00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 232 الى ص 308  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الحادي عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و من هنا يظهر أن الاستثناء يفيد أنه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشق، و كان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية و سياسات الملوك.

و قوله: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ و كان امتنانا عليه.

و في قوله: ﴿وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ بيان أن العلم من الأمور التي لا يقف على حد ينتهي إليه بل كل ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.

و ينبغي أن يعلم أن ظاهر قوله: ﴿ذِي عِلْمٍ هو العلم الطارئ على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة ﴿ذِي من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.

على أن الجملة ﴿وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ إنما تصدق فيما أمكن هناك فرض ﴿فَوْقَ و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حد لذاته و لا نهاية.

و لا يبعد أن يكون قوله: ﴿وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ إشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه أورد في هيئة النكرة صونا للسان عن تعريفه للتعظيم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا من أم واحدة، و المعنى أنهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه كان له أخ و قد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما و نحن مفارقوهما في الأم.

و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا:

﴿وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ لأنهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم: ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يناقضه و هو ظاهر. على أنهم أظهروا

 

 

 

 بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه و لعلهم لم يشعروا به و هذا يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم.

و بهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً كما أن الظاهر أن قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً إلى آخر الآية كالبيان لقوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ و كما أن قوله: ﴿وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ عطف تفسير لقوله: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ.

و المعنى و الله أعلم ﴿فَأَسَرَّهَا أي أخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبين حقيقة الحال بل ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ و كان هناك قائلا يقول: كيف أسرها في نفسه فأجيب أنه ﴿قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كله ﴿وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ إنه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم و لم ينفه.

و ذكر بعض المفسرين أن معنى قوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً إلخ: أنكم أسوأ حالا منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أ سرق أخ له من قبل أم لا.

و فيه: أن من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً لكن الكلام فيما تلقاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلا بما تقدم.

و ربما ذكر بعضهم أن التي أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ سياق الآيات يدل على أنهم إنما قالوا هذا القول لما شاهدوا أنه استحق الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل

 

 

 

 العزيز، و كلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتهم ليرجعوه إلى أبيه.

و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوة و الإحسان من العزيز.

قوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ رد منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا إلى آخر الآية قال في المجمع،: اليأس‏ قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس. قال:

و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.

و النجي القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه: ﴿وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا و إنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به، و المناجاة المسارة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسما و مصدرا قال سبحانه: ﴿وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ أي يتناجون، و قال في المصدر: ﴿إِنَّمَا اَلنَّجْوى‏ مِنَ اَلشَّيْطَانِ و جمع النجي أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه. انتهى.

و الضمير في قوله: ﴿فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى ﴿فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا أي إخوة يوسف ﴿مِنْهُ أي من يوسف أن يخلي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه ﴿خَلَصُوا و خرجوا من بين الناس إلى فراغ ﴿نَجِيًّا يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.

﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ مخاطبا لسائرهم ﴿أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ ألا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلا بأخيكم، ﴿وَ مِنْ قَبْلُ هذه الواقعة ﴿مَا فَرَّطْتُمْ أي تفريطكم و تقصيركم ﴿فِي أمر ﴿يُوسُفَ عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردوه إليه سالما فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم أباكم أنه أكله الذئب.

﴿فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى و لن أفارق أرض

 

 

 

 مصر ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به ﴿أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لي كل باب و ذلك إما بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.

أما أنا فاختار البقاء هاهنا و أما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.

قوله تعالى: ﴿اِرْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ قيل المراد بقوله: ﴿وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا إنا لم نشهد في شهادتنا هذه: ﴿إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ إلا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق؟ و إنما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أولهما.

و قوله: ﴿وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترق و إنما كنا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.

و الحق أن المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها و معنى الآية إن ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا و ما كنا نعلم أنه سرق السقاية و أنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل أنه سرق فاسترق.

فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر على الظاهر و بالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم: ﴿وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك. ـ

 

 

 

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٨٣ الی ٩٢]

﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ٨٣ وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا أَسَفى‏عَلى‏ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ٨٤ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ ٨٥ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨٦ يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ ٨٧ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ ٨٨ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ٨٩ قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ٩٠ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ٩١ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ

 

 

 

﴿وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٩٢

(بيان)

الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر و إخبارهم إياه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثا إلى مصر و تحسسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ في المقام حذف كثير يدل عليه قوله: ﴿اِرْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا إلى آخر الآيتين و التقدير و لما رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا «إلخ».

و قوله: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً رميا بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط و تتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالا و كذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفساني منهم.

و من هنا يظهر أنه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله: ﴿عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا.

فالمعنى و الله أعلم أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في

 

 

 

 واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا.

و من هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن، ليس في محله.

و قوله: ﴿عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت على ما يراه و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ بل بمثل قولنا:

إنه هو السميع العليم أو الرءوف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.

بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة التي أخذت مني ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعا و يتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه أنه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.

و الاسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليه السلام) لأول مرة أول رؤياه فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (عليه السلام) ثانيا حيث رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا فقال: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ إلى أن قال ﴿هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ.

قوله تعالى: ﴿وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قال الراغب في المفردات: الأسف‏ الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكل واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا إلى أن قال و قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ أي أغضبونا

 قال أبو عبد الله‏[1] الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون فجعل رضاهم رضاه و غضبهم

 

 غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.

و قال: الكظم‏ مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم‏ احتباس النفس و يعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى: ﴿إِذْ نَادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ و كظم الغيظ حبسه قال تعالى:

﴿وَ اَلْكَاظِمِينَ اَلْغَيْظَ، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شدة بعد ملئه مانعا لنفسه. انتهى.

و قوله: ﴿وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي: ﴿اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً: الآية ٩٣ من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.

و معنى الآية: «ثم تولى» و أعرض يعقوب (عليه السلام) ﴿عَنْهُمْ أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ﴾﴿وَ قَالَ يَا أَسَفى‏ و يا حزني ﴿عَلى‏ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ و ذهب بصره ﴿مِنَ اَلْحُزْنِ على يوسف ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشي‏ء.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهَالِكِينَ الحرض و الحارض‏ المشرف على الهلاك و قيل: هو الذي لا ميت فينسى و لا حي فيرجي، و المعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنى و لا يجمع لأنه مصدر.

و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله و رأفة به، و لعلهم إنما تفوهوا به تبرما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا إلخ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قال في المجمع،: البث‏ الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، و كل شي‏ء فرقته فقد بثثته و منه قوله: ﴿وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.

 

 

 

 و الحصر الذي في قوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكو بثي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم و حزنهم عند المصائب، و إنما أشكو بثي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.

و في قوله‏﴿وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.

قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ قال في المجمع،: التحسس بالحاء طلب الشي‏ء بالحاسة و التجسس بالجيم نظيره‏ و في الحديث: لا تحسسوا و لا تجسسوا، و قيل إن معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر «متى ادن منه ينأى عنه و يبعد».

و قيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير و التجسس في الشر. انتهى.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ الروح‏ بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب و يكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب و هي الراحة و ذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصور اختناقا و كظما للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفسا و روحا لقولهم يفرج الهم و ينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله و مشيته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيته و لا معقب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام): ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ: الحجر:

 ٥٦، و قد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.

 

 

 

و معنى الآية ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم ﴿يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ الذي أخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما ﴿وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ و الفرج‏ الذي يرزقه الله بعد الشدة ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة و ينفس عن كل كربة.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لما دخلوا على يوسف قالوا «إلخ».

كانت لهم على ما يدل عليه السياق حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.

إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم عرفوا بالكذب و سجل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.

و ثانيتهما: أن يخلي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.

و لذلك لما حضروا عند يوسف العزيز و كلموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل و الخضوع و بالغوا في رقة الكلام استرحاما و استعطافا فذكروا أولا ما مسهم و أهلهم من الضر و سوء الحال ثم ذكروا قلة ما أتوا به من البضاعة ثم سألوه إيفاء الكيل، و أما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدق عليهم و إنما يتصدق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا ثم حرضوه بقولهم: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ و هو في معنى الدعاء.

فمعنى الآية: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ و أحاط بنا جميعا المضيقة و سوء الحال ﴿وَ جِئْنَا إليك ﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه نهاية ما في وسعنا ﴿فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا و كأنهم يريدون به أخاهم أو إياه و الطعام ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ خيرا.

 

 

 

و قد بدءوا القول بخطاب ﴿يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدق عليهم و هو من أمر السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفوا أمام عزيز مصر.

و عند ذلك تمت الكلمة الإلهية أنه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ و عرفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلة و المسكنة و هو متك على أريكة العزة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ إنما يخاطب المخطئ المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ و فيه تلقين عذر.

فقوله: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ و مؤاخذة ليعرفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوة.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد القطعية قامت على تحقق مضمونها و إنما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب.

و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم:

﴿أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ مؤكدا بإن و اللام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله: ﴿أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي و إنما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن من الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال: ﴿قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا.

ثم أخبر عن سبب المن الإلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنه يتحقق بالتقوى

 

 

 

 و الصبر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضد الصواب و الخاطئ و المخطئ من خطأ خطأ و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطإ و تفضيل الله يوسف عليهم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ التثريب‏ التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنما قيد نفي التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحة و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر أوتي النبوة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و إن الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أول يوم: ﴿لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ.

ثم دعا لهم و استغفر بقوله: ﴿يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الذين ظلموه جميعا و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتي: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ و سيجي‏ء إن شاء الله تعالى.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث: قال: لما فقد يعقوب يوسف (عليه السلام) اشتد حزنه عليه و بكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن و احتاج حاجة شديدة و تغيرت حالته، و كان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين: للشتاء و الصيف، و إنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت.

فلما دخلوا على يوسف و ذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف و لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزته فقال لهم: هلموا بضاعتكم قبل الرفاق، و قال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل و أوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم و لا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف: قد بلغني أنه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا: أما

 

 

 

 الكبير منهما فإن الذئب أكله، و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق.

قال: فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون.

فلما رجعوا إلى أبيهم و فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا و كيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.

فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب و بعث معهم بضاعة يسيرة و بعث معهم ابن يامين و أخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا: نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به و هو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمه إليه و بكى و قال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل و اكتم ما أخبرتك به و لا تحزن و لا تخف.

