(بحث روائي)
في التوحيد والخصال باسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن اعرابيا قام يوم الجمل إلى امير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إن الله واحد ؟ قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا اعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوة فإن الذى يريده الاعرابي هو الذى نريده من القوم !. ثم قال: يا اعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الاعداد، فهذا ما لا يجوز، لان ما لا ثانى له لا يدخل في
[ 92 ]
باب الاعداد أما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة ؟ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الاشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: إنه عزوجل احدى المعنى يعنى به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عزوجل. اقول: ورواه أيضا في المعاني بسند آخر عن أبى المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه عليه السلام. وفي النهج: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف انه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده (الخطبة). اقول: وهو من ابدع البيان، ومحصل الشطر الاول من الكلام ان معرفته تنتهى في استكمالها إلى نفى الصفات عنه، ومحصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الاول - أعنى قوله عليه السلام: فمن وصف الله فقد قرنه (إلخ) - أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، وتنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفى الوحدة العددية منه، وإثبات الوحدة بمعنى آخر، وهو مراده عليه السلام من سرد الكلام. أما مسألة نفى الصفات عنه فقد بينه عليه السلام بقوله: " أول الدين معرفته " لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه ولو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين والمعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الافعال وترتب آثار المعروف، وربما كانت من غير عمل، ومن المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالاعمال إنما يثبت ويستقر في النفس إذا ترتب عليه آثاره العملية، وإلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الاعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، ومن كلامه عليه السلام في هذا الباب - وقد رواه في النهج -: " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ".
[ 93 ]
فالعلم والمعرفة بالشئ إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، وأظهر ذلك في باطنه وظاهره، وجنانه وأركانه بأن يخضع له روحا وجسما، وهو الايمان المنبسط على سره وعلانيته، وهو قوله: " وكمال معرفته التصديق به ". ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به وإن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الاصنام لله ولسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشئ لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الالهة في معنى الاعراض عن غيره والاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله والخضوع لمقامه إلا بالاعراض عن عبادة الشركاء، والانصراف عن دعوة الالهة الكثيرة، وهو قوله: " وكمال التصديق به توحيده. ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، ولا يكمل حتى يعطى الاله الواحد حقه من الالوهية المنحصرة، ولا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود والكمال كالخلق والرزق والاحياء والاماتة والاعطاء والمنع، وأن يخص الخضوع والعبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، ولا يخاف إلا سخطه، ولا يطمع إلا فيما عنده، ولا يعكف إلا على بابه. وبعبارة اخرى ان يخلص له علما وعملا، وهو قوله عليه السلام: " وكمال توحيده الاخلاص له ". وإذا استوى الانسان على أريكة الاخلاص، وضمته العناية الالهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، وتوصيفه بما يليق بساحة كبريائه وعظمته فإنه ربما شاهد ان الذى يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الاشياء المصنوعة، وامور الفها من مشهوداته الممكنة، وهى صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، ولا تقبل الائتلاف والامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود والعلم والقدرة والحياة والرزق والعزة والغنى وغيرها. والمعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الاخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، وإذا تصورنا معنى العلم وهو وصف من الاوصاف ننعزل عن
[ 94 ]
معنى الذات وهو الموصوف. فهذه المفاهيم والعلوم والادراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق، وعن حكاية ما هو عليه حق الحكاية، فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، وعجز لا جابر دونه، فيعود فينفي ما أثبته، ويتيه في حيرة لا مخلص منها، وهو قوله عليه السلام: " وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنها غير الصفة. وهذا الذى فسرنا به هذا العقد من كلامه عليه السلام هو الذى يؤيده أول الخطبة حيث يقول: " الذى لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذى ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود " على ما يظهر للمتأمل الفطن. وأما قوله عليه السلام: " فمن وصف الله فقد قرنه " (إلخ)، فهو توصل منه إلى المطلوب - وهو أن الله سبحانه لا حد له ولا عد - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الاول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفى الوصف. فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف والصفة، والجمع بين المتغايرين قرن، ومن قرنه فقد ثناه لاخذه إياه موصوفا وصفة وهما اثنان، ومن ثناه فقد جزأه إلى جزأين، ومن جزأه فقد جهله بالاشارة إليه إشارة عقلية، ومن أشار إليه فقد حده لكون الاشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الاشارة التى هي إيجاد بعد ما بين المشير والمشار إليه - يبتدئ من الاول وينتهى إلى الثاني - " ومن حده فقد عده " وجعله واحدا عدديا لان العدد لازم الانقسام والانعزال الوجودى تعالى الله عن ذلك. وفي النهج: من خطبة له عليه السلام: " الحمد لله الذى لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوى غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنة ما بعد منها وكل بصير غيره يعمى عن خفى الالوان ولطيف الاجسام، وكل ظاهر غيره باطن، وكل باطن غيره ظاهر ".
[ 95 ]
اقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود وكون غيره محدودا فإن هذه المعاني والنعوت وكل ما كان من قبيلها إذا طرا عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها، ويستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع وتزول عما اضيفت إليه، وتتبدل إلى ما يقابلها من المعنى. فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شئ دون جهة اخرى وشئ آخر، وصار الامر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الاخرى والشئ الاخر، والعزة إذا اخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه، والقوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا، والظهور بطون في غير محله، والبطون ظهور في الخارج عن مستواه. والملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك، فهو وملكه تحت ملك غيره، والعلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لان الشئ لا يحد نفسه، فكان بإفاضة الغير وتعليمه، وهكذا. والدليل على أنه عليه السلام بنى بيانه على معنى الحد قوله: " وكل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات " (إلخ)، فإنه وما بعده ظاهر في الاشارة إلى محدودية المخلوقات، والسياق واحد. وأما قوله عليه السلام: وكل مسمى بالوحدة غيره قليل " - والجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمه تقسم المعنى وتكثره، وكلما زاد التقسم والتكثر أمعن الواحد في القلة والضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذى بإزائه ولو بالفرض. وأما الواحد الذى لا حد لمعناه ولا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد وعروض التميز ولا يشذ عن وجوده شئ من معناه حتى يكثره ويقوى بضمه، ويقل ويضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو. وفي النهج: ومن خطبة له عليه السلام: " الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، ولا يحجبه السواتر
[ 96 ]
لافتراق الصانع والمصنوع، والحاد والمحدود، والرب والمربوب، الاحد لا بتأويل عدد، والخالق لا بمعنى حركة ونصب، والسميع لا بأداة، والبصير لا بتفريق آلة، والشاهد لا بمماسة، والبائن لا بتراخى مسافة، والظاهر لا برؤية، والباطن لا بلطافة، بان من الاشياء بالقهر لها والقدرة عليها، وبانت الاشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه، من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله ". اقول: أول كلامه عليه السلام مبنى على أن جميع المعاني والصفات المشهودة في الممكنات امور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها وصانع يصنعها، ورب يربها، وهو الله سبحانه، وإذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود. وإذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد - وإن كان لفظنا قاصرا عنه، والمعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضى بالمحدودية، وعلى هذا النهج خلقه وسمعه وبصره وشهوده وغير ذلك. ومن فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال والانعزال تعالى عن الاتصال والانفصال، والحلول والانعزال، بل بمعنى قهره لها وقدرته عليها، وخضوعهم له ورجوعهم إليه. وقوله عليه السلام: " من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله " فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الازل لان حقيقة الازل كونه تعالى غير متناه في ذاته وصفاته ولا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشئ يتقدم عليه كان هو أزله، وإذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشئ يتأخر عنه كان هو أبده، وربما اعتبر من الجانبين فكان دواما. وأما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق ولا أثر منهم فهو من أشنع الخطأ، وأين الزمان الذى هو مقدار حركة المتحركات والمشاركة معه تعالى في أزله ؟ !. وفي النهج: ومن خطبة له عليه السلام: " الحمد لله خالق العباد، وساطح المهاد،
[ 97 ]
ومسبل الوهاد، ومخصب النجاد، ليس لاوليته ابتداء، ولا لازليته انقضاء، هو الاول لم يزل، والباقى بلا أجل خرت له الجباه، ووحدته الشفاه، حد الاشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الاوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والادوات، لا يقال: متى ؟ ولا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مما ؟ والباطن لا يقال: فيما ؟ لا شبح فيتقضى ولا محجوب فيحوى، لم يقرب من الاشياء بالتصادق، ولم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، ولا كرور لفظة، ولا ازدلاف ربوة، ولا انبساط خطوة في ليل داج، ولا غسق ساج، يتفيؤ عليه القمر المنير، وتعقبه الشمس ذات النور في الافول والكرور وتقلب الازمنة والدهور من إقبال ليل مقبل وإدبار نهار مدبر، قبل كل غاية ومدة، وكل إحصاء وعدة، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الاقدار، ونهايات الاقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الاماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب، لم يخلق الاشياء من اصول أزلية، ولا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده، وصور ما صور فأحسن صورته ". وفي النهج: من خطبة له عليه السلام: " ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة، غنى لا باستفادة، لا تصحبه الاوقات، ولا ترفده الادوات، سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الامور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبلل، والحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبائناتها، مقرب بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الادوات أنفسها، وتشير الالة إلى نظائرها، منعتها " منذ " القدمة، وحمتها " قد " الازلية، وجنبتها " لولا " التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجرى عليه السكون والحركة، وكيف يجرى عليه ما هو أجراه ؟ ويعود فيه ما هو أبداه ؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولا متنع من الازل معناه، ولكان له وراء إذا وجد له أمام ولا لتمس
[ 98 ]
التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ". اقول: أول كلامه عليه السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، ولزمه في جميع ما عداه، وقد تقدم توضيحه الاجمالي فيما تقدم. وقوله: " لا يشمل بحد ولا يحسب بعد " كالنتيجة لما تقدمه من البيان، وقوله: " وإنما تحد الادوات أنفسها، وتشير الالة إلى نظائرها " بمنزلة بيان آخر لقوله: " لا يشمل بحد، الخ " فإن البيان السابق انما سيق من مسلك ان هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات ولا فعل. وأما ما في قوله: " وإنما تحد " " الخ " من البيان فهو مسوق من طريق آخر وهو أن التقدير والتحديد الذى هو شأن هذه الادوات والحدود انما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذى هو واحد الوزن مثلا توزن به الاثقال دون الالوان والاصوات مثلا، والزمان الذى هو مقدار الحركة انما تحد به الحركات، والانسان مثلا انما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الانسانية، وبالجملة كل حد من هذه الحدود يعطى لمحدوده شبيه معناه، وكل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر وحد، وملزومة لامد ونهاية، وكيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية ؟. فهذا هو مراده عليه السلام، ولذلك أردفه بقوله: " منعتها منذ القدمة " (الخ)، أي صدق كلمة " منذ " وكلمة " قد " الدالتين على الحدوث الزمانى، على الاشياء منعتها وحمتها أن تتصف بالقدمة، وكذلك صدق كلمة " لولا " في الاشياء وهى تدل على النقص واقتران المانع جنبتها وبعدتها أن تكون كاملة من كل وجه. وقوله: " بها تجلى صانعها للعقول وبها امتنع من نظر العيون " الضميران للاشياء أي إن الاشياء بما هي آيات له تعالى والاية لا ترى إلا ذا الاية فهى كالمرائي لا تجلى إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول وبها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الايات وهى محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شئ.
[ 99 ]
وهذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، وجلت ساحة رب العزة عن الحد. وقوله عليه السلام: " لا يجرى عليه السكون والحركة " (الخ)، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الافعال والحوادث التى هي تنتهى إلى الحركة والسكون لا تجرى عليه، ولا تعود فيه ولا تحدث فإنها آثاره التى تترتب على تأثيره في غيره، ومعنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، ولا معنى لتأثير الشئ في نفسه إلا بنوع من التجزى والتركيب العارض لذاته كالانسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، ويضرب بيده على رأسه، والطبيب يداوى بطبه مرضه فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الاجزاء أو الحيثيات، ولو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير. فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، والنار لا تحرق ذاتها، وهكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب والتجزئة كما عرفت، وهذا معنى قوله: " إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الازل معناه " (الخ). وقوله عليه السلام: " وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه " أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود والاقدار عليه، والنقص من علائم المصنوعية وامارات الامكان كان (تعالى وتقدس) مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا وكان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلى كامل الوجود غير محدود الذات هو الاله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالى عن أن تناله أيدى الحدود والاقدار. واعلم أن ما يدل عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافى ما يستفاد من سائر كلامه وكلام سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، وغيره معلوم به، وأنه دال على ذاته، وهو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم والدلالة غير الدلالة، وأرجو أن يوفقني الله تعالى لايضاحه وبسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الابحاث الاتية إن شاء الله العزيز. وفي التوحيد بإسناده عن أبى عبد الله عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له " ذعلب " ذرب اللسان، بليغ في
[ 100 ]
الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك ؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لاعبد ربا لم أره !. فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته ؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربى لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شئ لا يقال شئ قبله، وبعد كل شئ لا يقال له بعد، شاء الاشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الاشياء غير متمازج بها ولا بائن عنها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة بصير لا بأداة، لا تحويه الاماكن، ولا تصحبه الاوقات، ولا تحده الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الاشياء عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجسوء بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، وذلك قوله عزو جل: " ومن كل شئ جعلنا زوجين لعلكم تذكرون "، ففرق بها بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه غير خلقه، كان ربا ولا مربوب، وإلها إذ لا مألوه، وعالما إذ لا معلوم، وسميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول:
ولم يزل سيدى بالحمد معروفا * ولم يزل سيدى بالجود موصوفا
وكان إذ ليس نور يستضاء به * ولا ظلام على الافاق معكفا
فربنا بخلاف الخلق كلهم * وكل ما كان في الاوهام موصوفا
الابيات. اقول: وكلامه عليه السلام - كما ترى - مسوق لبيان معنى أحدية الذات في ججميع ما يصدق عليه ويرجع إليه، وأنه تعالى غير متناهى الذات ولا محدودها، فلا يقابل
[ 101 ]
ذاته وإلا لهدده بالتحديد وقهره بالتقدير، فهو المحيط بكل شئ، المهيمن على كل أمر، ولا يلحقه صفة تمتاز ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليته وعدم محدودية. وأن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما ومصداقا، ولا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة وعين كل صفة من صفاته العليا، والاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى. بل إن هنا لك ما هو ألطف معنى وأبعد غورا من ذلك وهو أن هذه المعاني والمفاهيم للعقل بمنزلة الموازين والمكائيل يوزن ويكتال بها الوجود الخارجي والكون الواقعي، فهى حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن وإن ضممنا بعضها إلى بعض، واستمددنا من أحدها للاخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود وهو غيره، وكلما زدنا في الامعان في نيله زاد تعاليا وابتعادا. فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له، وفى هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة والحياة مثلا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا:: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه وهو عدم شموله ما وراءه (ولكل مفهوم وراء يقصر عن شموله) وإضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدى إلى بطلان خاصة المفهومية، وهو ظاهر. وهذا هو الذى يحير الانسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه وعقله، وهو المستفاد من قوله عليه السلام: " لا تحده الصفات " ومن قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة: " وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه " وقوله أيضا في تلك الخطبة: " الذى ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود " وأنت ترى أنه عليه السلام يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفى حدها، ومن المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفى الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، ويؤول إلى أن إثبات شئ من صفات الكمال فيه لا ينفى ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات ولا حد، ثم لا ينفى ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكى عنه، ولا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك.
