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها و يمشي فيها باعتبار انقيادها لأنواع التصرفات الإنسانية من غير امتناع، و قد وجه كونها ذلولا ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤول جميعها إلى ما ذكرنا.

و الأمر في قوله: ﴿وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ للإباحة و النشور و النشر إحياء الميت بعد موته و أصله من نشر الصحيفة و الثوب إذا بسطهما بعد طيهما.

و المعنى: هو الذي جعل الأرض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا على ظهورها و تمشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدره لكم بأنواع الطلب و التصرف فيها.

و قوله: ﴿وَ إِلَيْهِ اَلنُّشُورُ أي و يرجع إليه نشر الأموات بإخراجهم من الأرض و إحيائهم للحساب و الجزاء، و اختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به و الإحياء يوم القيامة فهو ربكم المدبر لأمر حياتكم الدنيا بالإقرار على الأرض و الهداية إلى مآرب الحياة، و له الحكم بالنشور للحساب و الجزاء.

و في عد الأرض ذلولا و البشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدت إليه الأبحاث العلمية

 

 

 أخيرا من كون الأرض كرة سيارة.

قوله تعالى: ﴿أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ اَلْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ إنذار و تخويف بعد إقامة الحجة و توبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبية و إهمالهم أمر الشكر على نعم ربهم بالخضوع لربوبيته و رفض ما اختلقوه من الأنداد.

و المراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون و إرجاع ضمير الإفراد إلى ﴿مَنْ باعتبار لفظه و خسف الأرض بقوم كذا شقها و تغييبهم في بطنها و المور على ما في المجمع التردد في الذهاب و المجي‏ء مثل الموج.

و المعنى: ء أمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بأمور العالم أن يشقوا الأرض و يغيبوكم فيها بأمر الله فإذا الأرض تضطرب ذهابا و مجيئا بزلزالها.

و قيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه و المراد بكونه في السماء كون سلطانه و تدبيره و أمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطا بعالم من العوالم، و هذا المعنى و إن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ الحاصب‏ الريح التي تأتي بالحصاة و الحجارة، و المعنى: أ أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحا ذات حصاة و حجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ: القمر: ٣٤.

و قوله: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ النذير مصدر بمعنى الإنذار و الجملة متفرعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيته تعالى و أمنهم من عذابه و المعنى ظاهر.

و قيل: النذير صفة بمعنى المنذر و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو سخيف.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ المراد بالنكير العقوبة و تغيير النعمة أو الإنكار، و الآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ من الوعيد و التهديد.

و المعنى: و لقد كذب الذين من قبلهم من الأمم الهالكة رسلي و جحدوا بربوبيتي فكيف كان عقوبتي و تغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم و استأصلتهم.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ إشعارا بسقوطهم

 

 

 لجهالتهم و إهمالهم في التدبر في آيات الربوبية و عدم مخافتهم من سخط ربهم عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ بَصِيرٌ المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، و صفيف‏ الطير بسطه جناحه حال الطيران و قبضه قبض جناحه حاله، و الجمع في ﴿صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ لكون المراد بالطير استغراق الجنس.

و قوله: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمَنُ كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول:

ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير و قبضه فوقهم؟ فأجيب بقوله: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَلرَّحْمَنُ.

و قرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط و إن كان مستندا إلى أسباب طبيعية كقرار الإنسان على بسيط الأرض و السمك في الماء و سائر الأمور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للإنسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الأعلى الذي ينتهي إليه حدوثه و وجوده، و لذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها و دلالتهم على وحدانيته في الربوبية.

و قد ورد في كلامه تعالى شي‏ء كثير من هذا القبيل كإمساك السماوات بغير عمد و إمساك الأرض و حفظ السفن على الماء و اختلاف الأثمار و الألوان و الألسنة و غيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفيا في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى و أن إلى ربك المنتهى.

قال في الكشاف،: فإن قلت: لم قيل: و يقبضن و لم يقل: و قابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء و الأصل في السباحة هو مد الأطراف و بسطها و أما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجي‏ء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات و يكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح. انتهى.

و هو مبني على أن تكون الآية هي مجموع قوله: ﴿صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ و هو الطيران،

 

 

 و يمكن أن يستفاد أن الآية عدم سقوطهن و هن صافات، و آية أخرى أنهن ربما يقبضن و لا يسقطن حينما يقبضن.

و لا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الأرض ذلولا و الإنسان على مناكبها من اللطف.

قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ إِنِ اَلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ توبيخ و تقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم و لذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع.

و قوله: ﴿أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي إلخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، و فيه إشارة إلى خطئهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب و هم مملوكون لله لا يملكون لأنفسهم نفعا و ضرا و لا لغيرهم.

و إذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: ﴿إِنِ اَلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ أي أحاط بهم الغرور و غشيهم فخيل إليهم ما يدعون من ألوهية آلهتهم.

قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا اَلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحق و نفورهم منه، و لجوا في ذلك.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏َ وَجْهِهِ أَهْدى‏َ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ إكباب‏ الشي‏ء على وجهه إسقاطه عليه، و قال في الكشاف،: معنى أكب‏ دخل في الكب و صار ذا كب.

استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضا لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم و تحريمهم من تشريف الحضور و الخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، و المراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب و نفور من الحق كمن يسلك سبيلا و هو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع و انخفاض و مزالق و معاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة، و ما يقصده من الغاية

 

 

و هؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة و هم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه و العمل بما عليهم أن يعملوا به و لا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر و يسلكوا سبيل الحياة و هم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.

و قد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله و المؤمن المستبصر الباحث عن الحق.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : القلب أربعة: قلب فيه نفاق و إيمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر. فقلت: ما الأزهر، قال:

فيه كهيئة السراج.

فأما المطبوع فقلب المنافق، و أما الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر و إن ابتلاه صبر، و أما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية ﴿أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فأما القلب الذي فيه إيمان و نفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك و إن أدركه على إيمانه نجى.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن القلوب أربعة، و ساق الحديث إلى آخره إلا أن فيه:

و قلب أزهر أنور. و قوله: «فهم قوم كانوا بالطائف» المراد به الطائف الشيطاني الذي ربما يمس الإنسان قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ:، الأعراف: ٢٠١، فالمعنى أنهم يعيشون مع طائف شيطاني يمسهم حينا بعد حين فإن أدركهم الأجل و الطائف معهم هلكوا و إن أدركهم و هم في حال الإيمان نجوا.

و اعلم أن هناك روايات تطبق قوله: ﴿أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ الآية على من حاد عن ولاية علي (عليه السلام) و من يتبعه و يواليه، و هي من الجري و الله أعلم.

 

 

[سورة الملك (٦٧): الآیات ٢٣ الی ٣٠]

﴿قُلْ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ٢٣ قُلْ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٢٤ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٥ قُلْ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢٦ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ٢٧ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اَللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ اَلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ٢٨ قُلْ هُوَ اَلرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٩ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ٣٠

(بيان)

آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق و التدبير مقرونة بالإنذار و التخويف، جارية على غرض السورة و هو التذكرة بالوحدانية مع الإنذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم و عنادهم للحق في قوله السابق: ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ غير السياق بالإعراض عن خطابهم و الالتفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمره أن يتصدى خطابهم و يقرع أسماعهم آياته في الخلق و التدبير الدالة على توحده في الربوبية و إنذارهم بعذاب الله، و ذلك قوله: ﴿قُلْ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ إلخ، ﴿قُلْ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ إلخ، ﴿قُلْ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ إلخ، ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اَللَّهُ إلخ، ﴿قُلْ هُوَ اَلرَّحْمَنُ إلخ، ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً إلخ.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ الإنشاء إحداث الشي‏ء ابتداء و تربيته.

ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ و قد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون‏[2] و الم السجدة[3] يدل على أن إنشاءه تعالى الإنسان و تجهيزه بجهاز الحس و الفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.

و ليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه و إحداثه من دون سابقه في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلى أن قال ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ: المؤمنون: ١٤، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الإنسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الإنسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الإنشاء.

و مثله قوله: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ: الروم: ٢٠ (انظر إلى موضع إذا الفجائية).

فقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ إشارة إلى خلق الإنسان.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس و الفكر، و الجعل إنشائي كجعل نفس الإنسان كما يشير إليه قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ: المؤمنون: ٧٨.

فالإنسان بخصوصية إنشائه و كونه بحيث يسمع و يبصر يمتاز من الجماد و النبات و الاقتصار بالسمع و البصر من سائر الحواس كاللمس و الذوق و الشم لكونهما العمدة و لا يبعد أن يكون المراد بالسمع و البصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل - و بالفؤاد و هو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.

 

 

 

 و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ أي تشكرون قليلا على هذه النعمة أو النعم العظمى فما زائدة و قليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، و قيل: ما مصدرية و المعنى: قليلا شكركم.

قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الذرء الخلق و المراد بذرئهم في الأرض خلقهم متعلقين بالأرض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الأرضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الإنسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً: الكهف: ٨.

و قوله: ﴿وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إشارة إلى البعث و الجزاء و وعد جازم.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، و هو استعجال منهم استهزاء.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ جواب عن قولهم: ﴿مَتى‏ هَذَا اَلْوَعْدُ إلخ، و محصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ: الأعراف: ١٨٧، و ليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون و أما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.

هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، و على هذا تكون اللام في العلم للعهد، و المراد العلم بوقت الحشر، و أما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة ﴿إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله و لا يحاط بشي‏ء منه إلا بإذنه كما قال: ﴿وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ: البقرة: ٢٥٥، و لم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع و أنذركم به و أما أنه متى يقع فلا علم لي به.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلخ، الزلفة القرب و المراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، و ضمير ﴿رَأَوْهُ للوعد و قيل للعذاب و المعنى:

فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة و الخسران.

و قوله: ﴿وَ قِيلَ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ قيل تدعون و تدعون بمعنى واحد

 

 

 كتدخرون و تدخرون و المعنى: و قيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه و تستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، و ظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، و قيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اَللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ اَلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿إِنْ شرطية شرطها قوله: ﴿أَهْلَكَنِيَ اَللَّهُ و جزاؤها قوله: ﴿فَمَنْ يُجِيرُ إلخ، و المعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله و من معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير و يعيد الكافرين و هم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي و من معي و بقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله.

قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و على المؤمنين بالهلاك فأمر (ص) أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله و نرجو الخير من رحمته و أما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله.؟ قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَلرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ الضمير للذي يدعو إلى توحيده و هم يدعونه عليه، و المعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده و تدعونه علي و على من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شي‏ء آمنا به و عليه توكلنا من غير أن نميل و نعتمد على شي‏ء دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم.؟ قال في الكشاف،: فإن قيل: لم أخر مفعول ﴿آمَنَّا و قدم مفعول ﴿تَوَكَّلْنَا؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا و لم نكفر كما كفرتم، ثم قال: و عليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ الغور ذهاب الماء و نضوبه في الأرض و المراد به الغائر، و المعين‏ الظاهر الجاري من الماء، و المعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الأرض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.

و هناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي (عليه السلام) و محادته، و هي من الجري و ليست بمفسرة.

 

 

(٦٨) سورة القلم مكية و هي اثنتان و خمسون آية (٥٢)

[سورة القلم (٦٨): الآیات ١ الی ٣٣]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ ١ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ٢ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ٣ وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤ فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ ٥ بِأَيِّكُمُ اَلْمَفْتُونُ ٦ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٧ فَلاَ تُطِعِ اَلْمُكَذِّبِينَ ٨ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ٩ وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ ١٠ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ١١ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ١٣ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَ بَنِينَ ١٤ إِذَا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ١٥ سَنَسِمُهُ عَلَى اَلْخُرْطُومِ ١٦ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ١٧ وَ لاَ يَسْتَثْنُونَ ١٨ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نَائِمُونَ ١٩ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ٢٠ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ٢١ أَنِ اُغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ٢٢ فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخَافَتُونَ ٢٣ أَنْ لاَ يَدْخُلَنَّهَا اَلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ٢٤ وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ قَادِرِينَ ٢٥ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ٢٦ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ٢٧ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاَ تُسَبِّحُونَ ٢٨ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ٢٩ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ ٣٠ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ٣١ عَسى‏ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلى‏َ رَبِّنَا رَاغِبُونَ ٣٢ كَذَلِكَ اَلْعَذَابُ وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٣٣

 

 

(بيان)

السورة تعزى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إثر ما رماه المشركون بالجنون و تطيب نفسه بالوعد الجميل و الشكر على خلقه العظيم و تنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم و مداهنتهم، و تأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه.

و سياق آياتها على الجملة سياق مكي، و نقل عن ابن عباس و قتادة أن صدرها إلى قوله:

﴿سَنَسِمُهُ عَلَى اَلْخُرْطُومِ ست عشرة آية مكي، و ما بعده إلى قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ سبع عشرة آية مدني، و ما بعده إلى قوله: ﴿يَكْتُبُونَ خمس عشرة آية مكي، و ما بعده إلى آخر السورة أربع آيات مدني.

و لا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ إلى قوله ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.

قوله تعالى: ﴿ن تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ القلم معروف، و السطر بالفتح فالسكون و ربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف و سطر فلان كذا كتب سطرا سطرا.

أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به و ظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم ـ

 

 

و مطلق ما يسطرون به و هو المكتوب فإن القلم و ما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار و المعاني المستكنة في الضمائر، و به يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا.

و قد امتن الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ: الرحمن: ٤ و قال في القلم: ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ : العلق: ٥.

فإقسامه تعالى بالقلم و ما يسطرون إقسام بالنعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار إلى غير ذلك حتى التين و الزيتون.

و قيل: ﴿مَا في قوله: ﴿وَ مَا يَسْطُرُونَ مصدرية و المراد به الكتابة.

و قيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله و بما يسطرون ما يسطره الحفظة و الكرام الكاتبون و احتمل أيضا أن يكون الجمع في ﴿يَسْطُرُونَ للتعظيم لا للتكثير و هو كما ترى، و احتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه و هو اللوح المحفوظ و احتمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم و هي احتمالات واهية.

قوله تعالى: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ مقسم عليه و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و الباء في ﴿بِنِعْمَةِ للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.

و السياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الإلهية اللازمة في نظام الحياة الإنسانية، و الآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة ﴿وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.

و قيل: المراد بالنعمة فصاحته (ص) و عقله الكامل و سيرته المرضية و براءته من كل عيب و اتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه (ص) ينافي حصول الجنون فيه و ما قدمناه أقطع حجة و الآية و ما يتلوها كما ترى تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه الشريفة و تأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ الممنون‏ من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه و أضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا.

و المراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع و ليس يذهب سدى.

و ربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه و يكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منه عليه و هو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته و صفاته و أعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة و عطية و ما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله و هو المالك لما ملكه من قبل و من بعد فهو تفضل منه تعالى و لئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا و سمى ما بينه و بين عبده من مبادلة العمل و الأجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه و الرسول و من دونه فيه سواء.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّكَ لَعَلى‏َ خُلُقٍ عَظِيمٍ الخلق‏ هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.

قال الراغب: و الخلق - بفتح الخاء و الخلق بضم الخاء في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق بالفتح بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق بالضم بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: ﴿وَ إِنَّكَ لَعَلى‏َ خُلُقٍ عَظِيمٍ انتهى.

و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (ص) و تعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق و الصبر على أذى الناس و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرفق و المداراة و التواضع و غير ذلك، و قد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه (ص).

و مما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين و هو الإسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ اَلْمَفْتُونُ تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة و متخلقا بالخلق و لك عظيم الأجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك و ينكشف على الأبصار و البصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.

و قيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له و لهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها. و لكل قائل، و لا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم و دينه على دينهم، و رفع ذكره (ص) و محا أثرهم في الدنيا و سيذوقون وبال أمرهم غدا و يعلمون‏[4] أن الله هو الحق المبين يوم هم‏[5] على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.

و قوله: ﴿بِأَيِّكُمُ اَلْمَفْتُونُ الباء زائدة للصلة، و المفتون‏ اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون و فقدان العقل، و المعنى: فستبصر و يبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم.؟ و قيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول و ميسور و معسور في قولهم: ليس له معقول، و خذ ميسوره، و دع معسوره، و الباء في ﴿بِأَيِّكُمُ بمعنى في و المعنى: فستبصر و يبصرون في أي الفريقين الفتنة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ لما أفيد بما تقدم من القول إن هناك ضلالا و اهتداء، و أشير إلى أن الرامين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالجنون هم المفتونون الضالون و سيظهر أمرهم و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مهتد و كان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين لأن السبيل سبيله و هو أعلم بمن هو في سبيله و من ليس فيه و إليه أمر الهداية.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ تُطِعِ اَلْمُكَذِّبِينَ تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة و في المكذبين معنى العهد و المراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، و المعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ الإدهان‏ من الدهن يراد به التليين أي ود و أحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، و محصله أنهم ودوا أن تصالحهم و يصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه و عن ربه.

و بما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع ﴿لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ و أن الفاء في ﴿فَيُدْهِنُونَ للتفريع لا للسببية.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ إلى قوله ﴿زَنِيمٍ الحلاف‏ كثير الحلف، و لازم كثرة الحلف و الإقسام في كل يسير و خطير و حق و باطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، و إذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه و كفى به رذيلة.

و المهين‏ من المهانة بمعنى الحقارة و المراد به حقارة الرأي، و قيل: هو المكثار في الشر، و قيل: هو الكذاب.

و الهماز مبالغة من الهمز و المراد به العياب و الطعان، و قيل: الطعان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.

و المشاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.

و المناع‏ للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.

و المعتدي‏ من الاعتداء و هو المجاوزة للحد ظلما.

و الأثيم‏ هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال و الإثم هو العمل السيئ الذي يبطئ الخير.

و العتل‏ بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، و فسر بالفاحش السيئ الخلق، و بالجافي الشديد الخصومة بالباطل، و بالأكول المنوع للغير، و بالذي يعتل الناس و يجرهم إلى حبس أو عذاب.

و الزنيم‏ هو الذي لا أصل له، و قيل: هو الدعي الملحق بقوم و ليس منهم، و قيل:

هو المعروف باللؤم، و قيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها و إذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، و المعاني متقاربة.

 

 

 فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الطاعة و المداهنة، و هي جماع الرذائل.

و قوله: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ معناه أنه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتل زنيم قيل: و فيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.

و الظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق و لو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد و لا يطع في قول و لا يتبع في فعل.

قوله تعالى: ﴿أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَ بَنِينَ الظاهر أنه بتقدير لام التعليل و هو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا و كذا لأن كان ذا مال و بنين فبطر بذلك و كفر بنعمة الله و تلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته و يصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم و التهكم تجري مجرى قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اَللَّهُ اَلْمُلْكَ.

و قيل: إنه متعلق بقوله السابق ﴿لاَ تُطِعْ، و المعنى: لا تطعه لكونه ذا مال و بنين أي لا يحملك كونه ذا مال و بنين على طاعته، و المعنى المتقدم أقرب و أوسع.

قيل: و لا يجوز تعلقه بقوله: ﴿قَالَ في الشرطية التالية لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.

قوله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلى‏َ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ الأساطير جمع أسطورة و هي القصة الخرافية، و الآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: ﴿لاَ تُطِعْ.

قوله تعالى: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى اَلْخُرْطُومِ الوسم‏ و السمة وضع العلامة، و الخرطوم‏ الأنف، و قيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه و إنما يطلق في الفيل و الخنزير تهكما، و في الآية وعيد على عداوته الشديدة لله و رسوله و ما نزله على رسوله.

و الظاهر أن الوسم على الأنف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الأنف مما يظهر فيه العزة و الذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه و حمي فلان أنفه و أرغمت أنفه و جدع أنفه.

و الظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا و إن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إلى قوله ﴿كَالصَّرِيمِ البلاء الاختبار و إصابة المصيبة، و الصرم‏ قطع الثمار من الأشجار، و الاستثناء عزل البعض من حكم الكل و أيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول و ذلك أن الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، و الطائف العذاب الذي يأتي بالليل، و الصريم الشجر المقطوع ثمره، و قيل: الليل الأسود، و قيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل و هو لا ينبت شيئا و لا يفيد فائدة.

الآيات أعني قوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الرامين له بالجنون، و في التشبيه و التنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة و العذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون و سيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال و تكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها و على سائر الأسباب الظاهرية التي توافقهم و تشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم و يسلكوا سبيل الحق و يعبدوا ربهم حتى يأتيهم الأجل و يفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم و أن المال و البنين سدى لا ينفعهم شيئا كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم و سيندمون على صنيعهم و يرغبون إلى ربهم و لا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة و تلاوموا و رغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئا كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها و نزولها معها.

و أما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط و السنة الذي أصاب أهل مكة و قريشا إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط و تناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ إلخ، على قصة أهل مكة خفاء.

و كيف كان فالمعنى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ أصبناهم بالبلية ﴿كَمَا بَلَوْنَا و أصبنا بالبلية ﴿أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ و كانوا قوما من اليمن و جنتهم فيها و سيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي ﴿إِذْ ظرف لبلونا ﴿أَقْسَمُوا و حلفوا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا أي ليقطعن و يقطفن ثمار جنتهم ﴿مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح و كأنهم ائتمروا و تشاوروا ليلا فعزموا على

 

 

الصرم صبيحة ليلتهم ﴿وَ لاَ يَسْتَثْنُونَ لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتمادا على أنفسهم و اتكاء على ظاهر الأسباب. أو المعنى: قالوا و هم لا يعزلون نصيبا من ثمارهم للفقراء و المساكين.

﴿فَطَافَ عَلَيْهَا على الجنة ﴿طَائِفٌ أي بلاء يطوف عليها و يحيط بها ليلا ﴿مِنْ ناحية ﴿رَبِّكَ، ﴿فَأَصْبَحَتْ و صارت الجنة ﴿كَالصَّرِيمِ و هو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى:

فصارت الجنة كالليل الأسود لما اسودت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى:

فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها و لا فائدة.

قوله تعالى: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ إلى قوله ﴿قَادِرِينَ التنادي‏ نداء بعض القوم بعضا، و الإصباح‏ الدخول في الصباح، و صارمين‏ من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، و المراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، و الحرث‏ الزرع و الشجر، و الخفت‏ الإخفاء و الكتمان، و الحرد المنع و قادرين من القدر بمعنى التقدير.

و المعنى: ﴿فَتَنَادَوْا أي فنادى بعض القوم بعضا ﴿مُصْبِحِينَ أي و الحال أنهم داخلون في الصباح ﴿أَنِ اُغْدُوا عَلى‏َ حَرْثِكُمْ تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم فاغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا و لذا عدي بعلى و لو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ أي قاصدين عازمين على الصرم و القطع.

«فانطلقوا» و ذهبوا إلى جنتهم ﴿وَ هُمْ يَتَخَافَتُونَ أي و الحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة و المكاتمة ﴿أَنْ لاَ يَدْخُلَنَّهَا أي الجنة ﴿اَلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم ﴿وَ غَدَوْا و بكروا إلى الجنة ﴿عَلى‏َ حَرْدٍ أي على منع للمساكين ﴿قَادِرِينَ مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها و لا يساهمون المساكين بشي‏ء منها.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي فلما رأوا الجنة و شاهدوها و قد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: إنا لضالون عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم و منع المساكين.

و قيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا و ما هي بها.

