(بيان)
الايات الثلاث الاول في الشهادة، والاخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى آخر الايتين، محصل مضمون الايتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصى فعليه أن يشهد حين الوصية شاهدين عدلين من المسلمين وإن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه وترفع بذلك الخصومة، فإن اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الامر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الاولين فيشهدان على خلافهما ويقسمان بالله على ذلك. فهذا ما تفيده الايتان بظاهرهما فقوله: " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمؤمنين والحكم مختص " بهم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " أي شهادة بينكم شهادة ذوى عدل منكم، ففى جانب الخبر مضاف مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، والمراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل ورجلان عدل.
[ 196 ]
وحضور الموت كناية عن حضور داعى الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الامور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، وهو عادة المرض الشديد الذى يشرف الانسان به على الموت. وقوله: " حين الوصية " ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، والمراد بالعدل - وهو مصدر - الاستقامة في الامر، وقرينة المقام تعطى أن المراد به الاستقامة في أمر الدين، ويتعين بذلك أن المراد بقوله: " منكم " وقوله: " من غيركم " المسلمون وغير المسلمين، دون القرابة والعشيرة فإن الله سبحانه قابل بين قوله: " اثنان " وقوله: " آخران "، ثم وصف الاول بقوله " ذوا عدل " وقوله: " منكم " ولم يصف الثاني إلا بقوله: " من غيركم " دون أن يصفه بالعدالة، والاتصاف بالاستقامة في الدين وعدمه إنما يختلف في المسلم وغير المسلم، ولا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له وإلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا. وعلى هذا فقوله: " أو آخران من غيركم " ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، وإن لم يكن إلا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام. وهذه القرينة بعينها هي التى توجب أن يكون قوله: " إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت " قيدا متعلقا بقوله: " أو آخران من غيركم " فإن المسلم لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر والضرب في الارض فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع والاضطرار ومسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها. وقرينة المقام أعنى المناسبة بين الحكم والموضوع بالذوق المتخذ من كلامه تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لان كلامه تعالى لا يشرف المشركين بكرامة. وقوله تعالى: " تحبسونهما من بعد الصلاة " أي توقفونهما، والحبس الايقاف " فيقسمان بالله " أي الشاهدان " إن ارتبتم " أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر الوصية أو المال الذى تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، والمقسم عليه هو قوله:
[ 197 ]
" لا نشترى به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى " أي لا نشترى بالشهادة للوصي فيما يدعيه ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى، واشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوى، وهو الثمن القليل. وذكر بعضهم أن الضمير في قوله: " به " إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا، قليلا، ولازمه اجراء اليمين مرتين والاية بمعزل عن الدلالة على ذلك. وقوله: " ولا نكتم شهادة الله " أي بالشهادة على خلاف الواقع " إنا إذا لمن الاثمين " الحاملين للاثم، والجملة معطوفة على قوله: " لا نشترى به ثمنا قليلا " كعطف التفسير. وإضافة الشهادة إلى الله في قوله: " شهادة الله " إما لان الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما والله أحق بالملك فهو شهادته تعالى حقا وبالاصالة و شهادتهما تبعا، وقد قال تعالى: " وكفى بالله شهيدا " (النساء: 79) وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255). وإما لان الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، وهذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 3) وقال: ! ولا تكتموا الشهادة " (البقرة: 283). وقوله: " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " العثور على الشئ الحصول عليه ووجد انه، وهذه الاية بيان وتفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين وكذبهما في شهادتهما. والمراد باستحقاق الاثم الاجرام والجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب، واستحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه وجنايته عليه ولذا عدى بعلى في قوله تعالى ذيلا: " استحق عليهم الاوليان " أي أجرما وجنيا عليهم بالكذب والخيانة، وأصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق ويثبت فيه الاثم أو العقوبة فاستعماله الكنائى من قبيل إطلاق الطلب وإرادة المطلوب ووضع الطريق موضع الغاية، وإنما
[ 198 ]
ذكر الاثم في قوله: " إستحقا إثما " بالبناء على ما تقدم في قوله: " إنا إذ المن الاثمين " وقوله تعالى: " فآخران يقومان مقامهما " أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا بالكذب والخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب والخيانة. وقوله: " من الذين استحق عليهم الاوليان " في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم وجنى عليهم الشاهدان الاولان اللذين هما الاوليان الاقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره، والمراد بالذين استحق عليهم الاوليان أولياء الميت، وحاصل المعنى أنه إن عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة والكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الاولان الاوليان بالموت قبل ظهور استحقاقهما الاثم. هذا على قراءة " استحق " بالنباء للفاعل وهو قراءة عاصم على رواية حفص، وأما على قراءة الجمهور " استحق " بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الاوليان مبتدءا خبره قوله: " فآخران يقومان " (الخ)، قدم عليه لتعلق العناية به، والمعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالاوليان بالميت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم. وفي قراءة عاصم من طريق أبى بكر وحمزة وخلف ويعقوب " الاولين " جمع الاول مقابل الاخر، وهو بظاهره بمعنى الاولياء والمقدمين، وصف أو بدل من قوله: " الذين ". وقد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الاية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الاية ارتقت إلى مئين من الصور، وقد ذكر الزجاج فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب. والذى أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم، وأضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لان تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا إبهاما، ولا الباحث إلا حيرة.
_____________________________
(1) وعلى من يريد الاطلاع عليها أن يراجع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للالوسي ومجمع البيان وتفسير الرازي وسائر المطولات. (*)
[ 199 ]
وقد فرع على قوله: " فآخران يقومان، الخ " تفريع الغاية على ذى الغاية قوله: " فيقسمان بالله " أي الشاهدان الاخران من أولياء الميت " لشهادتنا " بما يتضمن كذبهما وخيانتهما " أحق من شهادتهما " أي من شهادة الشاهدين الاولين بما يدعيان من أمر الوصية " وما اعتدينا " عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه " إنا إذا لمن الظالمين ". قوله تعالى: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " الاية في مقام بيان حكمة التشريع وهى أن هذا الحكم على الترتيب الذى قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، وأقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما ويخافا من أن يتغير الامر عليهما برد شهادتهما بعد قبولها. فإن الانسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به والقبض على كل ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه أو جورا، عدلا أو ظلما وتعديا على غيره بإبطال حقه والغلبة عليه، وإنما ينصرف الانسان عن هذا التعدي والتجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، وإما لرادع يردعه من نفسه، وأقوى رادع نفساني هو الاعتقاد بالله الذى إليه مرجع العباد وحساب الاعمال والقضاء الفصل والجزاء المستوفى. وإذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بإيمانهما بالله تعالى وهو اليمين، وأن يرد اليمين إلى الورثة الاولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما وخيانتهما عند الورثة، فهذان أعنى يمينهما أولاثم رد اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما وخوفهما فضيحة رد اليمين، والرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف. ثم عقب تعالى القول بالموعظة والانذار فقال: " واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين " والمعنى واضح. قوله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " الاية لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في ذيل الاية السابقة: " واتقوا الله واسمعوا، الخ " وإن كان مطلقا لكنه بحسب الانطباق على المورد نهى عن
[ 200 ]
الانحراف والجور في الشهادة والاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجرى بينه سبحانه وبين رسله يوم القيامة وهم شهداء على اممهم وأفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذى أجابهم به اممهم وهم أعلم الناس بأعمال اممهم والشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". فإذا كان الامر على هذه الوتيرة، وكان الله سبحانه هو العالم بكل شئ حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: ولا ينحرفوا عن الحق الذى رزقهم الله العلم به، ولا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الاثمين والظالمين والفاسقين. فقوله تعالى: " يوم يجمع، الخ " ظرف متعلق بقوله في الاية السابقة: " واتقوا الله، الخ " وذكر جمع الرسل دون أن يقال: " يوم يقول الله المرسل " لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ". وأما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفى ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: " إنك أنت علام الغيوب " يدل على أنه لتعليل النفى، ومن المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضى رفع كل علم عن غيره وخاصة إذا كان علما بالشهادة، والمسؤول عنه أعنى كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب. فقولهم: " لا علم لنا " ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذى لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الامر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الامور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالاحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالى من أن يحيط به شئ، وهذا أمر وراء الطاقة الانسانية. فلم يرزق الانسان من العلم في هذا الكون الذى يبهته التفكير في سعة ساحته، وتهوله النظرة في عظمة أجرامه ومجراته، ويطير لبه الغور في متون ذراته، ويأخذه الدوار إذا أراد الجرى بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في
[ 201 ]
مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الارض. فما يتعلق به علم الانسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف، وهكذا كل ذلك في غيب من إدراك الانسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشئ إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، ولا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذى عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة: 216) فدل على أن من طبع الانسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " (الحجر: 21) وهو قوله عليه السلام: حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه فقال: لانه بناهم بنية على الجهل، وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255) فدل على أن العلم كله لله، وإنما يحيط منه الانسان بما شاء الله، وقال تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " (الاسراء: 85) فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الانسان إلا قليلا منه. فإذن حقيقة الامر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، وإذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الاشياء بحقائقها على ما تفيده الايات الواصفة لامره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق " (النبأ: 39) كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: " ما ذا أجبتم " أن يجيبوا بنفى العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، ويثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". وهذا الجواب منهم عليهم السلام نحو خضوع لحضرة العظمة والكبرياء واعتراف بحاجتهم الذاتية وبطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لادب الحضور وإظهارا لحقيقة الامر، وليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة: أما أولا فلان الله سبحانه جعلهم شهداء على اممهم كما ذكره في قوله: " فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41) وقال: " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " (الزمر: 69) ولا معنى لجعلهم شهداء
[ 202 ]
إلا ليشهدوا على اممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: " لا علم لنا " جرى على الادب العبودي قبال الملك الحق الذى له الامر والملك يومئذ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بمالهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال اممهم، وهذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، الاية " (البقرة: 143) في الجزء الاول من هذا الكتاب: أن هذا العلم والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين. وأما ثانيا فلان الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربى عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: " وقال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " (الروم: 56) وقال تعالى: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " (الاعراف: 46) وقال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (الزخرف: 87) وعيسى بن مريم عليه السلام ممن تعمه الاية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون، وقال تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " (الفرقان: 31) والمراد بالرسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذى تحكيه الاية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الاية من السؤال أعنى قوله تعالى: " فيقول ما ذا أجبتم " فظهر أن قول الرسل عليهم السلام: " لا علم لنا " ليس جوابا نهائيا كما تقدم. وأما ثالثا فلان القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " (الاعراف: 6) ثم ذكر عن الامم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، وقال أيضا فيهم: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22)، وقال أيضا: ولو ترى إذا لمجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " (السجدة: 12) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة، وإذا كانت الامم - وخاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام عليهم السلام فالمصير إلى ما قدمناه.