[ 102 ]
ولو لا أن المفاهيم تسقط عند الاشراف على ساحة عظمته وكبريائه بالمعنى الذى تقدم لامكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، وله علم لا كالعلوم، وقدرة لا كقدرة غيره، وحياة لا كسائر أقسام الحياة، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه وأحاطة به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شئ ؟ أو أن الممنوع هو الاحاطة به تفصيلا، وأما الاحاطة الاجمالية فلا بأس بها ؟ وقد قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " (طه: 110)، وقال: " إلا إنه بكل شئ محيط " (حم السجدة: 54)، والله سبحانه لا يحيط به شئ من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الاحاطة، ولا يقبل ذاته المقدسة إجمالا وتفصيلا حتى يتبعض فيكون لاجماله حكم ولتفصيله حكم آخر فافهم ذلك. وفي الاحتجاج عنه عليه السلام في خطبة: " دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه - ثم قال عليه السلام: - ليس بإله من عرف بنفسه، هو ألدال بالدليل عليه، والمؤدى بالمعرفة إليه ". أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، ولو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفى بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات. وهذا من عجيب المنطق وأبلغ البيان في باب التوحيد الذى يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، ومن ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله عليه السلاام: " وجوده إثباته " يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي انه لا يدخل الذهن، ولا يسعه العقل. قوله: " ما تصور فهو بخلافه " ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فان جميع الاشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهنى أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، ولا ينبغى لك ان تغفل عن انه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعنى تصور انه بخلاف كل تصور. وقوله: " ليس باله من عرف بنفسه " مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق
[ 103 ]
به معرفة، وقهره كل فهم وإدراك، فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا ومعرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا، لكنه تعالى محيط بنا وبمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا ولا معرفتنا عن إحاطة ذاته وشمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل. وبين عليه السلام ذلك بقوله: " هو الدال بالدليل عليه والمؤدى بالمعرفة إليه " أي إنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه، ويؤدى المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى وسلطانه على كل شئ، فكيف يمكن لشئ أن يهتدى إلى ذاته ليحيط به وهو محيط به وباهتدائه. وفي المعاني باسناده عن عمر بن على عن على عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " التوحيد ظاهره في باطنه، وباطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، وباطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، ولم يخل عنه مكان طرفه عين، حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود ". أقول: كلامه صلى الله عليه وآله وسلم مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد، فان عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده وتوصيفه تعالى عن باطنه، وباطنه عن ظاهره فان الظاهر والباطن إنما يتفاوتان وينعزل كل منهما عن الاخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا واتحدا. وكذلك الظاهر الموصوف إنمايحاط به، والباطن الموجود إنما يخفى ويتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له، وكذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده، والغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية، ولو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، ولم يستر الغائب حجاب الغيبة ولا ساتر دونه عمن غاب عنه، وهو ظاهر.
(بحث تاريخي)
القول بأن للعالم صانعا ثم القول بأنه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أن الوثنية المبنية على الاشراك، إذا
[ 104 ]
أمعنا في حقيقة معناها وجدناها مبنية على أساس توحيد الصانع، وإثبات شفعاء عنده، (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وإن انحرفت بعد عن مجراها، وآل أمرها إلى إعطاء الاستقلال والاصالة لالهة دون الله. والفطرة الداعية إلى توحيد الاله وإن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة والكبرياء ذاتا وصفة - على ما تقدم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أن الفة الانسان وأنسه في ظرف حياته بالاحاد العددية من جانب، وبلاء المليين بالوثنيين والثنويين وغيرهم لنفى تعدد الالهة من جانب آخر سجل عددية الوحدة وجعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه. ولذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم واليونان وإسكندرية وغيرهم ممن بعدهم يعطى الوحدة العددية حتى صرح بها مثل الرئيس أبى على بن سينا في كتاب الشفاء، وعلى هذا المجرى يجرى كلام غيره ممن بعده إلى حدود الالف من الهجرة النبوية. وأما أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطى أزيد من الوحدة العددية أيضا في عين أن هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامة، فهذا ما يتحصل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة. فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، ولا بسلوك استدلالى. ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الامام على بن أبى طالب عليه أفضل السلام خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها، والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الاسلاميين بعد الالف الهجرى، وقد صرحوا بأنهم إنما استفادوه من كلامه عليه السلام. وهذا هو السر في اقتصارنا في البحث الروائي السابق على نقل نماذج من غرر كلامه عليه السلام الرائق، لان السلوك في هذه المسألة وشرحها من مسلك الاحتجاج
[ 105 ]
البرهانى لا يوجد في كلام غيره عليه السلام. ولهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقل لهذه المسألة فإن البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلفة من هذه المقدمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشئ، والجميع مبنية على صرافة الوجود وأحدية الذات جلت عظمته (1). يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - 87. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون - 88. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون - 89.
_____________________________
(1) وللنناقد البصير والمتدبر المتعمق أن يقضى عجبا من ما صدر من الهفوة من عدة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أن هذه الخطب العلوية الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة، وقد ذكر بعضهم أنها من وضع الشريف الرضى رحمه الله، وقد تقدم الكلام في أطراف هذه السقطة. وليت شعرى كيف يسع للوضع والدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتى بعد ما فتح عليه السلام بابه ورفع ستره قرونا متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سيرفى طريق الفكر المترقى مسير ألف سنة، ولا أطاق حمله غيره من الصحابة ولا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادى بأعلى صوته أنهم كانوا يظنون أن الحقائق القرآنية والاصول العالية العلمية ليست إلا مفاهيم مبتذلة عامية وإنما تتفاضل باللفظ الفصيح والبيان البليغ. (*)
[ 106 ]
(بيان)
الايات الثلاثة وعدة من الايات الواقعة بعدها إلى بضع ومائة من آيات السورة آيات مبينة لعدة من فروع الاحكام، وهى جميعا كالمتخللة بين الايات المتعرضة لقصص المسيح عليه السلام والنصارى، وهى لكونها طوائف متفرقة نازلة في أحكام متنوعة كل منها ذات استقلال وتمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء بكونها نزلت دفعة أو صاحبت بقية آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، وأما ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائي. وكذلك القول في هذه الايات الثلاث المبحوث عنها فإن الاية الثالثة مستقلة في معناها، وتستقل عنها الاية الاولى وإن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أن من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلق بتحريم بعض الطيبات مما أحله الله تعالى، ولعل هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنه ذكر نزول الايات جميعا في اليمين اللاغية. هذا حال الاية الاولى مع الثالثة، وأما الاية الثانية فكأنها من تمام الاية الاولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعنى قوله تعالى: " واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون " بل وصدرها حيث يشتمل على العطف، وعلى الامر بأكل الحلال الطيب الذى تنهى الاية الاولى عن تحريمه واجتنابه، وبذلك تلتئم الايتان معنى وتتحدان حكما ذواتي سياق واحد. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهى، وإما بمنع قهرى، وإما بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة. وقال أيضا: أصل الحل حل العقدة، ومنه قوله عزوجل: " واحلل عقدة من لساني "، وحللت: نزلت، أصله من حل الاحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولا وأحله غيره، قال عزوجل: " أو تحل قريبا من دارهم، وأحلوا قومهم دار البوار "، ويقال: حل الدين وجب أداؤه، والحلة القوم النازلون وحل حلال مثله، والمحلة مكان النزول، وعن حل العقدة استعير قولهم: حل الشئ حلا
[ 107 ]
قال الله تعالى: " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا "، وقال تعالى: " هذا حلال وهذا حرام "، انتهى. فالظاهر أن مقابلة الحل الحرمة، وكذا التقابل بين الحل والحرم أو الاحرام من جهة تخيل العقد في المنع الذى هو معنى الحرمة وغيرها ثم مقابلته بالحل المستعار لمعنى الجواز والاباحة، واللفظان أعنى الحل والحرمة من الحقائق العرفية قبل الاسلام دون الشرعية أو المتشرعية. والاية أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا " (الخ)، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم، وتحريم ما أحل الله هو جعله حراما كما جعله الله تعالى حلالا وذلك إما بتشريع قبال تشريع، وإما بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئا من المحللات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإن ذلك كله تحريم ومنع ومنازعة لله سبحانه في سلطانه واعتداء عليه ينافى الايمان بالله وآياته، ولذلك صدر النهى بقوله: " يا أيها الذين آمنوا "، فإن المعنى: لا تحرموا ما أحل الله لكم وقد آمنتم به وسلمتم لامره. ويؤيده أيضا قوله في ذيل الاية التالية: " واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون ". وإضافة قوله: " طيبات " إلى قوله: " ما أحل الله لكم " - مع أن الكلام تام بدونه - للاشارة إلى تتميم سبب النهى فإن تحريم المؤمنين لما أحل الله لهم على أنه اعتداء منهم على الله في سلطانه، ونقض لايمانهم بالله وتسليمهم لامره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإن الفطرة تستطيب هذه المحللات من غير استخباث، وقد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والشريعة التى جاء بها حيث قال: " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون " (الاعراف: 157). وبهذا الذى بينا يتأيد اولا: أن المراد بتحريم طيبات ما أحل الله هوالالزام والالتزام بترك المحللات. وثانيا: أن المراد بالحل مقابل الحرمة ويعم المباحات والمستحبات بل والواجبات
[ 108 ]
قضاء لحق المقابلة. وثالثا: أن إضافة الطيبات إلى ما أحل الله في قوله: " طيبات ما أحل الله لكم " إضافة بيانية. ورابعا: أن المراد بالاعتداء في قوله: " ولا تعتدو " ا هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعي، أو التعدي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته والتسليم له وتحريم ما أحله كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق: " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون " (البقرة: 229)، وقوله في ذيل آيات الارث: " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " (النساء: 14)، والايات - كما ترى - تعد الاستقامة والالتزام بما شرعه الله طاعة له تعالى ولرسوله ممدوحة، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداء وتعديا لحدود الله مذموما معاقبا عليه. فمحصل مفاد الاية النهى عن تحريم ما أحله الله بالاجتناب عنه والامتناع من الاقتراب منه فإنه يناقض الايمان بالله وآياته ويخالف كون هذه المحللات طيبات لا خباثة فيها حتى يجتنب عنها لاجلها، وهو اعتداء والله لا يحب المعتدين. قوله تعالى: " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " قد عرفت أن ظاهر السياق أن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله: " ولا تعتدوا " يجرى مجرى التأكيد لقوله: " لا تحرموا، الخ ". وأما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالاعتداء تجاوز حد الاعتدال في المحللات بالانكباب على التمتع بها والا ستلذاذ منها قبال تركها واجتناب تناولها تقشفا وترهبا فيكون معنى الاية: لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى، ولا تعتدوا بتجاوز حد الاعتدال إلى الاسراف والافراط الضار بأبدانكم أو نفوسكم. أو أن المراد بالاعتداء تجاوز المحللات الطيبة إلى الخبائث المحرمة، ويعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحللات ولا تقترفوا المحرمات، وبعبارة اخرى: لا تحرموا ما أحل
[ 109 ]
الله لكم، ولا تحللوا ما حرم الله عليكم. فكل من المعنيين وإن كان في نفسه صحيحا يدل عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكن شيئا منهما لا ينطبق على الاية بظاهر سياقها وسياق ما يتلوها من الاية اللاحقة فما كل معنى صحيح يمكن تحميله على كل لفظ كيفما سيق وأينما وقع. قوله تعالى: " وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الاية، ظاهر العطف أعنى انعطاف قوله: " وكلوا " على قوله: " لا تحرموا " أن يكون مفاد هذه الاية بمنزلة التكرار والتأكيد لمضمون الاية السابقة، ويؤيده سياق صدر الاية من حيث اشتماله على قوله: " حلالا طيبا " وهو يحاذي قوله في الاية السابقة: " طيبات ما أحل الله "، وكذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه: " واتقوا الله إم كنتم مؤمنين " وقوله في الاية السابقة: يا أيها الذين آمنوا " وقد مر بيانه. وعلى هذا فقوله: " كلوا " " الخ "، من قبيل ورود الامر عقيب الحظر، وتخصيص قوله: " كلوا " بعد تعميم قوله: " لا تحرموا طيبات " (الخ)، إما تخصيص بحسب اللفظ فقط، والمراد بالاكل مطلق التصرف، فيما رزقه الله تعالى من طيبات نعمه، سواء كان بالاكل بمعنى التغذى أو بسائر وجوه التصرف، وقد تقدم مرارا أن استعمال الاكل بمعنى مطلق التصرف استعمال شائع ذائع. وإما أن يكون المراد - ومن الممكن ذلك - الاكل بمعناه الحقيقي، ويكون سبب نزول الايتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيبة على أنفسهم فتكون الايتان نازلتين في النهى عن ذلك، وقد عمم النهى في الاية الاولى للاكل وغيره إعطاء للقاعدة الكلية لكون ملاك النهى يعم محللات الاكل وغيرها على حد سواء. وقوله: " مما رزقكم الله " لازم ما استظهرناه من معنى الايتين كونه مفعولا لقوله: " كلوا " وقوله: " حلالا طيبا " حالين من الموصول وبذلك تتوافق الايتان، وربما قيل: إن قوله: " حلالا طيبا " مفعول قوله: " كلوا " وقوله: " مما رزقكم الله " متعلق بقوله: " كلوا " أو حال من الحلال قدم عليه لكونه نكرة أو كون قوله: " حلالا " وصفا لمصدر محذوف، والتقدير: رزقا حلالا طيبا إلى غير ذلك. وربما استدل بعضهم بقوله: " حلالا " على أن الرزق يشمل الحلال والحرام
[ 110 ]
معا وإلا لغى القيد. والجواب: أنه ليس قيدا احترازيا لاخراج ما هو رزق غير حلال ولا طيب بل قيد توضيحي مساو لمقيده، والنكتة في الاتيان به بيان أن كونه حلالا طيبا لا يدع عذرا لمعتذر في الاجتناب والكف عنه على ما تقدم، وقد تقدم الكلام في معنى الرزق في ذيل الاية ال 27 من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب. قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " اللغو ما لا يترتب عليه أثر من الاعمال، والايمان جمع يمين وهو القسم والحلف، قال الراغب في المفردات: واليمين في الحلف مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره، قال تعالى: أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يؤاخذكم الله باللغو " في أيمانكم " انتهى، والتعقيد مبالغة في العقد وقرئ: عقدتم بالتخفيف، وقوله: " في أيمانكم " متعلق بقوله: " لا يؤاخذكم " أو بقوله: " باللغو " وهو أقرب. والتقابل الواقع بين قوله: " باللغو في أيمانكم " وقوله: " بما عقدتم الايمان " يعطى أن المراد باللغو في الايمان ما لا يعقد عليه الحالف، وإنما يجرى على لسانه جريا لعادة اعتادها أو لغيرها وهو قولهم - وخاصة في قبيل البيع والشرى -: لا والله، بلى والله، بخلاف ما عقد عليه عقدا بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: والله لافعلن كذا، وو الله لا تركن كذا. هذا هو الظاهر من الاية، ولا ينافى ذلك يعد شرعا قول القائل: والله لافعلن المحرم الفلاني، والله لا تركن الواجب الفلاني مثلا من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنما هو إلحاق من جهة السنة، وليس من الواجب أن يدل القرآن على خصوص كل ما ثبت بالسنة بخصوصه. وأما قوله: " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " فلا يشمل إلا اليمين المضاة شرعا لمكان قوله في ذيل الاية: " واحفظوا أيمانكم " فإنه لا مناص عن شموله لهذه الايمان بحسب إطلاق لفظه، ولا معنى للامر بحفظ الايمان التى ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعين أن اللغو من الايمان في الاية مالا عقد فيه، وما عقد عليه هو اليمين الممضاة
[ 111 ]
قوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - أو تحرير رقبة "، الكفارة هي العمل الذى يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى السترقال تعالى: " نكفر عنكم سيئاتكم " (النساء: 31)، قال الراغب: والكفارة ما يغطى الاثم ومنه كفارة اليمين، انتهى. وقوله: " فكفارته " تفريع على اليمين باعتبار مقدر هو نحو من قولنا: فان حنثتم فكفارته كذا، وذلك لان في لفظ الكفارة دلالة على معصية تتعلق به الكفارة، وليست هذه المعصية هي نفس اليمين، ولو كان كذلك لم يورد في ذيل الاية قوله: " واحفظوا ايمانكم " إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفارة إنما تتعلق بحنث اليمين لا بنفسها. ومنه يظهر أن المؤاخذة المذكورة في قوله: " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، وإنما أضيفت إلى اليمين لتعلق متعلقها - أعنى الحنث - بها، فقوله: " فكفارته " متفرع على الحنث المقدر لدلالة قوله: " يؤاخذكم، الخ " عليه، ونظير هذا البيان جار في قوله: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " وتقديره: إذا حلفتم وحنثتم. وقوله: " إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " خصال ثلاث يدل الترديد على تعيين إحداها عند الحنث من غير جمع، ويدل قوله بعده: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " على كون الخصال المذكورة تخييرية من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، وإلا لغى التفريغ في قوله: " فمن لم يجد " (الخ)، وكان المتعين بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيام. وفي الاية أبحاث فرعية كثيرة مرجعها علم الفقه. قوله تعالى: " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " تقدم أن الكلام في تقدير: إذا حلفتم وحنثتم، وفي قوله: " ذلك كفارة أيمانكم " وكذا في قوله: " كذلك يبين الله لكم " نوع التفات ورجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل النكتة فيه أن الجملتين جميعا من البيان الالهى للناس إنما هو بوساطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان في ذلك حفظا لمقامه صلى الله عليه وآله وسلم في بيان ما أوحى إليه للناس كما قال تعالى: " وأنزلنا إليك الذكر
[ 112 ]
لتبين للناس ما نزل إليهم " (النحل: 44). قوله تعالى: " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون " أي يبين لكم بواسطة نبيه أحكامه لعلكم تشكرونه بتعلمها والعمل بها.
