00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 297 ـ 383 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الثاني)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي)

 في الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن زيد بن اسلم، قال: لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله، ألا ارى ربنا يستقرضنا مما اعطانا لانفسنا وإن لي أرضين: إحديهما بالعالية والاخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: كم من عذق مدلل لابي الدحداح في الجنة. اقول: والرواية مروية بطرق كثيرة. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام: لما نزلت هذه الآية: من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر امثالها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى وليس له منتهى. اقول: وروى الطبرسي في المجمع والعياشي في تفسيره نظيره وروي قريب منه من طرق أهل السنة ايضا، قوله عليه السلام: فعلم رسول الله، يؤمي إليه آخر الآية: والله يقبض ويبصط، إذ لاحد يحد عطائه تعالى، وقد قال: " وما كان عطاء ربك محظورا " الاسراء - 20. وفي تفسير العياشي عن أبي الحسن عليه السلام في الآية، قال: هي صلة الامام. اقول: وروى مثله في الكافي عن الصادق عليه السلام وهو من باب عد المصداق.. وفي المجمع في قوله تعالى: إذ قالوا لنبي لهم الاية هو أشموئيل، وهو بالعربية إسماعيل. اقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا: وشموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل. وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هرون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: أن بني إسرائيل بعد موت موسى

[ 297 ]

عملوا بالمعاصي، وغيروا دين الله، وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهيهم فلم يطيعوه، وروي أنه أرميا النبي على نبينا وآله وعليه السلام فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط، فأذلهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارههم وأموالهم، واستعبد نسائهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، ولم يجمع الله النبوة والملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا ؟ فقالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فكان كما قال الله: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين، فقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، فغضبوا من ذلك وقالوا: أني يكون له الملك علينا ؟ ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، وكانت النبوة في بيت لاوي، والملك في بيت يوسف، وكان طالوت من ولد ابنيامين أخي يوسف لامه وأبيه، ولم يكن من بيت النبوة ولامن بيت المملكة فقال لهم نبيهم: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم، وكان أعظمهم جسما وكان قويا وكان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة، وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه امه وألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضرموسى الوفاة وضع فيه الالواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة، واودعه عند يوشع وصيه، ولم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنوا إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكا فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة، قال: البقية ذرية الانبياء. اقول: قوله: وروي أنه أرميا النبي، رواية معترضة في رواية، قوله عليه السلام: فكان كما قال الله " الخ " اي تولى الكثيرون ولم يبق على تسليم حكم القتال إلا قليل

[ 298 ]

منهم، وفي بعض الاخبار أن هذا القليل كانوا ستين الفا، روى ذلك القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام، ورواه العياشي عن الباقر عليه السلام. وقوله: وكانت النبوة في بيت لاوى، والملك في بيت يوسف، وقد قيل: إن الملك كان في بيت يهوذا وقد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت وداود وسليمان حتى يكون في بيت يهوذا، وهذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت ان الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكا مما لا ينكر. وقوله: قال والبقية ذرية الانبياء، وهم من الراوي، وإنما فسر عليه السلام بقوله: ذرية الانبياء قوله: آل موسى وآل عمران، ويؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: انه سئل عن قول الله: وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملائكة، فقال: ذرية الانبياء. وفي الكافي عن محمد بن يحيى، عن محمد بن احمد، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد، عن النصر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هرون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: وقال الله: إن الله مبتليكم بنهر - فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني فشربوا منه إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف، ومنهم من لم يشرب، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وقال الذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. اقول: واما كون الباقين مع طالوت ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا بعدد اهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة والعامة، واما كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، وكون القائلين كم من فئة " الخ "، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه: من معنى الاستثناء. وفي الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن ايوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: إن آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة. واعلم ان الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك

[ 299 ]

لان إسقاط الاسانيد فيه إنما هو لمكان موافقه القرآن ومعه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة ولا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الاسناد، ونحن مع ذلك نختار للايراد روايات صحيحة الاسناد أو مؤيده بالقرائن. وفي تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق عليه السلام، قال: كان داود وإخوة له أربعة، ومعهم أبوهم شيخ كبير، وتخلف داود في غنم لابيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود وهو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى اخوتك بهذا الذي صنعناه لهم يتقووا به على عدوهم وكان رجلا قصيرا ارزق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج وقد، تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمر داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني واقتل بي جالوت فإني إنما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فو الله لئن عاينته لاقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت، فقال يا فتى وما عندك من القوة ؟ وما جربت من نفسك ؟ قال: كان الاسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه منها فاخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فاتي بدرع فقذفها في عنقه فتملا منها حتى راع طالوت ومن حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: والله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلما أن اصبحوا ورجعوا إلى طالوت والتقى الناس قال داود: أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه ونكس عن دابته، وقال الناس: قتل داود جالوت، وملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، واجتمعت بنو إسرائيل على داود، وأنزل الله عليه الزبور، وعلمه صنعة الحديد فلينه له، وأمر الجبال والطير يسبحن معه، قال: ولم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا، وأعطى قود في عبادته. اقول: المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الاحجار، وقد اتفقت ألسنة الاخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر. في المجمع، قال: إن السكينة التي كانت فيه ريح هفانة من الجنة لها وجه كوجه الانسان عن علي عليه السلام.

[ 300 ]

أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن سفيان بن عيينة وابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن علي عليه السلام وكذا عن عبد الرزاق وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم، وصححه وابن عساكر والبيهقي في الدلائل من طريق أبي الاحوص عن علي عليه السلام مثله. وفي تفسير القمي عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا عليه اسلام: السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان. أقول: وروى هذا المعنى أيضا الصدوق في المعاني والعياشي في تفسيره عن الرضا عليه السلام، وهذه الاخبار الواردة في معنى السكينة وإن كانت آحادا إلا أنها قابلة التوجيه والتقريب إلى معنى الآية، فإن المراد بها على تقدير صحتها: ان السكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس وطمأنينتها إلى أمر الله، وأمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الائمة، فينطبق حينئذ على روح الايمان، وقد عرفت في البيان السابق ان السكينة منطبقة على روح الايمان. وعلى هذا المعنى ينبغي ان يحمل ما في المعاني عن ابي الحسن عليه السلام في السكينة، قال عليه السلام: روح الله يتكلم، كانوا إذا اختلفوا في شئ كلمهم وأخبرهم، الحديث فإنما هو روح الايمان يهدي المؤمن إلى الحق المختلف فيه.

(بحث علمي واجتماعي)

 ذكر علماء الطبيعة ان التجارب العلمي ينتج ان هذه الموجود ات الطبيعية المجبولة على حفظ وجودها وبقائها، والفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الافعال ينازع بعضها البعض في البقاء، وحيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير والتأثر المتقابل من الغير وبالعكس كانت الغلبة للاقوى منهما والاكمل وجودا، ويستنتج من ذلك ان الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الافراد من نوع أو نوعين أكملها وأمثلها فيتوحد للبقاء، ويفنى سائر الافراد وينقرض تدريجا، فهناك قاعدتان طبيعيتان: إحداهما: تنازع البقاء، والثانية: الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل.