[ 203 ]
(كلام في معنى الشهادة)
الاجتماع المدنى الدائر بيننا والتفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الارضية بين قوانا الفعالة يسوقنا - ولا محيص - إلى أنواع الاختلافات والخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الاخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه ونازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الانسان لوجوب اعتبار القضاء والحكم ليرتفع به هذه الخصومات. وأول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا والوقائع على النحو الذى وقعت وتضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير والتبدل ليقع عليه قضاء القاضى، هذا ممالا شك فيه. ويتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدى ما تحمله عند اللزوم والاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات اخر معمولة لذلك اهتدى الانسان إلى التوصل بها. وتفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ والضبط أولا بأن غير الشهادة من الاسباب امور غير عامة فإن أعمها وأعرفها الكتابة وهى لم تستوعب الانسانية حتى اليوم فكيف بغيرها وهذا بخلاف الشهادة والتحمل. وثانيا بأن الشهادة وهو البيان اللسانى من نفس الشاهد عن تحمله وحفظه أبعد من عروض الخلل وأمنع جانبا من طرو أنواع الافات بالقياس إلى الكتابة وغيره من أسباب الحفظ والضبط. ولذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها امة من الامم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية والسلائق القومية والملية والتقدم والتأخر في الحضارة والتوحش، فهى لا تخلو عن اعتبار ما عندهم. والاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الامة وجزء من الجماعة، ولذلك لا يعبأ بشهادة الصبى غير المميز ولا بشهادة المجنون الذى لا يدرى ما يقول مثلا، ولذلك
[ 204 ]
أيضا لا يعبأ بعض الامم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع وعلى ذلك كانت تجرى اغلب السنن الاجتماعية في الامم القديمة كالروم واليونان وغيرهم. والاسلام وهو دين الفطرة يعتبر الشهادة ويعطيها وحدها من بين سائر الاسباب الحجية، وأما سائر الاسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 2) وقال تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (البقرة: 283) وقال تعالى: " والذين هم بشهاداتهم قائمون " (المعارج: 33). وقد اعتبر الاسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الاخر قال تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " (البقرة: 282)، فأفاد أن ما بينته الاية واعتبرته من أحكام الشهادة - ومنها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع الريب. ثم لما كان الاسلام في تشخيصه فرد المجتمع وبعبارة اخرى في اعتباره الواحد الذى يتكون منه المجتمع الانساني يعد المرأة جزء مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذى كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف والمرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق والوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الاية السابقة: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى "، وقد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأه في الاسلام ما ينفع في المقام، وللشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.
(كلام في العدالة)
كثيرا ما يعثر الباحث في الاحكام الاسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة وربما وجد للفظ تعريفات مختلفة وتفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين ومسالكهم.
[ 205 ]
لكن الذى يلائم مقامنا هذا من البحث - وهو بحث قرآني - في تحليل معناها وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التى عليها بنى الاسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول: إن للعدالة وهى الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي والدانى، والجانبين: الافراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الانسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهرى الذى يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذى يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد. والفرد الدنئ الخسيس الذى لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، ولا يتحقق فيه القدر المتوسط من أمانى المجتمع ممن لا داعى له يدعوه إلى رعاية الاصول العامة الاجتماعية التى بها حياة المجتمع، ولا رادع له يردعه عن اقتحام الاثام الاجتماعية التى تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن ونصيحته الصالحة. وإنما الحكم لافراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق فيهم مقاصده ومآربه، وتظهر بهم آثاره الحسنة التى لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه إلا للحصول عليها والتمتع بها. هذا كله مما لا يرتاب فيه الانسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب. فمن الضرورى عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الامور والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والاداب الجارية من غير مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في الجملة. وهذا الحكم الضرورى أو القريب من الضرورى عند الفطرة هو الذى يعتبره الاسلام في الشاهد، قال تعالى: " واشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر " (الطلاق: 2)، وقال تعالى: " شهادة
[ 206 ]
بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " (المائدة: 106) والخطاب في الايتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوى عدل منهم مفاده كونهما ذوى حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الدينى، وأما بالقياس إلى المجتمع القومي والبلدى فالاسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية، وظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الدينى هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " (النساء: 31)، وقد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الاية في الجزء الرابع من هذا الكتاب. وعلى هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعه شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (النور: 5) ونظير الاية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " (البقرة: 282) فإن الرضا المأخوذ في الاية هو الرضا من المجتمع الدينى، ومن المعلوم أن المجتمع الدينى بما هو دينى لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين. وهذا هو الذى نسميه في فن الفقه بملكة العدالة وهى غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الاخلاق فان العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي، والتى في فن الاخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة. والذى استفدناه من معنى العدالة هو الذى يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما ورد من طرقهم: ففى الفقيه بإسناده عن ابن أبى يعفور قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال: أن تعرفوه (1) بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التى أوعد
_____________________________
(1) أن يعرفوه 0 خ (*)
[ 207 ]
الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته بين الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لاوقاتها في مصلاه، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر مصلاه ولا يتعاهد جماعة المسلمين. وإنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكى يعرف من يصلى ممن لا يصلى ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، ولو لا ذلك لم يكن لاحد أن يشهد على آخر بصلاح لان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم بأن يحرق قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان منهم من يصلى في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عزوجل ومن رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار ؟ وقد كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين إلا من علة. أقول: ورواه في التهذيب مع زيادة تركناها، والستر والعفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، والرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين وتبين أن الاثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله والكف عن الشهوات الممنوعة، ومعرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه عليه السلام تفصيلا. وفيه عن عبد الله بن المغيرة عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
[ 208 ]
وفيه: روى سماعة عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا. وفي الكافي بإسناده عن على بن مهزيار عن أبى على بن راشد قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: إن مواليك قد اختلفوا فاصلي معهم جميعا ؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه. اقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، وفيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام.
(كلام في اليمين)
حقيقة معنى قولك: " لعمري إن كذا وكذا، وحياتي إن الامر على ما أخبرته " أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر وتقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك وحياتك التى لها مكانة واحترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود والعدم، ولو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك واحترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الانسانية الداعية إلى الاحترام لامر الحياة. ومعنى قولك: " أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا " أنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة والعزة التى لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الامر أو معصية النهى استهانة بمقامه تعالى وإذهابا لحرمة الايمان به. وكذا معنى قولك: " والله لافعلن كذا " وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الامر وبين ما لله سبحانه عندك من المكانة والحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك ونقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك، والغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة ونقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص بين شئ من الخبر أو الانشاء وبين شئ آخر ذى مكانة وشرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، وحيث كان المربوط إليه ذا مكانة وشرف عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته والاهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، ونتيجته التأكيد البالغ.
