يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ٤٤ سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ ٤٥ بَلِ اَلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ اَلسَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ ٤٦ إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ ٤٧ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ٤٨ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ٤٩ وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ٥٠ وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٥١ وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ ٥٢ وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ٥٣ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ ٥٤ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ٥٥﴾
(بيان)
الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر و هي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن كفاركم ليسوا خيرا من أولئك الأمم الطاغية الجبارة و قد أهلكهم الله على أذل وجه و أهونه و لا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، و لا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب. ثم تنعطف إلى ما مر من نبأ الساعة بأنها موعدهم الصعب أن أجرموا و كذبوا و الساعة أدهى و أمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ و عند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: ﴿أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ﴾ الظاهر أنه خطاب لقوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من مسلم و كافر على ما تشعر به الإضافة في ﴿كُفَّارُكُمْ﴾ و الخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا و زخارف حياتها كالمال و البنين أو من جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء
و الشجاعة و الشفقة على الضعفاء، و الإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون، و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.
و يمكن أن يكون خطاب ﴿أَ كُفَّارُكُمْ﴾ لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيهم كفار و هم هم.
و قوله: ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ﴾ ظاهره أيضا عموم الخطاب، و الزبر جمع زبور و هو الكتاب، و قد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، و المعنى: بل أ لكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب و المؤاخذة و إن كفرتم و أجرمتم و اقترفتم ما شئتم من الذنوب.
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ الجميع المجموع و المراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة و العمل، و الانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة:
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾: الصافات: ٢٥، و المعنى: بل أ يقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.
قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ﴾ اللام في ﴿اَلْجَمْعُ﴾ للعهد الذكري و في ﴿اَلدُّبُرَ﴾ للجنس، و تولي الدبر الإدبار، و المعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجحون به و يولون الأدبار و يفرون.
و في الآية إخبار عن مغلوبية و انهزام لجمعهم، و دلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، و قد وقع ذلك في غزاة بدر، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: ﴿بَلِ اَلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ اَلسَّاعَةُ أَدْهىَ وَ أَمَرُّ﴾ ﴿أَدْهىَ﴾ اسم تفضيل من الدهاء و هو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و ﴿أَمَرُّ﴾ اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، و في الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام و العذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة و قد أشير إلى نبئها في أول الأنباء الزاجرة، و الكلام يفيد الترقي.
و المعنى: و ليس الانهزام و العذاب الدنيوي مقام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبئها هي موعدهم و الساعة أدهى من كل داهية و أمر من كل مر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ﴾ جمع سعير و هي النار المسعرة و في الآية تعليل لما قبلها من قوله: ﴿وَ اَلسَّاعَةُ أَدْهىَ وَ أَمَرُّ﴾، و المعنى: إنما كانت الساعة أدهى و أمر لهم لأنهم مجرمون و المجرمون في ضلال عن موطن السعادة و هو الجنة و نيران مسعرة.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنَّارِ عَلىَ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ السحب جر الإنسان على وجهه، و ﴿يَوْمَ﴾ ظرف لقوله: ﴿فِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ﴾، و ﴿سَقَرَ﴾ من أسماء جهنم و مسها هو إصابتها لهم بحرها و عذابها.
و المعنى: كونهم في ضلال و سعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم:
ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها و عذابها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ منصوب بفعل مقدر يدل عليه ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ و التقدير خلقنا كل شيء خلقناه، و ﴿بِقَدَرٍ﴾ متعلق بقوله: ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ و الباء للمصاحبة، و المعنى: أنا خلقنا كل شيء مصاحبا لقدر.
و قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه و الحد و الهندسة التي لا يتجاوزه في شيء من جانبي الزيادة و النقيصة، قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾: الحجر: ٢١، فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطاه.
و الآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل:
لما ذا جوزي المجرمون بالضلال و السعر يوم القيامة و أذيقوا مس سقر؟ فأجيب بقوله:
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ و محصله أن لكل شيء قدرا و من القدر في الإنسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، و قدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا و الآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة و دخل الجنة و جاور ربه، و من ردها و أجرم فهو في ضلال و سعر.
و من الخطإ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ و معنى الجواب: أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار؟ و معنى الجواب: أن
الله يدخلهم النار و ذلك مصادرة بينة.
و ذلك لأن بين فعلنا و بين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين و الأصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي و الوجود العيني، و هي الحاكمة علينا في إرادتنا و أفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع و الري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الأكل يفيد الشبع و الشرب يفيد الري و هو الجواب لو سئلنا عن الفعل.
و بالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية و الضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، و أما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، و الأصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٣، و قال: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾: الحج: ١٨، و قال:
﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: آل عمران: ٦٠.
فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، و لا بمعنى السؤال عن الأصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الأصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.
نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه:
أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الأسباب و المسببات كما في قوله تعالى: ﴿وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارىَ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾: المائدة: ٨٢، و قال: ﴿وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ ﴾ إلى أن قال ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ﴾: البقرة: ٦١.
الثاني: تعليل فعله تعالى بشيء من أسمائه و صفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ ﴿وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ﴾ إلى غير ذلك و هو شائع في القرآن الكريم، و إذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته و اسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللَّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ﴾: العنكبوت: ٦٠، يعلل قضاء حاجة الدواب
و الإنسان إلى الرزق المسئول بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي أنه خلق كل شيء و الحال أن مسائلهم مسموعة له و أحوالهم معلومة عنده و هما صفتا فعله العام، و قوله: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ﴾: البقرة: ٣٧، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة و الرحمة.
الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام و مرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله:
﴿إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ ﴾ إلى أن قال ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ فإن القدر و هو كون الشيء محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شيء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام و بيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الإنسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب و دخل النار يوم القيامة، و كقوله: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾: مريم:
٧١، يعلل الورود بالقضاء و هو فعل له عام و الورود خاص بالنسبة إليه.
فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة و العلة علة للإثبات لا للثبوت، و ليس من المصادرة في شيء.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ قال في المجمع،: اللمح النظر بالعجلة و هو خطف البصر. انتهى.
و المراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه الأمر التكويني بإرادة وجود الشيء، قال تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: يس: ٨٢ فهو كلمة كن و لعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل: ﴿إِلاَّ وَاحِدَةٌ﴾.
و الذي يفيده السياق أن المراد بكون الأمر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه و تحقق متعلقه إلى تعدد و تكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن و مهل حتى يحتاج إلى الأمر ثانيا و ثالثا.
و تشبيه الأمر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لإفادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لإفادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان و لو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى و هو إيجاده و إرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان و لا مكان و لا حركة كيف لا؟ و نفس الزمان و المكان و الحركة إنما تحققت بأمره تعالى.
و الآية و إن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الأشياء و أن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر و إن كان من حيث إنه وجود لشيء كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا.
إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة و أن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة و تجديد الخلق بالبعث و النشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
فيكون مفاد الآية الأولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة و لا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهية لأنه من القدر، و مفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الإرادة و تحقق متعلقها لا مئونة فيه عليه سبحانه لأنه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ الأشياع جمع شيعة و المراد كما قيل الأشباه و الأمثال في الكفر و تكذيب الأنبياء من الأمم الماضية.
و المراد بالآية و الآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.
و محصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا و عذاب الساعة مجرد خبر أخبرناكم به و لا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الأمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم و هو عذابهم في الدنيا و سيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها و نجازيهم بما عملوا.
قوله تعالى: ﴿وَ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ الزبر كتب الأعمال و تفسيره باللوح المحفوظ سخيف، و المراد بالصغير و الكبير صغير الأعمال و كبيرها على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ﴾ أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف و نهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، و قيل: النهر بمعنى السعة.
قوله تعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، و ليس من إشباع كسر لام الملك، و المقتدر القادر العظيم القدرة و هو الله سبحانه.
و المراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم و عملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما و يمكن أن يراد به كون مقامهم و ما لهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، و قرب لا بعد معه، و نعمة لا نقمة معها، و سرور لا غم معه، و بقاء لا فناء معه.
و يمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير و وعد جميل للمتقين، و على هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين و المجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب و الضلال و قرر ذلك بأنه من القدر و لن يتخلف، و وعد المتقون بالثواب و الحضور عند ربهم المليك المقتدر و قرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.
(بحث روائي)
في كمال الدين، بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرقى أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر.
و قال: إن القدرية مجوس هذه الأمة و هم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه و فيهم نزلت هذه الآية: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر و هم المعتزلة القائلون بالتفويض، و قوله: إنهم مجوس هذه الأمة ذلك لقولهم: إن خالق الأفعال الاختيارية هو الإنسان و الله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير و خالق الشر.
و قوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، و ذلك أنهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.
و قوله: و فيهم نزلت هذه الآية، إلخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول و موردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، و في نزول الآيات فيهم روايات أخرى مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ، و من طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس و ابن عمر و محمد بن كعب و غيرهم.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن لكل أمة مجوسا و إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر. الخبر.
أقول: و رواه في ثواب الأعمال، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) و لفظه: لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.
و فيه، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): النهر الفضاء و السعة ليس بنهر جار.
و فيه، أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يا أبا دجانة أ ما علمت أن من أحبنا و ابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾. و في روح المعاني،: في قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ الآية،:
و قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
(كلام في القدر)
القدر و هو هندسة الشيء و حد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾: الحجر: ٢١، و ظاهره أن القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، و أما نفس الخزائن و هي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الإنزال و الإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ﴾: الحديد: ٢٥، و قوله: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾: الزمر: ٦.
و يؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض و الطول و سائر الحدود و الخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن، عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتدأ الفعل.
قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.
و روي هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا (عليه السلام) في خبر مفصل و فيه: فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء. الخبر.
و من هنا يظهر أن المراد بكل شيء في قوله: ﴿وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾: الفرقان: ٣، و قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾: القمر: ٤٩، و قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: الرعد: ٨، و قوله: ﴿اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ﴾: طه: ٥٠، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق و التركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله و هي تحديد أصل الوجود بالإمكان و الحاجة و هذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً﴾: النساء: ١٢٦.
و مرتبة تخص عالمنا المشهود و هي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها و آثار وجودها و خصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود و الآثار بأمور خارجة من العلل و الشرائط فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل و خارج تعين لها من العرض و الطول و الشكل و الهيئة و سائر الأحوال و الأفعال ما يناسبها.
فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها، قال تعالى:
﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾: الأعلى: ٣، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء، و في معناه قوله في الإنسان: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾: عبس: ٢٠، و يشير بقوله: ﴿ثُمَّ اَلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية أفعاله الاختيارية.
و هذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾: الرعد: ٤١، فربما قدر و لم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل و الشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ﴾: الرعد: ٣٩، و قال: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾: البقرة: ١٠٦، و ربما قدر و تبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله و شرائطه و ارتفاع موانعه.
و إلى ذلك يشير قوله (عليه السلام) في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له، و قريب منه ما في عدة من أخبار القضاء و القدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف و أما القضاء فلا يرد.
و عن علي (عليه السلام) بطرق مختلفة كما في التوحيد، بإسناده عن ابن نباتة: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخرفقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.
و أما النوع الأول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه و حاجته فحسب فالقدر و القضاء فيه واحد و لا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.
و البحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الأمور التي لها علل مركبة من فاعل و مادة و شرائط و معدات و موانع فإن لكل منها تأثيرا في الشيء بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشيء فيأخذ لنفسه هيئة قالبة و خصوصيته و هذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، و هذه هي القضاء الذي لا مرد له، و قد تقدم في تفسير أول سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.
(٥٥) (سورة الرحمن مكية أو مدنية و هي ثمان و سبعون آية) (٧٨)
[سورة الرحمن (٥٥): الآیات ١ الی ٣٠]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلرَّحْمَنُ ١ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ ٢ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ ٣ عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ ٤ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ٥ وَ اَلنَّجْمُ وَ اَلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ٦ وَ اَلسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ اَلْمِيزَانَ ٧ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي اَلْمِيزَانِ ٨ وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تُخْسِرُوا اَلْمِيزَانَ ٩ وَ اَلْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ١٠ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ اَلنَّخْلُ ذَاتُ اَلْأَكْمَامِ ١١ وَ اَلْحَبُّ ذُو اَلْعَصْفِ وَ اَلرَّيْحَانُ ١٢ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٣ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ١٤ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ١٥ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ ١٦ رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ ١٧ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٨ مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ١٩ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ٢٠ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢١ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجَانُ ٢٢ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٣ وَ لَهُ اَلْجَوَارِ اَلْمُنْشَآتُ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاَمِ ٢٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٥ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٢٦ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ ٢٧ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٢٨ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ٢٩ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٠﴾
(بيان)
تتضمن السورة الإشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء و أرض و بر و بحر و إنس و جن و نظم أجزائه نظما ينتفع به الثقلان الإنس و الجن في حياتهما و ينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، و نشأة أخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء و النعمة من النقمة.
و بذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها و آخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الأجزاء مرتبط الأبعاض قويم الأركان يصلح بعضه ببعض و يتم شطر منه بشطر.
فما فيه من عين و أثر، من نعمه تعالى و آلائه، و لذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاما مشوبا بعتاب بقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ فقد كررت الآية في السورة إحدى و ثلاثين مرة.
و لذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن و الكافر و الدنيا و الآخرة و اختتمت بالثناء عليه بقوله: ﴿تَبَارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾.
و السورة يحتمل كونها مكية أو مدنية و إن كان سياقها بالسياق المكي أشبه و هي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه،
و في المجمع، عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لكل شيء عروس و عروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره،: و رواه في الدر المنثور، عن البيهقي عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ﴾ الرحمن كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم و لذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن و الكافر من نعم الدنيا و ما يناله المؤمن من نعم الآخرة، و لعمومه ناسب أن يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية و الأخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الإنس و الجن.
ذكروا أن الرحمن من الأسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم و الراحم.
و قوله: ﴿عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ﴾ شروع في عد النعم الإلهية، و لما كان القرآن أعظم النعم قدرا و شأنا و أرفعها مكانا - لأنه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم و يتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل و نهاية ما يسأله سائل - قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الإنس و الجن اللذين نزل القرآن لأجل تعليمهما.
و حذف مفعول ﴿عَلَّمَ﴾ الأول و هو الإنسان أو الإنس و الجن و التقدير علم الإنسان القرآن أو علم الإنس و الجن القرآن، و هذا الاحتمال الثاني و إن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لأن السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالإنس و لو لا شمول التعليم في قوله:
﴿عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ﴾ لهم لم يتم ذلك.
و قيل: المفعول المحذوف محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أو جبرئيل و الأنسب للسياق ما تقدم.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ﴾ ذكر خلق الإنسان و سيذكر خصوصية خلقه بقوله: ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾، و الإنسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات و التأمل فيما
خط له من طريق الكمال في ظاهره و باطنه و دنياه و آخرته، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾: التين: ٦.
و قوله: ﴿عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ﴾ البيان الكشف عن الشيء و المراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، و هو من أعجب النعم و تعليمه للإنسان من عظيم العناية الإلهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت ما باستخدام الرئة و قصبتها و الحلقوم و لا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.
بل يجعل الإنسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الأصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع و إدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود و إن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الإنسان بفكره و لا سبيل للحس إليها يحضرها جميعا لسامعه و يمثلها لحسه كأنه يشخصها له بأعيانها.
و لا يتم للإنسان اجتماعه المدني و لا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام و فتحه بذلك باب التفهيم و التفهم، و لو لا ذلك لكان هو و الحيوان العجم سواء في جمود الحياة و ركودها.
و من أقوى الدليل على أن اهتداء الإنسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الأمم و الطوائف في الخصائص الروحية و الأخلاق النفسانية و بحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها، قال تعالى: ﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ﴾: الروم: ٢٢.
و ليس المراد بقوله: ﴿عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ﴾ أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الإنسان بالوحي إلى نبي من الأنبياء أو بالإلهام فإن الإنسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم و التفهم بالإشارات و الأصوات و هو التكلم و النطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك.
على أن فعله تعالى هو التكوين و الإيجاد و الرابطة بين اللفظ و معناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الإنسان و فطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقي اللفظ إلى سامعه فكأنما
يلقى إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الأشكال المخصوصة علائم للألفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام، و هو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى.
و بالجملة البيان من أعظم النعم و الآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الإنسان موقفه الإنساني و تهديه إلى كل خير.
هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، و لهم في معناهما أقوال: فقيل: الإنسان هو آدم (عليه السلام) و البيان الأسماء التي علمه الله إياها، و قيل: الإنسان محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و البيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، و قيل: البيان الخير و الشر علمهما الإنسان، و قيل: سبيل الهدى و سبيل الضلال إلى غير ذلك و هي أقوال بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: ﴿اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ الحسبان مصدر بمعنى الحساب، و الشمس مبتدأ و القمر معطوف عليه، و بحسبان خبره، و الجملة خبر بعد خبر لقوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ﴾ و التقدير الشمس و القمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّجْمُ وَ اَلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات و يطلع من الأرض و لا ساق له، و الشجر ما له ساق من النبات، و هو معنى حسن يؤيده الجمع و القرن بين النجم و الشجر و إن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس و القمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.
و سجود النجم و الشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء و النمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، و أدق منه أنهما يضربان في التراب بأصولهما و أعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها و هذا السقوط على الأرض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما و هو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك سجود منهما له تعالى.
و الكلام في إعراب قوله: ﴿وَ اَلنَّجْمُ وَ اَلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ و هو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله: ﴿اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ و التقدير و النجم و الشجر يسجدان له.
قال في الكشاف،: فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن يعني قوله:
﴿اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ ﴾إلى قوله ﴿يَسْجُدَانِ﴾؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه و السجود له لا لغيره.
و قال في وجه إخلاء الآيات السابقة ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيَانَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الأول واردة على سنن التعديد ليكون كل
واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمن و آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.
ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يحب وصله للتناسب و التقارب بالعاطف فقيل: ﴿وَ اَلنَّجْمُ وَ اَلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَ اَلسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ إلخ، انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ اَلْمِيزَانَ﴾ المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها و إن كان ما في جهة العلو من الأجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الأرض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾: الأنبياء: ٣٠، و الرفع على أي حال رفع حسي.
و إن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام و مصادر الأمر الإلهي و الوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي و المعنوي.
و قوله: ﴿وَ وَضَعَ اَلْمِيزَانَ﴾ المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشيء أعم من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا و من مصاديقه الميزان الذي يوزن به الأثقال، قال تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْمِيزَانَ لِيَقُومَ اَلنَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾: الحديد: ٢٥.
فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل و الصدق من الكذب و العدل من الظلم و الفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.
و قيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الأشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.
و قيل: المراد الميزان الذي يوزن به الأثقال و المعنى الأول أوسع و أشمل.
قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا فِي اَلْمِيزَانِ وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تُخْسِرُوا اَلْمِيزَانَ﴾ الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف و هو ميزان الأثقال، فقوله: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا﴾ إلخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضا ميزان الأثقال، و هو بيان وضع الميزان، و المعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الأثقال و لا تطغوا فيه.
و على تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي، و المعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا الأثقال بالقسط و لا تطغوا فيه.
و على أي حال الظاهر أن «إن» في قوله: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا﴾ تفسيرية، و «لا تطغوا» نهي عن الطغيان في الميزان و ﴿أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ﴾ أمر معطوف عليه، و القسط العدل و ﴿لاَ تُخْسِرُوا اَلْمِيزَانَ﴾ نهي آخر مبين لقوله: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا﴾ إلخ، و مؤكد له. و الإخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.
و أما جعل ﴿اَلْمِيزَانِ﴾ ناصبة و ﴿أَلاَّ تَطْغَوْا﴾ نفيا، و التقدير: لئلا تطغوا، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الإنشاء على الإخبار في قوله: ﴿وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ الأنام الناس، و قيل: الإنس و الجن، و قيل:
كل ما يدب على الأرض، و في التعبير في الأرض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ اَلنَّخْلُ ذَاتُ اَلْأَكْمَامِ﴾ المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، و الأكمام جمع كم بضم الكاف و كسرها وعاء التمر و هو الطلع، و أما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْحَبُّ ذُو اَلْعَصْفِ وَ اَلرَّيْحَانُ﴾ معطوف على قوله: ﴿فَاكِهَةٌ﴾ أي و فيها الحب و الريحان، و الحب ما يقتات به كالحنطة و الشعير و الأرز، و العصف ما هو كالغلاف للحب و هو قشره، و فسر بورق الزرع مطلقا و بورق الزرع اليابس، و الريحان النبات الطيب الرائحة.
قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.
و الخطاب في الآية لعامة الثقلين: الجن و الإنس و يدل على ذلك توجيه الخطاب إليهما صريحا فيما سيأتي من قوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ﴾ و قوله: ﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ﴾ إلخ، و قوله: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ﴾ إلخ، فلا يصغي إلى قول من قال: إن الخطاب في الآية للذكر و الأنثى من بني آدم، و لا إلى قول من قال: إنه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين و يفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.
و توجيه الخطاب إلى عالمي الجن و الإنس هو المصحح لعد ما سنذكره من شدائد يوم
القيامة و عقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه و نعمه تعالى، فإن سوق المسيئين و أهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم و مجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل و إن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم و هم المجرمون و هذا نظير ما نجده في السنن و القوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي و الفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع و بقاؤه و ليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل و الأجر الحسن كذلك.
فما في النار من عذاب و عقاب لأهلها و ما في الجنة من كرامة و ثواب آلاء و نعم على معشر الجن و الإنس كما أن الشمس و القمر و السماء المرفوعة و الأرض الموضوعة و النجم و الشجر و غيرها آلاء و نعم على أهل الدنيا.
و يظهر من الآية أن للجن تنعما في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للإنس و إلا لم يصح إشراكهم مع الإنس في التوبيخ.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطأ، و الفخار الخزف.
و المراد بالإنسان نوعه و المراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، و قيل:
المراد بالإنسان آدم (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ المارج هو اللهب الخالص من النار، و قيل: اللهب المختلط بسواد، و الكلام في الجان كالكلام في الإنسان فالمراد به نوع الجن، و عدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، و قيل: المراد بالجان أبو الجن.
قوله تعالى: ﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ﴾ المراد بالمشرقين مشرق الصيف و مشرق الشتاء، و بذلك تحصل الفصول الأربعة و تنتظم الأرزاق، و قيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس و القمر و بالمغربين مغرباهما.
قوله تعالى: ﴿مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾ المرج الخلط و المرج الإرسال، يقال: مرجه أي خلطه و مرجه أي أرسله و المعنى الأول أظهر، و الظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات و الملح الأجاج، قال تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا﴾: فاطر: ١٢.
و أمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة، و غير المحيطة و البحر العذب المدخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها فتجري العيون و الأنهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، و لا يزالان يلتقيان، و بينهما حاجز و هو نفس المخازن الأرضية و المجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه و يبدله بحرا مالحا و تبطل بذلك الحياة، و يحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء و غيره.
و لا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالأمطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الأرض و تدخرها المخازن الأرضية و البحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.
فمعنى الآيتين - و الله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات و الملح الأجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة و الملوحة فيختل نظام الحياة و البقاء.
قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجَانُ﴾ أي من البحرين العذب و المالح جميعا و ذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الإنسان، و قد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى:
﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ﴾ الآية،: فاطر: ١٢.
قوله تعالى: ﴿وَ لَهُ اَلْجَوَارِ اَلْمُنْشَآتُ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاَمِ﴾ الجواري جمع جارية و هي السفينة، و المنشئات اسم مفعول من الإنشاء و هو إحداث الشيء و تربيته، و الأعلام جمع علم بفتحتين و هو الجبل.
و عد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الإنسان لأن الأسباب العاملة في إنشائها من خشب و حديد و سائر أجزائها التي تتركب منها و الإنسان الذي يركبها و شعوره و فكره و إرادته كل ذلك مخلوق له و مملوك فما ينتجه عملها من ملكه.
فهو تعالى المنعم بها للإنسان ألهمه طريق صنعها و المنافع المترتبة عليها و سبيل الانتفاع بمنافعها الجمة.
قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾ ضمير ﴿عَلَيْهَا﴾ للأرض أي كل ذي شعور و عقل على الأرض سيفنى و فيه تسجيل الزوال و الدثور على الثقلين.
و إنما أتى باللفظ الدال على أولي العقل كل من عليها و لم يقل: كل ما عليها كذلك لأن الكلام مسرود في السورة لتعداد نعمه و آلائه تعالى للثقلين في نشأتيهم الدنيا و الآخرة.
و ظهور قوله: ﴿فَانٍ﴾ في الاستقبال كما يستفاد أيضا من السياق يعطي أن قوله:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ يشير إلى انقطاع أمد النشأة الدنيا و ارتفاع حكمها بفناء من عليها و هم الثقلان و طلوع النشأة الأخرى عليهم، و كلاهما أعني فناء من عليها و طلوع نشأة الجزاء عليهم من النعم و الآلاء لأن الحياة الدنيا حياة مقدمية لغرض الآخرة و الانتقال من المقدمة إلى الغرض و الغاية نعمة.
و بذلك يندفع قول من قال: أي نعمة في الفناء حتى يجعل من النعم و يعد من الآلاء.
و محصل الجواب أن حقيقة هذا الفناء الرجوع إلى الله بالانتقال من الدنيا كما تفسره آيات كثيرة في كلامه تعالى و ليس هو الفناء المطلق.
و قوله: ﴿وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ﴾ وجه الشيء ما يستقبل به غيره و يقصده به غيره، و هو فيه سبحانه صفاته الكريمة التي تتوسط بينه و بين خلقه فتنزل بها عليهم البركات من خلق و تدبير كالعلم و القدرة و السمع و البصر و الرحمة و المغفرة و الرزق و قد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام مبسوط في كون أسمائه و صفاته تعالى وسائط بينه و بين خلقه.
و قوله: ﴿ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾ في الجلال شيء من معنى الاعتلاء و الترفع المعنوي على الغير فيناسب من الصفات ما فيه شائبة الدفع و المنع كالعلو و التعالي و العظمة و الكبرياء و التكبر و الإحاطة و العزة و الغلبة.
و يبقى للإكرام من المعنى ما فيه نعت البهاء و الحسن الذي يجذب الغير و يولهه كالعلم و القدرة و الحياة و الرحمة و الجود و الجمال و الحسن و نحوها و تسمى صفات الجمال كما تسمى القسم الأول صفات الجلال و تسمى الأسماء أيضا على حسب ما فيها من صفات الجمال أو الجلال بأسماء الجمال أو الجلال.
فذو الجلال و الإكرام اسم من الأسماء الحسنى جامع بمفهومه بين أسماء الجمال و أسماء الجلال جميعا.
و المسمى به بالحقيقة هو الذات المقدسة كما في قوله في آخر السورة: ﴿تَبَارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾ لكن أجرى في هذه الآية ﴿وَ يَبْقىَ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ ﴾
على الوجه، و هو إما لكونه وصفا مقطوعا عن الوصفية للمدح، و التقدير هو ذو الجلال و الإكرام، و إما لأن المراد بالوجه كما تقدم هو صفته الكريمة و اسمه المقدس و إجراء الاسم على الاسم مآله إلى إجراء الاسم على الذات.
و معنى الآية على تقدير أن يراد بالوجه ما يستقبل به الشيء غيره و هو الاسم و من المعلوم أن بقاء الاسم[1] فرع بقاء المسمى : و يبقى ربك عز اسمه بما له من الجلال و الإكرام من غير أن يؤثر فناؤهم فيه أثرا أو يغير منه شيئا.
و على تقدير أن يراد بالوجه ما يقصده به غيره و مصداقه كل ما ينتسب إليه تعالى فيكون مقصودا بنحو للمتوجه إليه كأنبيائه و أوليائه و دينه و ثوابه و قربه و سائر ما هو من هذا القبيل فالمعنى: و يبقى بعد فناء أهل الدنيا ما هو عنده تعالى و هو من صقعه و ناحيته كأنواع الجزاء و الثواب و القرب منه، قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ ﴾: النحل: ٩٦.
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾: القصص: ٨٨ من الكلام بعض ما لا يخلو من نفع في المقام.
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ سؤالهم سؤال حاجة فهم في حاجة من جميع جهاتهم إليه تعالى متعلقو الوجودات به متمسكون بذيل غناه و جوده، قال تعالى: ﴿أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ﴾: فاطر: ١٥، و قال في هذا المعنى من السؤال: ﴿وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾: إبراهيم: ٣٤.
و قوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ تنكير ﴿شَأْنٍ﴾ للدلالة على التفرق و الاختلاف فالمعنى:
كل يوم هو تعالى في شأن غير ما في سابقه و لاحقه من الشأن فلا يتكرر فعل من أفعاله مرتين و لا يماثل شأن من شئونه شأنا آخر من جميع الجهات و إنما يفعل على غير مثال سابق و هو الإبداع، قال تعالى: ﴿بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾: البقرة: ١١٧.
و معنى ظرفية اليوم إحاطته تعالى في مقام الفعل على الأشياء فهو سبحانه في كل زمان و ليس في زمان و في كل مكان و ليس في مكان و مع كل شيء و لا يداني شيئا.
(بحث روائي)
في الكافي، روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: لما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الجن كانوا أحسن جوابا منكم لما قرأت عليهم ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ قالوا: لا و لا بشيء من آلاء ربنا نكذب.:
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع و صححه عن ابن عمر عنه (ص). و في العيون، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) : فيما سأل الشامي عليا (عليه السلام) و فيه: سأله عن اسم أبي الجن فقال: شؤمان و هو الذي خلق من مارج من نار. و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: و أما قوله: ﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ﴾ فإن مشرق الشتاء على حدة و مشرق الصيف على حدة. أ ما تعرف ذلك من قرب الشمس و بعدها؟:
أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس ":في قوله: ﴿مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ﴾ قال: علي و فاطمة ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾ قال: النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجَانُ﴾ قال: الحسن و الحسين.:
أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، و رواه في مجمع البيان، عن سلمان الفارسي و سعيد بن جبير و سفيان الثوري. و هو من البطن.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ قال من على وجه الأرض ﴿وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ قال: دين ربك،
و قال علي بن الحسين (عليه السلام) : نحن الوجه الذي يؤتى الله منه.
و في مناقب ابن شهرآشوب،: قوله: ﴿وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ قال الصادق (عليه السلام) : نحن وجه الله. أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد تقدم ما يوجه به تفسير الوجه بالدين و بالإمام.
و في الكافي، في خطبة لعلي (عليه السلام) : الحمد لله الذي لا يموت و لا ينقضي عجائبه لأنه كل يوم هو في شأن من إحداث بديع لم يكن.
و في تفسير القمي، :في الآية قال: يحيي و يميت و يزيد و ينقص.
و في المجمع، عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ قال: من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين.:
أقول: و رواه عنه في الدر المنثور، و روي ما في معناه عن ابن عمر عنه (ص) و لفظه: يغفر ذنبا و يفرج كربا.
[سورة الرحمن (٥٥): الآیات ٣١ الی ٧٨]
﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ ٣١ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٢ يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ٣٣ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٤ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَ نُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ ٣٥ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٦ فَإِذَا اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ٣٧ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٣٨ فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاَ جَانٌّ ٣٩ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٠ يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ اَلْأَقْدَامِ ٤١ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٢ هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا اَلْمُجْرِمُونَ ٤٣ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ٤٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٥ وَ لِمَنْ خَافَ﴾
﴿مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ٤٦ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٧ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ٤٨ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٤٩ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ٥٠ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥١ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ٥٢ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٣ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ٥٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٥ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاَ جَانٌّ ٥٦ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٧ كَأَنَّهُنَّ اَلْيَاقُوتُ وَ اَلْمَرْجَانُ ٥٨ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٩ هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ ٦٠ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦١ وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ٦٢ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٣ مُدْهَامَّتَانِ ٦٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٥ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ٦٦ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٧ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ ٦٨ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٦٩ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ٧٠ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧١ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي اَلْخِيَامِ ٧٢ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٣ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاَ جَانٌّ ٧٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٥ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ٧٦
فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٧٧ تَبَارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ ٧٨﴾
(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من آيات السورة يصف نشأة الثقلين الثانية و هي نشأة الرجوع إلى الله و جزاء الأعمال و يعد آلاء الله تعالى عليهم كما كانت الآيات السابقة فصلا أولا يصف النشأة الأولى و يعد آلاء الله فيها عليهم.
قوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ﴾ يقال: فرغ فلان لأمر كذا إذا كان مشتغلا قبلا بأمور ثم تركها و قصر الاشتغال بذاك الأمر اهتماما به.
فمعنى ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ سنطوي بساط النشأة الأولى و نشتغل بكم، و تبين الآيات التالية أن المراد بالاشتغال بهم بعثهم و حسابهم و مجازاتهم بأعمالهم خيرا أو شرا فالفراغ لهم استعارة بالكناية عن تبدل النشأة.
و لا ينافي الفراغ لهم كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فإن الفراغ المذكور ناظر إلى تبدل النشأة و كونه لا يشغله شأن عن شأن ناظر إلى إطلاق القدرة و سعتها كما لا ينافي كونه تعالى كل يوم هو في شأن الناظر إلى اختلاف الشئون كونه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.
و الثقلان الجن و الإنس، و إرجاع ضمير الجمع في ﴿لَكُمْ﴾ و ﴿إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ﴾ و غيرهما إليهما لكونهما جمعا ذا أفراد.
قوله تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾ إلخ، الخطاب على ما يفيده السياق من خطابات يوم القيامة و هو خطاب تعجيزي.
و المراد بالاستطاعة القدرة، و بالنفوذ من الأقطار الفرار، و الأقطار جمع قطر و هو الناحية.
و المعنى: يا معشر الجن و الإنس و قدم الجن لأنهم على الحركات السريعة أقدر إن قدرتم أن تفروا بالنفوذ من نواحي السماوات و الأرض و الخروج من ملك الله و التخلص من مؤاخذته ففروا و انفذوا.
و قوله: ﴿لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ أي لا تقدرون على النفوذ إلا بنوع من السلطة على ذلك و ليس لكم و السلطان القدرة الوجودية، و السلطان البرهان أو مطلق الحجة، و السلطان الملك.
و قيل: المراد بالنفوذ المنفي في الآية النفوذ العلمي في السماوات و الأرض من أقطارهما، و قد عرفت أن السياق لا يلائمه.
قوله تعالى: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَ نُحَاسٌ فَلاَ تَنْتَصِرَانِ﴾ الشواظ على ما ذكره الراغب اللهب الذي لا دخان فيه، و يقرب منه ما في المجمع، أنه اللهب الأخضر المنقطع من النار، و النحاس الدخان و قال الراغب: هو اللهب بلا دخان و المعنى ظاهر.
و قوله: ﴿فَلاَ تَنْتَصِرَانِ﴾ أي لا تتناصران بأن ينصر بعضكم بعضا لرفع البلاء و التخلص عن العناء لسقوط تأثير الأسباب و لا عاصم اليوم من الله.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اِنْشَقَّتِ اَلسَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ أي كانت حمراء كالدهان و هو الأديم الأحمر.
قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاَ جَانٌّ﴾ الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة تصف الحساب و الجزاء تصف حال المجرمين و الخائفين مقام ربهم و ما ينتهي إليه.
ثم الآية تصف سرعة الحساب و قد قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ﴾: النور: ٣٩.
