00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 165 الى ص 246 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

الرضوان لتطهير المحل ليحل به الرضوان، و توصيف المغفرة بكونه من الله دون العذاب لا يخلو من إيماء إلى أن المطلوب بالقصد الأول هو المغفرة و أما العذاب فليس بمطلوب في نفسه و إنما يتسبب إليه الإنسان بخروجه عن زي العبودية كما قيل.

و قوله: ﴿وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ أي متاع التمتع منه هو الغرور به، و هذا للمتعلق المغرور بها.

و الكلام أعني قوله: ﴿وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ إشارة إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة و الرضوان على العذاب، ثم في قوله: ﴿وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ تنبيه و إيقاظ لئلا تغره الحياة الدنيا بخاصة غروره.

قوله تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلى‏َ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إلخ المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كل من المسابقين جعل حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإن المسارعة الجد في تسريع الحركة و المسابقة الجد في تسريعها بحيث تزيد في السرعة على حركة صاحبه.

و على هذا فقوله: ﴿سَابِقُوا إِلى‏َ مَغْفِرَةٍ إلخ، يتضمن من التكليف ما هو أزيد مما يتضمنه قوله: ﴿سَارِعُوا إِلى‏َ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: آل عمران: ١٣٣.

و يظهر به عدم استقامة ما قيل: إن آية آل عمران في السابقين المقربين و الآية التي نحن فيها في عامة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلا الإيمان بالله و رسله بخلاف آية آل عمران فإنها مذيلة بجملة الأعمال الصالحة، و لذا أيضا وصف الجنة الموعودة هناك بقوله: ﴿عَرْضُهَا اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ بخلاف ما هاهنا حيث قيل: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ فدل على أن جنة أولئك أوسع من جنة هؤلاء.

وجه عدم الاستقامة ما عرفت أن المكلف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلف به في آية آل عمران. على أن اللام في ﴿اَلسَّمَاءِ للجنس فتنطبق على ﴿اَلسَّمَاوَاتُ في تلك الآية.

و تقديم المغفرة على الجنة في الآية لأن الحياة في الجنة حياة طاهرة في عالم الطهارة فيتوقف التلبس بها على زوال قذارات الذنوب و أوساخها.

 

 

و المراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول و هو معنى شائع، و الكلام كأنه مسوق للدلالة على انتهائها في السعة.

و قيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول و الاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر الطول معه فإن العرض أقصر الامتدادين و إذا كان كعرض السماء و الأرض كان طولها أكثر من طولهما.

و لا يخلو الوجه من تحكم إذ لا دليل على مساواة طول السماء و الأرض لعرضهما ثم على زيادة طول الجنة على عرضها حتى يلزم زيادة طول الجنة على طولهما و الطول قد يساوي العرض كما في المربع و الدائرة و سطح الكرة و غيرها و قد يزيد عليه.

و قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ قد عرفت في ذيل قوله: ﴿آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أن المراد بالإيمان بالله و رسله هو مرتبة عالية من الإيمان تلازم ترتب آثاره عليه من الأعمال الصالحة و اجتناب الفسوق و الإثم.

و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن في الآية بشارة لعامة المؤمنين حيث قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و لم يقيد الإيمان بشي‏ء من العمل الصالح و نحوه غير سديد فإن خطاب الآية و إن كان بظاهر لفظه يعم الكافر و المؤمن الصالح و الطالح لكن وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الإيمان الذي يصاحب العمل الصالح، و لو كان المراد بالإيمان بالله و رسله مجرد الإيمان و لو لم يصاحبه عمل صالح و كانت الجنة معدة لهم و الآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة و الجنة كان خطاب ﴿سَابِقُوا متوجها إلى الكفار فإن المؤمنين قد سبقوا و سياق الآيات يأباه.

و قوله: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ و قد شاء أن يؤتيه الذين آمنوا بالله و رسله، و قد تقدم بيان أن ما يؤتيه الله من الأجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى من غير أن يستحقوه عليه.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ إشارة إلى عظمة فضله، و أن ما يثيبهم به من المغفرة و الجنة من عظيم فضله.

قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إلخ، المصيبة الواقعة التي تصيب الشي‏ء مأخوذة من إصابة السهم الغرض و هي بحسب المفهوم أعم من الخير و الشر لكن غلب استعمالها في الشر فالمصيبة هي النائبة،

 

 

 و المصيبة التي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخربة و نحوها، و التي تصيب في الأنفس كالمرض و الجرح و الكسر و القتل و الموت، و البرء و البروء الخلق من العدم، و ضمير ﴿نَبْرَأَهَا للمصيبة، و قيل: للأنفس، و قيل: للأرض، و قيل: للجميع من الأرض و الأنفس و المصيبة، و يؤيد الأول أن المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الأموال و الأنفس التي تدعوهم إلى الإمساك عن الإنفاق و التخلف عن الجهاد.

و المراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة كما تدل عليه الآيات و الروايات و إنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض و في أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها.

قيل: إنما قيد المصيبة بما في الأرض و في الأنفس لأن مطلق المصائب غير مكتوبة في اللوح لأن اللوح متناه و الحوادث غير متناهية و لا يكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي.

و الكلام مبني على أن المراد باللوح لوح فلزي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي الجو مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخط يشبه خطوطنا، و قد مر كلام في معنى اللوح و القلم و سيجي‏ء له تتمة.

و قيل: المراد بالكتاب علمه تعالى و هو خلاف الظاهر إلا أن يراد به أن الكتاب المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعلي.

و ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ للدلالة على أن تقدير الحوادث قبل وقوعها و القضاء عليها بقضاء لا يتغير لا صعوبة فيه عليه تعالى.

قوله تعالى: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى‏َ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ إلخ، تعليل راجع إلى الآية السابقة و هو تعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس الكتابة، و الأسى‏ الحزن، و المراد بما فات و ما آتى النعمة الفائتة و النعمة المؤتاة.

و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها و تحققها لئلا تحزنوا بما فاتكم من النعم و لا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لأن الإنسان إذا أيقن أن الذي أصابه مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه و أن ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمى لم يعظم حزنه إذا فاته و لا فرحه إذا أوتيه.

قيل: إن اختلاف الإسناد في قوليه: ﴿مَا فَاتَكُمْ و ﴿بِمَا آتَاكُمْ حيث أسند الفوت

 

 

 إلى نفس الأشياء و الإيتاء إلى الله سبحانه لأن الفوات و العدم ذاتي للأشياء فلو خليت و نفسها لم تبق بخلاف حصولها و بقائها فإنه لا بد من استنادهما إلى الله تعالى.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ المختال‏ من أخذته الخيلاء و هي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه على ما ذكره الراغب و الفخور الكثير الفخر و المباهاة و الاختيال و الفخر ناشئان عن توهم الإنسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه، و هو مخالف لما هو الحق من استناد ذلك إلى تقدير من الله لا لاستقلال من نفس الإنسان فهما من الرذائل و الله لا يحبها.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبُخْلِ وصف لكل مختال فخور يفيد تعليل عدم حبه تعالى. و الوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الذي يعتمد عليه اختيالهم و فخرهم و الوجه في أمرهم الناس بالبخل أنهم يحبونه لأنفسهم فيحبونه لغيرهم، و لأن شيوع السخاء و الجود بين الناس و إقبالهم على الإنفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل المذموم.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ أي و من يعرض عن الإنفاق و لم يتعظ بعظة الله و لا اطمأن قلبه بما بينه من صفات الدنيا و نعت الجنة و تقدير الأمور فإن الله هو الغني فلا حاجة له إلى إنفاقهم، و المحمود في أفعاله.

و الآيات الثلاث أعني قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلى قوله ﴿اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ كما ترى حث على الإنفاق و ردع عن البخل و الإمساك بتزهيدهم عن الأسى بما فاتهم و الفرح بما آتاهم لأن الأمور مقدرة مقضية مكتوبة في كتاب معينة قبل أن يبرأها الله سبحانه.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، :في قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَأْنِ الآية" :أخرج ابن المبارك و عبد الرزاق و ابن المنذر عن الأعمش قال :لما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت:

﴿أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا. أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة و هناك‏ رواية عن ابن مسعود قال" :ما

 

 

 كان بين إسلامنا و بين أن عاتبنا الله بهذه ﴿أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللَّهِ إلا أربع سنين‏، و ظاهره كون السورة مكية، و في معناه ما ورد أن عمر آمن بعد نزول هذه السورة و قد عرفت أن سياق آيات السورة تأبى إلا أن تكون مدنية، و يمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية ﴿أَ لَمْ يَأْنِ إلخ، أو هي و التي تتلوها مما نزل بمكة دون باقي آيات السورة.

 و في رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله ﴿أَ لَمْ يَأْنِ الآية، و لازمه نزول السورة سنة أربع أو خمس من الهجرة، و في رواية أخرى عن ابن عباس قال :إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: ﴿أَ لَمْ يَأْنِ إلخ، و لازمه نزول السورة أيام الهجرة، و الروايتان أيضا لا تلائمان سياق آياتها.

 و فيه، أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

 و في تفسير العياشي، بإسناده عن منهال القصاب قال: لأبي عبد الله (عليه السلام) : ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إن المؤمن شهيد و قرأ هذه الآية.

 أقول: و في معناه روايات أخرى و ظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل في سبيل الله.

 في تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا؟ فقال: قد حده الله في كتابه فقال عز و جل: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.

 و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) : الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ و من لم يأس على الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

 أقول: و الأساس الذي يبتنيان عليه عدم تعلق القلب بالدنيا، و في الحديث المعروف: حب الدنيا رأس كل خطيئة.

 

 

[سورة الحديد (٥٧): الآیات ٢٥ الی ٢٩]

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ٢٥ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ٢٦ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلى‏ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنَاهُ اَلْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغَاءَ رِضْوَانِ اَللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ٢٧ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٨ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ أَنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ ٢٩

(بيان)

ثم إنه تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين و تثاقلهم و فتورهم في امتثال التكاليف الدينية و خاصة في الإنفاق في سبيل الله، الذي به قوام أمر الجهاد و شبههم بأهل الكتاب

 

 

حيث قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد.

ذكر أن الغرض الإلهي من إرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان معهم أن يقوم الناس بالقسط، و أن يعيشوا في مجتمع عادل، و قد أنزل الحديد ليمتحن عباده في الدفاع عن مجتمعهم الصالح و بسط كلمة الحق في الأرض مضافا إلى ما في الحديد من منافع ينتفعون بها.

ثم ذكر أنه أرسل نوحا و إبراهيم (عليه السلام) و جعل في ذريتهما النبوة و الكتاب و أتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمر الأمر في كل من الأمم على إيمان بعضهم و اهتدائه و كثير منهم فاسقون، ثم ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ إلخ، استئناف يتبين به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان و أن الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط و امتحانهم بذلك و بإنزال الحديد ليتميز من ينصر الله بالغيب و يتبين أن أمر الرسالة لم يزل مستمرا بين الناس و لم يزالوا يهتدي من كل أمة بعضهم و كثير منهم فاسقون.

فقوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ أي بالآيات البينات التي يتبين بها أنهم مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة و البشارات الواضحة و الحجج القاطعة.

و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ و هو الوحي الذي يصلح أن يكتب فيصير كتابا، المشتمل على معارف الدين من اعتقاد و عمل و هو خمسة: كتاب نوح و كتاب إبراهيم و التوراة و الإنجيل و القرآن.

و قوله: ﴿وَ اَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ فسروا الميزان‏ بذي الكفتين الذي يوزن به الأثقال، و أخذوا قوله: ﴿لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ غاية متعلقة بإنزال الميزان و المعنى:

و أنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال الأوزان و النسب بين الأشياء فقوام حياة الإنسان بالاجتماع، و قوام الاجتماع بالمعاملات الدائرة بينهم و المبادلات في الأمتعة و السلع و قوام المعاملات في ذوات الأوزان بحفظ النسب بينها و هو شأن الميزان.

و لا يبعد و الله أعلم أن يراد بالميزان الدين فإن الدين هو الذي يوزن به عقائد أشخاص الإنسان و أعمالهم، و هو الذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين و منفردين، و هذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرض لحال الناس من حيث خشوعهم و قسوة قلوبهم

 

 

 و جدهم و مساهلتهم في أمر الدين. و قيل: المراد بالميزان هنا العدل و قيل: العقل.

و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ الظاهر أنه كقوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ: الزمر: ٦، و قد تقدم في تفسير الآية أن تسمية الخلق في الأرض إنزالا إنما هو باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١.

و قوله: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ البأس‏ هو الشدة في التأثير و يغلب استعماله في الشدة في الدفاع و القتال، و لا تزال الحروب و المقاتلات و أنواع الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد و أقسام الأسلحة المعمولة منه منذ تنبه البشر له و استخرجه.

و أما ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب الحياة و ما يرتبط بها من الصنائع.

و قوله: ﴿وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ غاية معطوفة على محذوف و التقدير و أنزلنا الحديد لكذا و ليعلم الله من ينصره إلخ، و المراد بنصره و رسله الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين و بسطا لكلمة الحق، و كون النصر بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، و المراد بعلمه بمن ينصره و رسله تميزهم ممن لا ينصر.

و ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ و كان وجهه الإشارة إلى أن أمره تعالى لهم بالجهاد إنما هو ليتميز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره أنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذلة إليه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ شروع في الإشارة إلى أن الاهتداء و الفسق جاريان في الأمم الماضية حتى اليوم فلم تصلح أمة من الأمم بعامة أفرادها بل لم يزل كثير منهم فاسقين.

و ضمير ﴿فَمِنْهُمْ و ﴿فَمِنْهُمْ للذرية و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلى‏َ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنَاهُ اَلْإِنْجِيلَ في المجمع،: التقفية جعل الشي‏ء في إثر شي‏ء على الاستمرار فيه، و لهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه. انتهى.

و ضمير ﴿عَلى‏َ آثَارِهِمْ لنوح و إبراهيم و السابقين من ذريتهما، و الدليل عليه أنه لا نبي

 

 

 بعد نوح إلا من ذريته لأن النسل بعده له. على أن عيسى من ذرية إبراهيم قال تعالى في نوح: ﴿وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ: الصافات: ٧٧، و قال: ﴿وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إلى أن قال ﴿وَ عِيسى‏َ: الأنعام: ٨٥، فالمراد بقوله: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلى‏َ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا إلخ، التقفية باللاحقين من ذريتهما على آثارهما و السابقين من ذريتهما.

و في قوله: ﴿عَلى‏َ آثَارِهِمْ إشارة إلى أن الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر بعض.

و قوله: ﴿وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنَاهُ اَلْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً الرأفة و الرحمة - على ما قالوا - مترادفان، و نقل عن بعضهم أن الرأفة يقال في درء الشر و الرحمة في جلب الخير.

و الظاهر أن المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوب الذين اتبعوه توفيقهم للرأفة و الرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة و المسالمة كما وصف الله سبحانه الذين مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالرحمة إذ قال: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ: الفتح: ٢٩، و قيل: المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوبهم الأمر بهما و الترغيب فيهما و وعد الثواب عليهما.

و قوله: ﴿وَ رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ الرهبانية من الرهبة و هي الخشية، و يطلق عرفا على انقطاع الإنسان من الناس لعبادة الله خشية منه، و الابتداع‏ إتيان ما لم يسبق إليه في دين أو سنة أو صنعة، و قوله: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما كتبناها عليهم.

و المعنى: أنهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانية من غير أن نشرعه نحن لهم.

و قوله: ﴿إِلاَّ اِبْتِغَاءَ رِضْوَانِ اَللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا استثناء منقطع معناه ما فرضناها عليهم لكنهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله و طلبا لمرضاته فما حافظوا عليها حق محافظتها بتعديهم حدودها.

