00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 155 الى ص 231  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الحادي عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و قد ظهر من الآية بمعونة السياق:

أولا: أن قوله: ﴿رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن و الرجوع إليه، و معنى ﴿أَحَبُّ إِلَيَّ أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني و النفس الأمارة.

و إن قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله:

﴿وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ إلخ، من معنى الدعاء. و يؤيده تعقيبه بقوله: ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.

و من الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ و لو كان دعاء بالسجن و استجابة الله سبحانه و قدر له السجن لم يكن التعبير بثم و فصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.

و ثانيا: أن النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله: ﴿وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.

و الذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك: ﴿اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إلى أن قال ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ: الآيات: ٥٠-٥٢ من السورة.

أنهن دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهن في القصة ثم قال: ﴿لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبر فيه.

و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن و يدهش عقولهن و يقطعن

 

 

 

 أيديهن ثم ينسللن انسلالا و لا يتعرض له أصلا و يذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا و هن متيمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلا و هو همهن و فيه هواهن يفدينه بالنفس و يطمعنه بأي زينة في مقدرتهن و يعرضن له أنفسهن و يتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.

و هو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله: ﴿رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهن به.

و ثالثا: أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعي المفروغ عنه و إلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبر عنه بقوله: ﴿وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي﴾ و لم يقل: و إن لم تصرف عني و إن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

و لذلك أيضا قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة و صرف جديد.

و رابعا: أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام): ﴿وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ أو أكن من الخائنين كما قال للملك: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال:

إنه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربه بحقيقة الأمر و هو أن الصبوة إليهن من الجهل.

و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين‏[1] في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال: ﴿وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ

 

 

 

 إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

(أبحاث حول التقوى الديني و درجاته)

في فصول

١ - القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد:

 لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية و تتفرع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ: إبراهيم: ٢٦. فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و أكل تؤتيه كل حين بإذن ربها» و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفة و المعرفة و الشجاعة و العدالة و الرحمة و نظائرها.

و قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: الفاطر: ١٠ فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق و جعل العمل الذي يصلح له و يناسبه هو الذي يرفعه و يمده في صعوده.

بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي و لا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

و هذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

و من المسلم أن هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن و قوانين أخرى جزائية

 

 

 

تهدد المتخلفين عن السنن و القوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوفهم بالسيئة قبال السيئة و بأخرى تشوقهم و ترغبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.

و إنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قوية على المجرم، و أما إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة و كم له من وجود فلا مانع يمنع من تحققه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين و فشت التخلفات و التعديات على حقوق الناس، و الإنسان كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه و لو أضر غيره.

و يشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على رده إلى العدل و تقويمه بالحق فصار ذا قوة و شوكة لا يقاوم في قوته و لا يعارض في إرادته.

و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدتها لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسد باب الخلاف و طريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتباع الحق و احترام الإنسانية و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها.

و لا يغرنك ما تشاهده من القوة و الشوكة في الأمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة و خيرها و لا يدفع إلا ما يضر أمته، و لا هم لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدم و الرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس،

 

 

 

 و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلا الرقية و الخسة و الظلم و الرذيلة.

و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلف و الضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية و استظهرت بها.

ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأن للعالم و منه الإنسان إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شي‏ء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسي‏ء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.

و من المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية و التلذذ بلذائذ الحياة المادية، و أقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و إن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.

أما ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها و أما الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممن يبتغيه و يذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان على هذا بعد الموت و الفوت حتى يعود إليه شي‏ء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلا البطلان و الاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه و التفات.

 

 

 

 فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها و بغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) و لا كان من الحري أن يمنعه شي‏ء إلا العلم بمقام ربه.

٢ - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة و إن شئت فقل:

إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحب، قال تعالى: ﴿فِي اَلْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ اَلْغُرُورِ: الحديد: ٢٠ فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا و هي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أن له وراءها دارا و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.

و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلما فكر فيما أوعد الله الظالمين و الذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنة.

و طائفة ثالثا و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة و ذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كل شي‏ء غيرهم، و يدبر الأمر

 

 

 

 وحده و ليسوا إلا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلا أن يعبد ربه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شي‏ء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، و لا إلى ثواب يرجيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير

 قوله (عليه السلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

 و هؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية و ذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، و قد سمى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكل صفة جميلة و من خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ: الأنعام: ١٠٢ ثم قال: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ : الم السجدة: ٧ فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن و أنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شي‏ء آية تدل عليه و إن في السماوات و الأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى و لا يحكي شيئا من جماله و جلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدل على غناه المطلق و تسبح و تنزه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ : إسراء: ٤٤.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم و عرفها لهم و هو أنها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسية و الأصالة و الاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلتها و استكانتها ما فوقها من العزة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة و العظمة و يغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه و كل شي‏ء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانية عن باطنه، و يبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى:

﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ: البقرة: ١٦٥.

و لذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا

 

 

 

 و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدمت الرواية

 عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب»

 و قوله (عليه السلام) في حديث: «و إني أعبده حبا له و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون» الحديث، و إنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية و الألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.

٣ - كيف يورث الحب الإخلاص؟

عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين.

و أما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي و سائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشي‏ء حب لآثاره.

فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الذي يضي‏ء له طريق العمل، قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ: الأنعام: ١٢٢.

و الروح الذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ: المجادلة: ٢٢ و هذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل و الخير و يتجنب كل مكروه و شر.

و أما الموجودات الكونية و الحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شي‏ء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه و استحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له

 

 

 

ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين و مكروه.

و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه و لذة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقب للشر و المكروه، و من كان لا يرى إلا الخير و الجميل و لا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغم و الحزن و الخوف و كل ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدره و لا يحيط به إلا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله و تكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص.

و إليه يشير أمثال قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ: يونس: ٦٣، و قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ: الأنعام: ٨٢.

و هؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربهم شي‏ء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، و يكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ: المطففين: ٢١، و قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ: التكاثر: ٦ و قد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب.

و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا و لا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: ﴿هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ: المؤمن: ٦٥.

 ٤ - و أما إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا

 

 

 

 إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.

نعم هاهنا شي‏ء و هو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أن هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن.

و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمة، و قد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: ﴿وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: الأنعام: ٨٧، و قال: ﴿هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ: الحج: ٧٨.

و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شي‏ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.

و قد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصدق ذلك بقوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات:

 ١٦٠، و إن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ: ص: ٨٣.

و من الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كَانَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً: النساء: ١١٣ و قد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.

و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): ﴿قَالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ: يوسف: ٣٣ و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.

 

 

 

 و يظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي و هو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ: النمل ١٤ و قال:

﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ: الجاثية: ٢٣، و قال: ﴿فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ: الجاثية: ١٧.

و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ : الصافات: ١٦٠، و ذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمة (عليه السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، و الآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم و إن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.

و ثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.

و يشهد على ذلك قوله: ﴿وَ اِجْتَبَيْنَاهُمْ وَ هَدَيْنَاهُمْ إِلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: الأنعام: ٨٨ تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهي مانعا من ذلك، و قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ: المائدة:

 ٦٧ إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

و لا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء و الأئمة بتسديد من روح القدس فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإن شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.

 

 

 

 نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.

و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، و أما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر و أقوى من كل شي‏ء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.

و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي و هو ظاهر.

مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.

(بحث روائي)

 في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق.

 

 

 

قال (عليه السلام): و كان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها و عليه و قالت:

لا تخف و ألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم.

قال: فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءا بل هي راودتني عن نفسي فسل هذا الصبي أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبي زائر لها فأنطق الله الصبي لفصل القضاء فقال: أيها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته.

فلما سمع الملك كلام الصبي و ما اقتصه أفزعه ذلك فزعا شديدا فجي‏ء بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه.

قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهن، و هيأت لهن طعاما و مجلسا ثم أتتهن بأترنج و آتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن ما قلن يعني النساء فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه تعني في حبه. و خرجن النسوة من تحتها فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن و قال: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين و صرف الله عنه كيدهن.

فلما شاع أمر يوسف و امرأة العزيز و النسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجنن يوسف فسجنه في السجن و دخل السجن مع يوسف فتيان، و كان من قصتهما و قصة يوسف ما قصه الله في الكتاب. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليه السلام). أقول و روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف

 

 

 

 يسير، و قوله (عليه السلام): «قال معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون» تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إلخ و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية أن الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك.

و قوله: فأبى عليهن و قال: ﴿إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي إلخ ظاهر في أنه (عليه السلام) لم يأخذ قوله: ﴿رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الآية أنه ليس بدعاء.

 و في العيون، بإسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك:

إن الأنبياء معصومون: قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه:

فأخبرني عن قول الله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‏ بُرْهَانَ رَبِّهِ فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به و لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما، و المعصوم لا يهم بذنب و لا يأتيه.