ثم أخرجه إليهم و أمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم و يعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك و ارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف و فتيته فنادوا فيهم قال: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا و أقبلوا عليهم: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا:

جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه.

قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا و قد أخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين إن فعلت، قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إني لست أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي.

و مضى إخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية و العير حتى يخبروك بذلك فاسترجع و استعبر و اشتد حزنه حتى تقوس ظهره.

 

 

 

 و فيه، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذي يشرب فيه.

أقول: و في بعض الروايات أنه كان قدحا من ذهب و كان يكتال به يوسف (عليه السلام).

 و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في نسخة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له و أنا عنده إن سالم بن حفصة روى عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج. قال: ما يريد سالم مني؟ أ يريد أن أجي‏ء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون، و لقد قال إبراهيم: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ و و الله ما كان سقيما و ما كذب، و لقد قال إبراهيم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ و ما فعله كبيرهم و ما كذب، و لقد قال يوسف: ﴿أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ و الله ما كانوا سرقوا و ما كذب.

و فيه، عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله في يوسف: ﴿أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم حين قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى أنكم سرقتم يوسف من أبيه.

 و في الكافي، بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف ﴿أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، و قال إبراهيم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فقال: و الله ما فعل و ما كذب.

قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين و أبغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين و أحب الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطو في الطرقات و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إن إبراهيم إنما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإصلاح و دلالة على أنهم لا يفعلون، و قال يوسف إرادة الإصلاح.

أقول: قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنه أراد به سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، و الدليل على ذلك قوله

 

 

 

(عليه السلام) إنه أراد الإصلاح و دل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين و للفظ بحسب أحدهما و هو الثاني مطابق دون الآخر فافهمه و ارجع إلى ما قدمناه في البيان.

و في معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار أخر مروية في الكافي، و المعاني، و تفسيري العياشي، و القمي،.

و في تفسير العياشي، عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا (عليه السلام): في قول الله تعالى:

﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قال: كان لإسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها و كانت تحبه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إلي و أرده إليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمه ثم أرسله إليك غدوة فلما أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه و ألبسته قميصا فبعثت به إليه و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قال: سرق يوسف (عليه السلام) صنما لجده أبي أمه من ذهب و فضة فكسره و ألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته. أقول: و الرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، و قد رويت بطرق أخرى عن الأئمة أهل البيت (عليه السلام)، و يؤيدها

ما روي بغير واحد من طرق أهل البيت و طرق غيرهم: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك فقال: لا تحبني فإن عمتي أحبتني فنسبت إلي السرقة و أبي أحبني فحسدني إخوتي و ألقوني في الجب، و امرأة العزيز أحبتني فألقوني في السجن.

 و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ قال: كان يوسف يوسع المجلس و يستقرض المحتاج و يعين الضعيف.

 و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من

 

 

 

الناس إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم - فوثب إليه فاعتنقه ثم قال: مرحبا بخليل الرحمن فقال له يعقوب:

لست بخليل الرحمن و لكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهم و الحزن و السقم.

قال: فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول: رب لا أعود فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما أصابه من نوائب الدنيا إلا أنه قال يوما: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من بث لم يصبر ثم قرأ ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ.

أقول: و رواه أيضا عن ابن عدي و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه (ص): و في الكافي، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له:

أخبرني عن قول يعقوب لبنيه: ﴿اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ إنه كان يعلم أنه حي و قد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنه دعا في السحر و قد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال و هو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال: بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال: فمر بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده: ﴿اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ.

أقول: و رواه في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام) و فيه: قال يعني يعقوب لملك الموت: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال:

يقبضها أعواني متفرقة و تعرض علي مجتمعة قال: فأسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي. و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره و ابن أبي الدنيا في كتاب

 

 

 

الفرج بعد الشدة و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و فيه: أتى جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام و يقول لك: أبشر و ليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء و المساكين. و تدري لم أذهبت بصرك و قوست ظهرك و صنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين و هو صائم فلم تطعموه منه شيئا.

فكان يعقوب (عليه السلام) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب و إذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً الآية: ورد في الخبر: أن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٩٣ الی ١٠٢]

﴿اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ٩٣ وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ٩٤ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ ٩٥ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى‏ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٩٦ قَالُوا يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ٩٧ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ٩٨ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ

 

 

 

﴿إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ ٩٩ وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ ١٠٠ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ١٠١ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ ١٠٢

(بيان)

ختام قصة يوسف (عليه السلام) و تتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه و إتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر و لقاؤه أبويه.

قوله تعالى: ﴿اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ تتمة كلام يوسف (عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه و يأتي بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن و البكاء ضريرا لا يبصر.

 

 

 

 و هذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف (عليه السلام) على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلوه و غربوه عن مستقره بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم ﴿يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اَللَّهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ.

ثم أحبته امرأة العزيز و نسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله و جعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته و كمال عفته، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته و ملكه.

و جاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه و بكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه و ذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه و بالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه و أراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب و الله غالب على أمره.

و قوله: ﴿وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب و أهله و بنيه و ذراريه جميعا من البدو إلى مصر و نزولهم بها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ الفصل‏ القطع و الانقطاع و التفنيد تفعيل من الفند بفتحتين و هو ضعف الرأي، و المعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر و انقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لو لا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه و أرى أن اللقاء قريب و من حقه أن تذعنوا بما أجده لو لا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ القديم‏ مقابل الجديد و المراد به المتقدم وجودا، و هذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، و هو من سي‏ء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ و في ختمها و هو قولهم هذا: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ.

و الظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك و هو المبالغة في حب

 

 

 

 يوسف و ذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف و هم عصبة إليهم تدبير بيته و الدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة و قدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما و نسيهم، ثم لما فقد يوسف جزع له و لم يزل يجزع و يبكي حتى ذهبت عيناه و تقوس ظهره.

فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين:.

أما أولا: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام).

و أما ثانيا: فلأن المقام هاهنا و كذا في بدء القصة حين قالوا: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، و إنما يمس أمرا عمليا حيويا و هو حب أب لبعض أولاده و تقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلى‏ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ البشير حامل البشارة و كان حامل القميص و قوله ﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم: ﴿يَا أَبَانَا و يريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف و أخيه، و أما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.

قوله تعالى: ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ أخر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي و لعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف و تطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم و في بعض الأخبار: أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء و سيجي‏ء إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ في الكلام حذف و التقدير فخرج يعقوب و آله من أرضهم و ساروا إلى مصر

 

 

 

 و لما دخلوا «إلخ».

و قوله: ﴿آوى‏ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ فسروه بضمهما إليه، و قوله: ﴿وَ قَالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إلخ. ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما و ضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراما و تأدبا و قد أبدع (عليه السلام) في قوله: ﴿إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنة الملوك و قيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية الإنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، و ظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول و الاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك، و لذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.

و قد ذكر سبحانه ﴿أَبَوَيْهِ و المفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه و أمه حقيقة أو أنهما يعقوب و زوجه خالة يوسف بالبناء على أن أمه ماتت و هو صغير، و لا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.

و معنى الآية ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا أي أبواه و إخوته و أهلهم ﴿عَلى‏ يُوسُفَ و ذلك في خارج مصر ﴿آوى‏ و ضم ﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ لهم مؤمنا لهم ﴿اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ إلى آخر الآية، العرش‏ هو السرير العالي و يكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك و يختص به، و الخرور السقوط على الأرض و البدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية.

و قوله: ﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه و مقتضى الاعتبار و ظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله: ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت و اطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خروا له سجدا.

و قوله: ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، و قول بعضهم: إن الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، و قد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم و الملائكة قال تعالى:

 

 

 

﴿وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ طه: ١١٦.

و الدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب (عليه السلام) و هو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا بالفتح لله لا يشرك به شيئا، و يوسف (عليه السلام) و هو المسجود له منهم بنص القرآن و هو القائل لصاحبيه في السجن:

ما كان لنا أن نشرك بالله من شي‏ء و لم يردعهم.

فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم و عبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، و من المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه و تعالى، و قد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب.

و من هنا يظهر أن ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم: إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإسلام السلام، و قول بعضهم: إن سنة العظيم كانت إذ ذاك السجدة و لم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام، و قول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا إلى آخر الآية لما شاهد (عليه السلام) سجدة أبويه و إخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و أخبر بها أباه و هو صغير فأولها له، فأشار إلى سجودهم له و قال: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا أي الرؤيا ﴿رَبِّي حَقًّا.

ثم أثنى على ربه شاكرا له فقال: ﴿وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن و هو ضراء و بلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء و نعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة و الملك.

و لم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده و كان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما و فتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمن طعنا فيهم و شنآنا فقال: ﴿وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و النزغ‏ هو الدخول في أمر لإفساده.

 

 

 

 و المراد: و قد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني و بين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني و بينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش و أرفع عزة و ملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية و الحضارة.

يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني و بين إخوتي و مما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني و بينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي و دفعها عني واحدة بعد أخرى و لم يكن من المحن و الحوادث العادية بل رزايا صماء و عقودا لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه و نفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة و نعمة بعد ما كانت أسباب هلاك و شقاء و لهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله: ﴿وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إلخ بقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ.

فقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ تعليل لإخراجه من السجن و مجيئهم من البدو، و يشير به إلى ما خصه الله به من العناية و المنة و إن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء و راحة و أسباب الذلة و الرقية وسائل عزة و ملك.

و اللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره و إحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه و الإحاطة به من باطن الأشياء و هو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة و العلم قال تعالى: ﴿أَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ: الملك: ١٤ و الأصل في معناه الصغر و الدقة و النفوذ يقال: لطف الشي‏ء بالضم يلطف لطافة إذا صغر و دق حتى نفذ في المجاري و الثقب الصغار، و يكنى به عن الإرفاق و الملاءمة و الاسم اللطف.

و قوله: ﴿هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ تعليل لجميع ما تقدم من قوله: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا إلخ، و قد علل (عليه السلام) الكلام و ختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه و قال: ﴿وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ إلى أن قال ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ و ليس يبعد أن يفيد اللام في قوله: ﴿اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه (عليه السلام) و المعنى: و هو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي.

قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ إلى آخر

 

 

 

 الآية لما أثنى (عليه السلام) على ربه و عد ما دفع عنه من الشدائد و النوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة و قد هاجت به المحبة الإلهية و انقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه و انصرف عنه و عن غيره ملتفتا إلى ربه و خاطب ربه عز اسمه فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ.

و قوله: ﴿فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ إضراب و ترق في الثناء، و رجوع منه (عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن و المجي‏ء بأهله من البدو و إيتائه من الملك و تعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق و جل معا، ولي في الدنيا و الآخرة جميعا.

و ولايته تعالى أعني كونه قائما كل شي‏ء في ذاته و صفاته و أفعاله منشأها إيجاده تعالى إياها جميعا و إظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات و الأرض و لذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه و المخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته و إيجاده لغيره قال تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ : إبراهيم: ١٠.

و لذا بدأ به يوسف (عليه السلام) و هو من المخلصين في ذكر ولايته فقال: ﴿فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي و استقلال في ذاتي و صفاتي و أفعالي أو أملك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.

و قوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ لما استغرق (عليه السلام) في مقام الذلة قبال رب العزة و شهد بولايته له في الدنيا و الآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا و الآخرة و هو الإسلام ما دام حيا في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا و لا يظهر منه ما يكرهه و لا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية و أن يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد و اختياره، و هو سؤاله (عليه السلام) الإسلام في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة و هو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ

 

 

 

 إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ: البقرة: ١٣١.

و هذا الإسلام الذي سأله (عليه السلام) أقصى درجات الإسلام و أعلى مراتبه، و هو التسليم المحض لله سبحانه، و هو أن لا يرى العبد لنفسه و لا لآثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شي‏ء من نفسه و لا صفاتها و لا أعمالها من ربه، و إذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.

و مما تقدم يظهر أن قوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً سؤال منه لبقاء الإخلاص و استمرار الإسلام ما دام حيا و بعبارة أخرى أن يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتى يموت، و ليس يراد به أن يموت في حال الإسلام و لو لم يكن قبل ذلك مسلما، و لا سؤالا للموت و هو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني.

و يتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله و لا تمناه إلا يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ الإشارة إلى نبإ يوسف (عليه السلام)، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ضمير الجمع لإخوة يوسف و الإجماع العزم و الإرادة.

و قوله: ﴿وَ مَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إلخ، حال من ضمير الخطاب من ﴿إِلَيْكَ و قوله:

﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مَا كُنْتَ إلى آخر الآية بيان لقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ و المعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك و الحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم و هم يمكرون في أمر يوسف.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال يوسف لإخوته: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ ﴾﴿اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا الذي

 

 

 

بلته دموع عيني ﴿فَأَلْقُوهُ عَلى‏ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً لو قد نشر ريحي ﴿وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ و ردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون.

قال: و أقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا و سرورا بما رأوا من حال يوسف و الملك الذي آتاه الله و العز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف، و كان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام - فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا، و قال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحا.

قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، و سجد لربه سجدة الشكر و رجع إليه بصره و تقوم له ظهره، و قال لولده: تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف و معهم يعقوب و خالة يوسف «ياميل» فأحثوا السير فرحا و سرورا فساروا تسعة أيام إلى مصر. أقول: كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر و هي أم بنيامين خالة يوسف لا أمه الحقيقية وقعت في عدة الروايات و ظاهر الكتاب و بعض الروايات أنها كانت أم يوسف و أنه و بنيامين كانا أخوين لأم و إن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.

 و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ لَمَّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر و هو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.

 أقول: و قد ورد في عدة روايات من طرق العامة و الخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب (عليه السلام) كان نازلا من الجنة، و أنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقي في النار فألبسه إياه فكانت عليه بردا و سلاما ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة و علقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب، و هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد.

و مثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف و هو يحسبه

 

 

 

 عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم. و قد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.

 و في تفسير العياشي، عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ كان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا و لا بررة أتقياء و كيف؟ و هم يقولون لأبيهم: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ.

 أقول: و في الروايات من طرق أهل السنة و في بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء، و هذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب و السنة و العقل من عصمة الأنبياء (عليه السلام)، و ما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى:

﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبَاطِ: النساء: ١٦٣ غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، و الأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب (عليه السلام) قال تعالى: ﴿وَ قَطَّعْنَاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً: الأعراف: ١٦٠.

 و في الفقيه، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول يعقوب لبنيه:

﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي قال: أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر،

 و في الدر المنثور، عن ابن جرير و أبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قول أخي يعقوب لبنيه: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يقول: حتى يأتي ليلة الجمعة.

 و في الكافي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، و تلا هذه الآية في قول يعقوب ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أخرهم إلى السحر.

أقول: و روي نظيره في الدر المنثور، عن أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.

 

 

 

 و قد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير و لقد أقبل يوسف (عليه السلام) على إخوته حين عرفوه بالفتوة و الكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم و لازم ذلك أن يعفو عنهم و يستغفر لهم بلا مهل و لم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف.

 و في تفسير القمي، حدثني محمد بن عيسى: أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، و كان أحدها: أخبرني عن قول الله:

﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً أ سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟.

فأجاب أبو الحسن (عليه السلام): أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف و إنما كان ذلك من يعقوب و ولده طاعة لله و تحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم و لم يكن لآدم و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية لآدم فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ فَاطِرَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. الحديث.

أقول: و قد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، و ظاهر الحديث أن يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا و قد استدل عليه بقول يوسف في شكره: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ «إلخ» و في دلالته على ذلك إبهام.

 و قد روى الحديث العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا (عليه السلام): قال لأخيه: إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله: ﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً أ سجد يعقوب و ولده ليوسف؟.

قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ الآية.

 و ما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية و أسلم من الإشكال مما رواه القمي.

 و في تفسير العياشي، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في

 

 

 

 قول الله: ﴿وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ قال: العرش السرير، و في قوله: ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله.

 و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله و بكى، و رفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن و اكتحل و لبس ثياب العز و الملك ثم رجع إليهم و في نسخة ثم خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما و شكرا لله فعند ذلك قال: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ إلى قوله ﴿ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي.

قال: و لم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن و لا يكتحل و لا يتطيب و لا يضحك و لا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله، و جمع بينه و بين يعقوب و إخوته».

 و في الكافي، بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن (عليه السلام) عنه قال: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يخشع. فقال:

أ ما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه و إنما احتاجوا إلى قسطه.

و إنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق، و إذا وعد أنجز، و إذا حكم عدل لأن الله لا يحرم طعاما و لا شرابا من حلال و حرم الحرام قل أو كثر و قد قال الله:

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ. و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، و أراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال:

عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال:

كان يعقوب الحجة و كان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة.

أقول: و الروايات في قصته (عليه السلام) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن و ضعف في السند.

و مما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي و هو

 

 

 

 الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال: ﴿لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ اَلْجُبِّ الآية و هو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ فشكر الله له ذلك.

و مما ورد في عدة منها أن يوسف (عليه السلام) تزوج بامرأة العزيز و هي التي راودته عن نفسه، و ذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، و لا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها: ﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ لو صح الحديث.

(كلام في قصة يوسف في فصول)

١ - قصته في القرآن:

 هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر و أصغر إخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم و الحكم و العزة و الملك و يرفع به قدر آل يعقوب فبشره و هو صغير برؤيا رآها كان أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه أن لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم و إسحاق.

كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، و لا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه و التوله إليه على ما به من علو النفس و صفاء الروح و الخصائص الحميدة، و كان ذا جمال بديع يبهر القول و يدهش الألباب.

و كان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع و يتفرس فيه من صفاء السريرة و لا يفارقه و لا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار و اشتد حسدهم له حتى اجتمعوا و تآمروا في أمره فمن مشير على قتله، و من قائل: اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم و هو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة و عقدوا على ذلك.

 

 

 

فلقوا أباهم و كلموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع و يلعب و هم له حافظون فلم يرض به يعقوب و اعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه و أخذوه منه و ذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك و قد نزعوا قميصه.

ثم جاءوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم و هو يبكون فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق و تركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بدمه.

فبكى يعقوب و قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‏ مَا تَصِفُونَ، و لم يقل ذلك إلا بتفرس إلهي ألقي في روعه، و لم يزل يعقوب يذكر يوسف و يبكي عليه و لا يتسلى عنه بشي‏ء حتى ابيضت عيناه من الحزن و هو كظيم.

و مضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب و ادعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.

و سارت به السيارة إلى مصر و عرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر و أدخله بيته و قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و ذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال و صفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة و أهنإ عيش، و هذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف و عزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة إلى إماتة ذكره و تحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، و أما مزية الحياة فإن الله سبحان بدل له بيت الشعر و عيشة البدوية قصرا ملكيا و حياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه و يضعوه، و على ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.

و عاش يوسف في بيت العزيز في أهنإ عيش حتى كبر و بلغ أشده و لم يزل تزكو نفسه و يصفو قلبه و يشتغل بربه حتى توله في حبه و أخلص له فصار لا هم له إلا فيه فاجتباه الله و أخلصه لنفسه و آتاه حكما و علما و كذلك يفعل بالمحسنين.

و عشقته امرأة العزيز و شغفها حبه حتى راودته عن نفسه و غلقت الأبواب و دعته

 

 

 

 إلى نفسها و: ﴿قَالَتْ هَيْتَ. لك فامتنع يوسف و اعتصم بعصمة إلهية و ﴿قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ، و استبقا الباب و اجتذبته و قدت قميصه من خلف و ألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءا و أنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.

ثم ابتلي بحب نساء مصر و مراودتهن و شاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن، و قد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، و العزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامة بيته و تشوه جميل ذكره.

فدخل يوسف السجن و دخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمرا و الآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، و سألاه أن يؤول منامهما فأول رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقيا للملك، و رؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: و قال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما:

﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

و بعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملإه و قال: ﴿إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ. قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ، و عند ذلك ادكر الساقي يوسف و تعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك و استأذنه أن يراجع السجن و يستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك و أرسله إليه.

و لما جاءه و استفتاه في أمر الرؤيا و ذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ.

فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك و أمر بإطلاقه و إحضاره و لما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج و الحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه و بين

 

 

 

 النسوة و يحكم بينه و بينهن و لما أحضرهن و كلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، و قالت امرأة العزيز: ﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ فاستعظم الملك أمره في علمه و حكمه و استقامته و أمانته فأمر بإطلاقه و إحضاره معززا و قال: ﴿اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا حضر و ﴿كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ و قد محصت أحسن التمحيص و اختبرت أدق الاختبار.

