00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 1 ـ 91 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء السادس)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

تفسير الميزان

السيد الطباطبائي ج 6

[ 3 ]

الميزان في تفسير القرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الخامس منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 5 ]

بسم الله الرحمن الرحيم

* * *

إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون - 55. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون - 56.

(بيان)

 الايتان - كما - ترى موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب والكفار، ولذلك رام جماعة من مفسري القوم إشتراكهما مع ما قبلهما وما بعدهما من حيث السياق، وجعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الاشخاص ولاية النصرة، والنهى عن ولاية اليهود والنصارى والكفار، وقصر الولاية في الله سبحانه ورسوله والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهؤلاء هم المؤمنون حقا فيخرج بذلك المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ويبقى على وجوب الولاية المؤمنو ن حقا، وتكون الاية دالة على مثل ما يدل عليه مجموع قوله تعالى: (والله ولى المؤمنين) (آل عمران: 68) وقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (الاحزاب: 6)، وقوله تعالى في المؤمنين: (اولئك بعضهم أولياء بعض) (الانفال: 72)، وقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (الاية) (التوبة: 71) فمحصل الاية جعل ولاية النصرة لله ولرسوله والمؤمنين على المؤمنين. نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحالية التى يتعقبها قوله: (ويؤتون الزكاة) وهى قوله: (وهم راكعون) ويرتفع الاشكال بحمل الركوع على معناه المجازى وهو مطلق

[ 6 ]

الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر ونحوه، ويعود معنى الاية إلى أنه ليس أولياؤكم اليهود والنصارى والمنافقين بل أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم في جميع هذه الاحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع والطاعة، أو أنهم يؤتون الزكاة وهم فقراء معسرون هذا. لكن التدبر واستيفاء النظر في الايتين وما يحفهما من آيات ثم في أمر السورة يعطى خلاف ما ذكروه، وأول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الايات، وان غرض الايات التعرض لامر ولاية النصرة، وتمييز الحق منها من غير الحق فإن السورة وإن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع لكن من المسلم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففى خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، ومضامينها تشهد بذلك، وما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده فليس مجرد وقوع الاية بعد الاية أو قبل الاية يدل على وحدة السياق، ولا أن بعض المناسبة بين آية وآية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق. على أن الايات السابقة أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " (الخ)، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود والنصارى، وتعير المنافقين والذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم ورعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود والنصارى وإسماعهم الحديث بوجه بخلاف الايات التالية أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء " (الخ)، فإنها تنهى عن ولايتهم وتتعرض لحالهم بالامر بمخاطبتهم ثم يعيرهم بالنفاق والفسق فالغرض في القبيلين من الايات السابقة واللاحقة مختلف، ومعه كيف يتحد السياق ؟ !. على أنك قد عرفت في البحث عن الايات السابقة أعنى قوله: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " (الايات) أن ولاية النصرة لا تلائم سياقها، وأن خصوصيات الايات والعقود المأخوذة فيها وخاصة قوله: " بعضهم أولياء بعض " وقوله: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " لا تناسبها فإن عقد ولاية النصرة واشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الاخر ولحوقه به، ولا أنه يصح تعليل النهى عن هذا العقد بأن القوم الفلاني بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودة التى توجب الامتزاج النفسي

[ 7 ]

والروحى بين الطرفين، وتبيح لاحدهما التصرف الروحي والجسمي في شؤون الاخر الحيوية وتقارب الجماعتين في الاخلاق والاعمال الذى يذهب بالخصائص القومية. على أنه ليس من الجائز أن يعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليا للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإن هذه النصرة التى يعتنى بأمرها الله سبحانه، ويذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين وحينئذ يصح أن يقال: إن الدين لله بمعنى أنه جاعله وشارع شرائعه فيندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المؤمنون أو هما جميعا إلى نصرته أو يدعوا أنصارا لله في ما شرعه من الدين كقوله تعالى: " قال الحواريون نحن أنصار الله " (الصف: 14)، وقوله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم " (محمد: 7) وقوله تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين - إلى أن قال: لتؤمنن به ولتنصرنه " (آل عمران: 81)، إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. ويصح أن يقال: إن الدين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أنه الداعي إليه والمبلغ له مثلا، أو إن الدين لله ولرسوله بمعنى التشريع والهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى: " وعزروه ونصروه " (الاعراف: 157)، وقوله تعالى: " وينصرون الله ورسوله " (الحشر: 8)، وقوله تعالى: " و الذين آووا ونصروا " (الانفال: 72)، إلى غير ذلك من الايات. ويصح أن يقال: إن الدين للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين جميعا، بمعنى أنهم المكلفون بشرائعه العاملون به فيذكر أن الله سبحانه وليهم وناصرهم كقوله تعالى: " ولينصرن الله من ينصره " (الحج: 40)، وقوله تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " (غافر: 51)، وقوله تعالى: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47)، إلى غير ذلك من الايات. لكن لا يصح أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصة، ويجعلوا أصلا فيه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم بمعزل عن ذلك، ثم يعد صلى الله عليه وآله وسلم ناصرا لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينية إلا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، ومساهمهم أفضل سهام، ولذلك لا نجد القرآن يعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناصرا للمؤمنين ولا في آية واحدة، وحاشا ساحة الكلام الالهى أن يساهل في رعاية أدبه البارع.

[ 8 ]

وهذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية في القرآن هو ولاية التصرف أو الحب والمودة كقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (الاحزاب: 6) وقوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " والذين آمنوا " (الاية) فإن الخطاب للمؤمنين، ولا معنى لعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليا لهم ولاية النصرة كما عرفت. فقد ظهر أن الايتين أعنى قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " إلى آخر الايتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، ولا يغرنك قوله تعالى في آخر الاية الثانية: " فإن حزب الله هم الغالبون "، فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف وكذا ولاية المحبة والمودة، والغلبة الدينية التى هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله ورسوله بأى وسيلة تمت وحصلت، وقد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال كتب: " الله لاغلبن أنا ورسلي " (المجادلة: 21)، وقال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " (الصافات: 173). على أن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة وأهل السنة على أن الايتين نازلتان في أمير المؤمنين على عليه السلام لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، فالايتان خاصتان غير عامتين، وسيجئ نقل جل ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. ولو صح الاعراض في تفسير آية بالاسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها وتراكمها لم يصح الركون إلى شئ من أسباب النزول المأثورة في شئ من آيات القرآن وهو ظاهر، فلا وجل لحمل الايتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامة. نعم استشكلوا في الروايات - ولم يكن ينبغى أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة - أولا: بأنها تنافى سياق الايات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدمت الاشارة إليه، وثانيا: أن لازمها إطلاق الجمع وإرادة الواحد فإن المراد بالذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة (الخ)، على هذا التقدير هو على ولا يساعده اللغة، وثالثا: أن لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدق بالخاتم، ولا يسمى ذلك زكاة. قالوا: فالمتعين أن تؤخذ الاية، عامة وتكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الافراد

[ 9 ]

فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب ويؤكدونها، فنهى الله عن ذلك وذكر أن أولياءهم إنما هم الله ورسوله والمؤمنون حقا دون أهل الكتاب والمنافقين. ولا يبقى إلا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله: " وهم راكعون " ويندفع بحمل الركوع على معناه المجازى، وهو الخضوع لله أو الفقر ورثاثة الحال، هذا ما استشكلوه. لكن التدبر في الاية وما يناظرها من الايات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعا: أما وقوع الاية في سياق ولاية النصرة، ولزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أن الايات غير مسوقة لهذا الغرض أصلا، ولو فرض سرد الايات السابقة على هذه الاية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الاية في هذا الغرض. وأما حديث لزوم إطلاق الجمع وإرادة الواحد في قوله: " والذين آمنوا " (الخ)، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، وأنه فرق بين إطلاق لفظ الجمع وإرادة الواحد واستعماله فيه، وبين إعطاء حكم كلى أو الاخبار بمعرف جمعى في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه، ثم لا يكون المصداق الذى يصح أن ينطبق عليه إلا واحدا فردا واللغة تأبى عن قبول الاول دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات. وليت شعرى ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال: - تسرون إليهم بالمودة " (الاية) " الممتحنة: 1) وقد صح أن المراد به حاطب بن أبى بلتعة في مكاتبتة قريشا ؟ وقوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منهاالاذل " (المنافقون: 8 "، وقد صح أن القائل به عبد الله بن أبى بن سلول ؟ وقوله تعالى: " يسألونك ما ذا ينفقون " (البقرة: 215) والسائل عنه واحد ؟ وقوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " (البقرة: 274) وقد ورد أن المنفق كان عليا أو أبا بكر ؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة. وأعجب من الجميع قوله تعالى: " يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " والقائل هو عبد الله بن أبى، على ما رووا في سبب نزوله وتلقوه بالقبول، والاية واقعة بين الايات المبحوث عنها نفسها.

[ 10 ]

فإن قيل: إن هذه الموارد لا تخلو عن اناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبر الله تعالى عنهم وعمن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إن محصله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوزة فليجر الاية أعنى قوله: " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " هذا المجرى، ولتكن النكتة هي الاشارة إلى أن أنواع الكرامات الدينية - ومنها الولاية المذكورة في الاية - ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفا جزافيا، وإنما يتبع التقدم في الاخلاص والعمل لا غير. على أن جل الناقلين لهذه الاخبار هم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعون المتصلون بهم زمانا وهم من زمرة العرب العرباء الذين لم تفسد لغتهم ولم تختلط ألسنتهم، ولو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة ولا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، ولكانوا أحق باستشكاله و الاعتراض عليه، ولم يؤثر من أحد منهم ذلك. وأما قولهم: إن الصدقة بالخاتم لا تسمى زكاة، فيدفعه أن تعين لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنما تحقق في عرف المتشرعة بعد نزول القرآن بوجوبها وتشريعها في الدين، وأما الذى تعطيه اللغة فهو أعم من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة ويساوق عند الاطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر مما وقع فيما حكاه الله عن الانبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " (الانبياء: 73)، وقوله تعالى في إسماعيل: " وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا " (مريم: 55) وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام في المهد: " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " (مريم: 31) ومن المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة المالية بالمعنى الذى اصطلح عليه في الاسلام. وكذا قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى " " الاعلى: 15) وقوله تعالى: " الذى يؤتى ماله يتزكى " (الليل: 18) وقوله تعالى: " الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون " (حم السجدة: 7) وقوله تعالى: " والذين هم للزكاة فاعلون " (المؤمنون: 4) وغير ذلك من الايات الواقعة في السور المكية وخاصة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة وغيرها، ولم تكن شرعت الزكاة المصطلحة بعد، فليت شعرى ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الايات في

[ 11 ]

لفظ الزكاة. بل آية الزكاة أعنى قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " (التوبة: 103) تدل على أن الزكاة من أفراد الصدقة، وإنما سميت زكاة لكون الصدقة مطهرة مزكية مطلقا، وقد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة. فتبين من جميع ما ذكرنا إنه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة والانفاق في سبيل الله زكاة وتبين أيضا أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازى، وكذا ارتكاب التوجيه في قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " حيث أتى باسم إن (وليكم) مفردا وبقوله " الذين آمنوا " وهو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا. قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولى الامر، وقيل: الولاية والولاية (بالفتح والكسر) واحدة نحو الدلالة والدلالة وحقيقته تولى الامر، والولى والمولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالى (بكسر اللام) ومعنى المفعول أي الموالى (بفتح اللام) يقال للمؤمن: هو ولى الله عزوجل ولم يرد مولاه، وقد يقال: الله ولى المؤمنين ومولاهم. قال: وقولهم: تولى إذا عدى بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، ووليت عينى كذا، ووليت وجهى كذا أقبلت به عليه قال الله عزوجل: " فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " وإذا عدى بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الاعراض وترك قربه. انتهى. والظاهر أن القرب الكذائي المعبر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الانسان إنما اعتبره في الاجسام وأمكنتها وأزمنتها ثم استعير لاقسام القرب المعنوية بالعكس مما

[ 12 ]

ذكره لان هذا هو المحصل من البحث في حالات الانسان الاولية فالنظر في أمر المحسوسات والاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الانسان من التفكر في المعقولات والمعاني وأنحاء اعتبارها والتصرف فيها. وإذا فرضت الولاية - وهى القرب الخاص - في الامور المعنوية كان لازمها أن للولى ممن وليه ما ليس لغيره إلا بواسطته فكل ما كان من التصرف في شؤون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولى لا غيره كولى الميت، فإن التركة التى كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولى أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، وولى الصغير يتصرف بولايته في شؤون الصغير المالية بتدبير أمره، وولى النصرة له أن يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، والله سبحانه ولى عباده يدبر أمرهم في الدنيا والاخرة لا ولى غيره، وهو ولى المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية والدعوة والتوفيق والنصرة وغير ذلك، والنبى ولى المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم ولهم وعليهم بالتشريع والقضاء، والحاكم ولى الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، وعلى هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق والحلف والجوار والطلاق وابن العم، وولاية الحب وولاية العهد وهكذا، وقوله: " يولون الادبار " أي يجعلون أدبارهم تلى جهة الحرب وتدبر أمرها، وقوله " توليتم " أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلى جهة خلاف جهته بالاعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلى خلاف جهته بالاعراض عنه، فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف ومالكية التدبير. وقد اشتمل قوله تعالى: " إنما وليكم الله رسوله والذين آمنوا " (الخ) من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: " الله ورسوله والذين آمنوا " وأسند الجميع إلى قوله: " وليكم " وظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. ويؤيد ذلك أيضا قوله في الاية التالية: فإن حزب الله هم الغالبون " حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعا حزبا لله لكونهم تحت ولايته، فولاية الرسول والذين آمنوا إنما هومن سنخ ولاية الله. وقد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية الولاية التكوينية التى تصحح له التصرف في كل شئ وتدبير أمر الخلق بما شاء وكيف شاء، قال تعالى: " أم اتخذوا من دونه

[ 13 ]

أولياء فالله هو الولى " (الشورى: 9: وقال: " ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع أفلا تتذكرون " (السجدة: 4) وقال: " أنت وليى في الدنيا والاخرة " (يوسف: 101) وقال: " فما له من ولى من بعده " (الشورى: 44) وفي معنى هذه الايات قوله: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " (ق: 16)، وقوله: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " (الانفال: 24). وربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التى ذكرها لنفسه في قوله: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (سورة محمد: 11) وقوله: " فإن الله هو مولاه " (التحريم: 4)، وفى معنى ذلك قوله: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47). وذكر تعالى أيضا لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة والهداية والارشاد والتوفيق ونحو ذلك كقوله تعالى: " والله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257)، وقوله: " والله ولى المؤمنين " (آل عمران: 68)، وقوله: " والله ولى المتقين " (الجاثية: 19)، وفى هذا المعنى قوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " (الاحزاب: 36). فهذاما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، ويرجع محصلها إلى ولاية التكوين وولاية التشريع، وإن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية والولاية الاعتبارية. وقد ذكر الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية التى تخصه الولاية التشريعية وهى القيام بالتشريع والدعوة وتربية الامة والحكم فيهم والقضاء في أمرهم، قال تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " (الاحزاب: 6)، وفي معناه قوله تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " (النساء: 105)، وقوله: " وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم " (الشورى: 52)، وقوله: " رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " (الجمعة: 2)، وقوله: " لتبين للناس ما نزل إليهم " (النحل: 44)، وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (النساء: 59)، وقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " (الاحزاب: 36)، وقوله: " وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك " (المائدة: 49)، وقد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للامة.

[ 14 ]

ويجمع الجميع أن له صلى الله عليه وآله وسلم الولاية على الامة في سوقهم إلى الله والحكم فيهم والقضاء عليهم في جميع شؤونهم فله عليهم الاطاعة المطلقة فترجع ولايته صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، ونعنى بذلك أن له صلى الله عليه وآله وسلم التقدم عليهم بافتراض الطاعة لان طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الايات السابقة كقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (الاية) وقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا " (الاية)، وغير ذلك. وهذا المعنى من الولاية لله ورسوله هو الذى تذكره الاية للذين آمنوا بعطفه على الله ورسوله في قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالاصالة ولرسوله والذين آمنوا بالتبع وبإذن منه تعالى. ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الاية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا - والمقام مقام الالتباس - كان الانسب أن تفرد ولاية اخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس كما وقع نظيره في نظير ها، قال تعالى: " قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " (التوبة: 61)، فكرر لفظ الايمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الاخر، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " (النساء: 59)، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب. على أن لفظ " وليكم " أتى به مفردا وقد نسب إلى الذين آمنوا وهو جمع، وقد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الاصالة ولغيره بالتبع. وقد تبين من جميع ما مر أن القصر في قوله: " إنما وليكم الله " (الخ)، لقصر الافراد كأن المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الاية وغيرهم فافرد المذكورون للقصر، ويمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب. قوله تعالى: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " بيان للذين آمنوا المذكور سابقا " وقوله: " وهم راكعون " حال من فاعل " يؤتون " وهو العامل فيه. والركوع هو الهيئة المخصوصة في الانسان، ومنه الشيخ الراكع، ويطلق في عرف الشرع على الهيئة المخصوصة في العبادة، قال تعالى: " الراكعون الساجدون "

[ 15 ]

" التوبة: 112)، وهو ممثل للخضوع والتذلل لله، غير أنه لم يشرع في الاسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة. ولكونه مشتملا على الخضوع والتذلل ربما استعير لمطلق التذلل والخضوع أو الفقر والاعسار الذى لا يخلو عادة عن التذلل للغير. قوله تعالى: " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "، التولى هو الاخذ وليا، و " الذين آمنوا " مفيد للعهد والمراد به المذكور في الاية السابقة: " والذين آمنوا الذين " (الخ)، وقوله: " فإن حزب الله هم الغالبون " واقع موقع الجزاء وليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، والتقدير: ومن يتول فهو غالب لانه من حزب الله وحزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله. والحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، وقد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، ووسمهم بالفلاح فقال: " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه - إلى أن قال: - اولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22). والفلاح الظفر وإدراك‍ البغية التى هي الغلبة والاستيلاء على المراد، وهذه الغلبة والفلاح هي التى وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به وبشرهم بنيله، قال تعالى: " قد أفلح المؤمنون " (المؤمنون: 1)، والايات في ذلك كثيرة، وقد اطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة والفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة والفوز بالحق والغلبة على الشقاء، وإدحاض الباطل في الدنيا والاخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التى توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى وورع، وأما في الاخرة ففى جوار رب العالمين.