و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

 أقول: تقدم أن ابن الجهم هذا لا يخلو عن شي‏ء لكن صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدمناه في بيان الآية و أما ما نقله عن جده الصادق (عليه السلام) «أنها همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل» فلعل المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه و لعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية.

 و فيه، بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و من الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا.

قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال:

نعم. فقال له فما تقول في قوله عز و جل في يوسف: ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا؟ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا فإنها همت بالمعصية و هم يوسف

 

 

 

 بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها و الفاحشة. و هو قوله عز و جل:

﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشَاءَ و السوء القتل و الفحشاء الزنا. و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب: في قوله: ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا قال: طمعت فيه و طمع فيها، و كان من الطمع أن هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر و الياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها و بينه فقال: أي شي‏ء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة - فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تنالينها مني أبدا. و هو البرهان الذي رأى. أقول: و الرواية من الموضوعات كيف؟ و كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليه السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء و مذهبهم في ذلك مشهور.

على أن سترها الصنم و انتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان، و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (عليه السلام) لكنها آحاد لا تعويل عليها. نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه و بين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء و فحشاء كما كان له ذلك من قبل، و قد قال تعالى في حقه: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ. فإن صح شي‏ء من هذه الروايات فليكن هذا معناه.

 و فيه،: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال :عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات:

حين هم بها فسجن، و حين قال: ﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه. و حين قال: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. أقول: و الرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أن الله اجتباه و أخلصه لنفسه و أن الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه و كيف يستقيم لمن هم على أفحش معصية و أنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين و جبه بالسرقة أن يعده الله صديقا من عباده المخلصين و المحسنين، و يذكر أنه آتاه الحكم و العلم و اجتباه و أتم عليه نعمته، و على هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر

 

 

 

 المنثور، و قد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات، و لا تعويل على شي‏ء منها.

 و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تكلم أربعة و هم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا يقول: قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره، و الحجاب هو الشغاف، و الشغاف هو حجاب القلب.

 و فيه، في حديث جمعها النسوة و تقطيعهن أيديهن قال :فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال: ﴿رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ. الحديث.

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٣٥ الی ٤٢]

﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ٣٥ وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٣٦ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٧ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا

 

 

 

﴿وَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ٣٨ يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٠ يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ٤١ وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ٤٢

(بيان)

تتضمن الآيات شطرا من قصته (عليه السلام) و هو دخوله السجن و مكثه فيه بضع سنين و هو مقدمة تقربه التام عند الملك و نيله عزة مصر، و فيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد، و قد جاء ببيان عجيب، و إظهاره لأول مرة أنه من أسرة إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

قوله تعالى ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ البداء هو ظهور رأي بعد ما لم يكن يقال؟ بدا لي في أمر كذا أي ظهر لي فيه رأي جديد، و الضمير في قوله: ﴿لَهُمْ إلى العزيز و امرأته و من يتلوهما من أهل الاختصاص و أعوان الملك و العزة.

و المراد بالآيات الشواهد و الأدلة الدالة على براءة يوسف (عليه السلام) و طهارة ذيله مما

 

 

 

اتهموه به كشهادة الصبي و قد القميص من خلفه و استباقهما الباب معا، و لعل منها تقطيع النسوة أيديهن برؤيته و استعصامه عن مراودتهن إياه عن نفسه و اعتراف امرأة العزيز لهن أنها راودته عن نفسه فاستعصم.

و قوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ اللام فيه للقسم أي أقسموا و عزموا ليسجننه البتة، و هو تفسير للرأي الذي بدا لهم، و يتعلق به قوله: ﴿حَتَّى حِينٍ و لا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع حين عن الإضافة و المعنى على هذا ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة و ينساه الناس.

و معنى الآية: ثم ظهر للعزيز و من يتلوه من امرأته و سائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما رأوا هذه الآيات الدالة على براءته و عصمته و هو أن يسجنوه حينا من الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذي يجلب لهم العار و الشين و أقسموا على ذلك.

و يظهر بذلك أنهم إنما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز و صونا لأسرته عن هوان التهمة و العار، و لعل من غرضهم أن يتحفظوا على أمن المدينة العام و لا يخلوا الناس و خاصة النساء أن يفتتنوا به فإن هذا الحسن الذي أوله امرأة العزيز و السيدات من شرفاء المدينة و فعل بهم ما فعل من طبعه أن لا يلبث دون أن يقيم في المدينة بلوى.

لكن الذي يظهر من قوله في السجن لرسول الملك: ﴿اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إلى آخر ما قال، ثم قول الملك لهن: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، و قولهن: ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ثم قول امرأة العزيز:

﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ، كل ذلك يدل على أن المرأة ألبست الأمر بعد على زوجها و أرابته في براءة يوسف (عليه السلام) فاعتقد خلاف ما دلت عليه الآيات أو شك في ذلك، و لم يكن ذلك إلا عن سلطة تامة منها عليه و تمكن كامل من قلبه و رأيه.

و على هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بأمر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها و تؤدب يوسف لعله ينقاد لها و يرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر من النسوة بقولها: ﴿وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصَّاغِرِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيَانِ إلى آخر الآية الفتى العبد و سياق الآيات

 

 

 

 يدل على أنهما كانا عبدين من عبيد الملك، و قد وردت به الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

و قوله: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً فصل قوله: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا و بين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله: ﴿أَرَانِي و خطابه له بصاحب السجن.

و قوله: ﴿أَرَانِي لحكاية الحال الماضية كما قيل، و قوله: ﴿أَعْصِرُ خَمْراً أي أعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمي العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه.

و المعنى أصبح أحدهما و قال ليوسف (عليه السلام) إني رأيت فيما يرى النائم إني أعصر عنبا للخمر.

و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ أي تنهشه و هي رؤيا أخرى ذكرها صاحبه. و قوله: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله: «قال» «و قال» و هذا من لطائف تفنن القرآن، و الضمير في قوله: ﴿بِتَأْوِيلِهِ راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق، و في قوله: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ تعليل لسؤالهما التأويل و ﴿نَرَاكَ أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم، و إنما أقبلا عليه في تأويل رؤياهما لإحسانه، لما يعتقد عامة الناس أن المحسنين الأبرار ذوو قلوب طاهرة و نفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الأمور و جريان الحوادث انتقالا أحسن و أقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم.

و المعنى: قال أحدهما ليوسف: إني رأيت فيما يرى النائم كذا و قال الآخر: إني رأيت كذا، و قالا له: أخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لأنا نعتقد من المحسنين، و لا يخفى لهم أمثال هذه الأمور الخفية لزكاء نفوسهم و صفاء قلوبهم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا لما أقبل صاحبا السجن على يوسف (عليه السلام) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (عليه السلام) الفرصة في بث ما عنده من أسرار التوحيد و الدعوة إلى ربه سبحانه الذي علمه ذلك فأخبرهما أنه عليم بذلك بتعليم

 

 

 

 من ربه خبير بتأويل الأحاديث و توسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد و نفي الشركاء ثم أول رؤياهما.

فقال أولا: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ و أنتما في السجن ﴿ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ أي بتأويل ذاكما الطعام و حقيقته و ما يؤول إليه أمره فأنا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما أدعوكما إليه من دين التوحيد.

هذا على تقدير عود الضمير في قوله: ﴿بِتَأْوِيلِهِ إلى الطعام، و يكون عليه إظهارا منه (عليه السلام) لآية نبوته نظير قول المسيح (عليه السلام) لبني إسرائيل: ﴿وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: آل عمران: ٤٩، و يؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليه السلام) كما سيأتي في بحث روائي إن شاء الله تعالى.

و أما على تقدير عود ضمير ﴿بِتَأْوِيلِهِ إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ إلخ، وعد منه لهما تأويل رؤياهما و وعد بتسريعه غير أن هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر إلى السياق.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ بين (عليه السلام) أن العلم و التنبؤ بتأويل الأحاديث ليس من العلم العادي الاكتسابي في شي‏ء بل هو مما علمه إياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين و اتباعه ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب أي رفضه دين الشرك و أخذه بدين التوحيد.

و المشركون من أهل الأوثان يعتقدون بالله سبحانه و يثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم أن الذي يقدر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله و كذا عود النفوس بعد الموت بأبدان أخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شي‏ء، و لذلك نفى (عليه السلام) عنهم الإيمان بالله و بالآخرة، و أكد كفرهم بالآخرة بتكرار الضمير حيث قال: ﴿وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ و ذلك لأن من لا يؤمن بالله فأحرى به أن لا يؤمن برجوع العباد إليه.