(بحث روائي)
في تفسير القمى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " (الاية)، قال حدثنى أبى عن ابن أبى عمير، عن بعض رجاله، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الاية في أمير المؤمنين عليه السلام وبلال وعثمان بن مظعون فأما أمير المؤمنين عليه السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبدا، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة، وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لى أراك متعطلة ؟ فقالت: ولمن أتزين ؟ فو الله ما قربنى زوجنى منذ كذا وكذافإنه قد ترهب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات ؟ إلا إنى أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهارة فمن رغب عن سنتى فليس منى. فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ". اقول: وفي انطباق قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " (الاية)، على حلفهم خفاء، وقد تقدم بعض الكلام فيه، وقد روى الطبرسي في مجمع البيان القصة عن أبى عبد الله عليه السلام ولم يذكر الذيل فليتأمل فيه. وفي الاحتجاج عن الحسن بن على عليه السلام في حديث أنه قال لمعاوية وأصحابه:
[ 113 ]
انشدكم بالله أتعلمون أن عليا أول من حرم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ؟. وفي المجمع في الاية: قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحى، وهم على وأبو بكر وعبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبى حذيفة وعبد الله بن عمر والمقداد بن الاسود الكندى وسلمان الفارسى ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الارض، وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته ام حكيم بنت أبى أمية - واسمها حولاء وكانت عطارة -: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكرهت أن تبدى على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنى لم أومر بذلك، ثم قال: إن لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا، وقوموا وناموا فإنى أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء، ومن رغب عن سنتى فليس منى. ثم جمع الناس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنى لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في دينى ترك اللحم ولا النساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة امتى الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا، واعتمروا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من كان قبلكم
[ 114 ]
بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فاولئك بقاياهم في الديارات والصوامع فأنزل الله الاية. أقول: ويظهر بالرجوع إلى روايات القوم أن هذه الرواية إنما هي تلخيص للروايات المروية في هذا الباب، وهى كثيرة جدا فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، وسبكها رواية واحدة. وأما نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الاجمع منها لفظا هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون وأصحابه. وفي بعضها اناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي بعضها رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطبته على تفصيلها متفرقة الجمل في الروايات، وكذلك الذى عقدوا عليه هموا به من التروك لم تصرح الروايات بأنهم اتفقوا جميعهم على جميعها بل صرح بعض الروايات باختلافهم فيما هموا به أو عقدوا عليه كما في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكنى أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى. ولعل المراد بقوله في الرواية: واتفقوا على أن يصوموا النهار (الخ)، ان المجموع اتفقوا على المجموع لا أن كل واحد منهم عزم على الجميع. والروايات وإن كانت مختلفة في مضامينها، وفيها الضعيف والمرسل والمعتبر لكن التأمل في جميعها يوجب الوثوق بأن رهطا من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهد والتنسك، وأنه كان فيهم على عليه السلام وعثمان بن مظعون، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: من رغب عن سنتى فليس منى، والله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائية كتفسير الطبري والدر المنثور وفتح القدير وأمثالها. وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبى حاتم وابن عدى في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
[ 115 ]
يا رسول الله إنى إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، وإنى حرمت على اللحم فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. " وفيه: أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم: أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلى هو حرام على، فقالت امرأته: هو على حرام، قال الضيف: هو على حرام، فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أصبت فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ". اقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الاخيرتين من تطبيق الرواة، وهو شائع في روايات أسباب النزول، ومن الممكن أن يقع لنزول الايك أسباب عديدة. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراما ولا حلالا فقال: أما الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، وأما الحلال فلا يتركه فإنه ليس أن يحرم ما أحل الله لان الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " فليس عليه شئ في يمينه من الحلال. وفي الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزوجل: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قال: " اللغو " قول الرجل: " لا والله، وبلى والله " ولا يعقد على شئ. أقول: وروى العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان مثله، وعن محمد بن مسلم مثله وفيه: ولا يعقد عليها. وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت: " يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " في القوم الذين حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بايماننا التى حلفنا عليها ؟ فأنزل الله: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ".
[ 116 ]
اقول: والرواية تشاكل ذيل الرواية الاولى التى أوردناها في صدر البحث غير أنها لا تنطبق على ظاهر الاية فإن الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، وقد قوبل في الاية قوله: " باللغو في أيمانكم " بقوله: " بما عقدتم الايمان " ودل ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، وهذا الظاهر إنما يوافق الرواية المفسرة للغو اليمين بقول القائل: لا والله، وبلى والله، من غير أن يعقد على شئ، وأما اليمين الملغاة شرعا ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعين أن يستند إلغاؤه إلى السنة دون الكتاب. على أن سياق الاية أدل دليل على أنها مسوقة لبيان كفارة اليمين والامر بحفظها استقلالا لا على نحو التطفل كما هو لازم هذا التفسير.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - 90. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون - 91. أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين - 92. ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين - 93.
(بيان)
الايات متلائمة سياقا فكأنها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولا، والاية الاخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبينه تفصيلا، فهى جميعا تتعرض لحال الخمر، وبعضها
[ 117 ]
يضيف إليها الميسر والانصاب والازلام. وقد تقدم في قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، في الجزء الاول، وفي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (النساء: 43) في الجزء الرابع من هذا الكتاب أن هاتين الايتين مع قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (الاعراف: 33)، وهذه الاية المبحوث عنها: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " إذا انضم بعضها إلى بعض دلت سياقاتها المختلفة على تدرج الشارع في تحريم الخمر. لكن لا بمعنى السلوك التدريجي في تحريمها من تنزيه وإعافة إلى كراهية إلى تحريم صريح حتى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى ايضاح أو كناية خفية إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينية في إجراء الاحكام الشرعية فإن قوله تعالى: " والاثم " آية مكية في سورة الاعراف إذا انضم إلى قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " وهى آية مدنية واقعة في سورة البقرة أول سورة مفصلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجا صريحا لا يدع عذرا لمعتذر، ولا مجالا لمتأول. بل بمعنى أن الايات تدرجت في النهى عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله تعالى: " والاثم " ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة وذلك قوله: " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "، وقوله: " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " إن كانت الاية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ الذى يدل عليه قوله: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " الايتان. فهذه الايات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدل على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من " إنما " والتسمية بالرجس، ونسبته إلى عمل الشيطان، والامر الصريح بالاجتناب، وتوقع الفلاح فيه، وبيان المفاسد التى تترتب على شربها، والاستفهام عن الانتهاء، ثم الامر بطاعة الله و رسوله والتحذير عن المخالفة، والاستغناء عنهم لو خالفوا.
[ 118 ]
ويدل على ذلك بعض الدلالة أيضا قوله تعالى في ذيل الايات: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات (إلخ) بما سيأتي من الايضاح. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر الاية " قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والانصاب والازلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير، والميسر هو القمار مطلقا، والانصاب هي الاصنام أو الحجارة التى كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها، والازلام هي الاقداح التى كانت يستقسم بها، وربما كانت تطلق على السهام التى كانت يتفاءل بها عند ابتداء الامور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الاول لوقوعه بين محرمات الاكل فيتأيد بذلك كون المراد به هيهنا هو ذلك. فان قلت: الميسر بعمومه يشمل الازلام بالمعنى الاخر الذى هو الاستقسام بالاقداح، ولا وجه لايراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التى كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتلت ساداتها * فنساؤها يضربن بالازلام
وهو - كما روى - أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه " افعل " والثانى مكتوب عليه " لا تفعل " والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهى متشابهة فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذى عليه مكتوب " افعل " عزم عليه، وإن خرج الذى مكتوب عليه " لا تفعل " تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الاولين، وسمى استقساما لان فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات. فالاية تدل على حرمته لان فيه تعرضا لدعوى علم الغيب، وكذا كل ما يشاكله من الاعمال كأخذها الخيرة بالسبحة ونحوها. قلت: قد عرفت أن الاية في أول السورة: " وأن تستقسموا بالازلام " ظاهرة في الاستقسام بالاقداح الذى هو نوع من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الاكل، ويتأيد به أن ذلك هو المراد بالازلام في هذه الاية.
[ 119 ]
ولو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة، وقد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت عليهم السلام في جواز الاخذ بالخيرة من السبحة وغيرها عند الحيرة. وحقيقته أن الانسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب والخطأ، وإن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، وتردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغى أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه. وليس في اختيار ما يختاره الانسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب ولا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شؤون الالوهية، ولا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الامور ولا أي محذور دينى آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب ولا تحريم ولا أي حكم تكليفي آخر، ولا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة والتذبذب. وأما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير وربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكر والاستشارة طريق لقطع الحيرة والتردد في مقام العمل، ويترتب على الفعل الموافق له ما كان يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة. نعم ربما أمكن لمتوهم أن يتوهم التعرض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤل بالقرآن ونحوه فربما كانت النفس تتحدث معه بيمن أو شأمة، وتتوقع خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتفاءل بالخير ويأمر به، وينهى عن التطير ويأمر بالمضي معه والتوكل على الله تعالى. فلا مانع من التفأل بالكتاب ونحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير وإلا مضى في الامر متوكلا على الله تعالى، وليس في ذلك أزيد مما يطيب به الانسان نفسه في الامور والاعمال التى يتفرس فيها السعادة والنفع، وسنستوفي البحث المتعلق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.
[ 120 ]
فتبين أن ما وقع في بعض التفاسير من حمل الازلام على سهم التفأل واستنتاج حرمة الاستخارة بذلك مما لا ينبغى المصير إليه. وأما قوله: " رجس من عمل الشيطان " فالرجس الشئ القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة والقذارة هو الوصف الذى يبتعد ويتنزه عن الشئ بسببه لتنفر الطبع عنه. وكون هذه المعدودات من الخمر والميسر والانصاب والازلام رجسا هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الانسانية الاقتراب منها لاجله، وليس إلا أنها بحيث لا تشتمل على شئ مما فيه سعادة إنسانية أصلا سعادة يمكن أن تصفو وتتخلص في حين من الاحيان كما ربما أوما إليه قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، حيث غلب الاثم على النفع ولم يستثن. ولعله لذلك نسب هذه الارجاس إلى عمل الشيطان ولم يشرك له أحدا، ثم قال في الاية التالية: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ". وذلك أن الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنه عدو للانسان لا يريد به خيرا البتة قال تعالى: " إن الشيطان للانسان عدو مبين " (يوسف: 5)، وقال: كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله " (الحج: 4)، وقال: " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا، لعنه الله " (النساء: 118)، فأثبت عليه لعنته وطرده عن كل خير. وذكر أن مساسه بالانسان وعمله فيه إنما هو بالتسويل والوسوسة والاغواء من جهة الالقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه: " قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط على مستقيم، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " (الحجر: 42)، فهددهم إبليس بالاغواء فقط، ونفى الله سبحانه سلطانه إلا عن متبعيه الغاوين، وحكى عنه فيما يخاطب بنى آدم يوم القيامة قوله: " وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى " (إبراهيم: 22)، وقال في نعت دعوته: " يا بنى آدم لا يفتننكم
[ 121 ]
الشيطان - إلى أن قال - إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فبين أن دعوته لاكدعوة إنسان إنسانا إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعو من غير عكس. وقد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس، الذى يوسوس في صدور الناس " (الناس: 5)، فبين أن الذى يعمل الشيطان بالتصرف في الانسان هو أن يلقى الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال. فيتبين بذلك كله أن كون الخمر وما ذكر بعدها رجسا من عمل الشيطان هو أنها منتهية إلى عمل الشيطان الخاص به، ولا داعى لها إلى الالقاء والوسوسة الشيطانية التى تدعو إلى الضلال، ولذلك سماها رجسا وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرج س على الذين لا يؤمنون، وهذا صراط ربك مستقيما " (الانعام: 126). ثم بين معنى كونها رجسا ناشئا من عمل الشيطان بقوله في الاية التالية: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " أي إنه لا يريد لكم في الدعوة إليها الا الشر ولذلك كانت رجسا من عمله. فان قلت: ملخص هذا البيان أن معنى كون الخمر وأضرابها رجسا هو كون عملها أو شربها مثلا منتهيا إلى وسوسة الشيطان وإضلاله فحسب، والذى تدل عليه عدة من الروايات أن الشيطان هو الذى ظهر للانسان وعملها لاول مرة وعلمه إياها. قلت: نعم، وهذه الاخبار وإن كانت لا تتجاوز الاحاد بحيث يجب الاخذ بها إلا أن هناك أخبارا كثيرة متنوعة واردة في أبواب متفرقة تدل على تمثل الشيطان للانبياء والاولياء وبعض أفراد الانسان من غيرهم كأخبار أخر حاكية لتمثل الملائكة، واخرى دالة على تمثل الدنيا والاعمال وغير ذلك، والكتاب الالهى يؤيدها بعض التأييد كقوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " (مريم: 17)، وسنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الاسراء في الكلام على قوله تعالى: سبحان الذى أسرى بعبده " (الاسراء: 1)، أو في محل آخر مناسب لذلك. والذى يجب أن يعلم أن ورود قصة ما في خبر أو أخبار لا يوجب تبدل آية من الايات مما لها من الظهور المؤيد بآيات أخر، وليس للشيطان من الانسان إلا التصرف
[ 122 ]
الفكري فيما كان له ذلك بمقتضى الايات الشريفة، ولو أنه تمثل لواحد من البشر فعمل شيئا أو علمه إياه لم يزد ذلك على التمثل والتصرف في فكره أو مساسه علما فانتظر ما سيوافيك من البحث. وأما قوله تعالى: " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثم ترج للفلاح على تقدير الاجتناب، وفيه أشد التأكيد للنهى لتثبيته ان لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الارجاس. قوله تعالى: " إنما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر إلى آخر الاية " قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز ومنافاة الالتئام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشى فيقال له: العدو، وتارة في الاخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان والعدو قال: " فيسبوا الله عدوا بغير علم " وتارة بأجزاء المقر فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الاجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدو وقوم عدو قال: " بعضكم لبعض عدو " وقد يجمع على عدى (بالكسر فالفتح) واعداء قال: " ويوم يحشر اعداء الله "، انتهى. والبغض والبغضاء خلاف الحب، والصد الصرف، والانتهاء قبول النهى وخلاف الابتداء. ثم إن الاية - كما تقدم - مسوقة بيانا لقوله: " من عمل الشيطان " أو لقوله: " رجس من عمل الشيطان " أي إن حقيقة كون هذه الامور من عمل الشيطان أو رجسا من عمل الشيطان ان الشيطان لا بغية له ولا غاية في الخمر والميسر - اللذين قيل: إنهما رجسان من عمله فقط - إلا ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء بتجاوز حدودكم وبغض بعضكم بعضا، وان يصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة في هذه الامور جميعا اعني الخمر والميسر والانصاب والازلام. وقصر إيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة، اما الخمر فلان شربها تهيج سلسلة الاعصاب تهيجا يخمر العقل ويستظهر العواصف العصبية، فإن وقعت في طريق الغضب جوزت للسكران أي جناية فرضت وإن عظمت ما عظمت، وفظعت ما فظعت مما لا يستبيحه حتى السباع الضارية، وإن وقعت
[ 123 ]
