00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 308 الى ص 392 (الأخير)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الحادي عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ: يس: ٧٩.

و منها: أن الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتى تتلبس بالخلق الجديد و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلا في تصور المتصور دون الخارج بنحو.

و قد أجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أن الإنسان ليس هو البدن المركب من عدة أعضاء مادية حتى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله بل حقيقته روح علوية و إن شئت قلت: نفس متعلق بهذا المركب المادي تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصية و إن تغير بدنه و تبدل بمرور السنين و مضي العمر ثم الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثم البعث هو أن يجدد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء.

قال تعالى: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ: الم السجدة: ١١ يقول إنكم بالموت لا تضلون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكل بالموت يأخذ الأمر الذي تدل عليه لفظة «كم» و «نا» و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضل ثم إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم.

فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار أخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتع في حياته الثانية إلا بما يكتسبه في حياته الأولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يعده في يومه لغده من مواد السعادة فإن اتبع الحق و آمن بآيات الله سعد في أخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكب على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غل بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار.

و إذا عرفت هذا الذي قدمناه و تأملته تأملا كافيا بان لك أن قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إلى آخر الآية ليس بمجرد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين: ﴿أَ إِذَا كُنَّا تُرَاباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ على ما يتخيل في بادئ النظر بل جواب بلازم القول.

و توضيح ذلك أن لازم قولهم: إن الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانية

 

 

 

 و انعدمت الشخصية أن يكون الإنسان صورة مادية قائمة بهذا الهيكل البدني المادي العائش بحياة مادية من غير أن تكون له حياة أخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الرب تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده و بعبارة أخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادية غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبي إذ لا معنى لرب لا معاد إليه.

و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همه في المقاصد الدنيوية و الغايات المادية من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره.

و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي التي أشار تعالى إليه بقوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلخ.

فقوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إشارة إلى اللازم الأول و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبي و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به.

و قوله: ﴿وَ أُولَئِكَ اَلْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مر في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً الآية: البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنية حقائق أو مجازات فراجع إليه.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء.

قوله تعالى: ﴿وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ إلى آخر الآية. قال في المجمع،: الاستعجال‏ طلب التعجيل بالأمر و التعجيل‏ تقديم الأمر قبل وقته، و السيئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسر النفس، و المثلات‏ العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم و ضم الثاء، و من قال في الواحد: مثلة بضم الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمتين نحو غرفة و غرفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات أي بسكون الثاء و فتحها انتهى.

 

 

 

 و قال الراغب في المفردات،: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات أي بضم الميم أو فتحها و ضم الثاء و قد قرئ:

من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد. انتهى.

و قوله: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله: ﴿وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاَتُ و الجملة في موضع الحال فإن المراد به العقوبات النازلة على الأمم الماضين القاطعة لدابرهم.

و المعنى: يسألك الذين كفروا أن تنزل عليهم العقوبة الإلهية قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الأمم الماضين الذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمرا عجيبا أي إن ربك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إن ذلك لعجيب.

و يظهر من هذا المعنى الذي يعطيه السياق:

أولا: أن التعبير عنه تعالى بقوله: ﴿رَبَّكَ إنما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيين لا يأخذونه تعالى ربا بل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي يأخذه ربا من بين قومه.

و ثانيا: أن المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعم من المغفرة و العقوبة الدنيويتين فإن المشركين إنما كانوا يستعجلون بالسيئة و العقوبة الدنيويتين، و المثلات التي يذكر الله تعالى أنها خلت من قبلهم إنما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم.

على أن العفو و المغفرة لا يختصان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أن آثارهما تختص بذلك، و قد تقدم ذلك مرارا فله تعالى أن يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ

 

 

 

 عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ: المائدة: ١١٨.

و لهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله: ﴿لِلنَّاسِ و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أن المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ : النساء: ٤٨.

فكان على هؤلاء الذين كفروا أن يسألوه تعالى و يستعجلوا به أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فإن المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ: الجمعة: ٥.

و ثالثا: أن قوله: ﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنه للتحرز من أن يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شي‏ء.

و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الآية غير أنه غير ظاهر من السياق.

و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشي‏ء إلا بما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية: النساء: ٤٨.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏

 

 

 

 ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقَابِ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لا تكل كل أحد.

[سورة الرعد ١٣): الآیات ٧ الی ١٦]

﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ٧ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ٨ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ ٩ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ ١٠ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ١١ هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ ١٢ وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ هُمْ يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ ١٣ لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ١٤ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً

 

 

 

﴿وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ ١٥ قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ ١٦

(بيان)

تتعرض الآيات لقولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ و ترده عليهم أن الرسول ليس له إلا أنه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق و الباطل المهلكة للأمة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله: ﴿وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ بأن يكون تكرارا لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو أريد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و يقولون لو لا «إلخ».

بل المراد أنهم يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبئون به و يسألون آية أخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليه السلام) فكان في قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ تعريض منهم للقرآن.

و أما قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ فإعطاء جواب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم أنهم لا يستحقون

 

 

 

 جوابا لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أن اقتراحهم الآية مبني على زعمهم كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على أن من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما أريد منه.

و الحال أن الرسول ليس إلا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه أنه يهدي كل شي‏ء إلى كماله المطلوب و يدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم.

فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ليس عليه إلا تبليغ رسالة ربه و أما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.

فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية و عندهم القرآن أفضل آية و ليس إليك شي‏ء من ذلك و إنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم.

و الآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق إما نبي منذر و إما هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ قال في المفردات،: غاض الشي‏ء و غاضه غيره‏ نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى: ﴿وَ غِيضَ اَلْمَاءُ ﴿وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى.

و على هذا فالأنسب أن تكون الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله: ﴿مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ و ﴿مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ و ﴿مَا تَزْدَادُ إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيام الحمل فما تحمله كل أنثى هو الجنين الذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم

 

 

 

 الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و ما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة التي تراها أيام الحمل أحيانا و هو الذي يظهر من بعض ما روي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) و ربما ينسب إلى ابن عباس.

و أكثر المفسرين على أن المراد بما تغيض الأرحام الوقت الذي تنقصه الأرحام من مدة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.

و فيه خلوة عن شاهد يشهد عليه فإن الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التي لا غنى لها عن القرينة.

و يروى عن بعضهم أن المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقل مدة الحمل و هي ستة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدة الحمل، و عن بعض آخر أن الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه.

و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أن الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.

و قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ المقدار هو الحد الذي يحد به الشي‏ء و يتعين و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشي‏ء الموجود عن تعين في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجدا البتة.

و هذا المعنى أعني كون كل شي‏ء مصاحبا لمقدار و قرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً: الطلاق: ٣، و قوله:

﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١ و غير ذلك من الآيات.

فإذا كان الشي‏ء محدودا بحد لا يتعداه و هو مضروب عليه ذلك الحد عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شي‏ء كما قال: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ: الحج: ١٧ و قال: ﴿أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ: حم السجدة: ٥٤، و قال:

﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ: السبأ: ٣ فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد.

فذيل الآية أعني قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ تعليل لصدرها أعني قوله:

 

 

 

﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏َ إلخ و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أن الله يعلم بكل شي‏ء و يقدر على كل شي‏ء و يجيب الدعوة و يخضع له كل شي‏ء فهو أحق بالربوبية فإليه أمر الآيات لا إليك و إنما أنت منذر.

قوله تعالى: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ الغيب و الشهادة كما سمعت مرارا معنيان إضافيان فالشي‏ء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أن الأشياء - كما تقدم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفك عنها فما كان من الأشياء داخلا في حد الشي‏ء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجا عن حد الشي‏ء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.

و من هنا يظهر أن الغيب لا يعلم به إلا الله سبحانه أما أنه لا يصير معلوما لشي‏ء فلأن العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشي‏ء بما هو خارج عن حد وجوده أجنبي عن إحاطته، و أما أنه تعالى يعلم الغيب فلأنه تعالى غير محدود الوجود بحد و هو بكل شي‏ء محيط فلا يمتنع شي‏ء عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنه غيب بالنسبة إلى غيره.

فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ أن الذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الذي لا يخرج عن حد وجودهم و الذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكل شي‏ء.

و قوله ﴿اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإن الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن كذلك كان صغيرا ثم توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنه تعالى يملك كل كمال لشي‏ء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال و زيادة.

 

 

 

 و المتعال‏ صفة من التعالي و هو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله: ﴿تَعَالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً: أسرى: ٤٣ فإن قوله: ﴿عُلُوًّا كَبِيراً مفعول مطلق لقوله: ﴿تَعَالى‏َ و موضوع في محل قولنا: «تعاليا» فهو سبحانه علي و متعال أما أنه علي فلأنه علا كل شي‏ء و تسلط عليه و العلو هو التسلط، و أما أنه متعال فلأن له غاية العلو لأن علوه كبير بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة.

و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ بقوله: ﴿اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعَالِ لأن مفاد مجموع الاسمين أنه سبحانه محيط بكل شي‏ء متسلط عليه و لا يتسلط عليه و لا يغلبه شي‏ء من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلط عليه و لا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنه كبير متعال.

قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ السرب‏ بفتحتين و السروب الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مر مرا و مرورا. كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.

و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسر القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسر بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمد بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.

قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إلخ ظاهر السياق أن الضمائر الأربع ﴿لَهُ ﴿يَدَيْهِ ﴿خَلْفِهِ ﴿يَحْفَظُونَهُ مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله: ﴿مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ إلخ، فهذا الإنسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه و من خلفه.

 

 

 

و تعقيب الشي‏ء إنما يكون بالمجي‏ء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله:

﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق، ثم طاف عليه المعقبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ: الانشقاق: ٦ و في معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله: ﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: يس: ٨٣ ﴿وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ: العنكبوت: ٢١ فللإنسان و هو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه و من خلفه.

ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني و البدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها و مآربها.

و على هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعم الأمور الجسمانية و الروحية جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه و الحالات الروحية التي يعتورها و يتقلب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادخر لها من الثواب و العقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه و لهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان.

و الإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا لا يقدر على حفظ شي‏ء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: ﴿اَللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ: الشورى: ٦ و قال: ﴿وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ: السبأ: ٢١ و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ : الانفطار: ١٠.

فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة و معقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره و لا

 

 

 

 يتصرف فيه إلا هو سبحانه فهو الذي يهدي إليه التعليم القرآني، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

و الملائكة أيضا إنما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل: ٢، و قال: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ: الأنبياء: ٢٧.

و من هنا يظهر أن هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإن جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أن جانب البقاء و الاستقامة و الصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني إلا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه إلا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحية أو عمل أو أثر عمل إلا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلا بأمر من الله فالأمر كله لله و إليه يرجع الأمر كله.

و على هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله في الآية المبحوث عنها: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ.

و بما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ و أنه في موضع التعليل لقوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ و المعنى أنه تعالى إنما جعل هذه المعقبات و وكلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغير في شي‏ء مما هو عليه لأن سنته جرت أن لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.

و الآية أعني قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ إلخ، يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسية الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحا أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال. ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا: الأعراف: ٩٦ و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيروا حالهم في أنفسهم غير الله سبحانه حالهم الخارجية بتغيير النعم نقما.

 

 

 

 و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أن بين حالات الإنسان النفسية و بين الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا و يفسقوا فيغير الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغير الله نقمه نعما و هكذا. هذا.

و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصة ما تعقبه من قوله ﴿وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فإنه أصدق شاهد على أنه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الأصل أعني ﴿مَا بِقَوْمٍ لا يراد به إلا الحسنة فافهم ذلك.

على أن الله سبحانه يقول: ﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: الشورى: ٣٠ فيذكر أنه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ: الأنفال: ٥٣.

و أما قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فإنما دخل في الحديث لا بالقصد الأولي لكنه تعالى لما ذكر أن كل شي‏ء عنده بمقدار و إن لكل إنسان معقبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده و النعم التي أوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أن هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضا من الأمور المحكمة المحتومة التي ليس لمانع أن يمنع من تحققها، و إنما أمره إلى الله لا حظ فيه لغيره، و بذلك يتم أن الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشر و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.

فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات معبودية و مقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.

ثم قوله: ﴿وَ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ عطف تفسيري على قوله: ﴿إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ و يفيد معنى التعليل له فإنه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم

 

 

 

 إلا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يرد ما أراد الله بهم من السوء.