(بحث روائي)

 في الكافي عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبى عمير، عن عمر بن أذينة،

[ 16 ]

عن زرارة، والفضيل بن يسار، وبكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية، وأبى الجارود، جميعا عن أبى جعفر عليه السلام قال: أمر الله عزوجل رسوله بولاية على وأنزل عليه: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وفرض من ولاية اولى الامر فلم يدروا ما هي ؟ فأمر الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن يفسر لهم الولاية كما فسر الصلاة والزكاة والصوم والحج. فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عزوجل فأوحى الله عزوجل إليه: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس "، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية على عليه السلام يوم غدير خم فنادى: الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب. قال عمر بن اذينة: قالوا جميعا غير أبى الجارود: قال أبو جعفر عليه السلام وكانت الفريضة الاخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عزوجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "، قال أبو جعفر عليه السلام يقول الله عزوجل: لا انزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض. وفى البرهان وغاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قول الله عزوجل: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا "، قال: إن رهطا من اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا نبى الله إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله ؟ ومن ولينا بعدك ؟ فنزلت هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا فقاموا وأتوا المسجد فإذا سائل خارج فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا سائل هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه ؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الذى يصلى، قال: على أي حال أعطاك ؟ قال: كان راكعا فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكبر أهل المسجد. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على وليكم بعدى قالوا: رضينا بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبعلى

[ 17 ]

بن أبى طالب وليا فأنزل الله عزو جل: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " الحديث. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى، عن صفوان، عن أبان بن عثمان، عن أبى حمزة الثمالى، عن أبى جعفر عليه السلام: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله سلم جالس وعنده قوم من اليهود فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الاية فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم ذلك المصلى، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو على عليه السلام. أقول: ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام. وفى أمالى الشيخ قال: حدثنا محمد بن محمد - يعنى المفيد - قال: حدثنى أبو الحسن على بن محمد الكاتب، قال: حدثنى الحسن بن على الزعفراني، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفى، قال: حدثنا محمد بن على، قال حدثنا العباس ابن عبد الله العنبري، عن عبد الرحمن بن الاسود الكندى اليشكرى، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جده أبى رافع قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما وهو نائم وحية في جانب البيت - فكرهت أن أقتلها واوقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظننت أنه يوحى إليه فاضطجعت بينه وبين الحية فقلت: أن كان منها سوء كان إلى دونه. فكنت هنيئة فاستيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " حتى أتى على آخر الاية - ثم قال: الحمد لله الذى أتم لعلى نعمته، وهنيئا له بفضل الله الذى آتاه، ثم قال لى: ما لك ههنا ؟ فأخبرته بخبر الحية فقال لى: اقتلها ففعلت ثم قال لى: يا (أبا، ظ) رافع كيف أنت، وقوم يقاتلون عليا وهو على الحق وهم على الباطل ؟ جهادهم حقا لله عز اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شئ فقلت: يا رسول الله ادع الله لى إن أدركتهم أن يقوينى على قتالهم قال: فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن لكل نبى أمينا، وإن أمينى أبو رافع. قال: فلما بايع الناس عليا بعد عثمان، وسار طلحة والزبير ذكرت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعت دارى بالمدينة وأرضا لى بخيبر وخرجت بنفسى وولدى مع امير المؤمنين

[ 18 ]

عليه السلام لاستشهد بين يديه فلم أدرك معه حتى عاد من البصرة، وخرجت معه إلى صفين فقلت (فقاتلت، ظ) بين يديه بها وبالنهر وان أيضا، ولم أزل معه حتى استشهد على عليه السلام، فرجعت إلى المدينة، وليس لى بها دار ولا أرض فأعطاني الحسن بن على عليه السلام أرضا بينبع، وقسم لى شطر دار أمير المؤمنين عليه السلام فنزلتها وعيالي. وفى تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلى بن أبى طالب سائل وهو راكع في صلاة تطوع فنزع خاتمة فأعطاه السائل فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلم بذلك فنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (إلى آخر الاية) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا ثم قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وفى تفسير العياشي، عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام قال: قال: إنه لما نزلت هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " شق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخشى أن تكذبه قريش فأنزل الله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية) فقام بذلك يوم غدير خم. وفيه عن أبى جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله أوحى إلى أن أحب أربعة: عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد، فقلت: إلا فما كان من كثرة الناس أما كان أحد يعرف هذا الامر ؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الايات التى أنزلت: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " وقوله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم " ما كان أحد يسأل فيمن نزلت ؟ فقال: من ثم أتاهم لم يكونوا يسألون. وفى غاية المرام عن الصدوق بإسناده عن أبى سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده في حديث مناشدة على عليه السلام لابي بكر حين ولى أبو بكر الخلافة، وذكر عليه السلام فضائله لابي بكر والنصوص عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان فيما قال له: فانشدك بالله ألى الولاية من الله مع ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية زكاة الخاتم أم لك ؟ قال: بل لك.

[ 19 ]

وفى مجالس الشيخ بإسناده إلى أبى ذرفى حديث مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص يوم الشورى واحتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والكل منهم يصدقه عليه السلام فيما يقوله فكان مما ذكره عليه السلام فهل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " غيرى ؟ قالوا: لا. وفى الاحتجاج في رسالة أبى الحسن الثالث على بن محمد الهادى عليه السلام إلى أهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض: قال عليه السلام: اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تجتمع امتى على ضلالة " فأخبر عليه السلام: أن ما اجتمعت عليه الامة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون، ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، وأتباع أحكام الاحاديث المزورة، والروايات المزخرفة، واتباع الاهواء المردئة المهلكة التى تخالف نص الكتاب، وتحقيق الايات الواضحات النيرات، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصلاة، ويهدينا إلى الرشاد. ثم قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بصدق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الامة عارضته بحديث من هذه الاحاديث المزورة، فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب ضلالا، وأصح خبر مما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنى مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله وعترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " واللفظة الاخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنى تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلو " ا. وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". ثم اتفقت

[ 20 ]

روايات العلماء في ذلك لامير المؤمنين عليه السلام: أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له، وأنزل الاية فيه. ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: " من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " وقوله: صلى الله عليه وآله وسلم " على يقضى دينى، وينجز موعدى، وهو خليفتي عليكم بعدى " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أتخلفني على النساء والصبيان ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ؟. فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الاخبار، وتحقيق هذه الشواهد فيلزم الامة الاقرار بها إذا كانت هذه الاخبار وافقت القرآن فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله موافقا لهذه الاخبار، وعليها دليلا كان الاقتداء فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد. وفى الاحتجاج في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: قال المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل بقى لربك علينا بعد الذى فرض علينا شئ آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره ؟ فأنزل الله في ذلك: " قل إنما أعظكم بواحدة " يعنى الولاية فأنزل الله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وليس بين الامة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ وهو راكع غير رجل واحد، الحديث. وفى الاختصاص للمفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن محمد الجوهرى، عن الحسن بن أبى العلاء قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: الاوصياء طاعتهم مفترضة ؟ فقال: نعم، هم الذين قال الله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولى الامر منكم " وهم الذين قال الله: " إنما وليكم ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". اقول: ورواه في الكافي عن الحسين بن أبى العلاء عنه عليه السلام، وروى ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنه عليه السلام. وإسناد نزول ما نزل في على عليه السلام إلى جميع الائمة عليهم السلام لكونهم أهل بيت واحد، وأمرهم واحد.

[ 21 ]

وعن تفسير الثعلبي أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الشعرانى قال: أخبرنا أبو على أحمد بن على بن رزين قال: حدثنا المظفر بن الحسن الانصاري قال: حدثنا السرى بن على الوراق قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجمانى عن قيس بن الربيع عن الاعمش، عن عباية بن الربعي قال: حدثنا عبد الله بن عباس رضى الله عنه وهو جالس بشفير زمزم يقول: قال رسول الله: إذ أقبل رجل معتم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول: " قال رسول الله " إلا وقال الرجل: قال رسول الله. فقال له ابن عباس: سألتك بالله من أنت ؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدرى أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله بهاتين وإلا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا يقول: على قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. أما إنى صليت مع رسول الله يوما من الايام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أنى سألت في مسجد رسول الله فلم يعطنى أحد شيئا، وكان على راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لى صدري، ويسر لى أمرى، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولى، واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى، اشدد به أزرى، وأشركه في أمرى: فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سنشد عضدك بأخيك، ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا. اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم واشرح لى صدري ويسر لى أمرى، واجعل لى وزيرا من أهلى عليا اشدد به ظهرى. قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة حق نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى: فقال يا محمد اقرأ قال: وما اقرأ: قال: قال: اقرأ: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. وعن الجمع بين الصحاح الستة لزرين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة

[ 22 ]

قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية) من صحيح النسائي عن ابن سلام: قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله ورسوله، وأقسموا أن لا يكلموننا فأنزل الله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (الاية). ثم أذن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلون فمن بين ساجد وراكع وسائل إذ سائل يسأل، وأعطى على خاتمه وهو راكع فاخبر السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ". وعن مناقب ابن المغازلى الشافعي في تفسير قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية) قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن ابراهيم بن شاذان البزاز إذنا قال: حدثنا الحسن بن على العدوى قال: حدثنا سلمة ابن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " قال: نزلت في على. وعنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب قال: حدثنا محمد بن العسكري الدقاق قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة قال: حدثنا عبادة قال: حدثنا عمر بن ثابت عن محمد بن السائب عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: كان على راكعا فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا ؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا (إلى آخر الاية). وعنه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن طاوان إذنا: أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا على بن عابس قال: دخلت أنا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث عليا بالحديث الذى حدثتني عن

[ 23 ]

أبى جعفر، قال: كنت عند أبى جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الذى عنده علم الكتاب ؟ قال: لا ولكنه صاحبكم على بن أبى طالب الذى أنزلت فيه آيات من كتاب الله عزوجل: " ومن عنده علم الكتاب، أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " (الاية). وعن الخطيب الخوارزمي في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو ابن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الايات المتلوات في فضائله التى لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى: " يوفون بالنذر، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، أفمن كان على بينه من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله "، وقد قال الله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله "، وقد قال الله تعالى لرسوله: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ". وعنه بإسناده إلى أبى صالح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس، وإن قومنا لما رأونا قد آمنا بالله ورسوله وقد صدقناه رفضونا، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا، وقد شق ذلك علينا فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ". ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، وبصر بسائل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أعطاكه ؟ فقال: ذلك القائم - وأومأ بيده إلى على بن أبى طالب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أي حال أعطاك ؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم: ثم قرأ: " ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون " فأنشأ حسان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهدى ومسارع

أيذهب مدحى والمحبين ضائعا * وما المدح في ذات الاله بضائع ؟

فأنت الذى أعطيت إذ كنت راكعا * فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيد * ويا خير شار ثم يا خير بائع

فأنزل فيك الله خير ولاية * وبينها في محكمات الشرائع

[ 24 ]

وعن الحموينى بإسناده إلى أبى هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبأنا أنس بن مالك: أن سائلا أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملى الوفى ؟ وعلى راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدى، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر وجبت، قال: بأبى وامى يا رسول الله ما وجبت ؟ قال صلى الله عليه وسلم: وجبت له الجنة، والله ما خلعه من يده حتى خلعه من كل ذنب ومن كل خطيئة. وعنه بإسناده عن زيد بن على بن الحسين عن أبيه عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر - رضى الله عنه - يقول: وقف لعلى بن أبى طالب سائل وهو راكع في صلوة التطوع فنزع خاتمه وأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلى مولاه. وعن الحافظ أبى نعيم عن أبى الزبير عن جابر - رضى الله عنه - قال: جاء عبد الله بن سلام وأتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إياهم منذ أسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابغوا إلى سائلا فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئا ؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فأذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا على قائم، فقال: هذا، فنزلت: " إنما وليكم الله ورسوله ". وعنه عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال: تصدق على بخاتمه وهو راكع فنزلت ! " إنما وليكم الله ورسوله " (الاية). وعنه عن عوف بن عبيد بن أبى رافع عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم إذ يوحى إليه وإذا حية في جنب البيت فكرهت أن أدخلها واوقظه فاضطجعت بينه وبين الحية فإن كان شئ في دونه، فاستيقظ وهو يتلو هذه الاية: " إنما وليكم الله ورسوله " قال: الحمد لله فأتى إلى جانبى فقال: ما اضطجعت ههنا ؟ قلت: لمكان هذه الحية قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها. ثم أخذ بيدى فقال: يا أبا رافع سيكون بعدى قوم يقاتلون عليا حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.

[ 25 ]

أقول: والروايات في نزول الايتين في قصة التصدق بالخاتم كثيره أخرجنا عدة منها من كتاب غاية المرام للبحراني، وهى موجودة في الكتب المنقول عنها، وقد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصة. وقد اشترك في نقلها عدة من الصحابة كأبى ذر وابن عباس وانس بن مالك وعمار وجابر وسلمة بن كهيل وأبى رافع وعمرو بن العاص، وعلى والحسين وكذا السجاد والباقر والصادق والهادي وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام. وقد اتفق على نقلها من غير رد أئمة التفسير المأثور كأحمد والنسائي والطبري والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم من الحفاظ وأئمة الحديث وقد تسلم ورود الرواية المتكلمون، وأوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة وفى مسألة " هل تسمى صدقة التطوع زكاة " ولم يناقش في صحة انطباق الاية على الرواية فحول الادب من المفسرين كالزمخشري في الكشاف وأبى حيان في تفسيره، ولا الرواة النقلة وهم أهل اللسان. فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن حديث نزول الاية في قصة الخاتم موضوع مختلق، وقد أفرط بعضهم كشيخ الاسلام ابن تيمية فادعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوع ؟ وهى من عجيب الدعاوى، وقد عرفت ما هو الحق في المقام في البيان المتقدم.

* * *

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين - 57. وإذا ناديتم إلى الصلوة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون - 58. قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون - 59. قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة

[ 26 ]

عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل - 60. وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون - 61. وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون - 62. لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون - 63. وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين - 64. ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولا دخلناهم جنات النعيم - 65. ولو أنهم أقاموا التورية والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون - 66.

(بيان)

 الايات تنهى عن اتخاذ المستهزئين بالله وآياته من أهل الكتاب والكفار أولياء

[ 27 ]

وتعد امورا من مساوى صفاتهم ونقضهم مواثيق الله وعهوده وما يلحق بها بما يناسب غرض السورة (الحث على حفظ العهود والمواثيق وذم نقضها). وكأنها ذات سياق متصل واحد وإن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقل من حيث النزول. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم " (الخ)، قال: الراغب: الهزؤ مزح في خفية، وقد يقال لما هو كالمزح (انتهى)، وقال: ولعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصدا صحيحا، يلعب لعبا، (انتهى)، وإنما يتخذ الشئ هزؤا ويستهزء به إذا اتخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جد لاظهار أنه مما لا ينبغى أن يلتفت إليه، وكذا الشئ يلعب به إذا كان مما لا يتخذ لواحد من الاغراض الصحيحة العقلائية إلا أن يتخذ لبعض الشؤون غير الحقيقية فالهزؤ بالدين واللعب به إنما هما لاظهار أنه لا يعدل إلا بعض الاغراض الباطلة غير الصحيحة وغير الجدية، ولو قدروه دينا حقا أو قدروا أن مشرعه والداعى إليه والمؤمنين به ذووا أقدام جد وصدق، واحترموا له ولهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتخاذهم الدين هزؤا ولعبا قضاء منهم بأن ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شئ إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا. ومن هنا يظهر اولا: أن ذكر اتخاذهم الدين هزؤا ولعبا في وصف من نهى عن ولايتهم إنما هو للاشارة إلى علة النهى فإن الولاية التى من لوازمها الامتزاج الروحي والتصرف في الشؤون النفسية والاجتماعية لا يلائم استهزاء الولى ولعبة بما يقدسه وليه ويحترمه ويراه أعز من كل شئ حتى من نفسه فمن الواجب أن لا يتخذ من هذا شأنه وليا، ولا يلقى أزمة التصرف في الروح والجسم إليه. وثانيا: ما في اتخاذ وصف الايمان في الخطاب في قوله: " يا أيها الذين آمنوا " من المناسبة لمقابلته بقوله: " الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " وكذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله: " دينكم ". وثالثا: أن قوله: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين بمنزلة التأكيد لقوله: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا " (الخ) بتكراره بلفظ أعم وأشمل فإن المؤمن وهو الاخذ بعروة الايمان لا معنى لان يرضى بالهزء واللعب بما آمن به فهؤلاء إن

[ 28 ]

كانوا متلبسين بالايمان - أي كان الدين لهم دينا - لم يكن لهم بد من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتخاذهم أولياء. ومن المحتمل أن يكون قوله: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " والمعنى: واتقوا الله في اتخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، والمعنى الاول لعله أظهر. قوله تعالى: " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " (الخ) تحقيق لما ذكر أنهم يتخذون دين الذين آمنوا هزوا ولعبا، والمراد بالنداء إلى الصلاة الاذان المشروع في الاسلام قبل الصلوات المفروضة اليومية، ولم يذكر الاذان في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع - كما قيل -. والضمير في قوله: " اتخذوها " راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله: " إذا ناديتم " أعنى المناداة ويجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير والتأنيث، وقوله: " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " تذييل يجرى مجرى الجواب عن فعلهم وبيان أن صدور هذا الفعل أعنى اتخاذ الصلاة أو الاذان هزوا ولعبا منهم إنما هو لكونهم قوما لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحققوا ما في هذه الاركان والاعمال العبادية الدينية من حقيقة العبودية وفوائد القرب من الله، وجماع سعادة الحياة في الدنيا والعقبى. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله " (إلى آخر الاية) قال الراغب: في مفردات القرآن: نقمت الشئ (بالكسر) ونقمته (بالفتح) إذا أنكرته إما باللسان وإما بالعقوبة، قال تعالى: " وما نقموا إلا أن أغناهم الله " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله، هل تنقمون منا " (الاية) والنقمة: العقوبة قال تعالى: " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم "، انتهى. فمعنى قوله: " هل تنقمون منا إلا أن آمنا " (الخ) هل تنكرون أو تكرهون منا إلا هذا الذى تشاهدونه وهو أنا آمنا بالله وما أنزله وأنكم فاسقون ؟ نظير قول القائل: هل تكره منى الا أنى عفيف وأنك فاجر، وهل تنكر منى إلا أنى غنى وأنك فقير ؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة والازدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلا أنا مؤمنون وأن أكثركم فاسقون.