في طريق الشهوة والبهيمية زينت للانسان أي شناعة وفجور في نفسه أو ماله أو عرضه وكل ما يحترمه ويقدسه من نواميس الدين وحدود المجتمع وغير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سر أو ورود فيما فيه هلاك الانسانية، وقد دل الاحصاء على أن للخمر السهم الاوفر من أنواع الجنايات الحادثة وفي أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات التى دار فيها شربها. وأما الميسر وهو القمار فإنه يبطل في أيسر زمان مسعاة الانسان التى صرفها في اقتناء المال والثروة والوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال وربما تبعه العرض والنفس والجاه فإن تقمر وغلب وأحرز المال أداه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة والتوسع في الملاهي والفجور، والكسل والتبطؤ عن الاشتغال بالمكسب واقتناء مواد الحياة من طرقها المشروعة، وإن كان هو المغلوب أداه فقدان المال وخيبة السعي إلى العداوة والبغضاء لقميره الغالب، والحسرة والحنق. وهذه المفاسد وإن كانت لا تظهر للاذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل والمرة والمرتين لكن النادر يدعو إلى الغالب، والقليل يهدى إلى الكثير والمرة تجر إلى المرات ولا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملا، وتسرى إلى المجتمع فتعود بلوى همجية لا حكومة فيها إلا للعواطف الطاغية والاهواء المردية. فتبين من جميع ما تقدم أن الحصر في قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة " راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أن الصد عن ذكر الله وعن الصلاة من شأن الجميع، والعداوة والبغضاء يختصان بالخمر والميسر بحسب الطبع. وفي إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى: " ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فردا كاملا من الذكر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: الصلاة عمود الدين، ودلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه مما لا يتطرق إليه ش ك وفيها مثل قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون " (إلى آخر الايات) " المؤمنون: 2)، وقوله تعالى: " والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " (الاعراف: 170)، وقوله تعالى: " إن
[ 124 ]
الانسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين " الايات (المعارج: 22)، وقوله: " اتل ما أوحى اليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45)، وقال تعالى: " فاسعوا إلى ذكر الله " (الجمعة: 9)، يريد به الصلاة وقال: " وأقم الصلاة لذكرى " (طه: 14)، إلى غير ذلك من الايات. وقد ذكر سبحانه أولا ذكره وقدمه على الصلاة لانها هي البغية الوحيدة من الدعوة الالهية، وهو الروح الحية في جثمان العبودية، والخميرة لسعادة الدنيا والاخرة، يدل على ذلك قوله تعالى لادم أول يوم شرع فيه الدين: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى " (طه: 124)، وقوله تعالى: " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " (الفرقان: 18)، وقوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30). فالذكر في الايات إنما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبية المستتبع لنسيان العبودية وهو السلوك الدينى الذى لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأأنساهم أنفسهم " (الحشر: 19). وأما قوله تعالى: " فهل أنتم منتهون " فهو استفهام توبيخي فيه دلالة ما على أن المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهى السابقة على هذا النهى، والاية أعنى قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع، الخ " كالتفسير يفسر بها قوله: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " أي إن النفع الذى فرض فيهما مع الاثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحيانا من الاثم أو من الاثم الغالب عليه كالكذب الذى فيه إثم ونفع، وربما افرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين. وذلك لمكان الحصر في قوله: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء، الخ " بعد قوله: " رجس من عمل الشيطان فالمعنى أنها لا تقع إلا رجسا
[ 125 ]
من عمل الشيطان، وأن الشيطان لا يريد بها إلا إيقاع العداوة والبغضاء بينكم في الخمر والميسر وصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الاثم حتى تباح فيه، فافهم ذلك. قوله تعالى: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا، إلى آخر الاية " تأكيد للامر السابق باجتناب هذه الارجاس أولا بالامر بطاعة الله سبحانه وبيده أمر التشريع، وثانيا بالامر بطاعة الرسول واليه الاجراء، وثالثا بالتحذير صريحا. ثم في قوله: " فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين " تأكيد فيه معنى التهديد وخاصة لاشتماله على قوله: " فاعلموا " فإن فيه تلويحا إلى أنكم إن توليتم واقترفتم هذه المعاصي فكأنكم ظننتم أنكم كابرتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهيه عنها وغلبتموه، وقد جهلتم أو نسيتم أنه رسول من قبلنا ليس له من الامر شئ إلا بلاغ مبين لما يوحى إليه ويؤمر بتبليغه، وإنما نازعتم ربكم في ربوبيته. وقد تقدم في أول الكلام أن الايات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الامور، وهى الابتداء بقوله: " يا أيها الذين آمنوا، ثم الاتيان بكلمة الحصر، ثم التوصيف بالرجس، ثم نسبتها إلى عمل الشيطان، ثم الامر بالاجتناب صريحا، ثم رجاء الفلاح في الاجتناب، ثم ذكر مفاسدها العامة من العداوة والبغضاء والصرف عن ذكر الله وعن الصلاة، ثم التوبيخ على عدم انتهائهم، ثم الامر بطاعة الله ورسوله والتحذير عن المخالفة، ثم التهديد على تقدير التولى بعد البلاغ المبين. قوله تعالى: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر الاية الطعم والطعام هو التغذى، ويستعمل في المأكول دون المشروب، وهو في لسان المدنيين البر خاصة، وربما جاء بمعنى الذوق، ويستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الاكل قال تعالى: " فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " (البقرة: 249)، وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال في ماء زمزم: أنه طعام طعم وشفاء سقم. والاية لا تصلح بسياقها إلا أن تتصل بالايات السابقة فتكون دفع دخل تتعرض لحال المؤمنين ممن ابتلى بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الايات، وذلك أن قوله فيها: " فيما طعموا " مطلق غير مقيد بشئ مما يصلح لتقييده، والاية
[ 126 ]
مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، وقد قيد رفع الحظر بقوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقواو أحسنوا " والمتيقن من معنى هذا القيد - وقد ذكر فيه التقوى ثلاث مرات - هو التقوى الشديد الذى هو حق التقوى. فنفى الجناح للمؤمنين المتقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين والكفار ناقضه أمثال قوله تعالى: " قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (الاعراف: 32)، على أن من المعلوم من مذاق هذا الدين أنه لا يمنع أحدا عن الطيبات المحللة التى تضطر الفطرة إلى استباحتها في الحياة. وإن لم تكن الاية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للذين آمنواو عملوا الصالحات بشرط أن يتقوا ثم يتقوا، ثم يتقوا، ومن المعلوم أن الجواز لا يختص بالذين آمنوا وعملوا الصالحات بل يعمهم وغيرهم، وعلى تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد. ولا يخلو عن أحد هذين الاشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الاية بناء على حمل قوله: " فيما طعموا " على مطلق الطعام المحلل فإن المعنى الذى ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا اتقوا المحرمات أن يطعموا المحللات، ولا يسلم هذا المعنى عن أحد الاشكالين كما هو واضح. وذكر بعضهم: أن في الاية حذفا، والتقدير: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا المحارم، وفيه أنه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله. وذكر بعضهم: أن الايمان والعمل الصالح جميعا ليس بشرط حقيقي بل المراد بيان وجوب اتقاء المحارم فشرك معه الايمان والعمل الصالح للدلالة على وجوبه، وفيه أن ظاهر الاية أنها مسوقة لنفى الجناح فيما طعموا، ولا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتقاء محارم على ما تقدم، وما أبعد المعنى الذى ذكره عن ظاهر الاية. وذكر بعضهم: أن المؤمن يصح أن يطلق عليه أنه لا جناح عليه، والكافر
[ 127 ]
مستحق للعقاب فلا يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ، وفيه أنه لا يصح تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى: " قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32)، وقوله: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " (الانعام: 145) حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن ولا كافر، أو مثل قوله: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى - إلى قوله - إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13) حيث وجه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن والكافر. وذكر بعضهم: أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحريم والتحليل فلذلك خص المؤمن بالذكر، وفيه ما في سابقه من الاشكال مع أنه لا يرفع الاشكال الناشئ من قوله: " إذا ما اتقوا " (إلخ). فالذي ينبغى أن يقال: إن الاية في معنى الايات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتصالها بها، وهى متعرضة لحال من ابتلى من المسلمين بشرب الخمر وطعمها، أو بالطعم لشئ منها أو مما اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الانصاب كأنهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلى بشرب الخمر، أو بها وبغيرها مما ذكره الله تعالى في الاية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه. فاجيب عن سؤالهم ان ليس عليهم جناح إن كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالايمان بالله والعمل الصالح ثم الايمان بكل حكم نازل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم الاحسان بالعمل على طبق الحكم النازل. وبذلك يتبين أن المراد بالموصول في قوله: " فيما طعموا " هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر والميسر والانصاب والازلام من حيث ما يصح أن يتعلق بها من معنى الطعم، والمعنى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها ومن غيرها من المحرمات المذكورة. وأما قوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا " فظاهر قوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " أنه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح " للدلالة على
[ 128 ]
دخالة الوصف في الحكم الذى هو نفى الجناح كقوله تعالى: في خطاب المؤمنين: " ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر " (البقرة: 232)، وهو شائع في اللسان. وظاهر قوله: " ثم اتقوا وآمنوا " اعتبار الايمان بعد الايمان، وليس إلا الايمان التفصيلي بكل حكم حكم مما جاء به الرسول من عند ربه من غير رد وامتناع، ولازمه التسليم للرسول فيما يأمر به وينهى عنه قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " (الحديد: 28)، وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله - إلى ان قال - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65)، والايات في هذا المعنى كثيرة. وظاهر قوله: " ثم اتقوا وأحسنوا " إضافة الاحسان إلى الايمان بعد الايمان اعتبارا، والاحسان هو إتيان العمل على وجه حسنه من غير نية فاسدة كما قال تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " (الكهف: 30)، وقال: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقو أجر عظيم " (آل عمران: 172)، أي يكون استجابتهم ابتغاء لوجه الله وتسليما لامره لا لغرض آخر، ومن الاحسان ما يتعدى إلى الغير، وهو ان يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى: " وبالوالدين إحسانا " (البقرة: 83)، وقال: " واحسن كما احسن الله اليك " (القصص: 77). والمناسب لمورد الاية هو المعنى الاول من معنيى الاحسان، وهو إتيان الفعل على جهة حسنه فإن التقوى الدينى لا يوفى حقه بمجرد الايمان بالله وتصديق حقية دينه ما لم يؤمن تفصيلا بكل واحد واحد من الاحكام المشرعة في الدين فإن رد الواحد منها رد لاصل الدين، ولا أن الايمان التفصيلي بكل واحد واحد يوفى به حق التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجرى على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، ويكون هذا الجرى ناشئا من الانقياد والاتباع لا عن نية نفاقية فمن الواجب على المتزود بزاد التقوى أن يؤمن بالله ويعمل صالحا، وان يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، وان يجرى في جميع ذلك على نهج الاتباع والاحسان. وأما تكرار التقوى ثلاث مرات، وتقييد المراتب الثلاث جميعا به فهو لتأكيد
[ 129 ]
الاشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعا للتقوى الواقعي من غير غرض آخر غير دينى، وقد مر في بعض المباحث السابقة أن التقوى ليس مقاما خاصا دينيا بل هو حالة روحية تجامع جميع المقامات المعنوية أي أن لكل مقام معنوى تقوى خاصا يختص به. فتلخص من جميع ما مر ان المراد بالاية أعنى قوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر الاية، أنه لا جناح على الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم ومتلبسين بالايمان بالله ورسوله، ومحسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات وتاركين لكل محرم نهوا عنه فإن اتفق لهم أن ابتلوا بشئ من الرجس الذى هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقههم به لم يضرهم ذلك شيئا. وهذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات التى صلوها إلى غير الكعبة: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " (البقرة: 143). وسياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الاية: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح، الخ " متصلة بما قبلها من الايات وانها نازلة مع تلك الايات التى لسانها يشهد انها آخر الايات المحرمة للخمر نزولا، وان بعض المسلمين كما يشعر به لسان الايات - على ما استفدناه آنفا - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الايات السابقة المحرمة وبين هذه الايات. ثم وقع السؤال بعد نزول هذه الايات عن حال من ابتلى بذلك وفيهم من ابتلى به قبل نزول التحريم، ومن ابتلى به قبل التفقه، ومن ابتلى به لغير عذر فاجيبوا بما يتعين به لكل طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها وهو على حال الايمان والاحسان، ولا يكون إلا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلا به فليس عليه جناح، ومن ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم. وللمفسرين في الاية أابحاث طويلة، منهاما يرجع إلى قوله: " فيما طعموا " وقد تقدم خلاصة الكلام في ذلك.
[ 130 ]
ومنها ما يرجع إلى ذيل الاية من حيث تكرر التقوى فيه ثلاث مرات، وتكرر الايمان وتكرر العمل الصالح وختمها بالاحسان. فقيل: إن المراد بقوله: " إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " اتقوا المحرم وثبتوا على الايمان والاعمال الصالحة، وبقوله: " ثم اتقوا وآمنوا " ثم اتقوا ما حرم عليهم بعد كالخمر وآمنوا بتحريمه، وبقوله: " ثم اتقوا و أحسنوا " ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي واشتغلوا بالاعمال الجميلة. وقيل: إن هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الانسان التقوى و الايمان بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله تعالى، والاحسان على هذا هو الاحسان إلى الناس ظاهرا. وقيل: إن التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ والوسط والمنتهى، وهو حق التقوى. وقيل: التكرار باعتبار ما يتقى فإنه ينبغى أن تترك المحرمات توقيا من العقاب، والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة، وتهذيبا عن دنس الطبيعة. وقيل: إن الاتقاء الاول اتقاء عن شرب الخمر والايمان الاول هو الايمان بالله، والاتقاء الثاني هو إدامة الاتقاء الاول والايمان الثاني إدامة الايمان الاول، والاتقاء الثالث هو فعل الفرائض، والاحسان فعل النوافل. وقيل: إن الاتقاء الاول اتقاء المعاصي العقلية، والايمان الاول هو الايمان بالله وبقبح هذه المعاصي، والاتقاء الثاني اتقاء المعاصي السمعية والايمان الثاني هو الايمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وما يتعلق بالغير من الظلم والفساد، والمراد بالاحسان الاحسان إلى الناس. وقيل: إن الشرط الاول يختص بالماضي، والشرط الثاني بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله، والشرط الثالث يختص بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم وجميع ما ذكروه مما لا دليل عليه من لفظ الاية أو غيرها يوجب حمل الاية عليه، وهو ظاهر بالتأمل في سياق القول فيها والرجوع إلى ما قدمناه.
[ 131 ]
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطلب وأصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به ؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك على، فخرج إليها فنحرها ثم أخذ كبدها وسنامها فأدخل عليهم، قال: وأقبل على عليه السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا ذلك إليه. قال: فأقبل معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة وهو مغضب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة:: لو أراد ابن أبى طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله وانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: وكان قبل أحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآنيتهم فاكفئت، قال: فنودى في الناس بالخروج إلى أحد فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج الناس وخرج حمزة فوقف ناحية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فلما تصافحوا حمل في الناس حتى غيب فيهم ثم رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شئ، قال ثم حمل الثانية حتى غيب في الناس ثم رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عم رسول الله أن تذهب وفي نفس رسول الله عليك شئ -. فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه نحوه أقبل مقبلا إليه فعانقه وقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عينيه ثم قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، وكفنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تمرة. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطى وجهه انكشف رجلاه وإذا غطى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطى بها وجهه، وجعل على رجليه اذخر. قال فانهزم الناس وبقى على عليه السلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما صنعت ؟ قال:
[ 132 ]
يا رسول الله لزمت الارض فقال: ذلك الظن بك، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنجز لى يا رب ما وعدتني فإنك إن شئت لم تعبد. وعن الزمخشري في ربيع الابرار قال: أنزل في الخمر ثلاث آيات: " يسألونك عن الخمر والميسر " فكان المسلمون بين شارب وتارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فشربها من شربها من المسلمين حتى شربها عمر فأخذ لحى بعير فشج رأس عبد الرحمن بن عوف، ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الاسود بن يغفر:
وكاين بالقليب قليب بدر * من القنيات والشرب الكرام
وكاين بالقليب قليب بدر * من السرى المكامل بالسنام
أيوعدنا ابن كبشة أن نحيى * وكيف حياة أصداء وهام
أيعجز أن يرد الموت عنى * وينشرنى إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عنى * بأنى تارك شهر الصيام
فقل لله: يمنعنى شرابي * وقل لله: يمنعنى طعامي
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فأنزل الله سبحانه وتعالى: " إنما يريد الشيطان - إلى قوله - فهل أنتم منتهون " فقال عمر: انتهينا. وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والنحاس في ناسخه عن سعد بن أبى وقاص قال: في نزل تحريم الخمر، صنع رجل من الانصار طعاما فدعانا فأتاه ناس فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، وذلك قبل أن تحرم الخمر فتفاخروا فقالت الانصار: الانصار: خير، وقالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحى جزور فضرب على أنفى ففزره - فكان سعد مفزور الانف - قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر، إلى آخر الاية ". اقول: والروايات في القصص التى أعقبت تحريم الخمر في الاسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.