فقد بان من جميع ما تقدم أن معنى الآية على ما يعطيه السياق و الله أعلم أن لكل من الناس على أي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الذي يغير الحال إنما يؤثر أثره إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له لأنهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء.

و قد تبين بذلك أمور:

أحدها: أن الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ فإن الجملة تفيد أن للأشياء حدودا ثابتة لا تتعداها و لا تتخلف عنها عند الله حتى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصل القول في الإنسان أن له معقبات من بين يديه و من خلفه موكلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير عما هو عليه، و لا يهلك و لا يتغير إلا بأمر آخر من الله.

الثاني: أنه ما من شي‏ء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلا و عليه ملك موكل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنية.

الثالث: أن هناك أمرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجي‏ء الأجل المسمى الذي لا يختلف و لا يتخلف، قال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى: الأحقاف: ٣ و قال: ﴿إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ: نوح: ٤.

الرابع: أن أمره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الأشياء و حواشيها على أي حال و أن كل شي‏ء حين ثباته و حين تغيره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أن الأمر الإلهي و إن كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى أمر حافظ و أمر مغير ذو

 

 

 

 نظام واحد لا يتغير و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: هود ٥٦، و قال:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: يس: ٨٣.

الخامس: أن من القضاء المحتوم و السنة الجارية الإلهية التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كل قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهرية و الباطنية و نزولها من عند الله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: الأعراف: ٩٦ و قوله: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ: إبراهيم: ٧ و قال: ﴿هَلْ جَزَاءُ اَلْإِحْسَانِ إِلاَّ اَلْإِحْسَانُ: الرحمن: ٦٠.

هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله: ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليته، و لذلك غير السياق فقال: ﴿وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له.

و يؤيد هذا المعنى قوله: ﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: الشورى: ٣٠ حيث يدل صريحا على أن بعض التغيير عند التغيير معفو عنه.

و أما الفرد من النوع فالكلام الإلهي يدل على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنوية و على التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانية.

و الحكمة في ذلك كله ظاهرة فإن التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإن الله جعل للأنواع غايات و جهزها بما يسوقها إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئا واحدا لا معاندة و لا مضادة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كل نوع في عافية و نعمة و كرامة حتى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنساني عن مقتضى فطرته الأصلية و لا منحرف من الأنواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشدا، و أما إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البر و البحر بما كسبت

 

 

 

أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون.

و هذا المعنى كما لا يخفى إنما يتم في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأن الأشخاص ربما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإن بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ: الدخان: ٣٨ و قد تقدم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و بما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنها تفيد بظاهرها أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم جواز أخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فإنه أجنبي عن مفاد الآية بالكلية.

هذا بعض ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتى:

من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ فمن قائل: إن الضمير راجع إلى ﴿مِنْ في قوله: ﴿مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ إلخ، كما قدمناه، و من قائل:

إنه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه.

و فيه أنه يستلزم اختلاف الضمائر. على أنه يوجب وقوع الالتفات في قوله: ﴿مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إن الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية تذكر أن الملائكة يحفظونه. و فيه أنه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه. على أنه يوجب عدم اتصال الآية بسوابقها و لم يتقدم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكر.

و من قائل: إن الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار. و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.

و من ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل: إن أصله المعتقبات صار معقبات بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و رد بأنه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر قدمه فقيل: إن المعقبات ملائكة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه

 

 

 

 و يحفظونه كما تقدم، و قيل: المعقبات كتاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقب بعضهم بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار و هم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله. و فيه: أنه خلاف ظاهر قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ على أن فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.

و قيل: المراد بالمعقبات الأحراس و الشرط و المواكب الذين يعقبون الملوك و الأمراء و المعنى: أن لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الأمراء معقبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.

و من ذلك اختلافهم في قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ فقيل: إنه متعلق بمعقبات أي يعقبونه من بين يديه و من خلفه. و فيه أن التعقيب لا يتحقق إلا من خلف، و قيل:

متعلق بقوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله. و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدم.

و من جهة أخرى قيل: إن المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدم من أعماله و ما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشئون الجسمية و الروحية مما له في حاضر حاله و ما خلفه وراءه و هو الذي قدمناه.

و من ذلك اختلافهم في معنى قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ فقيل هو بمعنى يحفظون عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضار.

و من ذلك اختلافهم في قوله: ﴿مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ فقيل: هو متعلق بقوله: ﴿مُعَقِّبَاتٌ و إن قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ و قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ و قوله: ﴿مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ ثلاث صفات لمعقبات. و فيه أنه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلق بقوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ و ﴿مِنْ بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلق بيحفظونه و ﴿مِنْ للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدأ ذلك أو ناشئا ذلك

 

 

 

 من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن ﴿مِنْ بمعنى «عن» أي يحفظونه عن أمر الله أن يحل به و يغشاه و فسروا الحفظ من أمر الله بأن الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعله يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غني عن البيان.

و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ إلخ فقيل: متصل بقوله: ﴿سَارِبٌ بِالنَّهَارِ و قد تقدم معناه، و قيل: متصل بقوله: ﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ أو قوله: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم. و قيل متصل بقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ الآية يعني أنه (ص) محفوظ بالملائكة. و الحق أنه متصل بقوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ و نوع بيان له، و قد تقدم ذكره.

و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ إلخ فقيل: إنه متصل بقوله: ﴿وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الآية أي أنه لا ينزل العذاب إلا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتى لو علم أن فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متصل بقوله: ﴿سَارِبٌ بِالنَّهَارِ يعني أنه إذا اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية و بطل حفظه و نزل عليه العذاب. و القولان كما ترى بعيدان من السياق و الحق أن قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ إلخ، تعليل لما تقدمه من قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ و قد مر بيانه.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحَابَ اَلثِّقَالَ السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.

و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله: ﴿يُرِيكُمُ و قوله: ﴿يُنْشِئُ يؤيد المعنى الأول.

و قوله: ﴿خَوْفاً وَ طَمَعاً مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير ﴿يُرِيكُمُ أي خائفين و طامعين.

 

 

 

 و المعنى: هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أن المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البر يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ إلخ، الصواعق‏ جمع صاعقة و هو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل‏ المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال‏ بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبين أيهما أشد و جادله لإظهار مساويه و معايبه فقوله:

﴿وَ هُمْ يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ معناه و الله أعلم أن الوثنيين و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم كالتمسك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم و معايبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.

قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي و يتأتى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعو على الداعي عن دعائه، و أما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.

نعم: الدعاء إنما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن أن يوجه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أما دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء و إن كان في صورته.

و لما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله ﴿لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ و بين قوله:

﴿وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلخ، الذي يذكر أن دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك أن المراد بقوله: ﴿دَعْوَةُ اَلْحَقِّ الدعوة الحقة غير الباطلة و هي الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة، و هذا من صفاته تعالى و تقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغني ذو الرحمة و قد قال: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ

 

 

 

 اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ: البقرة: ١٨٦ و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ: المؤمن: ٦٠ فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلا أن تتحقق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.

فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقة بعناية أن الحق و الباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق و هو الذي لا يتخلف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.

فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة أنه عليم بكل شي‏ء و أن له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أن له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حق الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.

أما الأول فقوله: ﴿لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيده ما بعده من نفيه عن غيره، و أما الثاني فقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ و قد أخبر فيه أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشي‏ء و قد بين ذلك في مواضع من كلامه فإن هؤلاء المدعوين إما أصنام يدعوهم عامتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إما أرباب الأصنام من الملائكة أو الجن و روحانيات الكواكب و البشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكيف بغيرهم و لله الملك كله و له القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى.

ثم استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله: ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَ مَا هُوَ بِبَالِغِهِ.

فإن الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشي‏ء غير أنه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه و ليس له من طلبه إلا صورته فقط.

و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له

 

 

 

من الدعاء إلا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشي‏ء و لا يقضون حاجتهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلا صورة الطلب ببسط الكفين.

و من هنا يعلم أن هذا الاستثناء ﴿إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده أن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم إلا أن لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة.

و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي: ﴿قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا و آكد منه كما سيجي‏ء إن شاء الله.

و قد تبين بما تقدم:

أولا: أن قوله: ﴿دَعْوَةُ اَلْحَقِّ المراد به حق الدعاء و هو الذي يستجاب و لا يرد البتة، و أما قول بعضهم: إن المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.

و ثانيا: أن تقدير قوله ﴿وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ إلخ بإظهار الضمائر: الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشي‏ء.

و ثالثا: أن الاستثناء من قوله: ﴿لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشي‏ء و لا ينيلونهم شيئا إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعل الاستجابة مضمن معنى النيل و نحوه.

ثم أكد سبحانه الكلام بقوله: ﴿وَ مَا دُعَاءُ اَلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى و هي أنه لا غرض لدعاء إلا الله سبحانه فإنه العليم القدير و الغني ذو الرحمة فلا طريق له إلا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فإن الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: ﴿وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً: يوسف: ١٠٠، و قال: ﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً: أسرى: ١٠٧. و الواحدة منه سجدة.

و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها و الطوع يقابل الكره مطلقا.

و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أول النهار، و قوبل في القرآن الغدو بالآصال نحو قوله: ﴿بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ و قوبل الغداة بالعشي قال: ﴿بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ انتهى و الغدو جمع غداة كقنى و قناة و قال في المجمع،: الآصال‏ جمع أصل بضمتين و أصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس. انتهى.

و الأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة و التقدم الذي يمثل به السيادة و الركوع الذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الذي يظهر به نهاية تذلل الساجد و ضعته قبال تعزز المسجود له و اعتلائه تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما و كما أن الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاص ركوع و كما أن الخرور على الأرض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية أن الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.

و هذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ : البقرة: ١١٦ و قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ: أسرى: ٤٤ و قوله: ﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الرحمن: ٢٩ و قوله: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ: النحل: ٤٩.

و الفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنساني أن الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني

 

 

 

 فإنها إنما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلة المكونات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلة و ضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنه ذلة و ضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربما يتخلف.

فقوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أخذ بما تقدم من النظر و لعله إنما خص أولي العقل بالذكر حيث قال: ﴿مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ مع شمول هذه الذلة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال: ﴿وَ ظِلاَلُهُمْ إلخ، لأن الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له. و لذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.

ثم إن هذا التذلل و التواضع، الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز و علا، خضوع ذاتي لا ينفك عنها و لا يتخلف فهو بالطوع البتة و كيف لا و ليس لها من نفسها شي‏ء حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ: حم السجدة: ١١.

فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أن بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب أخر و هي الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة و لا شك أن مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب.

فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشئون الراجعة إليها غير أنها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

 

 

 

 و مما تقدم يظهر فساد قول بعضهم إن المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا و الكافر يسجد خوفا من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.

و كذا قول بعض: إن المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل إلا أن ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائي.

و كذا قول آخرين: إن المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من أولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخص أولي العقل للتغليب.

و أما قوله. ﴿وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإن الظل و إن كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلا أن له آثارا خارجية و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.

و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنما خص الغدو و الآصال بالذكر لا لما قيل: إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله: ﴿وَ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرَافَ اَلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضى‏: طه: ١٣٠.

بل النكتة فيه و الله أعلم أن الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثلان للحس السقوط على الأرض و ذلة السجود، و أما وقت الظهيرة و أوساط النهار فربما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.

و لا شك في أن سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيؤها، و ليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ: النحل: ٤٨ فإن العناية بذلك ظاهرة فيه.

 

 

 

و ليس ذلك قولا شعريا و تصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى و حاشاه و قد نص أنه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحس نوع ظهور و يتمثل لها بوجه كان من الحري أن يستمد به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحس و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه من الحس و الخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه.

و من هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدو و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولي العقل.

و من هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله: ﴿وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح و السحاب و البرق مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتي منهم و دلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شي‏ء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.

و يقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: ﴿رَفَعَ اَلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا و قوله: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ الآية إن التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لأن سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإن القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية و أنه تعالى فوق الجميع بل لأن الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس لبادئ نظرة تنبه الأفهام البسيطة و تمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شي‏ء كثير.

 

 

 

 و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو و الآصال على الأرض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية.

هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و أما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنها توجد كما شاء أو القول بأن المراد بالظل هو الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه فإن هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا الآية بما تشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.