[ 209 ]
ويوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم وهو ربط الخبر مثلا بما لا قيمة له ولا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر ويعد نوعا من الشتم وهو في اللغة العربية نادر جدا. والحلف واليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلا بعد جيل، ولا يختص بلغة دون لغة، وهو الدليل على أنه ليس من الشؤون اللغوية اللفظية بل إنما يهدى الانسان إليه حياته الاجتماعية في موارد يتنبه على وجوب الالتجاء إليه والاستفادة منه. ولم تزل اليمين دائرا بين الامم ربما يبنى عليه ويركن إليه في موارد متفرقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لاغراض متنوعة لدفع التهمة ورفع الفرية وتطييب النفس وتأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية وأعطتها وجهة قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء وأولياء الامور عند تقلد المناصب الهامة وإشغال المقامات العظيمة العالية وغير ذلك. وقد اعتنى الاسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة، وليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبى ووقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية والعبودية، ولذلك وضعت كفارة خاصة عند حنث اليمين، وكره الاكثار من الحلف بالله عز شأنه، قال تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين، الاية " (المائدة: 89) وقال تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (البقرة: 224). واعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة، قال تعالى: " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا " الاية " المائدة: 107) ومن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على المدعى واليمين على من أنكر. وحقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الايمان فيما لا دليل سواه، وذلك أن المجتمع الدينى مبنى على إيمان الافراد بالله، والانسان المؤمن هو الجزء من هذا المركب المؤلف، وهو المنبع الذى ينبع منه السنن المتبعة والاحكام الجارية، وبالجملة
[ 210 ]
جميع الاثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الدينى مبنى على إيمان الافراد بمقاصدهم القومية، ومنها تنشأ السنن والقوانين المدنية والاداب والرسوم الدائرة بينهم. فإذا كان كذلك وصح الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعية والاتكاء في عامة لوازم الحياة على إيمان الافراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه، وهو اليمين فيما لا بينة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعى ويقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره وظهور كذبه فيما أظهره وأخبر به. فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذى يجعل تحت تسلط الدائن ويراعى في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده وتأديته الدين إلى أجل وإلا ذهب المال وبقى صفر اليد. كذلك الحالف يعتبر مرهون الايمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه وإذا ظهر الخلاف عاد صفر الكف من الايمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع بثمرة الايمان وهى في المجتمع الدينى جميع المزايا الاجتماعية، ورجع مطرودا من المجتمع المتلائم الاجزاء، لا سماء تظله ولا أرض تقله. ويتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن الدينية كالصلاة مع الجماعة والشخوص في الجهاد ونحوهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين كان تمام السلطة والحكومة للدين على الاهواء. وأما في أمثال هذه الاعصار التى ضعف فيها نفوذ الدين وتسرب الهوى في القلوب وانعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها وإعراض من الناس عنها ومن مقاصد المدنية الحديثة ويجمعها الاسترسال في التمتعات المادية على شيد في أساسها وإقبال عام من عامة الناس إليها، ثم أخذ التنازع والتشاجر الشديد بين الدواعى الدينية والمدنية الطارقة ولا يزال يغلب هذا وينهزم ذاك، وانثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، وبدا الهرج والمرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين ولا ما هو أقوى من ذلك وأحفظ لحقوق الناس، وزال الاعتماد لا على الاسباب
[ 211 ]
الدينية الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها وعلى النواميس الحديثة جميعا. غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه ولا يغمض عن شرائعه بتولى الناس عنها وسأمهم منها، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات، والارض وإنما الاسلام دين متعرض لجميع شؤون الحياة الانسانية شارح لها مبين لاحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع، وإذا فسد بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الانسان بعينه. فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته وعلاج المعتل وإصلاح الفاسد، ولم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته والفاسد على فساده، والاعراض عن السالم. والاسلام وإن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها وإجرائها، يتمدد حبلها الموصول من حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها وقوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالاشارة لكن التنزل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف والمبيح للتوسع، قال تعالى: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - إلى أن قال - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " (النحل: 110). وأما بناء الحياة على التمتع المادى ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جرى على المنطق المادى دون منطق الدين. ومن البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض: (إن الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذى ذكره ؟. فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به وإجلالا لامره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع وعبادة له وهو الشرك فما كل إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التى يستغنى بها عن غيره.
[ 212 ]
وقد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والكنس الخنس من الكواكب وبالنجم إذا هوى، وأقسم بالجبل والبحر والتين والزيتون والفرس وأقسم بالليل والنهار والصبح والشفق والعصر والضحى ويوم القيامة، وأقسم بالنفس، وأقسم بالكتاب والقرآن العظيم وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة ولا يستقيم قسم إلا عن إعظام. فما المانع من أن نجرى على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة ونقتصر على ذلك، ولو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرز منه وأحرى برعايته. وأيضا قد عظم الله تعالى امور كثيرة في كلامه كالقرآن والعرش وخلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: " والقرآن العظيم " (الحجر: 87)، وقال: " وهو رب العرش العظيم " (التوبة: 129)، وقال: " وإنك لعلى خلق عظيم " (ن: 4)، وجعل لانبيائه ورسله والمؤمنين حقوقا على نفسه وعظمها واحترمها، قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون " (الصافات: 172)، وقال: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47)، فما المانع من أن نعظمها ونجرى على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، وأن نقسمه تعالى بشئ مما أقسم به أو بحق من الحقوق التى جعلها لاوليائه على نفسه ؟ نعم اليمين الشرعي الذى له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بين في الفقه وليس كلامنافيه. وإن أراد به أن مطلق الاعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه. وربما قيل: إن في الاقسام بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الاولياء والتقرب إليهم والاستشفاع بهم بأى وجه كان عبادة وإعطاء سلطة غيبية لها. والكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، وإن اريد بها مطلق السلطة غير المادية ولو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه، وقد نص القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " (الانعام: 61)، وقال: " قل يتوفاكم ملك
[ 213 ]
الموت " (السجدة: 11)، وقال: " والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا " (النازعات: 5)، وقال: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) والايات في هذا الباب كثير، جدا. وقال في إبليس وجنوده: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " (الاعراف: 27) وقد نزلت في شفاعة الانبياء وغيرهم في الاخرة، وآياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة. وليت شعرى ما الفرق بين الاثار المادية التى يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف وبين الاثار غير المادية التى يسمونها بالسلطة الغيبية ؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الاثر المادى وغيره وإن كان جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء.
(بحث روائي)
في الكافي عن على بن ابراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الدارى وابن بندى وابن أبى مارية في سفر، وكان تميم الدارى مسلما وابن بندى وابن أبى مارية نصرانيين، وكان مع تميم الدارى خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتل تميم الدارى علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندى وابن أبى مارية وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، وقد أخذا من المتاع الانية والقلادة، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الانية والقلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة ؟ فقالا: لا ما مرض إلا أياما قلائل، قالوا: فهل سرق منه شئ في سفره هذا ؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتجر تجارة خسر فيها ؟ قالا: لا، قالوا فقد افتقدنا أفضل شئ كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر وقلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدنياه إليكم. فقدموهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك الانية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 214 ]
فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندى وابن أبى مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الله عزوجل الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض، فأطلق الله عزوجل شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين. ثم قال: " فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين "، فهذه الشهادة الاولى التى حلفها رسول الله صل ى الله عليه وآله وسلم " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " أي أنهما حلفا على كذب " فآخران يقومان مقامهما " يعنى من أولياء المدعى " من الذين استحق عليهم الاوليان " الاولين " فيقسمان بالله " أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله " لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ". فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء تميم الدارى أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القلادة والانية من ابن بندى وابن أبى مارية وردهما إلى أولياء تميم الدارى " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: وأورده القمى في تفسيره مثله وفيه بعد قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة: يعنى صلاة العصر، وقوله عليه السلام: " الاولين " الظاهر أنه بصيغة التثنية والمراد بهما الشاهدان الاولان تفسيرا لقوله تعالى: " الاوليان " وظاهره على قراءته عليه السلام " استحق " بالبناء للفاعل كما نسبت إلى على عليه السلام، وقد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة. وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبى حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبى النضر وهو الكلبى عن باذان مولى ام هانئ عن ابن عباس عن تميم الدارى في هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " قال: برئ الناس منهما غيرى وغير عدى ابن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له: بديل بن أبى مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد
[ 215 ]
به الملك وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدى بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع الينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمأة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إلى قوله - أن ترد أيمان بعد أيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمأة درهم من عدى بن بداء. اقول: والرواية على ضعفها لا تنطبق على الاية تمام الانطباق وهو ظاهر، وروى عن ابن عباس وعن عكرمة ما يقرب من رواية القمى السابقة. وفيه: أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن على بن أبى طالب: أنه كان يقرأ: " من الذين استحق عليهم الاوليان " بفتح التاء. وفيه: أخرج ابن مردويه والحاكم وصححه، عن على بن أبى طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: " الذين استحق عليهم الاوليان ". وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الاية منسوخة. اقول: ولا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ. وفي الكافي عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان وعلى بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن الحكم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: " أو آخران من غيركم " قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية. اقول: ومعنى الرواية مستفاد من الاية. وفيه بإسناده عن يحيى بن محمد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
[ 216 ]
وجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ؟ قال: " اللذان منكم " مسلمان " واللذان من غيركم " من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية. وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزوجل " لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين " قال: وذلك إذا ارتاب ولى الميت في شهادتهما، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجئ بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الاولين " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين " فإن فعل ذلك نقض شهادة الاولين، وجازت شهادة الاخرين يقول الله عزوجل: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: والرواية - كما ترى - توافق ما تقدم من معنى الاية، وفى معناها روايات أخر في الكافي وتفسير العياشي عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام. وفى بعض الروايات تفسير قوله: " أو آخران من غيركم " بالكافرين، وهو أعم من أهل الكتاب كما رواه في الكافي عن أبى الصباح الكنانى عن أبى عبد الله. وفي تفسير العياشي عن أبى اسامة عنه عليه السلام أيضا في الاية: ما " آخران من غيركم " ؟ قال: هما كافران قلت: " ذوا عدل منكم " ؟ فقال: مسلمان، والرواية السابقة المقيدة بأهل الكتاب وإن لم تصلح لتقييد هذا الاطلاق بحسب صناعة الاطلاق والتقييد لكونهما متوافقين إيجابيين لكن سياق الرواية الاولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد. وفى تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى أبى زيد عياش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدثنى موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال الصادق عليه السلام في قول الله عزوجل: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا " قال: يقولون لا علم لنا بسواك، قال: " وقال الصادق عليه السلام: القرآن كله تقريع وباطنه تقريب.