[ 301 ]

وحيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، والانتخاب وبقاء الامثل. فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبني على اساس الاتحاد الكامل المحكم المرعي فيه حقوق الافراد: الفردية والاجتماعية أحق بالبقاء، وغيره أحق بالفناء والانقراض، والتجارب قاض ببقاء الامم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي، وانقراض الامم بتفرق القلوب، وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر. فالبحث في الآثار الارضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الاولية الارضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الانواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إلا انموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها الا تنازع البقاء، والانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل، وكذلك الانواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع والانتخاب، ولا يصلح منها للبقاء إلا الامثل والاقوى وجودا، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع، وعلى هذه الوتيرة كانت الانواع والتراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها وتجمعها الكرات والانواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع... وقد ناقضه المتأخرون بكثير من الانواع الضعيفة الوجود الباقية بين الانواع حتى اليوم، وبكثير من اصناف الانواع النباتية والحيوانية فإن وقوع التربية بتأهيل كثير من انواع النبات والحيوان واخراجها من البرية والوحشية، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البري والوحشي منها على الردائة، وسيرهما إلى الضعف يوما فيوما، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. ولذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية اخرى، وهي تبعية المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية

[ 302 ]

ومكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته، ولذلك كانت لكل نوع من الانواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الارضية القطبية أو الاستوائية وغير ذلك، من الاعضاء والادوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي ان تنتزعا من هذا القانون أعنى: ان الاصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا ميحط مؤثر يوجب التأثير، ولكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين، وقد فصلوها في مظانها. ولو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها ومطردة في حكمها كان من الواجب ان لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، ولا ان يتغير محيط في نفسه كما ان القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب ان لا يبقى شئ من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها ولا ان يجري حكم التوارث في الاصناف الردية من النبات والحيوان. فالحق كما ربما اعترفت به الابحاث العلمية ان هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة. والنظر الفلسفي الكلي في هذا الباب: ان أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات والتغيرات الحادثة في اطراف وجودها يدور مدار قانون العلية والمعلولية، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض، ويستوجب ذلك ان ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، ولازم ذلك ان يكون كل موجود فعالا لابقاء وجوده وحياته، وعلى هذا صح ان يقال: إن بين الموجودات تنازعا في البقاء، وكذلك لازم التأثير العلي ان يتصرف الاقوى في الاضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، وبذلك يمكن ان يوجه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعي وتبعية المحيط، فإن النوع لما كان تحت

[ 303 ]

تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه ان يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع عن نفسه، وكذلك الحال في افراد نوع واحد، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والاضداد التي تتوجه إليه، وهذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل، وكذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت اكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد ان يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الاثر الذي يناسب عملها، وهذا هو تبعية المحيط. ومما يجب ان يعلم: ان أمثال هذه النواميس أعني: تبعية المحيط وغيرها إنما يؤثر فيما صح ان يؤثر، في عوارض وجود الشئ ولواحقه، واما نفس الذات بأن يصير نوعا آخر فلا، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على ان كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة، وبذلك يمتاز نوع من نوع، وبالحقيقة لانوع جوهرة يباين نوعا جوهريا آخر، بل جميع الانواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدل الانواع وبتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون بتبدل الذات فيها، وللبحث ذيل ممتد سيمر بك انشاء الله تفصيل القول فيه. ونرجع إلى أول الكلام فنقول: ذكر بعض المفسرين: ان قوله تعالى، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين الآية اشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. قال: ويقرر ذلك قوله تعالى: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الارض أقاموا الصلاه وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور " الحج - 41، فهذا ارشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق، وانه ينتهى ببقاء الامثل وحفظ الافضل. ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى: " انزل من السماء مائا فسالت أوديه بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية

[ 304 ]

أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذلك يضرب الله الامثال " الرعد - 17، فهو يفيد ان سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقى ابليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، وابريز المصلحة التي يتحلى به الانسان، انتهى. أقول: أما ان قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعي (بالمعنى الذي مر بيانه) حق في الجملة، وان القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شئ من القاعدتين، فإن الصنف الاول من الآيات مسوق لبيان ان الله سبحانه غير مغلوب في أرادته، وان الحق وهو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب، وان حامله إذا حمله على الحق والصدق لم يكن مغلوبا ألبتة، وعلى ذلك يدل قوله تعالى أولا: بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير، وقوله تعالى ثانيا: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله، فان الجملتين في مقام بيان ان المؤمنين سيغلبون اعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الامثل الاقوى، فإن الامثل والاقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق والامثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لانهم مظلومون ظلموا على قول الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه، بمعنى ان الباطل لا يقدر على ان يدحض حجة الحق إذا تقابلا، وينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة " الخ "، أي هم صادقون في قولهم الحق وحملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى: ولله عاقبه الامور، يشير به إلى عدة آيات تفيد ان الكون يسير في طريق كماله إلى الحق والصدق والسعادة الحقيقية، ولاريب أيضا في دلالة القرآن على ان الغلبة لله ولجنده البتة كما يدل عليه قوله: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " المجادلة - 21، وقوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم


(1) الابليز: الطين الذي يأتي به النيل في ايام الطغيان، والابريز الذهب الخالص المصفى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس د، وآب ريز. (*)

[ 305 ]

الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب على أمره " يوسف - 21. وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء مائا فسالت أودية بقدرها (الخ)، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع، والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإن المعنى، ونعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال اصلا، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، وكما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات والمجردات، وقد قال تعالى: " وعنت الوجوه للحي القيوم " طه - 111، وقال تعالى: " له ما في السماوات والارض كل له قانتون " البقرة - 116، وقال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شئ، وهو الواحد القهار. وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: " ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض الآية، فقد عرفت انها في مقام الاشارة إلى حقيقة يتكى عليه الاجتماع الانساني الذي به عمارة الارض، وباختلاله يختل العمران وتفسد الارض، وهي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الانسان، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن والاجتماع التعاوني، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الارض ومصونيتها عن الفساد، فينبغي ان تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الارض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين. وبعبارة أخرى واضحة: القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتناز عين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها إلى واحد أمثل، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الارض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوما، وأكل بعضهم بعضا، والدفع الذي تعمر به الارض ويصان

[ 306 ]

عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الارض وعدم فسادها من حيث أنه يحيى به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الاثر فافهم.

(بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه)

 التاريخ النقلي ونعني به ضبط الحوادث الكلية والجزئية بالنقل والحديث مما لم يزل الانسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الارض مهتما به، ففي كل عصر من الاعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه والمؤلفين فيه، وآخرون يعتورون ما ضبطه أولئك ويأخذون ما اتحفوهم به، والانسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقص والحديث والتفكه وامور اخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية وغير ذلك. وإنه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب: أحدهما: انه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة والقدرة يميل إلى اظهار ما ينفعها ويغمض عما يضرها ويفسد الامر عليها، وليس ذلك إلا ما لانشك فيه ان الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحق والصدق، فإن الفرد من الانسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأي نحو أمكن، وهذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الاوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته ويتأمل به في تاريخ الامم الماضية والبعيدة. وثانيهما: ان المتحملين للاخبار والناقلين لها والمؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من اعمال الاحساسات الباطنية والعصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها، فإن حملة الاخبار في الماضين، والحكومة في أعصارهم حكومة الدين، كانوا منتحلين بنحلة ومتدينين كل بدين، وكانت الاحساسات المذهبية فيهم قوية والعصبيات القومية

[ 307 ]

شديدة فلا محالة كانت تداخل الاخبار التاريخية من حيث اشتمالها على احكام وأقضية كما ان العصبية المادية والاحساسات القوية اليوم للحرية على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من اهل الاخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، ومن هنا انك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألف أو جمع من الاخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه اهل كل مذهب موافق لاصول مذهبه، وكذا الامر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم الا وفيه بعض التأييد للمذهب المادي. على ان هيهنا عوامل اخرى تستدعي فساد التاريخ، وهو فقدان وسائل الضبط والاخذ والتحمل والنقل والتأليف والحفظ عن التغير والفقدان سابقا وهذه النقيصة وان ارتفعت اليوم بتقارب البلاد وتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الاخبار والانتقال والتحول لكن عمت البلية من جهة اخرى وهي: ان السياسة داخلت جميع شؤن الانسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية، وبحسب تحولها تتحول الاخبار من حال إلى حال، وهذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد ان يورده مورد السقوط، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في اعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على اساس الآثار الارضية، وهذا وان سلمت عن بعض الاشكالات المذكورة كالاول مثلا، لكنها غير خالية عن الباقي، وعمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الاحساس والعصبية في الاقضية، وتصرف السياسة فيها افشائا وكتمانا وتغييرا وتبديلا، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الاصلاح أبدا. ومن هنا يظهر: ان القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنه وحي الهي منزه عن الخطأ مبرئ عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمن له يؤمنه من الكذب والخطأ، فاغلب القصص القرآنية (كنفس هذه القصة قصة طالوت) يخالف ما يوجد في كتب العهدين، ولا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الايدي فيها وبها، على ان مؤلف هذه القصة وهي قصة صموئيل وشارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلا، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ وخاصة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.

[ 308 ]

على ان القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدما يرومه كتاب، التاريخ وإنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ولذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها وجهات وقوعها، وإنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الامعان والتأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها. كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل، ثم يقول: وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا (الخ)، ثم يقول: وقال لهم نبيهم: إن آية ملكه، ثم يقول: فلما فصل طالوت (الخ)، ثم يقول فلما برزوا لجالوت، ومن المعلوم ان اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة، وقد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة وهو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع الحاجة فيها، من عبرة وموعظة وحكمة أو سنة إلهية في الايام الخالية والامم الدارجة، قال تعالى: " لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب " يوسف - 111، وقال تعالى: " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم " النساء - 26، وقال تعالى: " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات. * * * تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جائتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد - 253. يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن ياتي يوم لابيع فيه ولاخلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون - 254.

[ 309 ]

(بيان)

 سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصة بقوله تعالى: وانك لمن المرسلين الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الانبياء بعدهم، وقد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل ان يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معا. وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: ان الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والاخروية بارسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الانبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه واصول قوانينه ؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب، والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة ؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال. والذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الامم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، ولو شاء لاعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الامور على سنة الاسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.

[ 310 ]

قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، إشارة إلى فخامة امر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جئ في الاشارة بكلمة تلك الدالة على الاشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الالهي الواقع بين الانبياء عليهم السلام ففيهم من هو افضل وفيهم من هو مفضل عليه، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا ان بين الاختلافين فرقا، فإن الاختلاف بين الانبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين امم الانبياء بعدهم فإنه اختلاف بالايمان والكفر، والنفى والاثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للانبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، وفي مورد أممهم اختلفوا. ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالامر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله تعالى: ولكن الله يفعل ما يريد. وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الالهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم. وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، وكلما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضا طريا، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والاتيان بالآيات البينات لايتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والايمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى انفسهم، فهم انفسهم اوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع

[ 311 ]

آخر: " إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم " آل عمران - 19، وقد مر بيانه في قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " البقرة - 213. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الاشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به ؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين. وبالجملة القتال بين أمم الانبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الارض منها، وإصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة امر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا. قوله تعالى: منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله اعلم - ان الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى عليه السلام فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الاضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شئ فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا ان يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الاوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الاول وهو التكلم فقال تعالى: وآتينا عيسى بن مريم.

[ 312 ]

وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو ؟ فقيل المراد بمن كلم الله: موسى عليه السلام لقوله تعالى: " وكلم الله موسى تكليما " النساء - 164، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمة بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: " ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى " النجم - 10، وقيل المراد به الوحي مطلقا لان الوحي تكليم خفي، وقد سماه الله تعالى تكليما حيث قال: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية " الشورى - 51، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: منهم من كلم الله. والاوفق بالمقام كون المراد به موسى عليه السلام لان تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه إلى أن قال: قال يا موسى: انى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " الاعراف - 143، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية. وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافه الخلق كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافه للناس) السباء - 28، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الا نبياء - 107، وبجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الاحزاب - 40، وبإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب وتبيانا لكل شئ ومحفوظا من تحريف المبطلين، ومعجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة - 48، وقال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) النحل - 89، وقال تعالى: (إنانحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر - 9، وقال تعالى: (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الاسراء - 88، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم) الروم - 43، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الانبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: (سلام على نوح في العالمين) الصافات - 79، وقوله تعالى في ابراهيم عليه السلام: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات

[ 313 ]

فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) البقرة - 124، وقوله تعالى فيه (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) الشعراء - 84، وقوله تعالى في إدريس عليه السلام (ورفعناه كانا عليا) مريم - 57، وقوله تعالى في يوسف: (نرفع درجات من نشاء) يوسف - 76، وقوله في داود عليه السلام: (وآتينا داود زبورا) النساء - 163 إلى غير ذلك من مختصات الانبياء. وكذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إلى الباقين، وقيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمد، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلا محمد صلى الله عليه واله وسلم، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: أن الوجه فيه عدم سبق ذكره عليه السلام فيمن ذكر من الانبياء في هذه الايات. والذي ينبغى أن يقال: أنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الانبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل عليهم السلام وشمول البعض في قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات: لكل من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة. وما قيل: أن الاسلوب يقتضي كون المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لان السياق في بيان العبرة للامم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى: " لا نفرق بين احد منهم " البقرة - 136، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان

[ 314 ]

ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك اصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

(كلام في الكلام)

 ثم إن قوله تعالى: منهم من كلم الله، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقا حقيقيا أو اطلاقا مجازيا، فالبحث في المقام من جهتين: الجهة الاولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم التي تخفى على ادراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الالهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى ادراك الانسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الافكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الانساني بروح القدس والروح الامين، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن، والافكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيئ العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا. فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل الينا من بيانات الانبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشك فيه الامكابر متعسف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الالهية من غير استثناء إلى المادية المحضد النافية لكل ما وراء المادة، وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز. ففي مورد التكليم الالهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا. توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:

[ 315 ]

" وكلم الله موسى تكليما " النساء - 163، وقوله تعالى: " منهم من كلم الله الآية، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى: " وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " الشورى - 51، فإن الاستثناء في قوله تعالى: الاوحيا " الخ "، لايتم الا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: ان يكلمه الله، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد اصل التكليم حقيقة غير منفي عنه. والذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الانسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، ومنها التكلم، وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إلى الدلالد على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الاصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلامن جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالانسان محتاج إلى التكلم من جهة انه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الالفاظ والاصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الانسان في حياته الحاضرة، ولذلك ايضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية. ومن هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالاصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شئ من جنس الصوت، (على ما نحسب) واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم انسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا. فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية

[ 316 ]

الوضعية فانه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحد أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى - 11. لكنه سبحانه فيما مر من قوله: " وما كان لبشر ان يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " الشورى - 51، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الالهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الاثر والغاية يبقى المحدود في الامور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الانسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدم بيانه. فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بين لنا اجمالا انه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه ان هذا الذي يسميه كلاما يكلم به انبيائه ما حقيقته ؟ وكيف يتحقق ؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة والقائها في ذهن السامع. وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالاحياء والاماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات ! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر اليك قال لن تراني " الاعراف - 143، وقال تعالى " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " مريم - 9، وقال تعالى: " فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " البقرة - 243، وقال تعالى: " نحن نرزقكم وإياهم " الانعام - 151، وقال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " ثم تاب عليهم ليتوبوا " التوبة - 118، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الافعال كالخلق والاماتة والاحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء.

[ 317 ]

فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، والبحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه. واعلم: ان الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الانسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: " وكلمته ألقاها إلى مريم " النساء - 171، اريد به نفس الانسان، وقال تعالى: " وكلمة الله هي العليا " التوبة - 41، وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " الانعام - 155، وقال تعالى: " ما نفدت كلمات الله " لقمان - 27، وقد اريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الاشارة إليه. وأما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الانسان وغيره فقال تعالى في مورد الانسان: " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك " طه - 117، وقال تعالى في مورد الملائكة: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " البقرة - 30، وقال أيضا: " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين " ص - 71، وقال في مورد ابليس " قال يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي " ص - 75، وقال تعالى في غير مورد أولي العقل: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " فصلت - 11، وقال تعالى: " قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على ابراهيم " الانبياء - 69، وقال تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي مائك وياسماء أقلعي " هود - 44، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون) يس - 82، وقوله تعالى: (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " مريم - 35. والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالانسان مثلا، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وادراك بالمعنى المعهود عندنا كالارض والسماء، وحيث ان الآيتين الاخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات) ان القول منه تعالى ايجاد امر يدل على المعنى المقصود. فأما في التكوينيات فنفس الشئ الذي أوجده تعالى وخلقه هو شئ مخلوق

[ 318 ]

موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم انه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشئ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الايجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ. وأما في غير التكوينيات كمورد الانسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الانسان بأن كذا كذا، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الاجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام. وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، وهي ان الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الاشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) ان الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الامور الاعتبارية. ويظهر من ذلك: ان ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والاصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الانسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت. وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) النمل - 18،

[ 319 ]

وقال تعالى: (فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) النمل - 22، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) النحل - 68. وهناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك " النساء - 163، والالهام، قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها " الشمس - 8، والنبأ، قال تعالى: (قال نبأني العليم الخبير) التحريم - 3، والقص، قال تعالى: (يقص الحق) الانعام - 57، والقول في جميع هذه الالفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الامر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى انشاء الله. واما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الالفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الالهي في مورد بيان تفضيل الانبياء وتشريفهم كلاما لان العناية هناك انما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الامر الالهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولا كقوله تعالى: (قال الحق والحق اقول لاملان) ص - 85، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الانبياء ولذلك عبر في موردهم عليهم السلام بالوحي كقوله: (انا أوحينا اليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك الآية) النساء - 163. الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت ان مفردات اللغه انما انتقل الانسان إلى معانيها ووضع الالفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الامور الجسمانية ابتدائا ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، وهذا وان اوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتدائا لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم

[ 320 ]

الانسان في المدنية والحضارة، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، والتبدل فيها دائما مع بقاء الاسماء فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الاغراض المرتبة وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لامكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الانسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شئ من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلا ان الغاية والغرض من السراج أعني الاثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، وهو الاستضائة، ونحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة ولا نعرفها الا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصة والاثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل، وان تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الاثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغير، وقلما يوجد اليوم في الامور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي ألوف والوف - شئ لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الاثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الاول الذي وضع له. وفي اللغات شئ كثير من القسم الاول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير. فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الاثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي. فظهر من جميع ما بيناه: ان إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما ان سائر الالفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والارادة والاعطاء كذلك. واعلم: ان القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: ورفع بعضهم درجات،

[ 321 ]

من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: ان ما اشتملت عليه هذه البيانات امور اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الانسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك، فلزمهم ان يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي إن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطرارا - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية ومبعوثا عن الشعور الوهمي كالانسان الواقع في عالم المادة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلا ان تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات. قوله تعالى: وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر. والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: ان ما ذكره له عليه السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " الحديد - 25، وقال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ان انذروا " النمل - 2، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الاكمه والابرص، والاخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى عليه السلام وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم انها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا، على ان في اسم عيسى عليه السلام خاصة اخرى وآية بينة وهي

[ 322 ]

انه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " الانبياء - 91، فمجموع الابن والام آية بينة إلهية وفضيلة اختصاصية اخرى. قوله تعالى: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جائتهم البينات، العدول إلى الغيبة ثانيا لان المقام مقام إظهار ان المشية والارادة الربانية غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الالهية، وبالجملة وصف الالوهئ هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها بطرفي الايجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهية للذكر فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا، وقوله: ولكن الله يفعل ما يريد وهو الوجه ايضا في العدول عن الاضمار إلى الاظهار. قوله تعالى: ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لانه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: ان الاختلاف بالايمان والكفر وسائرالمعارف الاصلية المبينة في كتب الله النازلة على انبيائه انما حدث بين الناس بالبغى، وحاشا ان ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم. قوله تعالى: ولو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الاسباب. ومحصل معنى الآية والله العالم: ان الرسل التي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد اتوا للناس بآيات بينات اظهروا بها الحق كل الاظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان، وكان لازمه ان لا ينساق الناس بعدهم الا إلى الوحدة والالفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لاعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ وأجرى هذا

[ 323 ]

السبب كسائر الاسباب والعلل على سنة الاسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والايجاد، والله يفعل ما يريد. قوله تعالى: يا ايها الذين آمنوا انفقوا " الخ "، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على ان الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم.