و فيه إشارة إلى أنها كانت مرضية عنده تعالى و إن لم يشرعها بل كانوا هم المبتدعين لها.

و قوله: ﴿فَآتَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ إشارة إلى أنهم كالسابقين من أمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم و كثير منهم فاسقون، و الغلبة للفسق.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ

 

 

إلخ، أمر الذين آمنوا بالتقوى و الإيمان بالرسول مع أن الذين استجابوا الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضا دليل على أن المراد بالإيمان بالرسول الاتباع التام و الطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به و ينهى عنه سواء كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكما من الأحكام الشرعية أو صادرا عنه بما له من ولاية أمور الأمة كما قال تعالى: ﴿فَلاَ وَ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً: النساء: ٦٥.

فهذا إيمان بعد إيمان و مرتبة فوق مرتبة الإيمان الذي ربما يتخلف عنه أثره فلا يترتب عليه لضعفه، و بهذا يناسب قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ و الكفل‏ الحظ و النصيب فله ثواب على ثواب كما أنه إيمان على إيمان.

و قيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل:

يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين و بخاتمهم (عليه السلام) لا تفرقون بين أحد من رسله.

و قوله: ﴿وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ قيل: يعني يوم القيامة و هو النور الذي أشير إليه بقوله: ﴿يَسْعى‏َ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ.

و فيه أنه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا و هو المدلول عليه بقوله تعالى:

﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا: الأنعام: ١٢٢، و نورهم في الآخرة و هو المدلول عليه بقوله: ﴿يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعى‏َ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ الآية: ١٢ من السورة و غيره.

ثم كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته و جعل نور يمشون به بالمغفرة فقال:

﴿وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ ظاهر السياق أن في الآية التفاتا من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و المراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و ﴿أَنَّ مخففة من الثقيلة، و ضمير ﴿يَقْدِرُونَ للمؤمنين، و في الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة.

و المعنى: إنما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان و وعدناهم كفلين من الرحمة و جعل النور و المغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شي‏ء من فضل الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا.

 

 

 و قيل: إن ﴿لِئَلاَّ في ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ زائدة و ضمير ﴿يَقْدِرُونَ لأهل الكتاب، و المعنى:

إنما وعدنا المؤمنين بما وعدنا لأن يعلم أهل الكتاب القائلون: إن من آمن منا بكتابكم فله أجران و من لم يؤمن فله أجر واحد لإيمانه بكتابنا، إنهم لا يقدرون على شي‏ء من فضل الله إن لم يؤمنوا، هذا و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف.

و قوله: ﴿وَ أَنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ معطوف على ألا يعلم»، و المعنى: إنما وعدنا بما وعدنا لأن كذا كذا و لأن الفضل بيد الله و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآية أقوال و احتمالات أخر لا جدوى في إيرادها و البحث عنها.

(بحث روائي)

 عن جوامع الجامع، روي: أن جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح (عليه السلام) و قال: مر قومك يزنوا به.

 و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث و قال: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فإنزاله ذلك خلقه إياه. و في المجمع، عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله على الحمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله و رسوله أعلم. فقال:

ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل.

فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فتفرقوا في غيران‏[1]

الجبال و أحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه، و منهم من كفر. ثم تلا هذه الآية ﴿وَ رَهْبَانِيَّةً اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلى آخرها.

ثم قال: يا ابن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله و رسوله أعلم. قال:

الهجرة و الجهاد و الصلاة و الصوم و الحج و العمرة. و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) لقد آتى الله

 

 

أهل الكتاب خيرا كثيرا. قال: و ما ذاك؟ قلت: قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا قال:

فقال: آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني إماما تأتمون به. و في المجمع، عن سعيد بن جبير: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه و دعاه فاستجاب له و آمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته و هم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به.

فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا:

يا نبي الله إن لنا أموالا و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم: ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله ﴿وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين.

فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا و كتابكم فله أجران، و من آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ الآية، فجعل لهم أجرين و زادهم النور و المغفرة ثم قال: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ.

(٥٨) (سورة المجادلة مدنية، و هي اثنتان و عشرون آية) (٢٢)

[سورة المجادلة (٥٨): الآیات ١ الی ٦]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ١ اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ

 

 

اَللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ٢ وَ اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ٣ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ٥ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اَللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ٦

(بيان‏)

تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم و أدب و صفة فشطر منها في حكم الظهار و النجوى و أدب الجلوس في المجالس و شطر منها يصف حال الذين يحادون الله و رسوله، و الذين يوادون أعداء الدين و يصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين و يعدهم وعدا جميلا في الدنيا و الآخرة.

و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ إلخ، قال في المجمع،: الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، و الشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. قال: و التحاور التراجع و هي المحاورة يقال:

حاوره محاورة أي راجعه الكلام و تحاورا. انتهى.

 

 

 الآيات الأربع أو الست نزلت في الظهار و كان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه و تحرم عليه مؤبدة و قد ظاهر بعض الأنصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها و تجادله (ص) في ذلك و تشتكي إلى الله فنزلت الآيات.

و المراد بالسمع في قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ استجابة الدعوة و قضاء الحاجة من باب الكناية و هو شائع و الدليل عليه قوله: ﴿تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، و أما قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا فالسمع فيه بمعناه المعروف.

و المعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها و قد ظاهر منها و تشتكي غمها و ما حل بها من سوء الحال إلى الله و الله يسمع تراجعكما في الكلام أن الله سميع للأصوات بصير بالمبصرات.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اَللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ إلخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم و إلغاء لتأثيره بالطلاق و التحريم الأبدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية تلحق الزوجة بالأم بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الأم على ولدها حرمة مؤبدة.

فقوله: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اَللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ أي ليس أمهات أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم.

ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: ﴿وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ وَ زُوراً بما فيه من سياق التأكيد أي و إن هؤلاء الأزواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول ينكره الشرع حيث لم يعتبره و لم يسنه، و كذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا و هذا لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها و إن حرمت المواقعة قبل الكفارة.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا إلخ، الكلام في معنى الشرط و لذلك دخلت الفاء في الخبر لأنه في معنى الجزاء و المحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم تحرير رقبة.

و في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار و هو قرينة على أن المراد بقوله: ﴿يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار.

و المعنى: و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.

و قيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، و فيه أن الندم عليه يصلح أن يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة ﴿يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا.

و قيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن يتلفظوا بها ثانيا و فيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون الأول و الآية لا تفيد ذلك و السنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده.

ثم ذيل الآية بقوله: ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ إيذانا بأن ما أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبره بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع بها ما لحقهم من تبعة العمل.

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا إلى آخر الآية خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الأولى لمن لا يتمكن منها و هي صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، و قيد ثانيا بقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا لدفع توهم اختصاص القيد بالخصلة الأولى.

و قوله: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا و تفصيل الكلام في ذلك كله في الفقه.

و قوله: ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي ما جعلناه من الحكم و افترضناه من الكفارة فأبقينا علقة الزوجية و وضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و ترفضوا أباطيل السنن.

و قوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ حد الشي‏ء ما ينتهي إليه و لا

 

 

 يتعداه و أصله المنع، و المراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من الأحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة و للكافرين بما حكمنا به في الظهار أو بما شرعناه من الأحكام بالمخالفة و المحادة عذاب أليم.

و الظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم و الأخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة، و يؤيده قوله: ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي تذعنوا بأن حكم الله حق و أن رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم)ادق أمين في تبليغه، و قد أكده بقوله: ﴿وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ إلخ، و يمكن أن يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل و هو العصيان.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلخ، المحادة الممانعة و المخالفة، و الكبت‏ الإذلال و الإخزاء.

و الآية و التي تتلوها و إن أمكن أن تكونا استئنافا يبين أمر محادة الله و رسوله من حيث تبعتها و أثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله و رسوله، و المعنى: إنما أمرناكم بالإيمان بالله و رسوله و نهيناكم عن تعدي حدود الله و الكفر بها لأن الذين يحادون الله و رسوله بالمخالفة أذلوا و أخزوا كما أذل و أخزى الذين من قبلهم.

ثم أكده بقوله: ﴿وَ قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ أي لا ريب في كونها منا و في أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، و للكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله و هو يوم الحساب و الجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا.

و قوله: ﴿أَحْصَاهُ اَللَّهُ وَ نَسُوهُ الإحصاء الإحاطة بعدد الشي‏ء من غير أن يفوت منه شي‏ء، قال الراغب: الإحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، و ذلك من لفظ الحصى، و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع. انتهى.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ تعليل لقوله: ﴿أَحْصَاهُ اَللَّهُ و قد مر تفسير شهادة الله على كل شي‏ء في آخر سورة حم السجدة.

 

 

 (بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي عن عائشة قالت :تبارك الذي وسع سمعه كل شي‏ء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة و يخفى علي بعضه و هي تشتكي زوجها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي تقول: يا رسول الله أكل شبابي و نثرت له بطني حتى إذا كبر سني و انقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات ﴿قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا و هو أوس بن الصامت. أقول: و الروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، و اختلفت في اسم المرأة و اسم أبيها و اسم زوجها و اسم أبيه و الأعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة و اسم زوجها أوس بن الصامت الأنصاري و أورد القمي إجمال القصة في رواية، و له رواية أخرى ستوافيك.

و في المجمع،" :في قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد (عليه السلام) فهو أن المراد بالعود إرادة الوطء و نقض القول الذي قاله فإن الوطء لا يجوز له إلا بعد الكفارة، و لا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة.

و في تفسير القمي، حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن امرأة من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله إن فلانا زوجي و قد نثرت له بطني و أعنته على دنياه و آخرته لم تر مني مكروها أشكوه إليك. قال: فيم تشكونيه؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي و قد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أنزل الله تبارك و تعالى كتابا أقضي فيه بينك و بين زوجك و أنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي و تشتكي ما بها إلى الله عز و جل و إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و انصرفت.

قال: فسمع الله تبارك و تعالى مجادلتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في زوجها و ما شكت إليه، و أنزل الله في ذلك قرآنا ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي

 

 

 زَوْجِهَا إلى قوله ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.

قال: فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أ قلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر أمي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قد أنزل الله تبارك و تعالى فيك و في امرأتك قرآنا و قرأ: ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ إلى قوله ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، فضم إليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول و زورا، و قد عفا الله عنك و غفر لك و لا تعد.

قال: فانصرف الرجل و هو نادم على ما قال لامرأته، و كره الله عز و جل ذلك للمؤمنين بعد و أنزل الله: ﴿اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.

قال: فمن قالها بعد ما عفا الله و غفر للرجل الأول فإن عليه ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني مجامعتها ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللَّهِ قال:

هذا حد الظهار. الحديث.

أقول: الآية بما لها من السياق و خاصة ما في آخرها من ذكر العفو و المغفرة أقرب انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، و لا بأس بها من حيث السند أيضا غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: ﴿اَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾.

[سورة المجادلة (٥٨): الآیات ٧ الی ١٣]

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوىَ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَ أَدْنى‏ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ٧ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا

 

 

﴿عَنِ اَلنَّجْوىَ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ إِذَا جَاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاَ يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٨ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى‏ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٩ إِنَّمَا اَلنَّجْوى‏ مِنَ اَلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ١٠ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي اَلْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اَللَّهُ لَكُمْ وَ إِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٢ أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٣

 

 

 (بيان)

آيات في النجوى و بعض آداب المجالسة.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ الاستفهام إنكاري، و المراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، و الجملة تقدمه يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركا لهم في نجواهم.

قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوىَ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ إلى آخر الآية النجوى‏ مصدر بمعنى التناجي و هو المسارة، و ضمائر الإفراد لله سبحانه، و المراد بقوله: ﴿رَابِعُهُمْ و ﴿سَادِسُهُمْ جاعل الثلاثة أربعة و جاعل الخمسة ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه و معيته لهم في الاطلاع على ما يسارون فيه كما يشهد به ما احتف بالكلام من قوله في أول الآية: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ إلخ، و في آخرها من قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ.

و قوله: ﴿وَ لاَ أَدْنىَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْثَرَ أي و لا أقل مما ذكر من العدد و لا أكثر مما ذكر، و بهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أيا ما كان أما الأدنى من ذلك فالأدنى من الثلاثة الاثنان و الأدنى من الخمسة الأربعة، و أما الأكثر فالأكثر من خمسة الستة فما فوقها.

و من لطف سياق الآية ترتب ما أشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة و الأربعة و الخمسة و الستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا أربعة إلا هو خامسهم و هكذا.

و قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به و المشاركة لهم فيه.

و بذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين و سادس الخمسة المتناجين معيته لهم في العلم و مشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلا منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى مثله عدد الاثنين و إلى مثليه الثلاثة و الله سبحانه منزه عن الجسمية بري‏ء من المادية.

و ذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوىَ إلخ، معنى

 

 

 واحد و هو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: ﴿إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴿إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ في معنى قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ و هو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم و يقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه هناك سميع عليم.

و في قوله: ﴿أَيْنَ مَا كَانُوا تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال و لم يختلف باختلاف الأمكنة بالقرب و البعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان و ليس في مكان.

و بما تقدم يظهر أيضا أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لأصحاب النجوى و كونه رابع الثلاثة منهم و سادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلا في ذيل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ: المائدة: ٧٣، من أن وحدته تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانيا له فالمراد بكونه معهم و رابعا للثلاثة منهم و سادسا للخمسة منهم أنه عالم بما يتناجون به و ظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجودا محدودا يقبل العد يمكن أن يفرض له ثان و ثالث و هكذا.

و قوله: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل و منه نجواهم و مسارتهم.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ تعليل لقوله: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ إلخ، و تأكيد لما تقدم من علمه بما في السماوات و ما في الأرض، و كونه مع أصحاب النجوى.

و الآية تصلح أن تكون توطئة و تمهيدا لمضمون الآيات التالية و لا يخلو ذيلها من لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم و التهديد.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏َ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ إلى آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوما من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين يتناجون بينهم بالإثم و العدوان و معصية الرسول و ليؤذوا بذلك المؤمنين و يحزنون و كانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات.

فقوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏َ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ذم و توبيخ غيابي لهم، و قد خاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يخاطبهم أنفسهم مبالغة في تحقير أمرهم و إبعادا لهم

 

 

 عن شرف المخاطبة.

و المعنى: أ لم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغم المؤمنين و يحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عود بعد عودة، و في التعبير بقوله: ﴿يَعُودُونَ دلالة على الاستمرار، و في العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول و الصلة حيث قيل: ﴿يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ و لم يقل يعودون إليها دلالة على سبب الذم و التوبيخ و مساءة العود لأنها أمر منهي عنه.

و قوله: ﴿يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ المقابلة بين الأمور الثلاثة:

الإثم و العدوان و معصية الرسول تفيد أن المراد بالإثم‏ هو العمل الذي له أثر سيئ لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر و الميسر و ترك الصلاة مما يتعلق من المعاصي بحقوق الله، و العدوان‏ هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس و يتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، و القسمان أعني الإثم و العدوان جميعا من معصية الله، و معصية الرسول مخالفته في الأمور التي هي جائزة في نفسها لا أمر و لا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة الأمة بما له ولاية أمورهم و النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن النجوى و إن لم يشتمل على معصية.

كان ما تقدم من قوله: ﴿اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏َ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ذما و توبيخا لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو غيرها:

و هذا الفصل أعني قوله: ﴿وَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ ذم و توبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها و هؤلاء القوم هم المنافقون و مرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتم بها المؤمنون و يحزنوا و يتأذوا.

و قيل: المنافقون و اليهود كان يناجي بعضهم بعضا ليحزنوا المؤمنين و يلقوا بينهم الوحشة و الفزع و يوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: ﴿اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏َ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ لليهود خفاء.