[ 217 ]
قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعنى بذلك أنه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران. اقول: وما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قوله عليه السلام: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإن كون معنى قول الرسل عليه السلام: " لا علم لنا " أنه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملا على نوعين من الايات: آيات الوعد وآيات الوعيد. ولا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعنى قوله: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " فإن الكلام ظاهر في أن القرآن كله تقريع وكله تقريب، وإنما يختلف الامر بحسب الباطن والظاهر فباطنه تقريب وظاهره تقريع، لا أن القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع ووراءه القسم الاخر وهو آيات التقريب. والتأمل في كلامه عليه السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطى أن مراده عليه السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه وهو التبعيد المقابل للتقريب، والقرآن كله معارف وحقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض وتفصيل أجزائها، وباطنه تقريب البعض من البعض وإحكامها وتوحيدها، ويعود محصل المراد إلى أن القرآن بحسب ظاهره يعطى حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنها على كثرتها وبينونتها وابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض وتلتئم شتى معانيها حتى تتحد حقيقة واحدة كالروح السارى في الجميع، وليست إلا حقيقة التوحيد قال الله تعالى: " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " (هود: 1). ويظهر حينئذ انطباقه على ما ذكره عليه السلام في صدر الرواية أن معنى قول الرسل: " لا علم لنا " أن لا علم لنا بسواك فإن الانسان أو أي عالم فرض إنما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أن الله سبحانه هو المعلوم بذاته وغيره معلوم به، وبعبارة اخرى إذا تعلق العلم بشئ فإنما يتعلق أولا بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه ثم يتعلق من جهته بذلك الشئ لما أن الله سبحانه عنده علم كل شئ يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع
[ 218 ]
كرسيه السماوات والارض " (البقرة: 255) وقد تقدم رواية عبد الاعلى مولى آل سام عن الصادق عليه السلام وغيره من الروايات في هذا المعنى. وعلى هذا فمعنى قولهم: " لا علم لنا بسواك إنك أنت علام الغيوب " على تفسيره عليه السلام أنه لا علم لنا بشئ من دونك وإنما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لان العلم كله لك وإذا كان كذلك فأنت أعلم به منا لان الذى نعلمه من شئ هو علمك الذى أحطنا بشئ منه بمشيئتك ورزقك. وعلى هذا يتجلى معنى آخر لقوله: " إنك أنت علام الغيوب " هو أرفع منالا مما تقدم من المعنى، وهو أن كل شئ من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أن وجوده محدود مقدر لا يحيط إلا بما شاء الله أن يحيط به، والله سبحانه هو المحيط بكل شئ العالم بكل غيب لا يعلم شئ شيئا إلا من جهته تعالى وتقدس عن كل نقص. وعلى هذا فتقسيم الامور إلى غيب وشهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به وغيب مستور عنا، وربما تؤيد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا، إلا من ارتضى من رسول " (الجن: 27) بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، وعليك بإجادة التأمل في هذا المقام. وفي تفسير العياشي عن يزيد الكناسى عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل، الاية " قال: يقول: ماذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلفتم على امتكم ؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا. اقول: ورواه القمى في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام. وفي الكافي عن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام ما في معناه، وهو من الجرى أو من قبيل الباطن.
* * *
إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى
[ 219 ]
والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الاكمه والابرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى واذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين - 110. وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون - 111).
(بيان)
الايتان وكذا الايات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة والتالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم عليه السلام عن اتخاذ الناس إياه وامه إلهين من دون الله سبحانه وما يجيب به عن ذلك، كلها مرتبطة بغرض السورة الذى افتتحت به، وهو الدعوة إلى الوفاء بالعهد والشكر للنعمة والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الالهية وبذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها وتحفظ وحدة المعنى المراد. قوله تعالى: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم - إلى قوله - وإذ تخرج الموتى بإذنى " الاية تعد عدة من الايات الباهرة الظاهرة بيده عليه السلام إلا أنها تمتن بها عليه وعلى امه جميعا، وهى مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى عليه اليلام في سورة آل عمران، قال تعالى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم إلى أن قال - ويكلم الناس في المهد وكهلا - إلى أن قال - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بنى إسرائيل، إنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله " (الايات)
[ 220 ]
(45 - 50). والتأمل في سياق الايات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الايات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة، والامر على ذلك فإن ما اختص به المسيح عليه السلام من آية وموهبة كالولادة من غير أب والتأييد بروح القدس وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهى بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى عليهما السلام فهما معا منعمان بالنعمة الالهية كما قال تعالى: " نعمتي التي أنعمت عليك وعلى والدتك ". وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " (الانبياء: 91) حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين. وقوله: " إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس " الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيئ له لتكليم الناس في المهد، ولذلك وصل قوله " تكلم الناس " من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد والتكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب ومسبب، واكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الامرين عن الاخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا: " وتكلم الناس في المهد وكهلا "، وقوله: " وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " (البقرة: 253). على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحى بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم عليه السلام وشاركه فيها سائر الرسل مع أن الاية تأبى ذلك بسياقها. وقوله: " وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل " من الممكن أن يستفاد منه أنه عليه السلام إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهى واحد من غير تدريج وتعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع وتصديرها بإذ من غير تكرار لها. وكذلك قوله: " إذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذنى وتبرء الاكمه والابرص بإذنى " ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة " إذ " أن خلق الطير وإبراء الاكمه والابرص كانا متقارنين زمانا، وأن تذييل خلق الطير بذكر الاذن من غير أن يكتفى بالاذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة
[ 221 ]
الحياة فتعلقت العناية به فاختص بذكر الاذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صونا لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أن غيره تعالى يستقل دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة ولو لحظات يسيرة، والله أعلم. وقوله: " وإذ تخرج الموتى بإذنى " إخراج الموتى كناية عن إحيائها، وفيه عناية ظاهرة بأن الاحياء الذى جرى على يديه عليه السلام كان إحياء لموتي مقبورين بإفاضة الحياة عليهم وإخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيوية، وفى اللفظ دلالة على الكثرة، وقد تقدم في الكلام على آيات آل عمران بقية ما يتعلق بهذه الايات من الكلام فراجع ذلك. قوله تعالى: " وإذ كففت بنى إسرائيل عنك " إلى آخر الاية. فيه دلالة على أنهم قصدوه بشر فكفهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصه عليه السلام بقوله: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ". قوله تعالى: " وإذ أوحيت إلى الحواريين " الاية، الاية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله: " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بإنا مسلمون " (آل عمران: 52). ومن هنا يظهر أن هذا الايمان الذى ذكره في الاية بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا، الاية غير إيمانهم الاول به عليه السلام فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: " فلما أحس عيسى منهم الكفر " إنه كان في أواخر أيام دعوته وقد كان الحواريون وهم السابقون الاولون في الايمان به ملازمين له. على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: " قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون " أن الدعوة إنما سيقت لاخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الايمان بالله، ولذلك ختم الاية بقولهم: " وأشهد بأنا مسلمون " وهو التسليم لامر الله بإقامة دعوته وتحمل الاذى في جنبه، وكل ذلك بعد أصل الايمان بالله طبعا. فتبين أن المراد بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين، الخ " قصة أخذ الميثاق من الحواريين، وفى الاية أبحاث أخر مرت في تفسير سورة آل عمران.