و قوله: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاَ تُسَبِّحُونَ إلى قوله ﴿رَاغِبُونَ أي

 

 

﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعدلهم طريقا و ذلك أنه ذكرهم بالحق و إن تبعهم في العمل و قيل:

المراد أوسطهم سنا و ليس بشي‏ء ﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ و قد كان قال لهم ذلك و إنما لم يذكر قبل في القصة إيجازا بالتعويل على ذكره هاهنا.

﴿لَوْ لاَ تُسَبِّحُونَ المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم و على سائر الأسباب الظاهرية فأقسموا ليصرمنها مصبحين و لم يستثنوا لله مشية فعزلوه تعالى عن السببية و التأثير و نسبوا التأثير إلى أنفسهم و سائر الأسباب الظاهرية، و هو إثبات للشريك، و لو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء و أنهم إن لم يصرموا كان لمشية من الله و إن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الأمر وحده لا شريك له.

و قيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى و توبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها و يحرموا المساكين منها، و له وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيها من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيته أمورنا لأنا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح و اعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.

و على القول الآخر توبة و اعتراف بظلمهم على أنفسهم و على المساكين.

قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا على ما ارتكبوه من الظلم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إلى قوله ﴿رَاغِبُونَ الطغيان‏ تجاوز الحد و ضمير ﴿مِنْهَا للجنة باعتبار ثمارها و المعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا و لم نوحده، و نرجو من ربنا أن يبدلنا خيرا من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لأنا راغبون إليه معرضون عن غيره.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ اَلْعَذَابُ وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ العذاب مبتدأ مؤخر، و كذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة و هو أن الإنسان يمتحن بالمال و البنين فيطغى مغترا بذلك فيستغني بنفسه و ينسى ربه و يشرك بالأسباب الظاهرية و بنفسه و يجترئ على المعصية و هو غافل عما يحيط به من وبال

 

 

 عمله و يهيئ له من العذاب كذلك حتى إذا فاجأه العذاب و برز له بأهول وجوهه و أمرها انتبه من نومة الغفلة و تذكر ما جاءه من النصح قبلا و ندم على ما فرط بالطغيان و الظلم و سأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.

و قوله: ﴿وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لأنه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شي‏ء لا رجاء للتخلص منه و لو بالموت و الفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيوية.

(بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: و أما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز و جل: اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور.

قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك، و اللوح يؤدي إلى إسرافيل و إسرافيل يؤدي إلى ميكائيل و ميكائيل يؤدي إلى جبرائيل و جبرائيل يؤدي إلى الأنبياء و الرسل.

قال: ثم قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك. و فيه، بإسناده عن إبراهيم الكرخي قال : سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) عن اللوح و القلم قال: هما ملكان.

 و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : ﴿ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ القلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون و كفى بالله شهيدا. أقول: و في المعاني المتقدمة روايات أخرى عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ: الجاثية: ٢٩، حديث القمي عن عبد الرحيم القصير عن الصادق (عليه السلام) في اللوح و القلم و فيه: ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك و لا ينطق أبدا و هو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ قال: لوح من نور و قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أقول: و في معناه روايات أخر، و قوله: يجري بما هو كائن إلخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلف شي‏ء منها عما كتب هناك و نظيره ما في رواية أبي هريرة: ثم ختم علي في القلم فلم ينطق و لا ينطق إلى يوم القيامة.

 و في المعاني، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز و جل:

﴿وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ قال: هو الإسلام.

 و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ قال: على دين عظيم.

 أقول: يريد اشتمال الدين و الإسلام على كمال الخلق و استنانه (ص) به،

و في الرواية المعروفة عنه (ص): بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحاك قال : لما رأت قريش تقديم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا و إعظامه له نالوا من علي و قالوا: قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى: ﴿ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ قسم أقسم الله به ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى‏َ خُلُقٍ عَظِيمٍ يعني القرآن إلى قوله ﴿بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهم النفر الذين قالوا ما قالوا ﴿وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعني علي بن أبي طالب.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن محمد بن العباس بإسناده إلى الضحاك و ساق نحوا مما مر و في آخره: و سبيله علي بن أبي طالب. و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ إلخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المال ليرجع عن دينه، و قيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، و قيل:

يعني الأسود بن عبد يغوث :عن مجاهد.

أقول: و في ذلك روايات في الدر المنثور و غيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.

 و فيه، عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا يدخل الجنة جواظ و لا جعظري و لا عتل زنيم. قلت: فما الجواظ؟ قال: كل جماع مناع. قلت: فما الجعظري؟

 

 

 قال: الفظ الغليظ. قلت: فما العتل الزنيم؟ قال: كل رحيب الجوف سي‏ء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.

 و فيه، في معنى الزنيم: قيل :هو الذي لا أصل له.

و فيه، في تفسير القمي،" :في قوله: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ قال: العتل العظيم الكفر الزنيم الدعي.

 و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة و هي كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.

و فيه، بإسناده إلى ابن عباس :أنه قيل له إن قوما من هذه الأمة يزعمون أن العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عباس: فو الله الذي لا إله إلا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن و القلم.

إنه كان شيخ و كان له جنة و كان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها - و لا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه فلما قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمس من البنين فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم.

فلما نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا و قال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا شيئا حتى نستغني و يكثر أموالنا ثم نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة و سخط الخامس و هو الذي قال الله: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاَ تُسَبِّحُونَ.

فقال الرجل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنا و أكبرهم عقلا و أوسط القوم خير القوم، و الدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا أمة محمد أصغر الأمم و خير الأمم قوله عز و جل: ﴿وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.

قال لهم أوسطهم: اتقوا و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرحا فلما أيقن الأخ منهم أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع.

 

 

 فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله ليصرمن إذا أصبحوا و لم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَ لاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ قال: كالمحترق.

فقال الرجل: يا ابن عباس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثم قال: لا ضوء له و لا نور.

فلما أصبح القوم ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اُغْدُوا عَلى‏ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ قال:

﴿فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخَافَتُونَ قال الرجل: و ما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتشاورون فيشاور بعضهم بعضا لكيلا يسمع أحد غيرهم فقالوا: ﴿لاَ يَدْخُلَنَّهَا اَلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَ غَدَوْا عَلى‏ حَرْدٍ قَادِرِينَ في أنفسهم أن يصرموها و لا يعلمون ما قد حل بهم من سطوات الله و نقمته.

﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا و ما قد حل بهم ﴿قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئا.

﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لاَ تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسى‏ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلى‏ رَبِّنَا رَاغِبُونَ فقال الله: ﴿كَذَلِكَ اَلْعَذَابُ وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

أقول: و قد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث و الذي قبله في روايات أخر و في بعض الروايات أن الجنة كانت لرجل من بني إسرائيل ثم مات و ورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.

[سورة القلم (٦٨): الآیات ٣٤ الی ٥٢]

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٣٤ أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٣٦ أَمْ لَكُمْ

 

 

﴿كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ٣٧ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ٣٨ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ٣٩ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ٤٠ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ٤١ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ٤٢ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ ٤٣ فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٤ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ٤٥ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ٤٦ أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ٤٧ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ٤٨ لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ ٤٩ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٥٠ وَ إِنْ يَكَادُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا اَلذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ٥١ وَ مَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ٥٢

(بيان)

فيها تذييل لما تقدم من الوعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتقون في جنات النعيم، و تثبيت أنهم و المتقون لا يستوون بحجة قاطعة فليس لهم أن

 

 

 يرجوا كرامة من الله و هم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج و إملاء.

و فيها تأكيد أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر لحكم ربه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ بشرى و بيان لحال المتقين في الآخرة قبال ما بين من حال المكذبين فيها.

و في قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير و الرحمة بينهم و بينه سبحانه و أن لهم ذلك قبال قصرهم الربوبية فيه تعالى و إخلاصهم العبودية له.

و إضافة الجنات إلى النعيم و هو النعمة للإشارة إلى أن ما فيها من شي‏ء نعمة لا تشوبها نقمة و لذة لا يخالطها ألم، و سيجي‏ء إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ: التكاثر: ٨، أن المراد بالنعيم الولاية.