[ 29 ]

وربما قيل: إن قوله: " وأن أكثركم فاسقون " بتقدير لام التعليل والمعنى: هل تنقمون منا إلا لان أكثركم فاسقون ؟. وقوله: " ان آمنا بالله وما انزل الينا وما انزل من قبل " في معنى ما انزل الينا واليكم، ولم ينسبه إليهم تعريضا بهم كأنهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه ولم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم وليسوا بأهلها. ومحصل المعنى: أنا لا نفرق بين كتاب وكتاب مما أنزله الله على رسله فلا نفرق بين رسله، وفيه تعريض لهم أنهم يفرقون بين رسل الله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما كانوا يقولون: آمنوا بما أنزل على المؤمنين وجه النار واكفروا آخره، قال تعالى: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا واعتدنا للكافرين عذابا مهينا " (النساء: 151). قوله تعالى: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله " (إلى آخر الاية) ذكروا أن هذا أمر منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب اولئك المستهزئين اللاعبين بالدين على طريق التسليم أخذا بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله وما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لانهم شر مكانا وأضل عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الالهى والمسخ بالقردة والخنازير وعبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلا بما هو دونه في الشر، وهم المؤمنون في ايمانهم على تقدير تسليم أن يكون إيمانهم بالله وكتبه شرا، ولن يكون شرا. فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، ولعلها استعيرت للعاقبة والصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله: " بشر من ذلك مثوبة " بقوله: " عند الله " فإن الذى عند الله هو أمر ثابت غير متغير وقد حكم به الله وأمر به، قال تعالى: " وما عند الله باق " (النحل: 96)، وقال تعالى: " لا معقب لحكمه) (الرعد: 41)، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عند الله سبحانه. وفى الكلام شبه قلب، فإن مقتضى استواء الكلام أن يقال: إن اللعن والمسخ

[ 30 ]

وعبادة الطاغوت شر من الايمان بالله وكتبه وأشد ضلالا، دون ان يقال: إن من لعنه الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت شر مكانا وأضل إلا بوضع الموصوف مكان الوصف، وهو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله " (الاية). وبالجملة فمحصل المعنى أن إيماننا بالله وما أنزله على رسله إن كان شرا عندكم فأنا اخبركم بشر من ذلك يجب عليكم أن تنقموه وهو النعت الذى فيكم. وربما قيل: إن الاشارة بقوله: " ذلك " إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله: " هل تنقمون منا " وعلى هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، والمعنى هل انبئكم بمن هو شر من المؤمنين لتنقموهم ؟ وهم أنتم أنفسكم، وقد ابتليتم باللعن والمسخ وعبادة الطاغوت. وربما قيل: إن قوله: " من ذلك إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله " هل تنقمون منا " أي هل أنبئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة وجزاء ؟ هو ما ابتليتم به من اللعن والمسخ وغير ذلك. قوله تعالى: " وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " (إلى آخر الاية) يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم وإضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: وإذا جاؤكم قالوا آمنا أي أظهروا الايمان والحال أنهم قد دخلوا عليكم مع الكفر وقد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند الدخول والخروج وهو الكفر لم يتغير عنه وإنما يظهرون الايمان إظهارا، والحال أن الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقا من الغدر والمكر. فقوله: " وقد دخلوا بالكفروهم قد خرجوا به " في معنى قولنا: لم يتغير حالهم في الكفر، والضمير في قوله: " هم قد خرجوا " جئ به للتأكيد، وإفادة تمييزهم في الامر وتثبيت الكفر فيهم. وربما قيل: إن المعنى أنهم متحولون في أحوال الكفر المختلفة. قوله تعالى: " وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " (إلى آخر الاية)، الظاهر أن المراد بالاثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين

[ 31 ]

والقول في معارف الدين بما يوجب الكفر والفسوق على ما يشهد به ما في الاية التالية من قوله: " عن قولهم الاثم وأكلهم السحت ". وعلى هذا فالامور الثلاثة أعنى الاثم والعدوان وأكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول والفعل، فهم يقترفون الذنب في القول وهو الاثم القولى، والذنب في الفعل وهو إما فيما بينهم وبين المؤمنين وهو التعدي عليهم، وإما عند أنفسهم كأكلهم السحت وهو الربا والرشوة ونحو ذلك ثم ذم ذلك منهم بقوله: " لبئس ما كانوا يعملون " ثم أتبعه بتوبيخ الربانيين والاحبار في سكوتهم عنهم وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الاثام والمعاصي وهم عالمون بأنها معاص وذنوب فقال: لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ". وربما أمكن أن يستفاد من قوله: " عن قولهم الاثم وأكلهم السحت " عند تطبيقه على ما في الاية السابقة: " يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " حيث ترك العدوان في الاية الثانية أن الاثم والعدوان شئ واحد، وهو تعدى حدود الله سبحانه قولا تجاه المعصية الفعلية التى انموذجها أكلهم السحت. فيكون المراد بقوله: " يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت " إراءة سيئة قولية منهم وهى الاثم والعدوان وسيئة أخرى فعلية منهم وهى أكلهم السحت. والمسارعة مبالغة في معنى السرعة وهى ضد البطئ، والفرق بين السرعة والعجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أن السرعة أمس بعمل الاعضاء والعجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع والخشوع، والخوف والخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضد البطئ، ويستعمل في الاجسام والافعال، يقال: سرع (بضم الراء) فهو سريع وأسرع فهو مسرع، وأسرعوا صارت إبلهم سراعا نحو أبلدوا، وسارعوا وتسارعوا، انتهى. وربما قيل: إن المسارعة والعجلة بمعنى واحد غير أن المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، وأن استعمال المسارعة في المقام - وإن كان مقام الذم وكانت العجلة أدل على الذم منها - إنما هو للاشارة إلى أنهم يستعملونها كأنهم محقون فيها، انتهى ولا يخلو عن بعد.

[ 32 ]

قوله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الاحكام الدينية، ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الاحكام، وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال الايات القرآنية كما تقدم ا لكلام فيه في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " (الاية) " البقرة: 106 " في الجزء الاول من هذا الكتاب وفى موارد أخر. والاية أعنى قوله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أن ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " يأبى عن ذلك ويدل على أنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الاثيمة في شئ من أمر الرزق إما في خصوص المؤمنين لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر والمذلة، لكن هذا الوجه لا يناسب وقوع الاية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوى سائر آياتها فإن المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش وسعة من الرزق ورفاهية من الحال. وإما أنهم إنما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، ونكدت حالهم، واختل نظام حياتهم، كما ربما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أيضا يأباه سياق الايات فإن الظاهر أن الايات إنما تتعرض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم ومكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم. وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: " من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا " (البقرة: 245)، وقوله تعالى: " وأقرضوا الله قرضا حسنا " (المزمل: 20)، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه وإحياء دعوته. وقد قالوا ذلك سخرية واستهزاء على ما يظهر من بعض آخر مما ورد في أسباب النزول، وهذا الوجه أقرب إلى النظر. وكيف كان فهذه النسبة أعنى نسبه غل اليد والمغلوبية عند بعض الحوادث مما

[ 33 ]

لا يأباه تعليمهم الدينى والاراء الموجودة في التوراة، فالتوراة تجوز أن يكون الامور معجزا لله سبحانه وصادا مانعا له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالاقوياء من الانسان، يشهد بذلك ما تقصه من قصص الانبياء كآدم وغيره. فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته وإن كانت الكلمة إنما صدرت منهم استهزاء فإن لكل فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الانسان منها ويتجرء بها. وأما قوله: " غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، وهو مغلولية اليد وانسلاب القدرة على ما يحبه ويشاؤه، وعلى هذا فقوله: " ولعنوا بما قالوا " عطف تفسير على قوله: " غلت أيديهم " فإن مغلولية أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، ولعنه تعالى أحدا إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوى أو أخروى فاللعن هو العذاب المساوى لغل أيديهم أو الاعم منه ومن غيره. وربما احتمل كون قوله: " غلت أيديهم " (الخ) إخبارا عن وقوع كلمة العذاب وهو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم: " يد الله مغلولة " عليهم، والوجه الاول أقرب من الفهم. وأما قوله: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء فهو جواب عن قولهم: يد الله مغلولة " مضروب في قالب الاضراب. والجملة أعنى قوله: " يداه مبسوطتان " كناية عن ثبوت القدرة، وهو شائع في الاستعمال. وإنما قيل: " يداه " بصيغة التثنية مع كون اليهود إنما أتوا في قولهم: " يد الله مغلولة " بصيغة الافراد ليدل على كمال القدرة كما ربما يستفاد من نحو قوله تعالى: " قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين " (ص: 75) لما فيه من الاشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، ونحو قولهم: " لا يدين بها لك " فإن ذلك مبالغة في نفى كل قدرة ونعمة.

[ 34 ]

وربما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة والقوة والنعمة والملك وغير ذلك، لكن الحق أن اللفظة موضوعة في الاصل للجارحة، وإنما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤن المنتسبة إلى الجارحة نوعا من الانتساب كانتساب الانفاق والجود إلى اليد من حيث بسطها، وانتساب الملك إليها من حيث التصرف والوضع والرفع وغير ذلك. فما يثبته الكتاب والسنة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى: " بل يداه مبسوطتان " (الاية)، وقوله: " أن تسجد لما خلقت بيدى " (ص: 75) يراد به القدرة وكمالها، وقوله: " بيدك الخير " (آل عمران: 26)، وقوله: " فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " (يس: 83)، وقوله: " تبارك الذى بيده الملك " (الملك: 1)، إلى غير ذلك يراد بها الملك والسلطة، وقوله: " لا تقدموا بين يدى الله ورسوله " (الحجرات: 1) يراد بها الحضور ونحوه. وأما قوله: " ينفق كيف يشاء " فهو بيان لقوله: " يداه مبسوطتان ". قوله تعالى: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا " هذه الجملة وما يتلوها إلى آخر الاية كلام مسرود لتوضيح قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " على ما يعطيه السياق. فأما قوله: " وليزيدن كثيرا منهم " (الخ)، فيشير إلى أن اجتراءهم على الله العظيم وتفوههم بمثل قولهم: " يد الله مغلولة " ليس من المستبعد منهم فإن القوم متلبسون بالاعتداء والكفر من قديم أيامهم، وقد أورثهم ذلك البغى والحسد، ولا يؤمن من هذه سجيته إذا رأى أن الله فضل غيره عليه بما لا يقدر قدره من النعمة أن يزداد طغيانا وكفرا. واليهود كانت ترى لنفسها السيادة والتقدم على الدنيا، وكانت تتسمى بأهل الكتاب، وتتباهى بالربانيين والاحبار وتفتخر بالعلم والحكمة وتسمى سائر الناس اميين، فإذا رأت قرآنا نازلا على قوم كانت تتذلل لعلمها وكتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها وبين العرب في الجاهلية - ثم أمعنت فيه فوجدته كتابا إلهيا مهيمنا على ما تقدم عليه من الكتب السماوية، ومشتملا على الحق الصريح والتعليم

[ 35 ]

العالي والهداية التامة ثم أحست بما يتعقبه من ذلتها واستكانتها في نفس ما كانت تتعزز وتتباهى به وهو العلم والكتاب. لاجرم تستيقظ من رقدتها، وتطغى عاديتها، ويزيد طغيانها وكفرها. فنسبة زيادة طغيانهم وكفرهم إلى القرآن إنما هي بعناية أن أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان والكفر بمشاهدة نزول القرآن وإدراك ما يتضمنه من المعارف الحقة والدعوة الظاهره. على أن الله سبحانه ينسب الهداية والاضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كقوله: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " (الاسراء: 20) وقال في خصوص القرآن: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " (الاسراء: 82)، والاضلال أو ما يشبهه إنما يعد مذموما إذا كان إضلالا ابتدائيا، وأما ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق ومعصية من الضال يوجب نزول السخط الالهى عليه ويستدعى حلول ما هو أشد مما هو فيه من الضلال فلا ضير في الاضلال بهذا المعنى ولا ذم يلحقه كما يشير إليه قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26)، وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (الصف: 5). وبالاخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم وكفرهم إلى سلب التوفيق وعدم تعلق العناية الالهية بردهم مما هم فيه من الطغيان والكفر بآيات الله إلى التسليم والايمان بإجابة الدعوة الحقة، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26) في الجزء الاول من هذا الكتاب. ولنرجع إلى أول الكلام فقوله: " وليزيدن كثيرا منهم " (الخ)، كأنه مسوق لرفع الاستبعاد والتعجب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمين بأهل الكتاب، والمدعين أنهم أبناء الله وأحباؤه على ربهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: (يد الله مغلولة). وإن من المحتوم اللازم لهم هذه الزيادة في الطغيان والكفر التى هذه الكلمة من آثارها وسيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، وهذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم ونون التأكيد في قوله: " ليزيدن ". وفى تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعى فإن

[ 36 ]

الكفر من آثار الطغيان وتبعاته. قوله تعالى: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصة وإن كانت الايات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامة، وعلى هذا فالمراد بالعداوة والبغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب والاراء، وقد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله: " ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة - إلى أن قال - فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " (الجاثية: 17) وغير ذلك من الايات. والعداوة كأن المراد بها البغض الذى يستصحب التعدي في العمل، والبغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار وإن لم يستعقب التعدي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الذى يوجب الظلم على الغير والبغض الذى يقصر عنه. وفى قوله تعالى: " إلى يوم القيامة " مالا يخفى من الدلالة على بقاء امتهم إلى آخر الدنيا. قوله تعالى: " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " إيقاد النار إشعالها، وإطفاؤها إخمادها، والمعنى واضح، ومن المحتمل أن يكون قوله: " كلما أوقدوا " (الخ) بيانا لقوله: " وألقينا بينهم العداوة " (الخ) فيعود المعنى إلى أنه كلما أثاروا حربا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم. والاية على ما يدل عليه السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التى يوقدونها على دين الله سبحانه، وعلى المسلمين بما أنهم مؤمنون بالله وآياته، وأما الحروب التى ربما أمكن أن يوقدوا نارها لا لامر الدين الحق بل لسياسة أو تغلب جنسي أو ملى فهى خارجة عن مساق الاية. قوله تعالى: " ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين " السعي هو السير السريع، وقوله: " فسادا " مفعول له أي يجتهدون لافساد الارض، والله لا يحب المفسدين فلا يخليهم وأن ينالوا ما أرادوه من فساد الارض فيخيب سعيهم، والله أعلم.

[ 37 ]

فهذا كله بيان لكونهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، حيث إنهم غير نائلين ما قصدوه من إثاره الحروب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وما اجتهدوا لاجله من فساد الارض. قوله تعالى: " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم (إلخ) عود إلى حال أهل الكتاب عامة كما كان بدأ الكلام فيهم عامة، وختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الاخرة والدنيا، وهى جنة النعيم ونعمة الحياة السعيدة. والمراد بالتقوى بعد الايمان التورع عن محارم الله واتقاء الذنوب التى تحتم السخط الالهى وعذاب النار، وهى الشرك بالله وسائر الكبائر الموبقة التى أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيئات التى وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، وينطبق على قوله سبحانه: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " (النساء: 31). قوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " المراد بالتوراة والانجيل الكتابان السماويان اللذان يذكر القرآن أن الله أنزلهما على موسى وعيسى عليهما السلام دون ما بأيدى القوم من الكتب التى يذكر أنه لعبت بها يد التحريف. والظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر الكتب المنسوبة إلى الانبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الذى يسميه القرآن بالزبور، وغيره من الكتب. وأما احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعده أن القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة والانجيل فلا وجه لعدهما معه وتمنى أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، والقول بأن العمل بالقرآن عمل بهما أيضا، كما أن العمل بالاحكام الناسخة في الاسلام عمل بمجموع شرائع الاسلام المتضمنة للناسخ والمنسوخ جميعا لكون دين الله واحدا لا يزاحم بعضه بعضا، غاية الامر أن بعض الاحكام مؤجلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أن الله سبحانه عبر عن هذا العمل بالاقامة وهى حفظ الشئ على ساق، ولا يلائم ذلك الاحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة والانجيل إنما يصح حين كانت

[ 38 ]

الشريعتان لم تنسخا بشريعة اخرى، والانجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلا في أمور يسيرة. على أن قوله تعالى: " وما أنزل إليهم من ربهم " يعدهم منزلا إليهم، وغير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أن القرآن نزل إليهم. فالظاهر أن المراد بما أنزل إليهم من ربهم بعد التوراة والانجيل سائر الكتب وأقسام الوحى المنزلة على أنبياء بنى إسرائيل كزبور داود وغيره، والمراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العام بما فيها من شرائع الله تعالى، والاعتقاد بما بين الله تعالى فيها من معارف المبدء والمعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف والكتمان والترك الصريح، فلو أقاموها هذه الاقامة لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وأما قوله تعالى: " لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " فالمراد بالاكل التنعم مطلقا سواء كان بالاكل كما في مورد الاغذية أو بغيره كما في غيره، واستعمال الاكل في مطلق التصرف والتنعم من غير مزاحم شائع في اللغة. والمراد من فوقهم هو السماء، ومن تحت أرجلهم هو الارض، فالجملة كناية عن تنعمهم بنعم السماء والارض وإحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " (الاعراف: 96). والاية من الدليل على أن لايمان هذا النوع أعنى نوع الانسان وأعماله الصالحة تأثيرا في صلاح النظام الكونى من حيث ارتباطه بالنوع الانساني فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللازم لحياة الانسان السعيدة من اندفاع النقم ووفور النعم. ويدل على ذلك آيات اخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون * قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين " (الروم: 42)، وقوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " (الشورى: 30) إلى غير ذلك، وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في البحث عن أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قوله تعالى: " منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " الاقتصاد أخذ

[ 39 ]

القصد وهو التوسط في الامور، فالامة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين والتسليم لامر الله. والكلام مستأنف اريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدي عن حدود الله والكفر بآيات الله ونزول السخط واللعن على جماعتهم أن ذلك كله إنما تلبس به أكثرهم، وهو المصحح لنسبة هذه الفظائع إليهم، وأن منهم امة معتدلة ليست على هذا النعت، وهذا من نصفة الكلام الالهى حيث لا يضيع حقا من الحقوق، ويراقب إحياء أمر الحق وإن كان قليلا. وقد تعرض لذلك أيضا في مطاوى الايات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله: " وإن أكثركم فاسقون " وقوله: " وترى كثيرا منهم يسارعون (الخ)، وقوله: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا.