و ذلك أن الآيات السابقة تبين بأوضح البيان أن تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شي‏ء إلى الله سبحانه كما أن خلقها منه و أنه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أن كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و ينتج ذلك أنه الرب دون غيره.

فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: ﴿مَنْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي من هو الذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبر أمرها؟ ثم أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول: ﴿اَللَّهُ لأنهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبية و في ذلك تلويح إلى أنهم لا يعقلون حجة و لا يفقهون حديثا.

ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أن مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنه هو المالك للنفع و الضرر فكل من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا فكيف لغيره؟ فاتخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.

 

 

 

 و هذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق: ﴿قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك: أي إذا كان الله سبحانه هو رب السماوات و الأرض فقد قلتم باتخاذكم أولياء آلهة من دونه قولا يكذبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبية لهم.

و بالتأمل فيما قدمناه أن الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات و الأرض إلا الله؟ أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعا و لا ضرا؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرة بعد مرة إنما هو للتنزه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.

قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة و إتمامها عليهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يضربهما لهم يبين بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجة الحقة و الآيات البينات غير المسلم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوي بينهما ببديهة عقله، و يبين بالثاني أن الكفر بالحق ظلمات كما أن الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحق نور كما أن المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان البتة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة كما يدعون أن يسلموا للحق و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.

قوله تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ إلى قوله ﴿وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ في التعبير بقوله: ﴿جَعَلُوا و ﴿عَلَيْهِمْ دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أن الكلام مصروف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.

ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذي يتضمنه قوله: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله: ﴿قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ دليل على أن السؤال إنما هو عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائي لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلا لأنهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ

 

 

 

لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨ و قد كرر تعالى نقل ذلك عنهم.

فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكا في الخلق و الإيجاد و إنما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبية لا في توحيد الألوهية بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبية و تتم الحجة عليهم لأن اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبية مع انتفاء هذه النعوت الكمالية.

و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبية شركائهم مع الله سبحانه إلا أن ينكروا توحده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.

فكأنه تعالى إذ يقول: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم): هؤلاء تمت عليهم الحجة في توحيد الربوبية من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلا أن يقولوا بشركة شركائهم في الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأن شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثم تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيتهم إجمالا مع الله.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال: ﴿قُلِ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنه تعالى واحد في خالقيته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كل عدد و كثرة و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿أَ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللَّهُ اَلْوَاحِدُ اَلْقَهَّارُ: يوسف: ٣٩ بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهار، و تبين هناك أن مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحدية.

و قد بان مما ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمل في ذلك و اعلم أن أكثر المفسرين اشتبه عليهم الحال في الحجج التي تقيمها الآيات القرآنية لإثبات ربوبيته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما أقيمت لإثبات الصانع فتنبه لذلك.

 

 

 

 (بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنا المنذر و علي الهادي‏ الحديث.

أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفار في البصائر، و العياشي و القمي في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.

و معنى قوله (ص): «أنا المنذر و علي الهادي» أني مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و على مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أن المراد بالمنذر هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد بالهادي هو علي (عليه السلام) فإن ذلك مناف لظاهر الآية البتة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلمي و ابن عساكر و ابن النجار قال: لما نزلت: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي:.

أقول: و رواه الثعلبي في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلمي قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالطهور و عنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: «إنما أنت منذر» و يعني نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: «و لكل قوم هاد» ثم قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القراء أشهد على ذلك أنك كذلك:.

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزباني في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين. ـ

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و ابن عساكر عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه. أقول: و من طرق أهل السنة في هذا المعنى روايات أخرى كثيرة.

 و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ قال: كل إمام هاد لكل قوم في زمانهم.

 و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل:

﴿وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.

 و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنا المنذر و علي الهادي. يا با محمد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.

أقول: و الرواية تشهد على ما قدمناه أن شمول الآية لعلي (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمة، و هذا الجري هو المراد مما ورد أنها نزلت في علي (عليه السلام).

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ قال: ما لم يكن حملا. ﴿وَ مَا تَزْدَادُ قال: الذكر و الأنثى جميعا. أقول: و قوله: الذكر و الأنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.

 و فيه، عن محمد بن مسلم و غيره عنهما (عليه السلام) قال: ﴿مَا تَحْمِلُ كل من أنثى أو ذكر ﴿وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ قال: ما لم يكن حملا ﴿وَ مَا تَزْدَادُ عن أنثى أو ذكر.

 

 

 

 و في الكافي، بإسناده عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ مَا تَغِيضُ اَلْأَرْحَامُ وَ مَا تَزْدَادُ قال: الغيض كل حمل دون تسعة أشهر ﴿وَ مَا تَزْدَادُ كل شي‏ء تزداد على تسعة أشهر فكلما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم.

 أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسرين.

 و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

 أقول: ليس المراد من «ما لم يكن» المعدوم الذي ليس بشي‏ء بل الأمر الذي بالقوة ما لم يدخل في ظرف الفعلية، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنة الخيل. قال:

فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا. فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا و رجالا، قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يمنعك الله.

فلما خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام منه فخليا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلمه و سل أربد السيف فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سل سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست.

فلما خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى إذا كانا بحرة رقم نزلا فخرج

 

 

 

 إليهما سعد بن معاذ و أسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوي الله لعنكما الله و وقع بهما.

فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا أسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي.

حتى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله: ﴿اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ إلى قوله ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم).

ثم ذكر أربد و ما قتله فقال: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ إلى قوله ﴿وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ. أقول: و روي ما في معناه عن الطبري و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه.

أخشى على أربد الحتوف و لا *** أرهب نوء السماء و الأسد

 فجعني الرعد و الصواعق *** بالفارس يوم الكريهة النجد

و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكية بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضا على ما مر من معناها.

 و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن علي: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ قال: ليس من عبد إلا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا بينه و بين القدر.

 أقول: و روي أيضا ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه. و روي ما في معناه عن الصادقين (عليه السلام).

 و في تفسير العياشي، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال حدثنا هذه الآية: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ الآية قال: من المقدمات المؤخرات المعقبات الباقيات الصالحات.

 أقول: ظاهره أن الباقيات الصالحات من مصاديق المعقبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلا بالملائكة الموكلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدمناه

 

 

 

 في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدمات المؤخرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدمناه ظاهر.

 و فيه، عن أبي عمرو المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبي كان يقول: إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

و فيه، عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذَا أَرَادَ اَللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فصار الأمر إلى الله تعالى.

 أقول: إشارة إلى ما قدمناه من معنى الآية.

 و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابلي يقول: سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عز و جل: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

 و فيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً قال: خوفا للمسافر و طمعا للمقيم.

و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ يريد المكر.

 و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث رجلا إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عز و جل فقال للرسول: أخبرني عن هذا الذي تدعوني إليه أ من فضة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره بقوله فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ارجع إليه فادعه قال: يا نبي الله إنه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جل ثناؤه ﴿وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ هُمْ

 

 

 

 يُجَادِلُونَ فِي اَللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحَالِ.

 أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مر من قصة عامر و أربد و يزيد هذا الخبر أن قوله: ﴿وَ يُرْسِلُ اَلصَّوَاعِقَ إلخ بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول.

 و في التفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ الآية: أما من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون لله طوعا، و أما من يسجد من أهل الأرض ممن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعا، و أما من يسجد له كرها فمن جبر على الإسلام و أما من لم يسجد فظله يسجد له بالغدو و الآصال.

 أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإن الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبئ عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أن السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامة موجودة إما فيهم و إما في ظلالهم فإن سجدوا حقيقة طوعا أو كرها فهي و إلا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.

على أنه لا يوافق العموم المتراءى من قوله: ﴿وَ ظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصَالِ و أوضح منه العموم الذي في قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ دَاخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ النحل: ٤٩.

[سورة الرعد ١٣): الآیات ١٧ الی ٢٦]

﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا

 

 

 

﴿يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ ١٧ لِلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى‏ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسَابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ ١٨ أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ١٩ اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ ٢٠ وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ ٢١ وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ ٢٢ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ٢٣ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ ٢٤ وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ ٢٥ اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ٢٦

 

 

 

 (بيان)

لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين الحق و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمَاتُ وَ اَلنُّورُ أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين طريق الحق الذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الذي هو الشرك و العمل السيئ و أهلهما الذين هم المؤمنون و المشركون، و أن للأولين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق و الباطل و أثر كل منهما الخاص به ثم بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.

قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً إلى آخر الآية قال في مجمع البيان،: الوادي‏ سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، و القدر اقتران الشي‏ء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.

قال: و الاحتمال‏ رفع الشي‏ء على الظهر بقوة الحامل له، و يقال: علا صوته على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.

و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال:

جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفراء: كل شي‏ء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجي‏ء على فعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.

و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتقدت و توقدت، و المتاع‏ ما تمتعت به، و المكث‏ السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث بفتح الكاف و ضمها و تمكث أي تلبث. انتهى.

و قال الراغب: الباطل‏ نقيض الحق و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال

 

 

 

 تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبَاطِلُ و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عز و جل:

﴿وَ بَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ و قال: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. انتهى موضع الحاجة.

فبطلان الشي‏ء هو أن يقدر للشي‏ء نوع من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت على ما قدر و لم يطابقه الخارج و الحق بخلافه فالحق و الباطل يتصف بهما أولا الاعتقاد ثم غيره بعناية ما.

فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه و طبق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدر له من الثبات، و الفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحة مثلا إذا أثر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الأمر و الشي‏ء الموجود في الخارج حق من جهة أنه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى، و الشي‏ء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدر له و إن كان حقا من جهة أصل الوجود قال:

ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل *** و كل نعيم لا محالة زائل‏

و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق و الباطل فتصف بدء تكونهما و كيفية ظهورهما و الآثار الخاصة بكل منهما و سنة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

بين تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى:

﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً و قوله: ﴿أَنْزَلَ فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير ﴿اَلسَّمَاءِ للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشي‏ء أو يشوبه تغير، و تنكير ﴿أَوْدِيَةٌ

 

 

 

للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كله بدلالة السياق، و إنما مثل بالسيل لأن احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كل بقدره الخاص به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا.

ثم قال تعالى: ﴿وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ من نشوية و ما يوقدون عليه أنواع الفلزات و المواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة و أمتعة الحياة التي يتمتع بها و المعنى و يخرج من الفلزات و المواد الأرضية التي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الذي يربو السيل يطفو على المادة المذابة و يعلوه.

ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ أي يثبت الله الحق و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.

فالمراد بالضرب و الله أعلم نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلة و المسكنة أي أوقعت و أثبتت و ضرب بينهم بسور أي أوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبت و إلى هذا المعنى أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت و نصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإن الضرب و هو إيقاع شي‏ء على شي‏ء بقوة و عنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد أطلق الضرب و هو الملزوم و أريد التثبيت و هو الأمر اللازم.

و من هنا يظهر أن قول المفسرين إن في الجملة حذفا أو مجازا و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحق و الباطل أو مثل الحق و مثل الباطل على اختلاف تفسيرهم في غير محله فإنه تكلف من

 

 

 

 غير موجب و لا دليل يدل عليه.

على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ و هو يغني عنه.

على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإن كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحق و الباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثم قال تعالى: ﴿فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة و هو أنه يذهب جفاء، و لذا قدمنا آنفا أن الآية تتضمن مثلا واحدا و إن انحل إلى غير واحد من الأمثال.

و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله: ﴿وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ للدلالة على خاصة يختص بها الحق و هو أن الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.

و المعنى: فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلا متلاشيا، و أما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْأَمْثَالَ و ختم به القول أي إن الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من الباطل و تبين للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.

و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد المواد الأرضية و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية و التكونات العينية لا القول فيدل على أن هذه الوقائع الكونية و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي أولي النهي

 

 

 

و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالة و هو ظاهر.

و قد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية:

أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.

و هذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١ و قوله: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ: الزمر: ٦ و من الدليل عليه جميع آيات القدر.

ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى، ﴿إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ: هود: ١٢٣، و قال: ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً: الآية: ٣١ من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى و أوسع مصداقا.

و ثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم و تقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.

و الحق من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: آل عمران: ٦٠ و قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ص: ٢٧ فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: ﴿مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى : الأحقاف: ٣ و قال: ﴿وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ: يونس: ٨٢ و قال: ﴿إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ

 

 

 

 زَهُوقاً: أسرى: ٨١ و قال: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ : الأنبياء: ١٨.

و ثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره و لا يزاحمه بل يمده و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.

و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية و يتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، و مثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق و يخيب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضر من غير نفع.

و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ: الجاثية: ١٣ فكل شي‏ء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

و هذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.

و اعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية و الحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اَللَّهُ اَلظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللَّهُ مَا يَشَاءُ: إبراهيم: ٢٧.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى‏ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ إلى آخر الآية المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهد الموطأ و سميت جهنم مهادا لأنها مهدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيئة.

و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة كما تقدمت الإشارة إليه يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإن الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أن العاقبة المحمودة التي للإيمان لا يقوم مقامها شي‏ء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أن المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة و إن كان حقا بحسب المآل فإن عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى و هي الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة في المقام بما أنها مثوبة أو جنة بل بما أنها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.

و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة بهم: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الآية.

و على هذا أيضا فقوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشر و الشقوة بما لا يذكر.

و المعنى: و الذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى من صفته أنه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الإنسانية و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمناه ثم أضيف إليه مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه: «غير موصوف ما نزل بهم». ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ

 

 

 

 اَلْحِسَابِ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ و سوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم و لا يسرهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله: ﴿وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ أي بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم و يستقرون فيه، و مجموع قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسَابِ إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الذي من صفته كذا و كذا.

و معنى الآية و الله أعلم للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقة العاقبة الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنوه لأن الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب و القرار في و بئس المهاد مهادهم.

و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كل بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ استفهام إنكاري و هو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة، و بيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق و عدمها.

و ملخص البيان: أن الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم ألبابا و قلوبا حقيقية لها آثارها و بركاتها و هو التذكر و التبصر، و من خواص هذه القلوب التي يعرف بها صاحبوها أن أولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربهم، و يثبتون على احترام ما وصلهم الله به و هي الرحم التي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجه إلى ربهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما

 

 

 

 فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحق.

و قوله: ﴿أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏َ الاستفهام فيه للإنكار كما تقدم و فيه نفي التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق و من جهل الحق و في توصيف الجاهل بالحق بالأعمى إيماء إلى أن العالم به يصير و قد سماه بالأعمى و البصير في قوله آنفا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ الآية، فالعلم بالحق بصيرة و الجهل به عمى و التبصر يفيد التذكر و لذا عده من خواص أولي العلم بقوله: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ.

و قوله: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله: ﴿أَ فَمَنْ يَعْلَمُ إلخ، أي أنهما لا يستويان لأن لأولي العلم تذكر ليس لأولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل كأنه قيل: لا يستويان لأن لأحد الفريقين تذكرا ليس للآخر، و إنما اختص التذكر بهم لأن لهم ألبابا و قلوبا و ليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ ظاهر السياق أن الجملة الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم هو ما عاهدوا به ربهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحدوه و يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإن الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.

و أما العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فإن الدين فطري.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر هو الأمر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية ﴿وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ فإن الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهرا و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإن المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي و لم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الحجة لا تتم على الإنسان بمجرد الإدراك الفطري لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اَللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ : النساء: ١٦٥.

 

 

 

و الآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم التي أمر الله بها و أكد القول في وجوبها، قال تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسَائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحَامَ : النساء: ١.

و قد أكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله: ﴿وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملا سيئا مكتوبا في صحيفة العمل محفوظا على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيئ.

و الظاهر أن الفرق بين الخشية و الخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه، و الخوف‏ هو التأثر عملا بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور و إن لم يتأثر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: ﴿وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ: الأحزاب:

 ٣٩. فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏: طه: ٦٧ و قوله: ﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً: الأنفال: ٥٨.

و لعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أن الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم. و لذا خص العلماء بها في قوله. ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ و كذا قول بعضهم: إن الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة. و كذا قول بعضهم: إن الخوف يتعلق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال:

خشيت الله.

و لو لا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أن الفرق أغلبي لا كلي، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلا و هو مردود بما قدمناه من الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله: ﴿اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأن الكلام في

 

 

 

 صفاتهم التي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربهم و علمهم بحقية ما أنزل إليهم من ربهم لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديتهم و إيمانهم بربهم كالصبر عند الكريهة تمنعا و عجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء و نحوه كما قيل:

و قولي كلما جشأت و جاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي‏

 و المراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة التي عليها يظهر و يستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوَابِ: آل عمران: ١٩٥، و قال: ﴿وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ: النحل: ٩٦ و قال: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ: القصص: ٨٨.

و قوله: ﴿وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره. كما قيل.

و قوله: ﴿وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً المراد به مطلق الإنفاق أعم من الواجب و غيره، و الآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله: ﴿سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً للدلالة على استيفائهم حقه فإن من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق أن يستوفي من كل حقه فيسر بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو إهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البر و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.

و قوله: ﴿وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيئة جاءوا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة، و هذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاءوا بها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها بتوبة إلى ربهم فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا. سلاما أو أتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به.

 

 

 

 فذلك كله من درء السيئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة.

و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لأولي الألباب: «الذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرءون» فأتي في بعضها و هي ستة بلفظ المضارع، و في بعضها و هي ثلاثة بلفظ الماضي.

و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني ﴿اَلَّذِينَ و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

و لذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي و أن يراد به الاستقبال فمن الأول ﴿اَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ و من الثاني ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.

و فيه أن إلغاء خصوصية زمان الفعل من المضي و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإن في الماضي مثلا عناية بالتحقق و إن كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محله بعد.

و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.

و فيه أن بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.

 

 

 

و الذي أحسب و الله أعلم أن مجموع قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: «و الذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة» فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعية لكن قيل: ﴿وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: ﴿وَ يَدْرَؤُنَ إلخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.

و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اَللَّهُ ثُمَّ اِسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةُ الآية، حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم ﴿رَبُّنَا اَللَّهُ و استقامتهم دون الاستمرار عليه.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لأن الشي‏ء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أما العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشي‏ء لخلل واقع فيه، و إنما تسمى عاقبة بنحو من التوسع، و لذلك أطلق في الآية عقبى الدار و أريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله: ﴿وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ، و من هنا يظهر أن المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ العدن‏ الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر فيه و منه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية و جنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كل جهة.

و ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ «إلخ» بدل أو عطف بيان من قوله: ﴿عُقْبَى اَلدَّارِ أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله

 

 

 

 عليه إلا حياة واحدة متصلة أولها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: ﴿وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ: الزمر: ٧٤.

و الآية كما سمعت تحاذي قوله: ﴿يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ و بيان لعاقبة هذا الحق الذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الأمهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله : ﴿آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ لأن الأمهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ و هذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.

و قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذم و سوء أبدا.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله: ﴿وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بقية ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أن الأعمال الصالحة هي التي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدي إلى سعادة النوع الإنساني و رشد المجتمع البشري، و قد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة.

و قد بين تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ و اللعن‏ الإبعاد من الرحمة و الطرد من كل كرامة، و ليس ذلك إلا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحق النازل من الله، و ليس للباطل إلا البوار.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إلى آخر الآية بيان أن ما أوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

 

 

 

و قد بين أن فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق و الباطل فالاعتقاد الحق و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.

و قوله: ﴿وَ فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ يريد به على ما يفيده السياق أن الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطئوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنما تكون من الحق إذا أخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها و أما إذا أخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلا من الباطل الذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شي‏ء، قال تعالى:

﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ : العنكبوت: ٦٤.

 (بحث روائي)

 في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث يذكر فيه أحوال الكفار قوله: ﴿فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محل العلم و قراره.

 أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعم مدلولا كما مر.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة: في قوله : ﴿اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللَّهِ وَ لاَ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثَاقَ عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإن الله قد نهى عنه و قدم فيه أشد التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدمة

 

 

 

 إليكم و حجة عليكم، و إنما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له. أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أن ظاهر السياق خلافه.

 و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قال: قرابتك.

 و فيه، أيضا بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قال: نزلت في رحم آل محمد و قد يكون في قرابتك. ثم قال: و لا تكونن ممن يقول في الشي‏ء أنه في شي‏ء واحد.

 أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإن للقرآن ظهرا و بطنا و قد جعل الله مودة ذي القربى و هي من الصلة أجر الرسالة في قوله:

﴿قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى‏: الشورى: ٢٣ و يدل على ما ذكرنا الرواية الآتية.

 و في تفسير العياشي، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله:

﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيانا.

 و فيه، عن محمد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول: ﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كل رحم.

 أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و قد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

 و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: و مما فرض الله عز و جل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ

 

 

 

 أَنْ يُوصَلَ.

 أقول: و رواه العياشي في تفسيره.

 و في تفسير العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي. قال أبو عبد الله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله: ﴿وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم: لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقة:.

أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمي. و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ قال:

الاستقصاء و المداقة، و قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات.

 أقول: و ذيل الحديث مروي بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنما هو لمكان المداقة و الحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية.

 و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام): في الآية قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.

 و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): بر الوالدين و صلة الرحم يهون الحساب ثم تلا هذه الآية: ﴿اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخَافُونَ سُوءَ اَلْحِسَابِ.

 و في الدر المنثور: في قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ: أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له: كن فكان. و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب

 

 

 

 الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

[سورة الرعد ١٣): الآیات ٢٧ الی ٣٥ ]

﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ٢٧ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ ٢٨ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ٢٩ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ ٣٠ وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‏ بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ ٣١ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ٣٢ أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ

 

 

 

﴿بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٣٣ لَهُمْ عَذَابٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ ٣٤ مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَ ظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ ٣٥

 (بيان)

عود ثان إلى قول الكفار: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأن الهدى و الضلال ليس شي‏ء منهما إلى ما ينزل من آية بل إن ذلك إليه تعالى يضل من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنة الإلهية على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئن إلى ذكره و أولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار. و إضلال من كفر بآياته الواضحة و أولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من دون الله من واق.

و أن الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشية الله لكانت به لكن الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ عود إلى قول الكفار ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ و إنما أرادوا به أنه لو أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية من ربه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدون القرآن النازل إليه آية.

و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده: ﴿قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إلخ

 

 

 

 و قوله بعد: ﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ إلى قوله ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً و قوله بعد: ﴿وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ إلى آخر الآية.

فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمرا نبيه أن يلقيه إليهم: ﴿قُلْ إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ فأفاد أن الأمر ليس إلى الآية حتى يهتدوا بنزولها و يضلوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء.

و لما لم يؤمن أن يتوهموا منه أن الأمر يدور مدار مشية جزافية غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله: ﴿وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ فبين أن الأمر إلى مشية الله تعالى جارية على سنة دائمة و نظام متقن مستمر و ذلك أنه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضل من أعرض و لم ينب فمن تلبس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحق و لم يتقيد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقة و من كان دون ذلك ضل عن الطريق و إن كان مستقيما و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ إلخ، على تقدير: أن الله يضل بمشيته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيته من أناب إليه.

و يظهر أيضا أن الضمير ﴿إِلَيْهِ في ﴿يَهْدِي إِلَيْهِ راجع إليه تعالى و أن ما ذكره بعضهم أنه راجع إلى القرآن. و آخرون أنه راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير وجيه.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ الاطمئنان‏ السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشي‏ء السكون إليه.

و ظاهر السياق أن صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة: ﴿مَنْ أَنَابَ فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيؤ و استعداد يستعقب عطية الهداية الإلهية كما أن الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦ و قال: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ: الصف: ٥.

 

 

 

و ليس الإيمان بالله تعالى مثلا مجرد إدراك أنه حق فإن مجرد الإدراك ربما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ: النمل: ١٤ مع أن الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشي‏ء مجرد إدراك أنه حق مثلا بل مطاوعة و قبول خاص من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنه لا يكف عنه لأن نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربما طاوعته و سلمت له بعد ما أدركته و كفت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.

و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ: الأنعام: ١٢٥ فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمرا نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقر هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.

و من ذلك يظهر أن قوله: ﴿وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ عطف تفسيري على قوله:

﴿آمَنُوا فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.

و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ : الأنفال: ٢ فإن الوجل المذكور فيه حالة قلبية متقدمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اَللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ: الزمر: ٢٣ و ذلك أن النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أما النقمة أيا ما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيا صادرا منه تعالى على ما يفيده قوله:، ﴿مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ: فاطر: ٢.