و هذا الذي يقصه الله سبحانه من قول يوسف (عليه السلام): ﴿وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ

 

 

 

 وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ هو أول ما أنبأ في مصر نسبه و أنه من أهل بيت إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا وَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ أي لم يجعل الله سبحانه لنا أهل البيت سبيلا إلى أن نشرك به شيئا و منعنا من ذلك، ذلك المنع من فضل الله و نعمته علينا أهل البيت و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به.

و أما أنه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى أن يشركوا به فليس جعل إجبار و إلجاء بل جعل تأييد و تسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة و الرسالة و الله أعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك و دانوا بالتوحيد.

و أما أن ذلك من فضل الله عليهم و على الناس فلأنهم أيدوا بالحق و هو أفضل الفضل و الناس في وسعهم أن يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم و يهتدوا بهداهم.

و أما أن أكثر الناس لا يشكرون فلأنهم يكفرون بهذه النعمة و هي النبوة و الرسالة فلا يعبئون بها و لا يتبعون أهلها أو لأنهم يكفرون بنعمة التوحيد و يتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة و الجن و الإنس يعبدونهم من دون الله.

هذا ما ذكره أكثر المفسرين في معنى الآية.

و يبقى عليه شي‏ء و هو أن التوحيد و نفي الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فإنه مما يستقل به العقل و تقضي به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع بل هم و الأنبياء في أمر التوحيد على مستوى واحد و شرع سواء و لو كفروا بالتوحيد فإنما كفروا لعدم إجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الأنبياء.

لكن يجب أن يعلم أنه كما أن من الواجب في عناية الله سبحانه أن يجهز نوع الإنسان مضافا إلى الهامة من طريق العقل الخير و الشر و التقوى و الفجور بما يدرك به أحكام دينه و قوانين شرعه و هو سبيل النبوة و الوحي، و قد تكرر توضيحه في أبحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته أن يجهز أفرادا منه بنفوس طاهرة و قلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الأصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به أصل التوحيد عصرا بعد

 

 

 

 عصر و يحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل، و البرهان عليه هو البرهان على النبوة و الوحي فإن الواحد من الإنسان العادي لا يمتنع عليه الشرك و نسيان التوحيد، و الجائز على الواحد جائز على الجميع و في تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته و بطلان الغرض الإلهي في خلقته.

فمن الواجب أن يكون في النوع رجال متلبسون بإخلاص التوحيد يقومون بأمره و يدافعون عنه و ينبهون الناس عن رقدة الغفلة و الجهالة بإلقاء حججه و بث شواهده و آياته و بينهم و بين الناس رابطة التعليم و التعلم دون السوق و الاتباع.

و هذه النفوس إن كانت فهي نفوس الأنبياء و الأئمة (عليه السلام)، و في خلقهم و بعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم، و على الناس بنصب من يذكرهم الحق الذي تقضي به فطرتهم و يدافع عن الحق تجاه غفلتهم و ضلالتهم فإن اشتغال الناس بالأعمال المادية و مزاولتهم للأمور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية و تحرضهم على الإخلاد إلى الأرض فتبعدهم عن المعنويات و تنسيهم ما في فطرهم من المعارف الإلهية، و لو لا رجال متألهون متولهون في الله الذين أخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لأحيطت الأرض بالعماء، و انقطع السبب الموصول بين الأرض و السماء، و بطلت غاية الخلقة، و ساخت الأرض بأهلها.

و من هنا يظهر أن الحق أن تنزل الآية على هذه الحقيقة فيكون معنى الآية: لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى أن نشرك بالله شيئا، ذلك أي كوننا في أمن من الشرك من فضل الله علينا لأنه الهدى الذي هو سعادة الإنسان و فوزه العظيم. و على الناس لأن في ذلك تذكيرهم إذا نسوا و تنبيههم إذا غفلوا، و تعليمهم إذا جهلوا، و تقويمهم إذا عوجوا و لكن أكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبئون به و لا يقبلون عليه بل يعرضون عنه. هذا.

و ذكر بعضهم في معنى الآية: أن المشار إليه بقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ عَلَيْنَا إلخ، هو العلم بتأويل الأحاديث. و هو كما ترى بعيد من سياق الآية.

قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم: خار يخار خيرة إذا انتخب و اختار أحد شيئين يتردد

 

 

 

بينهما من حيث الفعل أو من حيث الأخذ بوجه فالخير منهما هو الذي يفضل على الآخر في صفة المطلوبية فيتعين الأخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذي يتعين القيام به و خير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الأخذ به كخير المالين من جهة التمتع به و خير الدارين من جهة سكناها و خير الإنسانين من جهة مصاحبته، و خير الرأيين من جهة الأخذ به، و خير الإلهين من جهة عبادته، و من هنا ذكر أهل الأدب أن الخير في الأصل «أخير» أفعل تفضيل، و الحقيقة أنه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده أفعل التفضيل من الفضل في القياس.

و بما مر يتبين أن قوله (عليه السلام): ﴿أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ إلخ مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الأمر بينه و بين سائر الأرباب التي تدعى من دون الله لا لبيان أنه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الأرباب أو أنه تعالى هو الإله الذي تنتهي إليه الأشياء بدءا و عودا دونها أو غير ذلك فإن الشي‏ء إنما يسمى خيرا من جهة طلبه و تعيينه بالأخذ به بنحو فقوله (عليه السلام): أ هو خير أم سائر الأرباب يريد به السؤال عن تعين أحد الطرفين من جهة الأخذ به و الأخذ بالرب هو عبادته.

ثم إنه (عليه السلام) سمى آلهتهم أربابا متفرقين لأنهم كانوا يعبدون الملائكة و هم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التي تستند إليها جهات الخير و السعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا و عرضا و يعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم و إله القدرة و إله السماء و إله الأرض و إله الحسن و إله الحب و إله الأمن و الخصب و غير ذلك، و يعبدون الجن و هم مبادئ الشر في العالم كالموت و الفناء و الفقر و القبح و الألم و الغم و غير ذلك، و يعبدون أفرادا كالكملين من الأولياء و الجبابرة من السلاطين و الملوك و غيرهم، و هم جميعا متفرقون من حيث أعيانهم و من حيث أصنامهم و التماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم.

و قابل الأرباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه و وصفه بالواحد القهار حيث قال: ﴿أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله: ﴿أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ لضرورة التقابل بين طرفي الترديد.

فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الإلهية التي هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه

 

 

 

 و وجود لا يتطرق العدم و الفناء إليه، و الوجود الذي هذا شأنه لا يمكن أن يفرض له حد محدود و لا أمد ممدود لأن كل محدود فهو معدوم وراء حده، و الممدود باطل بعد أمده فهو تعالى ذات غير محدود و وجود غير متناه بحب، و إذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة و فاقرا لا يجد الصفة في ذاته و لم يمكن أيضا فرض المغايرة و البينونة بين صفاته الذاتية كالحياة و العلم و القدرة لأن ذلك يؤدي إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات و الصفات و يتكثر جميعا و يحد، و هذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بأيدينا من معارفهم.

فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الإله سبحانه لو تفطنوا أن الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره، و إن ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه و لا بعض صفات كماله صفات زائد على بعض فهو علم و قدرة و حياة بعينه.

فهو تعالى أحدي الذات و الصفات أي أنه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شي‏ء إلا موجودا به لا مستقلا بالوجود و واحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية إلا أن تكون عين الذات فهو الذي يقهر كل شي‏ء لا يقهره شي‏ء.

و الإشارة إلى هذا كله هي التي دعته (عليه السلام) أن يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال: ﴿أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ أي أنه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا أضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن أن يفرض قباله ذات إلا و هي موجودة به لا بنفسها و لا أن يفرض قباله صفة له إلا و هي عينه و إلا صارت باطلة كل ذلك لأنه بحث غير محدود بحد و لا منته إلى نهاية.

و قد تمت الحجة على الخصم منه (عليه السلام) في هذا السؤال بما وصف الأرباب بكونهم متفرقين، و إياه تعالى بالواحد القهار لأن كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة أي تفرقة مفروضة بين الذات و الصفات، فالذات عين الصفات و الصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات و الصفات و من عبد علمه فقد عبد ذاته، و إن عبد علمه و لم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه و لا ذاته و على هذا القياس.

فإذا فرض تردد العبادة بين أرباب متفرقين و بين الله الواحد القهار تعالى و تقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض أرباب متفرقين و لا تفرقة في العبادة.

 

 

 

 نعم يبقى هناك شي‏ء و هو الذي يعتمد عليه عامة الوثنية من أن الله سبحانه أجل و أرفع ذاتا من أن تحيط به عقولنا أو يناله أفهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته و لا يسعنا التقرب منه بعبوديته و الخضوع له، و الذي يسعنا هو أن نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التي هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه و يشفعوا لنا عنده فأشار (عليه السلام) في الشطر الثاني من كلامه أعني قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً إلخ إلى دفعه.

قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ إلخ، بدأ (عليه السلام) بخطاب صاحبيه في السجن أولا ثم عمم الخطاب للجميع لأن الحكم مشترك بينهما و بين غيرهما من عبدة الأوثان.