[ 133 ]
أما هؤلاء الذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أن هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن في الايات إشعارا أو دلالة على ان رهطا من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتى نزلت آية المائدة. نعم ورد في بعض الروايات أن عليا عليه السلام وعثمان بن مظعون كانا قد حرما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، وقد ذكر في الملل والنحل رجالا من العرب حرموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، وقد وفق الله سبحانه بعض هؤلاء ان أدرك الاسلام ودخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي وقد أدرك الاسلام، ومنهم صفوان بن امية بن محرث الكنانى وعفيف بن معدى كرب الكندى والاسلوم اليامى وقد حرم الزنا والخمر معا، وهؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحق على لسانهم، وأما عامتهم في الجاهلية كعامة أهل الدنيا يومئذ إلا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتى حرمها الله سبحانه في كتابه. والذى تفيده آيات الكتاب العزيز أنها حرمت في مكة قبل الهجرة كما يدل عليه قوله تعالى: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى " (الاعراف: 33) والاية مكية، وإذا انضمت إلى قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " (البقرة: 219)، وهى آية مدنية نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شك في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، وإذا تدبرنا في سياق آيات المائدة، وخاصة فيما يفيده قوله: " فهل أنتم منتهون " وقوله: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا، الاية " انكشف أن ما ابتلى به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة وآية المائدة إنما كان كالذنابة لسابق العادة السيئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام عصيانا حتى نزل قوله تعالى: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم " (البقرة: 187). فقد تبين أن في هذه الروايات كلاما من وجهين: احدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مر في الرواية الاولى أنها
[ 134 ]
قبيل غزوة أحد وفي بعض الروايات: ان ذلك بعد غزوة الاحزاب (1) لكن الامر في ذلك سهل في الجملة لامكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة وإن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كل الموافقة. وثانيهما: من جهة دلالتها على أن الخمر لم تكن بمحرمة قبل نزول آية المائدة أو انها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس وخاصة للصحابة مع صراحة آية الاعراف المحرمة للاثم وآية البقرة المصرحة بكونها إثما، وهى صراحة لا تقبل تأويلا. بل من المستبعد جدا أن تنزل حرمة الاثم بمكة قبل الهجرة في آية تتضمن جمل المحرمات أعنى قوله: " قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون " (الاعراف: 33) ثم يمر عليه زمان غير يسير، ولا يستفسر المؤمنون معناه من نبيهم ولا يستوضحه المشركون وأكبر همهم النقض والاعتراض على كتاب الله مهما توهموا إليه سبيلا. بل المستفاد من التاريخ أن تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخمر كتحريمه الشرك والزنا كان معروفا عند المشركين يدل على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلاد بن قرة وغيره من مشائخ بكر بن وائل من أهل العلم: أن أعشى بنى قيس خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الاسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليم مسهدا
(القصيدة) فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال له: " يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الاعشى: والله إن ذلك لامر ما لى فيه من إرب، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرم الخمر فقال الاعشى: أما هذه فإن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامى هذا ثم آتيه فاسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_____________________________
(1) روى ذلك الطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور عنخخ وعن ابن المنذر عن قتادة. (*)
[ 135 ]
فلا يبقى لهذه لروايات إلا ان تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الايات مع الذهول عن آية الاعراف، وللمفسرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة (1). وبعد اللتيا والتى فالكتاب نص في تحريم الخمر في الاسلام قبل الهجرة، ولم تنزل آية المائدة إلا تشديدا على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهى الالهى وإقامة حكم الحرمة. وفي تفسير العياشي: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه قيل له: روى عنكم: ان الخمر والانصاب والازلام رجال ؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون. وفيه: عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر وقامت عليه البينة فسأل عليا فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أمير المؤمنين ليس على حد أنا من أهل هذه الاية: " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات - جناح فيما طعموا فقرأ الاية حتى استتمها فقال له على عليه السلام: كذبت لست من أهل هذه الاية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، وليس يأكلون ولا يشربون إلا ما يحل لهم. اقول: وروى هذا المعنى أيضا عن أبى الربيع عنه عليه السلام، ورواه أيضا الشيخ في التهذيب بإسناده عن ابن سنان عنه عليه السلام، وهذا المعنى مروى من طرق أهل السنة أيضا. وقوله عليه السلام [ ما طعم أهلها فهو حلال لهم، الخ ] منطبق على ما قررناه في البيان السابق من معنى الاية فراجع. وفي تفسير الطبري عن الشعبى قال: نزلت في الخمر أربع آيات: " يسألونك عن الخمر والميسر، الاية " فتركوها ثم نزلت: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " فشربوها ثم نزلت الايتان في المائدة: " إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون ".
_____________________________
(1) حتى ذكر بعضهم: أن الصحابة كانوا يتأولون آية البقرة: " قل فيهما إثم " مع تصريح القرآن بحرمة الاثم قبل ذلك في آية الاعراف، بان المراد به الاثم الخالص. (*)
[ 136 ]
أقول: ظاهره نسخ آية النحل لاية البقرة ثم نسخ آيتى المائدة لاية النحل، وأنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد. وفي الكافي والتهذيب بإسنادهما عن أبى جعفر عليه السلام قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا. وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " قيل: يا رسول الله ما الميسر ؟ قال: كلما تقمرت به حتى الكعاب والجوز، قيل فما الانصاب ؟ قال: ما ذبحوا لالهتهم قيل: فما الازلام ؟ قال: قداحهم التى يستقسمون بها. وفيه: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبى جعفر عليه السلام: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر. اقول: والرواية مروية من طرق أهل السنة أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظها: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواها البيهقى وغيره، وقد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بأن كل مسكر حرام، وأن كلما يقامر عليه فهو ميسر. وفي تفسير العياشي: عن أبى الصباح عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: سألته عن النبيذ والخمر بمنزلة واحدة هما ؟ قال: لا، إن النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إن الله حرم الخمر قليلها وكثيرها كما حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاشربة المسكر، وما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد حرم الله. وفي الكافي والتهذيب بإسنادهما عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: إن الله لم يحرم الخمر لاثمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، وفي رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.
[ 137 ]
اقول: والاخبار في ذم الخمر والميسر من طرق الفريقين فوق حد الاحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.
* * *
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم - 94. يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام - 95. أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذى إليه تحشرون - 96. جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم مافى السموات وما في الارض وأن الله بكل شئ عليم - 97. إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم - 98. ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون - 99.
(بيان)
الايات في بيان حكم صيد البر والبحر في حال الاحرام.
[ 138 ]
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " البلاء هو الامتحان والاختبار، ولام القسم والنون المشددة للتأكيد، وقوله: بشئ من الصيد يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عونا لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهى في الاية الاتية، وقوله: " تناله أيديكم ورماحكم " تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير وصغار الوحش والبيض تنالها الايدى فتصطاد بسهولة، ومن حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلا بالسلاح. وظاهر الاية أنها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدد في الاية التالية، ولذلك عقب الكلام بقوله: " ليعلم الله من يخافه بالغيب " فإن فيه إشعارا بأن هناك حكما من قبيل المنع والتحريم ثم عقبه بقوله: " فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ". قوله تعالى: " ليعلم الله من يخافه بالغيب لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونكم الله ليعلم كذا كناية عن أنه سيقدر كذا ليتميز منكم من يخاف الله بالغيب عمن لا يخافه لان الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتى يرفعه بالعلم، وقد تقدم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، الاية " (آل عمران: 142) في الجزء الرابع من هذا الكتاب، وتقدم أيضا معنى آخر لهذا العلم. وأما قوله: " من يخافه بالغيب " فالظرف متعلق بالخوف، ومعنى الخوف بالغيب أن يخاف الانسان ربه ويحترز ما ينذره به من عذاب الاخرة وأليم عقابه، وكل ذلك في غيب من الانسان لا يشاهد شيئا منه بظاهر مشاعره، قال تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب " (يس: 11)، وقال: " وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب " (ق: 33)، وقال: " الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون " (الانبياء: 49). وقوله: " فمن اعتدى بعد ذلك " أي تجاوز الحد الذى يحده الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " (الخ)، الحرم بضمتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: ورجل حرام ومحرم بمعنى، وحلال
[ 139 ]
ومحل كذلك، وأحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، وأحرم أيضا دخل في الحرم، وأحرم أهل بالحج، والحرم الاحرام، ومنه الحديث: كنت أطيب النبي لحرمه، وأصل الباب المنع، وسميت النساء حرما لانها تمنع، والمحروم الممنوع الرزق. قال: والمثل والمثل والشبه والشبه واحد، قال: والنعم في اللغة الابل والبقر والغنم، وإن انفردت الابل قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعما ذكره الزجاج. قال: قال الفراء: العدل بفتح العين ما عادل الشئ من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلام يعدل غلاما فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت وقلت: عدل، وقال البصريون: العدل والعدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس. قال: والوبال ثقل الشئ في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، ومنه: " فأخذناه أخذا وبيلا " أي ثقيلا شديدا، ويقال لخشبة القصار: وبيل من هذا، انتهى. وقوله: " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " نهى عن قتل الصيد لكن يفسره بعض التفسير قوله بعد: " أحل لكم صيد البحر " هذا من جهة الصيد، ويفسره من جهة معنى القتل قوله: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء " (إلخ)، فقوله: " متعمدا " حال من قوله: " من قتله " وظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذى هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمى إلى هدف فأصاب صيدا، ولازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصدا لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسيا أو ساهيا. وقوله: " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، وذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هديا يهدى به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية. فقوله: " جزاء " بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، وقوله: " مثل
[ 140 ]
ما قتل " وقوله: " من النعم " وقوله: " يحكم به " (إلخ) أوصاف للجزاء، وقوله: " هديا بالغ الكعبة " موصوف وصفة، والهدى حال من الجزاء تقدم، هذا، وقد قيل: غير ذلك. وقوله: " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " خصلتان اخريان من خصال كفارة قتل الصيد، وكلمة " أو " لا يدل على أزيد من مطلق الترديد، والشارح السنة، غير أن قوله: " أو كفارة " حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال. وقوله: " ليذوق وبال أمره " اللام للغاية، وهى ومدخولها متعلق بقوله: " فجزاء " فالكلام يدل على أن ذلك نوع مجازاة. قوله تعالى: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، إلى آخر الاية " تعلق العفو بما سلف قرينه على أن المراد بما سلف هو ما تحقق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الاية فإن تعلق العفو بما يتحقق حين نزول الاية أو بعده يناقض جعل الحكم وهو ظاهر، فالجملة لدفع توهم شمول حكم الكفارة للحوادث السابقة على زمان النزول. والاية من الدليل على جواز تعلق العفو بما ليس بمعصية من الافعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهى المولوي لاشتمالها على المفسدة، وأما قوله: " ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " فظاهر العود تكرر الفعل، وهذا التكرر ليس تكرر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: ومن عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لانه حينئذ ينطبق على الفعل الذى يتعلق به الحكم في قوله: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء " (الخ)، ويكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفارة، وهو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله: " فينتقم الله منه " أنه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حال فعلى. وهذا شاهد على أن المراد بالعود العود ثانيا إلى فعل تعلق به الكفارة، والمراد بالانتقام العذاب الالهى غير الكفارة المجعولة. وعلى هذا فالاية بصدرها وذيلها تتعرض لجهات مسألة قتل الصيد، أما ما وقع منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، وأما بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء
[ 141 ]
مثل ما قتل في المرة الاولى فإن عاد فينتقم الله منه ولا كفارة عليه، وعلى هذا يدل معظم الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الاية. ولو لا هذا المعنى كان كالمتعين حمل الانتقام في قوله: " فينتقم الله منه " على ما يعم الحكم بوجوب الكفارة، وحمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي ومن عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي ومن قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفارة، وهذا - كما ترى - معنى بعيد من اللفظ. قوله تعالى: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم و للسيارة " إلى آخر الاية، الايات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو بر، وهو الشاهد على أن متعلق الحل هو الاصطياد في قوله: " أحل لكم صيد البحر " دون أكله، وبهذه القرينة يتعين قوله: " وطعامه " في أن المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدرى الذى هو الاكل والمراد بحل طعام البحر حل أكله فمحصل المراد من حل صيد البحر وطعامه جواز اصطياد حيوان البحر وحل أكل ما يؤخذ منه. وما يؤخذ من طعام البحر وإن كان أعم مما يؤخذ منه صيدا كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان ونحوه إلا أن الوارد من أخبار أئمة أهل البيت عليهم السلام تفسيره بالمملوح ونحوه من عتيق الصيد، وقوله: " متاعا لكم وللسيارة " كأنه حال من صيد البحر وطعامه، وفيه شئ من معنى الامتنان. وحيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم وبين السيارة في قوة قولنا: متاعا للمحرمين وغيرهم. واعلم أن في الايات أبحاثا فرعية كثيرة معنونة في الكتب الفقهية من أرادها فليراجعها. قوله تعالى: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد " ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه بيت حرام، وكذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدى والقلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين الله سبحانه في هذه الاية من الامر إنما هو الحرمة.
[ 142 ]
والقيام ما يقوم به الشئ، قال الراغب: والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشئ أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما " أي جعلها مما يمسككم، وقوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " أي قواما لهم يقوم به معاشهم ومعادهم، قال الاصم: قائما لا ينسخ، وقرئ: قيما بمعنى قياما، انتهى. فيرجع معنى قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " إلى أنه تعالى جعل الكعبة بيتا حراما احترمه، وجعل بعض الشهور حراما، ووصل بينهما حكما كالحج في ذى الحجة الحرام وجعل هناك امورا تناسب الحرمة كالهدى والقلائد كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة. فإنه جعل البيت الحرام قبلة يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم، ويحترمونه في سيئ حالاتهم، فيتوحد بذلك جمعهم، ويجتمع به شملهم، ويحيى ويدوم به دينهم، ويحجون إليه من مختلف الاقطار وأقاصى الافاق فيشهدون منافع لهم، ويسلكون به طرق العبودية. ويهدى باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون، وقد بينه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله: " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين " (آل عمران: 96)، وقد وافاك في الاية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنور به المقام. ونظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياما للناس وقد حرم الله فيه القتال، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ويصلحون فيه ما فسد أو اختل من شؤون حياتهم، والشهر الحرام بين الشهور كالموقف والمحط الذى يستريح فيه المتطرق التعبان، وبالجملة البيت الحرام والشهر الحرام وما يتعلق بذلك من هدى وقلائد قيام للناس من عامة جهات معاشهم ومعادهم، ولو استقرا المفكر المتأمل جزئيات ما ينتفع به الناس انتفاعا جاريا أو ثابتا من بركات البيت العتيق والشهر الحرام من صلة الارحام، ومواصلة الاصدقاء، وإنفاق الفقراء، واسترباح الاسواق، وموادة الاقرباء والادانى، ومعارفة الاجانب والاباعد، وتقارب القلوب، وتطهر الارواح،
[ 143 ]
واشتداد القوى، واعتضاد الملة، وحياة الدين، وارتفاع أعلام الحق، ورايات التوحيد أصاب بركات جمة ورأى عجبا. وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الايات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهم أن هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأى فائدة لتحريم الصيد في مكان من الامكنة أو زمان من الازمنة ؟ وأى جدوى في سوق الهدى ونحو ذلك ؟ وهل هذه الاحكام إلا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافية بين الامم الجاهلة الهمجية. فاجيب عن ذلك بأن اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم مبنى على حقيقة علمية وأساس جدى وهو أنها قيام يقوم به صلب حياتهم. ومن هنا يظهر وجه اتصال قوله: " ذلك لتعلموا، إلى آخر الاية " بما قبله، والمشار إليه بقوله: " ذلك " إما نفس الحكم المبين في الايات السابقة الذى يوضح حكمة تشريعه قوله: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " (الخ)، وإما بيان الحكم الموضح بقوله: " جعل الله الكعبة " (الخ)، المدلول عليه بالمقام. والمعنى على التقدير الاول أن الله جعل البيت الحرام والشهر الحرام قياما للناس ووضع ما يناسبهما من الاحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما والعمل بالاحكام المشرعة فيهما إلى أن الله عليم بما في السماوات والارض وما يصلح شؤونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شئ من ذلك حكما خرافيا صادرا عن جهالة الوهم. والمعنى على التقدير الثاني أنا بينا لكم هذه الحقيقة وهى جعل البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الاحكام قياما للناس لتعلموا أن الله عليم بما في السماوات والارض وما يتبعها من الاحكام المصلحة لشؤونها فلا تتوهموا أن هذه الاحكام المشرعة لاغية من غير جدوى أو أنها خرافات مختلقة. قوله تعالى: " اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم، إلى آخر الايتين " تأكيد للبيان وتثبيت لموقع الاحكام المذكورة، ووعيد ووعد للمطيعين والعاصين، وفيه شائبة تهديد، ولذلك قدم توصيفه بشدة العقاب على توصيفه بالمغفرة والرحمة ولذلك أيضا أعقب الكلام بقوله: " ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ".