و المراد بيومئذ يوم القيامة، و السؤال المنفي هو النحو المألوف من السؤال، و لا ينافي نفي السؤال في هذه الآية إثباته في قوله: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾: الصافات: ٢٤ و قوله: ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾: الحجر: ٩٢، لأن اليوم ذو مواقف مختلفة يسأل في بعضها، و يختم على الأفواه في بعضها و تكلم الأعضاء، و يعرف بالسيماء في بعضها.
قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ اَلْأَقْدَامِ﴾ في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإذا لم يسألوا عن ذنبهم فما يصنع بهم؟ فأجيب بأنه يعرف المجرمون بسيماهم إلخ، و لذا فصلت الجملة و لم يعطف، و المراد بسيماهم علامتهم البارزة في وجوههم.
و قوله: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ اَلْأَقْدَامِ﴾ الكلام متفرع على المعرفة المذكورة، و النواصي
جمع ناصية و هي شعر مقدم الرأس، و الأقدام جمع قدم، و قوله: ﴿بِالنَّوَاصِي﴾ نائب فاعل يؤخذ.
و المعنى: لا يسأل أحد عن ذنبه يعرف المجرمون بعلامتهم الظاهرة في وجوههم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام من المجرمين فيلقون في النار.
قوله تعالى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا اَلْمُجْرِمُونَ ﴾ إلى قوله ﴿ آنٍ﴾ مقول قول مقدر أي يقال يومئذ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، و قال الطبرسي: و يمكن أنه لما أخبر الله سبحانه أنهم يؤخذون بالنواصي و الأقدام قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم): هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون من قومك فسيردونها فليهن عليك أمرهم. انتهى.
و الحميم الماء الحار، و الآني الذي انتهت حرارته و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ شروع في وصف حال السعداء من الخائفين مقام ربهم، و المقام مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى فاعله، و المراد قيامه تعالى عليه بعمله و هو إحاطته تعالى و علمه بما عمله و حفظه له و جزاؤه عليه قال تعالى:
﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾: الرعد: ٣٣.
و يمكن أن يكون المقام اسم مكان و الإضافة لامية و المراد به مقامه و موقفه تعالى من عبده و هو أنه تعالى ربه الذي يدبر أمره و من تدبير أمره أنه دعاه بلسان رسله إلى الإيمان و العمل الصالح و قضى أن يجازيه على ما عمل خيرا أو شرا هذا و هو محيط به و هو معه سميع بما يقول بصير بما يعمل لطيف خبير.
و الخوف من الله تعالى ربما كان خوفا من عقابه تعالى على الكفر به و معصيته، و لازمه أن يكون عبادة من يعبده خوفا بهذا المعنى يراد بها التخلص من العقاب لا لوجه الله محضا و هو عبادة العبيد يعبدون مواليهم خوفا من السياسة كما أن عبادة من يعبده طمعا في الثواب غايتها الفوز بما تشتهيه النفس دون وجهه الكريم و هي عبادة التجار كما في الروايات و قد تقدم شطر منها.
و الخوف المذكور في الآية ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ ظاهره غير هذا الخوف فإن هذا خوف من العقاب و هو غير الخوف من قيامه تعالى على عبده بما عمل أو الخوف من مقامه تعالى من عبده فهو تأثر خاص ممن ليس له إلا الصغار و الحقارة تجاه ساحة العظمة و الكبرياء، و ظهور أثر المذلة و الهوان و الاندكاك قبال العزة و الجبروت المطلقين.
و عبادته تعالى خوفا منه بهذا المعنى من الخوف خضوع له تعالى لأنه الله ذو الجلال و الإكرام لا لخوف من عقابه و لا طمعا في ثوابه بل فيه إخلاص العمل لوجهه الكريم، و هذا المعنى من الخوف هو الذي وصف الله به المكرمين من ملائكته و هم معصومون آمنون من عقاب المخالفة و تبعة المعصية قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾: النحل: ٥٠.
فتبين مما تقدم أن الذين أشار إليهم بقوله: ﴿وَ لِمَنْ خَافَ﴾ أهل الإخلاص الخاضعون لجلاله تعالى العابدون له لأنه الله عز اسمه لا خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه، و لا يبعد أن يكونوا هم الذين سموا سابقين في قوله: ﴿وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ إلى أن قال ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾: الواقعة: ١١.
و قوله: ﴿جَنَّتَانِ﴾ قيل: إحداهما منزله و محل زيارة أحبابه له و الأخرى منزل أزواجه و خدمه، و قيل: بستانان بستان داخل قصره و بستان خارجه، و قيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر ليكمل به التذاذه، و قيل: جنة لعقيدته و جنة لعمله، و قيل: جنة لفعل الطاعات و جنة لترك المعاصي، و قيل: جنة جسمانية و جنة روحانية و هذه الأقوال كما ترى لا دليل على شيء منها.
و قيل: جنة يثاب بها و جنة يتفضل بها عليه، و يمكن أن يستشعر ذلك من قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾: ق: ٣٥، على ما مر في تفسيره.
قوله تعالى: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ ذواتا تثنية ذات، و ﴿أَفْنَانٍ﴾ إما جمع فن بمعنى النوع و المعنى: ذواتا أنواع من الثمار و نحوها، و إما جمع فنن بمعنى الغصن الرطب اللين و المعنى:
ذواتا أغصان لينة أشجارهما.
قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ و قد أبهمت العينان و فيه دلالة على فخامة أمرهما.
قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ أي صنفان قيل: صنف معروف لهم شاهدوه في الدنيا و صنف غير معروف لم يروه في الدنيا، و قيل: غير ذلك، و لا دلالة في الكلام على شيء من ذلك.
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ إلخ، الفرش جمع فراش، و البطائن جمع بطانة و هي داخل الشيء و جوفه مقابل الظهائر جمع ظهارة، و الإستبرق الحرير الغليظ قال في المجمع،: ذكر البطانة و لم يذكر الظهارة لأن البطانة تدل على أن لها ظهارة و البطانة دون الظهارة فدل على أن الظهارة فوق الإستبرق، انتهى.
و قوله: ﴿وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ الجنى الثمر المجتنى و ﴿دَانٍ﴾ اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب أي ما يجتنى من ثمار الجنتين قريب.
قوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ﴾ إلى آخر الآية ضمير ﴿فِيهِنَّ﴾ للفرش و جوز أن يرجع إلى الجنان فإنها جنان لكل واحد من أولياء الله منها جنتان، و الطرف جفن العين، و المراد بقصور الطرف اكتفاؤهن بأزواجهن فلا يردن غيرهم.
و قوله: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاَ جَانٌّ﴾ الطمث الافتضاض و النكاح بالتدمية، و المعنى: لم يمسسهن بالنكاح إنس و لا جان قبل أزواجهن.
قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ اَلْيَاقُوتُ وَ اَلْمَرْجَانُ﴾ أي في صفاء اللون و البهاء و التلالؤ.
قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ﴾ استفهام إنكاري في مقام التعليل لما ذكر من إحسانه تعالى عليهم بالجنتين و ما فيهما من أنواع النعم و الآلاء فيفيد أنه تعالى يحسن إليهم هذا الإحسان جزاء لإحسانهم بالخوف من مقام ربهم.
و تفيد الآية أن ما أوتوه من الجنة و نعيمها جزاء لأعمالهم و أما ما يستفاد من بعض الآيات أنهم يعطون فضلا وراء جزاء أعمالهم فلا تعرض في هذه الآيات لذلك إلا أن يقال:
الإحسان إنما يتم إذا كان يربو على ما أحسن به المحسن إليه فإطلاق الإحسان في قوله: ﴿إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ﴾ يفيد الزيادة.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ ضمير التثنية للجنتين الموصوفتين في الآيات السابقة و معنى. ﴿مِنْ دُونِهِمَا﴾ أي أنزل درجة و أحط فضلا و شرفا منهما و إن كانتا شبيهتين بالجنتين السابقتين في نعمهما و آلائهما، و قد تقدم أن الجنتين السابقتين لأهل الإخلاص الخائفين مقام ربهم فهاتان الجنتان لمن دونهم من المؤمنين العابدين لله سبحانه خوفا من النار أو طمعا في الجنة و هم أصحاب اليمين.
و قيل: معنى ﴿مِنْ دُونِهِمَا﴾ بالقرب منهما، و يستفاد من السياق حينئذ أن هاتين الجنتين أيضا لأهل الجنتين المذكورتين قبلا بل ادعى بعضهم أن هاتين الجنتين أفضل من السابقتين و الصفات المذكورة فيهما أمدح.
و أنت بالتدبر فيما قدمناه في معنى لمن خاف مقام ربه و ما يستفاد من كلامه تعالى أن أهل الجنة صنفان: المقربون أهل الإخلاص و أصحاب اليمين تعرف قوة الوجه السابق.
قوله تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ الادهيمام من الدهمة اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد و هو ابتهاج الشجرة.
قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ أي فوارتان تخرجان من منبعهما بالدفع.
قوله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ﴾ المراد بالفاكهة و الرمان شجرتهما بقرينة النخل.
قوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ ضمير ﴿فِيهِنَّ﴾ للجنان باعتبار أنها جنتان من هاتين الجنتين، و قيل: مرجع الضمير الجنات الأربع المذكورة في الآيات، و قيل:
الضمير للفاكهة و النخل و الرمان.
و أكثر ما يستعمل الخير في المعاني كما أن أكثر استعمال الحسن في الصور، و على هذا فمعنى خيرات حسان أنهن حسان في أخلاقهن حسان في وجوههن.
قوله تعالى: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي اَلْخِيَامِ﴾ الخيام جمع خيمة و هي الفسطاط، و كونهن مقصورات في الخيام أنهن مصونات غير مبتذلات لا نصيب لغير أزواجهن فيهن.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاَ جَانٌّ﴾ تقدم معناه.
قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ في الصحاح،: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المجالس. انتهى. و قيل: هي الوسائد، و قيل: غير ذلك، و الخضر جمع أخضر صفة لرفرف، و العبقري قيل: الزرابي، و قيل: الطنافس، و قيل: الثياب الموشاة، و قيل: الديباج.
قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾ ثناء جميل له تعالى بما امتلأت النشأتان الدنيا و الآخرة بنعمه و آلائه و بركاته النازلة من عنده برحمته الواسعة، و بذلك يظهر أن المراد باسمه المتبارك هو الرحمن المفتتحة به السورة، و التبارك كثرة الخيرات و البركات الصادرة.
فقوله: ﴿تَبَارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ﴾ تبارك الله المسمى بالرحمن بما أفاض هذه الآلاء.
و قوله: ﴿ذِي اَلْجَلاَلِ وَ اَلْإِكْرَامِ﴾ إشارة إلى تسميه بأسمائه الحسنى و اتصافه بما يدل عليه من المعاني الوصفية و نعوت الجلال و الجمال، و لصفات الفاعل ظهور في أفعاله و أثر فيها يرتبط به الفعل بفاعله فهو تعالى خلق الخلق و نظم النظام لأنه بديع خالق مبدئ فأتقن الفعل لأنه عليم حكيم و جازى أهل الطاعة بالخير لأنه ودود شكور غفور رحيم
و أهل الفسق بالشر لأنه منتقم شديد العقاب.
فتوصيف الرب الذي أثنى على سعة رحمته بذي الجلال و الإكرام للإشارة إلى أن لأسمائه الحسنى و صفاته العليا دخلا في نزول البركات و الخيرات من عنده، و أن نعمه و آلاءه عليها طابع أسمائه الحسنى و صفاته العليا تبارك و تعالى.
(بحث روائي)
في المجمع،: و قد جاء في الخبر: يحاط على الخلق بالملائكة و بلسان من نار ثم ينادون:
﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ ﴾ إلى قوله ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ﴾.:
أقول: و روي هذا المعنى عن مسعدة بن صدقة عن كليب عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
و في الكافي، بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله عز و جل:
﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ قال: من علم أن الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و ابن منيع و الحكيم في نوادر الأصول و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ فقلت:
أ و إن زنى و إن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الثانية ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ فقلت: و إن زنى و إن سرق؟ فقال: نعم و إن رغم أنف أبي الدرداء. أقول: الرواية لا تخلو من شيء فإن الخوف من مقامه تعالى لا يجامع هذه الكبائر الموبقة، و قد روي عن أبي الدرداء نفسه ما يدفع هذه الرواية ففي الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن يسار مولى لآل معاوية عن أبي الدرداء :في قوله: ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ قال: قيل: يا أبا الدرداء و إن زنى و إن سرق؟ قال: من خاف مقام ربه لم يزن و لم يسرق. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ﴾ قال: الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله: ﴿قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ﴾ قال: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُنَّ اَلْيَاقُوتُ وَ اَلْمَرْجَانُ﴾ في الحديث أن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير.
أقول: و هذا المعنى وارد في عدة روايات.
و في تفسير العياشي، بإسناده عن علي بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: آية في كتاب الله مسجلة. قلت: و ما هي؟ قال: قول الله عز و جل: ﴿هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ﴾ جرى في الكافر و المؤمن و البر و الفاجر، و من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، و ليس المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يربى فإن صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء.
و في المجمع،: في قوله: ﴿هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ﴾: جاءت الرواية من أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة؟ و في تفسير القمي، ":في الآية قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالمعرفة إلا الجنة.
أقول: الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) و قد أسندها في التوحيد إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظها : أن الله عز و جل قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة.
و أسندها في العلل، إلى الحسن بن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اللفظ : هل جزاء من قال: لا إله إلا الله إلا الجنة؟:
و روى الرواية بألفاظها المختلفة في الدر المنثور، بطرق مختلفة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قوله:
أنعمت عليه، إشارة إلى أن إحسان العبد بالحقيقة إحسان من الله إليه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾: عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : قلت له: إن الناس يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة فيقولون لنا فيكونون مع أولياء الله في الجنة؟ فقال يا علي إن الله يقول: ﴿وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ ما يكونون مع أولياء الله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله: ﴿وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ و قوله: ﴿وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ قال:
جنتان من ذهب للمقربين و جنتان من ورق لأصحاب اليمين. أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في تفسير الآيتين.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي أيوب قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله:
﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ قال: خضراوان. و في تفسير القمي، بإسناده إلى يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله تعالى:
﴿نَضَّاخَتَانِ﴾ قال: تفوران. و فيه، :في قوله: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ قال: جوار نابتات على شط الكوثر كلما أخذت منها نبتت مكانها أخرى.
و في المجمع،: في قوله: ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ أي نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه.:
روته أم سلمة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام) : الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا و هن أجمل من الحور العين. و في روضة الكافي، بإسناده عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ قال: هن صوالح المؤمنات العارفات. أقول: و في انطباق الآية بالنظر إلى سياقها على مورد الروايتين إبهام.
(٥٦) (سورة الواقعة مكية و هي ست و تسعون آية) (٩٦)
[سورة الواقعة (٥٦): الآیات ١ الی ١٠]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ ١ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ٣ إِذَا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا ٤ وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا ٥ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ٦﴾
﴿وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ٧ فَأَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ ٨ وَ أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ ٩ وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ ١٠﴾
(بيان)
تصف السورة القيامة الكبرى التي فيها بعث الناس و حسابهم و جزاؤهم فتذكر أولا شيئا من أهوالها مما يقرب من الإنسان و الأرض التي يسكنها فتذكر تقليبها للأوضاع و الأحوال بالخفض و الرفع و ارتجاج الأرض و انبثاث الجبال و تقسم الناس إلى ثلاثة أزواج إجمالا ثم تذكر ما ينتهي إليه حال كل من الأزواج السابقين و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال.
ثم تحتج على أصحاب الشمال المنكرين لربوبيته و للبعث المكذبين بالقرآن الداعي إلى التوحيد و الإيمان بالبعث. ثم تختم الكلام بذكر الاحتضار بنزول الموت و انقسام الناس إلى ثلاثة أزواج.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ﴾ وقوع الحادثة هو حدوثها، و الواقعة صفة توصف بها كل حادثة، و المراد بها هاهنا واقعة القيامة و قد أطلقت إطلاق الأعلام كأنها لا تحتاج إلى موصوف مقدر و لذا قيل: إنها من أسماء القيامة في القرآن كالحاقة و القارعة و الغاشية.
و الجملة ﴿إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ﴾ مضمنة معنى الشرط و لم يذكر جزاء الشرط إعظاما له و تفخيما لأمره و هو على أي حال أمر مفهوم مما ستصفه السورة من حال الناس يوم القيامة، و التقدير نحو من قولنا: فاز المؤمنون و خسر الكافرون.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ قال في المجمع،: الكاذبة مصدر كالعافية و العاقبة.
انتهى. و عليه فالمعنى: ليس في وقعتها و تحققها كذب، و قيل: كاذبة صفة محذوفة الموصوف و التقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة.
قوله تعالى: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾ خبران مبتدؤهما الضمير الراجع إلى الواقعة، و الخفض خلاف الرفع و كونها خافضة رافعة كناية عن تقليبها نظام الدنيا المشهود فتظهر السرائر
و هي محجوبة اليوم و تحجب و تستر آثار الأسباب و روابطها و هي ظاهرة اليوم و تذل الأعزة من أهل الكفر و الفسق و تعز المتقين.
قوله تعالى: ﴿إِذَا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا﴾ الرج تحريك الشيء تحريكا شديدا إشارة إلى زلزلة الساعة التي يعظمها الله سبحانه في قوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾: الحج: ١، و قد عظمها في هذه الآية حيث عبر عنها برج الأرض ثم أكد شدتها بتنكير قوله: ﴿رَجًّا﴾ أي رجا لا يوصف شدته. و الجملة بدل أو بيان لقوله: ﴿إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ عطف على ﴿رُجَّتِ﴾ و البس الفت و هو عود الجسم بدق و نحوه أجزاء صغارا متلاشية كالدقيق، و قيل: البس هو التسيير فهو في معنى قوله: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ﴾: النبأ: ٢٠.
و قوله: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ الهباء قيل: هو الغبار و قيل: هو الذرة من الغبار الظاهر في شعاع الشمس الداخل من كوة، و الانبثاث التفرق، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً﴾ الزوج بمعنى الصنف و الخطاب لعامة البشر.