و نفي العبادة إلا عن الأسماء كناية عن أنه لا مسميات وراء هذه الأسماء فتقع العبادة في مقابل الأسماء كلفظة إله السماء و إله الأرض و إله البحر و إله البر و الأب و الأم و ابن الإله و نظائر ذلك.

و قد أكد كون هذه الأسماء ليس وراءها مسميات بقوله: ﴿أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فإنه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الأسامي أحد غيركم بل أنتم و آباؤكم وضعتموها، ثم أكده ثانيا بقوله: ﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ و السلطان هو البرهان لتسلطه على العقول أي ما أنزل الله بهذه الأسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على أن لها مسميات وراءها، و حينئذ كان يثبت لها الألوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها.

و من الجائز أن يكون ضمير ﴿بِهَا عائدا إلى العبادة أي ما أنزل الله حجة على عبادتها بأن يثبت لها شفاعة و استقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها و التوجه إليها فإن الأمر إلى الله على كل حال. و إليه أشار بقوله بعده: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ.

و هو أعني قوله: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في أمر ما لا يستقيم إلا ممن يملك تمام التصرف، و لا مالك للتصرف و التدبير في أمور العالم و تربية العباد حقيقة إلا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى إلا له.

 

 

 

 و هو أعني قوله: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ مفيد فيما قبله و ما بعده صالح لتعليلهما معا، أما فائدته في قوله قبل: ﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فقد ظهرت آنفا، و أما فائدته في قوله بعد: ﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ فلأنه متضمن لجانب إثبات الحكم كما أن قوله قبل: ﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ متضمن لجانب السلب، و حكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل: ﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ قيل: «فما ذا حكم به في أمر العبادة» فقيل: ﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ و لذلك جي‏ء بالفعل.

و معنى الآية و الله أعلم ما تعبدون من دون الله إلا أسماء خالية عن المسميات لم يضعها إلا أنتم و آباؤكم من غير أن ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على أن لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها، أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.

و أما قوله: ﴿ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله و نفي الشريك عنه، و القيم‏ هو القائم بالأمر القوي على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل و المتضعضع، و المعنى أن دين التوحيد وحده هو القوي على إدارة المجتمع و سوقه إلى منزل السعادة، و الدين المحكم غير المتزلزل الذي فيه الرشد من غير غي و الحقية من غير بطلان، و لكن أكثر الناس لأنسهم بالحس و المحسوس و انهماكهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب و استقامة العقل لا يعلمون ذلك، و إنما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة معرضون.

أما أن التوحيد دين فيه الرشد و مطابقة الواقع فيكفي في بيانه ما أقامه (عليه السلام) من البرهان، و أما أنه هو القوي على إدارة المجتمع الإنساني فلأن هذا النوع إنما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته و أحكام معاشه على مبني حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبني باطل خرافي لا يعتمد على أصل ثابت.

فقد بان من جميع ما تقدم أن الآيتين جميعا أعني قوله: ﴿يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ إلى قوله ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ برهان واحد على توحيد العبادة، محصله أن عبادة المعبود أن كانت لألوهيته في نفسه و وجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان و لا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الآلهة، و إن كانت لكون آلهة ـ

 

 

 

غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فإن الله حكم من طريق العقل و بلسان أنبيائه أن لا يعبد إلا هو.

و بذلك يظهر فساد ما أورده البيضاوي في تفسيره تبعا للكشاف أن الآيتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الأولى و هو قوله: ﴿أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ دليل خطابي، و ما في الثانية و هو قوله: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً إلخ برهان تام.

قال البيضاوي: و هذا من التدرج في الدعوة و إلزام الحجة بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة و يعبدونها لا تستحق الإلهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات و إما بالغير و كلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هو الحق القويم و الدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره و لا يرتضي العلم دونه. انتهى.

و لعل الذي حداه إلى ذلك ما في الآية الأولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابي، و قد فاته ما فيها من قيد ﴿اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ و قد عرفت تقرير ما تتضمنه الآيتان من البرهان، و أن الذي ذكره من معنى الآية الثانية هو مدلول مجموع الآيتين دون الثانية فحسب.

و ربما يقرر مدلول الآيتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه أن الله الواحد الذي يقهر بقدرته الأسباب المتفرقة التي تفعل في الكون و يسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الأطراف كما هو المشهود من وحدة النظام و توافق الأسباب خير من أرباب متفرقين تترشح منها لتفرقها و مضادتها أنظمة مختلفة و تدابير متضادة تؤدي إلى انفصام وحدة النظام الكوني و فساد التدبير الواحد العمومي.

ثم الآلهة المعبودة من دون الله أسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل و لا من جانب النقل لأن العقل لا يدل إلا على التوحيد و الأنبياء لم يؤمروا من جهة الوحي إلا بأن لا يعبد إلا الله وحده. انتهى.

و هذا التقرير كما ترى ينزل الآية الأولى على معنى قوله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا

 

 

 

 آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا: الأنبياء: ٢٢، و يعمم الآية الثانية على نفي ألوهية آلهة إلا الله بذاتها و نفي ألوهيتها من جهة إذن الله في شفاعتها.

و يرد عليه أولا: أن فيه تقييدا لإطلاق قوله: ﴿اَلْقَهَّارُ من غير مقيد فإن الله سبحانه كما يقهر الأسباب في تأثيرها يقهر كل شي‏ء في ذاته و صفته و آثاره فلا ثاني له في وجوده و لا ثاني له في استقلاله في نفسه و في تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الإطلاق أن يفرض شي‏ء يستقل عنه في وجوده، و لا أمر يستقل عنه في أمره، و الإله الذي يفرض دونه إما مستقل عنه في ذاته و آثار ذاته جميعا و إما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب، و كلا الأمرين محال كما ظهر.

و ثانيا: أن فيه تعميما لخصوص الآية الثانية من غير معمم فإن الآية كما عرفت تنيط كونها آلهة بإذن الله و حكمه كما هو ظاهر قوله: ﴿مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ إلخ و من الواضح أن هذه الألوهية المنوطة بإذنه تعالى و حكمه ألوهية شفاعة لا ألوهية ذاتية أي ألوهية بالغير لا ما هو أعم من الألوهية بالذات و بالغير جميعا.

قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ معنى الآية ظاهر، و قرينة المناسبة قاضية بأن قوله: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا إلخ، تأويل رؤيا من قال منهما: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً و قوله: ﴿وَ أَمَّا اَلْآخَرُ إلخ، تأويل لرؤيا الآخر.

و قوله: ﴿قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ لا يخلو من إشعار بأن الصاحبين أو أحدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا و لعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب و أكل الطير من رأسه، و يتأيد بهذا ما ورد من الرواية من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام): أن الثاني من الصاحبين قال له: إني كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (عليه السلام): ﴿قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ أي إن التأويل الذي استفتيتما فيه مقضي مقطوع لا مناص عنه.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ الضمائر في قوله: ﴿قَالَ و ﴿ظَنَّ و ﴿فَلَبِثَ راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للذي ظن هو أنه سينجو منهما: اذكرني عند ربك بما يثير رحمته لعله يخرجني من السجن.

 

 

 

 و إطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بأنه من المقضي المقطوع به و تصريحه بأن ربه علمه تأويل الأحاديث لعله من إطلاق الظن على مطلق الاعتقاد و له نظائر في القرآن كقوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ: البقرة: ٤٦.

و أما قول بعضهم: إن إطلاق الظن على اعتقاده يدل على أنه إنما أول ما أول عن اجتهاد منه. يفسده ما قدمنا الإشارة إليه أنه صرح لهما بعلمه في قوله: ﴿قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ و الله سبحانه أيد ذلك بقوله: ﴿وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ و هذا ينافي الاجتهاد الظني.

و قد احتمل أن يكون ضمير ﴿ظَنَّ راجعا إلى الموصول أي قال يوسف لصاحبه الذي ظن ذلك الصاحب أنه ناج منهما. و هذا المعنى لا بأس به إن ساعده السياق.

و قوله: ﴿فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ إلخ، الضميران راجعان إلى «الذي» أي فأنسى الشيطان صاحبه الناجي أن يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين و البضع ما دون العشرة فإضافة الذكر إلى ربه من قبيل إضافة المصدر إلى معموله المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة.

و أما إرجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد أن الشيطان أنسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم و ربما نسب إلى الرواية.

فمما يخالف نص الكتاب فإن الله سبحانه نص على كونه (عليه السلام) من المخلصين و نص على أن المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما أثنى الله عليه في هذه السورة.

و الإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب فإن ذلك من أعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل إنما يوجب ترك الثقة بها و الاعتماد عليها و ليس في قوله:

﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ما يشعر بذلك البتة.

على أن قوله تعالى بعد آيتين: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ إلخ، قرينة صالحة على أن الناسي هو الساقي دون يوسف.