قوله تعالى: ﴿أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تحتمل الآية في بادئ النظر أن تكون مسوقة حجة على المعاد كقوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ: ص: ٢٨، و قد تقدم تفسيره.

و أن تكون ردا على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث و إعادة لكنا منعمين كما في الدنيا و قد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم: ﴿وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏َ: حم السجدة: ٥٠.

ظاهر سياق الآيات التالية التي ترد عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، و هو الذي رووه أن المشركين لما سمعوا حديث البعث و المعاد قالوا: إن صح ما يقوله محمد و الذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلا أفضل من حالهم كما في الدنيا و لا أقل من أن تتساوى حالنا و حالهم.

غير أنه يرد عليه أن الآية لو سيقت لرد قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الرد و المردود أن يقال: أ فنجعل المجرمين كالمسلمين و قد عكس.

و التدبر في السياق يعطي أن الآية مسوقة لرد دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالإشارة إلى أن كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنه قيل: إن قولكم: سنتساوى نحن و المسلمون باطل فإن الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين و أنتم مجرمون.

 

 

 فالآية تقيم الحجة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.

و المراد بالإسلام تسليم الأمر لله فلا يتبع إلا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الاجرام و هو اكتساب السيئة و عدم التسليم.

و الآية و ما بعدها إلى قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ في مقام الرد لحكمهم بتساوي المجرمين و المسلمين حالا يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشئه في صور استفهامات إنكارية و تردها.

و تقرير الحجة: أن كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إما أن يكون من الله تعالى موهبة و رحمة و إما أن لا يكون منه.

و الأول إما أن يدل عليه دليل العقل و لا دليل عليه كذلك و ذلك قوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.

و إما أن يدل عليه النقل و ليس كذلك و هو قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ إلخ، و إما أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم و بين الله سبحانه عاهدوه و واثقوه على أن يسوي بينهما و ليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.

و إما أن لا يكون من الله فإما أن يكون حكمهم بالتساوي حكما جديا أو لا يكون فإن كان جديا فإما أن يكون التساوي الذي يحكمون به مستندا إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالا و إن لم يشأ الله ذلك و ليس كذلك و هو قوله: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ أو يكون القائم بهذا الأمر المتصدي له شركاؤهم و لا شركاء و هو قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إلخ.

و إما أن يكون ذلك لأن الغيب عندهم و الأمور التي ستستقبل الناس قدرها و قضاؤها منوطان بمشيتهم تكون و تقع كيف يكتبون فكتبوا لأنفسهم المساواة مع المسلمين، و ليس كذلك و لا سبيل لهم إلى الغيب و ذلك قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ و هذه ثلاثة احتمالات.

و إن لم يكن حكمهم بالمساواة حكما جديا بل إنما تفوهوا بهذا القول تخلصا و فرارا من اتباعك على دعوتك لأنك تسألهم أجرا على رسالتك و هدايتك لهم إلى الحق فهم مثقلون من غرامته، و ليس كذلك، و هو قوله: ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ

 

 

و هذا سابع الاحتمالات.

هذا ما يعطيه التدبر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد و قد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطولات.

فقوله: ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ مسوق للتعجب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، و هو إشارة إلى تأبي العقل عن تجويز التساوي، و محصله نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أي شي‏ء حصل لكم من اختلال الفكر و فساد الرأي حتى حكمتم بذلك.؟ قوله تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ إشارة إلى انتفاء الحجة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أن الآية السابقة كانت إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.

و المراد بالكتاب الكتاب السماوي النازل من عند الله و هو حجة، و درس الكتاب قراءته، و التخير الاختيار، و قوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ في مقام المفعول لتدرسون و الاستفهام إنكاري.

و المعنى: بل أ لكم كتاب سماوي تقرءون فيه أن لكم في الآخرة أو مطلقا لما تختارونه فاخترتم السعادة و الجنة.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد و يمين شفاهي لهم على الله سبحانه.

و الأيمان‏ جمع يمين و هو القسم، و البلوغ‏ هو الانتهاء في الكمال فالأيمان البالغة هي المؤكدة نهاية التوكيد، و قوله: ﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ على هذا ظرف مستقر متعلق بمقدر و التقدير:

أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكدة نهاية التوكيد، إلخ.

و يمكن أن يكون ﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ متعلقا ببالغة و المراد ببلوغ الأيمان انطباقها على امتداد الزمان حتى ينتهي إلى يوم القيامة.

و قد فسروا الإيمان بالعهود و المواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و احتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل.

و قوله: ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ جواب القسم و هو المعاهد عليه، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: بل أ لكم علينا عهود أقسمنا فيها أقساما مؤكدا إلى يوم القيامة إنا سلمنا

 

 

 لكم أن لكم لما تحكمون به.

قوله تعالى: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ إعراض عن خطابهم و التفات إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب و لذلك أورد بقية السؤالات و هي مسائل أربع في سياق الغيبة أولها قوله: ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ و الزعيم‏ القائم بالأمر المتصدي له، و الاستفهام إنكاري.

و المعنى: سل المشركين أيهم قائم بأمر التسوية الذي يدعونه أي إذا ثبت أن الله لا يسوي بين الفريقين لعدم دليل يدل عليه فهل الذي يقوم بهذا الأمر و يتصداه هو منهم؟ فأيهم هو؟ و من الواضح بطلانه لا يتفوه به إلا مصاب في عقله.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ رد لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنيا على دعواهم أن لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبية سيشفعون لهم عند الله فيجعلهم كالمسلمين و الاستفهام إنكاري يفيد نفي الشركاء.

و قوله: ﴿فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إلخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله:

﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ من النفي.

و قيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، و المعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و أنت خبير بأن هذا المعنى لا يقطع الخصام.

و قيل: المراد بالشركاء الشهداء و المعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

و هو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أنه مستدرك لأن هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عند الله أو وعد بعهد و يمين و قد رد كلا الاحتمالين فيما تقدم.

و قيل: المراد بالشركاء شركاء الألوهية على ما يزعمون لكن المعنى من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.

و أنت خبير بأن هذا المعنى أيضا لا يقطع الخصام.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ إلى قوله ﴿وَ هُمْ سَالِمُونَ يوم ظرف متعلق بمحذوف كاذكر و نحوه، و الكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الأمر اشتدادا بالغا لما أنهم كانوا يشمرون عن سوقهم إذا اشتد الأمر

 

 

 للعمل أو للفرار قال في الكشاف: فمعنى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ في معنى يوم يشتد الأمر و يتفاقم، و لا كشف ثم و لا ساق كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة و لا يد ثم و لا غل و إنما هو مثل في البخل انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الذين يزعمون أنهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث و حساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله و لا شفاعة و إنما يحرز الإنسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبية في الدنيا حتى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.

و هؤلاء المكذبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون و لا تتساوى حالهم و حال المسلمين فيها البتة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج و الإملاء حتى يتم لهم شقاؤهم فيردوا العذاب الأليم في الآخرة.

فقوله: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ معناه اذكر يوم يشتد عليهم الأمر و يدعون إلى السجود لله خضوعا فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم و اليوم تبلى السرائر[6].

و قوله: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة و حال كونهم يغشاهم الذلة بقهر، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها.

و قوله: ﴿وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات و العاهات التي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحق فسلبتها التمكن من إجابة الحق أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.

و المعنى: و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله و هم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن فلا يجيبون إليه.

و قيل: المراد بالسجود الصلاة و هو كما ترى.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ المراد بهذا الحديث القرآن الكريم و قوله: ﴿فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ إلخ، كناية عن أنه يكفيهم وحده و هو غير تاركهم و فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تهديد للمشركين.

قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ استئناف فيه بيان كيفية أخذه تعالى لهم و تعذيبه إياهم المفهوم من قوله: ﴿فَذَرْنِي إلخ.