قوله تعالى: ﴿فَأَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ﴾ متفرع على ما قبلها تفرع البيان على المبين، فهذه الآية و الآيتان بعدها بيان للأزواج الثلاثة.
و الميمنة من اليمن مقابل الشؤم، فأصحاب الميمنة أصحاب السعادة و اليمن مقابل أصحاب المشأمة أصحاب الشقاء و الشؤم، و ما قيل: إن المراد بالميمنة اليمين، أي ناحية اليمين لأنهم يؤتون كتابهم بيمينهم و غيرهم يؤتونه بشمالهم يرده مقابلة أصحاب الميمنة بأصحاب المشأمة، و لو كان كما قيل لقيل أصحاب الشمال و هو ظاهر.
و ما في قوله: ﴿مَا أَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ﴾ استفهامية و مبتدأ خبره ﴿فَأَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ﴾، و المجموع خبر لقوله: ﴿فَأَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ﴾ و في الاستفهام إعظام لأمرهم و تفخيم لشأنهم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ﴾ المشأمة مصدر كالشؤم مقابل اليمين، و الميمنة و المشأمة السعادة و الشقاء.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ﴾ الذي يصلح أن يفسر به السابقون الأول قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ﴾ فاطر ٣٢، و قوله: ﴿وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ﴾: البقرة: ١٤٨، و قوله: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ هُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾: المؤمنون: ٦١.
فالمراد بالسابقين الأول في الآية السابقون بالخيرات من الأعمال، و إذا سبقوا بالخيرات سبقوا إلى المغفرة و الرحمة التي بإزائها كما قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلىَ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ﴾: الحديد: ٢١، فالسابقون بالخيرات هم السابقون بالرحمة و هو قوله:
﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ﴾.
و قيل: المراد بالسابقون الثاني هو الأول على حد قوله:
أنا أبو النجم و شعري شعري.
و قوله: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ﴾ مبتدأ و خبر، و قيل: الأول مبتدأ و الثاني تأكيد، و الخبر قوله: ﴿أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾.
و لهم في تفسير السابقين أقوال أخر فقيل: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، و قيل:
هم الذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة من غير توان، و قيل: هم الأنبياء (عليه السلام) لأنهم مقدمو أهل الأديان، و قيل: هم مؤمن آل فرعون و حبيب النجار المذكور في سورة يس و علي (عليه السلام) السابق إلى الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أفضلهم و قيل: هم السابقون إلى الهجرة، و قيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس، و قيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، و قيل: هم السابقون إلى الجهاد، و قيل غير ذلك.
و القولان الأولان راجعان إلى ما تقدم من المعنى، و الثالث و الرابع ينبغي أن يحملا على التمثيل، و الباقي كما ترى إلا أن يحمل على نحو من التمثيل.
(بحث روائي)
في الخصال، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و الله ما الدنيا و الآخرة إلا ككفتي ميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر ثم تلا قوله عز و جل: ﴿إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ﴾ يعني القيامة ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ﴾ خفضت و الله بأعداء الله في النار ﴿رَافِعَةٌ﴾ رفعت و الله أولياء الله إلى الجنة.
و في تفسير القمي، ": ﴿إِذَا وَقَعَتِ اَلْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ قال: القيامة هي حق، و قوله: ﴿خَافِضَةٌ﴾ قال: بأعداء الله ﴿رَافِعَةٌ﴾ لأولياء الله ﴿إِذَا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا﴾
قال: يدق بعضها على بعض ﴿وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا﴾ قال: قلعت الجبال قلعا ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا﴾ قال: الهباء الذي في الكوة من شعاع الشمس.
و قوله: ﴿وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً﴾ قال: يوم القيامة ﴿فَأَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ اَلْمَشْئَمَةِ وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ﴾ الذين سبقوا إلى الجنة.
أقول: قوله: الذين سبقوا إلى الجنة تفسير للسابقون الثاني.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الهباء المنبث رهج[2] الذرات و الهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس" :في قوله: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ﴾ قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، و حبيب النجار الذي ذكر في يس و علي بن أبي طالب، كل رجل منهم سابق أمته و علي أفضلهم سبقا.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق أمة موسى و هو مؤمن آل فرعون، و سابق أمة عيسى و هو حبيب و السابق في أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) .:
أقول: و روي هذا المعنى في روضة الواعظين، عن الصادق (عليه السلام) . و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى ابن عباس قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ﴾ فقال: قال لي جبرئيل:
ذلك علي و شيعته، هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله بكرامته لهم.
و في كمال الدين، بإسناده إلى خيثمة الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: و نحن السابقون السابقون و نحن الآخرون.
و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة بإسناده عن علي (عليه السلام) قال: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾ في نزلت.
و في المجمع،: في الآية: و قيل: إلى الصلوات الخمس:. عن علي (عليه السلام) . أقول: الوجه حمل جميع هذه الأخبار على التمثيل كما تقدم.
[سورة الواقعة (٥٦): الآیات ١١ الی ٥٦]
﴿أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ ١١ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ١٢ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ ١٣ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ ١٤ عَلىَ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ١٥ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ١٦ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ١٧ بِأَكْوَابٍ وَ أَبَارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ١٨ لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَ لاَ يُنْزِفُونَ ١٩ وَ فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ٢٠ وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ٢١ وَ حُورٌ عِينٌ ٢٢ كَأَمْثَالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ ٢٣ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٢٤ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً ٢٥ إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً ٢٦ وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ ٢٧ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ٢٨ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ ٢٩ وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ ٣٠ وَ مَاءٍ مَسْكُوبٍ ٣١ وَ فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ٣٢ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَ لاَ مَمْنُوعَةٍ ٣٣ وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ٣٤ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ٣٥ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ٣٦ عُرُباً أَتْرَاباً ٣٧ لِأَصْحَابِ اَلْيَمِينِ ٣٨ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ ٣٩ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ ٤٠ وَ أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ ٤١ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ ٤٢ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ٤٣ لاَ بَارِدٍ وَ لاَ كَرِيمٍ ٤٤ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ٤٥ وَ كَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى اَلْحِنْثِ اَلْعَظِيمِ ٤٦ وَ كَانُوا
يَقُولُونَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ٤٧ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ ٤٨ قُلْ إِنَّ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ ٤٩ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ٥٠ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا اَلضَّالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ ٥١ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ٥٢ فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ ٥٣ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ اَلْحَمِيمِ ٥٤ فَشَارِبُونَ شُرْبَ اَلْهِيمِ ٥٥ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ اَلدِّينِ ٥٦﴾
(بيان)
الآيات تفصل ما ينتهي إليه حال كل واحد من الأزواج الثلاثة يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ﴾ الإشارة بأولئك إلى السابقين، و ﴿أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾ مبتدأ و خبر، و الجملة استئنافية، و قيل: خبر لقوله: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ﴾، و قيل: مبتدأ خبره في جنات النعيم، و أول الوجوه الثلاثة أوجه بالنظر إلى سياق تقسيم الناس إلى ثلاثة أزواج أولا ثم تفصيل ما ينتهي إليه أمر كل منهم.
و القرب و البعد معنيان متضائفان تتصف بهما الأجسام بحسب النسبة المكانية ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير المكان من الزمان و نحوه، يقال: الغد قريب من اليوم و الأربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، و الخضرة أقرب إلى السواد من البياض ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير الأجسام و الجسمانيات من الحقائق.
و قد اعتبر القرب وصفا له تعالى بما له من الإحاطة بكل شيء، قال تعالى: ﴿وَ إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾: البقرة: ١٨٦، و قال: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾: الواقعة:
٨٥، و قال: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ﴾: ق: ١٦. و هذا المعنى أعني كونه تعالى أقرب إلى الشيء من نفسه أعجب ما يتصور من معنى القرب، و قد أشرنا إلى تصويره في تفسير الآية.
و اعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية و لما كان أمرا اكتسابيا يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه و هو وقوعه في معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء و الحرمان، و الله سبحانه يقرب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى و مغفرته و رحمته، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾: المطففين: ٢١، و قال: ﴿وَ مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ﴾: المطففين: ٢٨.
فالمقربون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: ﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾ و لا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾: النساء: ١٧٢، و لا تكمل العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته و عمله لمولاه لا يريد و لا يعمل إلا ما يريده و هذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله.
و قوله: ﴿فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ﴾ أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم، و يمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ﴾.
و قد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية و أن جنة النعيم هي جنة الولاية و هو المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله.
قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ الثلة على ما قيل الجماعة الكثيرة، و المراد بالأولين الأمم الماضون للأنبياء السابقين، و بالآخرين هذه الأمة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الأولين و الآخرين معا و منها ما سيأتي من قوله: ﴿أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلىَ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ فمعنى الآيتين: هم أي المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضين و قليل من هذه الأمة.
و بما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالأولين و الآخرين أولوا هذه الأمة و آخروها غير سديد.
قوله تعالى: ﴿عَلىَ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ﴾ الوضن النسج و قيل: نسج الدرع و إطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها.
و قوله: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا﴾ حال من الضمير العائد إلى المقربين و الضمير للسرر، و قوله:
﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ حال آخر منه أو من ضمير ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ و تقابلهم كناية عن بلوغ أنسهم و حسن عشرتهم و صفاء باطنهم فلا ينظرون في قفاء صاحبهم و لا يعيبونه و لا يغتابونه.
و المعنى: هم أي المقربون مستقرون على سرر منسوجة حال كونهم متكئين عليها حال كونهم متقابلين.
قوله تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الولدان جمع ولد و هو الغلام، و طوافهم عليهم كناية عن خدمتهم لهم، و المخلدون من الخلود بمعنى الدوام أي باقون أبدا على هيئتهم من حداثة السن، و قيل من الخلد بفتحتين و هو القرط، و المراد أنهم مقرطون بالخلد.
قوله تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ وَ أَبَارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ الأكواب جمع كوب و هو الإناء الذي لا عروة له و لا خرطوم، و الأباريق جمع إبريق و هو الإناء الذي له خرطوم، و قيل:
عروة و خرطوم معا، و الكأس معروف، قيل: أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت ممتلئة، و المراد بالمعين الخمر المعين و هو الظاهر للبصر الجاري.
قوله تعالى: ﴿لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَ لاَ يُنْزِفُونَ﴾ أي لا يأخذهم صداع لأجل خمار يحصل من الخمر كما في خمر الدنيا و لا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها.
قوله تعالى: ﴿وَ فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ الفاكهة و الطير معطوفان على قوله: ﴿بِأَكْوَابٍ﴾، و المعنى: يطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يختارون و بلحم طير مما يشتهون.
و لا يستشكل بما ورد في الروايات أن أهل الجنة إذا اشتهوا فاكهة تدلى إليهم غصن شجرتها بما لها من ثمرة فيتناولونها، و إذا اشتهوا لحم طير وقع مقليا مشويا في أيديهم فيأكلون منها ما أرادوا ثم حيي و طار.
و ذلك لأن لهم ما شاءوا و من فنون التنعم تناول ما يريدونه من أيدي خدمهم و خاصة حال اجتماعهم و احتفالهم كما أن من فنونه تناولهم أنفسهم من غير توسيط خدمهم فيه.
قوله تعالى: ﴿وَ حُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ﴾ مبتدأ محذوف الخبر على ما يفيده السياق و التقدير و لهم حور عين أو و فيها حور عين و الحور العين نساء الجنة و قد تقدم معنى الحور العين في تفسير سورة الدخان.
و قوله: ﴿كَأَمْثَالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ﴾ أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي فهو منته في صفائه.
قوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قيد لجميع ما تقدم و هو مفعول له، و المعنى:
فعلنا بهم ما فعلنا ليكون جزاء لهم قبال ما كانوا يستمرون عليه من العمل الصالح.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً﴾ اللغو من القول ما لا فائدة فيه و لا أثر يترتب عليه، و التأثيم النسبة إلى الإثم أي لا يخاطب أحدهم صاحبه بما لا فائدة فيه و لا ينسبه إلى الإثم إذ لا إثم هناك، و فسر بعضهم التأثيم بالكذب.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً﴾ استثناء منقطع من اللغو و التأثيم، و القيل مصدر كالقول، و ﴿سَلاَماً﴾ بيان لقوله: ﴿قِيلاً﴾ و تكراره يفيد تكرر الوقوع، و المعنى: إلا قولا هو السلام بعد السلام.
قيل: و يمكن أن يكون ﴿سَلاَماً﴾ مصدرا بمعنى الوصف و صفة لقيلا، و المعنى: إلا قولا هو سالم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ﴾ شروع في تفصيل ما انتهى إليه حال أصحاب الميمنة و في تبديله من أصحاب اليمين يعلم أن أصحاب اليمين و أصحاب الميمنة واحد و هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم. و الجملة استفهامية مسوقة لتفخيم أمرهم و التعجيب من حالهم و هي خبر لقوله: ﴿وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ﴾.
قوله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ السدر شجرة النبق، و المخضود ما قطع شوكة فلا شوك له.
قوله تعالى: ﴿وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ الطلح شجر الموز، و قيل: ليس بالموز بل شجر له ظل بارد رطب، و قيل: شجرة أم غيلان لها أنوار طيبة الرائحة، و نضد الأشياء جعل بعضها على بعض، و المعنى: و في شجر موز منضود الثمر بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه.
قوله تعالى: ﴿وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ مَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾ قيل: الممدود من الظل هو الدائم الذي لا تنسخه شمس فهو باق لا يزول، و الماء المسكوب هو المصبوب الجاري من غير انقطاع.
قوله تعالى: ﴿وَ فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَ لاَ مَمْنُوعَةٍ﴾ أي لا مقطوعة في بعض الأزمان كانقطاع الفواكه في شتاء و نحوه في الدنيا، و لا ممنوعة التناول لمانع من قبل أنفسهم كسأمة أو شبع أو من خارج كبعد المكان أو شوكة تمنع القطف أو غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ الفرش جمع فراش و هو البساط، و المرفوعة العالية، و قيل: المراد بالفرش المرفوعة النساء المرتفعات قدرا في عقولهن و جمالهن و كمالهن و المرأة
تسمى فراشا، و يناسب هذا المعنى قوله بعد: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً﴾ أي إنا أوجدناهن و أحدثناهن و ربيناهن أحداثا و تربية خاصة، و فيه تلويح إلى أنهن لا يختلف حالهن بالشباب و الشيب و صباحة المنظر و خلافها، و قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً﴾ أي خلقناهن عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا.
و قوله: ﴿عُرُباً أَتْرَاباً﴾ العرب جمع عروب و هي المتحننة إلى زوجها أو الغنجة أو العاشقة لزوجها، و الأتراب جمع ترب بالكسر فالسكون بمعنى المثل أي أنهن أمثال أو أمثال في السن لأزواجهن.
قوله تعالى: ﴿لِأَصْحَابِ اَلْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ يتضح معناه بما تقدم، و يستفاد من الآيات أن أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالأولين لكن السابقين المقربين في الآخرين أقل جمعا منهم في الأولين.
قوله تعالى: ﴿وَ أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ اَلشِّمَالِ﴾ مبتدأ و خبر، و الاستفهام للتعجيب و التهويل، و قد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين.
قوله تعالى: ﴿فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لاَ بَارِدٍ وَ لاَ كَرِيمٍ﴾ السموم على ما في الكشاف، حر نار ينفذ في المسام، و الحميم الماء الشديد الحرارة، و التنوين فيهما لتعظيم الأمر، و اليحموم الدخان الأسود، و قوله: ﴿لاَ بَارِدٍ وَ لاَ كَرِيمٍ﴾ الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، و ذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد بالاستظلال به و يستراح فيه دون الدخان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، و إتراف النعمة الإنسان إبطارها و إطغاؤها له، و ذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون الإنسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا و ما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة.
فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسعين في التنعم و ذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه و ليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفه منه، و المعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر لأنهم كانوا قبل ذلك في
الدنيا بطرين طاغين بالنعم.
قوله تعالى: ﴿وَ كَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى اَلْحِنْثِ اَلْعَظِيمِ﴾ في المجمع،: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، و الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه. انتهى. و لعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم و أخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذر فيطيعون غير ربهم و هو الشرك المطلق.
و قيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة و الحنث العظيم الشرك بالله، و قيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، و قيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اَللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾: النحل: ٣٨، و لفظ الآية مطلق.
قوله تعالى: ﴿وَ كَانُوا يَقُولُونَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ﴾ قول منهم مبني على الاستبعاد و لذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم لأن الاستبعاد في موردهم آكد، و التقدير أ و آباؤنا الأولون مبعوثون.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلىَ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام و شراب و هما الزقوم و الحميم.
و محصل القول إن الأولين و الآخرين من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعدا و بعث آبائهم الأولين أشد استبعادا و آكد لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم.
و الميقات ما وقت به الشيء و هو وقته المعين، و المراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا اَلضَّالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ﴾ من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخبرهم عما ينتهي إليه حالهم يوم القيامة و يعيشون به من طعام و شراب.
و في خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم و خسرانهم يوم البعث و هو ضلالهم عن طريق الحق و استقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم و إصرارهم على الحنث، و لو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا و لا يهلكوا.
و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ شَجَرٍ﴾ للابتداء، و في قوله: ﴿مِنْ زَقُّومٍ﴾ بيانية و يحتمل أن يكون ﴿مِنْ زَقُّومٍ﴾ بدلا من ﴿مِنْ شَجَرٍ﴾، و ضمير ﴿مِنْهَا﴾ للشجر أو الثمر و كل منهما يؤنث و يذكر و لذا جيء هاهنا بضمير التأنيث و في الآية التالية في قوله: ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ بضمير التذكير، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ اَلْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ اَلْهِيمِ﴾ كلمة «على» للاستعلاء و تفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، و الهيم جمع هيماء الإبل التي أصابها الهيام بضم الهاء و هو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، و قيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء.
و المعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم و هذا آخر ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقوله لهم.
قوله تعالى: ﴿هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ اَلدِّينِ﴾ أي يوم الجزاء و النزل ما يقدم للضيف النازل من طعام و شراب إكراما له، و المعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم و شرابهم هو نزل الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، و الآية من كلامه تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تعال و استمع ما قد أنزل الله ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾.
ألا و إن من آدم إلى ثلة و أمتي ثلة و لن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.: قال السيوطي و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلا و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ حزن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل
فنزلت نصف النهار ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ تقابلون الناس فنسخت الآية ﴿وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾.
أقول: قال في الكشاف، في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين فما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يراجع ربه حتى نزلت ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾.
قلت: هذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا و كذلك الثانية في أصحاب اليمين، أ لا ترى كيف عطف أصحاب اليمين و وعدهم على السابقين و وعدهم؟ الثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز. انتهى.
و أجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل الحديث على أن الصحابة لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين و قليلا منهم فيكون الفائزون بالجنة في هذه الأمة أقل منهم في الأمم السالفة فنزلت ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ فزال حزنهم، و معنى نسخ الآية السابقة إزالة حسبانهم المذكور.
و أنت خبير بأنه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ و اللفظ يأباه و خاصة حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، و حال الرواية الأولى و خاصة من جهة ذيلها كحال هذه الرواية.
و في المجمع، في قوله تعالى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ اختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيئات فيعاقبوا عليها فأنزلوا هذه المنزلة.
قال:- و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنة.:
أقول: و رواه في الدر المنثور عن الحسن، و الرواية ضعيفة لا تعويل عليها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و البزار و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا. أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة و في بعضها أن المؤمن يأكل ما يشتهيه ثم يعود الباقي إلى ما كان عليه و يحيا فيطير إلى مكانه و يباهي بذلك.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً﴾ قال: الفحش و الكذب و الغنا.
أقول: لعل المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحف الخنا.
و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ﴾ قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أصحابه و شيعته.
أقول: الرواية مبنية على ما ورد في ذيل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾: إسراء: ٧١، إن اليمين هو الإمام الحق و معناها أن اليمين هو علي (عليه السلام) و أصحاب اليمين شيعته، و الرواية من الجري.
و فيه، :في قوله تعالى: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ شجر لا يكون له ورق و لا شوك فيه،و قرأ أبو عبد الله (عليه السلام) : «و طلع منضود» قال: بعضه على بعض. و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب و مسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية. و ما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و ما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ ليس يقول الله: ﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ يخضده الله من شوكة فيجعل مكان كل شوكة ثمرة أنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر. و في المجمع،: و روت العامة عن علي (عليه السلام) : أنه قرأ رجل عنده ﴿وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ فقال: ما شأن الطلح إنما هو «و طلع» كقوله: ﴿وَ نَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ فقيل له: أ لا تغيره؟ قال: إن القرآن لا يهاج اليوم و لا يحرك:، رواه عنه ابنه الحسن (عليه السلام) و قيس بن سعد. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و هناد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: ﴿وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ قال: هو الموز. و في المجمع، ورد في الخبر: أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا إن شئتم ﴿وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ و روي أيضا: أن أوقات الجنة كغدوات الصيف لا يكون فيها حر و لا برد.
أقول: و روي الأول في الدر المنثور عن أبي سعيد و أنس و غيرهما عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في روضة الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في حديث يصف فيه الجنة و أهلها: و يزور بعضهم بعضا و يتنعمون في جناتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و أطيب من ذلك.
و في تفسير القمي،" :و قوله: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ قال: الحور العين في الجنة ﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً﴾ قال: لا يتكلمون إلا بالعربية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: ﴿عُرُباً﴾ قال: كلامهن عربي. أقول: و فيه روايات أخر أن عربا جمع عروب و هي الغنجة.
و فيه، أخرج مسدد في مسنده و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ﴾ قال: هما جميعا من هذه الأمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أن القسمة لكافة البشر لا لهذه الأمة خاصة، و لعل المراد من هذه الروايات بيان بعض المصاديق و إن كان بعيدا، و كذا المراد مما ورد أن أصحاب اليمين أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ، و ما ورد أن أصحاب الشمال أعداء آل محمد (عليه السلام) .
و في المحاسن، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه و قال: ذلك شرب الهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال: الإبل.
و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : أنه كان يكره أن يتشبه بالهيم. قلت:
و ما الهيم؟ قال الرمل.
أقول: و المعنيان جميعا واردان في روايات أخر.
[سورة الواقعة (٥٦): الآیات ٥٧ الی ٩٦]
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْ لاَ تُصَدِّقُونَ ٥٧ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ٥٨
أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلْخَالِقُونَ ٥٩ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ٦٠ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٦١ وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولى فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ ٦٢ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ٦٣ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزَّارِعُونَ ٦٤ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ٦٥ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ٦٦ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ٦٧ أَ فَرَأَيْتُمُ اَلْمَاءَ اَلَّذِي تَشْرَبُونَ ٦٨ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ اَلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْزِلُونَ ٦٩ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْ لاَ تَشْكُرُونَ ٧٠ أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنَّارَ اَلَّتِي تُورُونَ ٧١ أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْشِؤُنَ ٧٢ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ٧٣ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ ٧٤ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ ٧٥ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ٧٦ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٧٧ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ٧٨ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ ٧٩ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٨٠ أَ فَبِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ٨١ وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ٨٢ فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ ٨٣ وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ٨٤ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ ٨٥ فَلَوْ لاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ٨٦ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٨٧ فَأَمَّا إِنْ
كَانَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ٨٩ وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ ٩٠ فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ ٩١ وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ اَلْمُكَذِّبِينَ اَلضَّالِّينَ ٩٢ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ٩٣ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ٩٤ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ ٩٥ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ ٩٦﴾
(بيان)
لما فصل سبحانه القول فيما ينتهي إليه حال كل من الأزواج الثلاثة ففصل حال أصحاب الشمال و أن الذي ساقهم إلى ذلك نقضهم عهد العبودية و تكذيبهم للبعث و الجزاء و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يرد عليهم بتقرير البعث و الجزاء و بيان ما يجزون به يوم البعث.
وبخهم على تكذيبهم بالمعاد مع أن الذي يخبرهم به هو خالقهم الذي يدبر أمرهم و يقدر لهم الموت ثم الإنشاء فهو يعلم ما يجري عليهم مدى وجودهم و ما ينتهي إليه حالهم و مع أن الكتاب الذي ينبئهم بالمعاد هو قرآن كريم مصون من أن يلعب به أيدي الشياطين و أولياؤهم المضلين.
ثم يعيد الكلام إلى ما بدئ به من حال الأزواج الثلاثة و يذكر أن اختلاف أحوال الأقسام يأخذ من حين الموت و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْ لاَ تُصَدِّقُونَ﴾ السياق سياق الكلام في البعث و الجزاء و قد أنكروه و كذبوا به، فقوله: ﴿فَلَوْ لاَ تُصَدِّقُونَ﴾ تحضيض على تصديق حديث المعاد و ترك التكذيب به، و قد علله بقوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ كما يستفاد من التفريع الذي في قوله: ﴿فَلَوْ لاَ تُصَدِّقُونَ﴾.
و إيجاب خلقه تعالى لهم وجوب تصديقه فيما يخبر به من المعاد من وجهين: أحدهما:
أنه تعالى خلقهم أول مرة فهو قادر على إعادة خلقهم ثانيا كما قال: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾: يس: ٧٩.
و ثانيهما: أنه تعالى لما كان هو خالقهم و هو المدبر لأمرهم المقدر لهم خصوصيات خلقهم و أمرهم فهو أعلم بما يفعل بهم و سيجري عليهم فإذا أنبأهم بأنه سيبعثهم بعد موتهم و يجزيهم بما عملوا إن خيرا و إن شرا لم يكن بد من تصديقه فلا عذر لمن كذب بما أخبر به كتابه من البعث و الجزاء، قال تعالى: ﴿أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ﴾:
الملك: ١٤، و قال: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾: الأنبياء: ١٠٤، و قال: ﴿وَعْدَ اَللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللَّهِ قِيلاً﴾: النساء: ١٢٢.
فمحصل الآية: نحن خلقناكم و نعلم ما فعلنا و ما سنفعل بكم فنخبركم أنا سنبعثكم و نجزيكم بما عملتم فهلا تصدقون بما نخبركم به فيما أنزلناه من الكتاب.
و في الآية و ما يتلوها من الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن السياق سياق التوبيخ و المعاتبة و ذلك بالخطاب أوقع و آكد.
قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾ الأمناء قذف المني و صبه و المراد قذفه و صبه في الأرحام، و المعنى: أ فرأيتم المني الذي تصبونه في أرحام النساء.
قوله تعالى: ﴿أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلْخَالِقُونَ﴾ أي أ أنتم تخلقونه بشرا مثلكم أم نحن خالقوه بشرا.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ تدبير أمر الخلق بجميع شئونه و خصوصياته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود فوجود الإنسان المحدود بأول كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصياته التي تتحول عليه بتقدير من خالقه عز و جل. فموته أيضا كحياته بتقدير منه، و ليس يعتريه الموت لنقص من قدرة خالقه أن يخلقه بحيث لا يعتريه الموت أو من جهة أسباب و عوامل تؤثر فيه بالموت فتبطل الحياة التي أفاضها عليه خالقه تعالى فإن لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة و أن يعجزه بعض الأسباب و تغلب إرادته إرادته و هو محال كيف؟ و القدرة مطلقة و الإرادة غير مغلوبة.
و يتبين بذلك أن المراد بقوله: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ﴾ أن الموت حق مقدر و ليس أمرا يقتضيه و يستلزمه نحو وجود الحي بل هو تعالى قدر له وجودا كذا ثم موتا يعقبه.
و أن المراد بقوله: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ و السبق هو الغلبة و المسبوق المغلوب و لسنا مغلوبين في عروض الموت عن الأسباب المقارنة له بأن نفيض عليكم حياة نريد أن
يدوم ذلك عليكم فيسبقنا الأسباب و تغلبنا فتبطل بالموت الحياة التي كنا نريد دوامها.
قوله تعالى: ﴿عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿عَلىَ﴾ متعلقه بقوله:
﴿قَدَّرْنَا﴾ و جملة الجار و المجرور في موضع الحال أي نحن قدرنا بينكم الموت حال كونه على أساس تبديل الأمثال و الإنشاء فيما لا تعلمون.
و الأمثال جمع مثل بالكسر فالسكون و مثل الشيء ما يتحد معه في نوعه كالفرد من الإنسان بالنسبة إلى فرد آخر، و المراد بقوله: ﴿أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ أن نبدل أمثالكم من البشر منكم أو نبدل أمثالكم مكانكم، و المعنى على أي حال تبديل جماعة من أخرى و جعل الأخلاف مكان الأسلاف.
و قوله: ﴿وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿مَا﴾ موصولة و المراد به الخلق و الجملة معطوفة على ﴿نُبَدِّلَ﴾ و التقدير و على أن ننشئكم و نوجدكم في خلق آخر لا تعلمونه و هو الوجود الأخروي غير الوجود الدنيوي الفاني.
و محصل معنى الآيتين أن الموت بينكم إنما هو بتقدير منا لا لنقص في قدرتنا بأن لا يتيسر لنا إدامة حياتكم و لا لغلبة الأسباب المهلكة المبيدة و قهرها و تعجيزها لنا في حفظ حياتكم و إنما قدرناه بينكم على أساس تبديل الأمثال و إذهاب قوم و الإتيان بآخرين و إنشاء خلق لكم يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيوي الداثر فالموت انتقال من دار إلى دار و تبدل خلق إلى خلق آخر و ليس بانعدام و فناء.
و احتمل بعضهم أن يكون الأمثال في الآية جمع مثل بفتحتين و هو الوصف فتكون الجملتان ﴿عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ﴾ إلخ، و ﴿نُنْشِئَكُمْ﴾ إلخ، تفيدان معنى واحدا، و المعنى: على أن نغير أوصافكم و ننشئكم في وصف لا تعرفونه أو لا تعلمونه كحشركم في صفة الكلب أو الخنزير أو غيرهما من الحيوان بعد ما كنتم في الدنيا على صفة الإنسان، و المعنى السابق أجمع و أكثر فائدة.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىَ فَلَوْ لاَ تَذَكَّرُونَ﴾ المراد بالنشأة الأولى نشأة الدنيا، و العلم بها بخصوصياتها يستلزم الإذعان بنشأة أخرى خالدة فيها الجزاء، فإن من المعلوم من النظام الكوني أن لا لغو و لا باطل في الوجود فلهذه النشأة الفانية غاية باقية، و أيضا من ضروريات هذا النظام هداية كل شيء إلى سعادة نوعه و هداية الإنسان تحتاج إلى بعث الرسل و تشريع الشرائع و توجيه الأمر و النهي، و الجزاء على خير الأعمال و شرها
و ليس في الدنيا فهو في دار أخرى و هي النشأة الآخرة[3].
على أنهم شاهدوا النشأة الأولى و عرفوها و علموا أن الذي أوجدها عن كتم العدم هو الله سبحانه و إذ قدر عليها أولا فهو على إيجاد مثلها ثانيا قادر، قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾: يس: ٧٩، و هذا برهان على الإمكان يرتفع به استبعادهم للبعث.
و بالجملة يحصل لهم بالعلم بالنشأة الأولى علم بمبادئ البرهان على إمكان البعث فيرتفع به استبعاد البعث فلا استبعاد مع الإمكان.
و هذا كما ترى برهان على إمكان حشر الأجساد، محصله أن البدن المحشور مثل البدن الدنيوي و إذ جاز صنع البدن الدنيوي و إحياؤه فليجز صنع البدن الأخروي و إحياؤه لأنه مثله و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.
فمن العجيب قول الزمخشري في الكشاف، في الآية: و في هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى بالأولى. انتهى. و ذلك لأن الذي في الآية قياس برهاني منطقي و الذي يستدل بها عليه قياس فقهي مفيد للظن فأين أحدهما من الآخر؟.
و قال في روح المعاني، في الآية: فهلا تتذكرون أن من قدر عليها يعني على النشأة الأولى فهو على النشأة الأخرى أقدر و أقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص الأجزاء و سبق المثال، و هذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولي لأنه الذي في الآية. انتهى.
و فيه ما في سابقه. على أن الذي في الآية ليس من قياس الأولي في شيء لأن الجامع بين النشأة الأولى و الأخرى أنهما مثلان و مبدأ القياس أن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.
و أما قوله: إن النشأة الأخرى أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص الأجزاء، فهو ممنوع فإن المواد تحتاج إلى إفاضة الوجود بقاء كما تحتاج إليها في حدوثها و أول حصولها، و كذا تخصص الأجزاء يحتاج إليها بقاء كما تحتاج إليها فالصنع ثانيا كالصنع أولا.
و أما قوله: و سبق المثال، فقد خلط بين المثل و المثال فالبدن الأخروي بالنظر إلى نفسه مثل البدن الدنيوي لا على مثاله و لو كان على مثاله كانت الآخرة دنيا لا آخرة.
فإن قلت: لو كان البدن الأخروي مثلا للبدن الدنيوي و مثل الشيء غيره كان الإنسان المعاد في الآخرة غير الإنسان المبتدء في الدنيا لأنه مثله لا عينه.
قلت: قد تقدم في المباحث السابقة غير مرة أن شخصية الإنسان بروحه لا ببدنه، و الروح لا تنعدم بالموت و إنما يفسد البدن و تتلاشى أجزاؤه ثم إذا سوي ثانيا مثل ما كان في الدنيا ثم تعلقت به الروح كان الإنسان عين الإنسان الذي في الدنيا كما كان زيد الشائب مثلا عين زيد الشاب لبقاء الروح على شخصيتها مع تغير البدن لحظة بعد لحظة.
قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ﴾ إلى قوله ﴿مَحْرُومُونَ﴾ بعد ما ذكرهم بكيفية خلق أنفسهم و تقدير الموت بينهم تمهيدا للبعث و الجزاء و كل ذلك من لوازم ربوبيته عد لهم أمورا ثلاثة من أهم ما يعيشون به في الدنيا و هي الزرع الذي يقتاتون به و الماء الذي يشربونه و النار التي يصطلون بها و يتوسلون بها إلى جمل من مآربهم، و تثبت بذلك ربوبيته لهم فليست الربوبية إلا التدبير عن ملك.
فقال: ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ الحرث العمل في الأرض و إلقاء البذر عليها ﴿أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ﴾ أي تنبتونه و تنمونه حتى يبلغ الغاية، و ضمير ﴿تَزْرَعُونَهُ﴾ للبذر أو الحرث المعلوم من المقام ﴿أَمْ نَحْنُ اَلزَّارِعُونَ﴾ المنبتون المنمون حتى يكمل زرعا ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً﴾ أي هشيما متكسرا متفتتا ﴿فَظَلْتُمْ﴾ أي فظللتم و صرتم ﴿تَفَكَّهُونَ﴾ أي تتعجبون مما أصيب به زرعكم و تتحدثون بما جرى قائلين ﴿إِنَّا لَمُغْرَمُونَ﴾ موقعون في الغرامة و الخسارة ذهب مالنا و ضاع وقتنا و خاب سعينا ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ ممنوعون من الرزق و الخير.
و لا منافاة بين نفي الزرع عنهم و نسبته إليه تعالى و بين توسط عوامل و أسباب طبيعية في نبات الزرع و نموه فإن الكلام عائد في تأثير هذه الأسباب و صنعها و ليس نحو تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى بل بجعله و وضعه و موهبته، و كذا الكلام في أسباب هذه الأسباب، و ينتهي الأمر إلى الله سبحانه و أن إلى ربك المنتهى.
قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ اَلْمَاءَ اَلَّذِي تَشْرَبُونَ ﴾ إلى قوله ﴿فَلَوْ لاَ تَشْكُرُونَ﴾ المزن السحاب، و قوله: ﴿فَلَوْ لاَ تَشْكُرُونَ﴾ تحضيض على الشكر، و شكره تعالى جميل ذكره تعالى على نعمه و هو إظهار عبوديته قولا و عملا. و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنَّارَ اَلَّتِي تُورُونَ ﴾ إلى قوله ﴿وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ﴾ قال في المجمع،:
الإيراء إظهار النار بالقدح، يقال أورى يوري، قال: و يقال قدح فأورى إذا أظهر فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى، و قال: و المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد، و أقوت الدار خلت من أهلها. انتهى. و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم). لما ذكر سبحانه شواهد ربوبيته لهم و أنه الذي يخلقهم و يدبر أمرهم و من تدبيره أنه سيبعثهم و يجزيهم بأعمالهم و هم مكذبون بذلك أعرض عن خطابهم و التفت إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إشعارا بأنهم لا يفقهون القول فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينزهه تعالى عن إشراكهم به و إنكارهم البعث و الجزاء.
فقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ﴾ إلخ، الفاء لتفريع التسبيح على ما تقدم من البيان، و الباء للاستعانة أو الملابسة، و المعنى: فإذا كان كذلك فسبح مستعينا بذكر اسم ربك، أو المراد بالاسم الذكر لأن إطلاق اسم الشيء ذكر له كما قيل أو الباء للتعدية لأن تنزيه اسم الشيء تنزيه له، و المعنى: نزه اسم ربك من أن تذكر له شريكا أو تنفي عنه البعث و الجزاء، و العظيم صفة الرب أو الاسم.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ﴾ ﴿فَلاَ أُقْسِمُ﴾ قسم و قيل: لا زائدة و أقسم هو القسم، و قيل: لا نافية و أقسم هو القسم.
و «مواقع» جمع موقع و هو المحل، و المعنى: أقسم بمحال النجوم من السماء، و قيل:
مواقع جمع موقع مصدر ميمي بمعنى السقوط يشير به إلى سقوط الكواكب يوم القيامة أو وقوع الشهب على الشياطين، أو مساقط الكواكب في مغاربها، و أول الوجوه هو السابق إلى الذهن.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ تعظيم لهذا القسم و تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾- إلى قوله - ﴿مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ لما كان إنكارهم حديث وحدانيته تعالى في ربوبيته و ألوهيته و كذا إنكارهم للبعث و الجزاء إنما أبدوه بإنكار القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي فيه نبأ التوحيد و البعث كان إنكارهم منشعبا إلى إنكار أصل التوحيد و البعث أصلا، و إلى إنكار ذلك بما أن القرآن ينبئهم به، فأورد تعالى أولا بيانا لإثبات أصل الوحدانية و البعث بذكر شواهد من آياته تثبت ذلك و هو قوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ﴾، و ثانيا بيانا يؤكد فيه كون القرآن الكريم كلامه المحفوظ عنده النازل منه و وصفه بأحسن أوصافه.
فقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ جواب للقسم السابق، الضمير للقرآن المعلوم من السياق السابق و يستفاد من توصيفه بالكريم من غير تقييد في مقام المدح أنه كريم على الله عزيز عنده و كريم محمود الصفات و كريم بذال نفاع للناس لما فيه من أصول المعارف التي فيها سعادة الدنيا و الآخرة.
و قوله: ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير و التبديل، و هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾: البروج: ٢٢.
و قوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ﴾ صفة الكتاب المكنون و يمكن أن يكون وصفا ثالثا للقرآن و مآل الوجهين على تقدير كون لا نافية واحد.
و المعنى: لا يمس الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلا المطهرون أو لا يمس القرآن الذي في الكتاب إلا المطهرون.
و الكلام على أي حال مسوق لتعظيم أمر القرآن و تجليله فمسه هو العلم به و هو في الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾: الزخرف: ٤.
و المطهرون اسم مفعول من التطهي هم الذين طهر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي و قذارات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك و أدق و هو تطهير قلوبهم من التعلق بغيره تعالى، و هذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر.
فالمطهرون هم الذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام و الذين طهرهم الله من البشر، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾: الأحزاب: ٣٣، و لا وجه لتخصيص المطهرين بالملائكة كما عن جل المفسرين لكونه تقييدا من غير مقيد.
و ربما جعل ﴿لاَ﴾ في ﴿لاَ يَمَسُّهُ﴾ ناهية، و المراد بالمس على هذا مس كتابة القرآن، و بالطهارة الطهارة من الحدث أو الحدث و الخبث جميعا و قرئ «المطهرون» بتشديد الطاء و الهاء و كسر الهاء أي المتطهرون و مدلول الآية تحريم مس كتابة القرآن على غير طهارة.
و يمكن حمل الآية على هذا المعنى على تقدير كون ﴿لاَ﴾ نافية بأن تكون الجملة إخبارا أريد به الإنشاء و هو أبلغ من الإنشاء.
قال في الكشاف،: و إن جعلتها يعني جملة ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ﴾ صفة للقرآن فالمعنى:
لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس يعني مس المكتوب منه، انتهى و قد عرفت صحة أن يراد بالمس العلم و الاطلاع على تقدير كونها صفة للقرآن كما يصح على تقدير كونها صفة لكتاب مكنون.
و قوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ﴾ وصف آخر للقرآن، و المصدر بمعنى اسم المفعول أي منزل من عند الله إليكم تفتهمونه و تعقلونه بعد ما كان في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
و التعبير عنه تعالى برب العالمين للإشارة إلى أن ربوبيته تعالى منبسطة على جميع العالمين و هم من جملتهم فهو تعالى ربهم و إذا كان ربهم كان عليهم أن يؤمنوا بكتابه و يصغوا لكلامه و يصدقوه من غير تكذيب.
قوله تعالى: ﴿أَ فَبِهَذَا اَلْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ﴾ الإشارة بهذا الحديث إلى القرآن، و الإدهان به التهاون به و أصله التليين بالدهن أستعير للتهاون، و الاستفهام للتوبيخ يوبخهم تعالى على عدهم أمر القرآن هينا لا يعتنى به.
قوله تعالى: ﴿وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ قيل: المراد بالرزق حظهم من الخير، و المعنى: و تجعلون حظكم من الخير الذي لكم أن تنالوه بالقرآن أنكم تكذبون به أي تضعونه موضعه، و قيل: المراد بالرزق القرآن رزقهم الله إياه، و المعنى: تأخذون التكذيب مكان هذا الرزق الذي رزقتموه، و قيل: الكلام بحذف مضاف و التقدير:
و تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون أي وضعتم التكذيب موضع الشكر.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ ﴾ إلى قوله ﴿صَادِقِينَ﴾ رجوع إلى أول الكلام بالتفريع على تكذيبهم بأنكم إن كنتم صادقين في نفيكم للبعث مصيبين في تكذيبكم لهذا القرآن الذي ينبئكم بالبعث رددتم نفس المحتضر التي بلغت الحلقوم إذ لو لم يكن الموت بتقدير من الله كان من الأمور الاتفاقية التي ربما أمكن الاحتيال لدفعها، فإذا لم تقدروا على رجوعها و إعادة الحياة معها فاعلموا أن الموت حق مقدر من الله لسوق النفوس إلى البعث و الجزاء.
فقوله: ﴿فَلَوْ لاَ إِذَا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ﴾ تفريع على تكذيبهم بالقرآن و بما أخبر به من
البعث و الجزاء، و لو لا للتحضيض تعجيزا و تبكيتا لهم، و ضمير ﴿بَلَغَتِ﴾ للنفس، و بلوغ النفس الحلقوم كناية عن الإشراف التام للموت.
و قوله: ﴿وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ أي تنظرون إلى المحتضر أي هو بمنظر منكم.
و قوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي و الحال أنا أقرب إليه منكم لإحاطتنا به وجودا و رسلنا القابضون لروحه أقرب إليه منكم و لكن لا تبصروننا و لا رسلنا.
قال تعالى: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾: الزمر: ٢٦، و قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾: السجدة: ١١، و قال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾: الأنعام: ٦١.
و قوله: ﴿فَلَوْ لاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ تكرار لو لا لتأكيد لو لا السابقة، و ﴿مَدِينِينَ﴾ أي مجزيين من دان يدين بمعنى جزى يجزي، و المعنى: إن كنتم غير مجزيين ثوابا و عقابا بالبعث.
و قوله: ﴿تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي إن كنتم صادقين في دعواكم أن لا بعث و لا جزاء، و قوله: ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ مدخول لو لا التحضيضية بحسب التقدير و ترتيب الآيات بحسب التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم مدينين.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ رجوع إلى بيان حال الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة عند الموت و بعده و ضمير ﴿كَانَ﴾ للمتوفى المعلوم من السياق، و المراد بالمقربين السابقون المقربون المذكورون سابقا، و الروح الراحة، و الريحان الرزق، و قيل: هو الريحان المشموم من ريحان الجنة يؤتى به إليه فيشمه و يتوفى.
و المعنى: فأما إن كان المتوفى من المقربين فله أو فجزاؤه راحة من كل هم و غم و ألم و رزق من رزق الجنة و جنة نعيم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ﴾ يمكن أن يكون اللام للاختصاص الملكي و معنى ﴿فَسَلاَمٌ لَكَ﴾ أنك تختص بالسلام من أصحاب اليمين الذين هم قرناؤك و رفقاؤك فلا ترى منهم إلا خيرا و سلاما.
و قيل: لك بمعنى عليك أي يسلم عليك أصحاب اليمين، و قيل غير ذلك.
و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنه يخاطب بهذا الخطاب: سلام لك من
أصحاب اليمين.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ اَلْمُكَذِّبِينَ اَلضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ تصلية النار الإدخال فيها، و قيل: مقاساة حرها و عذابها.
و المعنى: و أما إن كان من أهل التكذيب و الضلال فلهم نزل من ماء شديد الحرارة، و مقاساة حر نار جحيم.
و قد وصفهم الله بالمكذبين الضالين فقدم التكذيب على الضلال لأن ما يلقونه من العذاب تبعة تكذيبهم و عنادهم للحق و لو كان ضلالا بلا تكذيب و عناد كانوا مستضعفين غير نازلين هذه المنزلة، و أما قوله سابقا: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا اَلضَّالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ﴾ فإذ كان المقام هناك مقام الرد لقولهم: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ إلخ، كان الأنسب توصيفهم أولا بالضلال ثم بالتكذيب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ﴾ الحق هو العلم من حيث إن الخارج الواقع يطابقه، و اليقين هو العلم الذي لا لبس فيه و لا ريب فإضافة الحق إلى اليقين نحو من الإضافة البيانية جيء بها للتأكيد.
و المعنى: أن هذا الذي ذكرناه من حال أزواج الناس الثلاثة هو الحق الذي لا تردد فيه و العلم الذي لا شك يعتريه.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ﴾ تقدم تفسيره، و هو تفريع على ما تقدمه من صفة القرآن و بيان حال الأزواج الثلاثة بعد الموت و في الحشر.
و المعنى: فإذا كان القرآن على هذه الصفات و صادقا فيما ينبئ به من حال الناس بعد الموت فنزه ربك العظيم مستعينا أو ملابسا باسمه و أنف ما يراه و يدعيه هؤلاء المكذبون الضالون.
(بحث روائي)
في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزَّارِعُونَ﴾: و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا يقولن أحدكم زرعت و ليقل حرثت.:
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عنه (ص).
و في تفسير القمي، : ﴿أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ اَلْمُزْنِ﴾ قال: من السحاب ﴿نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً﴾ لنار يوم القيامة ﴿وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ﴾ قال: المحتاجين.
و في المجمع، في قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ﴾: فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنه لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم.:
أقول: و رواه في الفقيه، مرسلا، و رواه في الدر المنثور، عن الجهني عنه (ص). و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن جرير و محمد بن نصر و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال" :أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين و في لفظ ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ﴾.
أقول: و ظاهره تفسير مواقع النجوم بأوقات نزول نجوم القرآن.
و في تفسير القمي، ":و قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ﴾ قال: معناه أقسم بمواقع النجوم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ قال: عند الله في صحف مطهرة ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ﴾ قال: المقربون. أقول: و تفسير المطهرين بالمقربين يؤيد ما أوردناه في البيان المتقدم، و قد أوردنا في ذيل قوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ الآية: الجاثية: ٢٩، حديثا عن الصادق (عليه السلام) في الكتاب المكنون.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ﴾ و قالوا: لا يجوز للجنب و الحائض و المحدث مس المصحف: عن محمد بن علي (عليه السلام) .
أقول: المراد بمس المصحف مس كتابته بدليل الروايات الأخر.
و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التعويذ يعلق على الحائض قال: نعم لا بأس. و قال: تقرؤه و تكتبه و لا تصيبه يدها.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي داود و ابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لعمرو بن حزم: و لا تمس القرآن إلا عن طهور. أقول: و الروايات فيه كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة.
و فيه، أخرج مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أصبح من الناس شاكر و منهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله و قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ اَلنُّجُومِ﴾ حتى بلغ ﴿وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾.
أقول: و قد استفاضت الرواية من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في الأنواء و ظاهرها أنها مدنية لكنها لا تلائم سياق آيات السورة كما عرفت.
و في المجمع، و قراءة علي (عليه السلام) و ابن عباس و رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و تجعلون شكركم.:
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) . و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ قال: معناه فلو كنتم غير مجازين على أعمالكم ﴿تَرْجِعُونَهَا﴾ يعني به الروح إذا بلغت الحلقوم تردونها في البدن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ﴾ في قبره ﴿وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ في الآخرة.
و في الدر المنثور، أخرج القاسم بن مندة في كتاب الأحوال و الإيمان بالسؤال عن سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن أول ما يبشر به المؤمن عند الوفاة بروح و ريحان و جنة نعيم و إن أول ما يبشر به المؤمن في قبره أن يقال: أبشر برضا الله تعالى و الجنة قدمت خير مقدم قد غفر الله لمن شيعك إلى قبرك، و صدق من شهد لك، و استجاب لمن استغفر لك.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس ":في قوله: ﴿فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْيَمِينِ﴾ قال: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه و تخبره أنه من أصحاب اليمين.
أقول: و ما أورده من المعنى مبني على كون الآية حكاية خطاب الملائكة، و التقدير قالت الملائكة سلام لك حال كونك من أصحاب اليمين فهي سلام و بشارة.
(٥٧) (سورة الحديد مدنية و هي تسع و عشرون آية) (٢٩)
[سورة الحديد (٥٧): الآیات ١ الی ٦]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾
﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ١ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢ هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظَّاهِرُ وَ اَلْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٣ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٤ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٥ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٦﴾
(بيان)
غرض السورة حث المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله كما يشعر به تأكيد الأمر به مرة بعد مرة في خلال آياتها ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ الآية، ﴿مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ الآية، ﴿إِنَّ اَلْمُصَّدِّقِينَ وَ اَلْمُصَّدِّقَاتِ وَ أَقْرَضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ و قد سمت إنفاقهم ذلك إقراضا منه لله عز اسمه فالله سبحانه خير مطلوب و هو لا يخلف الميعاد و قد وعدهم إن أقرضوه أن يضاعفه لهم و أن يؤتيهم أجرا كريما كثيرا.
و قد أشار إلى أن هذا الإنفاق من التقوى و الإيمان بالرسول و أنه يستتبع مغفرة الذنوب و إتيان كفلين من الرحمة و لزوم النور بل و اللحوق بالصديقين و الشهداء عند الله سبحانه.
و في خلال آياتها معارف راجعة إلى المبدأ و المعاد، و دعوة إلى التقوى و إخلاص الإيمان و الزهد و موعظة.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها و قد ادعى بعضهم إجماع المفسرين على ذلك.
و لقد افتتحت السورة بتسبيحه و تنزيهه تعالى بعده من أسمائه الحسنى لما في غرض السورة و هو الحث على الإنفاق من شائبة توهم الحاجة و النقص في ناحيته و نظيرتها في ذلك جميع السور المفتتحة بالتسبيح و هي سور الحشر و الصف و الجمعة و التغابن المصدرة بسبح أو يسبح.
قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ التسبيح التنزيه و هو نفي ما يستدعي نقصا أو حاجة مما لا يليق بساحة كماله تعالى، و ﴿مَا﴾ موصولة و المراد بها ما يعم العقلاء مما في السماوات و الأرض كالملائكة و الثقلين و غير العقلاء كالجمادات و الدليل عليه ما ذكر بعد من صفاته المتعلقة بالعقلاء كالإحياء و العلم بذات الصدور.
فالمعنى: نزه الله سبحانه ما في السماوات و الأرض من شيء و هو جميع العالم.
و المراد بتسبيحها حقيقة معنى التسبيح دون المعنى المجازي الذي هو دلالة وجود كل موجود في السماوات و الأرض على أن له موجدا منزها من كل نقص متصفا بكل كمال، و دون عموم المجاز و هو دلالة كل موجود على تنزهه تعالى إما بلسان القال كالعقلاء و إما بلسان الحال كغير العقلاء من الموجودات و ذلك لقوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾: إسراء: ٤٤، حيث استدرك أنهم لا يفقهون تسبيحهم و لو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده و هي قيام الحجة على الناس بوجودهم أو كان المراد تسبيحهم و تحميدهم بلسان الحال و ذلك مما يفقه الناس لم يكن للاستدراك معنى.
فتسبيح ما في السماوات و الأرض تسبيح و نطق بالتنزيه بحقيقة معنى الكلمة و إن كنا لا نفقهه، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: حم السجدة: ٢١.
و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ أي المنيع جانبه يغلب و لا يغلب، المتقن فعله لا يعرض على فعله ما يفسده عليه و لا يتعلق به اعتراض معترض.
قوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الكلام موضوع على الحصر فهو المليك في السماوات و الأرض يحكم ما يشاء لأنه الموجد لكل شيء فما في السماوات و الأرض يقوم به وجوده و آثار وجوده فلا حكم إلا له فلا ملك و لا سلطنة إلا له.