(بحث روائي)

 في الكافي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا " الخ "، في هذا ما يستدل به على ان اصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر. وفي تفسير العياشي عن اصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفا مع امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما نقاتلهم ؟ ! فقال عليه السلام: على هذه الآية " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - فنحن الذين من بعدهم - ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل - رحمه الله -. أقول: وروي هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره، والرواية تدل على انه عليه السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الاعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان انه عليه السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من اصحاب الجمل واصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا انه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كان عليه السلام يقول: اقاتلهم على التأويل دون التنزيل. وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على ان البينات التي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم انفسهم فوقوع

[ 324 ]

الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الانساني الذي لا يخلو عن البغى والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: " وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا ولو لاكلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يونس - 19، وقوله تعالى: " كان الناس امة واحدة - إلى أن قال -: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " البقرة - 213، وقوله تعالى: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك " هود - 119، كل ذلك يدل على ان الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الانبياء بعدهم مما لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الامة: " ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " البقرة - 214، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " الفرقان - 30، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك. واما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الاخبار يدل على ان الصحابة انفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة، من غير ان يستثنوا انفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب. وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور، قلت: - جعلت فداك - فلم يزل متكلما ؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام. وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا عليه السلام فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما اسألك عن هذا اللسان فقال: أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شئ ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف ؟ قال:

[ 325 ]

كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الامر والنهى من غير تردد في نفس - الخبر -. وفي نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام: متكلم لابروية، مريد لابهمة، الخطبة. وفي النهج أيضا في خطبة له عليه السلام: الذي كلم موسى تكليما، وأراه من آياته عظيما، بلا جوارح ولا ادوات ولا نطق ولالهوات، الخطبة. اقول: والاخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة على ان كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات. (بحث فلسفي) ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا وكلاما وهو نقل الانسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم، قالوا: وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، واما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الانسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لاازيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام. فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، وكذا الاشارة الوافية لارائه المعنى كلام كما ان إشارتك بيدك: ان اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علته الفياضة،

[ 326 ]

وكل مجموع منها، ومجموع العالم الامكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال اسمائه وصفاته، فكما انه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الاسماء والصفات والعالم كلامه. بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالاخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشئ بنحو الاصالة إلا لله وبالله سبحانه، فكل شئ دلالته على بارئه وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشئ الدال، وعلى دلالته لغيره. فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والايجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال. اقول: ما نقلنا على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي اثبته الكتاب والسنة هو امثال قوله تعالى: منهم من كلم الله، وقوله: وكلم الله موسى تكليما، وقوله: قال الله يا عيسى، وقوله: وقلنا يا آدم، وقوله: إنا أوحينا اليك، وقوله: نبأني العليم الخبير، ومن المعلوم ان الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شئ من هذه الموارد. واعلم ان بحث الكلام من اقدم الابحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين (وبذلك سمي علم الكلام به) وهي ان كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث ؟ ذهبت الاشاعرة إلى القدم غير انهم فسروا الكلام بان المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، واما الكلام اللفظي وهو الاصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة. وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير انهم فسروا الكلام بالالفاظ الدالة على المعنى

[ 327 ]

التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: واما المعاني النفسية التي تسميه الاشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية وليست بالكلام. وبعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، وإن أريد به امر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد ورائها شيئا بالوجدان، هذا. وربما امكن ان يورد عليه بجواز ان يكون شئ واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو ازيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز ان تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع، وكلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير ؟ اقول: والذي يحسم مادة هذا النزاع من اصله ان وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى اخذناه اي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات واجماليا بالغير، أو أخذ علما تفصيليا بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أخذ علما تفصيليا قبل الايجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الايجاد وبعد الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي. والذي ذكروه وتنازعوا عليه انما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد اقمنا البرهان في محله: ان المفاهيم والماهيات لاتتحقق الا في ذهن الانسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الاعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والاحساسات الباطنة. وبالجملة فالله سبحانه اجل من ان يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات الاعتبارية مما لاملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، ومعرضا لحدوث الحوادث، وكلامه محتملا للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدس. واما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الالفاظ فسيجئ إنشاء الله بيانه في موضع يليق به.

[ 328 ]

* * * الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم - 255.

(بيان)

 قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، وانه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح. وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلا هو، في قوله تعالى: " وإلهكم إله واحد " البقرة - 163، وضمير هو وان رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث انه ذات وان كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالاطلاق إليها، فقوله: لا اله الا هو، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله. واما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات. والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالاحجار وسائر الجمادات، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وافعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، وذلك كالانسان وسائر اقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وافعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، وبذلك أذعن الانسان بان هناك وراء الحواس امرا آخر هو المبدأ للاحساسات والادراكات العلمية والافعال المبتنية على العلم والارادة

[ 329 ]

وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة. وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: " اعلموا ان الله يحيى الارض بعد موتها " الحديد - 17، وقال تعالى: " إنك ترى الارض خاسعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى " فصلت - 39، وقال تعالى: " وما يستوي الاحياء ولا الاموات " الفاطر - 22، وقال تعالى: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " الانبياء - 30، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الانسان والحيوان والنبات. وكذلك القول في اقسام الحياة، قال تعالى: " ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها " يونس - 7، وقال تعالى: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11، والاحيائان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، والثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام. والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " الرعد - 26، وقوله تعالى: " تبتغون عرض الحياة الدنيا " النساء - 94، وقوله تعالى: " تريد زينة الحياة الدنيا " الكهف - 28، وقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " الانعام - 32، وقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلامتاع الغرور " الحديد - 20، فوصف الحياة الدنيا بهذه الاوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره، وعدها عرضا والعرض ما يعترض ثم يزول، وعدها زينة والزينة هو الجمال الذي يضم على الشئ ليقصد الشئ لاجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع، وعدها لهوا واللهو ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لاحقيقية، وعدها متاع الغرور وهو ما يغر به الانسان. ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64، يبين ان الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها، وهي الحياة التي لاموت بعدها، قال تعالى: " آمنين لا يذوقون فيها

[ 330 ]