و قوله: ﴿وَ إِذَا جَاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللَّهُ فإن الله حياة بالتسليم و شرع له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة و هم كانوا يحيونه بغيره. قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قالوا: السام عليك و السام‏ هو الموت و هم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، و لا يخلو من شي‏ء فإن الضمير في ﴿جَاؤُكَ و ﴿حَيَّوْكَ للموصول

 

 

 في قوله: ﴿اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوى‏َ و قد عرفت أن في شموله لليهود خفاء.

و قوله: ﴿وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاَ يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِمَا نَقُولُ معطوف على ﴿حَيَّوْكَ أو حال و ظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، و هو تحضيض بداعي الطعن و التهكم فيكون من المنافقين إنكارا لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على طريق الكناية و المعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيك به الله و هم يحدثون أنفسهم بدلالة قولهم ذلك و لو لا يعذبهم الله به على أنك لست برسول من الله و لو كنت رسوله لعذبهم بقولهم.

و قيل: المراد بقوله: ﴿وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم لبعض و لا يخلو من بعد.

و قد رد الله عليهم احتجاجهم بقولهم: ﴿لَوْ لاَ يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِمَا نَقُولُ بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون بما أعد لهم من العذاب و هو جهنم التي يدخلونها و يقاسون حرها و كفى بها عذابا لهم.

و كان المنافقين و من يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي و التشديدات نزل قوله تعالى:

﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً: الآيات الأحزاب: ٦١.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ إلخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع الخطر و قد خوطب فيها المؤمنون فأجيز لهم النجوى و اشترط عليهم أن لا يكون تناجيا بالإثم و العدوان و معصية الرسول و أن يكون تناجيا بالبر و التقوى و البر و هو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، و التقوى مقابل الإثم ثم أكد الكلام بالأمر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اَلنَّجْوى‏َ مِنَ اَلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ إلخ، المراد بالنجوى على ما يفيده السياق هو النجوى الدائرة في تلك الأيام بين المنافقين و مرضى القلوب و هي من الشيطان فإنه الذي يزينها في قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم و يشوش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلت بهم و بلية أصابتهم.

ثم طيب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الأمر إلى الله سبحانه و أن الشيطان

 

 

 أو التناجي لا يضرهم شيئا إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه و لا يخافوا ضره و قد نص سبحانه في قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ: الطلاق: ٣ إنه يكفي من توكل عليه، و استنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم.

و هذا معنى قوله: ﴿وَ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي اَلْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اَللَّهُ لَكُمْ إلخ، التفسح‏ الاتساع و كذا الفسح، و المجالس‏ جمع مجلس اسم مكان، و الاتساع في المجلس أن يتسع الجالس ليسع المكان غيره و فسح الله له أن يوسع له في الجنة.

و الآية تتضمن أدبا من آداب المعاشرة، و يستفاد من سياقها أنهم كانوا يحضرون مجلس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيجلسون ركاما لا يدع لغيرهم من الواردين مكانا يجلس فيه فأدبوا بقوله:

﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا إلخ، و الحكم عام و إن كان مورد النزول مجلس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم توسعوا في المجالس ليسع المكان معكم غيركم فتوسعوا وسع الله لكم في الجنة.

و قوله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يتضمن أدبا آخر، و النشوز كما قيل الارتفاع عن الشي‏ء بالذهاب عنه، و النشوز عن المجلس أن يقوم الإنسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاما له و تواضعا لفضله.

و المعنى: و إذا قيل لكم قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى فقوموا.

و قوله: ﴿يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ لا ريب في أن لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى، و هذا قرينة عقلية على أن المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم العلماء من المؤمنين فتدل الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين:

مؤمن و مؤمن عالم، و المؤمن العالم أفضل و قد قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ: الزمر: ٩.

و يتبين بذلك أن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم و يبقى لسائر المؤمنين من الرفع الرفع درجة واحدة و يكون التقدير يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة و يرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات.

و في الآية من تعظيم أمر العلماء و رفع قدرهم ما لا يخفى. و أكد الحكم بتذييل الآية

 

 

بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً إلخ، أي إذا أردتم أن تناجوا الرسول فتصدقوا قبلها.

و قوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ تعليل للتشريع نظير قوله: ﴿وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ: البقرة: ١٨٤، و لا شك أن المراد بكونها خيرا لهم و أطهر أنها خير لنفوسهم و أطهر لقلوبهم و لعل الوجه في ذلك أن الأغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يظهرون بذلك نوعا من التقرب إليه و الاختصاص به و كان الفقراء منهم يحزنون بذلك و ينكسر قلوبهم فأمروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس و إثارة الرحمة و الشفقة و المودة و صلة القلوب بزوال الغيظ و الحنق.

و في قوله: ﴿ذَلِكَ التفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بين خطابين للمؤمنين و فيه تجليل لطيف له (ص) حيث إن حكم الصدقة مرتبط بنجواه (ص) و الالتفات إليه فيما يرجع إليه من الكلام مزيد عناية به.

و قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به فلا يجب عليكم تقديمها و قد رخص الله لكم في نجواه و عفا عنكم إنه غفور رحيم فقوله:

﴿فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ من وضع السبب موضع المسبب.

و فيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في قوله:

﴿فَقَدِّمُوا إلخ، و وجوبه على الموسرين.

قوله تعالى: ﴿أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ إلخ، الآية ناسخة لحكم الصدقة المذكور في الآية السابقة، و فيه عتاب شديد لصحابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين حيث إنهم تركوا مناجاته (ص) خوفا من بذل المال بالصدقة فلم يناجه أحد منهم إلا علي (عليه السلام) فإنه ناجاه عشر نجوات كلما ناجاه قدم بين يدي نجواه صدقة ثم نزلت الآية و نسخت الحكم.

و الإشفاق‏ الخشية، و قوله: ﴿أَنْ تُقَدِّمُوا إلخ، مفعوله و المعنى: أ خشيتم التصدق و بذل المال للنجوى، و احتمل أن يكون المفعول محذوفا و التقدير أ خشيتم الفقر لأجل بذل المال.

قال بعضهم: جمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة

 

 

 لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر و تقديم صدقات.

و قوله: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ إلخ، أي فإذ لم تفعلوا ما كلفتم به و رجع الله إليكم العفو و المغفرة فأثبتوا على امتثال سائر التكاليف من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة.

ففي قوله: ﴿وَ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ دلالة على كون ذلك منهم ذنبا و معصية غير أنه تعالى غفر لهم ذلك.

و في كون قوله: ﴿فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ إلخ، متفرعا على قوله: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا إلخ، دلالة على نسخ حكم الصدقة قبل النجوى.

و في قوله: ﴿وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ تعميم لحكم الطاعة لسائر التكاليف بإيجاب الطاعة المطلقة، و في قوله: ﴿وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ نوع تشديد يتأكد به حكم وجوب طاعة الله و رسوله.

(بحث روائي)

في المجمع، ":و قرأ حمزة و رويس عن يعقوب «ينتجون» و الباقون ﴿يَتَنَاجَوْنَ و يشهد لقراءة حمزة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في علي (عليه السلام) لما قال له بعض أصحابه: أ تناجيه دوننا؟ ما أنا انتجيته بل الله انتجاه.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البزار و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن ابن عمر :أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: ﴿لَوْ لاَ يُعَذِّبُنَا اَللَّهُ بِمَا نَقُولُ فنزلت هذه الآية ﴿وَ إِذَا جَاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللَّهُ. و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس :في هذه الآية قال:

كان المنافقون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سام عليك فنزلت.

أقول: و هذه الرواية أقرب إلى التصديق من سابقتها لما تقدم في تفسير الآية، و في رواية القمي في تفسيره أنهم كانوا يحيونه بقولهم: أنعم صباحا و أنعم مساء، و هو تحية أهل الجاهلية.

 

 

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ:

 و قد ورد أيضا في الحديث أنه (ص) قال: فضل العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبي على العالم درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، و فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم: رواه جابر بن عبد الله.

 أقول: و ذيل الرواية لا يخلو من شي‏ء فإن ظاهر رجوع الضمير في «أدناهم» إلى الناس اعتبار مراتب في الناس فمنهم الأعلى و منهم المتوسط، و إذا كان فضل العالم على سائر الناس و فيهم الأعلى رتبة كفضل النبي على أدنى الناس كان العالم أفضل من النبي و هو كما ترى.

اللهم إلا أن يكون أدنى بمعنى الأقرب و المراد بأدناهم أقربهم من النبي و هو العالم كما يلوح من قوله: و فضل النبي على العالم درجة، فيكون المفاد أن فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أقربهم مني و هو العالم.

 و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن راهويه و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن علي قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها بعدي آية النجوى ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت ﴿أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ الآية.

و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً قال: قدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين يدي نجواه صدقة ثم نسخها بقوله: ﴿أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ.

 أقول: و في هذا المعنى روايات أخر من طرق الفريقين.

[سورة المجادلة (٥٨): الآیات ١٤ الی ٢٢]

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاَ

 

 

مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اَلْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ١٤ أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٥ اِتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ١٦ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٧ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏َ شَيْ‏ءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ ١٨ اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اَللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطَانِ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ١٩ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي اَلْأَذَلِّينَ ٢٠ كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ٢١ لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٢٢

(بيان)

تذكر الآيات قوما من المنافقين يتولون اليهود و يوادونهم و هم يحادون الله و رسوله و تذمهم على ذلك و تهددهم بالعذاب و الشقوة تهديدا شديدا، و تقطع بالآخرة أن الإيمان

 

 

 بالله و اليوم الآخر يمنع عن موادة من يحاد الله و رسوله كائنا من كان، و تمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله و تعدهم إيمانا مستقرا و روحا من الله و جنة و رضوانا.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ إلخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى: ﴿مَنْ لَعَنَهُ اَللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنَازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطَّاغُوتَ: المائدة: ٦٠.

و قوله: ﴿مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاَ مِنْهُمْ ضمير ﴿عَلَيْهِمْ للمنافقين و ضمير ﴿مِنْهُمْ لليهود، و المعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر و الإيمان ليسوا منكم و لا من اليهود، قال تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلى‏ هَؤُلاَءِ وَ لاَ إِلى‏ هَؤُلاَءِ: النساء: ١٤٣.

و هذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم و أما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: المائدة: ٥١، فلا منافاة بين قوله: ﴿مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاَ مِنْهُمْ و قوله: ﴿فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.

و احتمل بعضهم أن ضمير ﴿عَلَيْهِمْ للقوم و هم اليهود و ضمير ﴿مِنْهُمْ للموصول و هم المنافقون، و المعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم و أنتم مؤمنون و لا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، و فيه نوع من الذم، و هو بعيد.

و قوله: ﴿وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اَلْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم و هم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم.

قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الإعداد التهيئة، و قوله: ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ إلخ، تعليل للإعداد، و في قوله: ﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه.

و المعنى: هيأ الله لهم عذابا شديدا لاستمرارهم على عملهم السيئ.

قوله تعالى: ﴿اِتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ الأيمان‏ جمع يمين و هو الحلف، و الجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، و المهين‏ اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال و الإخزاء.

و المعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة و الظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم و غيرهم عن سبيل الله و هو الإسلام فلهم لأجل ذلك

 

 

عذاب مذل مخز.

قوله تعالى: ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الأموال و الأولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم و لا أولادهم شيئا فليؤمنوا به و ليعبدوه.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ إلخ، ظرف لما تقدم من قوله: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً أو لقوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ و قوله: ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا.

و قد قدمنا في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ: الأنعام: ٢٣ أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الأمور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالأيمان الكاذبة و كما يعيشون يموتون و كما يموتون يبعثون.

و من هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، و الخروج من النار و خصامهم في النار و غير ذلك مما يقصه القرآن الكريم، و هم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شي‏ء من ذلك و اليوم يوم جزاء لا يوم عمل.

و أما قوله: ﴿وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ أي مستقرون على شي‏ء يصلح أن يستقر عليه و يتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق و المنع عن ظهور كذبهم بمثل الإنكار و الحلف الكاذب.

فيمكن أن يكون قيدا لقوله: ﴿كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا و أنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم و يرضيكم، و يكون قوله: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ قضاء منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغي إلى ما يهذون به و لا يعتنى بما يحلفون به.

و يمكن أن يكون قيدا لقوله: ﴿فَيَحْلِفُونَ لَهُ فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفا، و يكون قوله: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ حكما منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقا.

 

 

قوله تعالى: ﴿اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اَللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطَانِ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ الاستحواذ الاستيلاء و الغلبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي اَلْأَذَلِّينَ تعليل لكونهم هم الخاسرين أي إنما كانوا خاسرين لأنهم يحادون الله و رسوله بالمخالفة و المعاندة و المحادون لله و رسوله في جملة الأذلين من خلق الله تعالى.

قيل: إنما كانوا في الأذلين لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر و إذ كانت العزة لله جميعا فلا يبقى لمن حاده إلا الذلة محضا.

قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اَللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ الكتابة هي القضاء منه تعالى.

و ظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجة و من حيث التأييد الغيبي و من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله.

أما من حيث الحجة فإن الإنسان مفطور على صلاحية إدراك الحق و الخضوع له فلو بين له الحق من السبيل التي يألفها لم يلبث دون أن يعقله و إذا عقله اعترفت له فطرته و خضعت له طويته و إن لم يخضع له عملا اتباعا لهوى أو أي مانع يمنعه عن ذلك.

و أما الغلبة من حيث التأييد الغيبي و القضاء للحق على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب التي أنزلها الله تعالى على مكذبي الأمم الماضين كقوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و على آل فرعون و غيرهم ممن يشير تعالى إليهم بقوله: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ : المؤمنون: ٤٤، و على ذلك جرت السنة الإلهية و قد أجمل ذكرها في قوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ: يونس: ٤٧.

و أما الغلبة من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله فإن إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع و الذب عن الحق و المقاومة تجاه الباطل مطلقا و هو يرى أنه إن قتل فاز و إن قتل فاز فثباته على الدفاع غير مقيد بقيد و لا محدود بحد و هذا بخلاف من يدافع لا عن الحق بما هو حق بل عن شي‏ء من المقاصد الدنيوية فإنه إنما يدافع لأجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولى منهزما فهو إنما يدافع على شرط و إلى حد و هو سلامة النفس و عدم الإشراف على الهلكة و من الضروري أن العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيدة

 

 

 بقيد المحدودة بحد و من الشاهد عليه غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أدت إليه من الفتح و الظفر في عين أنها كانت سجالا لكن لم تنته إلا إلى تقدم المسلمين و غلبتهم.

و لم تقف الفتوحات الإسلامية و لا تفرقت جموع المسلمين أيادي سبإ إلا بفساد نياتهم و تبديل سيرة التقوى و الإخلاص لله و بسط الدين الحق من بسط السلطة و توسعة المملكة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [2]و قد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم و أمنهم من عدوهم أن يخشوه إذ قال: ﴿اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ.

و يكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين: ﴿وَ لاَ تَهِنُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: آل عمران: ١٣٩.

قوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ إلخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الإيمان الصادق بالله و اليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة و المعاندة من الكفار و لو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة و البنوة و الأخوة و سائر أقسام القرابة فبين الإيمان و موادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك.

و قد بان أن قوله: ﴿وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ إلخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقا و قد خصت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته و عدم تغيره.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ الإشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، و الكتابة الإثبات بحيث لا يتغير و لا يزول و الضمير لله و فيه نص على أنهم مؤمنون حقا.

و قوله: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ التأييد التقوية، و ضمير الفاعل في ﴿أَيَّدَهُمْ لله تعالى و كذا ضمير ﴿مِنْهُ و من ابتدائية، و المعنى: و قواهم الله بروح من عنده تعالى، و قيل: الضمير للإيمان، و المعنى: و قواهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم، و لا بأس به.