[ 144 ]
(بحث روائي)
في الكافي: بإسناده عن حماد بن عيسى وابن أبى عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم "، قال: حشرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم. أقول: ورواه العياشي عن معاوية بن عمار مرسلا، وروى هذا المعنى أيضا الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بإسنادهما إلى الحلبي عن الصادق عليه السلام، والعياشي عن سماعة عنه عليه السلام مرسلا، وكذا القمى في تفسيره مرسلا، وروى ذلك عن مقاتل بن حيان كما يأتي. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الاية في عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب. اقول: والروايتان لا تنافيان ما قدمناه في البيان السابق من عموم معنى الاية. وفي الكافي مسندا عن أحمد بن محمد رفعه في قوله تبارك وتعالى: " تناله يديكم ورماحكم " قال: ما تناله الايدى البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الايدى. وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز، عن إبى عبد الله عليه السلام قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة فإإن قتل فرخا ففيه جمل، فن وطأإ بيضة فكسرها فعليه درهم، كل هذا يتصدق بمكة ومنى، وهو قول الله في كتابه: " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم " البيض والفراخ " ورماحكم " الامهات الكبار. اقول: ورواه الشيخ في التهذيب عن حريزعنه عليه السلام مقتصرا على الشطر الاخير من الحديث. وفي التهذيب بإسناده عن ابن أبى عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه ويتصدق بالصيد على مسكين، فإن
[ 145 ]
عاد فقتل صيدا آخر لم يكن عليه جزاء وينتقم الله منه، والنقمة في الاخرة. وفيه: عن الكليني، عن ابن أبى عمير، عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفارة، فإن أصابة ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه، ولم يكن عليه كفارة. وفيه: عن ابن أبى عمير، عن معاوية بن عمار قال: قلت لابي عبد الله: محرم أصاب صيدا ؟ قال: عليه كفارة قلت: فإن هو عاد ؟ قال عليه كلما عاد كفارة. أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، وقد جمع الشيخ بينها بأن المراد أن المحرم إذا قتل متعمدا فعليه كفارة وإن عاد متعمدا فلا كفارة عليه، وهو ممن ينتقم الله منه، وأما الناسي فكلما عاد فعليه كفارة. وفيه: بإسناده عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " فالعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والامام من بعده يحكم به وهو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله والامام فحسبك ولا تسأل عنه. أقول: وفي هذا المعنى عدة روايات، وفي بعضها: تلوت عند أبى عبد الله عليه السلام: " ذوا عدل منكم " فقال: ذو عدل منكم، هذا مما أخطأت به الكتاب، وهو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر. وفي الكافي عن الزهري عن على بن الحسين قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عزوجل: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ". أو تدرى كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهرى ؟ قال: قلت: لا أدرى، قال: يقوم الصيد ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما. وفيه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن بعض رجاله، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: من وجب عليه هدى في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلا فداء الصيد فإن الله يقول:
[ 146 ]
" هديا بالغ الكعبة ". وفي تفسير العياشي عن حريز، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم " قال: مالحه الذى يأكلون، وقال: فصل ما بينهما: كل طير يكون في الاجام يبيض في البر ويفرخ في البر من صيد البر، وما كان من الطير يكون في البر ويبيض في البحر ويفرخ فهو من صيد البحر. وفيه: عن زيد الشحام، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة " قال: هي حيتان المالح، وما تزودت منه أيضا وإن لم يكن مالحا فهو متاع. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من طرق الشيعة. وفي الدر المنثور: أخرج إبن أبى شيبة عن معاوية بن قرة، وأحمد عن رجل من الانصار: أن رجلا أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بكل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين. أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن أبى شيبة، عن عبد الله بن ذكوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه ايضا عنه عن أبى الزناد عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم. وفيه: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه من طريق أبى المهزم عن النبي قال: في بيض النعام ثمنه. وفيه: أخرج ابن أبى حاتم عن أبى جعفر محمد بن على: أن رجلا سأل عليا عن الهدى مما هو ؟ قال: من الثمانية الازواج فكأن الرجل شك فقال على: تقرأ القرآن ؟ فكأن الرجل قال: نعم، قال فسمعت الله يقول: " يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام " ؟ قال: نعم، قال: سمعته يقول: " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام، ومن الانعام حمولة وفرشا، فكلوا من بهيمة الانعام " ؟ قال: نعم. قال: فسمعته يقول: " من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الابل اثنين ومن
[ 147 ]
البقر اثنين " ؟ قال: نعم، قال: فسمعته يقول: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم - إلى قوله - هديا بالغ الكعبة " ؟ قال الرجل: نعم. فقال: إن قتلت ظبيا فما على ؟ قال: شاة، قال على: هديا بالغ الكعبة ؟ قال الرجل: نعم فقال على: قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع. وفيه: أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية قضوا فيما كان من هدى مما يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فاطعم به المساكين. وفيه: أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم قال: ما لفظه ميتا فهو طعامه. اقول: وروى ما في معناه عن بعض الصحابة أيضا لكن المروى من طرق أهل البيت عنهم عليهم السلام خلافه كما تقدم. وفي تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " قال: جعل الله لدينهم ومعايشهم. اقول: وقد تقدم توضيح معنى الرواية.
* * *
قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون - 100.
(بيان)
الاية كأنها مستقلة مفردة لعدم ظهور اتصالها بما قبلها وارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحل في بيان اتصالها بما قبلها، وإنما تشتمل على مثل كلى ضربه الله سبحانه لبيان خاصة يختص بها الدين الحق من بين سائر الاديان والسير الغامة الدائرة، وهى أن
[ 148 ]
الاعتبار بالحق وإن كان قليلا أهله وشاردة فئته، والركون إلى الخير والسعادة وإن أعرض عنه الاكثرون ونسيه الاقوون، فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلا على العقل السليم، وحاشا العقل السليم أن يهدى إلا إلى صلاح المجتمع الانساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة وسبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الاكثرين أو خالف، وكثيرا ما يخالف، فهو ذا النظام الكونى وهو محتد الاراء الحقة لا يتبع شيئا من أهوائهم، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والارض. قوله تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " كأن المراد بعدم استواء الخبيث والطيب أن الطيب خير من الخبيث، وهو أمر بين فيكون الكلام مسوقا للكناية، وذلك أن الطيب بحسب طبعه وبقضاء من الفطرة أعلى درجة وأسمى منزلة من الخبيث، فلو فرض انعكاس الامر وصيرورة الخبيث خيرا من الطيب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقى والصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيب في منزلته ويساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفى استواء الخبيث والطيب كان ذلك أبلغ في نفى خيرية الخبيث من الطيب. ومن هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيرا من الطيب، وإنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة والخسة إلى أوج الكرامة والعزة حتى يساوى الطيب في مكانته ثم يعلو عليه ولو قيل: لا يستوى الطيب والخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيب لا يكون أردى وأخس من الخبيث، وكان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلة الطيب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك. والطيب والخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لاشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيب أو الخبيث والارض الطيبة أو الخبيثة قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " (الاعراف: 58)، وقال تعال: " والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32)، وإن اطلق الطيب والخباثة أحيانا على شئ من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيب أو الخبيث والخلق الطيب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية. هذا ولكن تفريع قوله: " فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون " على
[ 149 ]
قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب، الخ " والتقوى من قبيل الافعال أو التروك، وطيبها وخباثتها عنائية مجازية، وإرسال الكلام أعنى قوله: " لا يستوى، الخ " إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيب والخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما فيكون الحجة ناجحة، ولو كان المراد هو الطيب والخبيث من الاعمال والسير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، وما يخالف اهواءها ويعارض مشيئتها هو الخبيث. فالقول مبنى على معنى آخر بينه الله سبحانه في مواضع من كلامه، وهو ان الدين مبنى على الفطرة والخلقة، وان ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، وما ينهى عنه هو الخبيث، وان الله لم يحل إلا الطيبات ولم يحرم إلا الخبائث قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (الروم: 30)، وقال: " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الاعراف: 157). وقال: " قل من حرم زينة الله التى اخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الاعراف: 32). فقد تحصل أن الكلام أعنى قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث "، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الاشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة والشقاوة الانسانيتين، ولا يؤثر فيها قلة ولا كثرة فالطيب طيب وإن كان قليلا، والخبيث خبيث وإن كان كثيرا. فمن الواجب على كل ذى لب يميز الخبيث من الطيب، ويقضى بأن الطيب خير من الخبيث، وأن من الواجب على الانسان أن يجتهد في إسعاد حياته، ويختار الخير على الشر أن يتقى الله ربه بسلوك سبيله، ولا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الاعمال ومهلكات الاخلاق والاحوال، ولا يصرفه الاهواء عن اتباع الحق بتوليه أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الانسانية. قوله تعالى: " فاتقوا الله يا أولى الالباب لعلكم تفلحون " تفريع على المثل المضروب في صدر الاية، ومحصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الالهية التى تبتنى هي أيضا على طيبات وخبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الانسان وفلاحه
[ 150 ]
على ما لا يرتاب في ذلك ذو لب وعقل فيجب عليكم يا اولى الالباب أن تتقوا الله بالعمل بشرائعه لعلكم تفلحون.
* * *
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم - 101. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين - 102.
(بيان)
الايتان غير ظاهرتى الارتباط بما قبلهما، ومضمونهما غنى عن الاتصال بشئ من الكلام يبين منهما ما لا تستقلان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشمه جمع من المفسرين في توجيه اتصالهما تارة بما قبلهما، واخرى بأول السورة، وثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كله أولى. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " (الاية) الابداء الاظهار، وساءه كذا خلاف سره. والاية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وقد سكتت أولا عن المسؤول من هو ؟ غير أن قوله بعد: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم "، وكذا قوله في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود بالسؤال مسؤول بمعنى أن الاية سيقت للنهى عن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء من شأنها كيت وكيت، وإن كانت العلة المستفادة من الاية الموجبة للنهى تفيد شمول النهى لغير مورد الغرض وهو أن يسأل الانسان ويفحص عن كل ما عفاه العفو الالهى، وضرب دون الاطلاع عليه بالاسباب العادية والطرق
[ 151 ]
المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الامور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذى يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء. فنظام الحياة الذى نظمه الله سبحانه ووضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، ولم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفى منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الانسانية المبنية على نظام بدنى مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شئ عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والاعضاء الباقية، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها. ثم إن الاية أبهمت ثانيا أمر هذه الاشياء التى نهت عن السؤال عنها، ولم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم (الخ)، ومما لا يرتاب فيه أن قوله: " إن تبد لكم تسؤكم " نعت للاشياء، وهى جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة. فيستشكل بأن الانسان العاقل لا يطلب مايسؤه، ولو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور. ومن عجيب ما أجيب به عن الاشكال: أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط " إن " مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله " إن تبد لكم تسؤكم " دون " إذا أبديت لكم تسؤكم " دالا على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة. وقد أخطأ في ذلك، وليت شعرى أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع ؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع ؟ وهل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الاكرام على تقدير وقوع المجئ ؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف
[ 152 ]
في وجوب الانتهاء، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الاية هو النهى عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهى عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالاشكال على حاله. ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: إن المراد بقوله: " أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالاجال وعواقب الامور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الانسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقى عمره، وسبب موته، وحسن عاقبته، وعن أبيه من هو ؟ وقد كان دائرا بينهم في الجاهلية. فالمراد بقوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " هو النهى عن السؤال عن هذه الامور التى لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الانسان ويحزنه كظهور أن الاجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه. فهذه امور يتضمن غالبا مساءة الانسان وحزنه، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ". وهذا الوجه وإن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الاشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهى عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الاسئلة رعاية لمصلحة السائلين، لكنها أعنى الاشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة. أما عدم ملاءمته على المعنى الاول فلان السؤال عن هذه الاشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، والمفسدة هي المفسدة. وأما على المعنى الثاني فلان حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف
[ 153 ]
عن ما يحتاج إلى الكشف والابداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الاحكام وما يجرى مجراها، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو، وتشخيص من هو أبو فلان ؟ ونحو ذلك فهى مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهى عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " وهو ظاهر. فالاوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الاية الثانية: " قد سألها قوم من قبلكم، الخ " وكذا قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " تدل على أن المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالاحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الاحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه والاصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بنى إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التى أمروا بذبحها. ثم إن قوله تعالى: " عفا الله عنها " الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى في قوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " لا كما ذكروه: أنه وصف لاشياء، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، " الخ ". وهذا التعبير - أعنى تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالاشياء المذكورة هي الامور الراجعة إلى الشرائع والاحكام، ولو كانت من قبيل الامور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله. وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالاشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الاحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها، وأن السكوت عنها ليس لانها مغفول عنها أو مما اهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده وتسهيلا كما قال: " والله غفور حليم " فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الالهى الذى لم يكن البتة إلا للتسهيل والتخفيف، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الالهيين. فيرجع مفاد قوله: " لا تسألوا عن أشياء، الخ " إلى نحو قولنا: يا أيها الذين
[ 154 ]
آمنوا لا تسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفا وتسهيلا فإنها بحيث تبين لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، وتسوؤكم إن أبدئت لكم وبينت. وقد تبين مما مرأولا: أن قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " من تتمة النهى كما عرفت، لا لرفع النهى عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل. وثانيا: أن قوله تعالى: " عفا الله عنها " جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي. وثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: " والله غفور حليم " مع كون الكلام مشتملا على النهى غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: " عفا الله عنها " دون النهى الموضوع في الاية. قوله تعالى: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يقال: سأله وسأل عنه بمعنى، و " ثم " يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان. والباء في قوله: " بها " متعلقة بقوله: " كافرين " على ما هو ظاهر الاية من كونها مسوقة للنهى عن السؤال عما يتعلق بقيود الاحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع، فالكفر كفر بالاحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد. والاية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الاية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص اخرى من قوم موسى وغيرهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الاسدي فقال: أفى كل عام يا رسول الله ؟ قال: أما إنى لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عنى ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم
[ 155 ]
واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألواعن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الاية. اقول: وروى القصة عن أبى هريرة وأبى أمامة وغيرهما عدة من الرواة، ورويت في المجمع وغيره من كتب الخاصة، وهى تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء، الاية " قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام فقام خطيبا فقال: سلونى فإنكم لا تسألونى عن شئ إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بنى سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة - وكان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبى ؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لابيه فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا ولك نبيا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضى فيومئذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنزل عليه: " قد سألها قوم من قبلكم ". اقول: والرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، وقد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الاية. وفيه أيضا: أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ثعلبة الخشنى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها. وفي المجمع والصافى عن على عليه السلام قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها. وفي الكافي بإسناده عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ؟ قال: إن الله عزوجل يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما " وقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
[ 156 ]
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبى الحسن الرضا عليه السلام وكتب في آخره: أولم تنهوا عن كثرة المسائل ؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم وذلك، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء - إلى قوله تعالى - كافرين ".
* * *
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون - 103. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 104.