(بحث روائي)

 في تفسير القمى في قوله تعالى: " وإذا جاؤكم قالوا آمنا " (الاية) قال: نزلت في عبد الله بن أبى لما أظهر الاسلام وقد دخلوا بالكفر. اقول:: ظاهر السياق أنها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلا أن تكون نزلت وحدها. وفيه في قوله تعالى: " وهم قد خرجوا به " (الاية) قال: قال: قد خرجوا به من الايمان. وفى الكافي بإسناده عن أبى بصير عن عمر بن رياح عن أبى جعفر عليه السلام قال: قلت له: بلغني أنك تقول: من طلق لغير السنة أنك لا ترى طلاقه شيئا ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: ما أقول بل الله عزوجل يقوله، أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا شرا منكم ! إن الله يقول: لو لا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت. وفى تفسير العياشي عن أبى بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: إن عمر بن

[ 40 ]

رياح زعم أنك قلت: لاطلاق إلا ببينة ؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك وتعالى يقول: أما والله لو كنا نفتيكم بالجور لكنا أشر منكم ! إن الله يقول: " لولا ينهاهم الربانيون والاحبار ". وفى مجالس الشيخ بإسناده عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " فقال: كانوا يقولون: قد فرغ من الامر. اقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن يعقوب بن شعيب وعن حماد عنه عليه السلام. وفى تفسير القمى: قال: قالوا: قد فرغ الله من الامر لا يحدث غير ما قدره في التقدير الاول، فرد الله عليهم فقال: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " أي يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص وله البداء والمشية. اقول: وروى هذا المعنى الصدوق في المعاني بإسناده عن إسحاق بن عمار عمن سمعه عن الصادق عليه السلام. وفى تفسير العياشي عن هشام المشرقي عن أبى الحسن الخراساني عليه السلام قال: إن الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثم قال: " بل يداه مبسوطتان " فقلت له: أفله يدان هكذا ؟ وأشرت بيدى إلى يده - فقال: لو كان هكذا كان مخلوقا. اقول: ورواه الصدوق في العيون بإسناده عن المشرقي عنه عليه السلام وفى المعاني بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت جعفرا عليه السلام فقلت: قوله عزوجل: " يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى " ؟ قال: اليد في كلام العرب القوة والنعمة قال: " واذكر عبدنا داود ذا الايد، والسماء بنيناها بأيد - أي بقوة - وإنا لموسعون " قال: " وأيدهم بروح منه " قال: أي قواهم، ويقال: لفلان عنديد بيضاء أي نعمة. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل " (الاية): يعنى اليهود والنصارى " لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " قال: قال: من فوقهم

[ 41 ]

المطر، ومن تحت أرجلهم النبات. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: " منهم امة مقتصدة " (الاية) عن أبى الصهباء الكبرى قال: سمعت على بن أبى طالب دعا رأس الجالوت واسقف النصارى فقال: إنى سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ثم دعا اسقف النصارى فقال: انشدك بالله الذى أنزل الانجيل على عيسى، وجعل على رجله البركة، وكان يبرئ الاكمه والابرص، وأزال ألم العين، وأحيى الميت، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون، فقال: دون هذا أصدق. فقال على عليه السلام: بكم افترقت بنو إسرائيل بعد عيسى ؟ فقال: لا والله ولا فرقة واحدة فقال على عليه السلام: كذبت والله الذى لا إله إلا هو لقد افترقت على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة إن الله يقول: " منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " فهذه التى تنجو. وفيه عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: تفرقت امة موسى على إحدى وسبعين فرقة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت امة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وتعلو امتى على الفرقتين جميعا بملة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: الجماعات، الجماعات. وفيه قال: يعقوب بن يزيد: كان على بن أبى طالب عليه السلام إذا حدث هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا فيه قرآنا: " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم - إلى قوله - ساء ما يعملون " وتلا أيضا: " وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون " يعنى امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

* * *

يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين - 67.

[ 42 ]

(بيان)

 معنى الاية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في صورة التهديد، ووعده صلى الله عليه وآله وسلم بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الاية من حيث وقوعها موقعها الذى وقعت فيه، وقد حففتها الايات المتعرضة لحال أهل الكتاب وذمهم وتوبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله والكفر بآياته. وقد اتصلت بهامن جانبيها الايتان. أعنى قوله: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما انزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " (الاية)، وقوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل إليكم من ربكم " (الاية). ثم الامعان في التدبر في نفس الاية وارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الانسان عجباعلى عجب. فلو كانت الاية متصلة بما قبلها وما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الامر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، وتعين بحسب السياق أن المراد بما انزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل إليكم من ربكم " (الاية). وسياق الاية يأباه فإن قوله: " والله يعصمك من الناس " يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه ولم يكن من شأن اليهود ولا النصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوغ له صلى الله عليه وآله وسلم أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الامر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلغ ما امر به فيهم حتى في أوائل هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وعنده حدة اليهود وشدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر وغيرها. على أن الاية لا تتضمن أمرا شديدا ولا قولا حادا، وقد تقدم عليه تبليغ ما هو أشد وأحد وأمر من ذلك على اليهود، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ ما هو أشد

[ 43 ]

من ذلك كتبليغ التوحيد ونفى الوثنية إلى كفار قريش ومشركى العرب وهم أغلظ جانبا وأشد بطشا وأسفك للدماء، وأفتك من اليهود وسائر أهل الكتاب، ولم يهدده الله في أمر تبليغهم ولا آمنه بالعصمة منهم. على أن الايات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهى نازلة فيها قطعا، واليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، وخمدت نيرانهم، وشملتهم السخطة واللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله صليالله عليه وآله وسلم منهم في دين الله، وقد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الاسلام وقبلوا هم والنصارى الجزية، ولا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم واضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، وهو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه، وقد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه وأوحش. فلا ينبغى الارتياب في أن الاية لا تشارك الايات السابقة عليها واللاحقة لها في سياقها، ولا تتصل بها في سردها، وإنما هي آية مفردة نزلت وحدها. والاية تكشف عن أمر قد انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إما مجموع الدين أو بعض أجزائه) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس من تبليغه ويؤخره إلى حين يناسبه، ولو لا مخافته وإمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " إلى آخر سورة العلق، وقوله: " يا أيها المدثر * قم فأنذر " (المدثر: 2)، وقوله: فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين " (حم السجدة: 6) إلى غير ذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخافهم ولم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شئ من أمر الله بمهجته فهذا شئ تكذبه سيرته الشريفة ومظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " (الاحزاب: 39)، وقد قال تعالى في أمثال هذه الفروض: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران: 175) وقد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال: " الذين قال لهم

[ 44 ]

الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " (آل عمران: 173). وليس من الجائز أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة وينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس لك من الامر شئ " (آل عمران: 128)، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيى دعوته بأى وسيلة من الوسائل شاء، وبأى سبب أراد. نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: " والله يعصمك من الناس " أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا فقد كان أمثال هذا الرأي والاجتهاد جائزا له مأذونا فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشئ. ومن هنا يظهر أن الاية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى: " والله يعصمك من الناس " إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياأ أو أن يقتلوه ويذهب التبليغ باطلا لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله. على أن المراد بما أنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعه في الاية عاد معنى قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " إلى نحو قولنا: يا أيها الرسول بلغ الدين وإن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين. وأما جعله من قبيل قول أبى النجم أنا أبو النجم وشعرى شعرى كما ذكره بعضهم أن معنى الاية: وإن لم تبلغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ والاهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، وأكده عليك كما أن معنى قول أبى النجم: أنى أنا أبو النجم وشعرى شعرى المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة. فإن ذلك فاسد لان هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد ونظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبى النجم: شعرى شعرى

[ 45 ]

أي لا ينبغى أن يتوهم على متوهم أن قريحتي كلت أو أن الحوادث أعيتنى أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعرى الذى أقوله اليوم هو شعرى الذى كنت أقوله بالامس. وأما قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " فليس يجرى فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التى هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الاية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف ولا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فلما بلغت تلك الرسالة أولم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التى هي مجموع المعارف الدينية. فقد تبين أن الاية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة ويكون المراد فيها بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجموع الدين أو أصله، ويتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الاشكال إنماينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " كما مر. على أن قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، وهو ظاهر. على أن محذور دلالة قوله: " والله يعصمك من الناس " على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف الناس في تبليغه على حاله. فظهر أن ليس هذا الامر الذى أنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكدت الاية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، والمعنى: بلغ الحكم الذى أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (الخ) ولازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدين ورسالته، وإلا فالمحذور السابق وهو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: " رسالته " الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغته، وهو لغو ظاهر. فالمراد أن بلغ هذا الحكم وإن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، وهو معنى صحيح معقول، وحينئذ يرد الكلام نظير المورد الذى ورده قول أبى النجم: " أنا أبو النجم وشعرى شعرى ".

[ 46 ]

وأما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف والاحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أخل بأمر واحد منها أخل بجميعها وخاصة في التبليغ لكمال الارتباط، وهذا التقدير وإن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الاية وهو قوله: " والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوما كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، ويتخذون أي تدبير يستطيعونه لابطال هذه الدعوة وتركه سدى لا يؤثر أثرا ولا ينفع شيئا وقد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، ويبطل مكرهم، ولا يهديهم في كيدهم. ولا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف والاحكام الدينية في الاسلام ليست جميعا في درجة واحدة ففيها التى هي عمود الدين، وفيها الدعاء عند رؤية الهلال، وفيها زنى المحصن وفيها النظر إلى الاجنبية، ولا يصح فرض هذه المخافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الاحكام. فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الاحكام إلا لمكان أهميته ووقوعه من الاحكام في موقع لو اهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالا لامر سائر الاحكام، وصيرورتها كالجسد العادم للروح التى بها الحياة الباقية والحس والحركة، وتكون الاية حينئذ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بحكم يتم به أمر الدين ويستوى به على عريشة القرار، وكان من المترقب أن يخالفه الناس ويقلبوا الامر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين وتتلاشى أجزاؤه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفرس ذلك ويخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا وجوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته، ولا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، وبين له أهمية الحكم، ووعده أن يعصمه من الناس، ولا يهديهم في كيدهم، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة. وإنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبطال عمله بعد انتشار الدعوة الاسلامية لا من جانب المشركين ووثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الاية نازلة في مكة قبل الهجرة، وتكون مخافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس من جهة افترائهم عليه واتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم: " معلم مجنون " (الدخان: 14)

[ 47 ]

وقولهم: " شاعر نتربص به ريب المنون " (الطور: 30)، وقولهم: " ساحر أو مجنون " (الذاريات: 52)، وقولهم: " إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " (الاسراء: 47)، وقولهم: " إن هذا إلا سحر يؤثر " (المدثر: 24)، وقولهم: " أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا " (الفرقان: 5)، وقولهم: " إنما يعلمه بشر " (النحل: 103) وقولهم: " أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه صلى الله عليه وآله وسلم. فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، وإنما تدل - إذا دلت - على اضطراب القوم في أمرهم، وعدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات والمرامى لا تختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يضطرب عند تفرسها ويخاف وقوعها فسائر الانبياء والرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا والمحن ومواجهة هذه المكاره من جملة اممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح ومن بعده من الانبياء المذكورين في القرآن. بل إن كان شئ - ولا بد - فإنما يتصور بعد الهجرة واستقرار أمر الدين في المجتمع الاسلامي والمسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين وقوم منافقين اولى قوة لا يستهان بأمرهم، وآخرين في قلوبهم مرض وهم سماعون - كما نص عليه الكتاب العزيز - وهؤلاء كانوا يعاملون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا - معاملة الملوك ومع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الاجزاء السابقة من هذا الكتاب (2). فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الاحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتشريعه وإجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة وقانون ملكى في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوى كلمات بعضهم (2). وهذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد والضيعة مالا يدفعه أي قوة دافعة، ولا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاص له بمزية من

_____________________________

(1) كآيات قصة سورة آل عمران، والايات ال‍ 105 - 126 من سورة النساء (2) كما عن أبى سفيان في كلمات قالها في مجلس عثمان حينما تم له أمر الخخلافة. (*)

[ 48 ]

المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد وتعدد الازواج والاختصاص بخمس الغنائم ونظائر ذلك. غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الازدواج بزوجة المدعو ابنا مثلا لم يكن يختص به والازدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوز مثل ذلك لسائر المسلمين، وسيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله ولنفسه من الاموال ونظائر هذه الامور لا تدع ريبا لمرتاب ولا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة. فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الاية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، واختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه والعمل به حرمان الناس عنه فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه وشدد فيه، ووعده العصمة من الناس وعدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه. وهذايؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الاية نزلت في أمر ولاية على عليه السلام، وان الله أمر بتبليغها وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يتهموه في ابن عمه، ويؤخر تبليغها وقتاإلى وقت حتى نزلت الاية فبلغها بغدير خم، وقال فيه: من كنت مولاه فهذا على مولاه. وكون ولاية امر الامة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، وكيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذى يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الاعصار والاقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الاصلية، والاصول الخلقية، والاحكام الفرعية العامة لجميع حركات الانسان وسكناته، فرادى ومجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ ؟ أو ان الامة الاسلامية والمجتمع الدينى مستثنى من بين جميع المجتمعات الانسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها ومدبر يدبرها ومجر يجريها ؟ وبأى عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية ؟ حيث يرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع، وقد خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله اتخلفنى على النساء والصبيان ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اما ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبى بعدى ؟

[ 49 ]

وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينصب الولاة الحكام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكة والطائف واليمن وغيرها، ويؤمر رجالا على السرايا والجيوش التى يبعثها إلى الاطراف، وأى فرق بين زمان حياته وما بعد مماته دون أن الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشد، والضرورة إليه أمس ثم أمس. قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك، خاطبه صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمنه الاية من الامر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذى تظهره الاية وتقرعه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن الرسول لا شأن له إلا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ. ولم يصرح باسم هذا الذى أنزل إليه من ربه بل عبر عنه بالنعت وأنه شئ أنزل إليه، إشعارا بتعظيمه ودلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع، ولا له من أمره شئ ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منه صلى الله عليه وآله وسلم في كتمانه وتأخير تبليغه ويكون له عذرا في إظهاره على الناس، وتلويحا إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم مصيب في ما تفرسه منهم وتخوف عليه، وإيماء إلى أنه مما يجب أن يظهر من ناحيته صلى الله عليه وآله وسلم وبلسانه وبيانه. قوله تعالى: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " المراد بقوله: " رسالته " وقرئ " رسالاته " كما تقدم مجموع رسالات الله سبحانه التى حملها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم أن الكلام يفيد أهمية هذا الحكم المرموز إليه، وإن له من المكانة ما لو لم يبلغه كان كأن لم يبلغ شيئا من الرسالات التى حملها. فالكلام موضوع في صورة التهديد، وحقيقته بيان أهمية الحكم، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس، ولم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شئ من أجزاء الدين فقوله: " وإن لم تفعل فما بلغت " جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا وعدما لترتب الجزاء الاهم عليه وجودا وعدما. وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا فإنا نستعمل " إن " الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، وحاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يقدر القرآن في حقه احتمال ان يبلغ الحكم النازل عليه من ربه وأن لا يبلغ،

[ 50 ]

وقد قال تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " (الانعام: 124). فالجملة أعنى قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت " (الخ)، إنما تفيد التهديد بظاهرها وتفيد إعلامه عليه السلام وإعلام غيره ما لهذا الحكم من الاهمية وأن الرسول معذور في تبليغه. قوله تعالى: " والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " قال الراغب: العصم (بالفتح فالسكون) الامساك والاعتصام الاستمساك - إلى أن قال - والعصام (بالكسر) ما يعتصم به أي يشد، وعصمة الانبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق قال تعالى: " والله يعصمك من الناس. والعصمة شبه السوار، والمعصم موضعها من اليد، وقيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيها بالسوار، وذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلا، وعلى هذا قيل: غراب أعصم، انتهى. وما ذكره من معنى عصمة الانبياء حسن لا بأس به غير أنه لا ينطبق على الاية " والله يعصمك من الناس، بل لو انطبق فإنما ينطبق على مثل قوله: " وما يغرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " (النساء: 113). وأما قوله: " والله يعصمك من الناس فإن ظاهره أنها عصمة بمعنى الحفظ والوقاية من شر الناس المتوجه إلى نفس النبي الشريفة أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه وفلاح سعيه، وبالجملة المعنى المناسب لساحته المقدسة. وكيف كان فالمتحصل من موارد استعمال الكلمة أنها بمعنى الامساك والقبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإن الحفظ يلزمه القبض. وكان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شؤون الناس كتعدياتهم بالايذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب والافتراء أو بغير ذلك كتقليب الامور بنوع من المكر والخديعة والمكيدة وبالجملة

[ 51 ]

السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لافادة نوع من التعميم، ولكن الذى لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذى يوجب انقلاب الامر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين. والناس مطلق من وجد فيه معنى الانسانية من دون أن يعتبر شئ من خصوصياته الطبيعية التكوينية كالذكورة والانوثة أو غير الطبيعية كالعلم والفضل والغنى وغير ذلك. ولذلك قل ما ينطبق على غير الجماعة، ولذلك أيضا ربما دل على الفضلاء من الانسان إذا كان الفضل روعى فيه وجود معنى الانسانية كقوله تعالى: " إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس " أي الذين وجد فيهم معنى الانسانية، وهو ملاك درك الحق وتمييزه من الباطل. وربما كان دالا على نوع من الخسة وسقوط الحال، وذلك إذا كان الامر الذى يتكلم فيه مما يحتاج إلى اعتبار شئ من الفضائل الانسانية التى اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (الروم: 30) وكقولك لا تثق بمواعيد الناس، ولا تستظهر بسوادهم نظرا منك إلى أن الوثوق والاستظهار يجب أن يتعلقا بالفضلاء من الانسان ذوى ملكة الوفاء بالعهد والثبات على العزيمة لا على من ليس له إلا مجرد صدق اسم الانسانية، وربما لم يفد شيئا من مدح أو ذم إذا تعلق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الانسانية كقوله تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (الحجرات: 13). ولعل قوله: " والله يعصمك من الناس " أخذ فيه لفظ الناس اعتبارا بسواد الافراد الذى فيه المؤمن والمنافق والذى في قلبه مرض، وقد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم، وربما أشعر به قوله: " إن الله لا يهدى القوم الكافرين " فإن الجملة في مقام التعليل لقوله: " والله يعصمك من الناس " وقد تقدم أيضا أن الاية نزلت بعد الهجرة وظهور شوكة الاسلام، وكان السواد الاعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر وإن كان فيهم المنافقون وغيرهم. فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوى الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم ويعصم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من شرهم.