و الاستدراج‏ هو استنزالهم درجة فدرجة حتى يتم لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك و ذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة و كلما أوتوا نعمة اشتغلوا بها و فرطوا في شكرها و زادوا نسيانا له و ابتعدوا عن ذكره.

فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة و اقترابهم من ورطة الهلاك، و كونه من حيث لا يعلمون إنما هو لكونه من طريق النعمة التي يحسبونها خيرا و سعادة لا شر فيها و لا شقاء.

قوله تعالى: ﴿وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ الإملاء الإمهال، و الكيد ضرب من الاحتيال، و المتين‏ القوي.

و المعنى: و أمهلهم حتى يتوسعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاءون إن كيدي قوي.

و النكتة في الالتفات الذي في ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ عن التكلم وحده إلى التكلم مع الغير الدالة على العظمة و أن هناك موكلين على هذه النعم التي تصب عليهم صبا، و الالتفات في قوله: ﴿وَ أُمْلِي لَهُمْ عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده لأن الإملاء تأخير في الأجل و لم ينسب أمر الأجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَضى‏َ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ: الأنعام: ٢.

قوله تعالى: ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ المغرم‏ الغرامة، و الإثقال‏ تحميل الثقل، و الجملة معطوفة على قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ إلخ.

و المعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين الذين يحكمون بتساوي المجرمين و المسلمين يوم القيامة أجرا على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلصا من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولا جديا.

قوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب

 

 

 غيب الأشياء الذي منه تنزل الأمور بقدر محدود فتستقر في منصة الظهور، و المراد بالكتابة على هذا هو التقدير و القضاء، و المراد بكون الغيب عندهم تسلطهم عليه و ملكهم له.

فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر و القضاء فهم يقضون كما شاءوا فيقضون لأنفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.

و قيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحة ما حكموا به و الكتابة على ظاهر معناه و المعنى: أم عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به و لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه و يتوارثونه و ينبغي أن يبرزوه.

و هو بعيد بل مستدرك و الاحتمالات الأخر المذكورة مغنية عنه.

و إنما أخر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتى عن قوله: ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً مع أن مقتضى الظاهر أن يتقدم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات و أبعدها.

قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ إِذْ نَادى‏َ وَ هُوَ مَكْظُومٌ صاحب الحوت يونس النبي (عليه السلام) و المكظوم‏ من كظم الغيظ إذا تجرعه و لذا فسر بالمختنق بالغم حيث لا يجد لغيظه شفاء، و نهيه (ص) عن أن يكون كيونس (عليه السلام) و هو في زمن النداء مملوء بالغم نهي عن السبب المؤدي إلى نظير هذا الابتلاء و هو ضيق الصدر و الاستعجال بالعذاب.

و المعنى: فاصبر لقاء ربك أن يستدرجهم و يملئ لهم و لا تستعجل لهم العذاب لكفرهم و لا تكن كيونس فتكون مثله و هو مملوء غما أو غيظا ينادي بالتسبيح و الاعتراف بالظلم أي فاصبر و احذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، و نداؤه قوله في بطن الحوت: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ كما في سورة الأنبياء.

و قيل: اللام في ﴿لِحُكْمِ رَبِّكَ بمعنى إلى و فيه تهديد لقومه و وعيد لهم أن سيحكم الله بينه و بينهم، و الوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات السابقة.

قوله تعالى: ﴿لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ في مقام التعليل للنهي السابق: ﴿لاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ اَلْحُوتِ و التدارك‏ الإدراك و اللحوق، و فسرت النعمة بقبول التوبة، و النبذ الطرح، و العراء الأرض غير المستورة بسقف أو نبات، و الذم‏ مقابل المدح.

 

 

 و المعنى: لو لا أن أدركته و لحقت به نعمة من ربه و هو أن الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء و هو مذموم بما فعل.

لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ: الصافات: ١٤٤، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة و مقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموما و هما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.

فإنه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه (عليه السلام) كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه و هو قوله: كان من المسبحين و لو لا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، و الآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة و هو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما.

فمجموع الآيتين يدل على أن ذهابه مغاضبا كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه و بعده، و قدر أن ينبذ بالعراء و كان مقتضى عمله أن ينبذ مذموما فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله و جعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.

و قد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية و على ذلك يتعين لقوله: ﴿لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ معنى آخر.

قوله تعالى: ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ تقدم توضيح معنى الاجتباء و الصلاح في مباحثنا المتقدمة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يَكَادُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا اَلذِّكْرَ إن مخففة من الثقيلة، و الزلق‏ هو الزلل، و الإزلاق‏ الإزلال و هو الصرع كناية عن القتل و الإهلاك.

و المعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.

و المراد بإزلاقه بالأبصار و صرعة بها على ما عليه عامة المفسرين الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلا و ربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، و قد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره.

و قيل: المعنى أنهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظرا مليئا بالعداوة و البغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَ مَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ رميهم له بالجنون عند ما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، و لذا رد قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكرا للعالمين.

و قد رد قولهم: ﴿إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ في أول السورة بقوله: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ و به ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.

(بحث روائي)

 في المعاني، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله عز و جل: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا و تدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.

 و فيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز و جل: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربي الأعلى.

 أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربي الأعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق. انتهى. و في هذا المعنى رواية أخرى عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) .

 و فيه، بإسناده عن معلى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما يعني بقوله:

﴿وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ قال: و هم مستطيعون. و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد : سمعت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة، و يبقى من كان يسجد في الدنيا رياء و سمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. و فيه، أخرج ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ قال: يكشف الله عن ساقه. و فيه، أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا و الطبراني و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : يجمع الله الناس يوم القيامة و ينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناديا أيها الناس أ لم ترضوا من ربكم [الذي‏] خلقكم و صوركم

 

 

 و رزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا و يتولى؟ أ ليس ذلك من ربكم عدلا؟ قالوا: بلى.

قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا و يتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، و يتمثل لمن كان يعبد عزيزا شيطان عزيز حتى يمثل لهم الشجرة و العود و الحجر.

و يبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز و جل فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا و بينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: و ما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق.

فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعا ساجدا و يبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون. الحديث.

أقول: و الروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية و نص الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مؤولة.

 و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن السمط قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و ذكره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول الله عز و جل: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ بالنعم و المعاصي.

 أقول: و قد تقدم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ: الآية ١٨٢ من سورة الأعراف.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿إِذْ نَادى‏َ وَ هُوَ مَكْظُومٌ: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : يقول: مغموم.

و فيه،: في قوله تعالى: ﴿لَوْ لاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ قال: النعمة الرحمة.

و فيه، :في قوله تعالى: ﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ قال: الموضع الذي لا سقف له.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يَكَادُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا: أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : العين حق.

 

 

و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : العين تدخل الرجل القبر و الجمل القدر.

 أقول: و هناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية و هي من الجري دون التفسير و لذلك لم نوردها.

***

(٦٩) سورة الحاقة مكية و هي اثنتان و خمسون آية (٥٢)

[سورة الحاقة (٦٩): الآیات ١ الی ١٢]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَاقَّةُ ١ مَا اَلْحَاقَّةُ ٢ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ ٣ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عَادٌ بِالْقَارِعَةِ ٤ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ٥ وَ أَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ٦ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى اَلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ٧ فَهَلْ تَرى‏ لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ٨ وَ جَاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ اَلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ٩ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ١٠ إِنَّا لَمَّا طَغَى اَلْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي اَلْجَارِيَةِ ١١ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ١٢

(بيان)

السورة تذكر الحاقة و هي القيامة و قد سمتها أيضا بالقارعة و الواقعة.

و قد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالا الأمم الذين كذبوا بها

 

 

 فأخذهم الله أخذة رابية، و فصل تصف فيه الحاقة و انقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال و اختلاف حالهم بالسعادة و الشقاء، و فصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها و أنه حق اليقين، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتا لا مرد له و لا ريب فيه، من حق‏ الشي‏ء بمعنى ثبت و تقرر تقررا واقعيا.