 

 

 

 (بحث روائي)

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا اَلْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ فالآيات شهادة الصبي و القميص المخرق من دبر و استباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب، فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه.

و دخل معه السجن فتيان يقول: عبدان للملك أحدهما خباز و الآخر صاحب الشراب، و الذي كذب و لم ير المنام هو الخباز. و ذكر الحديث علي بن إبراهيم القمي قال: و وكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلما دخل السجن قالوا له: ما صناعتك؟ قال: أعبر الرؤيا. فرأى أحد الموكلين في منامه كما قال يعصر خمرا. قال يوسف: تخرج و تصير على شراب الملك و ترتفع منزلتك عنده، و قال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه، و لم يكن رأى ذلك فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك و يصلبك و تأكل الطير من رأسك، فضحك الرجل و قال: إني لم أر ذلك فقال يوسف كما حكى الله: ﴿يَا صَاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ قال: كان يقوم على المريض، و يلتمس للمحتاج، و يوسع على المحبوس فلما أراد من يرى في نومه يعصر خمرا الخروج من الحبس قال له يوسف: ﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكان كما قال الله: ﴿فَأَنْسَاهُ اَلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ. أقول: و في الرواية اضطراب لفظي، و ظاهرها أن صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين و إنما كانا موكلين عليه من قبل الملك، و لا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا و قوله: ﴿قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا.

 

 

 

 و في تفسير العياشي، عن سماعة :عن قول الله: ﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قال: هو العزيز. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى. أقول: و رواه عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (ص)، و لفظه: «رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث» و روي مثله عن عكرمة و الحسن و غيرهما. و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عن طربال و عن ابن أبي يعقوب و عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و لفظ الأخير قال: قال الله ليوسف: أ لست الذي حببتك إلى أبيك و فضلتك على الناس بالحسن؟ أ و لست الذي سقت إليك السيارة فأنقذتك و أخرجتك من الجب؟ أ و لست الذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على أن ترفع رعية أو تدعو مخلوقا هو دوني؟ فالبث لما قلت بضع سنين‏، و قد تقدم أن هذه و أمثالها روايات تخالف نص الكتاب.

 و مثلها ما في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس قال :عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: قوله: ﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ و قوله لإخوته: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ و قوله:

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فقال له جبرئيل: و لا حين هممت؟ فقال: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي و في الرواية نسبة الفرية و الكذب الصريح إلى الصديق (عليه السلام).

و في بعض هذه الروايات أن عثراته الثلاث هي همه بها، و قوله: ﴿اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، و قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ. و الله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه.

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٤٣ الی ٥٧]

﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ

 

 

 

﴿وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ ٤٣ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ٤٤ وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ٤٥ يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ٤٦ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ٤٧ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ٤٨ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ٤٩ وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ اَلرَّسُولُ قَالَ اِرْجِعْ إِلى‏َ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ٥٠ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ٥١ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ ٥٢ وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥٣ وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ٥٤ قَالَ اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ٥٥ وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٦ وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ ٥٧

 

 

 

 (بيان)

تتضمن الآيات قصة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزة مصر و الأسباب المؤدية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه و ظهور براءته التام.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ إلى آخر الآية. رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ و قوله: ﴿إِنِّي أَرى‏ حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً ﴿إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ إلخ.

و السمان‏ جمع سمينة و العجاف‏ جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضم العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إن ذلك من قبيل الاتباع و الجمع القياسي عجف.

و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع،: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.

و قوله: ﴿تَعْبُرُونَ من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمى تعبيرا، و هو على

 

 

 

 أي حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له.

قال في الكشاف، في قوله: ﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميز و هو بقرات دون المميز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهن لا بجنسهن، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.

فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ. انتهى.

و قال أيضا: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع، و يكون قوله: ﴿وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ بمعنى و سبعا أخر. فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله: ﴿وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ على ﴿سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع و هو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة، و لفظ الأخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام و قعود على أن بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد. انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة.

و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إني أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات أخر يابسات يا أيها الملأ بينوا

 

 

 

 لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ الأحلام‏ جمع حلم بضمتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كان الأصل في معناه ما يتصور للإنسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس، و منه تسمية العقل حلما لأنه استقامة التفكر، و منه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى. ﴿وَ إِذَا بَلَغَ اَلْأَطْفَالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ: النور: ٥٩ أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم‏ بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضد الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنه إنما يكون عن استقامة التفكر. و ذكر الراغب: أن الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلف.

و قال الراغب: الضغث‏ قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى: ﴿وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً و به شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ حزم أخلاط من الأحلام انتهى.

و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤي مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى أخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.

على أن الآية أعني قوله: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرى‏ إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا أخرى.

و قوله: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ إن كان الألف و اللام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين. و إن كان لغير العهد و الجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعبر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم

 

 

 

 العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطري كلامهم يغني عن الآخر.

و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ الأمة الجماعة التي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدة التي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.

و المعنى: و قال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أول رؤياه: أنا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك.

و خطاب الجمع في قوله: ﴿أُنَبِّئُكُمْ و قوله ﴿فَأَرْسِلُونِ تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ كما سيأتي.

قوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ إلى آخر الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازا، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال:

يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أن الناس في انتظار تأويله و هذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.

سمى يوسف صديقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه و منام صاحبه في السجن و أمور أخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد.

و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح أنه رؤيا فقال: ﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ لأن قوله: ﴿أَفْتِنَا

 

 

 

و هو سؤال الحكم الذي يؤدي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدل على ذلك و يكشف عنه.

و قوله: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لعل الأول تعليل لقوله: ﴿أَفْتِنَا و لعل الثاني تعليل لقوله ﴿أَرْجِعُ و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و أخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿أَرْجِعُ في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.

و في قوله أولا: ﴿أَفْتِنَا و ثانيا: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنَّاسِ دلالة على أنه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له و لغيره فقال: ﴿تَزْرَعُونَ إلخ.

و في قوله: ﴿إِلَى اَلنَّاسِ إشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلا أن الملأ كانوا هم أولياء أمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أن الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك و اهتمامهم برؤياه لأن الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنما يهتمون بشئون المملكة و أمور الرعية.

قوله تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ قال الراغب: الدأب‏ إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ و الدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي كعادتهم التي يستمرون عليها. انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه.

ذكروا أن ﴿تَزْرَعُونَ خبر في معنى الإنشاء، و كثيرا ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ

 

 

 

 وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ: الصف: ١١، و الدليل عليه قوله بعد: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ، قيل: و إنما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأن السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.

و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك و احفظوه كذلك إلا قليلا و هو ما تأكلون في هذه السنين.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ.

و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كان هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.

و الإحصان‏ الإحراز و الادخار، و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحرزون و تدخرون.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ يقال:

غاثه‏ الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمها أي ينصره و هو من الغوث‏ بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث‏ و هو المطر، فقوله: ﴿فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.

و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: ﴿وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ و لا يصغي إلى قول من يدعي: أن المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية إلا على قراءة ﴿يَعْصِرُونَ بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.

و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنه لا ينطبق على مورد الآية فإن

 

 

 

 خصب مصر إنما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها أثرا.

رد عليه بأن الفيضان نفسه لا يكون إلا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان.

على أن من الجائز أن يكون ﴿يُغَاثُ مأخوذا من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب،: و الغيث‏ الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله: ﴿وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ.

و قوله: ﴿وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ من العصر و هو إخراج ما في الشي‏ء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسره بعضهم به.

و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم أو يمطرون أو ينصرون و فيه يتخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم. و فيه كناية عن توفر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.

قال البيضاوي في تفسيره،: و هذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بأن السنة الإلهية أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم. انتهى و ذكر غيره نحوا مما ذكره.

و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أن هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز و جل لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

و الذي أرى أنهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنا إذا تدبرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ

 

 

 

 فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة، و لو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقول مثلا: يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامة، قال:

﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلى آخر ما قال.

بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بين أن أمره بذلك توطئة و تقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا دليل على أن الذي رآه الملك من الرؤيا إنما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليته في أمر رعيته و هو أن يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.

فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الآخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.

و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئا إلا أمورا ثلاثة:

أحدها ما استثناه بقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ و ليس جزء من التأويل و إنما هو إباحة و بيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.

و ثانيها: قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ و هو الذي يجب أن يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتخذ بذرا و مددا احتياطيا، و كأنه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا: ﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ حيث لم يقل: أكلتهن بل عبر عن اشتغالهن بأكلهن و لما يفنيهن بأكل كلهن و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد

 

 

 

 لرأى أنهن أكلتهن عن آخرهن.

و ثالثها: قوله: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ و الظاهر أنه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ و إن كان إخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضي السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الادخار، و لا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.

و لعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال: ﴿فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ و لم يقل:

فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصديكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.

و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدم أن هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل. انتهى.

فإن تبدل سني الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة.