[ 222 ]
(بحث روائي)
في المعاني بإسناده عن أبى يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لابي الحسن الرضا عليه السلام: لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام والخطب ؟. فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الاغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الاكمه والابرص بإذن الله، وإثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الاغلب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر فأتاهم من كتاب الله والموعظة والحكمة بما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم. قال ابن السكيت ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب. وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن أبى جميلة عن ابان بن تغلب وغيره عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيى أحدا بعد موته بأكل ورزق ومدة وولد ؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك وتعالى ة وكان عيسى عليه السلام يمر به وينزل عليه، وإن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت عليه امه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أتحبين أن تراه ؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غدا أتيتك حتى احييه لك بإذن الله تعالى. فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معى إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى عليه السلام ثم دعا الله عزوجل فانفرج القبر فخرج ابنها حيا فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السلام فقال له عيسى: أتحب أن تبقى مع امك
[ 223 ]
في الدنيا ؟ فقال: يارسول الله بأكل ورزق ومدة أم بغير أكل ورزق ومدة ؟ فقال له عيسى عليه السلام: بأكل ورزق ومدة تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك، قال: نعم إذا. قال: فدفعه عيسى عليه السلام إلى امه فعاش عشرين سنة وولد له. وفى تفسير العياشي عن محمد بن يوسف الصنعانى عن أبيه قال: سألت أبا جعفر عليه السلام " إذ أوحيت إلى الحواريين " قال: الهموا. اقول: واستعمال الوحى في مورد الالهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى: " وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه " (القصص: 7)، وقوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا " (النحل: 68) وقوله في الارض: " بأن ربك أوحى لها " (الزلزال: 5).
* * *
إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين - 112. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين - 113. قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين - 114. قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين - 115.
[ 224 ]
(بيان)
الايات تذكر قصة نزول المائدة على المسيح عليه السلام وأصحابه، وهى وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الاية الاخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد. وقول بعضهم: (إنهم استقالوا عيسى عليه السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه. وقد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، وممن يذكر منهم: المجاهد والحسن، ولا حجة في قولهما ولا قول غيرهما ولو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التى لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الاحاد التى لا يعتمد عليها في غير الاحكام. وربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها وكتبهم المقدسة خالية عن حديثها، ولو كانت نازلة لتوفرت الدواعى على ذكره في كتبهم وحفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الربانى لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية وظهور الاناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الاقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى عليه السلام، ولا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد، أو فيمالا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها. نعم وقع في بعض الاناجيل إطعام المسيح تلاميذه وجماعة من الناس بالخبز والسمك القليلين على طريق الاعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصه القرآن في شئ من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الاصحاح السادس ما هذا نصه: (1) " بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية (2) وتبعه جمع كثير لانهم أبصروا آياته التى كان يصنعها في المرضى (3) فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه (4) وكان الفصح عند اليهود قريبا (5) فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء (6) وإنما قال هذا ليمتحنه لانه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (7) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتى دينار
[ 225 ]
ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا (8) قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس (9) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء (10) فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون - وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف (11) وأخذ يسوع الارغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاؤوا (12) فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكى لا يضيع شئ (13) فجمعوا وملاوا اثنتى عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التى فضلت عن الاكلين (14) فلما رأى الناس الاية التى صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الاتى إلى العالم (15) وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده ". ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدى إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الادب والواجب حفظه في جنب الله سبحانه، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الاية وعيدا لا يوجد له نظير في شئ من الايات التى اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فهل كان ذلك لكون الحواريين وهم السائلون أساؤا الادب في سؤالهم ؟ لان لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه، ففى اقتراحات الامم السابقة عليهم من الاهانة بمقام ربهم والسخرية والهزء بأنبيائهم وكذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك وأشنع !. أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال والنزول لو كفروا بعد النزول ومشاهدة الاية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة ؟ فالكفر بعد مشاهدة الاية الباهرة وإن كان عتوا وطغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم، ففى سائر الامم أمثال لهم في ذلك ولم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب والتحقق بآيات الله سبحانه كالذى يذكره الله سبحانه في قوله: " واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (الاعراف: 175).
[ 226 ]
والذى يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الانبياء التى أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك. وذلك أن الايات المعجزة التى يقصها الكلام الالهى إما آيات آتاها الله الانبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتى موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، وأوتى عيسى عليه السلام إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص، وأوتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وهذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الايمان وإتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة. وإما آيات معجزة أتى بها الانبياء والرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، ويلحق بها المخوفات والمعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى عليه السلام على قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك في سبع آيات، وطوفان نوح، ورجفة ثمود وصرصر عاد وغير ذلك، وهذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين. وإما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، وضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر ونزول المن والسلوى على بنى إسرائيل في التيه، ورفع الطور فوق رؤسهم وشق البحر لنجاتهم من فرعون وعمله، فهذه آيات واقعة لارهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها. ومن هذا الباب المواعيد التى وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كوعد فتح مكة ومقت المشركين من كفار قريش وغلبة الروم إلى غير ذلك. فهذه أنواع الايات المقتصة في القرآن والمذكورة في التعليم الالهى، وأما اقتراح الاية بعد نزول الاية فهو من التهوس يعده التعليم الالهى من الهجر الذى لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة - إلى أن قال - لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " (النساء 166).
[ 227 ]
وكما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى وتقدس قال تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " (الفرقان: 21) وقال تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (الفرقان: 9) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وليس ذلك كله إلا لان عنوان نزول الاية هو ظهور الحق وتمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق وتمت الحجة فلو اعيد سؤال نزول الاية وقد نزلت وحصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله واللعب بالمقام الربوبى والتذبذب في القبول، وفيه أعظم العتو والاستكبار. وهذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف والاثم فيه أعظم فماذا يصنع المؤمن بنزول الاية السماوية وهو مؤمن وخاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها ؟ وهل هو إلا أشبه شئ بما يقترحه أرباب الهوى والمترفون في مجالس الانس وحفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة والاعمال الغريبة. والذى يفيده ظاهر قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة " أنهم اقترحوا على المسيح عليه السلام أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الايات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه (ع) لم يرسل إلى قومه إلا بالايات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى: " ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، الخ " (آل عمران: 49). وكيف يتصور في من آمن بالمسيح (ع) أن لا يعثر منه على آية وهو (ع) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلا ولم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية.
[ 228 ]
فاقتراحهم آية اختاروها لانفسهم بعد هاتيك الايات على كثرتها من قبيل اقتراح الاية بعد الاية وقد ركبوا أمرا عظيما ولذلك وبخهم عيسى (ع) بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فضموا إلى غرض الاكل أغراضا اخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالامور العجيبة والعبث بايات الالهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها. لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الاكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا: " نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا، الخ " لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، الخ " فإن الكلام الاول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني. ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها، وهى معجزة مختصة في نوعها بامته لانها الاية الوحيدة التى نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا وهو أكل المؤمنين منها، ولذلك عنونها عليه السلام عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا " فعنونها بعنوان العيدية، والعيد عند قوم هو اليوم الذى نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، وكان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت. ولما سأل عيسى ربه ما سأل - وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه، وحاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الاية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الامم فقال الله سبحانه " إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " هذا.
[ 229 ]
قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " " إذ " ظرف متعلق بمقدر والتقدير: اذكر إذ قال " الخ "، أو ما يقرب منه، وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الاية السابقة: " قالوا آمنا، الخ " أي قال الحواريون: آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء والمراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، ولا على جد في إشهادهم عيسى عليه السلام على إسلامهم له. وفيه أنه مخالف لظاهر السياق، وكيف يكون إيمانهم غير خالص ؟ وقد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بى وبرسولي، وهو تعالى يمتن بذلك على عيسى (ع)، عى أنه لا وجه حينئذ للاظهار في قوله: " إذ قال الحواريون، الخ ". و " المائدة " الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: والمائدة الطبق الذى عليه الطعام، ويقال لكل واحدة منهما مائدة، ويقال: ما دنى يميدنى أي أطعمني، انتهى. ومتن السؤال الذى حكى عنهم في الاية وهو قولهم: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين وهم أصحاب المسيح وتلامذته وأخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه ومعارفه المتبعون آدابه وآثاره، والايمان بأدنى مراتبه ينبه الانسان على أن الله سبحانه على كل شئ قدير، لا يجوز عليه العجز ولا يغلبه العجز، فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء. ولذلك قرأ الكسائي من السبعة: " هل تستطيع ربك " بتاء المضارعة ونصب " ربك " على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول واقيم " تستطيع " مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط. وقد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف. وأوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الاية كناية عن اقتضاء المصلحة ووقوع الاذن كما أن الامكان والقدرة والقوة يكنى بها عن ذلك كما يقال: " لا يقدر الملك أن يصغى إلى كل ذى حاجة " بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك وإلا فمطلق
[ 230 ]
الاصغاء مقدور له، ويقال: " لا يستطيع الغنى أن يعطى كل سائل " أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، ويقال: " لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه " أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس والنظام الدائر بينهم، ويقول أحدنا لصاحبه: " هل تستطيع أن تروح معى إلى فلان ؟ وإنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة والمصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا. وهناك وجوه اخرى ذكروها: منها: أن هذا السؤال لاجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (ع) فيما حكى الله عنه: " رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ". وفيه: أن مجرد صحة أن تسأل الاية لزيادة الايمان واطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه ولم تثبت عصمتهم كإبراهيم (ع) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على مالا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم عليه السلام: " بلى ولكن ليطمئن قلبى " بل قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا " فعدوا الاكل بحيال نفسه غرضا. على أن هذا الوجه إنما يستدعى تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه وأما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها. على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى " (الاية) (البقرة: 260) أن مراده عليه السلام لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه ولو كان كذلك لكان من قبيل طلب الاية بعد العيان وهو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الاحياء بالمعنى الذى تقدم بيانه. ومنها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه. وفيه: أنه لادليل عليه، ولو سلم فإنه إنما ينفى عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الالهية وأما منافاة إطلاق اللفظ للادب العبودي فعلى حالها.