[ 52 ]

والظاهر أيضا أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله وهو الحكم المراد بقوله: " ما أنزل اليك من ربك " كما في قوله في آية الحج: " ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين " (آل عمران: 97)، وأما الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل الشهادتين فإنه مما لا يناسب مورد الاية البتة إلا على القول بكون المراد بقوله: " ما أنزل اليك من ربك مجموع رسالات الدين، وقد عرفت عدم استقامته. والمراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم ومكرهم، ومنعه الاسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشر والفساد نظير قوله تعالى: " إن الله لا يهدى القوم الفاسقين " (المنافقون: 6)، وقوله تعالى: " والله لا يهدى القوم الظالمين " (البقرة: 258)، وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وأما كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الايمان فغير صحيح البتة لمنافاته أصل التبليغ والدعوة فلا يستقيم أن يقال: ادعهم إلى الله أو الحكم الله وأنا لا أهديهم إليه إلا في مورد إتمام الحجة محضا. على أن الله سبحانه قد هدى ولا يزال يهدى كثيرين من الكفار بدليل العيان، وقد قال أيضا: " والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " (البقرة: 213). فتبين أن المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمون به من إبطال كلمة الحق وإطفاء نور الحكم المنزل فإن الكافرين وكذا الظالمين والفاسقين يريدون بشامة أنفسهم وضلال رأيهم أن يبدلوا سنة الله الجارية في الخلقة وسياقة الاسباب السالكة إلى مسبباتها ويغيروا مجارى الاسباب الحقة الظاهرة عن سمة عصيان رب العالمين إلى غايتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة والله رب العالمين لن يعجزه قواهم الصورية التى لم يودعها فيهم ولم يقدرها في بناهم إلا هو. فهم ربما تقدموا في مساعيهم أحيانا، ونالوا ما راموه أوينات واستعلوا واستقام أمرهم برهة لكنه لا يلبث دون أن يبطل أخيرا وينقلب عليهم مكرهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وكذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الباطل فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض. وعلى هذا فقوله: " إن الله لا يهدى القوم الكافرين تفسير قوله: " والله يعصمك

[ 53 ]

من الناس، بالتصرف في سعة إطلاقه، ويكون المراد بالعصمة عصمته صلى الله عليه وآله وسلم من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم وتقريره بين الامة كأن يقتلوه دون أن يبلغه أو يثوروا عليه ويقلبوا عليه الامور أو يتهموه بما يرتد به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيدا يميت هذا الحكم ويقبره بل الله يظهر كلمة الحق ويقيم الدين على ما شاء وأينما شاء ومتى ما شاء وفيمن شاء، قال تعالى: " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا) (النساء: 133). وأما أخذ الاية أعنى قوله: " والله يعصمك من الناس " بإطلاقه على ما فيه من السعة والشمول فمما ينافيه القرآن والمأثور من الحديث والتاريخ القطعي، وقد نال صلى الله عليه وآله وسلم من امته أعم من كفارهم ومؤمنيهم ومنافقيهم من المصائب والمحن وأنواع الزجر والاذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمله إلا نفسه الشريفة، وقد قال صلى الله عليه وآاله وسلم - كما في الحديث المشهور -: ما اوذى نبى مثل ما اوذيت قط.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن أبى صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى االله عليه وآله وسلم أن ينصب عليا علما في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا: خابى (1) ابن عمه وأن يطعنوا (2) في ذلك عليه. قال فأوحى الله إليه هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بولايته يوم غدير خم. وفيه عن حنان بن سدير، عن أبيه عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بإعلان أمر على بن أبى طالب عليه السلام " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " إلى آخر الاية. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس. فلما نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له " مهيعة " فنادى الصلاة جامعة،

_____________________________

(1) جاءنا، خ ل. (2) يطغوا، خ ل. (*)

[ 54 ]

فاجتمع الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أولى بكم من أنفسكم ؟ فجهروا فقالوا: الله ورسوله ثم قال لهم الثانية، فقالوا: الله ورسوله، ثم قال لهم الثالثة، فقالوا: الله ورسوله. فأخذ بيد على عليه السلام فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله فإنه منى وأنا منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى. وفيه عن أبى الجارود، عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد على عليه السلام فقال: يا أيها الناس إنه لم يكن نبى من الانبياء ممن كان من قبلى ؟ إلا وقد عمر ثم دعاه فأجابه، وأوشك أن أدعى فاجيب، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللهم اشهد. ثم قال: يا معشر المسلمين ليبلغ الشاهد الغائب أوصى من آمن بى وصدقني بولاية على، ألا إن ولاية على ولايتى عهدا عهده إلى ربى وأمرني أن ابلغكموه، ثم قال: هل سمعتم ؟ - ثلاث مرات يقولها - فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله. وفي البصائر بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " قال: هي الولاية. اقول: وروى نزول الاية في أمر الولاية وقصة الغدير معه الكليني في الكافي بإسناده، عن أبى الجارود، عن أبى جعفر عليه السلام في حديث طويل، وروى هذا المعنى الصدوق في المعاني بإسناده عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن ابى جعفر عليه السلام في حديث طويل، ورواه العياشي أيضا عن أبى الجارود في حديث طويل، وبإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام مختصرا. وعن تفسير الثعلبي قال: قال جعفر بن محمد: معنى قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل عليك من ربك " في فضل على، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد على فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه.

[ 55 ]

وعنه بإسناده عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن عباس في هذه الاية قال: نزلت في على بن أبى طالب، أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ بيد على فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وفي تفسير البرهان، عن إبراهيم الثقفى بإسناده عن الخدرى، وبريدة الاسلمي ومحمد بن على: نزلت يوم الغدير في على. ومن تفسير الثعلبي في معنى الاية قال: قال أبو جعفر محمد بن على: معناه بلغ ما أنزل اليك من ربك في على. وفي تفسير المنارعن تفسير الثعلبي: أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم في موالاة على شاع وطار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهرى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته، وكان بالابطح فنزل وعقل ناقته، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم - وهو في ملا من أصحابه -: يا محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبلنا منك - ثم ذكر سائر أركان الاسلام - ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعى ابن عمك، وفضلته علينا، وقلت: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فهذا منك أم من الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله الذى لا إله إلا هو هو أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم. فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره، وأنزل الله تعالى: " سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع " الحديث. أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: وهذه الرواية موضوعة، وسورة المعارج هذه مكية، وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك) كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجر، وهذا التذكير في سورة الانفال، وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد ولم يعرف في الصحابة، والابطح بمكة والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة بل نزل فيه منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة، انتهى. وأنت ترى ما في كلامه من التحكم: أما قوله: [ إن الرواية موضوعة، وسورة

[ 56 ]

المعارج هذه مكية ] فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، وليت شعرى ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، والجميع آحاد ؟ سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية ؟ فلتكن السورة مكية، والايتان خاصة غير مكيتين كما أن سورتنا هذه أعنى سورة المائدة مدينة نازلة في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وضعت فيها الاية المبحوث عنها أعنى قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية)، وهو كعدة من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة فإذا جاز وضع آية مكية (آية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك) في سورة مدنية (المائدة) فليجز وضع آية مدنية (آية: سأل سائل) في سورة مكية (سورة المعارج). وأما قوله: [ وما حكاه الله من قول بعض كفار قريش ] إلى آخره، فهو في التحكم كسابقه، فهب إن سورة الانفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الايات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا وآية: " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " (البقرة: 281)، وهى آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة وقد نزلت قبلها ببضع سنين. ثم قوله: [ إن آية: " وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق، الاية " تذكير لما قالوه قبل الهجرة ] تحكم آخر من غير حجة لو لم يكن سياق الاية حجة على خلافه فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعنى قوله: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " لاشتماله على قوله: " إن كان هذا هو الحق من عندك " بما فيه من اسم الاشارة وضمير الفصل والحق المحلى باللام وقوله: " من عندك " ليس كلام وثنى مشرك يستهزئ بالحق ويسخر منه، إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، ويرى أن الامور الحقة تتعين من لدنه، وأن الشرائع مثلا تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعى مدع أنه الحق لا غيره، وهو لا يتحمل ذلك ويتحرج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة. وأما قوله: [ وظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد ولم

[ 57 ]

يعرف في الصحابة ] تحكم آخر، فهل يسع أحدا أن يدعى أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به أو آمن به فارتد ؟ وإن يكن شئ من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل. وأما قوله: [ والابطح بمكة والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرجع من غدير خم إلى مكة ] فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الابطح اسما للمكان الخاص بمكة ولم يحمله على معناه العام وهو كل مكان ذى رمل، ولا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه وهو القصة المسرودة في الرواية وغيرها، وربما استفيد من مثل قوله:

نجوت وقد بل المرادى سيفه * من ابن أبى شيخ الاباطح طالب

 أن مكة وما والاها كانت تسمى الاباطح. قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون وفتح الطاء والحاء المهملة كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، وقال ابن دريد: الابطح والبطحاء السهل المنبسط على وجه الارض. وقال أبو زيد: الابطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، والابطح يضاف إلى مكة والى منى لان مسافته منهما واحدة، وربما كان إلى منى أقرب وهو المحصب، وهى خيف بنى كنانة، وقد قيل: إنه ذو طوى، وليس به، انتهى. على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي وليس فيه ذكر من الابطح وهى ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور وغيرها. وبعد هذا كله فالرواية من الاحاد، وليست من المتواترات ولا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الاحاد في غير الاحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذى عليه بناء الانسان في حياته، وإنما المراد بالبحث الانف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التى استنتج منها أنها موضوعة. وفي المجمع: أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: أخبرنا أبو أحمد البصري قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الانصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق

[ 58 ]

عن آبائه قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فهذا على مولاه، فقال (فطار، ظ) ذلك في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحارث الفهرى فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد وبالحج وبالصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلى مولاه فهذا شئ منك أو أمر من الله تعالى ؟ فقال: بلى والله الذى لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله: " سأل سائل بعذاب واقع ". أقول: وهذا المعنى مروى في الكافي أيضا. وعن كتاب نزول القرآن للحافظ أبى نعيم يرفعه إلى على بن عامر، عن أبى الحجاف، عن الاعمش، عن عطية قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في على بن أبى طالب " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". وعن الفصول المهمة للمالكي قال: روى الامام أبو الحسن الواحدى في كتابه المسمى بأسباب النزول رفعه بسنده إلى أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - قال: نزلت هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " يوم غدير خم في على بن أبى طالب. أقول: ورواه في فتح القديرعن ابن أبى حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبى سعيد الخدرى وكذلك في الدر المنثور. وقوله: " بغدير خم " هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم مع التنوين اسم لغيطة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيطة، هكذا ذكره الشيخ محيى الدين النووي. وفى فتح القدير أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرؤ على عهد

[ 59 ]

رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس. أقول: وهذه نبذة من الاخبار الدالة على نزول قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (إلخ)، في حق على عليه السلام يوم غدير خم، وأما حديث الغدير أعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة وأهل السنة بما يزيد على مائة طريق. وقد روى عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، وزيد بن أرقم وأبو أيوب الانصاري، وعمر بن الخطاب، وعلى بن ابى طالب، وسلمان الفارسى، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وبريدة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدرى، وأنس بن مالك، وعمران بن الحصين، وابن أبى أوفى، وسعدانة، وامرأة زيد بن أرقم. وقد أجمع عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد ناشد على عليه السلام الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله يوم الغدير. وفى كثير من هذه الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس ألستم تعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلى مولاه كما في عدة من الاخبار التى رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، وقد افردت لاحصاء طرقها والبحث في متنها تآليف من أهل السنة والشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه. وعن كتاب السمطين للحموينى بإسناده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة اسرى بى إلى السماء السابعة سمعت نداء من تحت العرش: إن عليا آية الهدى، وحبيب من يؤمن بى، بلغ عليا عليه السلام، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من السماء أنسى ذلك فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين. وفى فتح القدير: أخرج ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه

[ 60 ]

فقال الوارث من بنى النجار: لاقتلن محمدا، فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حال الله بينك وبين ما تريد، فأنزل الله سبحانه: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك " الاية. أقول: ثم ذكر في فتح القديرأن ابن حبان أخرجه في صحيحه وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبى هريرة نحو هذه القصة ولم يسم الرجل، وأخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظى نحوه، وقصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، وهى معروفة مشهورة (انتهى)، ولكن الشأن تطبيق القصة على المحصل من معنى الاية، ولن تنطبق أبدا. وفى الدر المنثور وفتح القديرو غيرهما عن ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي آية انزلت من السماء أشد عليك ؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركوا كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم فانزل على جبريل فقال: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك " (الاية). قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن ابلغ رسالة ربى وله الجنة ؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة. قال: فما بقى رجل ولا امرأة ولا صبى إلا يرمون بالتراب والحجارة، ويبزقون في وجهى ويقولون: كذاب صابئ فعرض على عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فجاء العباس عمه فأنقذهم منه وجردهم عنه. أقول: الاية بتمامها لا ينطبق على هذه القصة على ما عرفت تفصيل القول فيه. اللهم إلا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الاية - وهى قوله: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " - في ذلك اليوم، وظاهر الرواية يأباه، ونظيرها ما يأتي. وفى الدر المنثور وفتح القدير: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم

[ 61 ]

وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت " بلغ ما انزل اليك من ربك " قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع ؟ يجتمع على الناس فنزلت " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ". وفيها عن الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله بعثنى برسالته فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبى فوعدني لابلغن أو ليعذبني فأنزل: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ". أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع والارسال فيهما ما في سابقتهما، ونظيرتهما في هذا التشويش بعض ما ورد في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحترس برجال فلما نزلت الاية فرقهم وقال عليه السلام: إن ربى وعدني أن يعصمني. وفى تفسير المنار: روى أهل التفسير المأثور والترمذي وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي والطبراني عن بضعة رجال من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الاية فلما نزلت ترك الحرس، وكان أبو طالب أول الناس اهتماما بحراسته، وحرسه العباس أيضا. وفيه ومما روى في ذلك عن جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بنى هاشم حتى نزلت الاية فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لى إلى من يبعث. اقول: والروايتان - كما ترى - تدلان على ان الاية نزلت في أواسط إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وانه صلى الله عليه وآله وسلم بلغ رسالته زمانا واشتد عليه أمر إيذاء الناس وتكذيبهم حتى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ والدعوة فامر ثانيا بالتبليغ، وهدد من جانب الله سبحانه، ووعد بالعصمة، فاشتغل ثانيا بما كان يشتغل به اولا، وهذا شئ يجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثورو فتح القدير: أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتى نزلت: " والله يعصمك من الناس " فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. اقول: والرواية - كما ترى - ظاهرة في نزولها بالمدينة.

[ 62 ]

وفى تفسير الطبري عن ابن عباس في قوله: " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " يعنى إن كتمت آية انزل اليك لم تبلغ رسالته. اقول: إن كان المراد به آية معينة أي حكم معين مما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه صحة، وإن كان المراد به التهديد في أي آية فرضت أو حكم قدرفقد عرفت فيما تقدم أن الاية لا تلائمه بمضمونها.

* * *

قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين - 68. إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 69. لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون - 70. وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون - 71. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - 72. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما

[ 63 ]

من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - 73. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - 74. ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون - 75. قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم - 76. قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل - 77. لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون - 78. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون - 79. ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون - 80. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون - 81. لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون - 82.

[ 64 ]

وإذا سمعوا ما أانزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين - 83. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين - 84. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين - 85. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم - 86.