الموت إلا الموتة الاولى " الدخان - 56، وقال تعالى: لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد " ق - 35، فلهم في حياتهم الآخرة أن لايعتريهم الموت، ولايعترضهم نقص في العيش وتنغص، لكن الاول من الوصفين أعني الامن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له. فالحياة الاخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات اخر كثيرة انه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الاخروية والمحيي للانسان في الآخرة، وبيده تعالى أزمة الامور، فأفاد ذلك ان الحياة الاخروية أيضا مملوكة لامالكة ومسخرة لا مطلقة أعني انها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها. ومن هنا يظهر ان الحياة الحقيقية يجب ان تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولاطارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته، قال تعالى: " وتوكل على الحي الذي لا يموت " الفرقان - 58، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات. ومن هنا يعلم: ان القصر في قوله تعالى: " هو الحي لا إله إلا هو " قصر حقيقي غير إضافي، وان حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولايعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى. فالاوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية، وكذا في قوله تعالى: " الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " آل عمران - 1، ان يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لان التقدير، الله الحي فالآية تفيد ان الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره. واما اسم القيوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة والقيام هو حفظ الشئ وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها. وقد اثبت الله تعالى اصل القيام بامور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى:

[ 331 ]

" أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الرعد - 33، وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة -: " شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " آل عمران - 18، فأفاد انه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئا في الوجود (وليس الوجود إلا الاعطاء والمنع) الا بالعدل بإعطاء كل شئ ما يستحقه ثم بين ان هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شئ وبحكمته يعدل فيه. وبالجملة لما كان تعالى هو المبدء الذي يبتدى منه وجود كل شئ وأوصافه وآثاره لامبدء سواه الا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شئ من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قط الا بإذنه بوجه، فليس له تعالى الا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره الا ان يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، وحصره على القيام، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله (الله القيوم)، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة ولا نوم. وقد ظهر من هذا البيان ان اسم القيوم ام الاسماء الاضافية الثابتة له تعالى جميعا وهي الاسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدأ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها. قوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في اول النوم، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه. وقد أورد على قوله: سنة ولا نوم انه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي، والترقي في الاثبات انما هو من الاضعف إلى الاقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، وفلان يجود بالمئات بل بالالوف وفي النفي بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين ولاعشرة، ولا يجود بالالوف ولا بالمئات، فكان ينبغي ان يقال: لا تأخذه نوم ولاسنة. والجواب: ان الترتيب المذكور لا يدور مدار الاثبات والنفي دائما كما يقال:

[ 332 ]

فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي وهي مختلفة بحسب الموارد، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا وأضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك ان ينفى تأثير السنة وأخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو اقوى منه تأثيرا، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في امره ولاما هو أقوى منه. قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الارض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات والارض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما ان التوحيد التام في الالوهية لا يتم الا بالقيومية، ولذلك ألحقها بها ايضا. وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الارض، مع قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، وقوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مع قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء. فأما قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الارض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى (بالكسر) للموجودات وملكه تعالى (بالضم) لها، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الاوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: له ما في السماوات وما في الارض، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار. وقد تم بقوله: القيوم لا تأخذه سنة ولانوم له ما في السماوات وما في الارض ان السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا وهو له ومنه، فيقع من ذلك في الوهم انه إذا كان الامر على ذلك فهذه الاسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها ؟ وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه ؟ فاجيب بأن تصرف هذه العلل والاسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف، وبعبارة اخرى شفاعد في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، والشفاعة - وهي بنحو توسط في ايصال الخير أو دفع الشر، وتصرف ما

[ 333 ]

من الشفيع في امر المستشفع - انما تنافي السلطان الالهي والتصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته إلى اذن الله، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما من سبب من الاسباب ولا علة من العلل الا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله، فتأثيره وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود الا سلطانه ولا قيومية الا قيوميته المطلقة عز سلطانه. وعلى ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الاسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية وهي توسط الاسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: " واتقوا يوما لاتجزي نفس عن نفس شيئا " البقرة - 48، وذلك ان الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة. فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه " يونس - 3، وقوله تعالى: الله الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " الم السجدة - 4، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة ان حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الاسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لايصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة، قال تعالى: " يسأله من في السماوات والارض كل يوم هو في شأن " الرحمن - 29، وقال تعالى: " وآتيكم من كل ما سئلتموه " ابراهيم - 34، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: " وإذا سألك عبادي عني " البقرة - 186. قوله تعالى: يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بل عباد

[ 334 ]

مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " الانبياء - 28، فالظاهر ان ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين ايديهم وما خلفهم كناية عن كمال احاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسط المأذون فيه على انفاذ امر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه، ولا يقدر غيرهم ايضا ان يستفيد سوئا من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره. وإلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: وما نتنزل الا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم - 64، وقوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد ابلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " الجن - 28، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة والانبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده، ولا يتنزلوا إلا بأمره، ولا يبلغوا إلا ما يشائه. وعلى ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، وبما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، ويؤل المعنى إلى الشهادة والغيب. وبالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، تبيينا لتمام الاحاطة الربوبية والسلطة الالهية أي إنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء. ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله " هم " في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من ان الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية، وأن الشفعاء هم مطلق العلل والاسباب، وذلك لان الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها انها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة. وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: " وان من شئ ألا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الا سراء - 44، وقوله تعالى: " ثم

[ 335 ]

استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها ولارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " فصلت - 11، إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير وكماله، فإن من كمال التدبير أن المدبر (بالفتح) بما يريده المدبر (بالكسر) من شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر (بالكسر) تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، وفي أين نزلوا، وإلى أين يقصد بهم. فيبين تعالى بهذه الجملة ان التدبير له وبعلمه بروابط الاشياء التي هو الجاعل لها، وبقية الاسباب والعلل وخاصة أولوا العلم منها وإن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى وبمشيته وإرادته، فهو من شئون العلم الالهي، وما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الالهي وانحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته ألا وهو بعض التدبير. وفي قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، على تقدير ان يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على ان العلم كله لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلا وهو شئ من علمه تعالى، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى، قال تعالى: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ان القوة لله جميعا " البقرة - 165، وقال تعالى: " أيبتغون عندهم العزة فإن العزه لله جميعا " النساء - 139، وقال تعالى: " هو الحي لا اله الا هو " المؤمن - 65، ويمكن ان يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله: " انه هو العليم الحكيم " يوسف - 83، وقوله تعالى: " والله يعلم وانتم لا تعلمون " آل عمران - 66، إلى غير ذلك من الآيات، وفي تبديل العلم بالاحاطة في قوله: ولا يحيطون بشئ من علمه، لطف ظاهر. قوله تعالى: وسع كرسيه السموات والارض، الكرسي معروف وسمي به لتراكم بعض اجزائه بالصناعة على بعض، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال: كرسي

[ 336 ]