(بيان)
قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، هذه أصناف من الانعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام ونوع من التحرير، وقد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفى متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، وكذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، وإنما الذى تقبل الاسناد إليه تعالى ونفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لاحكام كانوا يدعونها لها فهى التى تقبل الاسناد ونفيه، فنفى جعل البحيرة وأخواتها في الاية نفى لمشروعية الاحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم. وهذه الاصناف الاربعة من الانعام وإن اختلفوا في معنى أسمائها ويتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها والاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها وهى البحيرة والسائبة والحامي
[ 157 ]
من الابل، وواحدة وهى الوصيلة من الشاة. أما البحيرة ففى المجمع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أأذنها (أي شقوها شقا واسعا) وامتنعوا عن ركوبها ونحرها، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيى لم تركبها، عن الزجاج. وقيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقو أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، ولا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، ولا حمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، ولا أن ينتفعن بها، وكان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال والنساء في أكلها، عن ابن عباس، وقيل " إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق. وأما السائبة ففى المجمع أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، وإن لا تخلى عن ماء ولا تمنع من مرعى، عن الزجاج، وهو قول علقمة. وقيل: هي التى تسيب للاصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجئ به إلى السدنة - وهم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. وقيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم تخلى سبيلها مع امها، وهى البحيرة، عن محمد بن إسحاق. وأما الوصيلة ففى المجمع: وهى في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت انثى فهى لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لالهتهم، فإن ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لالهتهم. عن الزجاج. وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لالهتهم ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقا، استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن
[ 158 ]
ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا: إن الاخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود ومقاتل. وقيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، عن محمد بن إسحاق. وأما الحامى ففى المجمع: هو الذكر من الابل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا من مرعى، عن ابن عباس وابن مسعود، وهو قول أبى عبيدة والزجاج. وقيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء. وهذه الاسماء وإن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الاقوام في سننهم، فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الاقوام الهمجية. وكيف كان فالاية ناظرة إلى نفى الاحكام التى كانوا قد اختلقوها لهذه الاصناف الاربعة من الانعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: " ما جعل الله، إلخ " وثانيا: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، إلخ ". ولذلك كان قوله: " ولكن الذين كفروا، إلخ " بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " سئل فقيل: فما هذا الذى يدعيه هؤلاء الذين كفروا ؟ فاجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: " وأكثرهم لا يعقلون " ومفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون وهم لا يعقلون، والقليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق وأن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، وهم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لازمة امورهم فهم أهل عناد ولجاج. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، إلى آخر الاية " في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذى شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق وهو الصدق الخالى عن الفرية، والعلم المبرى من الجهل فإن الاية السابقة تجمع الافتراء وعدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعنى جانب الله سبحانه - إلا الصدق والعلم. لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا وجدنا عليه آباءنا، والتقليد
[ 159 ]
وإن كان حقا في بعض الاحيان وعلى بعض الشروط وهو رجوع الجاهل إلى العالم، وهو مما استقر عليه سير المجتمع الانساني في جميع أحكام الحياة التى لا يتيسر فيها للانسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوى، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه والاخذ بما يعلم غيره. ولذلك رده تعالى بقوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون ولا يهتدون " ومفاده أن العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للانسان الرجوع إلى من لا علم عنده ولا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، ولا يعلم وصفه لا بالاستقلال ولا باتباع من له به خبرة. ولعل إضافة قوله: " ولا يهتدون " إلى قوله: " لا يعلمون شيئا " لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله وإن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسؤول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشئ، وأما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به ودلالته فهو مهتد في سلوكه، ولا ذم على من اتبعه في مسيره وقلده في سلوك الطريق، فإن الامر ينتهى إلى العلم بالاخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به. ومن هنا يتضح أن قوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجرى فيهم حكم الذم، ولا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ولا مسوغ لاتباع من هذا حاله. ولما تحصل من الاية الاولى أعنى قوله: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " أنهم بين من لا يعقل شيئا وهم الاكثرون، ومن هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب وإلقاء الحجة ولذلك لم تلق إليهم الحجة في الاية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم والصفح عن مواجهتهم فقيل: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ". وقد تقدم في الجزء الاول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى
[ 160 ]
التقليد يمكنك أن تراجعه. ويتبين من الاية أن الرجوع إلى كتاب الله وإلى رسوله - وهو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شئ.
(بحث روائي)
في تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، والحام فحل الابل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك. قال: ثم قال ابن بابويه: وقد روى: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن وإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس انثى بحروا اذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. والوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان انثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شئ فيحل أكلها للرجال والنساء. والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: وقد يروى: أن الحام هو من الابل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. أقول: ومن طرق الشيعة وأهل السنة روايات أخر في معاني هذه الاسماء: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان في البيان المتقدم.
[ 161 ]
والمتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الاصناف من الانعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر وحرمة أكل اللحم وعدم المنع من الماء والكلاء، وأن الوصيلة من الغنم والثلاثة الباقية من الابل. وفي المجمع: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين اسماعيل، واتخذ الاصنام ونصب الاوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلقد رأيته في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه، ويروى يجر قصبه في النار. اقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس وغيره. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لاعرف أول من سيب السوائب، ونصب النصب، وأول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: عمرو بن لحى أخو بنى كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه. وإنى لاعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: رجل من بنى مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار، وهما يقصمانه بأفواههما ويطئانه بأخفافهما. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول، وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الاسماء والصفات، عن أبى الاحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لى: هل لك من مال ؟ قلت نعم، قال: من أي المال ؟ قلت: من كل المال: من الابل والغنم والخيل والرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك. ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها ؟ قلت: نعم وهل تنتج الابل إلا كذلك ؟
[ 162 ]
قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم ؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.
* * *
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون - 105.
(بيان)
الاية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " لفظة " عليكم " اسم فعل بمعنى ألزموا، و " أنفسكم " مفعوله. ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير، فالملازم لمتن الطريق ينتهى إلى ما ينتهى إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التى يقصدها الانسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذى تفوت به الغاية المقصودة فالاية تقدر للانسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذى يرجع إليه الجميع: المهتدى والضال. فالثواب الذى يريده الانسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لاهل
[ 163 ]
الهداية والطرق المسلوكة لاهل الضلال تنتهى إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الانسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6) وقال تعالى: " ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22) وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (إبراهيم: 28) وقال تعالى: " فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون " (البقرة: 186) وقال تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد " (حم السجدة: 44). بين تعالى في هذه الايات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهى إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار. وبالجملة فالاية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤلين عنهم حتى يهمهم أمرهم، فالاية قريبة المضمون من قوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون " (الجاثية: 14) ونظيرها قوله تعالى: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " (البقرة: 134). فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا اولى الالباب لعلكم تفلحون " (المائدة: 100) وقال تعالى: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة " (حم السجدة: 34). فقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بناء على ما مر مسوق سوق الكناية
[ 164 ]
أريد به نهى المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " (القصص: 57). أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وبالجملة الاخذ بالاسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الامر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الاية في معنى قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8)، وقوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " (الرعد: 31) ونحو ذلك. وقد تبين بهذا البيان أن الاية لا تنافى آيات الدعوة وآيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الاية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه. على أن الدعوة إلى الله والامر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الاية آيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التى بنى عليها كما قال تعالى: " قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " (يوسف: 108) وقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " (آل عمران: 110). فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الالهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
[ 165 ]
وإذا كانت الاية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: " عليكم أنفسكم " بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذى يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فأمره تعالى المؤمنين بلزوم انفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذى يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذى يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته. فالاية تجلى الغرض الذى تؤمه إجمالا آيات اخرى كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون، لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " (الحشر: 20). فالايات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذى هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله ععليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وهذا المعنى هو الذى يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الانسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الامر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها ". وليس هناك إلا هذا الانسان الذى يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذى يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة
[ 166 ]
ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التى يقطعها الانسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهى إلى ربه، قال تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " (النجم: 42). وهو الانسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسرى إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الانسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره. وهذا طريق اضطرارى لا مناص للانسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6)، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والاية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك. وإنما تريد الاية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الانسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، والاعمال التى تربى النفس الانسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الامر مناسبا لغاية الصنع والايجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب. وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الانسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الالهية من دون أن يفوته تعالى شئ من أمره، وقد قال تعالى: " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " (هود: 56) وهذه تربية تكوينية على حد ما يربى الله سبحانه غيره من الامور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، وقد قال: " ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) ولا يتفاوت الامر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شئ وشئ فإن الصراط مستقيم، والامر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضا: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " (الملك: 3). وقد جعل سبحانه غاية الانسان وما ينتهى إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الانسان تنقسم تلك الاعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: " ونفس
[ 167 ]
وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) فالايات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدء الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبنى الغايتين أعنى الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الاخلاق، ثم تبنى الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعنى الاعمال الصالحة والطالحة التى تنطق الايات بأن الانسان ملهم بها من جانب الله تعالى. والايات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهى التى أضيف إليها الفجور والتقوى، وهى التى تزكى وتدسى، وهى التى يفلح فيها الانسان ويخيب، وهذا كما عرفت جرى على مقتضى التكوين. لكن هذه الحقيقة التكوينية أعنى كون الانسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسى الواقع الذى لا مفر له منه، وقد قال تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9). وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " (طه: 126). وذلك أأن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالاحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لامرها الذى يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " بعد قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ومعنى قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122).
[ 168 ]
وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق. ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الارض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التى يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الالهى بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التى لا يعرفها الكلام الالهى في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " (الانعام: 32) وقال تعالى: " ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30). إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافى يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادى. ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الاية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: " عليكم أنفسكم " هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الاسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الالهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والاعمال الصالحة والشعائر الاسلامية العامة كما قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (آل عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الاخذ بالكتاب والسنة. ويكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الاسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الاسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم. أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجرى الاية على هذا مجرى قوله تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران:
[ 169 ]
197)، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " (طه: 131). وهنا معنى آخر لقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " من جهة أن المنفى في الاية هو الاضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شئ معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الاطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الاسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامى بقوة قهرية فتكون الاية مسوقه ة سوق قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3)، وقوله: " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار " (آل عمران: 111). وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الاية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكروا أن الاية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو الامن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الاشارة إليها في البحث الروائي الاتى. ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الدينى من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب. لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الاية فإن الاية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك.
(بحث روائي)
في الغرر والدرر للامدي عن على عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه. اقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضا، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الاحاطة العلمية
[ 170 ]
بالله سبحانه، ورد أولا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ". وفيه عنه عليه السلام: قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله. اقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الاخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام: قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين. اقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالايات الانفسية والمعرفة بالايات الافاقية، قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " " حم السجدة: 53 " وقال تعالى: " وفي الارض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (الذاريات: 21). وكون السير الا نفسي أنفع من السير الافاقى لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الافاقية، وذلك أن كون معرفة الايات نافعة إنما هو لان معرفة الايات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادرا لا يشوبه عجز، وعالما لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ، والمالك لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الانسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدى الانسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة، وهى التى نسميها بالدين، فإن السنة التى يلتزمها الانسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوى والهمجى إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان،
[ 171 ]
ثم يعمل بما استحسنه من السنة لاسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التى يقدرها الانسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدى بها إلى الاعمال التى تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الانسان عمله عليها وهو السنة أو الدين. فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الايات الانفسية والافاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الانسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الالهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الانسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة. وهذه هداية إلى الايمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعنى طريقي النظر إلى الافاق والانفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والاحوال الحسنة أو السيئة التى تقارنها. واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الايات الافاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادى لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكرى وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الاقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الانسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الاشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الانسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في
[ 172 ]
وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال. وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الانسانية لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شئ كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شئ دونها فوجدت أنها دائما في خلا مع ربها وإن كانت في ملا من الناس. وعند ذلك تنصرف عن كل شئ وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شئ وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذى قدر لانسان. وهذه المعرفة الاحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التى يفيدها النظر في الايات الافاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الاله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علما. وقد روى في الارشاد والاحتجاج على ما في البحار عن الشعبى عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ. وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال. وفي التوحيد مسندا عن عبد الاعلى عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث. والاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لايرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الاعراف. فقد تحصل أن النظر في آيات الانفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعده عليه السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو
[ 173 ]
لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقى وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر. وفي الدرر والغررعن على عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها. اقول: أي أعتقها عن أسارة الهوى ورقية الشهوات. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه. اقول: وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به، وقد قال الله سبحانه: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". وفيه عنه عليه السلام قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل. وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها. وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه ؟. وفيه عنه عليه السلام قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه. أقول: وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة. وفيه عنه عليه السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه تجرد.
[ 174 ]
اقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم، أو تجرد عن كل شئ بالاخلاص لله. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جل أمره. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم. وفيه عنه عليه السلام قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات. وفيه عنه عليه السلام قال: معرفة النفس أنفع المعارف. وفيه عنه عليه السلام قال: نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شئ. وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لان الاسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكا، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. قيل له: فكيف سبيل التوحيد ؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه. قيل: وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته ؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: " إنك لانت يوسف " قال: " أنا يوسف وهذا أخى " فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه
[ 175 ]
من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث. أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله عليه السلام: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الانسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شئ، وعقب ذلك معرفه ربه معرفة بلا توسيط وسط، وعلما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله. وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشئ دونه، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: " تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه ". وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له: " فسبحانك ملات كل شئ وباينت كل شئ فأنت لا يفقدك شئ وأنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، وكل محدود من صنعه. - إلى أن قال - سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأى فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الاغطية، وهتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الارواح، فناجوك في أركانك، وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، ودعاهم أهل الجبروت عمارا ". وفي البحار عن إرشاد الديلمى - وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - وفيه: " فمن عمل برضائى ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتى محبة المخلوقين. فإذا أحبنى أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالى، ولا أخفى عليه خاصة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرفه السر الذى سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحيى منه الخلق كلهم، ويمشى على الارض مغفورا له، وأجعل قلبه واعيا
[ 176 ]
وبصيرا، ولا أخفى عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ثم لا أجعل بينى وبينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين. يا أحمد اجعل همك هما واحدا، واجعل لسانك لسانا واحدا، واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا، من يغفل عنى لا أبالى بأى واد هلك ". و الروايات الثلاثة الاخيرة وإن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضى الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفى بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر امورا من المواهب الالهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة. وهى أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الالهى على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الاعراف إن شاء الله العزيز. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " (الاية)، قال: قال عليه السلام: أصلحوا أنفسكم ولا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون. اقول: والرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الاية متوجهة إلى النهى عن التعرض لاصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة والامر بالمعروف و النهى عن المنكر، وليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر. وفي نهج البيان عن الصادق عليه السلام: أنه قال: نزلت هذه الاية في التقية. اقول: مفاد الرواية أن الاية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق والامر بالمعروف والنهى عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية، وقد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الاية لا تساعد على ذلك.
[ 177 ]
وقد روى في الدر المنثور عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود وابن عمر وأبى بن كعب وابن عباس ومكحول، وما روى في ذلك من الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير دالة على ذلك. وهى ما عن الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوى في معجمه وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وأبى الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبى امية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له: كيف تصنع هذه الاية ؟ قال: أيه آية ؟ قال: (1) قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. أقول: وفي هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية إنما تدل على أن الامر بالمعروف و النهى عن المنكر لم يرتفعا بالاية. وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبى عامر الاشعري: أنه كان فيهم شئ فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتاه فقال: ما حبسك ؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ذهبتم ؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم. اقول: والرواية كما ترى تخص الامر في الاية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق وتصرفها عن الترخيص في ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة وما يتبعها من آيات الجهاد ونحوها لا تقصر في الاباء عن ذلك عن آيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر.
_____________________________
(1) قلت. ظ (*)
[ 178 ]
وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى قال: ذكرت هذه الاية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال نبى الله صلى الله ععليه وسلم: لم يجئ تأويلها، لا يجئ تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم عليه السلام. اقول: والكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم. وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن حذيفة: في قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. اقول: وهو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، وروى مثله عن سعيد بن المسيب.
(بحث علمي)
ملفق من إشارات تاريخية وأبحاث أخر نفسية وغير ذلك في فصول: 1 - لم يزل الانسان فيما نعلم - حتى الانسان الاولى - يقول في بعض قوله: " أنا " و " نفسي " يحكى به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدرى ما يقول ويعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالاعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكى عنها بقوله: " أنا " و " نفسي " وربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير. وربما وجد الانسان أن الفارق بين الحى والميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذى يتنفس به الانسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشئ وبطل وجوده وانعدمت شخصيته وانيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) وهو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، وقضى أن الانسان هو المجموع من الروح والبدن. أو رأى ان الحس والحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم السارى في أعضائه أو الجارى في عروقه من شرائين وأوردة وان الحياة التى ترتحل الانسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الاحمر وجودا وعدما فحكم بأن النفس هو الدم
[ 179 ]
فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة. وربما دعى الانسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المنى حينما يلتقمه الرحم ويطرؤه التطور الكونى طورا بعد طور هو الذى يصير إنسانا، ان يذهب إلى ان النفس الانسانية هي الاجزاء الاصلية المجتمعة في النطفة، وهى باقية في البنية البدنية مدى الحياة، وربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير والبطلان، وان الانسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان ولا انها تقبل البطلان والانعدام مع ان النفس الانسانية لو كانت هذه الاجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله. فهذه الاقاويل وأمثالها لا تنافى ما يناله الانسان وهو إنسان من حقيقة قوله: " أنا " و " نفسي " ولا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد ان نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته وواقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك، فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين والشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف. وكذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة وهم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير الخصوصيات وجوده. وبالجملة مما لا ريب فيه أن الانسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي، وإذا لطف نظره وتعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الامور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان، ووجده غير هذا البدن المادى المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسى أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه ؟.