قال يوسف: ﴿اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ أرض مصر ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ حتى أهيئ الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر و أمر بإجادة الزرع و إكثاره و جمع الطعام و الميرة و حفظه في المخازن بالحزم و التدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق و قسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، و في هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر، و استولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزة و الملك بإذن الله، و قد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره، و إنسائه من قلوب الناس، و إخفائه من أعينهم.

و في بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم و هم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم و عن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب و أنهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به و لا يدعه يفارقه قط فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار، و زاد في إكرامهم و إيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، و أمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.

و لما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم و بين عزيز مصر و أنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم و ذكروا له ذلك و أصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر و هو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم.

 

 

 

 ثم تجهزوا ثانيا و سافروا إلى مصر و معهم بنيامين و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه و عرفه نفسه و قال: إني أنا أخوك و أخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد.

﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نجزي السارق فيما بيننا ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ثم أمر بالقبض عليه و استرقه بذلك.

فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم: ﴿أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ فبقي بمصر و ساروا.

فلما رجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ثم تولى عنهم ﴿وَ قَالَ يَا أَسَفى‏ عَلى‏ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ فلما لاموه على حزنه الطويل و وجده ليوسف قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ثم قال لهم: ﴿يَا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ فإني أرجو أن تظفروا بهما.

فسار نفر منهم إلى مصر و استأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه و استرحموه في أنفسهم و أهلهم و أخيهم الذي استرقه قائلين: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ بالجدب و السنة و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق إن الله يجزي المتصدقين.

و عند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له و ليرفعن قدره و قدر أخيه و ليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرفهم نفسه و قال لهم: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا

 

 

 

 يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ فاعترفوا بذنبهم و شهدوا أن الأمر إلى الله يعز من يشاء و يذل من يشاء و أن العاقبة للمتقين و أن الله مع الصابرين. فقابلهم يوسف بالعفو و الاستغفار و قال: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللَّهُ لَكُمْ و قربهم إليه و زاد في إكرامهم.

ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم و يذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا فتجهزوا للسير و لما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ قال من عنده من بنيه: ﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ اَلْقَدِيمِ، و لما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به و هو القميص قال يعقوب لبنيه: ﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُوا: يَا أَبَانَا اِسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.

ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف و استقبلهم يوسف و ضم إليه أبويه و أعطاهم الأمن و أدخلهم دار الملك و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا يعقوب و امرأته و أحد عشر من ولده، ﴿قَالَ يوسف ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه و إيتائه الملك و العلم.

و بقي آل يعقوب بمصر، و كان أهل مصر يحبون يوسف حبا شديدا لفضل نعمته عليهم و حسن بلائه فيهم، و كان يدعوهم إلى دين التوحيد و ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) كما ورد في قصة السجن و في سورة المؤمن).

٢ - ما أثنى الله عليه و منزلته المعنوية:

 كان (عليه السلام) من المخلصين و كان صديقا و كان من المحسنين، و قد آتاه الله حكما و علما و علمه من تأويل الأحاديث و قد اجتباه الله و أتم نعمته عليه و ألحقه بالصالحين سورة يوسف) و أثنى عليه بما أثنى على آل نوح و إبراهيم (عليه السلام) من الأنبياء و قد ذكره فيهم سورة الأنعام).

٣ - قصته في التوراة الحاضرة:

 قالت التوراة: و كان‏[2] بنو يعقوب اثني

 

عشرة: بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب و شمعون و لاوي و يهودا و يساكر و زنولون، و ابنا راحيل يوسف، و بنيامين، و ابنا بلهة جارية راحيل دان، و نفتالي، و ابنا زلفة جارية ليئة جاد، و أشير. هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.

قالت‏[3] يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم و هو غلام عند بني بلهة و بني زلفة امرأتي أبيه، و أتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم، و أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه و لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام.

و حلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت: فها نحن حازمون حزما في الحفل و إذا حزمتي قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي. فقال له إخوته أ لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا، و ازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه و من أجل كلامه.

ثم حلم أيضا حلما آخر و قصه على إخوته فقال: إني قد حلمت حلما أيضا و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصه على أبيه و على إخوته فانتهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته و أما أبوه فحفظ الأمر.

و مضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أ ليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: ها أنا ذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك و سلامة الغنم و رد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل و إذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا: ما ذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.

فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو

 

 

 

 ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله و نطرحه في إحدى هذه الآبار و نقول:

وحش ردي أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين و أنقذه من أيديهم و قال:

لا نقتله و قال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية و لا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه و أخذوه و طرحوه في البئر و أما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.

ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم و نظروا و إذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، و جمالهم حاملة كتيراء و بلسانا و لادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا و نخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين و لا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا و لحمنا فسمع له إخوته.

و اجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر و باعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر، و رجع رأوبين إلى البئر و إذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته و قال: الولد ليس موجودا، و أنا إلى أين أذهب؟.

فأخذوا قميص يوسف و ذبحوا تيسا من المعزى و غمسوا القميص في الدم، و أرسلوا القميص الملون و أحضروه إلى أبيهم و قالوا: وجدنا هذا، حقق أ قميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه و قال: قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه و ناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه و جميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى و قال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية و بكى عليه أبوه.

قالت‏[4] التوراة :و أما يوسف فأنزل إلى مصر و اشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، و كان الرب مع يوسف فكان رجلا ناجحا و كان في بيت سيده المصري.

و رأى سيده أن الرب معه، و أن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده فوجد يوسف

 

 

 

 نعمة في عينيه و خدمه فوكله إلى بيته و دفع إلى يده كل ما كان له، و كان من حين وكله على بيته و على كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، و كانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت و في الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف و لم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذي يأكل، و كان يوسف حسن الصورة و حسن المنظر.

و حدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف و قالت: اضطجع معي فأبى و قال لامرأة سيده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت و كل ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت، و لم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ و أخطئ إلى الله؟ و كان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.

ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله و لم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي فترك ثوبه في يدها و هرب و خرج إلى خارج، و كان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها و هرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها و كلمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا. دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، و كان لما سمع أني رفعت صوتي و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب و خرج إلى خارج.

فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته - فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني و كان لما رفعت صوتي و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب إلى خارج.

فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمي فأخذ يوسف سيده و وضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، و كان هناك في بيت السجن.

و لكن الرب كان مع يوسف و بسط إليه لطفا و جعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، و كل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، و لم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده لأن الرب كان معه، و مهما صنع كان الرب ينجحه.

 

 

 

 ثم‏[5] ساقت التوراة قصة صاحبي السجن و رؤياهما و رؤيا فرعون مصر و ملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون و رئيس الخبازين أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمرا، و الآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق، و الثاني بصلبه و أكل الطير من لحمه، و سأل الساقي أن يذكره عند فرعون لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.

ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر و سبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة و سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك و جمع سحرة مصر و حكمائها و قص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.

و عند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف فذكره لفرعون و ذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام فأمر فرعون بإحضاره فلما أدخل عليه كلمه و استفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد أخبر الله فرعون بما هو صانع:

البقرات السبع الحسنة في سبع سنين وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، و البقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وراءها هي سبع سنين و السنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية يكون سبع سنين جوعا.

هو الأمر الذي كلمت به فرعون قد أظهر الله لفرعون و ما هو صانع، هو ذا سبع سنين قادمة شعبا عظيما في كل أرض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا فينسى كل السبع في أرض مصر و يتلف الجوع الأرض، و لا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده لأنه يكون شديدا جدا، و أما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلأن الأمر مقرر من عند الله و الله مسرع لصنعه.

فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا و حكيما و يجعله على أرض مصر يفعل فرعون

 

 

 

 فيوكل نظارا على الأرض و يأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة - و يخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن و يحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر فلا تنقرض الأرض بالجوع.

قالت التوراة ما ملخصه أن فرعون استحسن كلام يوسف و تعبيره و أكرمه و أعطاه إمارة المملكة في جميع شئونها - و خلع عليه بخاتمه و ألبسه ثياب بوص و وضع طوق ذهب في عنقه و أركبه في مركبته الخاصة و نودي أمامه: أن اركعوا، و أخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب ثم في سني الجدب أحسن إدارة.

ثم‏[6] قالت التوراة ما ملخصه أنه لما عمت السنة أرض كنعان أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاما فساروا و دخلوا على يوسف فعرفهم و تنكر لهم و كلمهم بجفاء و سألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها قالوا: نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان - كنا اثني عشر أخا فقد منا واحد و بقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا، و الباقون بحضرتك و نحن جميعا أمناء لا نعرف الفساد و الشر.

قال يوسف: لا و حياة فرعون نحن نراكم جواسيس و لا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام ثم أحضرهم و أخذ من بينهم شمعون و قيده أمام عيونهم و أذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان و يجيئوا بأخيهم الصغير.

ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا و ترد فضة كل واحد منهم إلى عدله ففعل فرجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص - فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم و قال. أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود و شمعون مفقود و بنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبدا و قال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إن لكم أخا تركتموه عندي قالوا: إنه سأل عنا و عن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حي بعد؟ و هل لكم أخ آخر فأخبرناه كما سألنا و ما كنا نعلم أنه سيقول. جيئوا إلي بأخيكم.

 

 

 

 

فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهودا الموثق أن يرد إليه بنيامين فأذن في ذهابهم به معهم، و أمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل و أن يأخذوا معهم أصرة الفضة التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.

و لما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره و أخبروه بحاجتهم و أن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم و عرضوا له هديتهم فرحب بهم و أكرمهم و أخبرهم أن فضتهم لهم و أخرج إليهم شمعون الرهين ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له و قدموا إليه هديتهم فرحب بهم و استفسرهم عن حالهم و عن سلامة أبيهم و عرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه و دعا له ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده، و لهم وحدهم و لمن عنده من المصريين وحدهم.

ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما و أن يدس فيها هديتهم و أن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير و انصرفوا.