(بيان)

 الايات في نفسها تقبل الاتصال والاتساق بحسب النظم، ولا تقبل الاتصال بقوله تعالى: " ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل " (الاية) مع الغض عن قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك " (الاية) وأما ارتباط قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية) فقد عرفت الكلام فيه. والاشبه أن يكون هذه الايات جارية على سياق الايات السابقة من أوائل السورة إلى هنا أعنى ارتباط مضامين الايات آخذة من قوله تعالى: " ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " (الاية ال‍ 12 من السورة) إلى آخر هذه الايات المبحوث عنها باستثناء نزرة مما تتخللها كآية الولاية وآية التبليغ وغيرهما مما تقدم البحث عنه، ومثله الكلام في اتصال آيات آخر السورة بهذه الايات فإنها جميعا يجمعها أنها كلام يتعلق بشأن أهل الكتاب. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل " (إلى آخر الاية)، الانسان يجد من نفسه خلال أعماله أنه إذا أراد إعمال قوة وشدة فيما يحتاج إلى ذلك، وجب أن يعتمد على مستوى يستوى عليه أو يتصل به كمن اراد أن يجذب أو يدفع أو يحمل أو يقيم شيئا ثقيلا فإنه يثبت قدميه على الارض أولا ثم يصنع ما شاء لما يعلم أن لولا ذلك لم يتيسر له ما يريد، وقد بحث عنه في العلوم المربوطة به.

[ 65 ]

وإذا أجرينا هذا المعنى في الامور المعنوية كأفعال الانسان الروحية أو ما يتعلق من أفعال الجوارح بالامور النفسية كان ذلك منتجا أن صدور مهام الافعال وعظائم الاعمال يتوقف على أس معنوى ومبنى قوى نفسي كتوقف جلائل الامور على الصبر والثبات وعلو الهمة وقوة العزيمة وتوقف النجاح في العبودية على حق التقوى والورع عن محارم الله. ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: " لستم على شئ " كناية عن عدم اعتمادهم على شئ يثبت عليه أقدامهم فيقدروا بذلك على إقامة التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم تلويحا إلى أن دين الله وحكمه لها من الثقل ما لا يتيسر حمله للانسان حتى يعتمد على أساس ثابت ولا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه كما يشير تعالى إلى ذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم بقوله: " إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا " (المزمل: 5)، وقوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " (الحشر: 21)، وقوله: " إنا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " الاية (الاحزاب: 72). وقال في أمر التوراة خطابا لموسى عليه السلام: " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " (الاعراف: 145)، وقال خطابا لبنى إسرائيل: " خذوا ما آتيناكم بقوة " (البقرة: 63) وقال خطابا ليحيى عليه السلام: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " (مريم: 12). فيعود المعنى إلى أنكم فاقدوا العماد الذى يجب عليكم أن تعتمدوا عليه في إقامة دين الله الذى أنزله اليكم في كتبه وهو التقوى والانابة إلى الله بالرجوع إليه مرة بعد اخرى والاتصال به والايواء إلى ركنه بل مستكبرون عن طاعته ومتعدون حدوده. ويظهر هذا المعنى من قوله تعالى خطابا لنبيه والمؤمنين: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى " فجمع الدين كله فيما ذكره، ثم قال: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " فبين أن ذلك كله يرجع إلى إقامة الدين كلمة واحدة من غير تفرق ثم قال: " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " وذلك لكبر الاتفاق والاستقامة في اتباع الدين عليهم، ثم قال: " الله

[ 66 ]

يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب " فأنبأ أن إقامة الدين لا يتيسر إلا بهداية من الله، ولا يصلح لها إلا المتصف بالانابة التى هي الاتصال بالله وعدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد اخرى، ثم قال: " وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " فذكر أن السبب في تفرقهم وعدم إقامتهم للدين هو بغيهم وتعديهم عن الوسط العدل المضروب لهم (الشورى: 14). وقال أيضا في نظيرتها من الايات: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون " (الروم: 32) فذكر فيها أيضا أن الوسيلة إلى إقامة دين الفطرة الانابة إلى الله، وحفظ الاتصال بحضرته، وعدم الانقطاع عن سببه. وقد أشار إلى هذه الحقيقة في الايات السابقة على هذه الاية المبحوث عنها أيضا حيث ذكر أن الله لعن اليهود وغضب عليهم لتعديهم حدوده فألقى بينهم العداوة والبغضاء، وذكر هذا المعنى في غير هذا المورد في خصوص النصارى بقوله: " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " (المائدة: 14). وقد حذر الله سبحانه المسلمين عن مثل هذه المصيبة المؤلمة التى سيحلها على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنبأهم أنهم لا يتيسر ولن يتيسر لهم إقامة التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم، وقد صدق جريان التاريخ ما أخبر به الكتاب من تشتت المذاهب فيهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم، فحذرالامة الاسلامية أن يردوا موردهم في الانقطاع عن ربهم، وعدم الانابة إليه في قوله: " وأقم وجهك للدين حنيفا " (الروم: 30) في عدة آيات من السورة. وقد تقدم البحث عن بعض الايات الملوحة إلى ذلك في ما تقدم من أجزاء الكتاب وسيأتى الكلام على بعض آخر منها إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك من ربك طغيانا وكفرا " فقد تقدم البحث عن معناه، وقوله: " فلا تأس على القوم الكافرين " تسلية منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في صورة النهى عن الاسى.

[ 67 ]

قوله تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى " (الاية) ظاهرها أن الصابئون عطف على " الذين آمنوا " بحسب موضعه وجماعة من النحويين يمنعون العطف على اسم إن بالرفع قبل مضى الخبر، والاية حجة عليهم. والاية في مقام بيان أن لا عبرة في باب السعادة بالاسماء والالقاب كتسمى جمع بالمؤمنين وفرقة بالذين هادوا، وطائفة بالصابئين وآخرين بالنصارى، وإنما العبرة بالايمان بالله واليوم الاخر والعمل الصالح، وقد تقدم البحث عن معنى الاية في تفسير سورة البقرة الاية الى 62 في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: " لقد أخذنا ميثاق بنى إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا " (إلى آخر الاية) هذه الاية وما بعدها إلى عدة آيات تتعرض لحال أهل الكتاب كالحجة على ما يشتمل عليه قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والانجيل " (إلخ)، فإن هذه الجرائم والاثام لا تدع للانسان اتصالا بربه حتى يقيم كتب الله معتمدا عليه. ويحتمل أن تكون الايات مرتبطة بقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الخ)، فيكون تصديقا بأن الاسماء والالقاب لا تنفع شيئا في مرحلة السعادة إذ لو نفعت لصدت هؤلاء عن قتل الانبياء وتكذيبهم والهلاك بمهلكات الفتن وموبقات الذنوب. ويمكن أن يكون هذه الايات كالمبينة لقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الخ)، وهو كالمبين لقوله: " يا أهل الكتاب لستم علي شئ (الاية) والمعين ظاهر. وقوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون الظاهر ان كلمتي فريقا في الموضعين مفعولان للفعلين بعد هما عليهما للعناية بامرهما والتقدير: كذبوا فريقا ويقتلون فريقا والمجموع جواب له: ملن جاءهم (الخ) والمعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم (الخ) والمعنى نحو من قولنا: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى انفسهم اساؤؤا مواجهته واجابته وجعلوا الرسل الاتين فريقين: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. قال في الجميع: فان قيل: لم عطف المستقبل على الماضي يعني قوله: ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون: فجوابه: ليدل على ان ذلك من شانهم ففيه معنى كذبوا وقتلوا ويكذبون ويقتلون مع ان قوله: يقتلون فاصلة يجب ان يكون موافقا

[ 68 ]

لرؤس الاى، انتهى. قوله تعالى: " وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا " (الخ)، متمم للكلام في الاية السابقة، والحسبان هو الظن، والفتنة هي المحنة التى تغر الانسان أوهى أعم من كل شر وبلية، والعمى هو عدم إبصار الحق وعدم تمييز الخير من الشر، والصمم عدم سماع العظة وعدم الاعباء بالنصيحة وهذا العمى والصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة، والظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لانفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل وأنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يمسهم السوء وإن فعلوا ما فعلوا وارتكبوا ما ارتكبوا. فمعنى الاية - والله أعلم - أنهم لمكان ما اعتقدوا لانفسهم من كرامة التهود ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق، وأصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم. وهذا مما يرجح ما احتملناه أن الايات كالحجة المبينة لقوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا " (الاية) فمحصل المعنى أن الاسماء والالقاب لا تنفع أحدا شيئا فهؤلاء اليهود لم ينفعهم ما قدروا لانفسهم من الكرامة بالتسمى بل أعماهم وأوردهم مورد الهلكة والفتنة لما كذبوا أنبياء الله وقتلوهم. قوله تعالى: " ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون " التوبة من الله على عباده رجوعه تعالى بالرحمة إليهم، وهذا يدل على أن الله سبحانه قد كان بعدهم من رحمته وعنايته ولذلك أخذهم الحسبان المذكور ولزمهم العمى والصمم، لكن الله سبحانه رجع إليهم ثانية بالتوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم، والعمى والصمم عن أبصارهم وآذانهم، فعرفوا أنفسهم بأنهم عباد لا كرامة لهم على الله إلا بالتقوى، وأبصروا الحق وسمعوا عظة الله لهم بلسان أنبيائه فتبين لهم أن التسمى لا ينفع شيئا. ثم عموا وصموا كثير منهم، وإسناد العمى والصمم إلى جمعهم أولا ثم إلى كثير منهم - بإتيان كثير منهم بدلا من واو الجمع - أخذ بالنصفة في الكلام بالدلالة على أن إسناد العمى والصمم إلى جمعهم من قبيل إسناد حكم البعض إلى الكل، والواقع أن

[ 69 ]

المتصف بهاتين الصفتين كثير منهم لا كلهم أولا، وإيماء إلى أن العمى والصمم المذكورين أولا شملا جميعهم على ما يدل عليه المقابلة ثانيا، وأن التوبة الالهية لم يبطل أثرها ولم تذهب سدى بالمرة بل نجا بالتوبة بعضهم فلم يأخذهم العمى والصمم اللاحقان أخيرا ثالثا. ثم ختم تعالى الاية بقوله: " والله بصير بما يعملون " للدلالة على أن الله تعالى لا يغفله شئ، فغيره تعالى إذا أكرم قوما بكرامة ضرب ذلك على بصره بحجاب يمنعه أن يرى منهم السوء والمكروه، وليس الله سبحانه على هذا النعت بل هو البصير لا يحجبه شئ عن شئ. قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم " وهذا كالبيان لكون النصارى لم تنفعهم النصرانية والانتساب إلى المسيح عليه السلام عن تعلق الكفر بهم إذ أشركوا بالله ولم يؤمنوا به حق إيمانه حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم. والنصارى وإن اختلفوا في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهرة الالوهية بين قائل باشتقاق اقنوم المسيح وهو العلم من اقنوم الرب (تعالى) وهو الحياة، وذلك الابوة والبنوة، وقائل بأنه تعالى صارهو المسيح على نحو الانقلاب، وقائل بأنه حل فيه كما تقدم بيان ذلك تفصيلا في الكلام على عيسى بن مريم ععليه السلام في تفسير سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب. لكن الاقوال الثلاثة جميعا تقبل الانطباق على هذه الكلمة (إن الله هو المسيح ابن مريم) فالظاهر أن المراد بالذين تفوهوا بهذه الكلمة جميع النصارى الغالين في المسيح عليه السلام لا خصوص القائلين منهم بالانقلاب. وتوصيف المسيح بابن مريم لا يخلو من دلالة أو إشعار بسبب كفرهم وهو نسبة الالوهية إلى انسان ابن انسان مخلوقين من تراب، وأين التراب ورب الارباب ؟ ! قوله تعالى: " وقال المسيح يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم " (إلى آخر الاية) احتجاج على كفرهم وبطلان قولهم بقول المسيح عليه السلام نفسه، فإن قوله عليه السلام: " اعبدوا الله ربى وربكم " يدل على أنه عبد مربوب مثلهم، وقوله: " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " يدل على أن من يجعل لله شريكا في الوهيته فهو مشرك كافر محرم عليه الجنة.

[ 70 ]

وفى قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: " فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار " عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية، وأنه عليه السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم فهم مغفور لهم مرفوع عنهم التكاليف الالهية ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسون نارا كما تقدم نقل ذلك عنهم في تفسير سورة آل عمران في قصة عيسى عليه السلام فقصة التفدية والصلب إنماسيقت لهذا الغرض. وما تحكيه الاية من قوله عليه السلام موجود في متفرقات الابواب من الاناجيل كالامر بالتوحيد، (1) وإبطال عبادة المشرك، (2) والحكم بخلود الظالمين في النار (3). قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " أي أحد الثلاثة: الاب والابن والروح، أي هو ينطبق على كل واحد من الثلاثة، وهذا لازم قولهم: إن الاب إله، والابن إله، والروح إله، وهو ثلاثة، وهو واحد يضاهئون بذلك نظير قولنا: إن زيد بن عمرو إنسان، فهناك امور ثلاثة هي: زيد وابن عمرو والانسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت، وقد غفلوا عن أن هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وأن المنعوت إن كان واحدا حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتبارية غير حقيقية فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية في زيد المنعوت بحسب الحقيقة مما يستنكف العقل عن تعقله. ولذاربما ذكر بعض الدعاة من النصارى أن مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الاسلاف التى لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، ولم يتنبه أن عليه أن يطالب الدليل على كل دعوى يقرع سمعه سواء كان من دعاوى الاسلاف أو من دعاوى الاخلاف. قوله تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " (إلى آخر الاية) رد منه تعالى لقولهم: " إن الله ثالث ثلاثة " بأن الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية الكثرة بوجه من الوجوه فهو تعالى في ذاته واحد، وإذا اتصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد

_____________________________

(1) الاصحاح 12: 29 (انجيل مرقس). (2) الاصحاح 6: 24 (انجيل متى). (3) الاصحاح 13: 50، 25: 31 - 47 (انجيل متى ايضا).

[ 71 ]

ذلك على ذاته الواحدة شيئا، ولا الصفة إذا أضيفت إلى الصفة أورث ذلك كثرة وتعددا فهو تعالى احدى الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل. فليس الله سبحانه بحيث يتجزؤ في ذاته إلى شئ وشئ قط، ولا أن ذاته بحيث يجوز أن يضاف إليه شئ فيصير اثنين أو أكثر، كيف ؟ وهو تعالى مع هذا الشئ الذى تراد إضافته إليه تعالى في وهم أو فرض أو خارج. فهو تعالى واحد في ذاته لكن لا بالوحدة العددية التى لسائر الاشياء المتكون منها الكثرات، ولا منعوت بكثرة في ذات أو اسم، أو صفة، كيف ؟ وهذه الوحدة العددية والكثرة المتألفة منها كلتاهمامن آثار صنعه وإيجاده فكيف يتصف بما هو من صنعه ؟. وفى قوله تعالى: " وما من إله إلا إله واحد " من التأكيد في إثبات التوحيد ما ليس في غيره حيث سيق الكلام بنحو النفى والاستثناء، ثم أدخل " من " على النفى لافادة تأكيد الاستغراق، ثم جئ بالمستثنى وهو قوله: " إله واحد " بالتنكير المفيد للتنويع ولو أورد معرفة كقولنا " إلا إلاله الواحد " لم يفد ما يرام من حقيقة التوحيد. فالمعنى: ليس في الوجود شئ من جنس الاله أصلا إلا إله واحد نوعا من الوحدة لا يقبل التعدد أصلا لا تعدد الذات ولا تعدد الصفات، لا خارجا ولا فرضا، ولو قيل: وما من إله إلا الله الواحد لم يدفع به قول النصارى (إن الله ثالث ثلاثة) فإنهم لا ينكرون الوحدة فيه تعالى، وإنما يقولون: إنه ذات واحدة لها تعين بصفاتها الثلاث، وهى واحدة في عين أنها كثيرة حقيقة. ولا يندفع ما احتملوه من المعنى إلا بإثبات وحدة لا تتألف منه كثرة أصلا، وهو الذى يتوخاه القرآن الكريم بقوله: " وما من إله إلا إله واحد ". وهذا من لطائف المعاني التى يلوح إليها الكتاب الالهى في حقيقة معنى التوحيد وسنغور في البحث المستوفى عنه في بحث قرآني خاص ثم في بحث عقلي وآخر نقلى إيفاء لحقه. قوله تعالى: " وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم

[ 72 ]

تهديد لهم بالعذاب الاليم الاخروي الذى هو ظاهر الاية الكريمة. ولما كان القول بالتثليث الذى تتضمنه كلمة: " إن الله ثالث ثلاثة " ليس في وسع عقول عامة الناس أن تتعقله فأغلب النصارى يتلقونه قولا مذهبيا مسلما بلفظه من غير أن يعقلوا معناه، ولا أن يطمعوا في تعقله كما ليس في وسع العقل السليم أن يعقله عقلا صحيحا، وإنما يتعقل كتعقل الفروض المحالة كالانسان اللاإنسان، والعدد الذى ليس بواحد ولا كثير ولا زوج ولا فرد فلذلك تتسلمه العامة تسلما من غير بحث عن معناه، وإنما يعتقدون في البنوة والابوة شبه معنى التشريف فهؤلاء في الحقيقة ليسوا من أهل التثليث، وإنما يمضغون الكلمة مضغا، وينتمون إليها انتماء بخلاف غير العامة منهم وهم الذين ينسب الله سبحانه إليهم اختلاف المذاهب ويقرر أن ذلك ببغيهم كما قال تعالى: " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه - إلى أن قال: - وماتفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " (الشورى: 14). فالكفر الحقيقي الذى لا ينتهى إلى استضعاف - وهو الذى فيه إنكار التوحيد والتكذيب بآيات الله - إنما يتم في بعضهم دون كلهم، وإنما أوعد الله بالنار الخالد الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، قال: " والذين كفروا وكذبوا بآيات الله اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (البقرة: 39) إلى غير ذلك من الايات، وقد مر الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: " إلا المستضعفين " (الاية) (النساء: 98). ولعل هذا هو السر في التبعيض الظاهر من قوله: " ليمسن الذين كفروا منهم " أو أن المراد به الاشارة إلى أن من النصارى من لا يقول بالتثليث، ولا يعتقد في المسيح إلا أنه عبد الله ورسوله، كما كانت على ذلك مسيحيوا الحبشة وغيرها على ما ضبطه التاريخ فالمعنى: لئن لم ينته النصارى عما يقولون (نسبة قول بعض الجماعة إلى جميعهم) ليمسن الذين كفروا منهم - وهم القائلون بالتثليث منهم - عذاب أليم. وربما وجهوا الكلام أعنى قوله: " ليمسن الذين كفروا منهم " بأنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر، والاصل: ليمسنهم (انتهى)، وإنما عدل إلى وضع الموصول وصلته مكانه ليدل على أن ذلك القول كفر بالله، وأن الكفر سبب العذاب الذى توعدهم به.