و قوله: ﴿يُحْيِي وَ يُمِيتُ﴾ إشارة إلى اسميه المحيي و المميت، و إطلاق ﴿يُحْيِي وَ يُمِيتُ﴾ يفيد شمولهما لكل إحياء و إماتة كإيجاده الملائكة أحياء من غير سبق موت، و إحيائه
الجنين في بطن أمه و إحيائه الموتى في البعث و إيجاده الجماد ميتا من غير سبق حياة و إماتته الإنسان في الدنيا و إماتته ثانيا في البرزخ على ما يشير إليه قوله: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ﴾: المؤمن: ١١ و في ﴿يُحْيِي وَ يُمِيتُ﴾ دلالة على الاستمرار.
و قوله: ﴿وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيه إشارة إلى صفة قدرته و أنها مطلقة غير مقيدة بشيء دون شيء، و في تذييل الآية بالقدرة على كل شيء مناسبة مع ما تقدمها من الإحياء و الإماتة لما ربما يتوهمه المتوهم أن لا قدرة على إحياء الموتى و لا عين منهم و لا أثر.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظَّاهِرُ وَ اَلْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لما كان تعالى قديرا على كل شيء مفروض كان محيطا بقدرته على كل شيء من كل جهة فكل ما فرض أولا فهو قبله فهو الأول دون الشيء المفروض أولا، و كل ما فرض آخرا فهو بعده لإحاطة قدرته به من كل جهة فهو الآخر دون الشيء المفروض آخرا، و كل شيء فرض ظاهرا فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهرا، و كل شيء فرض أنه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطنا فهو تعالى الأول و الآخر و الظاهر و الباطن على الإطلاق و ما في غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافية نسبية.
و ليست أوليته تعالى و لا آخريته و لا ظهوره و لا بطونه زمانية و لا مكانية بمعنى مظروفيته لهما و إلا لم يتقدمهما و لا تنزه عنهما سبحانه بل هو محيط بالأشياء على أي نحو فرضت و كيفما تصورت.
فبان مما تقدم أن هذه الأسماء الأربعة الأول و الآخر و الظاهر و الباطن من فروع اسمه المحيط و هو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكل شيء و يمكن تفريع الأسماء الأربعة على إحاطة وجوده بكل شيء فإنه تعالى ثابت قبل ثبوت كل شيء و ثابت بعد فناء كل شيء و أقرب من كل شيء ظاهر و أبطن من الأوهام و العقول من كل شيء خفي باطن.
و كذا للأسماء الأربعة نوع تفرع على علمه تعالى و يناسبه تذييل الآية بقوله: ﴿وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
و فسر بعضهم الأسماء الأربعة بأنه الأول قبل كل شيء و الآخر بعد هلاك كل شيء الظاهر بالأدلة الدالة عليه و الباطن غير مدرك بالحواس.
و قيل: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، و الآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، و الظاهر الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه، و الباطن العالم بكل شيء فلا أحد أعلم منه.
و قيل: الأول بلا ابتداء و الآخر بلا انتهاء و الظاهر بلا اقتراب و الباطن بلا احتجاب.
و هناك أقوال أخر في معناها غير جيدة أغمضنا عن إيرادها.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ تقدم تفسيره.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ تقدم تفصيل القول في معنى العرش في سورة الأعراف آية: ٥٤.
و تقدم أن الاستواء على العرش كناية عن الأخذ في تدبير الملك و لذا عقبه بالعلم بجزئيات الأحوال لأن العلم من لوازم التدبير.
و قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ الولوج كما قال الراغب الدخول في مضيق، و العروج ذهاب في صعود، و المعنى: يعلم ما يدخل و ينفذ في الأرض كماء المطر و البذور و غيرهما و ما يخرج من الأرض كأنواع النبات و الحيوان و الماء و ما ينزل من السماء كالأمطار و الأشعة و الملائكة و ما يعرج فيها و يصعد كالأبخرة و الملائكة و أعمال العباد.
قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ لإحاطته بكم فلا تغيبون عنه أينما كنتم و في أي زمان عشتم و في أي حال فرضتم فذكر عموم الأمكنة ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ لأن الأعرف في مفارقة شيء شيئا و غيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان و إلا فنسبته تعالى إلى الأمكنة و الأزمنة و الأحوال سواء.
و قيل: المعية مجاز مرسل عن الإحاطة العلمية.
قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ كالفرع المترتب على ما قبله من كونه معهم أينما كانوا و كونه بكل شيء عليما فإن لازم حضوره عندهم من دون مفارقة ما و احتجاب و هو عليم أن يكون بصيرا بأعمالهم يبصر ظاهر عملهم، و ما في باطنهم من نية و قصد.
قوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ﴾ كرر قوله: ﴿لَهُ مُلْكُ﴾ إلخ، لابتناء رجوع الأشياء إليه على عموم الملك فصرح به ليفيد الابتناء، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ ﴾: المؤمن: ١٦.
و قوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ﴾ الأمور جمع محلى باللام يفيد العموم كقوله: ﴿أَلاَ إِلَى اَللَّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ﴾: الشورى: ٥٣، فما من شيء إلا و يرجع إلى الله، و لا راد إليه تعالى إلا هو لاختصاص الملك به فله الأمر و له الحكم.
و في الآية وضع الظاهر موضع الضمير في ﴿إِلَى اَللَّهِ﴾ و كذا في الآية السابقة ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ و لعل الوجه في ذلك أن تقرع الجملتان قلوبهم كما يقرع المثل السائر لما سيجيء من ذكر يوم القيامة و جزيل أجر المنفقين في سبيل الله فيه.
قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ﴾ إيلاج الليل في النهار و إيلاج النهار في الليل اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر باختلاف فصول السنة في كل من البقاع الشمالية و الجنوبية بعكس الأخرى، و قد تقدم في كلامه تعالى غير مرة.
و المراد بذات الصدور الأفكار المضمرة و النيات المكنونة التي تصاحب الصدور و تلازمها لما أنها تنسب إلى القلوب و القلوب في الصدور، و الجملة أعني قوله: ﴿وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ﴾ بيان لإحاطة علمه بما في الصدور بعد بيان إحاطة بصره بظواهر أعمالهم بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، و قال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية.:
أقول: و رواه أيضا عن ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير عنه (ص).
و في الكافي، بإسناده عن عاصم بن حميد قال: سئل علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد فقال: إن الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى:
﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ و الآيات من سورة الحديد إلى قوله: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ﴾ فمن رام وراء ذلك فقد هلك.
و في تفسير القمي، ": ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ﴾ قال: هو
قوله: أوتيت جوامع الكلم، و قوله: ﴿هُوَ اَلْأَوَّلُ﴾ قال: أي قبل كل شيء، ﴿وَ اَلْآخِرُ﴾ قال: يبقى بعد كل شيء، ﴿وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ﴾ قال: بالضمائر.
و في الكافي، و روي: أنه يعني عليا (عليه السلام) سئل أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء و أرضا؟ قال: أين سؤال عن مكان و كان الله و لا مكان.
و في التوحيد، خطبة للحسن بن علي (عليه السلام) و فيها: الحمد لله الذي لم يكن فيه أول معلوم، و لا آخر متناه، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، فلا تدرك العقول و أوهامها و لا الفكر و خطراتها و لا الألباب و أذهانها صفته فتقول: متى و لا بدئ مما، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما. أقول: و قوله أول معلوم إلخ، أوصاف توضيحية أي ليس له أول و لو كان له أول كان من الجائز أن يتعلق به علم و لا آخر و لو كان له آخر كان متناهيا، و لا قبل و لو كان لكان جائز الإدراك و لا بعد و إلا لكان محدودا.
و قوله: و لا بدئ مما أي لم يبتدأ من شيء حتى يكون له أول و لا ظاهر على ما أي يتفوق على شيء بالوقوع و الاستقرار عليه كالجسم على الجسم «و لا باطن فيما» أي لم يتبطن في شيء بالدخول فيه و الاستتار به.
و في نهج البلاغة،: و كل ظاهر غيره غير باطن، و كل باطن غيره غير ظاهر.
أقول: معناه أن حيثية الظهور في غيره تعالى غير حيثية البطون و بالعكس، و أما هو تعالى فلما كان أحدي الذات لا تنقسم و لا تتجزى إلى جهة و جهة كان ظاهرا من حيث هو باطن و باطنا من حيث هو ظاهر فهو باطن خفي من كمال ظهوره و ظاهر جلي من كمال بطونه.
و فيه،: الحمد لله الأول فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، و الظاهر فلا شيء فوقه، و الباطن فلا شيء دونه. أقول: المراد بالقبلية و البعدية ليس هو القبلية و البعدية الزمانية بأن يفرض هناك امتداد زماني غير متناهي الطرفين و قد حل العالم قطعة منه خاليا عنه طرفاه و يكون وجوده تعالى و تقدس منطبقا على الزمان كله غير خال عنه شيء من جانبيه و إن ذهبا إلى غير النهاية فيتقدم وجوده تعالى على العالم زمانا و يتأخر عنه زمانا و لو كان كذلك لكان تعالى متغيرا في ذاته و أحواله بتغير الأزمنة المتجددة عليه، و كان قبليته
و بعديته بتبع الزمان و كان الزمان هو الأول و الآخر بالأصالة.
و كذلك ليست ظاهريته و باطنيته بحسب المكان بنظير البيان بل هو تعالى سابق بنفس ذاته المتعالية على كل شيء مفروض و آخر بنفس ذاته عن كل أمر مفروض أنه آخر، و ظاهر، و باطن كذلك، و الزمان مخلوق له متأخر عنه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر و أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء فما ذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء و هو الآخر فليس بعده شيء و هو الظاهر فوق كل شيء و هو الباطن دون كل شيء و هو بكل شيء عليم. و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله عز و جل ربنا و العلم ذاته و لا معلوم فلما أحدث الأشياء وقع العلم منه على المعلوم. أقول: ليس المراد بهذا العلم الصور الذهنية فيكون تعالى كباني دار يتصور للدار صورة و هيئة قبل بنائها ثم يبنيها على ما تصور فتنطبق الصورة الذهنية على البناء الخارجي ثم تنهدم الدار و الصورة الذهنية على حالها، و هذا هو المسمى بالعلم الكلي و هو مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم بمعلومه ثم المعلوم إذا تحقق في الخارج كان ذات المعلوم عين علمه تعالى به، و يسمى الأول العلم الذاتي و الثاني العلم الفعلي.
و فيه، خطبة لعلي (عليه السلام) و فيها: و علمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها، و ليس بينه و بين معلومه علم غيره. أقول: المراد به أن ذاته تعالى عين علمه، و ليست هناك صورة زائدة.
[سورة الحديد (٥٧): الآیات ٧ الی ١٥]
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ٧ وَ مَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ إِنَّ اَللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٩ وَ مَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنى وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١٠ مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ١١ يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ١٢ يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ ١٣ يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلى وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ ١٤ فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ١٥﴾
(بيان)
أمر مؤكد بالإنفاق في سبيل الله و خاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ﴾ الآية، و يتأيد بذلك ما قيل: إن قوله: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا﴾ إلخ، نزل في غزوة تبوك.
قوله تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ إلخ، المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله و رسوله لا للكفار و لا للمؤمنين و الكفار جميعا كما قيل، و أمر الذين تلبسوا بالإيمان بالله و رسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء و العفة و الشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حق ثبوتها لم يتخلف عنها أثرها الخاص و من آثار الإيمان بالله و رسوله الطاعة فيما أمر الله و رسوله به.
و من هنا يظهر أولا: أن أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من الإيمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، و هذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أن الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الإرضاء.
و ثانيا: أن قوله: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا﴾ أمر بالإنفاق مع التلويح إلى أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيئول إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.
و قوله: ﴿وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ استخلاف الإنسان جعله خليفة، و المراد به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾: البقرة: ٣٠، و التعبير عما بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان الواقع و لترغيبهم في الإنفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله و هم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه و لم تتحرج نفوسهم من ذلك.
و إما خلافتهم عمن سبقهم من الأجيال كما يخلف كل جيل سابقه، و في التعبير به أيضا ترغيب في الإنفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنه كذلك لا يدوم لهم و سيتركونه لغيرهم و هان عليهم إنفاقه و سخت بذلك نفوسهم.
و قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وعد للأجر على الإنفاق تأكيدا للترغيب، و المراد بالإيمان الإيمان بالله و رسوله.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ إلخ، المراد بالإيمان الإيمان بحيث يترتب عليه آثاره و منها الإنفاق في سبيل الله و إن شئت فقل:
المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإيمان عليه .
و قوله: ﴿وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ عبر الرب بالرب و إضافة إليهم تلويحا إلى علة توجه الدعوة و الأمر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنه ربكم يجب عليكم أن تؤمنوا به.
و قوله: ﴿وَ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول الآية، و ضمير ﴿أَخَذَ﴾ لله سبحانه أو للرسول و على أي حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله و رسالة رسوله يوم آمنوا به (ص) من أنهم على السمع و الطاعة.
و قيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذر، و على هذا فضمير ﴿أَخَذَ﴾ لله سبحانه، و فيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه، على أن أخذ الميثاق في الذر لا يختص بالمؤمنين بل يعم المنافقين و الكفار.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ عَلىَ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ﴾ إلخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض الدين، و فاعل ﴿لِيُخْرِجَكُمْ﴾ الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) و مرجع الثاني أيضا هو الأول فالميثاق ميثاقه و قد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أن الإيمان به و برسوله إيمان به و لذلك قال في صدر الآية: ﴿وَ مَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فذكر نفسه و لم يذكر رسوله إشارة إلى أن الإيمان برسوله إيمان به.
و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ﴾ في تذييل الآية برأفته تعالى و رحمته إشارة إلى أن الإيمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم و أصلح و هم الذين ينتفعون به دون الله و رسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان و الإنفاق.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ الميراث و التراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من وراثه، و إضافة الميراث إلى السماوات و الأرض بيانية فالسماوات و الأرض هي الميراث بما فيهما من الأشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذوو الشعور من سكنتهما فالسماوات و الأرض شاملة لما فيهما مما خلق منهما
و يتصرف فيها ذوو الشعور كالإنسان مثلا بتخصيص ما يتصرفون فيه لأنفسهم و هو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.
غير أنهم لا يبقون و لا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم و هكذا حتى يفنى الجميع و لا يبقى إلا هو سبحانه.
فالأرض مثلا و ما فيها و عليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها ممن قبله فكانت ميراثا دائما دائرا بينهم خلفا عن سلف، و ميراث من جهة أنهم سيفنون جميعا و لا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
و لله سبحانه ميراث السماوات و الأرض بكلا المعنيين، أما الأول: فلأنه الذي يملكهم المال و هو المالك لما ملكهم، قال تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾: لقمان: ٢٦، و قال: ﴿وَ لِلَّهِ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾: النور: ٤٢، و قال: ﴿وَ آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اَللَّهِ اَلَّذِي آتَاكُمْ﴾: النور: ٣٣.
و أما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾: الرحمن: ٢٦ و غيره، و الذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثا هو المعنى الثاني.
و كيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى و لا يبقى لهم و لا لغيرهم، و الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَ لِلَّهِ﴾ لتشديد التوبيخ.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُوا﴾ إلخ، الاستواء بمعنى التساوي، و قسيم قوله: ﴿مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ﴾ محذوف إيجازا لدلالة قوله: ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُوا﴾ عليه.
و المراد بالفتح كما قيل فتح مكة أو فتح الحديبية و عطف القتال على الإنفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالإنفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الإنفاق في الجهاد.
و كان الآية مسوقة لبيان أن الإنفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحب عند الله و أعظم درجة و منزلة و إلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح و القتال الذي بادروا إليه قبل الفتح و بعض المقاتل التي بعده.
و قوله: ﴿وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنىَ﴾ أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق و قاتل قبل الفتح أو أنفق و قاتل بعده و إن كانت الطائفة الأولى أعظم درجة من الثانية، و فيه تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقا و قتالا أن لهم نيلا من رحمته و ليسوا بمحرومين مطلقا فلا موجب لأن ييأسوا منها و إن تأخروا.
و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد للتوبيخ و تقرير و تثبيت لقوله: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ﴾ إلخ، و لقوله: ﴿وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللَّهُ اَلْحُسْنىَ﴾ و يمكن أن يتعلق بالجملة الأخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم و أشمل.
قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ قال الراغب: و سمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضا. انتهى، و قال في المجمع،: و أصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله. قال: و المضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله. انتهى، و قال الراغب: الأجر و الأجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال: و لا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع و الضر. انتهى ملخصا.
و ما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد فإن العبد و ما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكا لا يقبل النقل و الانتقال غير أنه اعتبر اعتبارا تشريعيا العبد مالكا و ملكه عمله، و هو المالك لما ملكه و هو تفضل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثوابا على عمله و سماه أجرا و جزاء و هو تفضل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلا العبد قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾: آل عمران: ١٧٢، و قال: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: حم السجدة: ٨، و قال بعد وصف الجنة و نعيمها: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾: الإنسان: ٢٢، و ما وعده من الشكر و عدم المن عند إيتاء الثواب تمام التفضل.
و في الآية حث بليغ على ما ندب إليه من الإنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الذي ينفق منهم في سبيل الله و مثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه و عليه أن يرده ثم قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه و لم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجرا كريما في الآخرة و الأجر الكريم هو المرضي في نوعه و الأجر الأخروي كذلك لأنه غاية ما يتصور
من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعىَ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ﴾ إلخ، اليوم ظرف لقوله: ﴿لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ و المراد به يوم القيامة، و الخطاب في ﴿تَرَى﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو لكل سامع يصح خطابه، و الظاهر أن الباء في ﴿بِأَيْمَانِهِمْ﴾ بمعنى في.