فلما خرجوا من المدينة و لما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم و قل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه و يتفأل به فتبهتوا من استماع هذا القول، و قالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا، من وجد الطاس في رحله يقتل و نحن جميعا عبيد سيدك فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، و أنزل كل واحد منهم عدله و فتحه فأخذ يفتشها و ابتدأ من الكبير حتى انتهى إلى الصغير و أخرج الطاس من عدله.

فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم و رجعوا إلى المدينة و دخلوا على يوسف و أعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب و عليهم سيماء الصغار و الهوان و الخجل فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، و أما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.

فتقدم إليه يهوذا و تضرع إليه و استرحمه و ذكر له قصتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإباء حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه و ذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم و ليس معهم بنيامين، و أن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه و يطلق بنيامين لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف.

 

 

 

 قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده فصرخ أخرجوا كل إنسان عني فلم يقف أحد عنده حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء فسمع المصريون و سمع بيت فرعون، و قال يوسف لإخوته: أنا يوسف أ حي أبي بعد؟ فلما يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه.

و قال يوسف لإخوته: تقدموا إلي، فتقدموا فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر و الآن لا تتأسفوا و لا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم لأن للجوع في الأرض الآن سنتين و خمس سنين أيضا لا يكون فيها فلاحة و لا حصاد فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض و ليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله و هو قد جعلني أبا لفرعون و سيدا لكل بيته و متسلط على كل أرض مصر.

أسرعوا و أصعدوا إلى أبي و قولوا له هكذا يقول ابنك يوسف: أنزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان و تكون قريبا مني أنت و بنوك و بنو بيتك و غنمك و بقرك و كل ما لك، و أعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا لئلا تفتقر أنت و بيتك و كل ما لك، و هو ذا عيونكم ترى و عينا أخي بنيامين أن فمي هو الذي يكلمكم، و تخبرون أني بكل مجدي في مصر و بكل ما رأيتم و تستعجلون و تنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه و بكى، و بكى بنيامين على عنقه و قبل جميع إخوته و بكى عليهم.

ثم قالت التوراة: ما ملخصه أنه جهزهم أحسن التجهيز و سيرهم إلى كنعان - فجاءوا أباهم و بشروه بحياة يوسف و قصوا عليه القصص فسر بذلك و سار بأهله جميعا إلى مصر و هم جميعا سبعون نسمة و وردوا أرض جاسان من مصر و ركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه و لقيه قادما فتعانقا و بكى طويلا ثم أنزله و بنيه و أقرهم هناك و أكرمهم فرعون إكراما بالغا و آمنهم و أعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر و عالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة و عاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة).

هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصه إلا في بعض فقرأتها لمسيس الحاجة.

 

 

 

 (كلام في الرؤيا في فصول)

١ - الاعتناء بشأنها

كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى و المنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، و عند كل قوم قوانين و موازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات و يعبرونها بها و يكشفون رموزها، و يحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.

و قد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه (عليه السلام) قال: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى‏ قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ إلى أن قال ﴿وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا : الصافات: ١٠٥.

و منها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (عليه السلام): ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ: يوسف: ٤.

و منها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ:

يوسف: ٣٦.

و منها رؤيا الملك: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ: يوسف: ٤٣.

و منها رؤيا أم موسى قال تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى‏ أُمِّكَ مَا يُوحى‏ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ: طه: ٣٩ على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.

و منها ما ذكر من رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنَازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ: الأنفال: ٤٣، و قال: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ: الفتح: ٢٧ و قال: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ : الإسراء: ٦٠.

 

 

 

 و قد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) تصدق ذلك و تؤيده.

لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة و لا للبحث عن شأنها و ارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها، و احتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق و الصدفة، و هي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.

٢ - و للرؤيا حقيقة

ما منا واحد إلا و قد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى و المنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، و لا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق و انتفاء أي رابطة بينها و بين ما ينطبق عليها من التأويل. و خاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.

نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي و للخيال فيها عمل، و المتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس و السمع، و ربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور و المعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس و يد و رجل و غير ذلك و تركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه و أعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج و ربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.

و بالجملة للأسباب و العوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر و البرد و نحوها و الداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض و العاهات و انحرافات المزاج و امتلاء المعدة و التعب و غيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.

فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء و الجمد و نزول الثلوج، و أن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام و بركان الماء و نزول الأمطار و نحو ذلك، و أن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.

 

 

 

 و كذلك الأخلاق و السجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته و يراه في نومته و الضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية، و كذلك البغض و العداوة و العجب و الكبر و الطمع و نظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه و تلائمه، و قل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.

و لذلك كان أغلب الرؤى و المنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شي‏ء من الأسباب الخارجية و الداخلية الطبيعية و الخلقية و نحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب و أثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.

و هذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.

و من المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة و هو غير المدعى و هو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة و رؤيا صادقة تكشف عن حقائق و لا سبيل إلى إنكارها و نفي الرابطة بينها و بين الحوادث الخارجية و الأمور المستكشفة كما تقدم.

فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام و هي المسماة بالرؤى لها أصول و أسباب تستدعي وجودها للنفس و ظهورها للخيال و هي على اختلافها تحكي و تمثل بأصولها و أسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل و تعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، و تأويل بعضها السبب الخلقي و بعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم و هو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.

و إنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، و هي لرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية، أو مزاجية أو اتفاقية و لا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك، و لها ارتباط بالحوادث الخارجية. و الحقائق الكونية.

٣ - المنامات الحقة

المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية و خاصة المستقبلة ـ

 

 

 

منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى. و لا معنى للارتباط الوجودي بين موجود و معدوم، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شي‏ء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا و من الفضة كذا في وعاء صفته كذا و كذا ثم مضى إليه و حفر كما دل عليه فوجده كما رأى، و لا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس و بين ما هو غائب عنها لم ينله شي‏ء من الحواس.

و لذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها و بين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة و من طريق سببها بنفسها.

توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة و هو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه و الأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة و السكون و التغير و التبدل.

و ثانيها: عالم المثال و هو فوق عالم الطبيعة وجودا، و فيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة و إليها تعود، و له مقام العلية و نسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.

و ثالثها: عالم العقل و هو فوق عالم المثال وجودا و فيه حقائق الأشياء و كلياتها من غير مادة طبيعية و لا صورة، و له نسبة السببية لما في عالم المثال.

و النفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال و عالم العقل فإذا نام الإنسان و تعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية و رجعت إلى عالمها المسانخ لها و شاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد و الإمكان.

فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها و استحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية و النورية، و إلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور و الأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، و نحكي مفهوم العظمة بالجبل، و مفهوم الرفعة و العلو بالسماء و ما فيها من الأجرام السماوية و نحكي الكائد المكار بالثعلب و الحسود بالذئب

 

 

 

 و الشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

و إن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها و الارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها و أسبابها من غير أن تتصرف فيها بشي‏ء من التغيير، و يتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق و الصفاء، و هذه هي المنامات الصريحة.

و ربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء و التلبس، و الفخار بالتاج و العلم بالنور و الجهل بالظلمة و خمود الذكر بالموت، و ربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى و انتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد و من تصور الحياة إلى تصور الموت و هكذا، و من أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس و فروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.

و قد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة، و منامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال و الانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، و هذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار، و رد الموت إلى الحياة و الحياة إلى الفرج بعد الشدة و رد الظلمة إلى الجهل و الحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشي‏ء إلى ما يناسبه أو يضاده و وقفت في المرة و المرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. و ثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشي‏ء إلى ضده و من الضد إلى مثله و من مثل الضد إلى ضد المثل و هكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، و هذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام و لا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

و قد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: و هي المنامات الصريحة و لا

 

 

 

 تعبير لها لعدم الحاجة إليه، و أضغاث الأحلام و لا تعبير فيها لتعذره أو تعسره و المنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية و التمثيل و هي التي تقبل التعبير.

هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا و استقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.

٤ - و في القرآن ما يؤيد ذلك -:

 قال تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ : الأنعام: ٦٠، و قال: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى‏عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى‏: الزمر: ٤٢ و ظاهره أن النفوس متوفاة و مأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.

و قد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و رؤيا أم موسى و بعض رؤي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و من القسم الثاني ما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ الآية: يوسف: ٤٤ و من القسم الثالث رؤيا يوسف و مناما صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.

[سورة يوسف ١٢): الآیات ١٠٣ الی ١١١]

﴿وَ مَا أَكْثَرُ اَلنَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَ مَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ١٠٤ وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ١٠٥ وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ١٠٦ أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١٠٧ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٠٨ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٠٩ حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ ١١٠ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرى‏ وَ لَكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١١١

 

 

 

 (بيان)

الآيات خاتمة السورة يذكر فيها أن الإيمان الكامل و هو التوحيد الخالص عزيز المنال لا يناله إلا أقل قليل من الناس و أما الأكثرون فليسوا بمؤمنين و لو حرصت بإيمانهم و اجتهدت في ذلك جهدك، و الأقلون و هم المؤمنون ما لهم إلا إيمان مشوب بالشرك فلا يبقى للإيمان المحض و التوحيد الخالص إلا أقل قليل.

و هذا التوحيد الخالص هو سبيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي يدعو إليه على بصيرة هو و من اتبعه، و أن الله ناصره و منجي من اتبعه من المؤمنين من المهالك التي تهدد توحيدهم و إيمانهم و عذاب الاستئصال الذي سيصيب المشركين كما كان ذلك عادة الله في أنبيائه الماضين كما يظهر من قصصهم.

 

 

 

 و في قصصهم عبرة و بيان للحقائق و هدى و رحمة للمؤمنين.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَكْثَرُ اَلنَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ أي ليس من شأن أكثر الناس لانكبابهم على الدنيا و انجذاب نفوسهم إلى زينتها و سهوهم عما أودع في فطرهم من العلم بالله و آياته أن يؤمنوا به، و لو حرصت و أحببت إيمانهم، و الدليل على هذا المعنى الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ الواو حالية أي ما هم بمؤمنين و الحال أنك ما تسألهم على إيمانهم أو على هذا القرآن الذي ننزله عليك و تتلوه عليهم من أجر حتى يصدهم الغرامة المالية و إنفاق ما يحبونه من المال عن قبول دعوته و الإيمان به.

و قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ بيان لشأن القرآن الواقعي و هو أنه ممحض في أنه ذكر للعالمين يذكرون به ما أودع الله في قلوب جماعات البشر من العلم به و بآياته فما هو إلا ذكر يذكرون به ما أنستهم الغفلة و الإعراض و ليس من الأمتعة التي يكتسب بها الأموال أو ينال بها عزة أو جاه أو غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَ هُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ الواو حالية و يحتمل الاستئناف و المرور على الشي‏ء هو موافاته ثم تركه بموافاة ما وراءه فالمرور على الآيات السماوية و الأرضية مشاهدتها واحدة بعد أخرى.

و المعنى أن هناك آيات كثيرة سماوية و أرضية تدل بوجودها و النظام البديع الجاري فيها على توحيد ربهم و هم يشاهدونها واحدة بعد أخرى فتتكرر عليهم و الحال أنهم معرضون عنها لا يتنبهون.

و لو حمل قوله: ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا على التصريح دون الكناية كان من الدليل على ما يبتني عليه الهيأة الحديثة من حركة الأرض وضعا و انتقالا فإنا نحن المارون على الأجرام السماوية بحركة الأرض الانتقالية و الوضعية لا بالعكس على ما يخيل إلينا في ظاهر الحس.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ الضمير في ﴿أَكْثَرُهُمْ راجع إلى الناس باعتبار إيمانهم أي أكثر الناس ليسوا بمؤمنين و إن لم تسألهم عليه أجرا

 

 

 

 و إن كانوا يمرون على الآيات السماوية و الأرضية على كثرتها و الذين آمنوا منهم و هم الأقلون ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم متلبسون بالشرك.

و تلبس الإنسان بالإيمان و الشرك معا مع كونهما معنيين متقابلين لا يجتمعان في محل واحد نظير تلبسه بسائر الاعتقادات المتناقضة و الأخلاق المتضادة إنما يكون من جهة كونها من المعاني التي تقبل في نفسها القوة و الضعف فتختلف بالنسبة و الإضافة كالقرب و البعد فإن القرب و البعد المطلقين لا يجتمعان إلا أنهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان الاجتماع و التصادق كمكة فإنها قريبة بالنسبة إلى المدينة بعيدة بالنسبة إلى الشام، و كذا هي بعيدة من الشام إذا قيست إلى المدينة قريبة منه إذا قيست إلى بغداد.

و الإيمان بالله و الشرك به و حقيقتهما تعلق القلب بالله بالخضوع للحقيقة الواجبية و تعلق القلب بغيره تعالى مما لا يملك شيئا إلا بإذنه تعالى يختلفان بحسب النسبة و الإضافة فإن من الجائز أن يتعلق الإنسان مثلا بالحياة الدنيا الفانية و زينتها الباطلة و ينسى مع ذلك كل حق و حقيقة، و من الجائز أن ينقطع عن كل ما يصد النفس و يشغلها عن الله سبحانه و يتوجه بكله إليه و يذكره و لا يغفل عنه فلا يركن في ذاته و صفاته إلا إليه و لا يريد إلا ما يريده كالمخلصين من أوليائه تعالى.

و بين المنزلتين مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين و البعد منه و هي التي يجتمع فيها الطرفان بنحو من الاجتماع، و من الدليل على ذلك الأخلاق و الصفات المتمكنة في النفوس التي تخالف مقتضى ما تعتقده من حق أو باطل، و الأعمال الصادرة منها كذلك ترى من يدعي الإيمان بالله يخاف و ترتعد فرائصه من أي نائبة أو مصيبة تهدده و هو يذكر أن لا قوة إلا بالله، و يلتمس العزة و الجاه من غيره و هو يتلو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً و يقرع كل باب يبتغي الرزق و قد ضمنه الله، و يعصي الله و لا يستحيي و هو يرى أن ربه عليم بما في نفسه سميع لما يقول بصير بما يعمل و لا يخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، و على هذا القياس.

و المراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الإيمان و هو المسمى باصطلاح فن الأخلاق بالشرك الخفي.

فما قيل: إن المراد بالمشركين في الآية مشركو مكة في غير محله، و كذا ما قيل:

 

 

 

إنهم المنافقون، و هو تقييد لإطلاق الآية من غير مقيد.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اَللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ الغاشية صفة سادة مسد الموصوف المحذوف لدلالة كلمة العذاب عليه، و التقدير عقوبة غاشية تغشاهم و تحيط بهم.

و البغتة الفجأة. و قوله: ﴿وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ حال من ضمير الجمع أي تفاجئهم الساعة في إتيانها و الحال أنهم لا يشعرون بإتيانها لعدم مسبوقيتها بعلامات تعين وقتها و تشخص قيامها و الاستفهام للتعجيب، و المعنى أن أمرهم في إعراضهم عن آيات السماء و الأرض و عدم إخلاصهم الإيمان لله و تماديهم في الغفلة عجيب أ فأمنوا عذابا من الله يغشاهم أو ساعة تفاجئهم و تبهتهم؟.

قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ لما ذكر سبحانه أن محض الإيمان به و الإخلاص التوحيد له عزيز المنال و هو الحق الصريح الذي تدل عليه آيات السماوات و الأرض أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبين لهم أن سبيله هو الدعاء إلى هذا التوحيد على بصيرة.

فقوله: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي إعلان لسبيله، و قوله: ﴿أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ بيان للسبيل، و قوله: ﴿وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ اعتراض للتنزيه، و قوله: ﴿وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ تأكيد لمعنى الدعوة إلى الله و بيان أن هذه الدعوة ليست دعوة إليه تعالى كيف كان بل دعوة على أساس التوحيد الخالص لا معدل عنه إلى شرك أصلا.

و أما قوله: ﴿أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي فتوسعة و تعميم لحمل الدعوة و أن السبيل و إن كانت سبيل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مختصة به لكن حمل الدعوة و القيام به لا يختص به بل من اتبعه (ص) يقوم بها لنفسه.

لكن السياق يدل على أن الإشراك ليس بذاك العموم الذي يتراءى من لفظ ﴿مَنِ اِتَّبَعَنِي فإن السبيل التي تعرفها الآية هي الدعوة عن بصيرة و يقين إلى إيمان محض و توحيد خالص و إنما يشاركه (ص) فيها من كان مخلصا لله في دينه عالما بمقام ربه ذا بصيرة و يقين و ليس كل من صدق عليه أنه اتبعه على هذا النعت، و لا أن الاستواء على هذا المستوي

 

 

 

 مبذول لكل مؤمن حتى الذين عدهم الله سبحانه في الآية السابقة من المشركين و ذمهم بأنهم غافلون عن ربهم آمنون من مكره معرضون عن آياته، و كيف يدعو إلى الله من كان غافلا عنه آمنا من مكره معرضا عن آياته و ذكره؟ و قد وصف الله في آيات كثيرة أصحاب هذه النعوت بالضلال و العمى و الخسران و لا تجتمع هذه الخصال بالهداية و الإرشاد البتة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ إلى آخر الآية، لما ذكر سبحانه حال الناس في الإيمان به ثم حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوته إياهم عن رسالة إلهية من غير أن يسألهم فيها أجرا أو يجر لنفسه نفعا بين أن ذلك ليس ببدع من الأمر بل مما جرت عليه السنة الإلهية في الدعوة الدينية فلم يكن الرسل الماضون ملائكة و إنما بعثوا من بين هؤلاء الناس و كانوا رجالا من أهل القرى يخالطون الناس و يعرفون عندهم أوحى الله إليهم و أرسلهم نحوهم يدعونهم إليه كما أن النبي كذلك، و من الممكن أن يسير هؤلاء المدعوون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم فبلادهم الخربة و مساكنهم الخالية تفصح عما آل إليه أمرهم، و تنبئ عن عاقبة كفرهم و جحودهم و تكذيبهم لآيات الله.

فالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يدعوهم إلا كما كان يدعوهم الأنبياء من قبله، و ليس يدعوهم إلا إلى ما فيه خيرهم و صلاح حالهم و هو أن يتقوا الله فيفلحوا و يفوزوا بسعادة خالدة و نعيم مقيم في دار باقية و لدار الآخرة خير للذين اتقوا أ فلا تعقلون.

فقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ تطبيق لدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على دعوة من قبله من الرسل. و لعل توصيفهم بأنهم كانوا من أهل القرى للدلالة على أنهم كانوا من أنفسهم يعيشون بينهم و معروفين عندهم بالمعاشرة و المخالطة و لم يكونوا ملائكة و لا من غير أنفسهم، و يؤيد ذلك توصيفهم بأنهم كانوا رجالا فإن الرجال كانوا أقرب إلى المعرفة من النساء ذوات الخدر.

و قوله: ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إنذار لأمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمثل ما أنذر به الأمم الخالية فلم يسمعوا فذاقوا وبال أمرهم.

و قوله: ﴿وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ بيان النصح و أن ما يدعون إليه و هو التقوى ليس وراءه إلا ما فيه كل خيرهم و جماع سعادتهم.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا إلى آخر الآية ذكروا أن يأس و استيئس بمعنى، و لا يبعد أن يقال: إن الاستيئاس هو الاقتراب من اليأس بظهور آثاره لمكان هيئة الاستفعال و هو مما يعد يأسا عرفا و ليس باليأس القاطع حقيقة.

و قوله: ﴿حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ إلخ متعلق الغاية بما يتحصل من الآية السابقة و المعنى تلك الرسل الذين كانوا رجالا أمثالك من أهل القرى و تلك قراهم البائدة دعوهم فلم يستجيبوا و أنذروهم بعذاب الله فلم ينتهوا حتى إذا استيئس الرسل من إيمان أولئك الناس، و ظن الناس أن الرسل قد كذبوا أي أخبروا بالعذاب كذبا جاء نصرنا فنجي‏ء بذلك من نشاء و هم المؤمنون و لا يرد بأسنا أي شدتنا عن القوم المجرمين.

أما استيئس الرسل من إيمان قومهم فكما أخبر في قصة نوح: ﴿وَ أُوحِيَ إِلى‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ: هود: ٣٦ ﴿وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً: نوح: ٢٧ و يوجد نظيره في قصص هود و صالح و شعيب و موسى و عيسى (عليه السلام).

و أما ظن أممهم أنهم قد كذبوا فكما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ: هود: ٢٧، و كذا في قصة هود و صالح و قوله: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى‏ مَسْحُوراً: أسرى ١٠١.

و أما تنجية المؤمنين بالنصر فكقوله تعالى: ﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: الروم:

 ٤٧ و قد أخبر به في هلاك بعض الأمم أيضا كقوله: ﴿نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: هود:

 ٥٨ ﴿نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: هود: ٦٦ ﴿نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: هود:

 ٤، إلى غير ذلك.