[ 231 ]
ومنها: أن في الكلام حذفا تقديره: " هل تستطيع سؤال ربك ؟ ويدل عليه قراءة " هل تستطيع ربك " والمعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك. وفيه: أن الحذف والتقدير لا يعيد لفظة " هل يستطيع ربك " إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأى وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة والحضور، والتقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، وإن كان ولا بد فليقل: إنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (ع) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (ع) فهو لله سبحانه، وهذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الانبياء والرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص والقصور في ساحته تعالى كالهداية والعلم ونحوهما، وأما لوازم عبوديتهم وبشريتهم كالعجز والفقر والاكل والشرب ونحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها. ومنها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الاطاعة والمعنى: هل يطيعك ربك ويجيب دعاءك إذا سألته ذلك، وفيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله وانقياده له أشنع وأفظع من الاستفهام عن استطاعته. وقد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: إن الاستطاعة والاطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الامر فعله عن رضى واختيار، والاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الاجابة فإذا كان معنى استجابه: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعه: أطاعه أي انه انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له، والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، ومعنى استطاع الشئ: طلب وحاول أن يكون ذلك الشئ طوعا له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب: سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب. قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن " يستطيع " هنا بمعنى يطيع وإن معنى يطيع: يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى. وفيه أولا: أنه لم يأت بشئ دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا
[ 232 ]
معنى ذاك وهو قياس في اللغة ممنوع. وثانيا: أن كون الاستطاعة والاطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الاصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الاصلى في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب وأضرب وقبل وأقبل وقبل وقابل واستقبل بحسب التبادر الاستعمالى. واعتبار المادة الاصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لايراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الاصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى وتبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات ويحفظ المعنى الاصلى ما جرى اللسان، فافهم ذلك. فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحى لا بما تفيده المادة اللغوية وقد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا وهو في الجميع بمعنى القدرة، واستعمل لفظ الاطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا وهو في الجميع بمعنى الانقياد، واستعمل لفظ الطوع فيما استعمل وهو مقابل الكره، فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الاية بمعنى يرضى ؟. وأما حديث أجاب واستجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد وورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الاجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا، ولا تجد الاجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع واستطاع ؟. وكونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى اجاب ان الجواب تجاوز عن المسؤول إلى السائل، ومعنى استجاب ان المسؤول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل. ومن هنا يظهر أن الذى فسر به الاستجابة وهو قوله: (ومعنى استجاب سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغى فإن باب الاستفعال هو
[ 233 ]
طلب " فعل " لا طلب " أفعل " وهو ظاهر. وثالثا: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: " هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء " انه هل يرضى ربك ان نسأله نحن أو تسأله انت ان ينزل علينا مائدة من السماء، وكان غرضهم من هذا السؤال أو النزول ان يزدادوا إيمانا ويطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " ؟ وما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه احدا من العالمين، وهم لم يقولوا إلا حقا ولم يسألوا إلا مسألة مشروعة، وقد قال تعالى: " واسألوا الله من فضله " (النساء: 32) قوله تعالى: " قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " توبيخ منه (ع) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعه ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال. وأما على ما قدمناه من أن الاصل في مؤاخذتهم الذى يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الايات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها واقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أظهر. قوله تعالى: " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (ع) وما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الاية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم: هل يستطيع ربك ان ينزل "، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، وهذا ايضا احد الشواهد على ان ملاك المؤاخذة في المقام هو انهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها. وأما قولهم: " نريد ان نأكل منها، الخ " فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الاية امورا أربعة: أحدها: الاكل وكأن مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل
[ 234 ]
أرادوا أن يأكلوا منها، وهو غرض عقلائي، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة. وذكر بعضهم: أن المراد بذكرالاكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد: نريد أن نتبرك بأكله. وأنت تعلم أن المعنى الذى قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الاكل، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، وحيث لم يذكر شئ من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالاكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة. الثاني: اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور. والثالث: العلم بأنه (ع) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذى يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الايمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (ع) ومسألته، وبالجملة بإعجاز منه (ع) وقد كانوا رأوا منه (ع) آيات كثيرة فإنه (ع) لم يزل في حياته قرينا لايات إلهية كبرى، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائه (ع) وإن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الاية بدعاء أنفسهم، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى (ع). الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، والشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذى حكاه الله تعالى إذ قال: " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " (آل عمران: 53). فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا امورا جميلة مرضية إلى غرضهم الاخر
[ 235 ]
الذى هو الاكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الاية بعد مشاهدة الايات الكافية فأجابهم عيسى (ع) إلى مسألتهم بعد الاصرار. قوله تعالى: " قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " خلط (ع) نفسه بهم في سؤال المائدة، وبدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: " اللهم ربنا " وقد كانوا قالوا له: " هل يستطيع ربك " ليوافق النداء الدعاء. وقد توحد هذا الدعاء من بين جميع الادعية والمسائل المحكية في القرآن عن الانبياء عليهم السلام بأن صدر " باللهم ربنا " وغيره من أدعيتهم مصدر بلفظ " رب " أو " ربنا " وليس إلا لدقة المورد وهول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله: " قل الحمد لله " (النمل: 59) وقوله: " قل اللهم مالك الملك " (آل عمران: 26) وقوله: " قل اللهم فاطر السماوات والارض " (الزمر: 46). ثم ذكر (ع) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له ولاصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيدا له ولجميع امته، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (ع) عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للاية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم، ويكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، ويجدد حياة الملة، وينشط نفوس العائدين، ويعلن كلما عاد عظمة الدين. ولذلك قال: " عيدا لاولنا وآخرنا " أي أول جماعتنا من الامة وآخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود ولا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين، وفى الخلف بعد السلف من غير تحديد. وهذا العيد مما اختص به قوم عيسى (ع) كما اختصوا بنوع هذه الاية النازلة على ما تقدم بيانه. وقوله: " وآية منك " لما قدم مسألة العيد وهى مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الاصلى
[ 236 ]
غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، وإلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التى كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالايات المشهودة كل يوم منه عليه السلام للحواريين وغيرهم. وقوله: " وارزقنا وأنت خير الرازقين " وهذه فائدة اخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا: " نريد أن نأكل منها " فذكروه مطلوبا لذاته وقدموه على غيره، لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ الاكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله " وأنت خير الرازقين ". والدليل على ما ذكرنا انه (ع) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع امته ونفسه، وهو سؤال العيد الذى أضافه إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله ورزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة. فانظر إلى أدبه (ع) البارع الجميل مع ربه، وقس كلامه إلى كلامهم - وكلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجبا فقد أخذ (ع) لفظ سؤالهم فأضاف وحذف، وقدم وأخر، وبدل وحفظ حتى عاد الكلام الذى ما كان ينبغى أن يوجه به إلى حضرة العزة وساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه (ع) تر عجبا. قوله تعالى: " قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " قرأ أهل المدينة والشام وعاصم " منزلها " بالتشديد والباقون " منزلها " بالتخفيف - على ما في المجمع - والتخفيف اوفق لان الانزال هو الدال على النزول الدفعي، وكذلك نزلت المائدة، وأما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا. وقوله تعالى: " إنى منزلها عليكم " وعد صريح بالانزال وخاصة بالنظر إلى الاتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، ولازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم. وذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روى ذلك في الدر المنثور ومجمع البيان
[ 237 ]
وغيرهما عن الحسن ومجاهد قالا: إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل. والحق ان الاية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول وحاشاه تعالى ان يجود لهم بالوعد الصريح وهو يعلم انهم سيستعفون عنها فلا تنزل، والوعد الذى في الاية صريح والشرط الذى في الاية يتضمن تفرع العذاب وترتبه على الكفر بعد النزول، وبعبارة اخرى: الاية تتضمن الوعد المطلق بالانزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا انها تشتمل على الوعد بالانزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم. وكيف كان فاشتمال وعده تعالى بانزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (ع) وإنما هو استجابة له غير انه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - ان هذه الاية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم واولهم، قيد تعالى هذا الاطلاق بالشرط الذى شرط عليهم، ومحصله ان هذا العيد الذى خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الايمان منهم، وأما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر. فالايتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه وتقييد الاستجابة كقوله تعالى: " وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (البقرة: 124) وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع): " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا اليك قال عذابي اصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " (الاعراف: 156). وقد عرفت فيما تقدم ان السبب الاصلى في هذا العذاب الموعود الذى يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الامم فإذا اجيبوا إلى ذلك اوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك. ومن هنا يظهر ان المراد بالعالمين عالمو جميع الامم عالمو زمانهم فإن ذلك
[ 238 ]
مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس وهم جميع الامم لا اهل زمان عيسى (ع) خاصة من امم الارض. ومن هناك يظهرايضا ان قوله " فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه احدا من العالمين " وإن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات والعقوبات في الشدة والالم، وإنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، واختصاصهم من بين الامم به.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: " هل يستطيع ربك " عن أبى عبد الله (ع) قال: معنى الاية هل تستطيع أن تدعو ربك. أقول: وروى هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير، وهو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الاية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى (ع) إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة والمصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة. وفي تفسير العياشي عن عيسى العلوى عن أبيه عن أبى جعفر (ع) قال: المائدة التى نزلت بنى إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة وتسعة أرغفة. أقول: وفي لفظ آخر تسعة أنوان وتسعة أرغفة " والانوان " جمع نون وهو الحوت. وفي المجمع عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت المائدة خبزا، ولحما، وذلك لانهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا. اقول: ورواه في الدر المنثورعن الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وابن الانباري وأبى الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي آخره فمسخوا قردة وخنازير. قال في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من وجه آخر
[ 239 ]
عن عمار بن ياسر موقوفا مثله، قال الترمذي: والوقف أصح، انتهى. والذى ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاما لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الاية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: " ونكون عليها من الشاهدين " فإن الطعام الذى لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة. والذى ذكر فيه من مسخهم قردة وخنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، وهذا مما يفتح بابا آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى " فإنى أعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " اختصاص هذا العذاب بهم، وقد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة: 65)، والمروى في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنهم مسخوا خنازير. وفى تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبى الحسن (ع) قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير. وفيه: عن عبد الصمد بن بندارقال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير. أقول: وفيما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الاشعري عن أبى الحسن الرضا (ع) قال: الفيل مسخ كان ملكا زناء، والذئب مسخ كان أعرابيا ديوثا، والارنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بنى إسرائيل اعتدوا في السبت، والجريث والضب فرقة من بنى إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر، والفارة فهى الفويسقة، والعقرب كان نماما، والدب والوزغ والزنبور كانت لحاما يسرق في الميزان. والرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لامكان أن يمسخ بعضهم خنزيرا وبعضهم جريثا وضبا غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شئ آخر وهو ما تضمنه من مسخ أصحاب
[ 240 ]
السبت قردة وخنازير، والاية الشريفة المذكورة ونظيرتها ما في سورة الاعراف إنما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، والله أعلم.
* * *
وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - 116. ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد - 117. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم - 118. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم - 119. لله ملك السموات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير - 120.
(بيان)
مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الايات ذكر ما اعترف به (ع) وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعى لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التى لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد
[ 241 ]
ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية. وبهذا تنطبق الايات على الغرض النازل لاجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذى عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغدا حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " " إذ " ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقول عيسى عليه السلام فيها " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم ". وقد عبرت الاية عن مريم بالامومة فقيل: " اتخذوني وأمى إلهين " دون ان يقال: " اتخذوني ومريم إلهين " للدلالة على عمدة حجتهم في الالوهية وهو ولادته منها بغيرأب، فالبنوة والامومة الكذائيتين هما الاصل في ذلك فالتعبير به وبامه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم. و " دون " كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشئ " دون " قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والادون الدنى، وقوله تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم " أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: " ويغفر ما دون ذلك " أي ما كان أقل من ذلك، وقيل: ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: " ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله " أي غير الله، انتهى. وقد استعمل لفظ " من دون الله " كثيرا في القرآن في معنى الاشراك دون
[ 242 ]
الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفى الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذى لا يرجع إلى محصل فإن الذى أثبته حينئذ يكون هو الاله سبحانه وينفى غيره، ويعود النزاع إلى بعض الاوصاف التى أثبتها فمثلا لو قال قائل: " إن الاله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الاله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الاصنام أو أرباب الاصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد. ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهرأو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عزاسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والامكان. ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضى به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفى والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله. فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفى إصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول. والملاك في ذلك كله أن الانسان إنما يثبت الاله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شئ لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحد في اسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له. فظهر أن معنى قوله: " إلهين من دون الله " شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدى معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما
[ 243 ]
من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفى الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون الوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وامه إلهين من دون الله سبحانه. وربما استشكل بعضهم الاية بأن النصارى غير قائلين بالوهية مريم العذراء (ع)، وذكروا في توجيهها وجوها. لكن الذى يجب أن يتنبه عليه أن الاية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، واتخاذ الاله غير القول بالالوهية إلا من باب الالتزام، واتخاذ الاله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " (الجاثية: 23) وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم. قال الالوسى في روح المعاني: إن أبا جعفر الامامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: " المريمية " يعتقدون في مريم أنها إله. وقال في تفسير المنار: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما امه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التى حدثت بعد الاسلام بعدة قرون (1). إن هذه العبادة التى توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (ع) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها التى يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والاخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة " إله " عليها بل يسمونها " والدة الاله " ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
_____________________________
(1) كما أن القول برسالة المسيح ونفى الوهيته لا يزال يشيع في هذه الايام وهى سنة 1958 م بين نصاري إمريكا، وقد ذكر المحقق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ: أن هذه الععبادة التي تأتي بها عامة النصاري للمسيح وامه لا توافق تعليم المسيح لانه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص 526 و 539 من الكتاب المزبور. (*)
[ 244 ]
والقرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها وامها إلهين، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهى واقعة قطعا، وبين في آية اخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، وذلك معنى آخر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا. وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب " السواعى " من كتب الروم الارثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى " دير التلميد " وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به. وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم " المشرق " بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول " حبل بها بلا دنس الخطية " وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية. ومنه قول الاب " لويس شيخو " في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: " إن تعبد الكنيسة الارمنية للبتول الطاهرة أم الله لامر مشهور " وقوله " قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة ام الله " انتهى كلامه. ونقل أيضا بعض مقالة للاب " إنستاس الكرملى " نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان " قدم التعبد للعذراء " بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء: " ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم " إيليا " الحى فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والابهام إلى عالم الصراحة والتبيان ". ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة
[ 245 ]
الرجل طالعة من البحر. قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب) (1) قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلى، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، وهو يرتقى إلى المائة العاشرة قبل المسيح، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالاله يسوع بعد الرسل والتلامذة، وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد، انتهى. (2) قوله تعالى: " قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " إلى آخر الاية هذه الاية والتى تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عما سئل عنه وقد أتى ععليه السلام فيه بأدب عجيب: فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر مالا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغى أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، وعليه جرى التأديب الالهى في كلامه كقوله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الانبياء: 26) وقوله: " ويجعلون لله البنات سبحانه " (النحل: 57). ثم عاد إلى نفى ما استفهم عن انتسابه إليه، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله، ولم ينفه بنفسه بل بنفى سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: " لم أقل ذلك أو لم أفعل لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفى سببه فقال: " ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفى هذا الحق نفى ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله ؟ فإن أجاب العبد بقوله: " لم أفعل " كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، وإن
_____________________________
(1) يشير به إلى السحابة التى شاهدها الغلام ناشئة من البحر. (2) وإنما نقلنا ما نقلناه بطوله لان فيه ما يطلع به الباحث التأمل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها ويشاهد بعض مجازفاتهم في الدين. (*)
[ 246 ]