[ 73 ]

وهذا وجه لا بأس به لو لا أن الاية مصدرة بقوله: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " ونظيره في البعد قول بعض آخر: إن " من " في قوله " منهم " بيانية فإنه قول من غير دليل. قوله تعالى: " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " تحضيض على التوبة والاستغفار، وتذكير بمغفرة الله ورحمته، أو إنكار أو توبيخ. قوله تعالى: " ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " رد لقولهم: " إن الله ثالث ثلاثة " أو لقولهم هذا وقولهم المحكى في الاية السابقة: " إن الله هو المسيح بن مريم جميعا، ومحصله اشتمال المسيح على جوهرة الالوهية، بأن المسيح لا يفارق سائر رسل الله الذين توفاهم الله من قبله كانوا بشرا مرسلين من غير أن يكونوا أربابا من دون الله سبحانه، وكذلك أمه مريم كانت صديقة تصدق بآيات الله تعالى وهى بشر، وقد كان هو وأمه جميعا يأكلان الطعام، وأكل الطعام مع ما يتعقبه مبنى على أساس الحاجة التى هو أول إمارة من إمارات الامكان والمصنوعية فقد كان المسيح عليه السلام ممكنا متولدا من ممكن، وعبدا ورسولا مخلوقا من امه كانا يعبدان الله، ويجريان في سبيل الحاجة والافتقار من دون أن يكون ربا. وما بيد القوم من كتب الانجيل معترفة بذلك تصرح بكون مريم فتاة كانت تؤمن بالله وتعبده، وتصرح بأن عيسى تولد منها كالانسان من الانسان، وتصرح بأن عيسى كان رسولا من الله إلى الناس كسائر الرسل وتصرح بأن عيسى وامه مريم كانا يأكلان الطعام. فهذه امور صرحت بها الاناجيل، وهى حجج على كونه عليه السلام عبدا رسولا. ويمكن أن تكون الاية مسوقة لنفى ألوهية المسيح وامه كليهما على ما يظهر من قوله تعالى: " أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " (المائدة: 116) أنه كان هناك من يقول بالوهيتها كالمسيح أو أن المراد به اتخاذها إلها كما ينسب إلى أهل الكتاب أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وذلك بالخضوع لها ولهم بما لا يخضع لبشر بمثله.

[ 74 ]

وكيف كان فالاية على هذا التقدير تنفى عن المسيح وامه معا الالوهية بأن المسيح كان رسولا كسائر الرسل، وامه كانت صديقة، وهما معا كانا يأكلان الطعام، وذلك كله ينافى الالوهية. وفى قوله تعالى: " قد خلت من قبله الرسل " حيث وصف الرسل بالخلومن قبله، وهو الموت تأكيد للحجة بكونه بشرا يجوز عليه الموت والحياة كما جاز على الرسل من قبله. قوله تعالى: " انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون " الخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في مقام التعجيب أي تعجب من كيفية بياننا لهم الايات، وهو أوضح بيان لاظهر آية في بطلان دعواهم الوهية المسيح، وكيفية صرفهم عن تعقل هذه الايات، فإلى أي غاية يصرفون عنها، ولا تلتفت إلى نتيجتها - وهى بطلان دعواهم - عقولهم ؟. قوله تعالى: " قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم " كان الخضوع لامر الربوبية إنما انتشر بين البشر في أقدم عهوده، وخاصة بين العامة منهم - وعامتهم كانوا يعبدون الاصنام - طمعا في أن يدفع الرب عنهم الشر ويوصل إليهم النفع كما يتحصل من الابحاث التاريخية، وأما عبادة الله لانه الله عزاسمه فلم يكن يعدو الخواص منهم كالانبياء والربانيين من اممهم. فأمر الله سبحانه رسوله أن يخاطبهم خطاب البشر الساذج الجارى على ما تلهمه فطرته الساذجة في عبادة الله كما خاطب الوثنيين وعباد الاصنام بذلك فيذكرهم أن الذى يضطر الانسان بعبادة الرب هو أنه يرى أزمة الخير والشر والنفع والضر بيده فيعبده لانه يملك الضر والنفع طمعا في أن يدفع عنه الضر ويوصل إليه الخير لعبادته له. وكل ما هو دون الله تعالى لا يملك شيئا من ضر ولا نفع لانه مملوك لله محضا مسلوب عنه القدرة في نفسه فكيف يسوغ تخصيصه بالعبادة، وإشراكه مع ربه الذى هو المالك له ولغيره، وقد كان من الواجب أن يخص هو تعالى بالعبادة، ولا يتعدى عنه إلى غيره لانه هو الذى يختص به السمع ولاجابة فيسمع ويجيب المضطر إذ دعاه، وهو الذى يعلم حوائج عباده ولا يغفل عنها ولا يغلط فيها بخلاف غيره تعالى فإنه إنما

[ 75 ]

يملك ما ملكه الله، ويقوى على ما قواه الله سبحانه. فقد تبين بهذا البيان: اولا: أن الحجة التى تشتمل عليها هذه الاية غير الحجة التى تشتمل عليها الاية السابقة وإن توقفتا معا على مقدمة مشتركة، وهى كون المسيح وامه ممكنين محتاجين، فالاية السابقة حجتها أن المسيح وامه كانا بشرين محتاجين عبدين مطيعين لله سبحانه، ومن كان حاله هذا الحال لم يصح أن يكون إلها معبودا، وحجة هذه الاية: أن المسيح ممكن محتاج مملوك بنفسه لا يملك ضرا ولا نفعا، ومن كان حاله هذا الحال لم يستقم الوهيته وعبادته من دون الله. وثانيا: أن الحجة مأخوذة مما يدركه الفهم البسيط والعقل الساذج من جهة غرض الانسان البسيط في عبادته فإنه إنما يتخذ ربا ويعبده ليدفع عنه الضر ويجلب إليه النفع، وهذا إنما يملكه الله تعالى دون غيره، فلا غرض يتعلق بعبادة غير الله فمن الواجب أن يرفض عبادته. وثالثا: أن قوله: " ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " إنما أخذت فيه لفظة " ما " دون لفظة " من " مع ان المسيح من اولى العقل لان الحجة بعينها هي التى تقام على الوثنيين وعبدة الاصنام التى لا شعور لها، ولا دخل في كون المسيح عليه السلام من اولى العقل في تمام الحجة فهى تامة في كل معبود مفروض دون الله سبحانه. على أن غيره تعالى وإن كان من اولى العقل والشعور لا يملكون شيئا من العقل والشعور من عند أنفسهم كسائر ما ينسب إليهم من شؤون وجودهم، قال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عبادأمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون " (الاعراف: 195). وكذلك تقديم الضر على النفع في قوله: " ضرا ولا نفعا " للجرى على وفق ما تدركه وتدعوا إليه الفطرة الساذجة كما مر، فإن الانسان بحسب الطبع يرى ما تلبس به من النعم الموجودة عنده ما دامت عنده مملوكة لنفسه لا تلتفت نفسه إلى إمكان فقدها ولا تتصور ألمه عند فقدها بخلاف المضار التى يجدها بالفعل، والنعم التى يفتقدها ويجد ألم فقدها، فإن الفطرة تنبهها إلى الالتجاء إلى رب يدفع عنها الضر والضير، ويجلب

[ 76 ]

إليها النعمة المسلوبة كما قال تعالى: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " (يونس: 12)، وقال تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منامن بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى " (حم السجدة: 50)، وقال تعالى: " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونآى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " (حم السجدة: 51). فتحصل أن مس الضر أبعث للانسان إلى الخضوع للرب وعبادته من وجدان النفع، ولذلك قدم الله سبحانه الضر على النفع في قوله: " ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " وكذا في سائر الموارد التى تماثله كقوله: " اتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " (الفرقان: 3). ورابعا: أن مجموع الاية: " أتعبدون من دون الله " إلى آخرها حجة على وجوب قصر العبادة في الله سبحانه من دون إشراك غيره معه وهى منحلة إلى حجتين ملخصهما: أن اتخاذ الاله وعبادة الرب إنما هو لغرض دفع الضر وجلب النفع فيجب أن يكون الاله المعبود مالكا لذلك ولا يجوز عبادة من لا يملك شيئا، والله سبحانه هو السميع المجيب للدعوة العليم بكنه الحاجة من غير جهل دون غيره، فوجب عبادته من غير إشراك غيره. قوله تعالى: " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " خطاب آخر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يدعو أهل الكتاب إلى عدم الغلو في دينهم، وأهل الكتاب وخاصة النصارى مبتلون بذلك، و " الغالى " المتجاوز عن الحد بالافراط، ويقابله " القالى " في طرف التفريط. ودين الله الذى يفسره كتبه المنزلة يأمر بالتوحيد ونفى الشريك وينهى عن اتخاذ الشركاء لله سبحانه، وقد ابتلى بذلك أهل الكتاب عامة اليهود والنصارى، وإن كان أمر النصارى في ذلك أشنع وأفظع قال تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " (التوبة: 31).

[ 77 ]

والقول بأن عزيرا ابن الله وإن كان غير ظاهر اليوم عند اليهود لكن الاية تشهد بأنهم كانوا يقولون ذلك في عصر النزول. والظاهر أن ذلك كان لقبا تشريفيا يلقبونه به قبال ما خدمهم وأحسن إليهم في إرجاعهم إلى اورشليم (بيت المقدس) بعد اسارة بابل، وجمع لهم التوراة ثانيا بعد ضياعه في قصة بخت نصر، وقد كانوا يعدون بنوة الله لقبا تشريفيا كما يتخذ النصارى اليوم الابوة كذلك ويسمون الباباوات والبطارقة والقسيسين بالاباء (الباب والبابا: الاب) وقد قال تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " (المائدة: 18). بل الاية الثانية أعنى قوله: " اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم " تدل على ذلك حيث اقتصر فيها على ذكر المسيح عليه السلام، ولم يذكر عزيرا فدل على دخوله في عموم قوله: " أحبارهم ورهبانهم " وأنهم إنما كانوا يسمونه ابن الله كما يسمون أحبارهم أبناء الله، وقد خصوه بالذكر وحده شكرا لاحسانه إليهم كما تقدمت الاشارة إليه. وبالجملة وضعهم بعض أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم موضع الربوبية وخضوعهم لهم بمالا يخضع بمثله إلا لله سبحانه غلو منهم في دينهم ينهاهم الله عن ذلك بلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وتقييد الغلو في الدين بغير الحق - ولا يكون الغلو إلا كذلك - إنما هو للتأكيد وتذكير لازم المعنى مع ملزومه لئلا يذهل عنه السامع وقد ذهل حين غلا أو كان كالذاهل. وإطلاق الاب على الله سبحانه بتحليل معناه وتجريده عن وسمة نواقص المادة الجسمانية أي من بيده الايجاد والتربية، وكذلك الابن بمعناه المجرد التحليلي وإن لم يمنعه العقل لكنه ممنوع شرعا لتوقيفية أسماء الله سبحانه لما في التوسع في إطلاق الاسماء المختلفة عليه تعالى من المفاسد، وكفى مفسدة في إطلاق الاب والابن ما لقيته الامتان: اليهود والنصارى وخاصة النصارى من أولياء الكنيسة خلال قرون متمادية ولن يزال الامر على ذلك. قوله تعالى: " ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن

[ 78 ]

سواء السبيل " ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء القوم الذين نهواعن اتباع أهوائهم هم المتبوعون المطاعون في آرائهم وأوامرهم فيكون ضلالهم لمكان التزامهم بآرائهم، إضلالهم كثيرا هو اتباع غيرهم لهم وضلالهم عن سواء السبيل هو المتحصل لهم من ضلالهم وإضلالهم، وهو ضلال على ضلال. وكذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية وعبدة الاصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم. ويؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " (التوبة: 30). فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالابوة والبنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، وقد تقدم في الكلام على قصص المسيح عليه السلام في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الاقوال والاراء موجود عند الوثنية البرهمنية والبوذية في الهند والصين، وكذلك مصر القديم وغيرهم، وإنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زى الدين وكان الاسم لدين التوحيد والمسمى للوثنية. قو له تعالى: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم " إلى آخر الايتين إخبار بأن الكافرين منهم ملعونون بلسان أنبيائهم، وفيه تعريض لهؤلاء الذين كفرهم الله في هذه الايات من اليهود ملعونين بدعوة أنبيائهم أنفسهم، وذلك بسبب عصيانهم لانبيائهم، وهم كانوا مستمرين على الاعتداء وقوله: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه " (الخ) بيان لقوله: " وكانوا يعتدون ". قوله تعالى: " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا " (الخ)، وهذا من قبيل الاستشهاد بالحس على كونهم معتدين فإنهم لو قدروا دينهم حق قدره لزموه ولم يعتدوه، ولازم ذلك أن يتولوا أهل التوحيد ويتبرئوا من الذين كفروا لان أعداء ما يقدسه قوم أعداء لذلك القوم، فإذا تحابوا وتوالوا دل ذلك على إعراض ذلك القوم وتركهم ما

[ 79 ]

كانوايقدسونه ويحترمونه، وصديق العدو عدو، ثم ذمهم الله تعالى بقوله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " وهو ولاية الكفار عن هوى النفس، وكان جزاؤه ووباله " أن سخط الله عليهم وفى العذاب هم خالدون "، ففى الاية وضع جزاء العمل وعاقبته موضع العمل كأن أنفسهم قدمت لهم جزاء العمل بتقديم نفس العمل. قوله تعالى: " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون " أي ولو كان أهل الكتاب هؤلاء يؤمنون بالله والنبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إليه، أو نبى أنفسهم كموسى مثلا وما انزل إليه كالتوراة مثلا ما اتخذوا اولئك الكفار أولياءلان الايمان يجب سائر الاسباب، ولكن كثيرا منهم فاسقون متمردون عن الايمان. وفى الاية وجه آخر احتملوه، وهو أن يرجع ضمائر قوله: " كانوا " و " يؤمنون " و " هم " في قوله: " ما اتخذوهم " راجعة إلى الذين كفروا، والمعنى: ولو كان الذين كفروا اولئك الكفار الذين يتولاهم أهل الكتاب يؤمنون بالله والنبى والقرآن ما اتخذتهم أهل الكتاب أولياء، وإنما تولوهم لمكان كفرهم، وهذا وجه لا بأس به غير أن الاضراب في قوله: " ولكن أكثرهم فاسقون " لا يلائمه. قوله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا - إلى قوله - نصارى " لما بين سبحانه في الايات السابقة الرذائل المشتركة بين أهل الكتاب عامة، وبعض ما يختص ببعضهم كقول اليهود: " يد الله مغلولة " وقول النصارى: " إن الله هو المسيح ابن مريم " ختم الايات بما يختص به كل من الطائفتين إذا قيس حالهم من المؤمنين ودينهم، وأضاف إلى حالهم حال المشركين ليتم الكلام في وقع الاسلام من قلوب الامم غير المسلمة من حيث قربهم وبعدهم من قبوله. ويتم الكلام في أن النصارى أقرب تلك الامم مودة للمسلمين واسمع لدعوتهم الحقة. وإنما عدهم الله سبحانه أقرب مودة للمسلمين لما وقع من إيمان طائفة منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه قوله في الاية التالية: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " (الخ)، لكن لو كان إيمان طائفة تصحح هذه النسبة إلى جميعهم كان من الواجب أن تعد اليهود والمشركون كمثل النصارى وينسب اليهما نظير ما نسب إليهم لمكان إسلام طائفة من

[ 80 ]

اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإسلام عدة من مشركي العرب وهم عامة المسلمين اليوم فتخصيص النصارى بمثل قوله: " وإذا سمعوا ما أنزل " (الخ)، دون اليهود والمشركين يدل على حسن إقبالهم على الدعوة الاسلامية وإجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم على خيار بين أن يقيموا على دينهم ويؤدواالجزية، وبين أن يقبلوا الاسلام، أو يحاربوا. وهذا بخلاف المشركين فإنهم لم يكن يقبل منهم إلا قبول الدعوة فكثرة المؤمنين منهم لا يدل على حسن الاجابة، على ما كابد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جفوتهم ولقاه المسلمون من أيديهم بقسوتهم ونخوتهم. وكذلك اليهود وإن كانوا كالنصارى في إمكان إقامتهم على دينهم وتأدية الجزية إلى المسلمين لكنهم تمادوا في نخوتهم، وتصلبوا في عصبيتهم، وأخذوا بالمكر والمكيدة، ونقضواعهودهم، وتربصوا الدوائر على المسلمين، ومسوهم بأمر المس وآلمه. وهذا الذى جرى من أمر النصارى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة الاسلامية، وحسن إجابتهم، وكذا من أمر اليهود والمشركين في التمادي على الاستكبار والعصبية جرى بعينه بعده صلى الله عليه وآله وسلم على حذو ما جرى في عهده فما أكثر من لبى الدعوة الاسلامية من فرق النصارى خلال القرون الماضية، وما أقل ذلك من اليهود والوثنيين ! فاحتفاظ هذه الخصيصة في هؤلاء وهؤلاء يصدق الكتاب العزيز في ما أفاده. ومن المعلوم أن قوله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا " من قبيل بيان الضابط العام في صورة خطاب خاص نظير ما مر في الايات السابقة: " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا " و " ترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم ". قوله تعالى: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " القسيس معرب " كشيش " والرهبان جمع الراهب وقد يكون مفردا، قال الراغب: الرهبة والرهب مخافة مع تحرز - إلى أن قال - والترهب التعبد، والرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، قال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها " والرهبان يكون واحدا وجمعا فمن جعله واحدا جمعه على رهابين، انتهى. علل تعالى ما ذكره من كون النصارى أقرب مودة وآنس قلوبا للذين آمنوا بخصال ثلاث يفقدها غيرهم من اليهود والمشركين، وهى أن فيهم علماء وان فيهم رهبانا