الملك، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته. وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السموات وما في الارض " الخ "، تفيد ان المراد بسعة الكرسي احاطة مقام السلطنة الالهية، فيتعين للكرسي من المعنى: انه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السموات والارض من حيث انها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، ويتعين للسعة من المعنى: انها حفظ كل شئ مما في السموات والارض بذاته وآثاره، ولذلك ذيله بقوله: ولا يؤده حفظهما. قوله تعالى: ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، يقال: آده يؤده أودا إذا ثقل عليه واجهده واتعبه، والظاهر ان مرجع الضمير في يؤده، هو الكرسي وإن جاز رجوعه إليه تعالى، ونفي الاود والتعب عن حفظ السموات والارض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفى السنة والنوم في القيومية على ما في السموات والارض. ومحصل ما تفيده الآية من المعنى: ان الله لا إله إلا هو له كل الحياة وله القيومية المطلقة من غير ضعف ولافتور، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده وفتورا في أمره، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السموات والارض، وجملة: وهو العلي العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، وهذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق، فإن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى، واما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى، فيسقط السموات والارض عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك ؟ قال: آية الكرسي، ما السموات السبع والارضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال: وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة. اقول: وروي صدر الرواية السيوطي في الدر المنثورعن ابن راهويه في مسنده

[ 337 ]

عن عوف بن مالك عن أبي ذر، ورواه ايضا عن أحمد وابن الضريس والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابي ذر. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي. اقول: وروي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي، قال: قال رجل: يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، الحديث. اقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الاسلام حتى في زمان حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن ائمة اهل البيت عليهم السلام وعن الصحابة. وليس إلا للاعتناء التام بها وتعظيم أمرها، وليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى ورقته ولطفه، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله: الله لا إله إلا هو، ومعنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الاسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه، وتفصيل جريان القيومية في ما دق وجل من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الالهية فهو من حيث انه خارج منها داخل فيها، ولذلك ورد فيها انها اعظم آية في كتاب الله، وهو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى، " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " طه - 8، وإن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، ولذا ورد في بعض الاخبار ان آية الكرسي سيدة آي القرآن رواها في الدر المنثور عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وورد في بعضها ان لكل شئ ذروة وذروة القرآن آية الكرسي، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام. وفي أمالي الشيخ بإسناده عن ابي امامة الباهلي: انه سمع علي بن أبي طالب

[ 338 ]

عليه السلام يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الاسلام أو ولد في الاسلام يبيت ليلة سوادها. قلت: وما سوادها ؟ قال: جميعها حتى يقرء هذه الآية: الله لا إله إلا هو الحي القيوم فقرء الآية إلى قوله: ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله الا قرئتها، الحديث. اقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور عن عبيد وابن ابي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس عنه عليه السلام، ورواه أيضا عن الديلمي عنه عليه السلام، والروايات من طرق الشيعة واهل السنة في فضلها كثيرة، وقوله عليه السلام: ان رسول الله قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى ايضا في الدر المنثور عن البخاري في تاريخه وابن الضريس عن انس ان النبي قال: أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، فيه اشارة إلى كون الكرسي تحت العرش ومحاطا له وسيأتي الكلام في بيانه. وفي الكافي عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وسع كرسيه السماوات والارض، السماوات والارض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والارض ؟ فقال عليه السلام: إن كل شئ في الكرسي. اقول: وهذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال والجواب وهو بظاهره غريب، إذ لم يرو قرائة كرسيه بالنصب والسماوات والارض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال، والظاهر انه مبني على ما يتوهمه الافهام العامية ان الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة (أعني فوق عالم الاجسام) منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات والارض وسعته إذ كان موضوعا عليها كهيئة الكرسي على الارض، فيكون معنى السؤال ان الانسب ان السماوات والارض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها ؟ وقد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فاجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الاجسام لبعض. وفي المعاني عن حفص بن الغياث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز

[ 339 ]

وجل: وسع كرسيه السموات والارض، قال: علمه. وفيه ايضا عنه عليه السلام في الآية السموات والارض وما بينهما في الكرسي، والعرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره. أقول: ويظهر من الروايتين: ان الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره، وفي معناهما روايات اخرى. وكذا يظهر منهما ومما سيجئ: ان في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني ان فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها امور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية، والتعينات الوجودية التي لوجوداتنا، وهي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي إن وجودها عين العلم، كما ان الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي إن وجودها نفس علمه تعالى بها وحضورها عنده، ولعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى: " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات ولا في الارض " يونس - 61. وما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله عليه السلام في الرواية، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، ومن المعلوم ان عدم التقدير والتحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير متناه، وكل عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، ولو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه ايضا علما وإن كان محدودا، بل عدم التناهي والتقدير انما هو من جهة كمال الوجود اي ان الحدود والقيود الوجودية يوجب التكثر والتميز والتمايز بين موجودات عالمنا المادي، فتوجب انقسام الانواع بالاصناف والافراد، والافراد بالحالات، والاضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21، وسيجئ تمام الكلام فيه إنشاء الله تعالى. وهذه الموجودات كما انها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها وهذا

[ 340 ]

هو الكرسي على ما يستظهر. وربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، حيث جعل المعلوم: ما بين أيديهم وما خلفهم، وهما أعني ما بين الايدي وما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية ونحوها، وليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة ولا مقدرة وإلا لم يصح الاستثناء من الاحاطة في قوله تعالى: ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الاحاطة ببعض ما فيه فهو مرحلة العلم بالمحدودات والمقدرات من حيث هي محدودة مقدرة والله اعلم. وفي التوحيد عن حنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي فقال عليه السلام إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب وصنع في القرآن صفة على حدة، فقوله: رب العرش العظيم يقول: رب الملك العظيم، وقوله: الرحمن على العرش استوى، يقول على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الاشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لانهما بابان من اكبر ابواب الغيوب، وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنه الاشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والمشية وصفة الارادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لان ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: رب العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسي، وهما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال عليه السلام: إنه صار جارها لان علم الكيفوفية فيه، وفيه الظاهر من ابواب البداء وإنيتها وحد رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما لانه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز. إقول: قوله عليه السلام: لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالا، فمرتبه العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود

[ 341 ]

مما لا قدر له ولا حد، وسيجئ شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات " الاعراف - 54، وقوله عليه السلام: وبمثل صرف العلماء، إشارة إلى ان هذه الالفاظ من العرش والكرسي ونظائرها امثال مصرفة مضروبة للناس وما يعقلها إلا العالمون. وفي الاحتجاج عن الصادق عليه السلام: في حديث: كل شئ خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه اعظم من ان يحيط به الكرسي. اقول: وقد تقدم توضيح معناه، وهو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الاخبار ان العرش هو العلم الذي اطلع الله عليه انبيائه ورسله، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه احدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق عليه السلام كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش والكرسي، أو انه مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة. وفي تفسير العياشي عن علي عليه السلام قال: ان السماء والارض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله. اقول: ورواه الصدوق عن الاصبغ بن نباتة عنه عليه السلام، ولم يرو عنهم عليهم السلام للكرسي حملة الا في هذه الرواية، بل الاخبار انما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله تعالى كما قال: " الذين يحملون العرش ومن حوله الآية " المؤمن - 7، وقال تعالى، " يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " الحاقة - 17، ويمكن ان يصحح الخبر بأن الكرسي - كما سيجئ بيانه - يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشئ بباطنه. وبذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر. وفي تفسير العياشي ايضا عن معوية بن عمار عن الصادق عليه السلام قال: قلت: من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه قال: نحن أولئك الشافعون. اقول: ورواه البرقي ايضا في المحاسن، وقد عرفت ان الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية والتشريعية معا، فتشمل شفاعتهم عليهم السلام، فالرواية من باب الجري.