قال: " إنا أعجز من ذلك " كان نفيا بنفى السبب وهو القدرة، وإنكارا لاصل إمكانه فضلا عن الوقوع. وقوله: " ما يكون لى إن أقول ما ليس لى بحق " إن كان لفظ " يكون " ناقصة فاسمها قوله: " أن أقول " وخبرها قوله: " لى " واللام للملك، والمعنى: ما أملك ما لم أملكه وليس من حقى القول بغير حق، وإن كانت تامة فلفظ " لى " متعلق بها وقوله: " أن أقول، الخ " فاعلها، والمعنى: ما يقع لى القول بغير حق، والاول من الوجهين أقرب، وعلى أي حال يفيد الكلام نفى الفعل بنفى سببه. وقوله عليه السلام: " إن كنت قلته فقد علمته " نفى آخرللقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفى لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لانه الذى لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شئ. وهذا الكلام منه عليه السلام يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفى بالدعوى المجردة، وثانيا الاشعار بأن الذى كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم. وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفى الجهل وإفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الامر، أو لغيره إذا كان السائل عالما وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الامر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، وقوله عليه السلام في الجواب في مثل المقام: " إن كنت قلته فقد علمته " إرجاع للامر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى. ثم أشار بقوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه، وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لان المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبرى عن انتساب ما نسب إليه. فقوله عليه السلام: " تعلم ما في نفسي " توضيح لنفوذ العلم الذى ذكره في قوله: " إن كنت قلته فقد علمته " وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشئ ويجهل بشئ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير
[ 247 ]
بكل شئ ومنها نفس عيسى بن مريم بخصوصه. ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شئ، لا كعلم أحدنا بحال الاخر وعلم الاخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالاحاطة به من غير أن يحيط به شئ ولا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، ولذلك ضم عليه السلام إلى الجملة جملة اخرى فقال: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ". أما قوله: " إنك أنت علام الغيوب " ففيه بيان العلة لقوله: " تعلم ما في نفسي " " الخ "، وفيه استيفاء حق البيان من جهة اخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شئ فبين بقوله: " إنك أنت علام الغيوب " أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شئ من الاشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به. ولازم ذلك أن لا يعلم شئ من الاشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذى هو تعالى عالم به لانه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، ولا يعلم شئ غيره تعالى بشئ من الغيوب لا الكل ولا البعض. على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشئ فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشئ من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255). وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قوله تعالى: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم " لما نفى عليه السلام القول المسؤول عنه عن نفسه بنفى سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التى لم يتعدها ثانيا فقال: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به " الخ "، وأتى فيه بالحصر بطريق النفى والاثبات ليدل على الجواب بنفى ما سئل عنه وهو القول: " أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله ". وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله: " أن اعبدوا الله " ثم وصف الله سبحانه
[ 248 ]
بقوله: " ربى وربكم " لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له. وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم عليه السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكى عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: " إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (الزخرف: 64) وقال: " وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (مريم: 36). قوله تعالى: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " ثم ذكر عليه السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (النساء: 159). يقول عليه السلام ما كان لى من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، ولم أتعد ما رسمت لى من الوظيفة فأنا براء من أن أكون القى إليهم أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله. وقوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " الرقوب والرقابة هو الحفظ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الاعمال، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احتراز عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: " وأنت على كل شئ شهيد "، ولا نكتة تستدعى الاتيان بلفظ " الشهيد " ثانيا بالخصوص. واللفظ أعنى قوله: " كنت أنت الرقيب عليهم " يدل على الحصر، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه السلام شهيدا وشهيدا بعده، فشهادته عليه السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الالهية التى وكل عليها بعض عبادة ثم هو على كل شئ وكيل كالرزق والاحياء والاماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها، والايات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها. ولذلك عقب عليه السلام قوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " بقوله: " وأنت على كل شئ شهيد " ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال امته التى كان
[ 249 ]
يتصداها مادام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة إلى هي شهادة الله سبحانه على شئ فإنه تعالى شهيد على أعيان الاشياء وعلى أفعالها التى منها أعمال عباده التى منها أعمال امة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم. ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (ع) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو (ع) يعلم ذلك. ومن الدليل على ذلك بشارته عليه السلام بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما يحكيه القرآن - بقوله: " يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد " (الصف: 6) وقد نص القرآن على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء قال تعالى: " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41). على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " ولم يرده بالابطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه. فبان بما أورده من بيان حاله المحكى عنه في الايتين أنه برئ مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه، ولذلك ختم (ع) كلامه بقوله: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " إلى آخر الاية. قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " لما اتضح بما أقام (ع) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسؤول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه (ع) بمعزل عن الحكم الالهى المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم، ولذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير
[ 250 ]
وصل وتفريع: " إن تعذبهم، الخ ". فالاية كالصالحة لان يوضع موضع البيان السابق، ومفادها أنه لا عهدة على فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، ولم اداخل أمرهم في شئ حتى اشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت، وهم وصنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، وإليك تدبير أمرهم، ولك أن تسخط عليهم به لانك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده، وإن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة، وللعزيز (وهو الذى له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيما (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغى أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر. وبما تقدم من البيان ظهر أولا: أن قوله: " فإنهم عبادك " بمنزلة أن يقال: " فإنك مولاهم الحق " على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الاية. وثانيا: أن قوله: " فإنك أنت العزيز الحكيم " ليس مسوقا للحصر بل الاتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد، ويؤول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم. وثالثا: أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريم عليه السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الالهية التى لا يقوم لها شئ كان مقتضاه أن يراعى فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الامر بدعاء أو سؤال، ولذلك قال (ع): " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل " فإنك غفور رحيم " لان سطوع آية العظمة والسطوة الالهية القاهرة الغالبة على كل شئ لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم. وأما قول إبراهيم (ع) لربه: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (إبراهيم: 36) فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الالهية
[ 251 ]
بما استطاع. قوله تعالى: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " تقرير لصدق عيسى بن مريم (ع) على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه وإنما المقام هو الذى يفيد ذلك. والمراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله: " لهم جنات تجرى من تحتها الانهار، الخ " ومن البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذى يعود إليهم من جهة الصدق والاعمال والاحوال الاخروية - ومنها صدق أهل الاخرة - لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء وبلفظ آخر: الاعمال والاحوال الاخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الاعمال والاحوال الدنيوية، إذ لا تكليف في الاخرة، والجزاء من فروع التكليف، وإنما الاخرة دار حساب وجزاء كما أن الدنيا دار عمل وتكليف، قال تعالى: " يوم يقوم الحساب " (إبراهيم: 41) وقال: " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " (الجاثية: 28) وقال تعالى: " إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار " (المؤمن: 39). والذى ذكره عيسى (ع) من حاله في الدنيا مشتمل على قول وفعل وقد قرره الله على الصدق فالصدق الذى ذكر في الاة ه يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول، فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز. على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق - وينتهى به إلى الصلاح، وقد روى أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترحها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه ويخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك. قوله تعالى: " لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم " رضى الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق، ورضوا عن الله بما آتاهم من الثواب. وقد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى: " ورضى له قولا "
[ 252 ]
(طه: 109) وقوله: " وإن تشكروا يرضه لكم " (الزمر: 7) وبين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شئ هو أن لا تدفعه بكراهة ومن الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه وأنت تسخط على نفسه، وأن يأتي صديقك الذى تحبه بفعل لا ترضاه. فقوله: " رضى الله عنهم " يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم، ومن المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم، وقد قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56) فالعبودية هو الغرض الالهى من خلق الانسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالا للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذى هو رب كل شئ فلا يرى نفسه ولا شيئا غيره إلا مملوكا لله خاضعا لربوبيته لا يؤوب إلا إلى ربه ولا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان وأيوب: " نعم العبد إنه أواب " (ص: 44) وهذا هو الرضى عنه. وهذا من مقامات العبودية، ولازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه وعن الاتصاف بالفسق، كما قال تعالى: " ولا يرضى لعباده الكفر " (الزمر: 7)، وقال تعالى: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (التوبة: 96). ومن آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد ورأى ما يقع عليه بصره وتبلغه بصيرته مملوكا لله خاضعا لامره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود ونعمة، وأن ما منعه فإنما منعه عن حكمة. على أن الله سبحانه يذكر عنهم وهم في الجنة بقوله: " لهم فيها ما يشاؤون " (النحل: 31، الفرقان: 16)، ومن المعلوم أن الانسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى. وهذا غاية السعادة الانسانية بما هو عبد، ولذلك ختم الكلام بقوله: " ذلك الفوز العظيم ". قوله تعالى: " لله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير " الملك - بالكسر - سلطة خاصة على رقبة الاشياء وأثره نفوذ الارادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها، والملك - بالضم - سلطة خاصة على النظام الموجود بين الاشياء
[ 253 ]
وأثره نفوذ الارادة فيما يقدر عليه، وبعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلق بالفرد، والملك - بالضم - متعلق بالجماعة. وحيث كان الملك في نفوذ الارادة بالفعل مقيدا أو متقوما بالقدرة فإذا تمت القدرة وأطلقت كان الملك ملكا مطلقا غير مقيد بشئ دون شئ وحال دون حال، ولبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله: " لله ملك السماوات والارض وما فيهن " بقوله: " وهو على كل شئ قدير ". واختتمت السورة بهذه الاية الدالة على الملك المطلق، والمناسبة ظاهرة، فإن غرض السورة هو حث العباد وترغيبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، وهو الملك على الاطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الاطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به وينهاهم عنه إلا السمع والطاعة، ولا فيما يأخذ منهم من العهود والمواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض.
|