و مما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل: ﴿وَ سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ حيث عرفت أن الرؤيا لا تجلي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنما تجلي ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.

و مما تقدم يظهر أيضا أن الأنسب أن يكون المراد بقوله: ﴿يُغَاثُ و قوله:

﴿يَعْصِرُونَ الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأن ذلك هو المناسب لما رآه في

 

 

 

منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإن هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ اَلرَّسُولُ قَالَ اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير على ما يدل عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال و جاء الرسول و هو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.

و ظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، و الذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلمه و يتبصر بما يقوله مزيد تبصر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ و ﴿كَلَّمَهُ إلخ.

و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن و إشخاصا للتكليم و، لو كان إشخاصا و إحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحق، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به.

و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول: ﴿اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلا أن يقضي بينه و بينها، و إنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، و لم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.

و لم يذكرهن بشي‏ء من المكروه إلا ما في قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ و ليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه.

و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول: ﴿اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ثم يقول: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ و فيه نوع من تبليغ الحق، و ليكن فيه

 

 

 

 تنبه لمن يزعم أن مراده من ﴿رَبِّي فيما قال لامرأة العزيز: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ هو زوجها، و أنه يسميه ربا لنفسه.

و ما ألطف قوله: ﴿مَا بَالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ و البال‏ هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، و ليس إلا هواهن فيه و ولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، و الكف عن معاشقتهن و الامتناع من إجابتهن بما يردنه و هن يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرة و المرتين و لا الإلحاح و الإصرار يوما أو يومين و لن تتيسر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.

قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ الآية، قال الراغب: الخطب‏ الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى: ﴿فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ. انتهى.

و قال أيضا: حصحص‏ الحق أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حص و حصحص نحو كف و كفكف و كب و كبكب، و حصة قطع منه إما بالمباشرة و إما بالحكم إلى أن قال و الحصة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب. انتهى.

و قوله: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا كل ذلك يدل عليه السياق و التقدير:

كان سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فنزهنه عن كل سوء، و شهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.

و ذكرهن كلمة التنزيه: ﴿حَاشَ لِلَّهِ نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة: ﴿حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن.

 

 

 

 و الكلام في فصل قوله: ﴿قَالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ نظير الكلام في قوله ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ و قوله: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز و هي الأصل في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحق و هو أنه: أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.

و اتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من:

﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ مع كلمة التنزيه: ﴿حَاشَ لِلَّهِ في قولهن، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و شهادتها بصدقه مؤكدة بأن و اللام و الجملة الاسمية:

﴿وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ و غير ذلك في قولها. و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء و المراودة لها و أي ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، و كأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.

و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: ﴿آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ: البقرة: ٢٨٥ أي قالوا لا نفرق «إلخ»، و قوله: ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ : الصافات: ١٦٦.

و على هذا فالإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في ﴿لِيَعْلَمَ و ﴿لَمْ أَخُنْهُ عائد إلى العزيز و المعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقق الأمر و يقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.

يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين:

أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أي

 

 

 

 شبهة و ريبة.

و الثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته و أنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحق عليه ظهورا، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.

و كان الغرض من الغاية الثانية: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شي‏ء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شي‏ء نفسا كان أو عرضا أو مالا.

و بهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه و هو قوله بعد أن أشخص عند الملك: ﴿اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.

و الآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: ﴿وَ أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى اَلْبَابِ و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي اِشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.

و قد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية و التي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: ﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ و سيأتي الكلام عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ تتمة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أن قوله: ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا و لا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، و تسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ: هود: ٨٨. ـ

 

 

 

فقوله: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إشارة إلى قوله: ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ و أنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، و علل ذلك بقوله ﴿إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، و إنما تكف عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفقها لصالح العمل.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي يفيد فائدتين؟.

إحداهما: تقييد إطلاق قوله: ﴿إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.

و ثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.

و قد علل الحكم بقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى. ﴿فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: الأنعام: ١٤٥ و قد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ ﴿رَبِّي فقد كرره ثلاثا حيث قال: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، و أما قوله: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبر بلفظ الجلالة.

و قد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «إلخ» من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت: ﴿ذَلِكَ أي اعترافي بأني راودته عن نفسه و شهادتي بأنه من الصادقين

 

 

 

﴿لِيَعْلَمَ إذا بلغه عني هذا الكلام ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا و أنه كان صادقا ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخَائِنِينَ كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره ﴿إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.

و هذا وجه ردي‏ء جدا أما أولا: فلأن قوله: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: و ليعلم أني أخنه بالغيب بصيغة الأمر فإن قوله ﴿ذَلِكَ على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله: ﴿لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت و شهدت ليعلم أني اعترفت و شهدت له بالغيب. مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحق و بيان حقيقة الأمر.

و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت و شهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها و شهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.

و أما ثانيا: فلأنه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ.

و أما ثالثا: فلأن قولها: «و ما أبرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن» يناقض قولها: ﴿لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: ﴿إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.

و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير ﴿لِيَعْلَمَ و ﴿لَمْ أَخُنْهُ إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه

 

 

 

 بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، و أن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برئت يوسف من الإثم فما أبرئ منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

و فيه: أن الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيب به نفس زوجها و تزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها. ﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، و أما شهادتها أنه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشك و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.

مضافا إلى أن قوله: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها:

﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ و ظاهر السياق خلافه. على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ يقال: استخلصه‏ أي جعله خالصا، و المكين‏ صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ حذف للإيجاز و التقدير: فلما أتي به إليه و كلمه قال إنك اليوم «إلخ» و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى أنك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كل مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله: ﴿مَكِينٌ أَمِينٌ فأفاد بذلك عموم الحكم.

و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصة لي فلما أتي به إليه و كلمه قال له إنك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد و يأتمنك على جميع شئون الملك و في ذلك حكم صدارته.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ لما عهد الملك ليوسف أنك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.

 

 

 

و لم يسأله ما سأل إلا ليتقلد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غيره حيف.

و قد علل سؤاله ذلك بقوله: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ فإن هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد أجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ التمكين‏ هو الإقدار و التبوء أخذ المكان.

و الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجب و بيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته.

و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرية الاختلاط و العشرة، قال تعالى:

﴿وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ أي رفعنا عنه حرج السجن الذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له أن يتبوأ في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصاه امرأته:

﴿وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحَادِيثِ وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ.

و بهذه المقايسة يظهر أن قوله هاهنا: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ في معنى قوله هناك: ﴿وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ و إن المراد أن الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيته و لا يسع لأي مانع مفروض أن يمنع من إصابته. و لو وسع لسبب أن يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزه الله، إن الحكم إلا لله.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ إشارة إلى أن هذا التمكين أجر أوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أن الله لا يضيع أجرهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.

و الدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية: ﴿وَ كَانُوا يَتَّقُونَ الدالة على أن هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي و هذا التقوى لا يتحقق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اَللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرى‏ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ: يونس: ٦٤.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي،: ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه إني رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و أخر يابسات و قال‏[2] أبو عبد الله (عليه السلام): سبع سنابل ثم قال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك.

فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فجاء إلى يوسف فقال: ﴿أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يَابِسَاتٍ.

قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد

 

 

 

ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون.

و قال أبو عبد الله (عليه السلام). قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ اَلنَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ على البناء للفاعل فقال ويحك أي شي‏ء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على ذلك قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا مِنَ اَلْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً.

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم.

فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: ﴿اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصَّادِقِينَ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثم قالت: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي.

فقال الملك: ﴿اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فلما نظر إلى يوسف قال: ﴿إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ فاسأل حاجتك قال: ﴿اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. أقول: قوله: و

قرأ الصادق (عليه السلام): «سبع سنابل» في رواية العياشي عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنه قرأ: ﴿سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ [3]و قوله (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن أي إن التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، و

 قوله (عليه السلام): إنما نزلت: ﴿وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ م‏أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون

 

 

 

 الغوث و روى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام). و قوله: «أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل» ظاهر في أخذ قوله:

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم.

 و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنه أحب أن يكون له العذر. أقول:

 و قد روي هذا المعنى بطرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليه السلام) ما في تفسير العياشي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك [4]حتى أظهر الله عذره.

 أقول: و هذا النبوي لا يخلو من شي‏ء فإن فيه أحد المحذورين إما الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه و لا هم لامرأة العزيز و نسوة مصر إلا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهن و هو القائل: ﴿رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، و إنما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.

و لذا أنبأ و هو في السجن أولا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامة و ادخارها فتوصل به إلى قول الملك ﴿اِئْتُونِي بِهِ ثم لما أمر بإخراجه أبى إلا أن

 

 

 

 يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله: ﴿اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي و هذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض. مضافا إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الأمور و تحمله الأذى في جنب الحق و علمه الغزير و حكمه القويم.