و المعنى: لمن أقرض الله قرضا حسنا أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كل من يصح منه الرؤية - المؤمنين بالله و رسوله و المؤمنات يسعى نورهم أمامهم و في أيمانهم و اليمين هو الجهة التي منها سعادتهم.
و الآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الأمم و لا تختص بهذه الأمة، و التعبير عن إشراق النور بالسعي يشعر بأنهم ساعون إلى درجات الجنة التي أعدها الله سبحانه لهم و تستنير لهم جهات السعادة و مقامات القرب واحدة بعد واحدة حتى يتم لهم نورهم كما قال تعالى:
﴿وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً﴾: الزمر: ٧٣، و قال: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً﴾: مريم: ٨٥، و قال: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعىَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾: التحريم: ٨.
و للمفسرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ الآية عليها، و سيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قوله: ﴿بُشْرَاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إلخ، و المراد بالبشرى ما يبشر به و هو الجنة و الباقي ظاهر.
و قوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ﴾ كلام الله سبحانه و الإشارة إلى ما ذكر من سعي النور و البشرى أو من تمام قول الملائكة و الإشارة إلى الجنات و الخلود فيها.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، النظر إذا تعدى بنفسه أفاد معنى الانتظار و الإمهال، و إذا عدي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء و إذا عدي بفي كان بمعنى التأمل، و الاقتباس أخذ قبس من النار.
و السياق يفيد أنهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها و قد ألجئوا إلى المسير نحو دارهم التي يخلدون فيها غير أن المؤمنين و المؤمنات يسيرون بنورهم الذي يسعى بين
أيديهم و بأيمانهم فيبصرون الطريق و يهتدون إلى مقاماتهم، و أما المنافقون و المنافقات فهم مغشيون بالظلمة لا يهتدون سبيلا و هم مع المؤمنين كما كانوا في الدنيا معهم و معدودين منهم فيسبق المؤمنون و المؤمنات إلى الجنة و يتأخر عنهم المنافقون و المنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين و المؤمنات أن ينتظروهم حتى يلحقوا بهم و يأخذوا قبسا من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.
و قوله: ﴿قِيلَ اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾ القائل به إما الملائكة أو قوم من كمل المؤمنين كأصحاب الأعراف.
و كيف كان فهو من الله و بإذنه، و الخطاب بقوله: ﴿اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً﴾ قيل: إنه خطاب مبني على التهكم و الاستهزاء كما كانوا يستهزءون في الدنيا بالمؤمنين، و الأظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، و محصل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم و عملتم فيها ما عملتم على النفاق، و التمسوا من تلك الأعمال نورا فإنما النور نور الأعمال أو الإيمان و لا إيمان لكم و لا عمل.
و يمكن أن يجعل هذا وجها على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله:
﴿اِرْجِعُوا﴾ أمرا بالرجوع إلى الدنيا و اكتساب النور بالإيمان و العمل الصالح و ليسوا براجعين و لا يستطيعون فيكون الأمر بالرجوع كالأمر بالسجود المذكور في قوله تعالى:
﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ﴾: القلم: ٤٣.
و قيل: المراد ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور و التمسوا من هناك فيرجعون فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم و قد ضرب بينهم بسور، و هذا خدعة منه تعالى يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال: ﴿إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اَللَّهَ وَ هُوَ خَادِعُهُمْ﴾: النساء: ١٤٢.
قوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ﴾ سور المدينة حائطها الحاجز بينها و بين الخارج منها، و الضمير في ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ﴾ راجع إلى المؤمنين و المنافقين جميعا أي ضرب بين المؤمنين و بين المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الأخرى.
قيل: السور هو الأعراف و هو غير بعيد و قد تقدمت إشارة إليه في تفسير قوله
تعالى: ﴿وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ﴾ الآية: الأعراف: ٤٦، و قيل: السور غير الأعراف.
و قوله: ﴿لَهُ بَابٌ﴾ أي للسور باب و هذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم و ارتباط و هم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب. على أنهم يرون أهل الجنة و يزيد بذلك حسرتهم و ندامتهم.
و قوله: ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ﴾ ﴿بَاطِنُهُ﴾ مبتدأ و جملة ﴿فِيهِ اَلرَّحْمَةُ﴾ مبتدأ و خبر و هي خبر ﴿بَاطِنُهُ﴾ و كذا ﴿ظَاهِرُهُ﴾ مبتدأ و جملة ﴿مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ﴾ مبتدأ و خبر هي خبره، و ضميرا ﴿فِيهِ﴾ للباطن و الظاهر.
و يظهر من كون باطن السور فيه رحمة و ظاهره من قبله العذاب أن السور محيط بالمؤمنين و هم في داخله و المنافقون في الخارج منه.
و في اشتمال داخله الذي يلي المؤمنين على الرحمة و ظاهره الذي يلي المنافقين على العذاب مناسبة لحال الإيمان في الدنيا فإنه نعمة لأهل الإخلاص من المؤمنين يبتهجون بها و يلتذون و عذاب لأهل النفاق يتحرجون من التلبس به و يتألمون منه.
قوله تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب السؤال كأنه قيل: فما ذا يفعل المنافقون و المنافقات بعد ضرب السور و مشاهدة العذاب من ظاهره؟ فقيل: ينادونهم إلخ.
و المعنى: ينادي المنافقون و المنافقات المؤمنين و المؤمنات بقولهم: ﴿أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين و المؤمنات في ظاهر الدين.
و قوله: ﴿قَالُوا بَلىَ﴾ إلى آخر الآية جواب المؤمنين و المؤمنات لهم و المعنى: ﴿قَالُوا﴾ أي قال المؤمنون و المؤمنات جوابا لهم ﴿بَلىَ﴾ كنتم في الدنيا معنا ﴿وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ﴾ أي محنتم و أهلكتم ﴿أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ﴾ الدوائر بالدين و أهله ﴿وَ اِرْتَبْتُمْ﴾ و شككتم في دينكم ﴿وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمَانِيُّ﴾ و منها أمنيتكم أن الدين سيطفأ نوره و يتركه أهله ﴿حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ﴾ و هو الموت ﴿وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ﴾ بفتح الغين و هو الشيطان.
و الآية كما ترى تفيد أن المنافقين و المنافقات يستنصرون المؤمنين و المؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسلين بأنهم كانوا معهم في الدنيا ثم تفيد أن المؤمنين و المؤمنات يجيبون بأنهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم
و يتربصون و يرتابون و تغرهم الأماني و يغرهم بالله الغرور، و هذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة و لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم قال تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾: الشعراء: ٨٩.
قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تتمة كلام المؤمنين و المؤمنات يخاطبون به المنافقين و المنافقات و يضيفون إليهم الكفار و هم المعلنون لكفرهم أنهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾: المدثر: ٣٨، لا يؤخذ منهم فدية يخلصون بها أنفسهم و الفدية أحد الأمرين اللذين بهما التخلص من الرهانة و الآخر ناصر ينصر فينجي و قد نفوه بقولهم: ﴿مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ﴾ إلخ.
فقوله: ﴿مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾ ينفي أي ناصر ينصرهم و ينجيهم من النار غير النار على ما يفيده قوله: ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ من الحصر، و المولى هو الناصر و الجملة مسوقة للتهكم.
و يمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الأمر فإنهم كانوا يدعون لحوائجهم من المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المسكن غير الله سبحانه و حقيقته النار فاليوم مولاهم النار و هي التي تعد لهم ذلك فمأكلهم من الزقوم و مشربهم من الحميم و ملبسهم من ثياب قطعت من النار و قرناؤهم الشياطين و مأواهم النار على ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أ قريش؟ قال: لا و لكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة و ألين قلوبا. قلنا: أ هم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم و لا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا و بين الناس ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ﴾ الآية.
أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة و هي مشتملة على الآية و يشكل بأن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد الفتح و المراد به إما الحديبية أو فتح مكة فلا تنطبق على ما قبل الفتح.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة قال ":لما نزلت هذه الآية ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قَاتَلَ﴾ قال أبو الدحداح: و الله لأنفقن اليوم نفقة أدرك بها من قبلي و لا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللهم كل شيء يملكه أبو الدحداح فإن نصفه لله حتى بلغ فرد نعله ثم قال: و هذا.
و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ﴾ قال: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا و يضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين: ﴿أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا: بَلىَ وَ لَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ قال: بالمعاصي ﴿وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ﴾ قال: أي شككتم و تربصتم.
و قوله: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ﴾ قال: و الله ما عنى بذلك اليهود و النصارى و ما عنى به إلا أهل القبلة ثم قال: ﴿مَأْوَاكُمُ اَلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ قال: هي أولى بكم.
أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم.
و في الكافي، بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تجنبوا المنى فإنها تذهب بهجة ما خولتم و تستصغرون بها مواهب الله جل و عز عندكم و تعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم.
[سورة الحديد (٥٧): الآیات ١٦ الی ٢٤]
﴿أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ لاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ١٦ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ١٧﴾
﴿إِنَّ اَلْمُصَّدِّقِينَ وَ اَلْمُصَّدِّقَاتِ وَ أَقْرَضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ١٨ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ ١٩ اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ ٢٠ سَابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اَللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ ٢١ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ٢٢ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ٢٣ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ٢٤﴾
(بيان)
جرى على وفق مقصد الكلام السابق و هو الحث و الترغيب في الإيمان بالله و رسوله
و الإنفاق في سبيل الله و تتضمن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة القلوب منهم، و تأكيد الحث على الإنفاق ببيان درجة المنفقين عند الله و الأمر بالمسابقة إلى المغفرة و الجنة و ذم الدنيا و أهلها الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل.
و قد تغير السياق خلال الآيات إلى سياق عام يشمل المسلمين و أهل الكتاب بعد اختصاص السياق السابق بالمسلمين و سيجيء توضيحه.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ﴾ إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني إنى و إناء أي جاء وقته، و خشوع القلب تأثره قبال العظمة و الكبرياء، و المراد بذكر الله ما يذكر به الله، و ما نزل من الحق هو القرآن النازل من عنده تعالى و ﴿مِنَ اَلْحَقِّ﴾ بيان لما نزل، و من شأن ذكر الله تعالى عند المؤمن أن يعقب خشوعا كما أن من شأن الحق النازل من عنده تعالى أن يعقب خشوعا ممن آمن بالله و رسله.
و قيل: المراد بذكر الله و ما نزل من الحق جميعا القرآن، و على هذا فذكر القرآن بوصفيه لكون كل من الوصفين مستدعيا لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي الخشوع كما أنه لكونه حقا نازلا من عنده تعالى يستدعي الخشوع.
و في الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة و عدم خشوعها لذكر الله و الحق النازل من عنده تعالى و تشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الذين نزل عليهم الكتاب و طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و قوله: ﴿وَ لاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿تَخْشَعَ﴾ إلخ، و المعنى: أ لم يأن لهم أن تخشع قلوبهم و أن لا يكونوا إلخ، و الأمد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان و الأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدأ و الغاية و لذلك قال بعضهم: إن المدى و الأمد يتقاربان. انتهى.
و قد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية و القلب القاسي حيث يفقد الخشوع و التأثر عن الحق ربما خرج عن زي العبودية فلم يتأثر عن المناهي و اقترف الإثم و الفسوق، و لذا أردف قوله: ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ بقوله: ﴿وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ إلى آخر الآية في تعقيب عتاب
المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم و ترغيب لهم في الخشوع.
و يمكن أن يكون من تمام العتاب السابق و يكون تنبيها على أن الله لا يخلي هذا الدين على ما هو عليه من الحال بل كلما قست قلوب و حرموا الخشوع لأمر الله جاء بقلوب حية خاشعة له يعبد بها كما يريد.
فتكون الآية في معنى قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اَللَّهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾: سورة محمد: ٣٨.
و لذلك ذيل الآية بقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُصَّدِّقِينَ وَ اَلْمُصَّدِّقَاتِ وَ أَقْرَضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ تكرار لحديث المضاعفة و الأجر الكريم للترغيب في الإنفاق في سبيل الله و قد أضيف إلى الذين أقرضوا الله قرضا حسنا المصدقون و المصدقات.
و المصدقون و المصدقات بتشديد الصاد و الدال المتصدقون و المتصدقات، و قوله:
﴿وَ أَقْرَضُوا اَللَّهَ﴾ عطف على مدخول اللام في ﴿اَلْمُصَّدِّقِينَ﴾، و المعنى: أن الذين تصدقوا و الذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ما أعطوه و لهم أجر كريم.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ إلخ، لم يقل: آمنوا بالله و رسوله كما قال في أول السورة: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا﴾ و قال في آخرها: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ لأنه تعالى لما ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله: ﴿وَ لاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ﴾ عدل عن السياق السابق إلى سياق عام يشمل المسلمين و أهل الكتاب جميعا كما قال بعد:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ و أما الآيتان المذكورتان في أول السورة و آخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الأمة خاصة و لذا جيء فيهما بالرسول مفردا.
و المراد بالإيمان بالله و رسله محض الإيمان الذي لا يفارق بطبعه الطاعة و الاتباع كما مرت الإشارة إليه في قوله: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ﴾ الآية، و المراد بقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ﴾ إلحاقهم بالصديقين و الشهداء بقرينة قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ و قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ﴾ فهم ملحقون بالطائفتين يعامل معهم معاملة الصديقين و الشهداء فيعطون مثل أجرهم و نورهم.
و الظاهر أن المراد بالصديقين و الشهداء هم المذكورون في قوله: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾: النساء: ٦٩، و قد تقدم في تفسير الآية أن المراد بالصديقين هم الذين سرى الصدق في قولهم و فعلهم فيفعلون ما يقولون و يقولون ما يفعلون، و الشهداء هم شهداء الأعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين في سبيل الله.
فهؤلاء الذين آمنوا بالله و رسله ملحقون بالصديقين و الشهداء منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم و نورهم.
و قوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ﴾ ضمير ﴿لَهُمْ﴾ للذين آمنوا، و ضمير ﴿أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ﴾ للصديقين و الشهداء أي للذين آمنوا أجر من نوع أجر الصديقين و الشهداء و نور من نوع نورهم، و هذا معنى قول من قال: إن المعنى: لهم أجر كأجرهم و نور كنورهم.
و ربما قيل: إن الآية مسوقة لبيان أنهم صديقون و شهداء على الحقيقة من غير إلحاق و تنزيل فهم هم لهم أجرهم و نورهم، و لعل السياق لا يساعد عليه.
و ربما قيل: إن قوله: ﴿وَ اَلشُّهَدَاءُ﴾ ليس عطفا على قوله: ﴿اَلصِّدِّيقُونَ﴾ بل استئناف و ﴿اَلشُّهَدَاءُ﴾ مبتدأ خبره ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ و خبره الآخر ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ فقد قيل: و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون، و قد تم الكلام ثم استؤنف و قيل: ﴿وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ كما قيل: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: آل عمران: ١٦٩، و المراد بالشهداء المقتولون في سبيل الله، ثم تمم الكلام بقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ﴾.
و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ﴾ أي لا يفارقونها و هم فيها دائمين.
و قد تعرض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصديقين و الشهداء و هم خيار الناس و الناجون قطعا، و الكفار المكذبين لآياته و هم شرار الناس و الهالكون قطعا و بقي فريق بين الفريقين و هم المؤمنون المقترفون للمعاصي و الذنوب على طبقاتهم في التمرد على الله و رسوله، و هذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرض لشأن الناس يوم القيامة.
و ذلك ليكون بعثا لقريحتي الخوف و الرجاء في ذلك الفريق المتخلل بين الخيار و الشرار فيميلوا إلى السعادة و يختاروا النجاة على الهلاك.
و لذلك أعقب الآية بذم الحياة الدنيا التي تعلق بها هؤلاء الممتنعون من الإنفاق في سبيل الله
ثم بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة و الجنة ثم بالإشارة إلى أن ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم و أنفسهم مكتوبة في كتاب سابق و قضاء متقدم فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الإنفاق في سبيل الله، فيبخلوا و يمسكوا أو يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلفوا و يقعدوا.
قوله تعالى: ﴿اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ﴾ إلخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، و اللهو ما يشغل الإنسان عما يهمه، و الزينة بناء نوع و ربما يراد به ما يتزين به و هي ضم شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، و التفاخر المباهاة بالأنساب و الأحساب، و التكاثر في الأموال و الأولاد.
و الحياة الدنيا عرض زائل و سراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة:
اللعب و اللهو و الزينة و التفاخر و التكاثر و هي التي يتعلق بها هوى النفس الإنسانية ببعضها أو بجميعها و هي أمور وهمية و أعراض زائلة لا تبقى للإنسان و ليست و لا واحدة منها تجلب للإنسان كمالا نفسيا و لا خيرا حقيقيا.
و عن شيخنا البهائي رحمه الله أن الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان و مراحل حياته فيتولع أولا باللعب و هو طفل أو مراهق ثم إذا بلغ و اشتد عظمه تعلق باللهو و الملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة و المراكب البهية و المنازل العالية و توله للحسن و الجمال ثم إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب و الأنساب ثم إذا شاب سعى في تكثير المال و الولد.
و قوله: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾ مثل لزينة الحياة الدنيا التي يتعلق بها الإنسان غرورا ثم لا يلبث دون أن يسلبها.
و الغيث المطر و الكفار جمع كافر بمعنى الحارث، و يهيج من الهيجان و هو الحركة، و الحطام الهشيم المتكسر من يابس النبات.
و المعنى: أن مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب الحراث نباته الحاصل بسببه ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفر اللون ثم يكون هشيما متكسرا متلاشيا تذروه الرياح .
و قوله: ﴿وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ﴾ سبق المغفرة على
[1] المراد بالاسم ما يحكي عنه الاسم اللفظي دون اللفظ الحاكي.
[2] الرهج بفتحتين و بفتح فسكون ما أثير من الغبار.
[3] الآية ٢٧ و ٢٨ من سورة ص.
|