 

 

 

 و إذا كان الخوف و الخشية إنما هو من شر متوقع و لا شر عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيئة التي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانية إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أولا إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثم التفتت ثانيا إلى ربه الذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنت بذكره.

و قال في مجمع البيان،: و قد وصف الله المؤمن هاهنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه التي لا تحصى و أياديه التي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه. انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سماه الله تعالى ذكرا في مواضع كثيرة من كلامه كقوله: ﴿وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ: الأنبياء: ٥٠ و قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ: الحجر: ٩ و غير ذلك.

لكن الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ فإنه كضرب القاعدة يشمل كل ذكر سواء كان لفظيا أو غيره، و سواء كان قرآنا أو غيره.

و قوله: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ فيه تنبيه للناس أن يتوجهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنه لا هم للإنسان في حياته إلا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كله، و هو القاهر فوق عباده و الفعال لما يريد و هو ولي عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحة و العافية آنا بعد آن.

فكل قلب على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم يطمئن بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنما ذلك في القلب الذي يستحق أن يسمى قلبا و هو

 

 

 

 القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أما المنحرف عن أصله الذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ: الحج: ٤٦، و قال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا : الأعراف: ١٧٩ و قال: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ: التوبة: ٦٧.

و في لفظ الآية ما يدل على الحصر حيث قدم متعلق الفعل أعني قوله: ﴿بِذِكْرِ اَللَّهِ عليه فيفيد أن القلوب لا تطمئن بشي‏ء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدمناه من الإيضاح ينور هذا الحصر إذ لا هم لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلا و هو غالب في جهة و مغلوب من أخرى إلا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئن القلوب و لا يطمئن القلب إلى شي‏ء غيره إلا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكر بها أخذته الرعدة و القلق.

و مما قيل في الآية الكريمة أعني قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ إلخ إنها استئناف، و قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ خبره قوله في الآية التالية: ﴿طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ و قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ بدل من المبتدإ و قوله: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ اعتراض بين المبتدإ و خبره، و هو تكلف بعيد من السياق.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ طوبى‏ على وزن فعلى بضم الفاء مؤنث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو على ما يستفاد من السياق الحياة أو المعيشة و ذلك أن النعمة كائنة ما كانت إنما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلا إذا اطمأن القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلا لمن آمن بالله و عمل عملا صالحا فهو الذي يطمئن منه القلب و يطيب له العيش فإنه في أمن من الشر و الخسران و سلام مما يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقر في ولاية الله لا يوجه إليه ربه إلا ما فيه سعادته إن أعطى شيئا فهو خير له و إن منع فهو خير له.

و قد قال في وصف طيب هذه الحياة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: النحل: ٩٧ و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله: ﴿وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَعْمى‏َ: طه: ١٢٤، و لعل وصف الحياة أو المعيشة في الآية

 

 

 

التي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحا إلى أنها نعمة لا تخلو من طيب على أي حال إلا أنها فيمن اطمأن قلبه بذكر الله أكثر طيبا لخلوصها من شوائب المنغصات.

فقوله: ﴿طُوبى‏ لَهُمْ في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و «لهم» خبره و إنما قدم المبتدأ المنكر على الظرف لأن الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدم ما به التهنئة استعجالا بذكر ما يسر السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.

و بالجملة في الآية تهنئة الذين آمنوا و عملوا الصالحات و هم الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله اطمئنانا مستمرا - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتصالها بما قبلها فإن طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدم.

و قال في مجمع البيان،: ﴿طُوبى‏ لَهُمْ و فيه أقوال:

أحدها: أن معناه فرح لهم و قرة عين. عن ابن عباس.

و الثاني: غبطة لهم. عن الضحاك.

و الثالث: خير لهم و كرامة. عن إبراهيم النخعي.

و الرابع: الجنة لهم. عن مجاهد.

و الخامس: معناه العيش المطيب لهم. عن الزجاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباري لأنه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنة. عن الجبائي.

و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.

و السابع: حسنى لهم. عن قتادة.

و الثامن: نعم ما لهم. عن عكرمة.

التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.

العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في دار كل مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. انتهى موضع الحاجة.

 

 

 

 و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ إلى آخر الآية متاب‏ مصدر ميمي للتوبة و هي الرجوع، و الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ إلى ما ذكره تعالى من سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.

و المعنى: و أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالا يماثل هذه السنة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك و تبلغهم ما يتضمنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنما قيل بالرحمن، دون أن يقال: «بنا» على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يكفرون برحمة إلهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم و أخراهم لو أخذوه و عملوا به.

ثم أمر تعالى: أن يصرح لهم القول في التوحيد فقال: ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ أي هو وحده ربي من غير شريك كما تقولون و لربوبية لي وحده أتخذه القائم على جميع أموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أن قوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ من آثار الربوبية المتفرعة عليها فإن الرب هو المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.

و قيل: إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون «إليه متاب» تأكيدا لقوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و هو خلاف ظاهر.

و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.

و ذكر بعضهم: أن المعنى إليه متابي و متابكم. و فيه أنه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‏ بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها و إذهابها من مكان إلى مكان

 

 

 

و بتقطيع الأرض شقها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عما جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فإن هذا هو الذي كانوا يقترحونه.

فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثارا لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:

﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإن الكلام معقب بقوله: ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً و الآيات كما عرفت مسوقة لبيان أن أمر الهداية ليس براجع إلى الآية التي يقترحونها بقولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ بل الأمر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم و يهدي إليه من أناب.

و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ الآية، و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.

فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أن قرآنا من شأنه أنه تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلم ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله بل الأمر كله لله ليس شي‏ء منه لغيره حتى يتوهم متوهم أنه لو أنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيته.

و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ: الأنعام: ١١١.

و ما قيل: إن جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره. و المعنى: أن القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى أو في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع لكان ذلك هذا القرآن لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ: الحشر: ٢١.

 

 

 

 و فيه أن سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده:

﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً و كذا قوله بعده: ﴿أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلفوا في قوله: ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً بما لا يخلو عن تكلف.

فقيل: إن المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده.

و قيل: إن حاصل الإضراب أنه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره مما أراده الله فإن جميع الأمر له تعالى وحده.

و قيل: إن الأحسن أن يكون قوله: ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً. معطوفا على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شي‏ء بل الأمر لله جميعا.

و أنت ترى أن السياق لا يساعد على شي‏ء من هذه المعاني، و أن حق المعنى الذي يساعد عليه السياق أن يكون إضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله.

قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً تفريع على سابقه.

ذكر بعضهم أن اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حي من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني أ لم تيأسوا أني ابن فارس زهدم‏

و قول رباح بن عدي:

أ لم ييأس الأقوام أني أنا ابنه و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا

 و محصل التفريع على هذا أنه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى و أن الأمر لله جميعا فمن الواجب أن يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هداية الذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا

 

 

 

 الذين آمنوا و الذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.

و ذكر بعضهم أن اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أن قوله: ﴿أَ فَلَمْ يَيْأَسِ مضمن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم و لو شاء ذلك لهدى الناس جميعا و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.

فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثم ضمن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله: ﴿لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ لَهَدَى اَلنَّاسَ جَمِيعاً إيجازا و إيثارا للاختصار.

و ذكر بعضهم: أن قوله ﴿أَ فَلَمْ يَيْأَسِ على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله: ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ إلخ، متعلق بقوله: ﴿آمَنُوا بتقدير الباء و متعلق ﴿يَيْأَسِ محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من إيمانهم و ذلك أن الذين آمنوا يرون أن الأمر لله جميعا و يؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.

و هذه وجوه ثلاثة لعل أعدلها أوسطها و الآية على أي حال لا تخلو من إشارة إلى أن المؤمنين كانوا يودون أن يؤمن الكفار و لعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية أخرى غير القرآن فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات أخرى من كلامه مكية و مدنية كقوله في سورة يس و هي مكية:

﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ: آية ١٠، و قوله في سورة البقرة و هي مدنية: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ: آية ٦.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ سياق الآيات يشهد أن المراد بقوله:

﴿بِمَا صَنَعُوا كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير

 

 

 

مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود.

و المعنى: و لا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأن الله لا يخلف ميعاده و لا يبدل قوله.

و التأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكة يعطي أن المراد بالذين كفروا هم كفار العرب من أهل مكة و غيرهم الذين ردوا أول الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحوا على الفتنة و الفساد.

و المراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شن الغارات، و بالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها و تنالهم وحشتها و همها و سائر آثارها السيئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.

و اعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ إلى قوله ثانيا ﴿وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ : يونس: ٤٧-٥٤ فإن الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة، و الذي في هذه الآيات وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش و غيرهم، و قد تقدم في قوله:

﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ: البقرة: ٦ في الجزء الأول من الكتاب أن المراد بقوله: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا في القرآن إذا أطلق إطلاقا المعاندون من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا أطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أول الدعوة.

و اعلم أيضا أن للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا إيرادها إذ لا طائل تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعي ببيان نظائر له تدل على إمكان وقوعه أي لا يتوهمن متوهم أن هذا الذي نهددهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ: النمل: ٦٨.

و ذلك أنه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثم اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للذين كفروا ثم أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيدا خاليا لا شي‏ء وراءه؟ أم كان أمرا يمكنهم أن يتقوه أو يدفعوه أو يتحملوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.

و من ذلك يظهر أن قولهم: إن الآية تسلية و تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في غير محله.

و قد بدل الاستهزاء في الآية ثانيا من الكفر إذ قيل: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا و لم يقل بالذين استهزءوا للدلالة على أن استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أن كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزءون بآيات الله كالذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ القائم‏ على شي‏ء هو المهيمن المتسلط عليه و القائم بشي‏ء من الأمر هو الذي يدبره نوعا من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت أما قيامه عليها فلأنه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أما قيامه بما كسبت فلأنه يدبر أمر أعمالها فيحولها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثم يحولها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنة و نار.

و الآية متفرعة على ما تقدمها أي إذا كان الله سبحانه يهدي من يشاء فيجازيه بأحسن الثواب و يضل من يشاء فيجازيه بأشد العقاب و له الأمر جميعا فهو قائم على كل نفس بما كسبت و مهيمن مدبر لنظام الأعمال فهل يعدله غيره حتى يشاركه في ألوهيته؟.

 

 

 

 و من ذلك يظهر أن الخبر في قوله: ﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ إلخ، محذوف يدل عليه قوله: ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ و من سخيف القول ما نسب إلى الضحاك أن المراد بقوله:

﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الملائكة لكونهم موكلين على الأعمال و المعنى أ فيكون الملائكة الموكلون على الأعمال بأمره شركاء له سبحانه؟ و هو معنى بعيد من السياق غايته.

قوله تعالى: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ لما ذكر سبحانه قوله: ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ عاد إليهم ببيان يبطل به قولهم ذلك مأخوذ من البيان السابق بوجه.

فأمر نبيه بأن يحاجهم بنوع من الحجاج عجيب في بابه فقال: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ أي صفوهم فإن صفات الأشياء هي التي تتعين بها شئونها و آثارها فلو كانت هذه الأصنام شركاء لله شفعاء عنده وجب أن يكون لها من الصفات ما يسوي لها الطريق لهذا الشأن كما يقال فيه تعالى إنه حي عليم قدير خالق مالك مدبر فهو رب كل شي‏ء لكن الأصنام إذا ذكرت فقيل: هبل أو اللات أو العزى لم يوجد لها من الصفات ما يظهر به أنها شريكة لله شفيعة عنده.

ثم قال: ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ و أم منقطعة أي بل أ تنبئونه بكذا و المعنى أن اتخاذكم الأصنام شركاء له إنباء له في الحقيقة بما لا يعلم فلو كان له شريك في الأرض لعلم به لأن الشريك في التدبير يمتنع أن يخفى تأثيره في التدبير على شريكه و الله سبحانه يدبر الأمر كله و لا يرى لغيره أثرا في ذلك لا موافقا و لا مخالفا، و الدليل على أنه لا يرى لنفسه شريكا في الأمر أنه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت، و بعبارة أخرى أن له الخلق و الأمر و هو على كل شي‏ء شهيد بالبرهان الذي لا سبيل للشك إليه، و الآية بالجملة كقوله في موضع آخر: ﴿قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ: يونس: ١٨.