و قيل: المراد بالروح جبرائيل، و قيل: القرآن، و قيل: المراد بها الحجة و البرهان، و هذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.

 

 

 

 ثم الروح على ما يتبادر من معناها هي مبدأ الحياة التي تترشح منها القدرة و الشعور فإبقاء قوله: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن و الكافر روحا أخرى تفيض عليهم حياة أخرى و تصاحبها قدرة و شعور جديدان، و إلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا: الأنعام: ١٢٢، و قوله:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً: النحل: ٩٧.

و ما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها و هو القدرة و الشعور المتفرع عليهما الأعمال الصالحة، و هما المعبر عنهما في آية الأنعام المذكورة آنفا بالنور و نظيرها قوله:

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ: الحديد: ٢٨.

و هذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الإنسان الأبدية وراء الحياة المشتركة بين المؤمن و الكافر التي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاص و هو روح الإيمان التي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن و الكافر.

و على هذا فلا موجب لما ذكروا أن المراد بالروح نور القلب و هو نور العلم الذي يحصل به الطمأنينة و أن تسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية أو من الاستعارة لأنه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب و العلم حياة القلب كما أن الجهل موته يشبه الروح المفيض للحياة. انتهى.

و قوله: ﴿وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وعد جميل و وصف لحياتهم الآخرة الطيبة.

و قوله: ﴿رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ استئناف يعلل قوله: ﴿وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ إلخ، و رضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لإخلاصهم الإيمان له و رضاهم عنه و ابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيبة و الجنة.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنهم حزبه تعالى كما أن أولئك المنافقين الموالين لأعداء الله حزب الشيطان و هؤلاء مفلحون كما أن أولئك خاسرون.

 

 

 و في قوله: ﴿أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر.

بحث روائي

 في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اَللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي روي أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحن الله علينا الروم و فارس فقال المنافقون: أ تظنون أن فارس و الروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل الله هذه الآية.

أقول: الظاهر أنه من قبيل تطبيق الآية على القصة و نظائره كثيرة، و لذا ورد :في قوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ إنه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، و في بعضها :أنه نزل في أبي بكر سب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فصكه أبو بكر صكة سقط على الأرض فنزلت الآية. و في عبد الرحمن بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلما قدم قرأ عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من حوله من المسلمين الآية.

و هذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتصال الظاهر.

 و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أوثق عرى الإيمان الحب في الله و البغض في الله.

 و في الكافي، بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من مؤمن إلا و لقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس و أذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.

 أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح و يعمل به، قال تعالى:

﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل: ٢.

 و فيه، بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان. قال: هو قوله: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ذلك الذي يفارقه.

 و فيه، بإسناده إلى محمد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: إن الله تبارك و تعالى أيد المؤمن بروح تحضره في كل وقت يحسن فيه و يتقي

و تغيب عنه في كل وقت يذنب فيه و يعتدي فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه و تسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا و تربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرءا هم بخير فعمله أو هم بشر فارتدع عنه. ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله و العمل له.

 

 

 أقول: قد تبين مما تقدم في ذيل الآية أن هذه الروح من مراتب الروح الإنساني ينالها المؤمن عند ما يستكمل الإيمان فليست مفارقة له كما أن الروح النباتية و الحيوانية و الإنسانية المشتركة بين المؤمن و الكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنها تبتدئ هيئة حسنة في النفس ربما زالت لعروض هيئة سيئة تضادها ثم ترجع إذا زالت الموانع المضادة حتى إذا استقرت و رسخت و تصورت النفس بها ثبتت و لم تتغير.

و بذلك يظهر أن المراد بقوله (عليه السلام) : بروح تحضره، و قوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيأة العارضة القابلة للزوال، و بقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيأة على طريق الاستعارة، و كذا قوله (ص) في الرواية السابقة: فارقه روح الإيمان‏

(٥٩) (سورة الحشر مدنية و هي أربع و عشرون آية) (٢٤)

[سورة الحشر (٥٩): الآیات ١ الی ١٠]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ١ هُوَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ اَلْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اَللَّهِ فَأَتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي اَلْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي اَلْأَبْصَارِ ٢ وَ لَوْ لاَ أَنْ كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ

 

 

﴿فِي اَلدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابُ اَلنَّارِ ٣ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللَّهَ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٤ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلى‏ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اَللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ اَلْفَاسِقِينَ ٥ وَ مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٦ مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى‏ وَ اَلْيَتَامى‏ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَ مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٧ لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً وَ يَنْصُرُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ اَلصَّادِقُونَ ٨ وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٩ وَ اَلَّذِينَ جَاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ١٠

 

 

 (بيان)

تشير السورة إلى قصة إجلاء بني النضير من اليهود لما نقضوا العهد بينهم و بين المسلمين، و إلى وعد المنافقين لهم بالنصر و الملازمة ثم غدرهم و ما يلحق بذلك من حكم فيئهم.

و من غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها يأمر الله سبحانه عباده فيها بالاستعداد للقائه من طريق المراقبة و المحاسبة، و يذكر عظمة قوله و جلالة قدره بوصف عظمة قائله عز من قائل بما له من الأسماء الحسنى و الصفات العليا. و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ افتتاح مطابق لما في مختتم السورة من قوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ.

و إنما افتتح بالتنزيه لما وقع في السورة من الإشارة إلى خيانة اليهود و نقضهم العهد ثم وعد المنافقين لهم بالنصر غدرا كمثل الذين كانوا من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم، و بالنظر إلى ما أذاقهم الله من وبال كيدهم، و كون ذلك على ما يقتضيه الحكمة و المصلحة ذيل الآية بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ اَلْحَشْرِ تأييد لما ذكر في الآية السابقة من تنزهه تعالى و عزته و حكمته، و المراد بإخراج الذين كفروا من أهل الكتاب إجلاء بني النضير حي من أحياء اليهود كانوا يسكنون خارج المدينة و كان بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد أن لا يكونوا له و لا عليه ثم نقضوا العهد فأجلاهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ستأتي قصتهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و الحشر إخراج الجماعة بإزعاج، و ﴿لِأَوَّلِ اَلْحَشْرِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، و اللام بمعنى في كقوله: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ: إسراء: ٧٨.

و المعنى: الله الذي أخرج بني النضير من اليهود من ديارهم في أول إخراجهم من جزيرة العرب.

ثم أشار تعالى إلى أهمية إخراجهم بقوله: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لما كنتم تشاهدون فيهم من القوة و الشدة و المنعة ﴿وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اَللَّهِ فلن يغلبهم الله و هم متحصنون فيها و عد حصونهم بحسب ظنهم مانعة من الله لا من المسلمين لما أن إخراجهم

 

 

 منها منسوب في الآية السابقة إليه تعالى و كذا إلقاء الرعب في قلوبهم في ذيل الآية، و في الكلام دلالة على أنه كانت لهم حصون متعددة.

ثم ذكر فساد ظنهم و خبطهم في مزعمتهم بقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا و المراد به نفوذ إرادته تعالى فيهم لا من طريق احتسبوه و هو طريق الحصون و الأبواب بل من طريق باطنهم و هو طريق القلوب ﴿وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ و الرعب‏ الخوف الذي يملأ القلب ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ لئلا تقع في أيدي المؤمنين بعد خروجهم و هذه من قوة سلطانه تعالى عليهم حيث أجرى ما أراده بأيدي أنفسهم ﴿وَ أَيْدِي اَلْمُؤْمِنِينَ حيث أمرهم بذلك و وفقهم لامتثال أمره و إنفاذ إرادته ﴿فَاعْتَبِرُوا و خذوا بالعظة ﴿يَا أُولِي اَلْأَبْصَارِ بما تشاهدون من صنع الله العزيز الحكيم بهم قبال مشاقتهم له و لرسوله.

و قيل: كانوا يخربون البيوت ليهربوا و يخربها المؤمنون ليصلوا.

و قيل: المراد بتخريب البيوت اختلال نظام حياتهم فقد خربوا بيوتهم بأيديهم حيث نقضوا الموادعة، و بأيدي المؤمنين حيث بعثوهم على قتالهم.

و فيه أن ظاهر قوله: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ إلخ أنه بيان لقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا إلخ، من حيث أثره فهو متأخر عن نقض الموادعة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ كَتَبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابُ اَلنَّارِ الجلاء ترك الوطن و كتابة الجلاء عليهم قضاؤه في حقهم، و المراد بعذابهم في الدنيا عذاب الاستئصال أو القتل و السبي.

و المعنى: و لو لا أن قضى الله عليهم الخروج من ديارهم و ترك وطنهم لعذبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال أو القتل و السبي كما فعل ببني قريظة و لهم في الآخرة عذاب النار.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللَّهَ فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ المشاقة المخالفة بالعناد، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من إخراجهم و استحقاقهم العذاب لو لم يكتب عليهم الجلاء، و في تخصيص مشاقتهم بالله في قوله: ﴿وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللَّهَ بعد تعميمه لله و رسوله في قوله: ﴿شَاقُّوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ تلويح إلى أن مشاقة الرسول مشاقة الله و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلى‏َ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اَللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ اَلْفَاسِقِينَ ذكر الراغب أن اللينة النخلة الناعمة من دون اختصاص منه بنوع منها دون

 

 

 نوع، رووا: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر بقطع نخيلهم - فلما قطع بعضها نادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال النخيل تقطع فنزلت الآية فأجيب عن قولهم بأن ما قطعوا من نخلة أو تركوها قائمة على أصولها فبإذن الله و لله في حكمه هذا غايات حقة و حكم بالغة منها إخزاء الفاسقين و هم بنو النضير. فقوله: ﴿وَ لِيُخْزِيَ اَلْفَاسِقِينَ اللام فيه للتعليل و هو معطوف على محذوف و التقدير:

القطع و الترك بإذن الله ليفعل كذا و كذا و ليخزي الفاسقين فهو كقوله: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ: الأنعام: ٧٥.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ إلخ، الإفاءة الإرجاع من الفي‏ء بمعنى الرجوع، و ضمير ﴿مِنْهُمْ لبني النضير و المراد من أموالهم.

و إيجاف‏ الدابة تسييرها بإزعاج و إسراع و الخيل الفرس، و الركاب‏ الإبل و ﴿مِنْ خَيْلٍ وَ لاَ رِكَابٍ مفعول ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ و ﴿مِنْ زائدة للاستغراق.

و المعنى: و الذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير خصه به و ملكه وحده إياه فلم تسيروا عليه فرسا و لا إبلا بالركوب حتى يكون لكم فيه حق بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، و لكن الله يسلط رسله على من يشاء و الله على كل شي‏ء قدير و قد سلط النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء.

قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى‏َ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏َ فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى‏َ وَ اَلْيَتَامى‏َ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إلخ، ظاهره أنه بيان لموارد مصرف الفي‏ء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفي‏ء لفي‏ء أهل القرى أعم من بني النضير و غيرهم.

و قوله: ﴿فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ أي منه ما يختص بالله و المراد به صرفه و إنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول و منه ما يأخذه الرسول لنفسه و لا يصغي إلى قول من قال: إن ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرد التبرك.

و قوله: ﴿وَ لِذِي اَلْقُرْبى‏َ إلخ، المراد بذي القربى قرابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لا معنى لحملة على قرابة عامة المؤمنين و هو ظاهر، و المراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به السياق و إنما أفرد و قدم على ﴿اَلْمَسَاكِينِ مع شموله له اعتناء بأمر اليتامى.

و قد ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بذي القربى أهل البيت و اليتامى

 

 

 و المساكين و ابن السبيل منهم.

و قوله: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ أي إنما حكمنا في الفي‏ء بما حكمنا كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم و الدولة ما يتداول بين الناس و يدور يدا بيد.

و قوله: ﴿وَ مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أي ما أعطاكم الرسول من الفي‏ء فخذوه كما أعطى منه المهاجرين و نفرا من الأنصار، و ما نهاكم عنه و منعكم فانتهوا و لا تطلبوا، و فيه إشعار بأنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقسم الفي‏ء بينهم جميعا فأرجعه إلى نبيه و جعل موارد مصرفه ما ذكره في الآية و جعل للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينفقه فيها على ما يرى.

و الآية مع الغض عن السياق عامة تشمل كل ما آتاه النبي من حكم فأمر به أو نهى عنه.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ تحذير لهم عن مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تأكيدا لقوله: ﴿وَ مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ إلخ.

قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً إلخ، قيل: إن قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ بدل من قوله: ﴿لِذِي اَلْقُرْبى‏َ و ما بعده و ذكر الله لمجرد التبرك فيكون الفي‏ء مختصا بالرسول و الفقراء من المهاجرين، و قد وردت الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قسم في‏ء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط منه الأنصار شيئا إلا رجلين من فقرائهم أو ثلاثة.

و قيل: إنه بدل من اليتامى و المساكين و ابن السبيل فيكون ذوو السهام هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذا القربى غنيهم و فقيرهم و الفقراء من المهاجرين يتاماهم و مساكينهم و أبناء السبيل منهم، و لعل هذا مراد من قال: إن قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ بيان المساكين في الآية السابقة.

و الأنسب لما تقدم نقله عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن يكون قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ إلخ، بيان مصداق لصرف سبيل الله الذي أشير إليه بقوله: ﴿فَلِلَّهِ لا بأن يكون الفقراء المهاجرون أحد السهماء في الفي‏ء بل بأن يكون صرفه فيهم و إعطاؤهم إياه صرفا له في سبيل الله.

و محصل المعنى على هذا: أن الله سبحانه أفاء الفي‏ء و أرجعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فله أن يتصرف فيه كيف يشاء ثم دله على موارد صرفه و هي سبيل الله و الرسول و ذو القربى

 

 

 و يتاماهم و مساكينهم و ابن السبيل منهم ثم أشار إلى مصداق الصرف في السبيل أو بعض مصاديقه و هم الفقراء المهاجرون إلخ، ينفق منه الرسول لهم على ما يرى.

و على هذا ينبغي أن يحمل ما ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قسم في‏ء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط الأنصار شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم: أبا دجانة سماك بن خرشة و سهل بن حنيف و الحارث بن الصمة فقد صرف فيهم بما أنه صرف في سبيل الله لا بما أنهم سهماء في الفي‏ء.

و كيف كان فقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ اَلْمُهَاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ المراد بهم من هاجر من المسلمين من مكة إلى المدينة قبل الفتح و هم الذين أخرجهم كفار مكة بالاضطرار إلى الخروج فتركوا ديارهم و أموالهم و هاجروا إلى مدينة الرسول.

و قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَاناً الفضل الرزق أي يطلبون من الله رزقا في الدنيا و رضوانا في الآخرة.

و قوله: ﴿وَ يَنْصُرُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي ينصرونه و رسوله بأموالهم و أنفسهم، و قوله:

﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلصَّادِقُونَ تصديق لصدقهم في أمرهم و هم على هذه الصفات.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ إلخ، قيل: إنه استئناف مسوق لمدح الأنصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفي‏ء، ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا و المراد بهم الأنصار مبتدأ خبره ﴿يُحِبُّونَ إلخ، و المراد بتبوي الدار و هو تعميرها بناء مجتمع ديني يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، و الإيمان معطوف على ﴿اَلدَّارَ و تبوي الإيمان و تعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات و القربات من غير حجر و منع كما كان بمكة.

و احتمل أن يعطف ﴿اَلْإِيمَانَ على تبوؤا و قد حذف الفعل العامل فيه، و التقدير:

و آثروا الإيمان.

و قيل: إن قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ، معطوف على قوله: ﴿اَلْمُهَاجِرِينَ و على هذا يشارك الأنصار المهاجرين في الفي‏ء، و الإشكال عليه بأن المروي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قسمه بين المهاجرين و لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأن الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لو لم يجز إعطاؤه للأنصار لم يجز لا للثلاثة و لا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أن الأمر لما كان راجعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجح أن يقسمه بينهم على تلك الوتيرة.