و ﴿مَا في ﴿مَا اَلْحَاقَّةُ استفهامية تفيد تفخيم أمرها، و لذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير و لم يقل: ما هي، و الجملة الاستفهامية خبر الحاقة.

فقوله: ﴿اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها و إعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.

و قوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم و هذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشي‏ء و بلوغه الغاية في الفخامة و لعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس:

أن ما في القرآن من قوله تعالى: ﴿مَا أَدْرَاكَ فقد أدراه و ما فيه من قوله: ﴿مَا يُدْرِيكَ فقد طوى عنه، يعني أن ﴿مَا أَدْرَاكَ كناية و ﴿مَا يُدْرِيكَ تصريح.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عَادٌ بِالْقَارِعَةِ المراد بالقارعة القيامة و سميت بها لأنها تقرع و تدك السماوات و الأرض بتبديلها و الجبال بتسييرها و الشمس بتكويرها و القمر بخسفها و الكواكب بنثرها و الأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، و كان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود و عاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.

و هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام تسع آيات و إن كانت مسوقة للإشارة إلى إجمال قصص قوم نوح و عاد و ثمود و فرعون و من قبله و المؤتفكات و إهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقه ببعض أوصافها و هو أن الله أهلك أمما كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ إلخ، جواب آخر.

و محصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود و عاد و فرعون و من قبله و المؤتفكات و قوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية و أهلكهم بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ بيان تفصيلي لأثر تكذيبهم بالقارعة،

 

 

 و المراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى: ﴿وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ: هود: ٦٧، و قال أيضا:

﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ: الأعراف: ٨٧، و قال أيضا: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ: حم السجدة: ١٧.

و قيل: الطاغية مصدر كالطغيان و الطغوى و المعنى: فأما ثمود فأهلكوا بسبب طغيانهم، و يؤيده قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا: الشمس: ١١.

و أول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الإهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظرا إلى كيفية إهلاكهم.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، و عاتية من العتو بمعنى الطغيان و الابتعاد من الطاعة و الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى اَلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعى‏َ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، و الحسوم‏ جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم‏ بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، و هي صفة لسبع أي سبع ليال و ثمانية أيام متتالية متتابعة و صرعى‏ جمع صريع و أعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشي‏ء، و خاوية الخالية الجوف الملقاة و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَهَلْ تَرى‏َ لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ أي من نفس باقية، و الجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعا، و قيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء و قد أريد به البقية و ما قدمناه من المعنى أقرب.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ اَلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ المراد بفرعون فرعون موسى، و بمن قبله الأمم المتقدمة عليه زمانا من المكذبين، و بالمؤتفكات قرى قوم لوط و الجماعة القاطنة بها، و «خاطئة» مصدر بمعنى الخطاء و المراد بالمجي‏ء بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ضمير ﴿فَعَصَوْا لفرعون

 

 

و من قبله و المؤتفكات، و المراد بالرسول جنسه، و الرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، و المراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة و قيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات و قيل: الخارقة للعادة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى اَلْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي اَلْجَارِيَةِ إشارة إلى طوفان نوح و الجارية السفينة، و عد المخاطبين محمولين في سفينة نوح و المحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ تعليل لحملهم في السفينة فضمير ﴿لِنَجْعَلَهَا للحمل باعتبار أنه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به و عبرة تعتبرون بها و موعظة تتعظون بها.

و قوله: ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ الوعي‏ جعل الشي‏ء في الوعاء، و المراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس و حفظها فيها لترتب عليها فائدتها و هي التذكر و الاتعاظ.

و في الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.

توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي أَعْطى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏َ: طه: ٥٠، و قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏َ: الأعلى: ٣، و قد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه و الأعلى و غيرهما.

و الإنسان يشارك سائر الأنواع المادية في أن له استكمالا تكوينيا و سلوكا وجوديا نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة و يختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الإنسانية استكمالا من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الأوصاف و النعوت و تتلبس به من الملكات و الأحوال في الحياة الدنيا و هي غاية وجود الإنسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.

و هذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل و إنزال الكتب و الهداية إليها ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ: النساء: ١٦٥، و قد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و غيره، و هذه هداية بمعنى إراءة

 

 

 الطريق و إعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الإنسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً: الدهر: ٣، فإن لزم الصراط و سلكه حي بحياة طيبة سعيدة و إن تركه و أعرض عنه هلك بشقاء دائم و تمت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏َ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ: الأنفال: ٤٢.

إذا تقرر هذا تبين أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، و إليها الإشارة بقوله: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكر بها بل ربما أثرت و ربما تخلفت.

و من سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها و إيصالها إليها بتحريكها و سوقها نحوه، و إليها الإشارة بقوله: ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية و إنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة و هو من الله و أما الوعي فإنه و إن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة و بيان الأجر و المثوبة على إجابة الدعوة و الأجر و المثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.

و يظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ : الأعراف: ٩٦ أن لأعمال الإنسان تأثيرا في الحوادث الخارجية و قد تقدم بعض الكلام فيه.

(بحث روائي‏)

في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً قال:

لأمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كم من سفينة قد هلكت و أثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.

أقول: و تقدم ما يؤيد ذلك في قصة نوح في تفسير سورة هود.

 و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن مكحول قال : لما نزلت ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سألت ربي أن يجعلها

 

 

 أذن علي. قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئا فنسيته.

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الواحدي و ابن مردويه و ابن عساكر و ابن النجاري عن بردة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك و لا أقصيك و أن أعلمك و أن تعي و حق لك أن تعي فنزلت هذه الآية ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.

 و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا علي إن الله أمرني أن أدنيك و أعلمك لتعي فأنزلت هذه الآية ﴿وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فأنت أذن واعية لعلمي:.

أقول: و روي هذا المعنى في تفسير البرهان، عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، و عن الكليني بإسناده عنه (عليه السلام) ، و عن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) .

و رواه أيضا عن ابن شهرآشوب عن حلية الأولياء عن عمر بن علي، و عن الواحدي في أسباب النزول عن بريدة، و عن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زر بن حبيش عن علي (عليه السلام) .

و قد روي في غاية المرام، من طرق الفريقين ستة عشر حديثا في ذلك و قال في البرهان إن محمد بن العباس روى فيه ثلاثين حديثا من طرق العامة و الخاصة.

[سورة الحاقة (٦٩): الآیات ١٣ الی ٣٧]

﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ١٣ وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ١٤ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ ١٥ وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ١٦ وَ اَلْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجَائِهَا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ١٧ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى‏ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ١٨ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتَابِيَهْ ١٩ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ٢٠

 

 

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ٢١ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ٢٢ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ٢٣ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْخَالِيَةِ ٢٤ وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ٢٥ وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ٢٦ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ اَلْقَاضِيَةَ ٢٧ مَا أَغْنى‏ عَنِّي مَالِيَهْ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ٢٩ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ٣٠ ثُمَّ اَلْجَحِيمَ صَلُّوهُ ٣١ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ٣٢ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اَلْعَظِيمِ ٣٣ وَ لاَ يَحُضُّ عَلى‏ طَعَامِ اَلْمِسْكِينِ ٣٤ فَلَيْسَ لَهُ اَلْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ٣٥ وَ لاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ٣٦ لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ اَلْخَاطِؤُنَ ٣٧

(بيان)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرف الحاقة ببعض أشراطها و نبذة مما يقع فيها.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ﴿وَ حُمِلَتِ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً الدك‏ أشد الدق و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.

قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ أي قامت القيامة. قوله تعالى: ﴿وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ انشقاق‏ الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شق الأديم و الثوب و نحوهما.

 

 

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله: ﴿وَ اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَ اَلْمَلَكُ عَلىَ أَرْجَائِهَا في معنى قوله: ﴿وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً: الفرقان: ٢٥.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمَلَكُ عَلىَ أَرْجَائِهَا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى: ﴿وَ اَلْمَلَكُ عَلىَ أَرْجَائِهَا انتهى، و الملك كما قيل يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في الآية الجمع.