ثم قال: ﴿أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ أي بل أ تنبئونه بأن له شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و هذا كقوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ: النجم: ٢٣.

و عن بعضهم أن المراد بظاهر من القول ظاهر كتاب نازل من الله تسمى فيه الأصنام

 

 

 

 آلهة حقة و حاصل الآية نفي الدليل العقلي و السمعي معا على ألوهيتها و كونها شركاء لله سبحانه و هو بعيد من اللفظ.

و وجه الارتباط بين هذه الحجج الثلاث أنهم في عبادتهم الأصنام و جعلهم لله شركاء مترددون بين محاذير ثلاثة إما أن يقولوا بشركتها من غير حجة إذ ليس لها من الأوصاف ما يعلم به أنها شركاء لله، و إما أن يدعوا أن لها أوصافا كذلك هم يعلمونها و لا يعلم بها الله سبحانه، و إما أن يكونوا متظاهرين بالقول بشركتها من غير حقيقة و هم يغرون الله بذلك تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قال الزمخشري في الكشاف،: و هذا الاحتجاج و أساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر لمن عرف و أنصف على نفسه انتهى كلامه.

قوله تعالى: ﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ إضراب عن الحجج المذكورة و لوازمها و المعنى دع هذه الحجج فإنهم لا يجعلون له شركاء لشي‏ء من هذه الوجوه بل مكر زينه لهم الشيطان و صدهم بذلك عن سبيل الله تعالى و ذلك أنهم على علم بأنه لا حجة على شركتها و أن مجرد الدعوى لا ينفعهم لكنهم يريدون بترويج القول بألوهيتها و توجيه قلوب العامة إليها عرض الدنيا و زينتها، و دعوتك إلى سبيل الله مانعة دون ذلك فهم في تصلبهم في عبادتها و دعوة الناس إليها و الحث على الأخذ بها يمكرون بك من وجه و بالناس من وجه آخر و قد زين لهم هذا المكر و هو السبب في جعلهم إياها شركاء لا غير ذلك من حجة أو غيرها و صدوا بذلك عن السبيل.

فهم زين لهم المكر و صدوا به عن السبيل و الذي زين لهم و صدهم هو الشيطان بإغوائهم، و أضلوا و الذي أضلهم هو الله سبحانه بإمساك نعمة الهدى منهم و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ أشق‏ أفعل من المشقة و واق‏ اسم فاعل من الوقاية بمعنى الحفظ.

و في الآية إيجاز القول فيما وعد الله الذين كفروا من العذاب في الآيات السابقة، و في

 

 

 

 قوله: ﴿وَ مَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَاقٍ نفي الشفاعة و تأثيرها في حقهم أصلا، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَ ظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ المثل‏ هو الوصف يمثل الشي‏ء.

و في قوله: ﴿مَثَلُ اَلْجَنَّةِ إلخ بيان ما خص الله به المتقين من الوعد الجميل مقابلة لما أوعد به الذين كفروا و ليكون تمهيدا لما يختم به القول من الإشارة إلى محصل سعي الفريقين في مسيرهم إلى ربهم و رجوعهم إليه و قد قابل الذين كفروا بالمتقين إشارة إلى أن الذين ينالون هذه العاقبة الحسنى هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون المؤمنين من غير عمل صالح فإنهم مؤمنون بالله كافرون بآياته.

و من لطيف الإشارة في الكلام المقابلة بين المؤمنين و المشركين أولا بتعبير «المتقون و الذين كفروا» و أخيرا بقوله «الذين اتقوا و الكافرون» و لعل فيه تلويحا إلى أن الفعل الماضي و الصفة هاهنا واحد مدلولا و مجموع أعمالهم في الدنيا مأخوذ عملا واحدا، و لازم ذلك أن يكون تحقق العمل و صدور الفعل مرة واحدة عين اتصافهم به مستمرا، و يفيد حينئذ قولنا: «الكافرون و المتقون» الدالان على ثبوت الاتصاف و قولنا: «الذين كفروا و الذين اتقوا» الدالان على تحقق ما للفعل مفادا واحدا، و هو قصر الموصوف على صفته، و أما من تبدل عليه العمل كأن تحقق منه كفر أو تقوى ثم تبدل بغيره و لم يختتم له العمل بعد فهو خارج عن مساق الكلام فافهم ذلك.

و اعلم أن في الآيات السابقة وجوها مختلفة من الالتفات كقوله: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ ثم قوله: ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ ثم قوله: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثم قوله ﴿وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ و الوجه فيه غير خفي فالتعبير بمثل ﴿أَرْسَلْنَاكَ للدلالة على أن هناك وسائط كملائكة الوحي مثلا. و التعبير بمثل ﴿بَلْ لِلَّهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً للدلالة على رجوع كل أمر ذي وسط أو غير ذي وسط إلى مقام الألوهية القيوم على كل شي‏ء، و التعبير بمثل ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ للدلالة على أنه لا واسطة في الحقيقة يكون شريكا أو شفيعا كما يدعيه المشركون.

ثم قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكَافِرِينَ اَلنَّارُ إشارة إلى خاتمة أمر

 

 

 

 الفريقين و عقباهما كما تقدم و به يختتم البحث في المؤمنين و المشركين من حيث آثار الحق و الباطل في عقيدتهما و أعمالهما، فقد عرفت أن هذه الآيات التسع التي نحن فيها من تمام الآيات العشر السابقة المبتدئة بقوله: ﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً الآية.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن خالد بن نجيح عن جعفر بن محمد (عليه السلام): في قوله: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ فقال بمحمد ص تطمئن القلوب و هو ذكر الله و حجابه.

 أقول: و في كلامه تعالى: ﴿قَدْ أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لأصحابه حين نزلت هذه الآية: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ أ تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: من أحب الله و رسوله و أحب أصحابي.

 و في تفسير العياشي، عن ابن عباس: أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ ثم قال لي: أ تدري يا بن أم سليم من هم؟ قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: نحن أهل البيت و شيعتنا.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما نزلت هذه الآية ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اَللَّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ قال: ذاك من أحب الله و رسوله و أحب أهل بيتي صادقا غير كاذب و أحب المؤمنين شاهدا و غائبا ألا بذكر الله يتحابون.

 أقول: و الروايات جميعا من باب الانطباق و الجري فإن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الطاهرون من أهل بيته و الخيار من الصحابة و المؤمنين من مصاديق ذكر الله لأن الله يذكر بهم، و الآية الكريمة أعم دلالة.

 و في تفسير القمي، عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث الإسراء بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: فإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟

 

 

 

فقال: هذه شجرة طوبى قال الله تعالى: ﴿طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ﴾.

 أقول: و هذا المعنى مروي في روايات كثيرة و في عدة منها: أن جبرئيل ناولني منها ثمرة فأكلتها فحول الله ذلك إلى ظهري فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلت فاطمة إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.

 و في كتاب الخرائج، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يا فاطمة إن بشارة أتتني من ربي في أخي و ابن عمي أن الله عز و جل زوج عليا بفاطمة و أمر رضوان خازن الجنة فهز شجرة طوبى فحملت رقاعا بعدد محبي أهل بيتي فأنشأ ملائكة من نور و دفع إلى كل ملك خطا فإذا استوت القيامة بأهلها فلا تلقى الملائكة محبا لنا إلا دفعت إليه صكا فيه براءة من النار:.

أقول: و في تفسير البرهان، عن المرفق بن أحمد في كتاب المناقب بإسناده عن بلال بن حمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله و روي هذا المعنى أيضا عن أم سلمة و سلمان الفارسي و علي بن أبي طالب: و فيها أن الله لما أن أشهد على تزوج فاطمة من علي بن أبي طالب ملائكته أمر شجرة طوبى أن ينثر حملها و ما فيها من الحلي و الحلل فنثرت الشجرة ما فيها و التقطته الملائكة و الحور العين لتهادينه و تفتخرن به إلى يوم القيامة و روي أيضا ما يقرب منه عن الرضا (عليه السلام).

 و في المجمع، روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة و في دار كل مؤمن منها غصن. قال: و رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام).

 و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي يرفع الإسناد إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن طوبى فقال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي و فرعها على أهل الجنة فقالوا: يا رسول الله سألناك فقلت: أصلها في داري و فرعها على أهل الجنة فقال: داري و دار علي واحدة في الجنة بمكان واحد:.

أقول: و رواه أيضا في المجمع، بإسناده عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): مثله.

 

 

 

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و الظاهر أن الروايات غير ناظرة إلى تفسير الآية، و إنما هي ناظرة إلى بطنها دون ظهرها فإن حقيقة المعيشة الطوبى هي ولاية الله سبحانه و علي (عليه السلام) صاحبها و أول فاتح لبابها من هذه الأمة و المؤمنون من أهل الولاية أتباعه و أشياعه، و داره (عليه السلام) في جنة النعيم و هي جنة الولاية و دار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحدة لا اختلاف بينهما و لا تزاحم فافهم ذلك.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله: ﴿وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قال: هذا لما كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا نكتب الرحمن و ما ندري ما الرحمن؟ و ما نكتب إلا باسمك اللهم فأنزل الله: ﴿وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ:.

أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن قتادة و أنت تعلم أن الآيات على ما يعطيه سياقها مكية و صلح الحديبية من حوادث ما بعد الهجرة. على أن سياق الآية وحدها أيضا لا يساعد على نزول جزء من أجزائها في قصة و تقطعه عن الباقي.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان (عليه السلام) يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله تعالى: ﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ الآية إلى قوله:

﴿أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قال: أ فلم يتبين الذين آمنوا.

قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال: عن سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). أقول: و فيما يقرب من هذا المضمون روايات أخرى.

و في تفسير القمي، قال :لو كان شي‏ء من القرآن كذلك لكان هذا.

 و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن أبي زاهر أو غيره عن محمد بن حماد عن

 

 

 

 أخيه أحمد بن حماد عن إبراهيم عن أبيه عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في حديث: و إن الله يقول في كتابه: ﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‏ و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال و تقطع به البلدان و يحيى به الموتى. الحديث.

أقول: و الحديثان ضعيفان سندا.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: أنه قرأ: «أ فلم يتبين الذين آمنوا»:.

أقول: و روي هذه القراءة أيضا عن ابن عباس.

 و في المجمع،: قرأ علي (عليه السلام) و ابن عباس و علي بن الحسين (عليه السلام) و زيد بن علي و جعفر بن محمد (عليه السلام) و ابن أبي مليكة و الجحدري و أبو يزيد المدني: أ فلم يتبين و القراءة المشهورة:

أ فلم ييأس.

 و في تفسير القمي، قال و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ و هي النقمة ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به و الذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم و لا يتعظ بعضهم ببعض و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر، و يخزي الله الكافرين.

[سورة الرعد ١٣): الآیات ٣٦ الی ٤٢]

﴿وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ ٣٦ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ وَاقٍ ٣٧ وَ لَقَدْ

 

 

 

﴿أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ٣٨ يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ ٣٩ وَ إِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسَابُ ٤٠ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٤١ وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدَّارِ ٤٢

(بيان)

تتمة الآيات السابقة و تعقب قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ إلى آخر الآية.

الظاهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود و النصارى أو هم و المجوس فإن هذا هو المعهود من إطلاقات القرآن و السورة مكية و قد أثبت التاريخ أن اليهود ما كانوا يعاندون النبوة العربية في أوائل البعثة و قبلها ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة و قد دخل جمع منهم في الإسلام أوائل الهجرة و شهدوا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كونه مبشرا به في كتبهم كما قال تعالى: ﴿وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ : الأحقاف: ١٠.

و أنه كان من النصارى يومئذ قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الإسلام كقوم من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة و جمع من غيرهم، و قد قال تعالى في

 

 

 

 أمثالهم: ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ: القصص: ٥٢ و قال: ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ: الأعراف: ١٥٩ و كذا كانت المجوس ينتظرون الفرج بظهور منج ينشر الحق و العدل و كانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون.

فالظاهر أن يكونوا هم المعنيون بالآية و خاصة المحقون من النصارى و هم القائلون بكون المسيح بشرا رسولا كالنجاشي و أصحابه، و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله:

﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا فإنه أنسب أن يخاطب به النصارى.

و قوله: ﴿وَ مِنَ اَلْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ اللام للعهد أي و من أحزاب أهل الكتاب من ينكر بعض ما أنزل إليك و هو ما دل منه على التوحيد و نفي التثليث و سائر ما يخالف ما عند أهل الكتاب من المعارف و الأحكام المحرفة.

و قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ وَ لاَ أُشْرِكَ بِهِ دليل على أن المراد من البعض الذي ينكرونه ما يرجع إلى التوحيد في العبادة أو الطاعة و قد أمره الله أن يخاطبهم بالموافقة عليه بقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ: آل عمران: ٦٤.

ثم تمم الكلام بقوله: ﴿إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ أي مرجعي فكان أول الكلام مفصحا عن بغيته في نفسه و لغيره، و آخره عن سيرته أي أمرت لأعبد الله وحده في عملي و دعوتي، و على ذلك أسير بين الناس فلا أدعو إلا إليه و لا أرجع في أمر من أموري إلا إليه فذيل الآية في معنى قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ: يوسف: ١٠٨.

و يمكن أن يكون المراد بقوله: ﴿وَ إِلَيْهِ مَآبِ المعاد و يفيد حينئذ فائدة التعليل أي إليه أدعوه وحده لأن مآبي إليه وحده.

و قد فسر بعضهم الكتاب في الآية بالقرآن و الذين أوتوا الكتاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأحزاب بالأعراب الذين تحزبوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أداروا عليه الدوائر من قريش و سائر القبائل.

 

 

 

و فيه أنه خلاف المعهود من إطلاق القرآن لفظة: ﴿اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ على أن ذلك يؤدي إلى كون الآية مشتملة على معنى مكرر.

و ربما ذكر بعضهم أن المراد بهم اليهود خاصة و الكتاب هو التوراة و المراد بإنكار بعض أحزابهم بعض القرآن و هو ما لا يوافق أحكامهم المحرفة مع أن الجميع ينكرون ما لا يوافق ما عندهم إنكاره من غير فرح و أما الباقون فكانوا فرحين و منكرين و قد أطالوا البحث عن ذلك.

و عن بعضهم: أن المراد بالموصول عامة المسلمين، و بالأحزاب اليهود و النصارى و المجوس، و عن بعضهم أن تقدير قوله: ﴿وَ إِلَيْهِ مَآبِ و إليه مآبي و مآبكم. و هذه أقوال لا دليل من اللفظ على شي‏ء منها و لا جدوى في إطالة البحث عنها.

قوله تعالى ﴿وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اَللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ وَاقٍ الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ إلى الكتاب المذكور في الآية السابقة و هو جنس الكتاب النازل على الأنبياء الماضين كالتوراة و الإنجيل.

و المراد بالحكم هو القضاء و العزيمة فإن ذلك هو شأن الكتاب النازل من السماء المشتمل على الشريعة كما قال: ﴿وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ: البقرة: ٢١٢ فالكتاب حكم إلهي بوجه و حاكم بين الناس بوجه فهذا هو المراد بالحكم دون الحكمة كما قيل.

و قوله: ﴿عَرَبِيًّا صفة لحكم و إشارة إلى كون الكتاب بلسان عربي و هو لسانه (ص) سنة الله التي قد خلت في عباده، قال تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ: إبراهيم: ٤ و هذا كما لا يخفى من الشاهد على أن المراد بالمذكورين في الآية السابقة اليهود و النصارى، و أن هذه الآيات متعرضة لشأنهم كما كانت الآيات السابقة عليها متعرضة لشأن المشركين.

و على هذا فالمراد بقوله: ﴿وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ إلخ، النهي عن اتباع أهواء أهل الكتاب، و قد ذكر في القرآن من ذلك شي‏ء كثير، و عمدة ذلك أنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية غير القرآن كما كان المشركون يقترحونها، و كانوا يطمعون أن يتبعهم فيما عندهم من الأحكام لإحالتهم النسخ في الأحكام، و هذان الأمران و لا سيما

 

 

 

 أولهما عمدة ما تتعرض له هذه الآيات.

و المعنى: و كما أنزلنا على الذين أوتوا الكتاب كتابهم أنزلنا هذا القرآن عليك بلسانك مشتملا على حكم أو حاكما بين الناس و لئن اتبعت أهواء أهل الكتاب فتمنيت أن ينزل عليك آية غير القرآن كما يقترحون أو داهنتهم و ملت إلى اتباع بعض ما عندهم من الأحكام المنسوخة أو المحرفة أخذناك بالعقوبة و ليس لك ولي يلي أمرك من دون الله و لا واق يقيك منه فالخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو المراد به دون الأمة كما ذكره بعضهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ لما نهى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن اتباع أهوائهم فيما اقترحوا عليه من إنزال آية غير القرآن ذكره بحقيقة الحال التي تؤيسه من الطمع في ذلك و يعزم عليه أن يتوكل على الله و يرجع إليه الأمور.

و هو أن سنة الله الجارية في الرسل أن يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتي بكل آية شاءت إلا أن يأذن الله له فليس للرسول و هو بشر كسائرهم من الأمر شي‏ء بل لله الأمر جميعا.

فهو الذي ينزل الآية إن شاء غير أنه سبحانه إنما ينزل من الآيات إذا اقتضته الحكمة الإلهية و ليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم و المصالح و إلا لبطلت الحكمة و اختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه و حكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه.

و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَ ذُرِّيَّةً إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية، و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة بكل ما أرادت إلا أن يمدهم الإذن الإلهي.

و قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ أي وقت محدود ﴿كِتَابٌ أي حكم مقضي مكتوب يخصه إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الإذن و سنة الله الجارية فيه، و التقدير فالله سبحانه هو الذي ينزل ما شاء و يأذن فيما شاء لكنه لا ينزل و لا يأذن في كل آية في كل وقت فإن لكل وقت كتابا كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه.

 

 

 

 و مما تقدم يظهر أن ما ذكره بعضهم أن قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ من باب القلب و أصله: لكل كتاب أجل أي إن لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل فيه و يعمل عليه فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و للقرآن وقت. وجه لا يعبأ به.

قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ محو الشي‏ء هو إذهاب رسمه و أثره يقال: محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط و الرسوم قال تعالى:

﴿وَ يَمْحُ اَللَّهُ اَلْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ: الشورى: ٢٤ أي يذهب بآثار الباطل كما قال:

﴿فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً و قال: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً: أسرى: ١٢ أي أذهبنا أثر الإبصار من الليل فالمحو قريب المعنى من النسخ‏

يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت بأثره و رسمه.

و قد قوبل المحو في الآية بالإثبات و هو إقرار الشي‏ء في مستقره بحيث لا يتحرك و لا يضطرب يقال: أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك و لا يخرج من مركزه فالمحو هو إزالة الشي‏ء بعد ثبوته برسمه و يكثر استعماله في الكتاب.

و وقوع قوله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ بعد قوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ و اتصاله به من جانب و بقوله: ﴿وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ من جانب ظاهر في أن المراد محو الكتب و إثباتها في الأوقات و الآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الأجل الثاني و أثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب و يثبت كتاب آخر.

و إذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية و كل شي‏ء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية و يثبت آية كما يشير إليه قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا : البقرة: ١٠٦، و قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الآية: النحل: ١٠١.

فقوله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ على ما فيه من الإطلاق يفيد فائدة التعليل لقوله: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ و المعنى أن لكل وقت كتابا يخصه فيختلف فاختلاف الكتب باختلاف الأوقات و الآجال إنما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها

 

 

 

 في أنفسها و من ذواتها بأن يتعين لكل أجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب و محو كتاب و إثبات آخر.

و قوله: ﴿وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ أي أصله فإن الأم‏ هي الأصل الذي ينشأ منه الشي‏ء و يرجع إليه، و هو دفع للدخل و إبانة لحقيقة الأمر فإن اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات أي تغير الحكم المكتوب و القول المقضي به حينا بعد حين ربما أوهم أن الأمور و القضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة و إنما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو أن حكمه جزافي لا تعين له في نفسه و لا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة أن الذي له ملك بكسر اللام مطلق و سلطنة مطلقة له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرية مطلقة من رعاية أي قيد و شرط و سلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشي‏ء من أفعاله و قضاياه عنده، و قد قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ: ق: ٢٩، و قال: ﴿وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ: الرعد: ٨ إلى غير ذلك من الآيات.

فدفع هذا الدخل بقوله: ﴿وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات لكان مثلها لا أصلا لها و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجية مثلنا و الله يحكم لا معقب لحكمه.

و إما غير تابع لشي‏ء أصلا و هو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة و التدبير العام الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته، قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ: الدخان: ٣٩.

فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت و أجل كتابا أي حكما و قضاء و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء أي يغير القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير و لا يقبل المحو و الإثبات و هو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الآخر و تنشأ منه فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو.

 

 

 

 و يتبين بالآية أولا: أن حكم المحو و الإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال و الأوقات و هو جميع ما في السماوات و الأرض و ما بينهما، قال تعالى: ﴿مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى: الأحقاف: ٣.

و ذلك لإطلاق قوله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ و اختصاص المورد بآيات النبوة لا يوجب تخصيص الآية لأن المورد لا يخصص.

و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن ذلك في الأحكام و هو النسخ و قول ثان: إن ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله و يثبت مكانها طاعة أو معصية مما فيه الجزاء، و قول ثالث: إنه محو ذنوب المؤمنين فضلا و إثبات ذنوب للكفار عقوبة، و قول رابع: إنه في موارد يؤثر فيها الدعاء و الصدقة في المحن و المصائب و ضيق المعيشة و نحوها، و قول خامس: إن المحو إزالة الذنوب بالتوبة و الإثبات تبديل السيئات حسنات، و قول سادس: إنه محو ما شاء الله من القرون و الإثبات إنشاء قرون آخرين بعدهم، و قول سابع: إنه محو القمر و إثبات الشمس و هو محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة، و قول ثامن: إنه محو الدنيا و إثبات الآخرة، و قول تاسع: إن ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها الله فيرسل من يشاء منهم و يمسك من يشاء، و قول عاشر: إن ذلك في الآجال المكتوبة في ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها و يثبت ما يشاء.

فهذه و أمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة و للآية إطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، و ما من شي‏ء قيس إلى زمانين في وجوده إلا لاح التغير في ذاته و صفاته و أعماله، و في عين الحال إذا اعتبرت في نفسها و بحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة فإن الشي‏ء لا يتغير عما وقع عليه.

فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت و الحياة و الزوال و البقاء و أنواع الحيلولة و التبدل، و جهة ثبات لا تتغير عما هي عليها و هما إما نفس كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب، و إما أمران مترتبان على الكتابين و على أي حال تقبل الآية الصدق على هاتين الجهتين.

 

 

 

و ثانيا: أن لله سبحانه في كل شي‏ء قضاء ثابتا لا يتغير و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغيير و استدل عليه بمتفرقات الروايات و الأدعية الدالة[1] على ذلك و الآيات و الأخبار الدالة على أن الدعاء و الصدقة يدفعان سوء القضاء. و فيه أن ذلك في القضاء غير المحتوم.

و ثالثا: أن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير و غير متغير و ستستوفي تتمة البحث في الآية عن قريب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسَابُ ﴿إِنْ مَا هو إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد و الدليل عليه دخول نون التأكيد في الفعل بعده.

و في الآية إيضاح لما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الوظيفة و هو الاشتغال بأمر الإنذار و التبليغ فحسب فلا ينبغي له أن يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم.

و في الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجري في الدنيا كما يجري في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا إلخ كلام مسوق للعبرة بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك، و منه يعلم أن إتيان الأرض و نقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة و الإهلاك فالآية نظيرة قوله: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ: الأنبياء: ٤٤.

و قول بعضهم إن المراد به أ و لم ير أهل مكة أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا أن نفتح بلدتهم و ننتقم منهم يدفعه أن السورة مكية و تلك الفتوحات إنما كانت تقع بعد الهجرة. على أن الآيات بوعيدها ناظرة إلى هلاكهم بغزوة بدر و غيرها لا إلى فتح مكة.

 

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ يريد به أن الغلبة لله سبحانه فإنه يحكم و ليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع و الرد و هو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالإخلال فقوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ إلخ في معنى قوله في ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة: ﴿أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً إلى آخر الآية. أي و قد مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم و لم يقدروا على صدنا من أن نأتي الأرض فننقصها من أطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله و يبطله و يرده إلى أهله فليعتبروا.

و قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فإن المكر إنما يتم مع جهل الممكور به و أما إذا علم به فعنده بطلانه.

و قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدَّارِ قطع للحجاج بدعوى أن مسألة انتهاء الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع و سيشهدونها شهود عيان فلا حاجة إلى الإطالة و الإطناب في إعلامهم ذلك فسيعلمون.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال :قالت قريش حين أنزل: ﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ: ما نراك يا محمد تملك من شي‏ء و لقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم و وعيدا لهم ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا. أقول: و الآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى، و في ذيل هذا الحديث و يحدث الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء و يثبت من أرزاق الناس و مصائبهم و ما يعطيهم و ما يقسم لهم، و في رواية أخرى عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية: قال: يمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يزيد فيه. و هذا من قبيل التمثيل و الآية أعم.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قوله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ

 

 

 

 مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ قال: ذلك كل ليلة القدر يرفع و يخفض و يرزق غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة فإن ذلك لا يزول. أقول: و الرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) و الصحابة تخالف إطلاق الآية و حجة العقل، و مثلها ما عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : يمحو الله ما يشاء و يثبت إلا الشقوة و السعادة و الحياة و الموت‏ و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هذه الآية فقال له: لأقرن عينيك بتفسيرها و لأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها. الصدقة على وجهها و بر الوالدين و اصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر و يقي مصارع السوء. أقول: و الرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية.

 و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم و حفص بن البختري و غيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام): في هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ قال: فقال: و هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟ و هل يثبت إلا ما لم يكن؟:

أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (عليه السلام).

 و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال. سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة و من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته.

 أقول: و روي بطريق آخر و كذا في الكافي بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام) ما في معناه.

 و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان و بما يكون إلى يوم القيامة فقلت له. أية آية؟ فقال:

قال الله: ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ. أقول: معناه أن اللائح من الآية أن الله سبحانه لا يريد من خلقه إلا أن يعيشوا على

 

 

 

 جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية و سياقة من الخوف و الرجاء، و ظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين الرواية و ما قبلها.

 و فيه، عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كتب كتابا فيه ما كان و ما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم و ما شاء منه أخر و ما شاء منه محى و ما شاء منه كان و ما لم يشأ لم يكن.

 و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب، و قال: كل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، و ليس شي‏ء يبدو له إلا و قد كان في علمه أن الله لا يبدو له من جهل.

 أقول: و الروايات في البداء عنهم (عليه السلام) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه خبر واحد.

و الرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك، و إنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا فهو محو الأول و إثبات الثاني و الله سبحانه عالم بهما جميعا.

و هذا مما لا يسع لذي لب إنكاره فإن للأمور و الحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، و وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها و عللها التامة و هو ثابت غير موقوف و لا متخلف، و الكتابان أعني كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب إما أن يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء اللتان إحداهما تقبل المحو و الإثبات و الأخرى لا تقبل إلا الثبات. و إما أن يكونا عين تينك المرحلتين، و على أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه.

و الذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت

 

 

 

(عليه السلام) و نفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي و لهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما هو دأب الكتاب و من الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الأخبار فيه تعالى.

 و في الدر المنثور، أخرج الحاكم عن أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ ﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ مخففة. و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله:

﴿نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا قال: ذهاب العلماء. و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ننقصها بذهاب علمائها و فقهائها و أخيارها. و في الكافي، بإسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

كان علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: إنه ليسخي نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول الله عز و جل: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فقال: فقد العلماء.

أقول: كأن المراد أنه يسخي نفسي أن الله تعالى نسب توفي العلماء إلى نفسه لا إلى غيره فيهنأ لي الموت أو القتل.

[سورة الرعد ١٣): آیة ٤٣]

﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ ٤٣

 

 

 

 (بيان)

الآية خاتمة السورة و تعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: ﴿وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ و هي كرة ثالثة على منكري حقية كتاب الله يستشهد فيها بأن الله يشهد على الرسالة و من حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً إلخ بناء الكلام في السورة على إنكارهم حقية الكتاب و عدم عدهم إياه آية إلهية للرسالة و لذا كانوا يقترحون آية غيره كما حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة و أجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم إذعانهم بما أنزل الله من آية و عدم إجابتهم فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون: ﴿لَسْتَ مُرْسَلاً.

فلقن الله نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة عليهم لرسالته بقوله: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ و هو حجة قاطعة و ليس بكلام خطابي و لا إحالة إلى ما لا طريق إلى حصول العلم به.

فقوله: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ استشهاد بالله سبحانه و هو ولي أمر الإرسال و إنما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فإن أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ عَلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ من آيات القرآن و كونه آية معجزة من الله ضروري، و كونه قولا و كلاما له سبحانه ضروري و اشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على علم ضروري أيضا ضروري، و لا نعني بشهادة التأدية إلا ذلك.

و من فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة و الحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: و تسمية ذلك شهادة مع أنه فعل و هي قول من المجاز حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها. انتهى. فقد قصد المطلوب من غير طريقه.

و ذلك أن الأدلة و الحجج الدالة على حقية رسالته (ص) إما القرآن و هو الآية

 

 

 

 المعجزة الخالدة، و إما غيره من الخوارق و المعجزات و آيات السورة كما ترى لا تجيب الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني و لا معنى حينئذ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه، و أما القرآن فمن البين أن الاستناد إليه من جهة أنه معجزة تصدق الرسالة بدلالتها عليها أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة، و إذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاما له تعالى يدل على حقية الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى كونه دليلا فعليا منه عليها سمي مجازا بالشهادة؟.

على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع.

فقد تحصل أن معنى قوله: ﴿اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أن ما وقع في القرآن من تصديق الرسالة شهادة إلهية بذلك.

و أما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه إفساد المعنى من أصله و أي معنى لإرجاع أمر متنازع فيه إلى علم الله و اتخاذ ذلك حجة على الخصم و لا سبيل له إلى ما في علم الله في أمره؟ أ هو كما يقول أو فرية يفتريها على الله؟.

و قوله: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ أي و كفى بمن عنده علم الكتاب شهيدا بيني و بينكم، و قد ذكر بعضهم أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ و يتعين على هذا أن يكون المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا «إلخ».

و فيه أولا أنه خلاف ظاهر العطف، و ثانيا أنه من عطف الذات مع صفته إلى نفس الذات و هو قبيح غير جائز في الفصيح و لذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف، هذا القول عن الحسن بقوله: و عن الحسن: «لا و الله ما يعني إلا الله» قال بعده: و المعنى كفى بالذي يستحق العبادة و بالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني و بينكم. انتهى فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة ﴿بِاللَّهِ من «الذي يستحق العبادة» و تبديل ﴿مَنْ من «الذي» ليعود المعطوف و المعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد وصفي الذات على الآخر و إناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم ذلك.

لكن من المعلوم أن تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك

 

 

 

 في اللفظ الأول و إلا لبطلت أحكام الألفاظ.

على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة و أن المراد به تصديق القرآن لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يعطي أن وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل لإسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لأن شهادته أكبر الشهادات قال سبحانه: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اَللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ.

و ذكر آخرون: أن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل أو خصوص التوراة و المعنى و كفى بعلماء الكتاب شهداء بيني و بينكم لأنهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء في و يقرءون نعتي في الكتاب.

و فيه أن الذي أخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم، و السورة مكية و لم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل و لا شهد للرسالة بشي‏ء فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد.

و قيل: المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و سلمان الفارسي، و قيل هو عبد الله بن سلام، و رد بأن السورة مكية و هؤلاء إنما أسلموا بالمدينة.

و للقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم: إن مكية السورة لا تنافي كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز أن تكون هذه الآية مدنية مع كون السورة مكية.

و فيه أولا: أن مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل عليه. على أن الجمهور نصوا على أنها مكية كما نقل عن البحر.

و ثانيا: أن ذلك إنما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة و أما في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لإرجاء

 

 

 

 بعض الكلام المرتبط الأجزاء إلى أمد غير محدود.

و قال بعضهم: إن كون الآية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به.

و فيه أن ذلك يوجب رداءة الحجة و سقوطها فأي معنى لأن يحتج على قوم يقولون:

﴿لَسْتَ مُرْسَلاً فيقال: صدقوا به اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به.

و قال بعضهم: إن هذه الشهادة شهادة تحمل لا يستلزم إيمان الشهيد حين الشهادة فيجوز أن تكون الآية مكية و المراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود و النصارى و إن لم يؤمنوا حين نزول الآية.

و فيه أن المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب و إن لم يعترفوا به و لم يؤمنوا، و لو كان كذلك لكان المتعين أن يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فإن الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله و لا يكون ذلك إلا عن علمهم به فما الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم و هم مشتركون في الكفر بالرسالة و نفيها على أنه تقدم أن الشهادة في الآية ليست إلا شهادة أداء دون التحمل.

و قال بعضهم: و هو ابن تيمية و قد أغرب أن الآية مدنية بالاتفاق. و هو كما ترى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالكتاب القرآن الكريم، و المعنى أن من تحمل هذا الكتاب و تحقق بعلمه و اختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله و أني مرسل به فيعود مختتم السورة إلى مفتتحها من قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ و ينعطف آخرها على أولها و على ما في أواسطها من قوله: ﴿أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ.

و هذا في الحقيقة انتصار و تأييد منه تعالى لكتابه قبال ما أزرى به و استهانه الذين كفروا حيث قالوا: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مرة بعد مرة و ﴿لَسْتَ مُرْسَلاً فلم يعبئوا بأمره و لم يبالوا به و أجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة و لم يتعرض لأمر القرآن و لم يذكر أنه أعظم آية للرسالة و كان من الواجب ذلك فقوله: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي

 

 

 

 وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه و هذا من أحسن الشواهد على ما تقدم أن الآية كسائر السورة مكية.

و بهذا يتأيد ما ذكره جمع و وردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الآية نزلت في علي (عليه السلام) فلو انطبق قوله: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ على أحد ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يومئذ لكان هو فقد كان أعلم الأمة بكتاب الله و تكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك و لو لم يرد فيه إلا قوله (ص) في حديث‏[2] الثقلين المتواتر من طرق الفريق: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» لكان فيه كفاية.

(بحث روائي)

 في البصائر، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول: في الآية: علي (عليه السلام):.

أقول: و رواه أيضا بأسانيد عن جابر و بريد بن معاوية و فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن عبد الله بن بكير و عبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و بإسناده عن سلمان الفارسي عن علي (عليه السلام).

 و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية: في الآية قال: إيانا عنى و علي أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و في المعاني، بإسناده عن خلف بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت

 

 

 

 رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قول الله جل ثناؤه: ﴿قَالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتَابِ قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود فقلت له: يا رسول الله فقول الله: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ قال ذاك أخي علي بن أبي طالب.

 و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هذا ابن عبد الله بن سلام بن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ قال: كذب، هو علي بن أبي طالب.

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب قال: عن محمد بن مسلم و أبي حمزة الثمالي و جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام) و علي بن فضال و فضيل بن داود عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و أحمد بن محمد الكلبي و محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) و قد روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و عن زيد بن علي و عن محمد بن الحنفية و عن سلمان الفارسي و عن أبي سعيد الخدري و إسماعيل السدي أنهم قالوا: في قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس و روي عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر: أنه قيل له: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال: لا ذلك علي بن أبي طالب.

 و روي: أنه سئل سعيد بن جبير ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ عبد الله بن سلام؟ قال: لا و كيف؟ و هذه السورة مكية:.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن جبير.

 و في تفسير البرهان، أيضا عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال يا أبا مريم حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر. قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام. قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ

 

 

 

 عِلْمُ اَلْكِتَابِ ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال :قال عبد الله بن سلام: قد أنزل الله في القرآن ﴿قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ. أقول: و روي ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه و عن جندب، و قد عرفت حال الرواية فيما تقدم، و قد روي عن ابن المنذر عن الشعبي :ما نزل في عبد الله بن سلام شي‏ء من القرآن. تم و الحمد لله.

 

 

 

فهرس ما في هذا الجزء من أمهات المطالب

 

 

 

 

[1]  و في الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام و كذا عن بعض الصحابة «اللهم إن كنت كتبت اسمي في الأشقياء فامحني من الأشقياء و اكتبني في السعداء» أو ما يقرب منه.

[2]  و هو الحديث المعروف الذي رواه الفريقان عن جم غفير من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)لى الله عليه و آله «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا». الحديث.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215194

  • التاريخ : 3/02/2025 - 19:55

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net