و أما إن بأس الله لا يرد عن المجرمين فمذكور في آيات كثيرة عموما و خصوصا كقوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يونس:

 ٤٧، و قوله: ﴿وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ: الرعد:

 ١١ إلى غير ذلك من الآيات.

 

 

 

هذا أحسن ما أوردوه في الآية من المعاني، و الدليل عليه كون الآية بمضمونها غاية لما تتضمنه سابقتها كما قدمناه، و قد أوردوا لها معاني أخرى لا يخلو شي‏ء منها من السقم و الإضراب عنها أوجه.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ إلى آخر الآية قال الراغب أصل العبر تجاوز من حال إلى حال فأما العبور فيختص بتجاوز الماء إلى أن قال و الاعتبار و العبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد قال تعالى:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً. انتهى.

و الضمير في قصصهم للأنبياء و منهم يوسف صاحب القصة في السورة، و احتمل رجوعه إلى يوسف و إخوته و المعنى أقسم لقد كان في قصص الأنبياء أو يوسف و إخوته عبرة لأصحاب العقول، ما كان القصص المذكور في السورة حديثا يفتري و لكن تصديق الذي بين يدي القرآن، و هو التوراة المذكور فيها القصة يعني توراة موسى (عليه السلام).

و قوله: ﴿وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إلخ أي بيانا و تمييزا لكل شي‏ء مما يحتاج إليه الناس في دينهم الذي عليه بناء سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و هدى إلى السعادة و الفلاح و رحمة خاصة من الله سبحانه لقوم يؤمنون به فإنه رحمة من الله لهم يهتدون بهدايته إلى صراط مستقيم.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ قال شرك طاعة و ليس شرك عبادة، و المعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله الطاعة لغيره و ليس بإشراك عبادة أن يعبدوا غير الله.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: شرك لا يبلغ به الكفر.

 

 

 

 و فيه، عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: هو الرجل يقول:

لو لا فلان لهلكت و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا و لضاع عيالي أ لا ترى أنه جعل لله شريكا في ملكه يرزقه و يدفع عنه؟ قال: قلت: فيقول: لو لا أن من الله علي بفلان لهلكت قال: نعم لا بأس بهذا.

 و فيه، عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ قال: من ذلك قول الرجل لا و حياتك.

أقول: يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يستحقه بذاته و الأخبار في هذه المعاني كثيرة.

 و في الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي قال: ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمير المؤمنين و الأوصياء من بعدهما.

 و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: يعني على أول من اتبعه على الإيمان و التصديق له و بما جاء به من عند الله عز و جل من الأمة التي بعث فيها و منها و إليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط و لم يلبس إيمانه بظلم و هو الشرك. أقول: و الروايتان تؤيدان ما قدمناه في بيان الآية و في معناهما روايات، و لعل ذكر المصداق من باب التطبيق.

 و فيه، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ ما يعني به؟ قال: أنفة لله.

 و فيه، بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز و جل:

﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ قال: تنزيه.

 و في المعاني، بإسناده عن السيار عن الحسن بن علي عن آبائه عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال فيه مخاطبا: أ و لست تعلم أن الله تعالى لم يخل الدنيا قط من نبي أو إمام من البشر؟ أ و ليس الله تعالى يقول: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يعني إلى الخلق ﴿إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى‏ فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض فيكونوا أئمة و حكاما

 

 

 

 و إنما أرسلوا إلى الأنبياء.

 و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه قال المأمون لأبي الحسن:

فأخبرني عن قول الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا قال الرضا: يقول الله: حتى إذا استيئس الرسل من قومهم فظن قومهم أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

 أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية، و ما في بعض الروايات أن الرسل ظنوا أن الشيطان تمثل لهم في صورة الملائكة لا يعتمد عليه.

 و في تفسير العياشي، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك مما ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة و الوقار و كان الذي يأتيه من الله مثل الذي يراه بعينه.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري قال :صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم سعيد بن جبير و الضحاك بن مزاحم فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف؟ فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة: ﴿حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: نعم حتى إذا استيئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم و ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فقال الضحاك: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.

 

 

 

(١٣) سورة الرعد مكية و هي ثلاث و أربعون آية (٤٣)

[سورة الرعد ١٣): الآیات ١ الی ٤]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿المر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١ اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ٢ وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ٣ وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى‏ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‏ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ٤

 

 

 

 (بيان)

غرض السورة بيان حقية ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الكتاب و أنه آية الرسالة و أن قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ و هم يعرضون به للقرآن و لا يعدونه آية كلام مردود إليهم و لا ينبغي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصغي إليه و لا لهم أن يتفوهوا به.

و يدل على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله: ﴿وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ و اختتامها بقوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ الآية، و تكرار حكاية قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

و محصل البيان على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن هذا القرآن النازل عليك حق لا يخالطه باطل فإن الذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدل عليه آيات الكون من رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى.

و تدل على حقية دعوته أيضا أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبينات فكفروا و كذبوا فأخذهم الله بذنوبهم. فهذا ما يتضمنه هذا الكتاب و هو آية دالة على رسالتك.

و قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أولا بأنك لست إلا منذرا و ليس لك من الأمر شي‏ء حتى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة و ثانيا أن الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنما ذلك إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم و أما قولهم: لست مرسلا فيكفيك من الحجة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقة على ذلك.

و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمنه قوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً الآية، و قوله: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ، و قوله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ، و قوله: ﴿فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً.

 

 

 

و السورة مكية كلها على ما يدل عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنها مكية إلا آخر آية منها فإنها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبي و مقاتل، و يدفعه أنها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله: ﴿وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ.

و قيل: إن السورة مدنية كلها إلا آيتين منها و هما قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ الآية و الآية التي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة.

و قيل: إن المدني منها قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ الآية و الباقي مكي و كان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتضح به اندفاعه.

قوله تعالى: ﴿المر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ إلخ، الحروف المصدرة بها السورة هي مجموع الحروف التي صدرت بها سور ﴿الم و سور ﴿الر كما أن المعارف المبينة في السورة كأنها المجموع من المعارف المعنية في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتصال و هي تعد الآيات الكونية من رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالة على توحيد الله سبحانه الذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقة، و هي تذكر أن التدبر في تفصيلها و التفكر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم، بأن الذي أنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حق.

فظاهر ذلك كله أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ الموجودات الكونية و الأشياء الخارجية المسخرة في النظام العام الإلهي، و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونية بنوع من العناية و المجاز.

و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعية التي تتلبس

 

 

 

 بها الآيات الكونية من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظية التي تتلبس بها الآيات القرآنية المنزلة من عنده تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و يكون قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ استدراكا متعلق بالجملتين معا أعني بقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ و قوله:

﴿وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ لا بالجملة الأخيرة فحسب.

و المعنى و الله أعلم تلك الأمور الكونية و قد أشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها آيات الكتاب العام الكوني دالة على أن الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته و القرآن الذي أنزل إليك من ربك حق ليس بباطل و اللام في قوله: ﴿اَلْحَقُّ للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حق في نزوله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينية و لا بهذا الحق النازل، و في لحن الكلام شي‏ء من اللوم و العتاب.

و قد بان مما مر أن اللام في قوله: ﴿اَلْحَقُّ للحصر، و مفاده أن الذي أنزل إليه حق فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حق و باطل.

و للمفسرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله: ﴿اَلْحَقُّ و المراد بأكثر الناس أقوال متنوعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدمناه و على من أراد الاطلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عمد بضمتين و عمد بفتحتين قال: في عمد ممددة، و قرئ في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى.

و قيل: إن العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.

و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيته تعالى وحده لا شريك له و إن السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخران يجريان إلى أجل مسمى، و لا بد ممن يقوم على هذه الأمور فيرفع السماء و ينظم النظام و يسخر الشمس و القمر و يدبر الأمر و يفصل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلا فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات

 

 

 

و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى رب الكل لا رب غيره.

فقوله: ﴿اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلط به على الأرض بإلقاء أشعتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطن أن لها رافعا حافظا لها أن تتحول من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرها.

و ذلك أن استقرار السماوات في رفيع مستقرها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال.

لكن الإنسان - في عين أنه يرى قانون العلية الكلي و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الأمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرر ذلك على حسه أقنعه ذلك و لم يتعجب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثم وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجب و بحث عن ذلك حتى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرر على الحس تقف نفسه عن البحث في كل مورد يشاهد فيه شيئا رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.

أما إذا وجد أمرا يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلوية القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبه من رقدته.

فقوله تعالى: ﴿رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا إنما وصف السماوات فيه بقوله:

﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله: ﴿تَرَوْنَهَا وصفا توضيحيا لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنها لما لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها

 

 

 

 أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربما يذهب إليه أوهام العامة أن الذي يستند إلى الله من الأمور هو ما يجهل سببه كالأمور السماوية و الحوادث الجوية و الروح و أمثال ذلك.

فإن كلامه تعالى ينص أولا على أن كل ما يصدق عليه الشي‏ء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كل خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الرعد:

 ١٦، و قال: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ: الأعراف: ٥٤.

و ثانيا: على أن سنة الأسباب جارية مطردة و أنه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الأمور الجسمانية غير جار في بعض. و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضية إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالأمور السماوية مثلا إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاص به بإذن الله، و إن قام جرم سماوي من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضا بسبب خاص به كطبيعته الخاصة أو التجاذب العام مثلا بإذن الله.

بل إنما قيد رفع السماوات بقوله: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً على ما سنوضحه.

و لما كان المطلوب في المقام على ما يهدي إليه سياق الآيات هو توحيد الربوبية و بيان أن الله سبحانه رب كل شي‏ء لا رب سواه لا أصل إثبات الصانع عقب قوله: ﴿رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ إلخ بقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ إلخ، الدال على التدبير العام المتحد باتصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أن رب الجميع و مالكها المدبر لأمرها واحد.

و ذلك أن الوثنية الذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أن خالق الكل و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنما يرون أنه فوض تدبير كل شأن من شئون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البر و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القوية فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره

 

 

 

 و يتقي بها شره فلا ينفع في ردهم إلا قصر الربوبية في الله سبحانه و إثبات أنه رب لا رب سواه، و أما توحيد الألوهية بمعنى إثبات أن الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كل وجود فهو أمر لا تنكره الوثنية و لا يضرهم شيئا.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ إلخ من غير أن يكون مقصودا بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الذيل في قوله تعالى:

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ الآية : الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، و ما يشابهها من الآيات.