 

 

 و الأنسب لما تقدم من كون ﴿لِلْفُقَرَاءِ إلخ، بيانا لمصاديق سهم السبيل هو عطف ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ، و كذا قوله الآتي: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على قوله:

﴿اَلْمُهَاجِرِينَ إلخ، دون الاستئناف.

بل ما ورد من إعطائه (ص) للثلاثة يؤيد هذا الوجه بعينه إذ لو كان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الأنصار و لا لثلاثة منهم، و لو كان للفقراء من الأنصار كالمهاجرين فيه سهم و ظاهر الآية أن جمعا منهم كانوا فقراء بهم خصاصة و التاريخ يؤيده لأعطى غير الثلاثة من فقراء الأنصار كما أعطى فقراء المهاجرين و استوعبهم.

فقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ضمير ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ للمهاجرين و المراد من قبل مجيئهم و هجرتهم إلى المدينة.

و قوله: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ أي يحبون من هاجر إليهم لأجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الإيمان و مجتمع المسلمين.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ضميرا ﴿يَجِدُونَ و ﴿صُدُورِهِمْ للأنصار، و ضمير ﴿أُوتُوا للمهاجرين، و المراد بالحاجة ما يحتاج إليه و من تبعيضية و قيل: بيانية و المعنى: لا يخطر ببالهم شي‏ء مما أعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من تقسيم الفي‏ء بين المهاجرين دونهم و لا يحسدون.

و قيل: المراد بالحاجة ما يؤدي إليه الحاجة و هو الغيظ.

و قوله: ﴿وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏َ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ إيثار الشي‏ء اختياره و تقديمه على غيره، و الخصاصة الفقر و الحاجة، قال الراغب: خصاص‏ البيت فرجه و عبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة انتهى.

و المعنى: و يقدمون المهاجرين على أنفسهم و لو كان بهم فقر و حاجة، و هذه الخصيصة أغزر و أبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الإضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر و الحاجة.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ قال الراغب: الشح‏ بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى. و «يوق» فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، و المعنى: و من يحفظ أي يحفظه الله من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أو من

 

 

 وقوع مال في يد غيره فأولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ استئناف أو عطف نظير ما تقدم في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ و على الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا إلخ.

و المراد بمجيئهم بعد المهاجرين و الأنصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح و قيل:

المراد أنهم خلفوهم.

و قولهم: ﴿رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ دعاء لأنفسهم و السابقين من المؤمنين بالمغفرة، و في تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: النساء: ٢٥، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم و يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم.

و لذلك عقبوه بقولهم: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا و الغل العداوة.

و في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا تعميم لعامة المؤمنين منهم و ممن سبقهم و تلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الإيمان.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ الآية، قال: سبب ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بني النضير و قريظة و قينقاع، و كان بينهم و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عهد و مدة فنقضوا عهدهم.

و كان سبب ذلك بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، و كان بينهم كعب بن الأشرف فلما دخل على كعب قال: مرحبا يا أبا القاسم و أهلا و قام كأنه يصنع له الطعام و حدث نفسه أن يقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك.

فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة و قال لمحمد بن مسلمة الأنصاري: اذهب إلى بني النضير فأخبرهم إن الله عز و جل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر فإما أن تخرجوا من

 

 

بلدنا و إما أن تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك.

فبعث إليهم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا و تقيموا و تنابذوا محمدا الحرب فإني أنصركم أنا و قومي و حلفائي فإن خرجتم خرجت معكم و إن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا و أصلحوا بينهم حصونهم و تهيئوا للقتال و بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع.

فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و كبر و كبر أصحابه و قال لأمير المؤمنين: تقدم على بني النضير فأخذ أمير المؤمنين الراية و تقدم، و جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أحاط بحصنهم و غدر بهم عبد الله بن أبي.

و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم و خربوا ما يليه، و كان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمد إن الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذه و إن كان لنا فلا تقطعه.

فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياما ثم قالوا: نخرج و لنا ما حملت الإبل، فقال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئا، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه.

فخرجوا على ذلك و وقع منهم قوم إلى فدك و وادي القرى و خرج قوم منهم إلى الشام.

فأنزل الله فيهم ﴿هُوَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ و أنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلىَ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اَللَّهِ إلى قوله ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.

و أنزل الله عليه في عبد الله بن أبي و أصحابه ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نَافَقُوا إلى قوله ﴿ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ.

 و في المجمع، عن ابن عباس :كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم و أن يخرجهم من أرضهم و أوطانهم و أن يسيرهم إلى أذرعات بالشام و جعل لكل ثلاثة منهم بعيرا و سقاء.

فخرجوا إلى أذرعات بالشام و أريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق و آل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر و لحقت طائفة منهم بالحيرة.

 

 

 و فيه، عن محمد بن مسلمة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعثه إلى بني النضير و أمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال. و فيه، عن محمد بن إسحاق :كان إجلاء بني النضير مرجع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أحد، و كان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب، و كان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر.

و فيه، عن ابن عباس ":نزل قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ الآية في أموال كفار أهل القرى و هم قريظة و بنو النضير و هما بالمدينة، و فدك و هي من المدينة على ثلاثة أميال، و خيبر و قرى عرينة و ينبع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد و أخبر أنها كلها له فقال أناس: فهلا قسمها فنزلت الآية.

 و فيه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم و تشاركونهم في هذه الغنيمة، و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم و لم يقسم لكم شي‏ء من الغنيمة فقال الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا و أموالنا و نؤثرهم بالغنيمة و لا نشاركهم فيها فنزلت: ﴿وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ الآية.

أقول: و روي في إيثارهم و نزول الآية فيه قصص أخرى، و الظاهر أن ذلك من قبيل تطبيق الآية على القصة، و قد روي المعاني السابقة في الدر المنثور بطرق كثيرة مختلفة.

 و في التوحيد، عن علي (عليه السلام) : و قد سئل عما اشتبه على السائل من الآيات قال في قوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اَللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني أرسل عليهم عذابا.

 و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ﴿مَا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلىَ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الآية قال الفي‏ء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل و الأنفال مثل ذلك و هو بمنزلته.

 و في المجمع، روى المنهال بن عمر عن علي بن الحسين (عليه السلام) : قلت: قوله: ﴿وَ لِذِي اَلْقُرْبىَ وَ اَلْيَتَامى‏ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ قال: هم قربانا و مساكيننا و أبناء سبيلنا.

 أقول: و روي هذا المعنى في التهذيب، عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، و قال في المجمع، بعد نقل الرواية السابقة: و قال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة و كذلك المساكين و أبناء السبيل و قد روي ذلك أيضا عنهم (عليه السلام) .

 

 

 و في الكافي، بإسناده عن زرارة أنه سمع أبا جعفر و أبا عبد الله (عليه السلام) يقولان: إن الله عز و جل فوض إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا[3] هذه الآية ﴿مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.

 أقول: و الروايات عنهم (عليه السلام) في هذا المعنى كثيرة و المراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات إمضاؤه تعالى ما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لهم و افتراض طاعته في ذلك، و ولايته أمر الناس و أما التفويض بمعنى سلبه تعالى ذلك عن نفسه و تقليده (ص) لذلك فمستحيل.

 و فيه، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: الإيمان بعضه من بعض و هو دار و كذلك الإسلام دار و الكفر دار.

 و في المحاسن، بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلا الحب. أ لا ترى إلى قول الله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أ و لا ترون إلى قول الله لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ و قال: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ و قال: الدين هو الحب و الحب هو الدين.

 و في المجمع، و في الحديث: لا يجتمع الشح و الإيمان في قلب رجل مسلم، و لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في جوف رجل مسلم.

 و في الفقيه، روى الفضل بن أبي قرة السمندي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : أ تدري من الشحيح؟ قلت: هو البخيل. قال: الشح أشد من البخل إن البخيل يبخل بما في يده و الشحيح يشح بما في أيدي الناس و على ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل و الحرام، و لا يقنع بما رزقه الله عز و جل.

[سورة الحشر (٥٩): الآیات ١١ الی ١٧]

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً

 

 

﴿وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ١١ لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ اَلْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ ١٢ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اَللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ١٣ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ١٤ كَمَثَلِ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٥ كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ ١٦ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي اَلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلظَّالِمِينَ ١٧

(بيان)

إشارة إلى حال المنافقين و وعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا و الخروج معهم إن أخرجوا و تكذيبهم فيما وعدوا.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ إلخ، الإخوان كالأخوة جمع أخ و الأخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب و يتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة و نحو ذلك، و يكثر استعمال الأخوة في المشتركين في النسبة إلى أب و استعمال الإخوان في المشتركين في اعتقاد و نحوه على ما قيل.

و الاستفهام في الآية للتعجيب، و المراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي و أصحابه، و المراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات

 

 

 أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج و القتال بعد قوم آخر كذلك و ليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع.

و قوله: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ مقول قول المنافقين، و اللام في ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم و لا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، و إن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ تكذيب لوعد المنافقين، و تصريح بأنهم لا يفون بوعدهم.

قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الإجمالي بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ و قد كرر فيه لام القسم، و المعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، و أقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ اَلْأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - و لن يقع أبدا - لا يدوم و لا ينفعهم بل يولون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد.

قوله تعالى: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اَللَّهِ إلخ، ضمائر الجمع للمنافقين، و الرهبة الخشية، و الآية في مقام التعليل لقوله: ﴿وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ اَلْأَدْبَارَ أي ذلك لأنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم و لا يثبتون لكم.

و علل ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ و الإشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لأنهم قوم لا يفهمون حق الفهم و لو فقهوا حقيقة الأمر بأن لهم أن الأمر إلى الله تعالى و ليس لغيره من الأمر شي‏ء سواء في ذلك المسلمون و غيرهم، و لا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى و قوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز و جل.

قوله تعالى: ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بيان لأثر رهبتهم و جبنهم جميعا و المعنى: لا يقاتلكم بنو النضير و المنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.

 

 

 و قوله: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي هم فيما بينهم شديد البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم و شاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب.

و قوله: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة و اتحاد و الحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة و ذلك أقوى عامل في الخزي و الخذلان. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون و لو عقلوا لاتحدوا و وحدوا الكلمة.

قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ الوبال‏ العاقبة السيئة و قوله: ﴿قَرِيباً قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب.

و قوله: ﴿كَمَثَلِ إلخ، خبر مبتدإ محذوف و التقدير «مثلهم كمثل» إلخ، و المعنى:

مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد و وعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب و هم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى أذرعات و قد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم و يمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم و قيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر و ما تقدم أنسب للسياق.

و المثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.

قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ إلخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة.

و ظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان و الإنسان الجنس و الإشارة إلى غرور الشيطان للإنسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له و تسويل الإعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة و الأماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة و عاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره و خيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان و لم يف بما وعده و قال: إني بري‏ء منك إني أخاف الله رب العالمين.

و بالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و وعدهم النصر ثم الغدر بهم و خلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوة الإنسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة

 

 

ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة.

و قيل: المراد بالتمثيل الإشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر و سيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و قيل: المثل السابق المذكور في قوله: ﴿كَمَثَلِ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً مثل كفار مكة يوم بدر كما تقدم و المراد بالإنسان في هذا المثل أبو جهل و بقول الشيطان له اكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: ﴿وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ قَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ اَلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلى‏َ عَقِبَيْهِ وَ قَالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏َ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ وَ اَللَّهُ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ: الأنفال: ٤٨.

و على هذا الوجه فقول الشيطان: ﴿إِنِّي أَخَافُ اَللَّهَ رَبَّ اَلْعَالَمِينَ قول جدي لأنه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر و أما على الوجهين الأولين فهو نوع من الاستهزاء و الإخزاء.

قوله تعالى: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي اَلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ اَلظَّالِمِينَ الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان و الإنسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الإنسان و إضلاله و الإنسان في اغتراره به و ضلاله، و إشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير و غدرهم بهم و عاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب و إصرارهم على المشاقة و المخالفة، و معنى الآية ظاهر.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس :أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي بن سلول و وديعة بن مالك و سويد و داعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا و تمنعوا فإنا لا نسلمكم و إن قوتلتم قاتلنا معكم، و إن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا و قذف الله الرعب في قلوبهم.

فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجليهم و يكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته - فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به

 

 

 فخرجوا إلى خيبر و منهم من سار إلى الشام. أقول: و الرواية تخالف ما في عدة من الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الإبل من الأموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا أن يخرجوا بأنفسهم و أهليهم من غير أن يحملوا شيئا فخرجوا كذلك و جعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكل ثلاثة منهم بعيرا و سقاء. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نَافَقُوا قال: عبد الله بن أبي بن سلول و رفاعة بن تابوت و عبد الله بن نبتل و أوس بن قيظي. و ﴿لِإِخْوَانِهِمُ بنو النضير.

أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة.

 و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتى بها الراهب فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده.

فأتاه الشيطان فوسوس له و زين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها و دفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم و ألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه.

فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، و أنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج و اسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: ﴿كَمَثَلِ اَلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ الآية. أقول: و القصة مشهورة رويت مختصرة و مفصلة في روايات كثيرة.

[سورة الحشر (٥٩): الآیات ١٨ الی ٢٤]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٨ وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ

 

 

نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ ١٩ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ اَلنَّارِ وَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمُ اَلْفَائِزُونَ ٢٠ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ هُوَ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ ٢٢ هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاَمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبَّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٢٣ هُوَ اَللَّهُ اَلْخَالِقُ اَلْبَارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٤

(بيان)

الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود و نقضهم العهد و ذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم و أخراهم، و تحريض المنافقين لهم على مشاقة الله و رسوله و هو الذي أهلكهم، و حقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم و نسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم و صلاح عاجلهم و آجلهم فتاهوا و هلكوا.

فعلى من آمن بالله و رسوله و اليوم الآخر أن يذكر ربه و لا ينساه و ينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه.

و هذا هو الذي يرومه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه و لا ينسوه و ينظروا في أعمالهم

 

 

 التي على صلاحها و طلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة و يوبخوها و يزجروها على ما اقترفت من سيئة و يستغفروا.

و ذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته و كبريائه من أسمائه الحسنى و صفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية و لا كمال للإنسان فوقه.

و ذلك أن الإنسان عبد محض و مملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، و كمال الشي‏ء محوضته في نفسه و آثاره فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال و أن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع و الخشوع و الذلة و الاستكانة و الفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة و العزة و الغنى و أن تجري أعماله و أفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شي‏ء من هذه المراحل الذات و الصفات و الأفعال.

و لا يتم له النظر إلى ذاته و صفاته و أفعاله بنظرة التبعية المحضة و المملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شي‏ء شهيد و بكل شي‏ء محيط و هو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه.

و عندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ: الرعد: ٢٨، و يعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، و يظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته و جهات نقصه من خضوع و خشوع و ذلة و فقر و حاجة.

و يتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور و استمرار الذكر، قال تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ وَ لاَ تَكُنْ مِنَ اَلْغَافِلِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ: الأعراف: ٢٠٦ و قال: ﴿فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ : حم السجدة: ٣٨.

و إلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله و معرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص و الحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ إلى آخر

 

 

 الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله و بأمر آخر و هو النظر في الأعمال التي قدموها ليوم الحساب أ هي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها و يتدارك بالتوبة و الإنابة و هو محاسبة النفس.

أما التقوى و قد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات و المحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات و فعل المحرمات.

و أما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الإصلاحي ثانيا من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله و رفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل و الصنع.

فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه و لا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الأعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أ صالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله و يستغفروه.

و هذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل و عدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الإيمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم و إلى ذلك يلوح لفظ الآية ﴿وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ.

فقوله: ﴿وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الإيمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا و استغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة و إصلاح أمور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة و علقه بنفس ما منكرة فقال: ﴿وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ و في هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب و تقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم.

و قوله: ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد و بيان للنظر، و يمكن أن تكون ﴿مَا﴾ موصولة و هي و صلتها متعلقا بالنظر.

و المراد بغد يوم القيامة و هو يوم حساب الأعمال و إنما عبر عنه بغد للإشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً: المعارج: ٧.

و المعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به و ينهاكم عنه، و لتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل و لتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أ هو

 

 

 عمل صالح أو طالح و هل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أمر بالتقوى ثانيا و ﴿إِنَّ اَللَّهَ خَبِيرٌ إلخ، تعليل له و تعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالأعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة و النظر فيها من حيث إصلاحها و إخلاصها لله سبحانه و حفظها عما يفسدها، و أما قوله في صدر الآية: ﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات و تجنب المعاصي.

و من هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، و الثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها و إخلاصها.

و ظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب و الثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد و مثله ما قيل: إن الأولى في أداء الواجبات و الثانية في ترك المحرمات، و مثله ما قيل: إن الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ إلخ، النسيان‏ زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه و يتوسع فيه مطلق على مطلق الإعراض عن الشي‏ء بعدم ترتيب الأثر عليه قال تعالى: ﴿وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَ مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ: الجاثية: ٣٤.

و الآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب و الجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم و لا تنسوه. ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة و الفقر و الحاجة فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود و يخيل إليه أن له لنفسه حياة و قدرة و علما و سائر ما يتراءى له من الكمال و نظراؤه في الاستقلال سائر الأسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه و تتأثر عنه.

و عند ذلك يعتمد على نفسه و كان عليه أن يعتمد على ربه و يرجو و يخاف الأسباب الظاهرية و كان عليه أن يرجو و يخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه و كان عليه أن يطمئن إلى ربه.

و بالجملة ينسى ربه و الرجوع إليه و يعرض عنه بالإقبال إلى غيره، و يتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه

 

 

من كمالات الوجود و إليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الأسباب الكونية و ليس هذا هو الإنسان بل الإنسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله و هكذا، و ما له من الكمال كالوجود و العلم و القدرة و العزة و الغنى و هكذا فلربه و إلى ربه انتهاؤه و نظراؤه في ذلك سائر الأسباب الكونية.

و الحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لأن انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ و آكد، و لم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: و لا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير و أقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير و بني قينقاع و من حاله حالهم في مشاقة الله و رسوله.

فقال: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ ثم فرع عليه قوله: ﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية.

و الآية و إن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله و مراقبته.

فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الأولى تأمر بمحاسبة النفس و الثانية تأمر بالذكر و المراقبة.

قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ اَلنَّارِ وَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمُ اَلْفَائِزُونَ قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة انتهى. و السياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله و بأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون.

و الآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما و هما الذاكرون لله و الناسون له لا بد للإنسان أن يلحق بأحدهما و ليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان و لا يبالي الإنسان بأيهما لحق؟ بل هناك راجح و مرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح و الرجحان لقبيل الذاكرين لأنهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.

 

 

قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‏َ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ إلخ، في المجمع،: التصدع‏ التفرق بعد التلاؤم و مثله التفطر انتهى.

و الكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل و الدليل عليه قوله في ذيل الآية: ﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ إلخ.

و المراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف و أصول الشرائع و العبر و المواعظ و الوعد و الوعيد و هو كلام الله العظيم، و المعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته مع ما فيه من الغلظة و القسوة و كبر الجسم و قوة المقاومة قبال النوازل متأثرا متفرقا من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالإنسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تلي عليه، و ما أعجب حال أهل المشاقة و العناد لا تلين قلوبهم له و لا يخشعون و لا يخشون.

و الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع و يتصدع الجبل بنزول القرآن لأنه كلام الله عز اسمه.

و قوله: ﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جار سار في موارد أخرى كثيرة.

فقوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‏َ جَبَلٍ إلخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته و جلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى و بما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي و يتحققوا بما فيه من الحق الصريح و يهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم و سعادتهم وراءها، و من ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة و المحاسبة.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ هُوَ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ هذه الآية و الآيتان بعدها و إن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى و الإشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن و تنزهه بشهادة ما في السماوات و الأرض لكنها بانضمامها إلى ما مر من الأمر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك.

و بانضمامها إلى الآية السابقة و ما فيها من قوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ تفيد تعليل خشوع الجبل و تصدعه من خشية الله كأنه قيل: و كيف لا و هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب

 

 

 و الشهادة، إلى آخر الآيات.

و قوله: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يفيد الموصول و الصلة معنى اسم من أسمائه و هو وحدانيته تعالى في ألوهيته و معبوديته، و قد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ: البقرة: ١٦٣.

و قوله: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك و الغيب خلافها و هما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شي‏ء شهادة بالنسبة إلى شي‏ء و غيبا بالنسبة إلى آخر و يدور الأمر مدار نوع من الإحاطة بالشي‏ء حسا أو خيالا أو عقلا أو وجودا و هو الشهادة و عدمها و هو الغيب، و كل ما فرص من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب و الشهادة و غيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده و عدم إحاطته إلا ما علمه تعالى كما قال: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ: الجن: ٢٧، و أما هو تعالى فغيب على الإطلاق لا سبيل إلى الإحاطة به لشي‏ء أصلا كما قال: ﴿وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً.

و قوله: ﴿هُوَ اَلرَّحْمَنُ اَلرَّحِيمُ قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاَمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبَّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ إلخ، الملك‏ هو المالك لتدبير أمر الناس و الحكم فيهم، و القدوس‏ مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و السلام‏ من يلاقيك بالسلام و العافية من غير شر و ضر، و المؤمن‏ الذي يعطي الأمن، و المهيمن‏ الفائق المسيطر على الشي‏ء.

و العزيز الغالب الذي لا يغلبه شي‏ء أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، و الجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته و يجبر على ما يشاء، و المتكبر الذي تلبس بالكبرياء و ظهر بها.

و قوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثناء عليه تعالى كما في قوله: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ: البقرة: ١١٦.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلْخَالِقُ اَلْبَارِئُ اَلْمُصَوِّرُ إلى آخر الآية، الخالق‏ هو الموجد للأشياء عن تقدير، و البارئ‏ المنشئ للأشياء ممتازا بعضها من بعض، و المصور المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض، و الأسماء الثلاثة تتضمن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة و بينها ترتب فالتصوير فرع البرء و البرء فرع الخلق و هو ظاهر.

 

 

 و إنما صدر الآيتين السابقتين بقوله: ﴿اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فوصف به ﴿اَللَّهُ و عقبه بالأسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلْخَالِقُ إلخ.

لأن الأسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين و هي أحد عشر اسما من لوازم الربوبية و مالكية التدبير التي تتفرع عليها الألوهية و المعبودية بالحق و هي على نحو الأصالة و الاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الألوهية و استحقاق المعبودية به تعالى.

فالأسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الألوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لأنه عالم الغيب و الشهادة هو الرحمن الرحيم، و لذا أيضا ذيل هذه الأسماء بقوله ثناء عليه:

﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ردا على القول بالشركاء كما يقوله المشركون.

و أما قوله: ﴿هُوَ اَللَّهُ اَلْخَالِقُ اَلْبَارِئُ اَلْمُصَوِّرُ فالمذكور فيه من الأسماء يفيد معنى الخلق و الإيجاد و اختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الألوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق و الإيجاد به تعالى و هم مع ذلك يدعون من دونه أربابا و آلهة و يثبتون له شركاء.

و أما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعا فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به و يجري عليه جميع الأسماء و في التكرار مزيد تأكيد و تثبيت للمطلوب.

و قوله: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏َ إشارة إلى بقية الأسماء الحسنى عن آخرها لكون الأسماء جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.

و قوله: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات و الأرض و قد تقدم توضيح معنى الجملة مرارا.

ثم ختم الآيات بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه و دعا إليه معصية العاصين و لا مشاقة المعاندين و لا يضيع عنده طاعة المطيعين و أجر المحسنين.

و العناية إلى ختم الكلام بالاسمين و الإشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز و ذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الأسماء.

 

 

 و قد وصف القرآن أيضا بالعزة و الحكمة كما قال: ﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ: حم السجدة:

 ٤١، و قال: ﴿وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ: يس: ٢.

(بحث روائي)

 في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان. أقول: و هو تفسير ببعض المصاديق، و قد أوردنا أحاديث عنهم (عليه السلام) في معنى اسم الجلالة و الاسمين الرحمن الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة.

 و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: لم يزل حيا بلا حياة و ملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا و ملكا جبارا بعد إنشائه للكون. أقول: قوله: لم يزل حيا بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، و قوله: لم يزل ملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا إرجاع للملك و هو من صفات الفعل إلى القدرة و هي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الإيجاد.

 و في الكافي، بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله:

﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ ما يعني به؟ قال: تنزيه.

 و في نهج البلاغة،: و الخالق لا بمعنى حركة و نصب. أقول: و قد أوردنا عدة من الروايات في الأسماء الحسنى و إحصائها في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب.

 و في النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوا قبل أن توزنوا و تجهزوا للغرض الأكبر.

 و في الكافي، بإسناده إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا ازداد لله شكرا و إن عمل سيئا استغفر الله و تاب إليه.

أقول: و فيما يقرب من هذا المعنى روايات أخر، و قد أوردنا روايات عنهم (عليه السلام) في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ الآية: البقرة:

 ١٥٢، و قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً: الأحزاب: ٢١، فليراجعها من شاء.

 

 

(٦٠) (سورة الممتحنة مدنية و هي ثلاث عشرة آية) (١٣)

[سورة الممتحنة (٦٠): الآیات ١ الی ٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اَلرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ ١ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ٢ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٣ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةُ وَ اَلْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ ٤ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٥ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا

 

 

اللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ٦ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اَللَّهُ قَدِيرٌ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٧ لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلى‏ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ ٩

(بيان)

تذكر السورة موالاة المؤمنين لأعداء الله من الكفار و موادتهم و تشدد النهي عن ذلك تفتتح به و تختتم و فيها شي‏ء من أحكام النساء المهاجرات و بيعة المؤمنات، و كونها مدنية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلخ، سياق الآيات يدل على أن بعض المؤمنين من المهاجرين كانوا يسرون الموادة إلى المشركين بمكة ليحموا بذلك من بقي من أرحامهم و أولادهم بمكة بعد خروجهم أنفسهم منها بالمهاجرة إلى المدينة فنزلت الآيات و نهاهم الله عن ذلك، و يتأيد بهذا ما ورد أن الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أسر كتابا إلى المشركين بمكة يخبرهم فيه بعزم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الخروج إليها لفتحها، فعل ذلك ليكون يدا له عليهم يقي بها من كان بمكة من أرحامه و أولاده فأخبر الله بذلك نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزلت، و ستوافيك قصته في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ العدو معروف و يطلق على الواحد و الكثير و المراد في الآية هو الكثير بقرينة قوله: ﴿أَوْلِيَاءَ و ﴿إِلَيْهِمْ و غير

 

 

 ذلك، و هم المشركون بمكة، و كونهم عدوه من جهة اتخاذهم له شركاء يعبدونهم و لا يعبدون الله و يردون دعوته و يكذبون رسوله، و كونهم أعداء للمؤمنين لإيمانهم بالله و تفديتهم أموالهم و أنفسهم في سبيله فمن يعادي الله يعاديهم.

و ذكر عداوتهم للمؤمنين مع كفاية ذكر عداوتهم لله في سوق النهي لتأكيد التحذير و المنع كأنه قيل: من كان عدوا لله فهو عدو لكم فلا تتخذوه وليا.

و قوله: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بالمودة مفعول ﴿تُلْقُونَ و الباء زائدة كما في قوله:

﴿وَ لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ: البقرة: ١٩٥، و المراد بإلقاء المودة إظهارها أو إيصالها، و الجملة صفة أو حال من فاعل ﴿لاَ تَتَّخِذُوا.

و قوله: ﴿وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ هو الدين الحق الذي يصفه كتاب الله و يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الجملة حالية.

و قوله: ﴿يُخْرِجُونَ اَلرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ الجملة حالية و المراد بإخراج الرسول و إخراجهم اضطرارهم الرسول و المؤمنين إلى الخروج من مكة و المهاجرة إلى المدينة، و ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ بتقدير اللام متعلق بيخرجون، و المعنى: يجبرون الرسول و إياكم على المهاجرة من مكة لإيمانكم بالله ربكم.

و توصيف الله بقوله: ﴿رَبِّكُمْ للإشارة إلى أنهم يؤاخذونهم على أمر حق مفروض ليس بجرم فإن إيمان الإنسان بربه مفروض عليه و ليس من الجرم في شي‏ء.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَ اِبْتِغَاءَ مَرْضَاتِي متعلق بقوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا و جزاء الشرط محذوف يدل عليه المتعلق، و ﴿جِهَاداً مصدر مفعول له، و ﴿اِبْتِغَاءَ بمعنى الطلب و «المرضاة» مصدر كالرضا، و المعنى: لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء إن كنتم هاجرتم للمجاهدة في سبيلي و لطلب رضاي.

و تقييد النهي عن ولائهم و اشتراطه بخروجهم للجهاد و ابتغائهم مرضاته من باب اشتراط الحكم بأمر محقق الوقوع تأكيدا له و إيذانا بالملازمة بين الشرط و الحكم كقول الوالد لولده:

إن كنت ولدي فلا تفعل كذا.

و قوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنْتُمْ أسررت إليه حديثا أي أفضيت إليه في خفية فمعنى ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تطلعونهم على ما تسرون من مودتهم على ما قاله الراغب و الإعلان‏ خلاف الإخفاء، و ﴿أَنَا أَعْلَمُ إلخ، حال من

 

 

 فاعل ﴿تُسِرُّونَ و ﴿أَعْلَمُ اسم تفضيل، و احتمل بعضهم أن يكون فعل المتكلم وحده من المضارع متعديا بالباء لأن العلم ربما يتعدى بها.

و جملة: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ إلخ، استئناف بيانية كأنه قيل بعد استماع النهي السابق:

ما ذا فعلنا فأجيب: تطلعونهم سرا على مودتكم لهم و أنا أعلم بما أخفيتم و ما أظهرتم أي أنا أعلم بقولكم و فعلكم علما يستوي بالنسبة إليه إخفاؤكم و إظهاركم.

و منه يعلم أن قوله: ﴿بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنْتُمْ معا يفيدان معنى واحدا و هو استواء الإخفاء و الإعلان عنده تعالى لإحاطته بما ظهر و ما بطن فلا يرد أن ذكر ﴿بِمَا أَخْفَيْتُمْ يغني عن ذكر ﴿مَا أَعْلَنْتُمْ لأن العالم بما خفي عالم بما ظهر بطريق أولى.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ الإشارة بذلك إلى إسرار المودة إليهم و هو الموالاة، و ﴿سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ من إضافة الصفة إلى الموصوف أي السبيل السوي و الطريق المستقيم و هو مفعول ﴿ضَلَّ أو منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد ضل عن سواء السبيل، و السبيل سبيل الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً إلخ، قال الراغب: الثقف بالفتح فالسكون الحذق في إدراك الشي‏ء و فعله. قال: و يقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك و إن لم يكن معه ثقافة. انتهى.

و فسره غيره بالظفر و لعله بمعونة مناسبة المقام، و المعنيان متقاربان.