و قوله: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ضمير ﴿فَوْقَهُمْ على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا: المؤمن: ٧ و قد وردت الروايات أنهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ أن الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.

و من الممكن كما تقدمت الإشارة إليه أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ: الزمر: ٧٥.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى‏ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: ﴿وَ عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا: الكهف: ٤٨، و العرض‏ إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازا لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدل الغيب شهادة و السر علنا قال: ﴿يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ: الطارق: ٩، و قال: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ: المؤمن: ١٦.

و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة

 

 

 كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، و إنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهورا لا ستر عليه و لا مرية فيه.

فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله و يظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتَابِيَهْ قال في المجمع، هاؤم‏ أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين:

هاؤما، و للنساء: هاؤن. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة:

هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤن.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله: ﴿اَلْخَاطِؤُنَ بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: إسراء: ٧١ كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أن قوله: ﴿هَاؤُمُ اِقْرَؤُا كِتَابِيَهْ خطاب للملائكة، و الهاء في ﴿كِتَابِيَهْ و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرءوا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ الظن‏ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصل من الآية السابقة و محصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين و قاضيا بسعادتي لأني أيقنت في الدنيا أني سألاقي حسابي فآمنت بربي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.

قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ إلى قوله ﴿اَلْخَالِيَةِ أي هو في جنة عالية قدرا فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

 

 

و قوله: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ القطوف‏ جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي اَلْأَيَّامِ اَلْخَالِيَةِ أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا التي تقضت أيامها.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مر الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.

قوله تعالى: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ اَلْقَاضِيَةَ ذكروا أن ضمير ﴿لَيْتَهَا للموتة الأولى التي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية علي تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد و أشاهد ما أشاهد.

قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنىَ عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كل مكروه و يسلطانه على كل ما يحب و يرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربه و عن كل حق يدعى إليه و كذب داعيه فلما شاهد تقطع الأسباب و أنه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسرا و توجعا و ما ذا ينفع التحسر.؟ قوله تعالى: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ إلى قوله ﴿فَاسْلُكُوهُ حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و ﴿فَغُلُّوهُ أمر من الغل‏ بالفتح و هو الشد بالغل الذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله: ﴿ثُمَّ اَلْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إياها.

و قوله: ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ السلسلة القيد، و الذرع‏ الطول، و الذراع‏ بعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعا.

 

 

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اَلْعَظِيمِ وَ لاَ يَحُضُّ عَلىَ طَعَامِ اَلْمِسْكِينِ الحض‏ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إن الأخذ ثم التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ اَلْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ إلى قوله ﴿اَلْخَاطِؤُنَ الحميم‏ الصديق و الآية تفريع على قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم هاهنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله: ﴿وَ لاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ الغسلين‏ الغسالة و كان المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة: ﴿حَمِيمٌ و متفرع على قوله: ﴿وَ لاَ يَحُضُّ إلخ، و المحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا طعام إلا من غسلين أهل النار.

و قوله: ﴿لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ اَلْخَاطِؤُنَ وصف لغسلين و الخاطئون المتلبسون بالخطيئة و الإثم.

بحث روائي

في الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ- أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية. أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمي، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأولين و أربعة من الآخرين فأما الأربعة من الأولين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أما الأربعة من الآخرين فمحمد و علي و الحسن و الحسين (عليه السلام) .

أقول: و في غير واحد من الروايات أن الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أن حملة العرش و العرش العلم أربعة منا و أربعة ممن شاء الله.

 و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامه الذي مات في عصره فإن أثبته أعطي كتابه بيمينه لقوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا

 

 

 كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه إلى أن قال و من أنكر كان من أصحاب الشمال الذين قال الله:

﴿وَ أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ إلخ. أقول: و في عدة من الروايات تطبيق قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إلخ، على علي (عليه السلام) ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله: ﴿وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

 و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا. و فيه، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال : جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون كل و الله يخطو.

فتبسم علي و قال: يا أعرابي ﴿لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ اَلْخَاطِؤُنَ قال: صدقت و الله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثم التفت علي إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة - فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض. و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و لو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرها.

[سورة الحاقة (٦٩): الآیات ٣۸ الی ٥٢]

﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ٣٨ وَ مَا لاَ تُبْصِرُونَ ٣٩ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ٤٠ وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ٤١ وَ لاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٤٣ وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ اَلْأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ اَلْوَتِينَ ٤٦ فَمَا

 

 

مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ٤٧ وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ٤٨ وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ٤٩ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٥٠ وَ إِنَّهُ لَحَقُّ اَلْيَقِينِ ٥١ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ ٥٢

(بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكد ما تقدم من أمر الحاقة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقية ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَ مَا لاَ تُبْصِرُونَ ظاهر الآية أنه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإن من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صف واحد و يعظمه تعالى و ما صنع تعظيما مشتركا في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنه خلقه جليل جميل لأنه تعالى جميل لا يصدر منه إلا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى على نفسه بخلقه في قوله: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ: الم السجدة: ٧، و قوله: ﴿فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ: المؤمنون: ١٤ فليس للموجودات منه تعالى إلا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإن النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحده تعالى و مصير الكل إليه و ما يترتب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و مما تقدم يظهر عدم استقامة ما قيل: إن المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإن السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إن المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إن المراد الجن و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعم مدلولا من جميع ذلك.

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أن المراد برسول كريم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنه إنما ينسب إليه بما أنه رسول و الرسول بما أنه رسول لا يأتي إلا بقول مرسلة، و قد بين ذلك فضل بيان بقوله بعد: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ.

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه مما نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أن قوله بعد: ﴿وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ اَلْأَقَاوِيلِ و ما يتلوه إنما يناسب كونه (ص) هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ نفي أن يكون القرآن نظما ألفه شاعر و لم يقل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) شعرا و لم يكن شاعرا.

و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ توبيخ لمجتمعهم حيث إن الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلا قليل منهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ نفي أن يكون القرآن كهانة و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كاهنا يأخذ القرآن من الجن و هم يلقونه إليه.

و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ توبيخ أيضا لمجتمعهم.

قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ أي منزل من رب العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ اَلْأَقَاوِيلِ - إلى قوله - ﴿حَاجِزِينَ يقال: تقول‏ على فلان أي اختلق قولا من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى: ﴿وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا هذا الرسول الكريم الذي حملناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزلناه عليه و اختلق ﴿بَعْضَ اَلْأَقَاوِيلِ و نسبه إلينا ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوة كما في رواية القمي ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ اَلْوَتِينَ و قتلناه لتقوله علينا ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ

 

 

 حَاجِزِينَ تحجبونه عنا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على تقدير أن يفتري على الله كذبا و ينسب إليه شيئا لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله: ﴿لَوْ لاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً: إسراء: ٧٥، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم: ﴿وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» : الأنعام: ٨٨.

فلا يرد أن مقتضى الآيات أن كل من ادعى النبوة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشد العقاب و هو منقوض ببعض مدعي النبوة من الكذابين.

و ذلك أن التهديد في الآية متوجهة إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقول على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدعي النبوة المفتري على الله في دعواه النبوة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يذكرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنة و ما هذا شأنه لا يكون تقولا و افتراء فالآية مسوقة حجة على كون القرآن منزها عن التقول و الفرية.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى اَلْكَافِرِينَ ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَحَقُّ اَلْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ قد تقدم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقيقة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حق اليقين ثم الأمر بتسبيح اسم الرب العظيم المنزه عن خلق العالم باطلا لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقة التي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

تم و الحمد لله.

 

 

بعض المواضيع المبحوث عنها في الكتاب

 

 

 

[1]  يسعون، ظ.

[2]  الآية ٧٨.

[3]  الآية ٩

[4]  النور: ٣٥.

[5]  الذاريات: ١٤

[6]  الطارق الآية ٩.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22380690

  • التاريخ : 13/03/2025 - 17:07

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net