و يظهر أيضا: أن قوله: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ متعلق برفع و ﴿تَرَوْنَهَا وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئية، و أما قول من يجعل: ﴿تَرَوْنَهَا جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأن السامع لما سمع قوله: ﴿رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ قال: ما الدليل على ذلك؟ فأجيب و قيل: ﴿تَرَوْنَهَا أي الدليل على ذلك أنها مرئية لكم، فبعيد. إلا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنها جميعا مرفوعة من غير عمد و مرئية للإنسان.

و قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ تقدم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية ٥٤.

و قوله: ﴿كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي كل منهما يجري إلى أجل معين يقف عنده و لا يتعداه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كل من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمى فإن حكم الجري و الحركة عام مطرد في جميع هذه الأجسام.

و قد تقدم الكلام في معنى الأجل المسمى في تفسير سورة الأنعام الآية ١ فراجع.

و قوله: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ التدبير هو الإتيان بالشي‏ء عقيب الشي‏ء و يراد به ترتيب الأشياء المتعددة المختلفة و نظمها بوضع كل شي‏ء في موضعه الخاص به بحيث يلحق بكل

 

 

 

 منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختل الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبر أمر البيت أي نظم أموره و التصرفات العائدة إليه بحيث أدى إلى صلاح شأنه و تمتع أهله بالمطلوب من فوائده.

فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شي‏ء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمى، و تدبير الكل إجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا.

و قوله: ﴿يُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ظاهر السياق أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنته تعالى يفصل الأشياء و يميز كل شي‏ء من كل شي‏ء و يخرج من كل شي‏ء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحق من الباطل و الخير من الشر و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم.

و لذا عقبه بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فإن يوم اللقاء هو الساعة التي سماها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتقين من المجرمين و الفجار قال: ﴿إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ: الدخان ٤٠، و قال: ﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ: يس: ٥٩، و قال:

﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏َ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ: الأنفال: ٣٧.

و الأشهر عند المفسرين أن المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها الناس و يتفكروا و يفقهوا فإن في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدمناه من المعنى أوضح لزوما و أمس بالسياق.

و في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ و لم يقل: لعلكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبية و التأكيد له و الإشارة إلى أن الذي خلق العالم و دبر أمره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب إلا رب واحد لا شريك له.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً إلى آخر الآية

 

 

 

الرواسي‏ جمع راسية من رسا إذا ثبت و قر، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرها، و الزوج‏ خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربما يقيد الزوجان باثنين تأكيدا للدلالة على أن المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.

و قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مد الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله: ﴿وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْهَاراً الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض و الله أعلم بيان تدبيره تعالى أمر سكنة الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مد الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شق من أطرافها أنهارا و فجر منها عيونا مطلة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرة صيفية و شتوية برية و أهلية، و سلط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدواب و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة.

فمد الأرض يسهل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشق الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة و بالليل و النهار يتم المطلوب و في ذلك كله تدبير متصل متحد يكشف عن مدبر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيته، و إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.

و قوله: ﴿وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفي و الشتوي

 

 

 

و الحلو و غيره و الرطب و اليابس.

هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ: الملك: ٤ أريد به الرجوع كرة بعد كرة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.

و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى: ﴿زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ: جعل فيها من كل أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و أنثى في أزهارها عند تكونها فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر و زرع لا يتولد ثمره و حبه إلا من بين اثنين ذكر و أنثى.

فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة أخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إما أن يكون كل منهما في زهرة وحده و الثاني كالقرع و الأول كشجرة القطن فإن عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة. انتهى.

و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.

نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ: يس: ٣٦ و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ: لقمان: ١٠ و قوله: ﴿وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ : الذاريات: ٤٩.

و ذكر بعضهم أن زوجين اثنين الذكر و الأنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الأنثى و كل منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفي و خلافه. و هو كما ترى.

 

 

 

 و قوله: ﴿يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أن المراد به إغشاء كل من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدل على ذلك.

ثم ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن التفكر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدي إلى توجه المجموع و كل جزء من أجزائها إلى غايات تخصها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقلي في غاية الإتقان و الإحكام فيدل على أن لها ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية بكل شي‏ء و خاصة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى: ﴿صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ. انتهى، و قال: و الأكل‏ لما يؤكل بضم الكاف و سكونه قال تعالى: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ و الأكلة للمرة و الأكلة كاللقمة. انتهى.

و المعنى أن من الدليل على أن هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أن في الأرض قطعا متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنات من أعناب و العنب من الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شي‏ء من صفاته.

فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصة بكل منها أو العوامل الخارجية التي تعمل فيها فتتصرف في إشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تفصل الأبحاث العلمية المتعرضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصها، و العوامل التي تؤثر في كيفية تكونها و تتصرف في صفاتها.

 

 

 

 قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية و العوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلا أن هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثم أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميز شي‏ء من شي‏ء و لا اختلف في شي‏ء هذا.

و من الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات أن يتنبه أن استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالا لقانون العلة و المعلول كما ربما يتوهم فإن إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله.

و لما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

و قد ظهر من البيان المتقدم أن نسبة اختلاف الأكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية و مد الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عز من سبب.

و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير و هو ما في قوله تعالى:

﴿وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‏ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ و لعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الأكل و ليس المفضل إلا الله سبحانه ثم عرف المتكلم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل: ﴿وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‏ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن إشعار بأن هناك أسبابا إلهية دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه.

 

 

 

 و قد ظهر مما تقدم أن الآية إنما سيقت حجة لتوحيد الربوبية لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخصها أن اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتحدة و انتظامها عن مشيته و تدبيره فالمدبر لها هو الله سبحانه و هو ربها لا رب غيره، فما يتراءى من المفسرين أن الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محله.

على أن الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيين و هم إنما ينكرون وحدة الربوبية و يثبتون أربابا شتى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحق عز اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعا، و قد تنبه به بعضهم فذكر أن الآية احتجاج على دهرية العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدل على ما ادعاه.

و ظهر أيضا أن الفرق بين الحجتين أعني ما في قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ إلخ و ما في قوله: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ إلخ أن الأولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتصال في التدبير المتعلق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدي إلى وحدة مدبرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواص في الأشياء التي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أن المبدئ المفيض لهذه الآثار و الخواص المختلفة المتفرقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو رب الجميع لا رب غيره.

و أما الحجة الأولى المذكورة قبل الحجتين أعني ما في قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرقات الأمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات. و محصلها أن أمر العالم على تشتته و تفرقه تحت تدبير واحد فله رب واحد هو الله سبحانه، و أنه تعالى يفصل الآيات فيميز كل شي‏ء من كل شي‏ء فيفصل السعيد من الشقي و الحق من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبية و المعاد معا إذ قال: ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.

 

 

 

 (بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن الخطاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ يعني هذه الأرض الطيبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشي في شرف المصطفى و الثعلبي في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي و اللفظ له بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لعلي (عليه السلام): الناس من شجرة شتى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثم قرأ: ﴿جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى‏ بِمَاءٍ وَاحِدٍ بالنبي و بك: قال: و رواه النطنزي في الخصائص عن سلمان، و

 في رواية: أنا و علي من شجرة و الناس من أشجار شتى:.

 قال صاحب البرهان،: و روي حديث جابر بن عبد الله الطبرسي، و علي بن عيسى في كشف الغمة،.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: يا علي الناس من شجر شتى و أنا و أنت يا علي من شجرة واحدة ثم قرأ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ.

 و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله تعالى: ﴿وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‏ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ قال‏[7]: الدقل و الفارسي و الحلو و الحامض.

 

[سورة الرعد ١٣): الآیات ٥ الی ٦]

﴿وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولَئِكَ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٥ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ ٦

(بيان)

عطف على بعض ما كان يتفوه به المشركون في الرد على الدعوة و الرسالة كقولهم:

أنى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا أنزل علينا العذاب الذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إلى آخر الآية قال في المجمع،: العجب و التعجب‏ هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغل‏ طوق تشد به اليد إلى العنق انتهى.

أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقية ما أنزله إلى نبيه من معارف الدين في كتابه ملوحا إلى أن آيات التكوين تهدي إليه و تدل عليه و أصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثم فصل القول في دلالة الآيات التكوينية على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبية و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقية الرسالة و الكتاب المنزل الذي هو آيتها،

 

 

 

 فلما اتضح ذلك و استنار تمهدت الطريق لذكر شبه الكفار فيما يرجع إلى الأصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم في البعث و سيتعرض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية.

و شبهتهم في ذلك قولهم: ﴿أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أورده بعنوان أنه عجب أحرى به أن يتعجب منه لظهور بطلانه و فساده ظهورا لا مسوغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوه به إنسان لكان من موارد العجب فقال: ﴿وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ إلخ.

و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلق ﴿تَعْجَبْ إن تحقق منك تعجب و لا محالة يتحقق لأن الإنسان لا يخلو منه فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلق به تعجبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لب و حجى.

و قولهم: ﴿أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الذي هو الهيكل اللحمي الخاص المركب من أعضاء خاصة المجهز بقوى مادية على زعمهم و كيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديدا؟.

و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كل واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادتها:

فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنسانا سويا، و قد أجيب عنه بأن إمكان استحالة المواد الأرضية منيا ثم المني علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سوي و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنسانا سويا قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ الآية: الحج: ٥.

و منها: استبعاد إيجاد الشي‏ء بعد عدمه. و أجيب بأنه مثل الخلق الأول فليجز كما جاز قال تعالى: ﴿وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا

 

 

 

[1]  كذا في النسخة المنقولة عنها و الصحيح أبو الحسن.

[2]  الإصحاح ٣٥ من سفر التكوين تذكر التوراة أن ليئة و راحيل امرأتي يعقوب بنتا لابان الأرامي و أن راحيل أم يوسف ماتت حين وضعت بنيامين.

[3]  الإصحاح ٣٧ من سفر التكوين.

[4]  الإصحاح ٣٩ من سفر التكوين.

[5]  الإصحاح ٤١ من سفر التكوين.

[6]  الإصحاح ٤٢-٤٣ من سفر التكوين.

[7]  الدقل بفتحتين أسود التمر و كأن الفارسي نوع منه طيب.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22214957

  • التاريخ : 3/02/2025 - 19:43

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net