و إما الطعن في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حاشاه أن يقول: إنه لو كان مكان يوسف طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأن الحق كان معه في صبره، و هو اعتراف بأن من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (ص) أن يأمر الناس بشي‏ء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتى أثنى الله عليه بمثل قوله: ﴿وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلمي عن أنس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال: لما قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همك. قال: ﴿وَ مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي. أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس:

لما قالها يوسف «فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟» و في رواية عن حكيم بن جابر: «فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟» و نحو من ذلك في روايات أخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحاك و ابن زيد و السدي و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.

و قد تقدم في البيان السابق أن هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنص الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصديق (عليه السلام) أن يكذب بقوله: ﴿لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ثم يصلح ما أفسده بغمز من جبريل. قال في الكشاف،: و لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال: ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله. انتهى.

 و في تفسير العياشي، عن سماعة قال: سألته عن قول الله: ﴿اِرْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ الآية يعني العزيز.

 

 

 

 أقول:

 و في تفسير البرهان، عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في ملك يوسف.

و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حلي و لا جواهر إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابة و لا ماشية إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتى لم يبق.

بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حر إلا صار عبدا ليوسف.

فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكن الله أنجاهم بيدي قال الملك:

الرأي رأيك.

قال يوسف: إني أشهد الله و أشهدك أيها الملك - إني قد أعتقت أهل مصر كلهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي.

قال له الملك: إن ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما توليت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين. أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات

 

 

 

و لذلك تركنا نقلها.

 و في تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أ ما سمعت قول يوسف: ﴿اِجْعَلْنِي عَلى‏ خَزَائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ و قول العبد الصالح: إني لكم ناصح أمين.

 أقول: الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ: الأعراف: ٦٨.

 و في العيون، بإسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال:

روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أيما أفضل النبي أو الوصي: فقال: لا بل النبي. قال: فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال:

لا بل مسلم.

قال: فإن عزيز[5] مصر كان مشركا و كان يوسف نبيا، و إن المأمون مسلم و أنا وصي و يوسف سأل العزيز أن يوليه حتى قال: استعملني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله: ﴿حَفِيظٌ عَلِيمٌ قال:

حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان:

أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العياشي في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (عليه السلام).

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٥٨ الی ٦٢]

﴿وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٥٨ وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ

 

 

 

﴿أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ ٥٩ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ ٦٠ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ ٦١ وَ قَالَ لِفِتْيَانِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٦٢

بيان

فصل آخر مختار من قصة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجي‏ء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدمة لضم يوسف (عليه السلام) أخاه من أمه و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة ﴿لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إليه ثم تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.

و إنما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه أراد أن يلحق أخاه من أمه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و من الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثم يشخصهم جميعا، و الآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبلهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ في الكلام حذف كثير و إنما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به، و إنما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من أمه به و إشراكه معه في النعمة و المن الإلهي ثم معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته و ما جرى عليه بعد عزة مصر.

و الذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من أمه فإن يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كله ما سيأتي من الآيات.

 

 

 

و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنهم إنما جاءوا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم أخرج من الجب و هو صبي و قد مر عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زي عزيز مصر لا يظن به أنه رجل عبري من غير القبط، و هذا كله صرفهم عن أن يظنوا به أنه أخوهم و يعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: ﴿وَ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ قال الراغب في المفردات،: الجهاز ما يعد من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه. انتهى. فالمعنى و لما حملهم ما أعد لهم من الجهاز و الطعام الذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ﴿اِئْتُونِي «إلخ».

و قوله: ﴿أَ لاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتكاء على قدرتي و عزتي ﴿ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ أكرم النازلين بي و أحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانيا و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أن قوله في الآية التالية: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ تهديد لهم لئلا يعصوا أمره، و كما أن قولهم في الآية الآتية: ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).

ثم من المعلوم أن قوله (عليه السلام) أوان خروجهم: ﴿اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره.

و هو ظاهر. و قد أورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم و تكليمه إياهم أمورا كثيرة لا دليل على شي‏ء منها من كلامه تعالى في سياق القصة و لا أثر يطمأن إليه في أمثال المقام.

و كلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، و إنما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم

 

 

 

 فأخبروه و هم عشرة أنهم إخوة و أن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاَ تَقْرَبُونِ الكيل‏ بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام. و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ المراودة كما تقدم هي الرجوع في أمر مرة بعد مرة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام) ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ دليل على أنهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، و في قولهم: ﴿أَبَاهُ و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.

و قولهم: ﴿وَ إِنَّا لَفَاعِلُونَ أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحملة معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ لِفِتْيَانِهِ اِجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الفتيان‏ جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى: ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا و قال تعالى: ﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ و الأصل في هذه الكلمة البضع بفتح الباء و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال و فلان بضعة مني أي جار مجرى بعض جسدي لقربه مني قال و البضع‏ بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة. انتهى، و الرحال‏ جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب‏ الرجوع.

و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم التي قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم و فتحوا الأوعية لعلهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإن ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتع من الإكرام و الإحسان.

 

 

 

[سورة يوسف ١٢): الآیات ٦٣ الی ٨٢]

﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‏ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٦٣ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٦٤ وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نَحْفَظُ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ٦٥ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ٦٦ وَ قَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ ٦٧ وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٦٨ وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٦٩ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ

 

 

 

﴿اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ٧٠ قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ ٧١ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ٧٢ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ ٧٣ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ٧٤ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٧٥ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ٧٦ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ٧٧ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٧٨ قَالَ مَعَاذَ اَللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ ٧٩ فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ

 

 

 

﴿اَلْحَاكِمِينَ ٨٠ اِرْجِعُوا إِلى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَ مَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَ مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ٨١ وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ٨٢

(بيان)

الآيات تقتص رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من أمه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‏ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ الاكتيال‏ أخذ الطعام كيلا إن كان مما يكال، قال الراغب:

الكيل‏ كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا توليت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتَالُوا عَلَى اَلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذَا كَالُوهُمْ.

و قوله: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.

و قولهم: ﴿أَخَانَا إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم:

﴿وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ بما فيه من التأكيد البالغ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ قال في المجمع،: الأمن‏ اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه

 

 

 

 يأمنه أمنا انتهى فقوله: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلخ، أي هل اطمأن إليكم في ابني هذا إلا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.

و محصله أنكم تتوقعون مني أن أثق فيه بكم و تطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم: ﴿وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم: ﴿وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ و قد أمنتكم بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عني شيئا و جئتم بقميصه الملطخ بالدم أن الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئا و لا بيده حفظ ما سلم إليه و اؤتمن له.

و قوله: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ تفريع على سابق كلامه: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لغا لا أثر له و لا يغني شيئا فخير الاطمئنان و الاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردد الأمر بين التوكل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين.

و قوله: ﴿وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ في موضع التعليل لقوله: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً أي إن غيره تعالى ربما أمن في أمر و اؤتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن و ضيع الأمانة لكنه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة و يترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه أمرا و توكل عليه، و من يتوكل على الله فهو حسبه.

و من هنا يظهر أن مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ: الطلاق: ٣ كيف و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء، و قد نص تعالى على أن يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنه من الأئمة الهداة المهديين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله: ﴿إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أنه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة. على أنه أمنهم على أخي يوسف أيضا بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.

بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنه تعالى

 

 

 

متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم فإنه رءوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنه أرحم الراحمين على أنه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيته، و أما الناس إذا أمنوا على أمر و اطمأن إليهم في شي‏ء فإنهم أسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانية ربما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربما خانوا و لم يحفظوا. على أنهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوة و إرادة.

و بالجملة مراده (عليه السلام) أن الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمأن فيه إليه بخلاف الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه، و لذلك لما كلف بنيه ثانيا أن يؤتوه موثقا من الله قال: إن ﴿تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا أحيط بهم فإنه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسئولين عنه، و إنما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.

و مما تقدم يظهر أن في قوله (عليه السلام): ﴿وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنهم لم يستوفوا الرحم أو لم يرحموه أصلا في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ إلى آخر الآية.

البغي‏ هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشر و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع،: الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا. انتهى.

و قوله: ﴿يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي استفهام أي لما فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنه غير قاصد بهم سوءا و قد سلم إليهم الطعام و رد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و درا راجعوا أباهم و قالوا:

يا أبانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أوفى لنا الكيل و رد إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.

 

 

 

فقولهم: ﴿يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه و لذلك عقبوه بقولهم: ﴿وَ نَمِيرُ أَهْلَنَا وَ نَحْفَظُ أَخَانَا وَ نَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي سهل.

و ربما قيل: إن «ما» في قوله: ﴿مَا نَبْغِي للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا، و كذا قيل: إن اليسير بمعنى القليل أي إن الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ الموثق‏ بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهي و إعطاؤه هو أن يسلط الإنسان على أمر إلهي يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.