[ 81 ]

وزهادا، وأنهم لا يستكبرون وذلك مفتاح تهيؤهم للسعادة. وذلك أن سعادة حياة الدين ان تقوم بصالح العمل عن علم به، وان شئت فقل: ان يذعن بالحق فيطبق عمله عليه، فله حاجة إلى العلم ليدرك به حق الدين وهو دين الحق، ومجرد ادراك الحق لا يكفى للتهيؤ للعمل على طبقه حتى ينتزع الانسان من نفسه الهيئة المانعة عنه، وهو الاستكبار عن الحق بعصبية وما يشابهها، وإذا تلبس الانسان بالعلم النافع و النصفة في جنب الحق برفع الاستكبار تهيأ للخضوع للحق بالعمل به لكن بشرط عدم منافاة الجو لذلك فإن لموافقة الجو للعمل تأثيرا عظيمافى باب الاعمال فإن الاعمال التى يعتورها عامة المجتمع وينمو عليها أفراده، وتستقر عليهم عادتهم خلفا عن سلف لا يبقى للنفس فراغ أن تتفكر في امرها أو تتدبر وتدبر في التخلص عنها إذا كانت ضارة مفسدة للسعادة، وكذلك الحال في الاعمال الصالحة إذا استقر التلبس بها في مجتمع يصعب على النفس تركها، ولذا قيل: ان العادة طبيعة ثانية، ولذا كان ايضا اول فعل مخالف حرجا على النفس في الغاية وهو عند النفس دليل على الامكان، ثم لا يزال كلما تحقق فعل زاد في سهولة التحقق ونقص بقدره من صعوبته. فإذا تحقق الانسان أن عملا كذا حق صالح ونزع عن نفسه أغراض العناد واللجاج بإماتة الاستكبار والاستعلاء على الحق كان من العون كل العون على إتيانه أن يرى إنسانا يرتكبه فتتلقى نفسه إمكان العمل. ومن هنا يظهر أن المجتمع إنما يتهيأ لقبول الحق إذا اشتمل على علماء يعلمونه ويعلمونه، وعلى رجال يقومون بالعمل به حتى يذعن العامة بإمكان العمل ويشاهدوا حسنه، وعلى اعتياد عامتهم على الخضوع للحق وعدم الاستكبار عنه إذا انكشف لهم. ولهذا علل الله سبحانه قرب النصارى من قبول الدعوة الحقة الدينية بأن فيهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، ففيهم علماء لا يزالون يذكرونهم مقام الحق ومعارف الدين قولا، وفيهم زهاد يذكرونهم عظمة ربهم وأهمية سعادتهم الاخروية والدنيوية عملا وفيهم عدم الاستكبار عن قبول الحق. وأما اليهود فإنهم وإن كان فيهم أحبار علماء لكنهم مستكبرون لا تدعهم رذيلة

[ 82 ]

العناد والاستعلاء أن يتهيأوا لقبول الحق. وأما الذين أشركوا فإنهم يفقدون العلماء والزهاد، وفيهم رذيلة الاستكبار. قوله تعالى: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " (إلخ)، فاضت العين بالدمع سال دمعها بكثرة، و " من " في قوله: " من الدمع " للابتداء، وفى قوله: " مما " للنشوء، وفى قوله: " من الحق " بيانية. قوله تعالى: " وما لنا لا نؤمن بالله " (إلخ)، لفظة " يدخلنا " كأنها مضمنة معنى الجعل، ولذلك عدى بمع، والمعنى: يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مدخلا لنا فيهم. وفى هذه الافعال والاقوال التى حكاها الله تعالى عنهم تصديق ما ذكره عنهم أنهم أقرب مودة للذين آمنوا، وتحقيق أن فيهم العلم النافع والعمل الصالح والخضوع للحق حيث كان فيهم قسيسون ورهبان وهم لا يستكبرون. قوله تعالى: " فأثابهم الله " إلى آخر الايتين، " الاثابة " المجازاة، والاية الاولى ذكر جزائهم، والاية الثانية فيها ذكر جزاء من خالفهم على طريق المقابلة استيفاء لاقسام.

(بحث روائي)

 في معاني الاخباربإسناده عن الرضا، عن آبائه، عن على عليه السلام في قوله تعالى: " كانا يأكلان الطعام " معناه أنهما كانا يتغوطان. أقول:: ورواه العياشي في تفسيره مرفوعا. وفى الكافي بإسناده عن أبى عبيدة الحذاء، عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم " قال: الخنازير على لسان داود، والقردة على لسان عيسى بن مريم. أقول: ورواه القمى والعياشي عنه عليه السلام، وروى بطرق أهل السنة عن مجاهد وقتادة وغيرهما: لعن القردة على لسان داود، والخنازير على لسان عيسى بن مريم، ويوافقه بعض روايات الشيعة كما يأتي.

[ 83 ]

وفى المجمع عن ابى جعفر عليه السلام: أما داود فإنه لعن أهل إيلة لما اعتدوا في سبتهم، وكان اعتداؤ هم في زمانه فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء، ومثل المنطقة على الخصرين، فمسخهم الله قردة، وأما عيسى فإنه لعن الذين نزلت عليهم المائدة، ثم كفروا بعد ذلك، قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: يتولون الملوك الجبارين، ويزينون لهم هواهم ليصيبوا من دنياهم. اقول: والقرآن يؤيد كون أصحاب السبت ممسوخين إلى القردة قال تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة: 56) وقال تعالى: " واسألهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم - إلى أن قال - وإذ قالت امة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون - إلى أن قال - فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (الاعراف: 166). وفى الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بنى إسرائيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيرا ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالامس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبى من الانبياء، ثم (قال، ظ) رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم. وفيه: أخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوا ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة إن بنى يأجوج قد جاؤا، وإن رحى الاسلام سيدور فحيثما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف بنا إن أدركنا ذلك ؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، ورفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية إن أول ما نقص في بنى إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سنة

[ 84 ]

التعزير فكان أحدهم إذا لقى صاحبه الذى كان يعيب عليه آكله وشاربه وكأنه لم يعب عليه شيئا فلعنهم الله على لسان داود، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم. والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض. وفيه أيضا: أخرج ابن راهويه والبخاري في الوحدانيات، وابن السكن وابن منده والباوردي في معرفة الصحابة، والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن أبزى، عن أبيه: قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم ؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون ؟ والذى نفسي بيده ليعلمن جيرانه (جيرانهم، ظ) أو ليتفقهن أو ليتفطنن أو لاعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل ودخل بيته فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعنى بهذا الكلام ؟ قالوا: ما نعلم يعنى بهذا الكلام إلا الاشعريين فقهاء علماء، ولهم جيران جفاة جهلة. فاجتمع جماعة من الاشعريين فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر فما بالنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهنهم أو لاعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله فأمهلنا سنة ففى سنة ما نعلمهم ويتعلمون فأمهلهم سنة ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ". وفي تفسير العياشي عن محمد بن الهيثم التميمي عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " قال: أما إنهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجالسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم

[ 85 ]

وأنسوا بهم. وفيه أيضا: عن مروان، عن بعض أصحابه، عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ذكر النصارى وعداوتهم فقال: قول الله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " قال: اولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد ينتظرون مجئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: ظاهر الاية العموم دون الخصوص، ولعل المراد أن المدح إنما هو لهم ما لم يغيروا كما أن الذى مدح الله به المسلمين كذلك. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه إسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم من قومه الخير فالخير في الفقه والسن. وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين رجلا فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه فقرأ عليهم سورة " يس " فبكوا حين سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق. فأنزل الله فيهم: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا، الاية " ونزلت هذه الاية فيهم أيضا: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ". وفيه: أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر ابن أبى طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبى، وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاؤني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا

[ 86 ]

إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لاولياء الله فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك أنا صدقناك، وأنهم لم يحييوك بتحيتك التى تحيا بها ؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي ؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وامه ؟ قالوا: يقول: عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول، قال: فأخذ عودا من الارض فقال: ما زاد عيسى وامه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال: هل تقرؤون شيئا مما انزل عليكم ؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا، فقرؤوا - وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى - فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق قال الله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ". اقول: وروى القمى في تفسيره القصة مفصلة في خبر طويل، وفي آخره: ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرأوا عليه ما قرأ عليهم فبكى النجاشي وبكى القسيسون، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه، وخافهم على نفسه فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما عبر البحر توفى، الحديث.

(كلام في معنى التوحيد في القرآن)

 لا يرتاب الباحث المتعمق في المعارف الكلية أن مسألة التوحيد من أبعدها غورا، وأصعبها تصور وإدراكا، وأعضلها حلا لارتفاع كعبها عن المسائل العامة العامية التى تتناولها الافهام، والقضايا المتداولة التى تألفها النفوس، وتعرفها القلوب. وما هذا شأنه تختلف العقول في إدراكه والتصديق به للتنوع الفكري الذى فطر عليه الانسان من اختلاف أفراده من جهة البنية الجسمية واداء ذلك إلى اختلاف أعضاء الادراك في أعمالها، ثم تأثير ذلك الفهم والتعقل من حيث الحدة والبلادة،

[ 87 ]

والجودة والرداءة، والاستقامة والانحراف. فهذا كله مما لا شك فيه، وقد قرر القرآن هذا الاختلاف في موارد من آياته الكريمة كقوله تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9)، وقوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30)، وقوله تعالى: " فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " (النساء: 87)، وقوله تعالى في ذيل الاية ال‍ 75 من المائدة (وهى من جملة الايات التى نحن فيها): " انظر كيف نبين لهم الايات ثم انظر أنى يؤفكون ". ومن أظهر مصاديق هذا الاختلاف الفهمى اختلاف أفهام الناس في تلقى معنى توحده تعالى لما في أفهامهم من الاختلاف العظيم والنوسان الوسيع في تقرير مسألة وجوده تعالى على ما بينهم من الاتفاق على ما تعطيه الفطرة الانسانية بإلهامها الخفى وإشارتها الدقيقة. فقد بلغ فهم آحاد من الانسان في ذلك أن جعل الاوثان المتخذة، والاصنام المصنوعة من الخشب والحجارة حتى من نحو الاقط والطينة المعمولة من أبوال الغنم شركاء لله، وقرناء له، يعبد كما تعبد هؤلاء، ويسأل كما تسأل هؤلاء، ويخضع له كمايخضع لها، ولم يلبث هذا الانسان دون أن غلب هذه الاصنام عليه تعالى بزعمه، وأقبل عليها وتركه، وأمرها على حوائجه وعزله. فهذا الانسان قصارى ما يراه من الوجود له تعالى هو مثل ما يراه لالهته التى خلقها بيده، أو خلقها إنسان مثله بيده، ولذلك كانوا يثبتون له تعالى من صفة الوحدة مثل ما يصفون به كل واحد من أصنامهم، وهى الوحدة العددية التى تتألف منها الاعداد، قال تعالى: " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " (ص: 6). فهؤلاء كانوا يتلقون الدعوة القرآنية إلى التوحيد دعوة إلى القول بالوحدة العددية التى تقابل الكثرة العددية كقوله تعالى: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو " (البقرة: 163) وقوله تعالى: " هو الحى لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين "

[ 88 ]

- المؤمن: 65) وغير ذلك من الايات الداعية إلى رفض الالهة الكثيرة، وتوجيه الوجه لله الواحد، وقوله تعالى: " وإلهنا وإلهكم واحد " (العنكبوت: 46) وغيره من الايات الداعية إلى رفض التفرق في العبادة للاله، حيث كانت كل امة أو طائفة أو قبيلة تتخذ إلها تختص به، ولا تخضع لاله الاخرين. والقرآن ينفى في عالى تعليمه الوحدة العددية عن الاله جل ذكره، فإن هذه الوحدة لا تتم إلا بتميز هذا الواحد من ذلك الواحد بالمحدودية التى تقهره، والمقدرية التى تغلبه، مثال ذلك ماء الحوض إذا فرقناه في آنية كثيرة كان ماء كل إناء ماء واحدا غير الماء الواحد الذى في الاناء الاخر، وإنما صار ماء واحدا يتميز عما في الاخر لكون ما في الاخر مسلوبا عنه غير مجتمع معه، وكذلك هذا الانسان إنما صار إنسانا واحدا لانه مسلوب عنه ما للانسان الاخر، ولو لا ذلك لم يأت للانسانية الصادقة على هذا وذاك أن تكون واحدة بالعدد ولا كثيرة بالعدد. فمحمودية الوجود هي التى تقهر الواحد العددى على أن يكون واحدا ثم بانسلاب هذه الوحدة من بعض الجهات تتألف كثرة عددية كما عند عروض صفة الاجتماع بوجه. وإذ كان الله سبحانه قاهرا غير مقهور، وغالبا لا يغلبه شئ البتة كما يعطيه التعليم القرآني لم تتصور في حقه وحدة عددية ولا كثرة عددية، قال تعالى: " وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، وقال: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " (يوسف: 40)، وقال: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " (ص: 65)، وقال: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " (الزمر: 4). والايات بسياقها - كما ترى - تنفى كل وحدة مضافة إلى كثرة مقابلة لها سواء كانت وحدة عددية كالفرد الواحد من النوع الذى لو فرض بإزائه فرد آخر كانا اثنين فإن هذا الفرد مقهور بالحد الذى يحده به الفرد الاخر المسلوب عنه المفروض قباله، أو كانت وحدة نوعية أو جنسية أو أي وحدة كلية مضافة إلى كثرة من سنخها كالانسان الذى هو نوع واحد مضاف إلى الانواع الكثيرة الحاصلة منه ومن الفرس والبقر والغنم وغيرها فإنه مقهور بالحد الذى يحده به ما يناظره من الانواع الاخر، وإذ كان

[ 89 ]

تعالى لا يقهره شئ في شئ البتة من ذاته ولا صفته ولا فعله وهو القاهر فوق كل شئ فليس بمحدود في شئ يرجع إليه، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحق لا يعرضه بطلان، وهو الحى لا يخالطه موت، والعليم لا يدب إليه جهل، والقادر لا يغلبه عجز، والمالك والملك من غير أن يملك منه شئ، والعزيز الذى لا ذل له، وهكذا. فله تعالى من كل كمال محضه، وإن شئت زيادة تفهم وتفقه لهذه الحقيقة القرآنية فافرض أمرا متناهيا وآخر غير متناه تجد غير المتناهى محيطا بالمتناهى بحيث لا يدفعه المتناهى عن كماله المفروض أي دفع فرضته، بل غير المتناهى مسيطر عليه بحيث لا يفقده المتناهى في شئ من أركان كماله، وغير المتناهى هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: " أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد، ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط " (حم السجدة: 54). وهذا هو الذى يدل عليه عامة الايات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " (طه: 8)، وقوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (النور: 25)، وقوله: " هو الحى لا إله إلا هو " (المؤمن: 65)، وقوله: " وهو العليم القدير " (الروم: 54)، وقوله: " أن القوة لله " جميعا " (البقرة: 165)، وقوله: " له الملك وله الحمد " (التغابن: 1)، وقوله: " إن العزة لله جميعا " (يونس: 65)، وقوله: " الحق من ربك " (البقرة: 147)، وقوله: " أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى " (فاطر: 15)، إلى غير ذلك من الايات. فالايات - كما ترى - تنادى بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالاصالة، وليس لغيره شئ إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه ويملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا. فكلما فرضنا شيئا من الاشياء ذا شئ من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له وشريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا، وهو الحق الذى يملك كل شئ، وغيره الباطل الذى لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى: " لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " (الفرقان: 3). وهذا المعنى هو الذى ينفى عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا

[ 90 ]

أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الاحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق، وصح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه وإن فرض امتناعه في الواقع، وليس كذلك. فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد وهذا معنى قوله تعالى: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد " (سورة التوحيد) فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: " ما جاءني أحد " وينفى به أن يكون قد جاء الواحد وكذا الاثنان والاكثر وقال تعالى: " وأن أحد من المشركين استجارك " (التوبة: 6)، فشمل الواحد والاثنين والجماعة ولم يخرج عن حكمه عدد، وقال تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " فشمل الواحد وما وراءه، ولم يشذ منه شاذ. فاستعمال لفظ أحد في قوله: " هو الله أحد " في الاثبات من غير نفى ولا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج. ولذلك وصفه تعالى اولا بأنه صمد، وهو المصمت الذى لا جوف له ولا مكان خاليا فيه، وثانيا بأنه لم يلد، وثالثا بأنه لم يولد، ورابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد، وكل هذه الاوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية والانعزال. وهذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع والاتصاف قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " (الصافات: 160)، وقال تعالى: " ولا يحيطون به علما " (طه: 110) فإن المعاني الكمالية التى نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، وجلت ساحته سبحانه عن الحد والقيد، وهو الذى يرومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلمته المشهورة: " لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". وهذا المعنى من الوحدة هو الذى يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذى يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفى الكثرة من جهة اخرى فهم يقولون: إن الاقانيم (الاب والابن والروح) (الذات والعلم والحياة) ثلاثة وهى واحدة كالانسان الحى العالم فهو شئ واحد لانه إنسان حى عالم وهو ثلاثة لانه إنسان وحياة وعلم.

[ 91 ]

لكن التعليم القرآني ينفى ذلك لانه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة وتمايز لا في الذات ولا في الصفات، وكل ما فرض من شئ في هذا الباب كان عين الاخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته، وكل صفة مفروضة له عين الاخرى، تعالى الله عما يشركون، وسبحانه عما يصفون. ولذلك ترى أن الايات التى تنعته تعالى بالقهارية تبدء أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود، وينال الواقعية والثبوت، قال تعالى: " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم " (يوسف: 40)، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط، وقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " (المؤمن: 16)، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلى مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه وما يملكه ملكا لله سبحانه، وقال تعالى: " وما من إله إلا الله الواحد القهار " (ص: 65)، وقال تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " (الزمر: 4)، فرتب القهارية في جميع الايات على صفة الوحدة.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334230

  • التاريخ : 28/03/2024 - 12:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net