و الآية مسوقة لبيان أنه لا ينفعهم الإسرار بالمودة للمشركين في جلب محبتهم و رفع عداوتهم شيئا و أن المشركين على الرغم من إلقاء المودة إليهم أن يدركوهم و يظفروا بهم يكونوا لهم أعداء من دون أن يتغير ما في قلوبهم من العداوة.

و قوله: ﴿وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ بمنزلة عطف التفسير لقوله: ﴿يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً و بسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل و السبي و سائر أنحاء التعذيب و بسط الألسن بالسوء كناية عن السب و الشتم.

و الظاهر أن قوله: ﴿وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عطف على الجزاء و الماضي بمعنى المستقبل كما يقتضيه الشرط و الجزاء، و المعنى: أنهم يبسطون إليكم الأيدي و الألسن بالسوء و يودون بذلك لو تكفرون كما كانوا يفتنون المؤمنين بمكة و يعذبونهم يودون بذلك أن يرتدوا عن دينهم. و الله أعلم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ دفع لما ربما يمكن أن يتوهم عذرا لإلقاء المودة إليهم إن في ذلك صيانة لأرحامهم و أولادهم الذين تركوهم بمكة بين المشركين من أذاهم.

و الجواب أن أمامكم يوما تجازون فيه على معصيتكم و طالح عملكم و منه موالاة الكفار و لا ينفعكم اليوم أرحامكم و لا أولادكم الذين قدمتم صيانتهم من أذى الكفار على صيانة أنفسكم من عذاب الله بترك موالاة الكفار.

و قوله: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يفصل الله يوم القيامة بينكم بتقطع الأسباب الدنيوية كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ: المؤمنون: ١٠١، و ذلك أن القرابة و هي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة إنما تؤثر آثارها من الرحمة و المودة و الألفة و المعاونة و المعاضدة و العصبية و الخدمة و غير ذلك من الآثار في ظرف الحياة الاجتماعية التي تسوق الإنسان إليه حاجته إليها بالطبع بحسب الآراء و العقائد الاعتبارية التي أوجدها فيه فهمه الاجتماعي، و لا خبر عن هذه الآراء في الخارج عن ظرف الحياة الاجتماعية.

و إذا برزت الحقائق و ارتفع الحجاب و انكشف الغطاء يوم القيامة ضلت عن الإنسان هذه الآراء و المزاعم و انقطعت روابط الاستقلال بين الأسباب و مسبباتها كما قال تعالى:

﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ: الأنعام: ٩٤، و قال: ﴿وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ: البقرة: ١٦٦.

فيومئذ تتقطع رابطة الأنساب و لا ينتفع ذو قرابة من قرابته شيئا فلا ينبغي للإنسان أن يخون الله و رسوله بموالاة أعداء الدين لأجل أرحامه و أولاده فليسوا يغنونه عن الله يومئذ.

و قيل: المراد أنه يفرق الله بينكم يوم القيامة بما فيه من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ: عبس: ٣٧، و الوجه السابق أنسب للمقام.

و قيل: المراد أنه يميز بعضكم يومئذ من بعض فيدخل أهل الإيمان و الطاعة الجنة، و أهل الكفر و المعصية النار و لا يرى القريب المؤمن في الجنة قريبه الكافر في النار.

و فيه أنه و كان لا بأس به في نفسه لكنه غير مناسب للمقام إذ لا دلالة في المقام على

 

 

 كفر أرحامهم و أولادهم.

و قيل: المراد بالفصل فصل القضاء و المعنى: أن الله يقضي بينكم يوم القيامة.

و فيه ما في سابقه من عدم المناسبة للمورد فإن فصل القضاء إنما يناسب الاختلاف كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: السجدة:

 ٢٠، و لا ارتباط في الآية بذلك.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ متمم لقوله: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ كالمؤكد له و المعنى:

لن تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم يوم القيامة في رفع تبعة هذه الخيانة و أمثالها و الله بما تعملون بصير لا يخفى عليه ما هي هذه الخيانة فيؤاخذكم عليها لا محالة.

قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ إلى آخر الآيتين، و الخطاب للمؤمنين، و الأسوة الاتباع و الاقتداء، و في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بظاهره دلالة على أنه كان معه من آمن به غير زوجته و لوط.

و قوله: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أي إنا بريئون منكم و من أصنامكم بيان لما فيه الأسطورة و الاقتداء.

و قوله: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدَاوَةُ وَ اَلْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ بيان لمعنى البراءة بأثرها و هو الكفر بهم و عداوتهم ما داموا مشركين حتى يوحدوا الله سبحانه.

و المراد بالكفر بهم الكفر بشركهم بدليل قوله: ﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، و الكفر بشركهم مخالفتهم فيه عملا كما أن العداوة بينونة و مخالفة قلبا.

فقد فسروا براءتهم منهم بأمور ثلاثة: مخالفتهم لشركهم عملا، و العداوة و البغضاء بينهم قلبا، و استمرار ذلك ما داموا على شركهم إلا أن يؤمنوا بالله وحده.

و قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ، استثناء مما تدل عليه الجمل المتقدمة أن إبراهيم و الذين معه تبرءوا من قومهم المشركين قولا مطلقا. و قطعوا أي رابطة تربطهم بالقوم و تصل بينهم إلا ما قال إبراهيم لأبيه:

﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ إلخ.

و لم يكن قوله: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ توليا منه بل وعدا وعده إياه رجاء أن يتوب عن الشرك و يؤمن بالله وحده كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ

 

 

 عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ: التوبة: ١١٤، حيث يفيد أنه (عليه السلام) إنما وعده لأنه لم يتبين له بعد أنه عدو لله راسخ في عداوته ثابت في شركه فكان يرجو أن يرجع عن شركه و يطمع في أن يتوب و يؤمن فلما تبين له رسوخ عداوته و يئس من إيمانه تبرأ منه.

على أن قوله تعالى في قصة محاجته أباه في سورة مريم: ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ: مريم: ٤٨، يتضمن وعده أباه بالاستغفار و إخباره بالاعتزال و لو كان وعده الاستغفار توليا منه لأبيه لكان من الحري أن يقول: و اعتزل القوم، لا أن يقول: و أعتزلكم فيدخل أباه فيمن يعتزلهم و ليس الاعتزال إلا التبري.

فالاستثناء استثناء متصل من أنهم لم يكلموا قومهم إلا بالتبري و المحصل من المعنى:

أنهم إنما ألقوا إليهم القول بالتبري إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك فلم يكن تبريا و لا توليا بل وعدا وعده أباه رجاء أن يؤمن بالله.

و هاهنا شي‏ء و هو أن مؤدى آية التوبة ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ أن تبريه الجازم إنما كان بعد الوعد و بعد تبين عداوته لله، و قوله تعالى في الآية التي نحن فيها: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إخبار عن تبريهم الجازم القاطع فيكون ما وقع في الاستثناء من قول إبراهيم لأبيه وعدا واقعا قبل تبريه الجازم و من غير جنس المستثنى منه فيكون الاستثناء منقطعا لا متصلا.

و على تقدير كون الاستثناء منقطعا يجوز أن يكون الاستثناء من قوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بما أنه مقيد بقوله: ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، و المعنى: قد كان لكم اقتداء حسن بتبري إبراهيم و الذين معه من قومهم إلا أن إبراهيم قال لأبيه كذا و كذا وعدا.

و أما على تقدير كون الاستثناء متصلا فالوجه ما تقدم، و أما كون المستثنى منه هو قوله: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ، و المعنى: لكم في إبراهيم أسوة في جميع خصاله إلا في قوله لأبيه: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فلا أسوة فيه.

ففيه أن قوله: ﴿لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ إلخ، غير مسوق لإيجاب التأسي بإبراهيم (عليه السلام) في جميع خصاله حتى يكون الوعد بالاستغفار أو نفس الاستغفار و ذلك

 

 

من خصاله مستثنى منها بل إنما سيق لإيجاب التأسي به في تبريه من قومه المشركين، و الوعد بالاستغفار رجاء للتوبة و الإيمان ليس من التبري و إن كان ليس توليا أيضا.

و قوله: ﴿وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ تتمة قول إبراهيم (عليه السلام) ، و هو بيان لحقيقة الأمر من أن سؤاله المغفرة و طلبها من الله ليس من نوع الطلب الذي يملك فيه الطالب من المطلوب منه ما يطلبه، و إنما هو سؤال يدعو إليه فقر العبودية و ذلتها قبال غنى الربوبية و عزتها فله تعالى أن يقبل بوجهه الكريم فيستجيب و يرحم، و له أن يعرض و يمسك الرحمة فإنه لا يملك أحد منه تعالى شيئا و هو المالك لكل شي‏ء، قال تعالى: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً: المائدة: ١٧.

و بالجملة قوله: ﴿مَا أَمْلِكُ إلخ، نوع اعتراف بالعجز استدراكا لما يستشعر من قوله:

﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ من شائبة إثبات القدرة لنفسه نظير قول شعيب (عليه السلام) : ﴿وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ استدراكا لما يشعر به قوله لقومه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ: هود:

 ٨٨، من إثبات القوة و الاستطاعة لنفسه بالأصالة و الاستقلال.

و قوله: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ إلخ، من تمام القول المنقول عن إبراهيم و الذين معه المندوب إلى التأسي بهم فيه، و هو دعاء منهم لربهم و ابتهال إليه إثر ما تبرءوا من قومهم ذاك التبري العنيف ليحفظهم من تبعاته و يغفر لهم فلا يخيبهم في إيمانهم.

و قد افتتحوا دعاءهم بتقدمة يذكرون فيها حالهم فيما هم فيه من التبري من أعداء الله فقالوا: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا يعنون به أنا كنا في موقف من الحياة تتمكن فيه أنفسنا و ندبر فيه أمورنا أما أنفسنا فأنبنا و رجعنا بها إليك و هو الإنابة، و أما أمورنا التي كان علينا تدبيرها فتركناها لك و جعلنا مشيتك مكان مشيتنا فأنت وكيلنا فيها تدبرها بما تشاء و كيف تشاء و هو التوكل.

ثم قالوا: ﴿وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ يعنون به أن مصير كل شي‏ء من فعل أو فاعل فعل إليك فقد جرينا في توكلنا عليك و إنابتنا إليك مجرى ما عليه حقيقة الأمر من مصير كل شي‏ء إليك حيث هاجرنا بأنفسنا إليك و تركنا تدبير أمورنا لك.

و قوله: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا متن دعائهم يسألونه تعالى أن يعيذهم من تبعة تبريهم من الكفار و يغفر لهم.

 

 

 و الفتنة ما يمتحن به، و المراد بجعلهم فتنة للذين كفروا تسليط الكفار عليهم ليمتحنهم فيخرجوا ما في وسعهم من الفساد فيؤذوهم بأنواع الأذى أن آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم و تبرءوا منهم و مما يعبدون.

و قد كرروا نداءه تعالى ربنا في دعائهم مرة بعد مرة لإثارة الرحمة الإلهية.

و قوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ أي غالب غير مغلوب متقن لأفعاله لا يعجز أن يستجيب دعاءهم فيحفظهم من كيد أعدائه و يعلم بأي طريق يحفظ.

و للمفسرين في تفسير الآيتين أنظار مختلفة أخرى أغمضنا عن إيرادها رعاية للاختصار من أرادها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ إلخ، تكرار حديث الأسوة لتأكيد الإيجاب و لبيان أن هذه الأسوة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر، و أيضا أنهم كما يتأسى بهم في تبريهم من الكفار كذلك يتأسى بهم في دعائهم و ابتهالهم.

و الظاهر أن المراد برجائه تعالى رجاء ثوابه بالإيمان به و برجاء اليوم الآخر رجاء ما وعد الله و أعد للمؤمنين من الثواب، و هو كناية عن الإيمان.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ استغناء منه تعالى عن امتثالهم لأمره بتبريهم من الكفار و أنهم هم المنتفعون بذلك و الله سبحانه غني في ذاته عنهم و عن طاعتهم حميد فيما يأمرهم و ينهاهم إذ ليس في ذلك إلا صلاح حالهم و سعادة حياتهم.

قوله تعالى: ﴿عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اَللَّهُ قَدِيرٌ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ضمير ﴿مِنْهُمْ للكفار الذين أمروا بمعاداتهم و هم كفار مكة، و المراد بجعل المودة بين المؤمنين و بينهم جعلها بتوفيقهم للإسلام كما وقع ذلك لما فتح الله لهم مكة، و ليس المراد به نسخ حكم المعاداة و التبري.

و المعنى: مرجو من الله أن يجعل بينكم معشر المؤمنين و بين الذين عاديتم من الكفار و هم كفار مكة مودة بتوفيقهم للإسلام فتنقلب المعاداة مودة و الله قدير و الله غفور لذنوب عباده رحيم بهم إذا تابوا و أسلموا فعلى المؤمنين أن يرجوا من الله أن يبدل معاداتهم مودة بقدرته و مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ

 

 

 تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إلخ، في هذه الآية و التي تتلوها توضيح للنهي الوارد في أول السورة، و المراد بالذين لم يقاتلوا المؤمنين في الدين و لم يخرجوهم غير أهل مكة ممن لم يقاتلوهم و لم يخرجوهم من ديارهم من المشركين من أهل المعاهدة، و البر و الإحسان، و الأقساط المعاملة بالعدل، و ﴿أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من ﴿اَلَّذِينَ إلخ، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ تعليل لقوله: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ إلخ.

و المعنى: لا ينهاكم الله بقوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ عن أن تحسنوا و تعاملوا بالعدل الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم لأن ذلك منكم أقساط و الله يحب المقسطين.

قيل: إن الآية منسوخة بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ: التوبة: ٥، و فيه أن الآية التي نحن فيها لا تشمل بإطلاقها إلا أهل الذمة و أهل المعاهدة و أما أهل الحرب فلا، و آية التوبة إنما تشمل أهل الحرب من المشركين دون أهل المعاهدة فكيف تنسخ ما لا يزاحمها في الدلالة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلى‏َ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ إلخ، المراد بالذين قاتلوكم إلخ، مشركو مكة، و المظاهرة على الإخراج المعاونة و المعاضدة عليه، و قوله: ﴿أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من ﴿اَلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ إلخ.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ قصر إفراد أي المتولون لمشركي مكة و من ظاهرهم على المسلمين هم الظالمون المتمردون عن النهي دون مطلق المتولين للكفار أو تأكيد للنهي عن توليهم.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ الآية: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، و لفظ الآية عام و معناها خاص و كان سبب ذلك أن حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم و هاجر إلى المدينة و كان عياله بمكة، و كانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فصاروا إلى عيال حاطب - و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب و يسألوه عن خبر محمد هل يريد أن يغزو مكة؟.

 

 

 فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب إليهم حاطب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يريد ذلك، و دفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية فوضعته في قرونها و مرت فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخبره بذلك.

فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أمير المؤمنين و الزبير بن العوام في طلبها فلحقوها فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام) : أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شي‏ء ففتشاها فلم يجدا معها شيئا فقال الزبير: ما نرى معها شيئا فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : و الله ما كذبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لا كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على جبرئيل، و لا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه و الله لتظهرن الكتاب أو لأردن رأسك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: تنحيا عني حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين و جاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: و الله يا رسول الله ما نافقت و لا غيرت و لا بدلت، و إني أشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله حقا و لكن أهلي و عيالي كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم، فأنزل الله على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ إلى قوله ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الحميدي و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و أبو عوانة و ابن حبان و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي و أبو نعيم معا في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنا و الزبير و المقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة[4] خاخ فإن بها ظعينة[5] معها كتاب فخذوه منها و أتوني به.

فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة - فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها.

فأتينا به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا من قريش و لم أكن من أنفسها و كان من معك من

 

 

 المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم و أموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي و ما فعلت ذلك كفرا و لا ارتدادا عن ديني فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صدق.

فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال: إنه شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بد فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و نزلت فيه ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.:

أقول: و هذا المعنى مروي في عدة من الروايات عن نفر من الصحابة كأنس و جابر و عمر و ابن عباس و جمع من التابعين كحسن و غيره. و الرواية من حيث متنها لا تخلو من بحث:

أما أولا: فلأن ظاهرها بل صريحها أن حاطب بن أبي بلتعة كان يستحق بصنعة ما صنع القتل أو جزاء دون ذلك، و إنما صرف عنه ذلك كونه بدريا فالبدري لا يؤاخذ بما أتى به من معصية كما يصرح به قوله (ص) لعمر في هذه الرواية: «أنه شهد بدرا» و في رواية الحسن: أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر أنهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر.

و يعارضه ما في قصة الإفك أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ما نزلت براءة عائشة حد مسطح بن أثاثة و كان من الآفكين، و كان مسطح بن أثاثة هذا من السابقين الأولين من المهاجرين و ممن شهد بدرا كما في صحيحي البخاري و مسلم و حده النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما نطقت به الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آيات الإفك.

و أما ثانيا: فلأن ما يشتمل عليه من خطابه تعالى لأهل بدر «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» الدال على كون كل ما أتوا به من ذنب مغفورا لهم لا يتم بالبداهة إلا بارتفاع عامة التكاليف الدينية عنهم من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه، و لا معنى لتعلق التكليف المولوي بأمر مع إلغاء تبعة مخالفته و تسوية الفعل و الترك بالنسبة إلى المكلف كما يدل عليه قوله: «اعملوا ما شئتم» على بداهة ظهوره في الإباحة العامة.

و لازم ذلك:

أولا: شمول المغفرة من المعاصي لما يحكم بداهة العقل على عدم شمول العفو له لو لا التوبة كعبادة الأصنام و الرد على الله و رسوله و تكذيب النبي و الافتراء على الله و رسوله و الاستهزاء

 

 

بالدين و أحكامه الثابتة بالضرورة، فإن الآيات المتعرضة لها الناهية عنها تأبى شمول المغفرة لها من غير توبة، و مثلها قتل النفس المحترمة ظلما و الفساد في الأرض و إهلاك الحرث و النسل، و استباحة الدماء و الأعراض و الأموال.

و من المعلوم أن المحذور إمكان تعلق المغفرة بأمثال هذه المعاصي و الذنوب لا فعلية تعلقها بها فلا يدفع بأن الله سبحانه يحفظ هذا المكلف المغفور له من اقتراف أمثال هذه المعاصي و الذنوب و إن كان غفر له لو اقترف.

و ثانيا: أن يخصص قوله: اعملوا ما شئتم عمومات جميع الأحكام الشرعية من عبادات و معاملات من حيث المتعلق فلا يعم شي‏ء منها البدريين و لا يتعلق بهم، و لو كان كذلك لكان معروفا عند الصحابة مسلما لهم أن هؤلاء العصابة محررون من كل تكليف ديني مطلقون من قيد وظائف العبودية و كان البدريون أنفسهم أحق برعاية معنى التحرير فيما بينهم أنفسهم على ما له من الأهمية، و لا شاهد يشهد بذلك في المروي من أخبارهم و المحفوظ من آثارهم بل المستفاد من سيرهم و خاصة في خلال الفتن الواقعة بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خلاف ذلك بما لا يسع لأحد إنكاره.

على أن تحرير قوم ذوي عدد من الناس و إطلاقهم من قيد التكليف لهم أن يفعلوا ما يشاءون و أن لا يبالوا بمخالفة الله و رسوله و إن عظمت ما عظمت يناقض مصلحة الدعوة الدينية و فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بث المعارف الإلهية التي جاء بها الرسول بالرواية عنه إذ لا يبقى للناس بهم وثوق فيما يقولون و يروون من حكم الله و رسوله أن لا ضير عليهم و لو أتوا بكل كذب افتراء أو اقترفوا كل منكر و فحشاء و الناس يعلمون منهم ذلك.

و يجري ذلك في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو سيد أهل بدر و قد أرسله‏[6] الله شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا فكيف تطمئن القلوب إلى دعوة من يجوز تلبسه بكل كذب و افتراء و منكر و فحشاء؟ و أنى تسلم النفوس له الاتصاف بتلك الصفات الكريمة التي مدحه الله بها؟ بل كيف يجوز في حكمته تعالى أن يقلد الشهادة و الدعوة من لا يؤمن في حال أو مقال، و يعده سراجا منيرا و هو تعالى قد أباح له أن يحيي الباطل كما

 ينير الحق و أذن له في أن يضل الناس و قد بعثه ليهديهم و الآيات المتعرضة لعصمة الأنبياء و حفظ الوحي تأبى ذلك كله.

على أن ذلك يفسد استقامة الخطاب في كثير من الآيات التي فيها عتاب الصحابة و المؤمنين على بعض تخلفاتهم كالآيات النازلة في وقعة أحد و الأحزاب و حنين و غيرها المعاتبة لهم على انهزامهم و فرارهم من الزحف و قد أوعد الله عليه النار.

و من أوضح الآيات في ذلك آيات الإفك و في أهل الإفك مسطح بن أثاثة البدري و فيها قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ و لم يستثن أحدا منهم، و قوله:

﴿وَ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيمٌ و قوله: ﴿يَعِظُكُمُ اَللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.

و من أوضح الآيات في عدم ملاءمة معناها للرواية نفس هذه الآيات التي تذكر الرواية سبب نزولها: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الآيات و فيها مثل قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ و قوله: ﴿وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلظَّالِمُونَ.

فمن المعلوم أن الآيات إنما وجهت الخطاب و العتاب إلى عامة الذين آمنوا و تنسب إلقاء المودة و إسرار مودة الكفار إلى المؤمنين بما أن بعضهم و هو حاطب بن أبي بلتعة اتخذ الكفار أولياء و خان الإسلام و المسلمين فنسبت الآيات فعل البعض إلى الكل و وجهت العتاب و التهديد إلى الجميع.

فلو كان حاطب و هو بدري محرر مرفوع عنه القلم مخاطبا بمثل قوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك لا إثم عليه فيما يفعل و لا ضلال في حقه و لا يتصف بظلم و لا يتعلق به عتاب و لا تهديد فأي وجه لنسبة فعل البعض بما له من الصفات غير المرضية إلى الكل و لا صفة غير مرضية لفعل هذا البعض على الفرض.

فيئول الأمر إلى فرض أن يأتي البعض بفعل مأذون له فيه لا عتاب عليه و لا لوم يعتريه و يعاتب الكل و يهددوا عليه و بعبارة أخرى أن يؤذن لفاعل في معصية ثم يعاتب عليها غيره و لا صنع له فيها و يجل كلامه تعالى عن مثل ذلك.

 و فيه، أخرج البخاري و ابن المنذر و النحاس و البيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني أمي راغبة و هي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أ أصلها؟ فأنزل الله ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ

 

 

فقال: نعم صلي. و فيه، أخرج أبو داود في تاريخه و ابن المنذر عن قتادة : ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اَللَّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ نسختها ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.

أقول: قد عرفت الكلام فيه.

 و في الكافي، بإسناده عن سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله و تبغض في الله و تعطي في الله و تمنع في الله جل و عز.

 و في تفسير القمي، بإسناده إلى إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل من لم يحب على الدين و لم يبغض على الدين فلا دين له.

[سورة الممتحنة (٦٠): الآیات ١٠ الی ١٣ ]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ وَ سْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اَللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٠ وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى اَلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا اَلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ١١ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلى‏َ أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لاَ يَسْرِقْنَ وَ لاَ يَزْنِينَ وَ لاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَ لاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ

 

 

وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٢ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ اَلْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ اَلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ اَلْقُبُورِ ١٣

(بيان)

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الآية، سياق الآية يعطي أنها نزلت بعد صلح الحديبية، و كان في العهد المكتوب بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين أهل مكة أنه إن لحق من أهل مكة رجل بالمسلمين ردوه إليهم و إن لحق من المسلمين رجل بأهل مكة لم يردوه إليهم ثم إن بعض نساء المشركين أسلمت و هاجرت إلى المدينة فجاء زوجها يستردها فسأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يردها إليه فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الذي شرطوه في العهد رد الرجل دون النساء و لم يردها إليهم و أعطاه ما أنفق عليها من المهر و هو الذي تدل عليه الآية مع ما يناسب ذلك من أحكامهن.

فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ سماهن مؤمنات قبل امتحانهن و العلم بإيمانهن لتظاهرهن بذلك.

و قوله: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ أي اختبروا إيمانهن بما يظهر به ذلك من شهادة و حلف يفيد العلم و الوثوق، و في قوله: ﴿اَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ إشارة إلى أنه يجزي في ذلك العلم العادي و الوثوق دون اليقين بحقيقة الإيمان الذي هو تعالى أعلم به علما لا يتخلف عنه معلومه.

و قوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفَّارِ ذكرهم بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب للحكم و انقطاع علقة الزوجية بين المؤمنة و الكافر.

و قوله: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ مجموع الجملتين كناية عن انقطاع علقة الزوجية، و ليس من توجيه الحرمة إليهن و إليهم في شي‏ء.

و قوله: ﴿وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا أي أعطوا الزوج الكافر ما أنفق عليها من المهر.

 

 

 و قوله: ﴿وَ لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ رفع المانع من نكاح المؤمنات المهاجرات إذا أوتين أجورهن و الأجر المهر.

و قوله: ﴿وَ لاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوَافِرِ العصم‏ جمع عصمة و هي النكاح الدائم يعصم المرأة و يحصنها، و إمساك العصمة إبقاء الرجل بعد ما أسلم زوجته الكافرة على زوجيتها فعليه بعد ما أسلم أن يخلي عن سبيل زوجته الكافرة سواء كانت مشركة أو كتابية.

و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿وَ لاَ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ: البقرة: ٢٢١، و قوله: ﴿وَ اَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: المائدة: ٥، أن لا نسخ بين الآيتين و بين الآية التي نحن فيها.

و قوله: ﴿وَ سْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ضمير الجمع في ﴿وَ سْئَلُوا للمؤمنين و في ﴿لْيَسْئَلُوا للكفار أي إن لحقت امرأة منكم بالكفار فاسألوهم ما أنفقتم لها من مهر و لهم أن يسألوا مهر من لحقت بكم من نسائهم.

ثم تمم الآية بالإشارة إلى أن ما تضمنته الآية حكم الله الذي شرع لهم فقال: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اَللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى اَلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا اَلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا إلخ، قال الراغب: الفوت‏ بعد الشي‏ء عن الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: ﴿وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى اَلْكُفَّارِ﴾. انتهى. و فسر المعاقبة و العقاب‏ بمعنى الوصول و الانتهاء إلى عقبى الشي‏ء، و المراد عاقبتم من الكفار أي أصبتم منهم غنيمة و هي عقبى الغزو، و قيل: عاقب بمعنى عقب، و قيل: عاقب مأخوذ من العقبة بمعنى النوبة.

و الأقرب أن يكون المراد بالشي‏ء المهر و ﴿مِنْ في ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ لابتداء الغاية و ﴿إِلَى اَلْكُفَّارِ متعلق بقوله: ﴿فَاتَكُمْ و المراد بالذين ذهبت أزواجهم، بعض المؤمنين و إليهم يعود ضمير ﴿أَنْفَقُوا.

و المعنى: و إن ذهب و انفلت منكم إلى الكفار مهر من أزواجكم بلحوقهن بهم و عدم ردهم ما أنفقتم من المهر إليكم فأصبتم منهم بالغزو غنيمة فأعطوا المؤمنين الذين ذهبت أزواجهم إليهم مما أصبتم من الغنيمة مثل ما أنفقوا من المهر.

 

 

 و فسرت الآية بوجوه أخرى بعيدة عن الفهم أغمضنا عنها.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أمر بالتقوى، و توصيفه تعالى بالموصول و الصلة لتعليل الحكم فإن من مقتضى الإيمان بالله تقواه.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ إلخ، تتضمن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و قد شرطت عليهن في ﴿عَلىَ أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ﴾ إلخ، أمورا منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال و النساء كالتحرز من الشرك و من معصية الرسول في معروف و منها ما هو أمس بهن من حيث إن تدبير المنزل بحسب الطبع إليهن و هن السبيل إلى حفظ عفة البيت و الحصول على الأنسال و طهارة مواليدهم، و هي التجنب من السرقة و الزنا و قتل الأولاد و إلحاق غير أولاد أزواجهن بهم، و إن كانت هذه الأمور بوجه من المشتركات.

فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ اَلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ شرط جوابه قوله: ﴿فَبَايِعْهُنَّ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اَللَّهَ.

و قوله: ﴿عَلى‏ أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي من الأصنام و الأوثان و الأرباب، و هذا شرط لا غنى عنه لإنسان في حال.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَسْرِقْنَ أي لا من أزواجهن و لا من غيرهم و خاصة من أزواجهن كما يفيده السياق، و قوله: ﴿وَ لاَ يَزْنِينَ أي باتخاذ الأخدان و غير ذلك و قوله: ﴿وَ لاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ بالوأد و غيره و إسقاط الأجنة.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ و ذلك بأن يحملن من الزنا ثم يضعنه و ينسبنه إلى أزواجهن فإلحاقهن الولد كذلك بأزواجهن و نسبته إليهم كذبا بهتان يفترينه بين أيديهن و أرجلهن لأن الولد إذا وضعته أمه سقط بين يديها و رجليها، و لا يغني عن هذا الشرط شرط الاجتناب عن الزنا لأنهما متغايران و كل مستقل بالنهي و التحريم.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ نسب المعصية إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون الله مع أنها تنتهي إليه تعالى لأن المراد أن لا يتخلفن بالمعصية عن السنة التي يستنها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ينفذها في المجتمع الإسلامي فيكون ما سنه هو المعروف عند المسلمين و في المجتمع الإسلامي.

 

 

 و من هنا يظهر أن المعصية في المعروف أعم من ترك المعروف كترك الصلاة و الزكاة و فعل المنكر كتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى.

و في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بيان لمقتضى المغفرة و تقوية للرجاء.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ إلخ، المراد بهم اليهود المغضوب عليهم و قد تكرر في كلامه تعالى فيهم ﴿وَ بَاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ: البقرة:

 ٦١، و يشهد بذلك ذيل الآية فإن الظاهر أن المراد بالقوم غير الكفار.

و قوله: ﴿يَئِسُوا مِنَ اَلْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ اَلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ اَلْقُبُورِ المراد بالآخرة ثوابها، و المراد بالكفار الكافرون بالله المنكرون للبعث، و قيل: المراد مشركو مكة و اللام للعهد، و ﴿مِنَ في ﴿مِنْ أَصْحَابِ اَلْقُبُورِ لابتداء الغاية.

و الجملة بيان لشقائهم الخالد و هلاكهم المؤبد ليحذر المؤمنون من موالاتهم و موادتهم و الاختلاط بهم و المعنى: قد يئس اليهود من ثواب الآخرة كما يئس منكرو البعث من الموتى المدفونين في القبور.

و قيل: المراد بالكفار الذين يدفنون الموتى و يوارونهم في الأرض - من الكفر بمعنى الستر .

و قيل: المراد بهم كفار الموتى و ﴿مِنَ بيانية و المعنى: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار المدفونون في القبور منه لقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللَّهِ: البقرة: ١٦١.

(بحث روائي)

 في المجمع، عن ابن عباس :صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالحديبية مشركي مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده عليهم، و من أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو لهم و لم يردوه عليه و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه.

فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم و قال مقاتل: هو صيفي بن الراهب في طلبها و كان كافرا فقال: يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا

 

 

[1]  جمع غار.

[2]  الأنفال: ٥٣.

[3]  تليا، ظ.

[4]  موضع في طريق مكة.

[5]  الظعينة: المسافرة.

[6]  الآية ٤٥-٤٦ من سورة الأحزاب.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22380693

  • التاريخ : 13/03/2025 - 17:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net