و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكل شي‏ء أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج و لا شي‏ء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: أحيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى: ﴿وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ مَا أَنْفَقَ فِيهَا: الكهف: ٤٢، و قال: ﴿وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ : يونس: ٢٢ و منه قوله في الآية: ﴿إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إلي.

و الوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكل عليه في الأمور ليس بعناية أنه خالق كل شي‏ء و مالكه و مدبره بل

 

 

 

 بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملكها إياها بنحو من التمليك و هي فاقدة للإصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمرا و توصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه.

فليس التوكل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه و إلى الأسباب.

و لذلك نرى أن يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولا بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله و كذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى.

فالله سبحانه على كل شي‏ء وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوة، و أنه رب كل شي‏ء من جهة أنه المالك المدبر لها.

و معنى الآية: ﴿قَالَ يعقوب لبنيه: ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ أي أخاكم من أم يوسف ﴿مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ و تعطوني ﴿مَوْثِقاً مِنَ اَللَّهِ أثق به و أعتمد عليه من عهد أو يمين ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ و اللام للقسم و لما كان إيتاؤهم موثقا من الله إنما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال ﴿إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ و تسلبوا الاستطاعة و القدرة ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ من الله ﴿قَالَ يعقوب ﴿اَللَّهُ عَلى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ أي إنا قاولنا جميعا فقلت و قلتم و توسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشي‏ء فليأت به كما التزم و إن تخلف فليجازه الله و ينتصف منه.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهزوا

 

 

 

 و استعدوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا و هم أحد عشر إخوة لأب واحد بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.

و قوله بعده: ﴿وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (عليه السلام) و الله أعلم أحس حينما تجهزوا للسفر و اصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.

ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا و لا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم: ﴿وَ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثم علله بقوله ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة و تتوسلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئا و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا إلا لله بل هذه أسباب ظاهرية إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر.

و لذلك عقب كلامه هذا بقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب التي أخذتها في أموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره و لا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجئ في أموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شي‏ء الغالب الذي لا يغلبه شي‏ء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

 

 

 

 و قد تبين بالآية أولا معنى التوكل و أنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل و الموكل.

و ثانيا: أن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها و لا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي و الجهل.

و ثالثا: أن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شي‏ء و هذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله: «و على الله فليتوكل المتوكلون».

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا إلى آخر الآية. الذي يعطيه سياق الآيات السابقة و اللاحقة و التدبر فيها و الله أعلم أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، و إنما اتخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم و تنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدى ذلك إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شي‏ء.

لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره و أدى إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإن يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذللون لعزته فعرفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتصلوا به.

 

 

 

فقوله: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئا البتة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.

و قوله: ﴿إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا قيل: إن ﴿إِلاَّ بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده و هو يوسف.

و لا يبعد أن يكون ﴿إِلاَّ استثنائية فإن قوله: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا و لم يقض الله لهم جميعا به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب، و قوله: ﴿قَضَاهَا استئناف و جواب سؤال كان سائلا يسأل فيقول: ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله: ﴿قَضَاهَا.

و قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي و قد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإلهية، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى بعده: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ إذ لو كان من العلم الاكتسابي الذي يحكم بالأسباب الظاهرية و يتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.

و الجملة: ﴿وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبي لا يضل في هدايته و لا يخطئ في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ إلخ، تصديقا ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.

هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات و للمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ إلى قوله ﴿قَضَاهَا إنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين

 

 

 

 و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأن الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.

و قول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لإصابتهم و هم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.

و قول بعضهم: إن معنى قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ إلخ إنه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إياه و لكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.

و قول بعضهم: إن اللام في ﴿لِمَا عَلَّمْنَاهُ للتقوية و المعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم. إلى غير ذلك من أقاويلهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ آوى‏ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الإيواء إليه ضمه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس‏ اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.

و معنى الآية: ﴿وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى‏ يُوسُفَ بعد دخولهم مصر ﴿آوى‏ و قرب ﴿إِلَيْهِ أَخَاهُ الذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و أمه ﴿قَالَ له ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ أي يوسف الذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ و لا تغتم ﴿بِمَا كَانُوا أي الإخوة ﴿يَعْمَلُونَ من أنواع الأذى و المظالم التي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد لحبسك عندي.

و ظاهر السياق أنه عرفه نفسه بإسرار القول إليه و سلاه على ما عمله الإخوة و طيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم إن معنى قوله: إني أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك و قد كان أخبره أنه كان له أخ من أمه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من أمه و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنه أراد أن يطيب نفسه.

و ذلك أنه ينافيه ما في قوله: ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ من وجوه التأكيد و ذلك إنما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنه هو يوسف. على أنه ينافي أيضا ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه: ﴿أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا فإنه إنما يناسب ما إذا علم

 

 

 

 أخوه أنه أخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ السقاية الظرف الذي يشرب فيه، و الرحل‏ ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كل واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.

و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصة و فصله الله تعالى و جعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه و هما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.

و قوله: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لأمه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شي‏ء كثير، و هذا الأمر الذي سمي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم و هو أخو يوسف لأمه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فإن معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أن السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممن لا يتعين إلا بعد الفحص و التفتيش.

و من المعلوم من السياق أن أخا يوسف لأمه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه و لذلك لم يتكلم من أول الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرفه يوسف أنه أخاه و سلاه و طيب نفسه فليس إلا أن يوسف (عليه السلام) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنه إنما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنما كان اتهاما في نظر الإخوة و أما بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدية و تهمة حقيقة بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة.

فنسبه السرقة إليهم بالنظر إلى هذه الجهات لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا، على أن القائل هو المؤذن الذي أذن بذلك.

و ذكر بعض المفسرين: أن القائل: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ. بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.

 

 

 

 و قال بعضهم: إن يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنما عنى به أنكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجب، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسر.

و قال بعضهم: إن الجملة استفهامية، و التقدير: أ إنكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ الفقد كما قيل غيبة الشي‏ء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله: ﴿قَالُوا للإخوة و هم العير، و قوله:

﴿مَا ذَا تَفْقِدُونَ مقول القول و الضمير في قوله: ﴿عَلَيْهِمْ ليوسف و فتيانه كما يدل عليه السياق.

و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أن المنادي إنما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ الصواع بالضم السقاية و قيل: إن الصواع هو الصاع الذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمي تارة سقاية و أخرى صواعا، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال: ﴿وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ و قال: ﴿ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا.

و الحمل‏ ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أن الأثقال المحمولة في الظاهر كالشي‏ء المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء.

و قال في المجمع،: الزعيم و الكفيل و الضمين‏ نظائر و الزعيم أيضا القائم بأمر القوم و هو الرئيس.

و لعل القائل: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ هو فتيان يوسف و القائل: ﴿وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ يوسف (عليه السلام) نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أما فتيانه فقالوا: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ اَلْمَلِكِ، و أما يوسف فقال: ﴿وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ

 

 

 

 حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ، و هذه جعالة.

و ظاهر بعض المفسرين: أن قوله: ﴿وَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ تتمة قول المؤذن: ﴿أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ و على هذا فقوله: ﴿قَالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ إلى قوله ﴿صُوَاعَ اَلْمَلِكِ معترض.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ المراد بالأرض أرض مصر و هي التي جاءوها و معنى الآية ظاهر.

و في قولهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ دلالة على أنهم فتشوا و حقق في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة أخرى فسألوا عن شأنهم و محلهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيد ما ورد في بعض الروايات أن يوسف أظهر لهم أنه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أن لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و قولهم: ﴿وَ مَا كُنَّا سَارِقِينَ نفي أن يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.

و الكلام في قولهم‏﴿إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ و قد تقدم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ مرادهم أن جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أن من سرق مالا يصير عبدا لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنة يعقوب (عليه السلام) كما يدل عليه قولهم: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ أي هؤلاء الظالمين و هم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ للدلالة على أن السرقة إنما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة إلا السارق بعينه

 

 

 

من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثم للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.

قوله تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ فيه تفريع على ما تقدم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذرا من أن يتنبهوا و يتفطنوا أنه هو الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ إلى آخر الآية. الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لأمه من عصبة إخوته، و قد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى أخذ أخيه. و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ.

و ليس كل كيد بمنفي عنه تعالى و إنما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.

و قوله: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في أرض مصر طريق يؤدي إلى أخذه، و لا أن السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف بأمر من الله بجعل السقاية في رحله ثم إعلام أنهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أن جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.

و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.

 

 

 

[1]  أي الأمر الثالث و الرابع.

[2]  و قرأ خ ل‏

[3]  على ما أخرجه في البرهان و أما في نسخة العياشي المطبوعة «سبع سنابل» أيضا.

[4]  هي امرأة العزيز دون الملك و لعل إطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث «منه».

[5]  المراد به ملك مصر و لعل إطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22214960

  • التاريخ : 3/02/2025 - 19:43

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net