[ 180 ]
ودع عنك ما ربما يتوهم ان المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإن الذى يجده هذا الانسان بعد انقضاء حال الاغماء انه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الاغماء لا انه يذكر أنه كان غير شاعر بها، وبين المعنيين فرق، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التى نذكرها من حال المنام. وكيف كان لا ينبغى الارتياب في أن الانسان بما انه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذى يمثل له حقيقة نفسه التى يعبر عنها بأنا، ولو انه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية وأمانية المادية قضى بما تقدم ان نفسه أمر مغاير لسنخ المادة والماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه وآثارها لخواص الامور المادية وآثارها. غير ان الاشتغال بالمشاغل اليومية وصرف الهم إلى أمانى الحياة المادية ورفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الامر والاذعان بشئ من تلك الاراء الساذجة الابجدية والوقف على إجمال المشاهدة. 2 - الفرد العادى من الانسان وإن كان شغله هم الغذاء والمسكن والملبس والمنكح عن الغور في حقيقة نفسه والبحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره والخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذى تنزعج به النفس عن كل شئ وترجع إلى نفسها كالاخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء والزوال، وكالسرور والترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، وكالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه، وكالاضطرار الشديد الذى ينقطع به الانسان عن كل شئ إلى نفسه، إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية. هذه العوامل المختلفة والاسباب المتنوعة ربما أدى الانسان واحد منها أو أزيد من واحد إلى ان يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه، وهو الذى ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا ونحو ذلك. وربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة والاسف الشديدان فحال بينه وبين
[ 181 ]
حواسه الظاهرية، وركز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، امورا مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا وخفايا تخفى على حواس غيره. وربما كانت الارادة إذا شفعت باليقين والايمان الشديد والاذعان الجازم تفعل أفعالا لا يقدر عليها الانسان المتعارف، ولا ان الاسباب العادية يسعها ان تهدى إلى ذلك. فهذه حوادث جزئية: نادرة - بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الاشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، وأما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي ؟ فليس ههنا محل الاشتغال به. والذى يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الامور جميعا تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجة عنها - وخاصة اللذائذ الجسمانية - وانعطافها إلى نفسها، ولذا كان الاساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها و تشتتها الخارج عن الاحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، وليس إلا لان انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، ويهديها إلى مشتهياتها الخارجة، فيوزعها عليها ويقسم شعورها بينها، فتأخذ بها وتترك نفسها. 3 - لا ينبغى لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الاثار النفسانية كما تتم لبعض الافراد موقتا وفي أحايين يسير،، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثا معتدا به فكثيرا ما نجد أشخاصا متزهدين عن الدنيا ولذائذها المادية ومشتهياتها الفانية لا هم لهم إلا ترويض النفس والاشتغال بسلوك طريق الباطن. ولا ينبغى لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل والاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهى من السنن اللازمة للانسانية إلى أقدم عهودها التى نزلت في هذه الارض على ما نحسب. 4 - البحث عن حال الامم والتأمل في سننهم وسيرهم وتحليل عقائدهم وأعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان
[ 182 ]
دائرا بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الاوقات وأغلى الاثمان منذ أقدم الاعصار. ومن الدليل عليه أن الاقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية وغيرها ويوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر والكهانة والاذعان بحقيقتهما وإصابتهما. والاعتبار الدقيق فيما نقل الينا من المذاهب والاديان القديمة كالبرهمانية والبوذية والصابئة والمانوية والمجوسية واليهودية والنصرانية والاسلام، كل ذلك يعطى أن المهمة معرفة النفس والحصول على آثارها تسربا عميقا فيها وإن كانت مختلفة في وصفها وتلقينها وتقويمها. فالبرهمانية - وهى مذهب هند القديم - وإن كانت تخالف الاديان الكتابية في التوحيد وأمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس وتطهير السر وخاصة للبراهمة أنفسهم. نقل عن البيرونى في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضى سبع سنين منه منقسم لاربعة أقسام: فأول القسم الاول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه وتعريفه الواجبات عليه، وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حيا. قال: وقد دخل في القسم الاول إلى (1) السنة الخامسة والعشرين من سنه إلى السنة الثامنة و الاربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد ويجعل الارض وطاءه، ويقبل على تعلم " بيذ " وتفسيره علم الكلام والشريعة من استاذ يخدمه آناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقدم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لاستاذه بعد القربان، ويصوم يوما ويفطر يوما مع الامتناع عن اللحم أصلا، ويكون مقامه في دار الاستاذ، ويخرج منها السؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدى استاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، ويحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة والانوار مقتربة. وكذلك عند سائر الامم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، ولم يثنهم
_____________________________
(1) من ظ. (*)
[ 183 ]
عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور. قال: وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، وفيه يأذن له الاستاذ في التأهل فيتزوج ويقصد النسل. وذكر كيفية معاشرته أهله والناس وارتزاقه وسيرته. ثم قال: وأما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة والسبعين أو إلى التسعين، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من زخارى الحياة ويسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحارى، ويستمر خارج العمران على سيرته في القسم الاول، ولا يستكن تحت سقف، ولا يلبس إلا ما يوارى سوأته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الارض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار والنبات واصوله، ويطول الشعر ولا يدهن. قال: وأما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباسا أحمر، ويأخذ بيده قضيبا، ويقبل على الفكر وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ويرفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحدا البتة. فإن قصد موضعا ذا فضل طلبا للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع له أحد شيئا لم يترك منه للغد بقية، وليس له إلا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدى إلى الخلاص والوصول إلى المقام الذى لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الاحكام العامة التى يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه. وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الانفاس والاوهام (1) وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس. وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التى سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، وهجر أريكة
_____________________________
(1) وليرجع في تعرف حالهم إلى كتاب نفائس الفنون. (*)
[ 184 ]
العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس، وترك التمتع بمزايا الحياة، وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريبا من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ. وأما الصابئون ونعنى بهم أصحاب الروحانيات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا - على ما في الملل والنحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع امورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم، وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، انتهى. وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد لكنهم متفقوا الرأى في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة. وأما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوى وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالابدان، وان سعادتها وكمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، وإما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف. وأما أهل الكتاب ونعنى بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة وهى العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها. ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاشتغال بتطهير السر، ولا يزال
[ 185 ]
يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا جيلا بعد، جيل وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية. وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " (المائدة: 82)، وقال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27)، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين " (آل عمران: 114). وأما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات والاعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء وأصحاب الطلسمات وتسخير الارواح والجن وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها وأصحاب الاحضار وتسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس. (1) وجملة الامر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الاخيرة لجميع أرباب الاديان والمذاهب والاعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاشتغال بتطهيرها من شوب الاخلاق والاحوال غير المناسبة للمطلوب. 5 - لعلك ترجع وتقول: إن الذى ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذى تقدم البحث عنه. وبلفظ أوضح: الذى يندب إليه الاديان والمذاهب التى تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الانسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الاعمال الصالحة وترك الهوى والاثام ورذائل الاخلاق ليتهيأ بذلك لاحسن الجزاء إما في الاخرة كما يصرح به الاديان النبوية كاليهودية والنصرانية والاسلام، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب
_____________________________
(1) راجع في ذلك كتاب السر المكتوم للرازي والذخيرة الاسكندرية والكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي ورسالة السكاكى في التسخير والدر المكتوم لابن عربي وكتب الارواح والاحضار المعمولة أخيرا وغير ذلك. (*)
[ 186 ]
التناسخ وغيرهما. فالمتعبد على حسب الدستور الدينى يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة، وان لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها وكمال وجودها. وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الاعمال ولا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الارادة مثلا وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه. على ان في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادى طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الاجزاء الاصلية، ومن يرى ان النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، وهو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس ؟. لكنه ينبغى لك ان تتذكر ما تقدم ذكره ان الانسان في جميع هذه المواقف التى يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجية والتمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الاسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل والاسباب الخارجية، والاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها. فالمتدين المتزهد في دينه يرى ان من الواجب الانساني ان يختار لنفسه سعادته الحقيقية وهى الحياة الطيبة الاخروية عند المنتحلين بالمعاد، والحياة السعيدة الدنيوية التى تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ، ثم يرى ان الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، ولا تسلك به إلى غرضه، فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، والانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الاسباب المادية العادية بالتقرب إليه والاتصال به، وان هذا التقرب والاتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لامره وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية، وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك.
[ 187 ]
فالاعمال والمجاهدات والارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، والانسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا ولا يترك شينا إلا لنفع نفسه، وقد تقدم ان الانسان لا يخلو، ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته وأنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، وإن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأى النظرى والبحث الفكري، فظهر بهذا البيان ان الاديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا. وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلا بديلا ولا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التى يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالاعمال والتروك التى يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الاسباب الطبيعية ومسبباتها، بل هو ارتباط إرادى غير مادى متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذى يأتي به، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة، فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة، وإن شئت قلت: أثر الرياضة ان تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو ارادت المطلوب مطلقا أو ارادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبى غير المراهق في المرآت حصل المطلوب. وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روى: " انه ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان بعض أصحاب عيسى عليه السلام كان يمشى على الماء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان يقينه اشد من ذلك لمشى على الهواء " فالحديث - كما ترى - يومئ إلى ان الامر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الاسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الانسان إلى القدرة المطلقة الالهية انقادت له الاشياء على قدره، فافهم ذلك. ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق عليه السلام: ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر: " إنما الاعمال بالنيات ". فقد تبين أن الاثار الدينية للاعمال والعبادات و كذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الانسانية بشؤونها الباطنية، فالاشتغال بشئ منها
[ 188 ]
اشتغال بأمر النفس. ومن زعم أن رابطة السببية والمسببية إنما هي بين أجساد هذه الاعمال وبين الغايات الاخروية مثلا من روح وريحان وجنة نعيم، أو بينها وبين الغايات الدنيوية الغريبة التى لا تعمل الاسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس وأنواع إرادتها والتحريكات من غير محرك والاطلاع على الضمائر والحوادث المستقبلة والاتصال بالروحانيات والارواح ونحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الاثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه. 6 - إياك أن يشتبه عليك الامر فتستنتج من الابحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف أعنى معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوى الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية والعرفان وهو الدين. وذلك أن الذى يعقد عليه الدين أن للانسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة ورفض الاقتصار على التمتعات المادية، وقد انتجت الابحاث السابقة: أن الاديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التى تعدهم إياها وتدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا وتهذيبا يناسب المطلوب، وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين. فالدين يدعو إلى عبادة الاله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لان فيها السعادة الانسانية والحياة الطيبة التى لا بغية للانسان دونها، ولا ينالها الانسان ولن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربى في حجره للتلبس بالخير والسعادة، ولا يكون كمن يتناول الشئ بإحدى يديه ويدفعه بالاخرى، فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه، وإن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام. وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة، والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط. نعم لنا أن نقضى بأمر وهو أن عرفان النفس بأى طريق من الطرق فرض السلوك
[ 189 ]
إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطى أن الاديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الانسانية وهو دين التوحيد. فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالاغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهى إلى سبب واحد فوق الاسباب، وهو الحق الذى يجب الخضوع لجانبه وترتيب السلوك الحيوى على حسب تدبيره وتربيته، وهو الدين المبنى على التوحيد. والتأمل العميق في جميع الاديان والنحل يعطى أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحى حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الاصل والاصابة والاخطاء فيه، فمن قائل مثلا: إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولى ولا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل: إن تسفل الانسان الارضى وخسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الارباب ؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة وهم روحانيات الكواكب أو أرباب الانواع أو المقربون من الانسان " وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ". وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالانصاب والاصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، وعلى هذا القياس في سائر الاديان والملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الاله عز اسمه. ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب فرض واختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهى بالاخرة إلى دين الفطرة الساذجة الانسانية وهو التوحيد، فدين التوحيد أبو الاديان وهى أبناء له صالحة أو طالحة.
[ 190 ]
ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الانسانية التى يدعو إليها وهى معرفة الاله التى هي المطلوب الاخير عنده، وبعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الدينى لا يرتضى الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية ؟. ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهى إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الانسانية حتى ينتهى فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري. ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو أن الانسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع والمدنية لاسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنئا اجتماعية، وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنة الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشرى. نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والارواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الاثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه. 7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لابصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذى لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة، وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذانية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، واستناد
[ 191 ]
الامور إليه تعالى، وإن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفى الاسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه. وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبى - على ما هو المتعارف - وهو كغيره يرى إن الصبى إنما يبصره بالبصر الحسى، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبى في الظفر بمشاهدته. وربما وجدوا الارواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لان عالم الارواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه. وربما أحضروا روح إنسان حى فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه. وربما نوم الانسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذى لقنه على الشريطة التى أريد بها وهو غافل عما لقنوه وعن إنعامه بقبوله. وبعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الانسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة، وخاصة بعض من لا يرى لغير الامر المادى وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أأن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الارواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادى أو خاصة لمبدأ مادى يفعل بالشعور والارادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم. ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أأن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته وأشكاله لما وجدوا أن الانسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة، وربما يمثل لارباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم وهى مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري مادام الانسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.
[ 192 ]
وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الانسان نظيرة صورته التى يدركها من بدنه، ونظيرة صور سائر الاشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكورة أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التى تتراءى لارباب المجاهدات أنها صورة الروح. وحقيقة الامر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطأوا في تفسير ما نالوه وضلوا في توجيه أمره، والحق الذى يهدى إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التى هي هذا الشعور المتعقل المحكى عنه بقولنا " أنا " أمر مغاير في جوهره لهذه الامور المادية كما تقدم، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والادراك من البدن فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور، فهذه الامور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها ؟ وأن للنفس سمة عليه لجميع الحوادث والامور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الامور الغريبة المطاوعة لاهل الرياضة والمجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم، والارادة ناشئة من الشعور، فللشعور الانساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والامور المماسة له. 8 - فمن الحرى أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون به بالاشتغال بإحراز شئ من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الاسباب والمسببات المادية، كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الامور والجن وأرواح الادميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك. والثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الامور الخارجة عنها والانجذاب نحوها للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم. وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الامم التى
[ 193 ]
تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم. لكن لا بمعنى الاخذ والتقليد العادى كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض وأمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الاديان والمذاهب، وذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدى إلى الزهد والزهد يرشد إلى عرفان النفس، فاستقرار الدين بين أمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لان تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الامم برهة معتدا بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة وإن انقطعوا عن غيرهم من الامم الدينية كل الانقطاع، وما هذا شأنه لا ينبغى أن يعد من السنن الموروثة التى يأخذها جيل عن جيل. 9 - ثم ينبغى أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لانهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذى هو السبب الحق الاخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها وكيف يسع الانسان تمام معرفة شئ مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذى هو سبب كل سبب ؟ وهل هو إلا كمن يدعى معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره وغرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير ؟. ومن الحرى بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شئ من علوم النفس وآثارها. وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، وطريقتهم هذه هي التى يرتضيها الدين في الجملة وهى أن يشتغل الانسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية، وتكون النفس طريقا مسلوكا والله سبحانه
[ 194 ]
هو الغاية التى يسلك إليها " وأن إلى ربك المنتهى ". وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الامم والنحل، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التى يسلكونها، وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الاصول إلى خمس وعشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، وقد استندوا فيها إلا في واحدة إلى على عليه أفضل السلام، وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الاويسية (نسبة إلى أويس القرنى) وهناك آخرون منهم لا يتسمون باسم ولا يتظاهرون بشعار. ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم، والنواميس والاداب التى لهم وعن رجالهم، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، وأعربوا فيها عن حججهم ومقاصدهم التى بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد فله مقام آخر وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس. واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظرى، وأما علم النفس الذى دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغنى من ذلك شيئا، وكذلك فن النفس العملي الذى دونه المتأخرون حديثا فإنما هو شعبة من فن الاخلاق على ما دونه القدماء، والله الهادى.
* * *
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى
[ 195 ]
ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين - 106. فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين - 107. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين - 108. يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب - 109.
|