[ 342 ]

* * * لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم - 256. الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 257.

(بيان)

 قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى، الاكراه هو الاجبار والحمل على الفعل من غير رضى، والرشد بالضم والضمتين: إصابة وجه الامر ومحجة الطريق ويقابله الغى، فهما أعم من الهدى والضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل وعدمها على ما قيل، والظاهر ان استعمال الرشد في اصابة محجة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإن اصابة وجه الامر من سالك الطريق ان يركب المحجة وسواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق اصابة وجه الامر، فالحق ان معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر وهو ظاهر، قال تعالى: " فإن آنستم منهم رشدا " النساء - 6، وقال تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل " الانبياء - 51، وكذلك القول في الغي والضلال، ولذلك ذكرنا سابقا: ان الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية والمقصد، والغى هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الانسان الغوي ماذا يريد وماذا يقصد. وفي قوله تعالى: لا اكراه في الدين، نفى الدين الاجباري، لما أن الدين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، والاعتقاد والايمان من الامور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والاجبار، فإن الاكراه انما يؤثر في

[ 343 ]

الاعمال الظاهرية والافعال والحركات البدنية المادية، وأما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب اخرى قلبية من سنخ الاعتقاد والادراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: لا اكراه في الدين، ان كان قضية اخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الاكراه على الدين والاعتقاد، وان كان حكما انشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد من الغي، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد والايمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي التي مر بيانها أن الاكراه انما يعمل ويؤثر في مرحلة الافعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. وقد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، وهو في مقام التعليل فإن الاكراه والاجبار إنما يركن إليه الآمر الحكيم والمربي العاقل في الامور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور وردائة ذهن المحكوم، أو لاسباب وجهات اخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالاكراه أو الامر بالتقليد ونحوه، وأما الامور المهمة التي تبين وجه الخير والشر فيها، وقرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها وتركها فلا حاجة فيها إلى الاكراه، بل للانسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين لما انكشفت حقائقه واتضح طريقه بالبيانات الالهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد والرشد في اتباعه، والغي في تركه والرغبة عنه، وعلى هذا لا موجب لان يكره أحد أحدا على الدين. وهذه احدى الآيات الدالة على أن الاسلام لم يبتن على السيف والدم، ولم يفت بالاكراه والعنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين وغيرهم أن الاسلام دين السيف واستدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين. وقد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال وذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الاسلام ليس لغاية احراز التقدم وبسط الدين بالقوة والاكراه، بل لاحياء الحق والدفاع عن أنفس متاع للفطرة وهو التوحيد، وأما بعد انبساط التوحيد بين الناس وخضوعهم لدين النبوة ولو بالتهود والتنصرفلا نزاع لمسلم مع موحد ولا جدال، فالاشكال ناش عن عدم التدبر. ويظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله: لاإكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف

[ 344 ]

كما ذكره بعضهم. ومن الشواهد على أن الاية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله: قد تبين الرشد من الغي، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باق ببقاء سببه، ومعلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الاسلام امر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا، أو قوله: وقاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا وبعبارة اخرى الآية تعلل قوله: لا اكراه في الدين بظهور الحق، هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال وبعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير منسوخ. قوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " الخ "، الطاغوت هو الطغيان والتجاوز عن الحد ولا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت والجبروت، ويستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالاصنام والشياطين والجن وائمة الضلال من الانسان وكل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه، ويستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد والتثنية والجمع. وإنما قدم الكفر على الايمان في قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ليوافق الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لان الاستمساك بشئ إنما يكون بترك كل شئ والاخذ بالعروة، فهناك ترك ثم أخذ، فقدم الكفر وهو ترك على الايمان وهو اخذ ليوافق ذلك، والاستمساك هو الاخذ والامساك بشدة، والعروة: ما يؤخذ به من الشئ كعروة الدلو وعروة الاناء، والعروة هي كل ماله أصل من النبات وما لا يسقط ورقه، وأصل الباب التعلق يقال: عراه واعتريه اي تعلق به. والكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أن الايمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الاناء بالنسبة إلى الاناء وما فيه، فكما لا يكون الاخذ أخذا مطمئنا حتى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقية لا يستقر

[ 345 ]

أمرها ولا يرجى نيلها إلا أن يؤمن الانسان بالله ويكفر بالطاغوت. قوله تعالى: لا انفصام لها والله سميع عليم، الانفصام: الانفصام والانكسار، والجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى، ثم عقبه بقوله: والله سميع عليم، لكون الايمان والكفر متعلقا بالقلب واللسان. قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم إلى آخر الآية، قد مر شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور الى الظلمات، وقد بينا هناك أن هذا الاخراج وما يشاكله من المعاني امور حقيقية غير مجازية خلافا لما توهمه كثير من المفسرين وسائر الباحثين أنها معان مجازية يراد بها الاعمال الظاهرية من الحركات والسكنات البدنية، وما يترتب عليها من الغايات الحسنة والسيئة، فالنور مثلا هو الاعتقاد الحق بما يرتفع به ظلمة الجهل وحيره الشك واضطراب القلب، والنور هو صالح العمل من حيث ان رشده بين، وأثره في السعادة جلي، كما ان النور الحقيقي على هذه الصفات. والظلمة هو الجهل في الاعتقاد والشبهة والريبة وطالح العمل، كل ذلك بالاستعارة. والاخراج من الظلمة إلى النور الذي ينسب إلى الله تعالى كالاخراج من النور إلى الظلمات الذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الاعمال والعقائد، فليس وراء هذه الاعمال والعقائد، لا فعل من الله تعالى وغيره كالاخراج مثلا ولا أثر لفعل الله تعالى وغيره كالنور والظلمة وغيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسرين والباحثين. وذكر آخرون: ان الله يفعل فعلا كالاخراج من الظلمات إلى النور وإعطاء الحياة والسعة والرحمة وما يشاكلها ويترتب على فعله تعالى آثار كالنور والظلمة والروح والرحمة ونزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا ولا يسعها مشاعرنا، غير أنا نؤمن بحسب ما أخبر به الله - وهو يقول الحق - بأن هذه الامور موجودة وأنها أفعال له تعالى وإن لم نحط بها خبرا، ولازم هذا القول أيضا كالقول السابق أن يكون هذه الالفاظ أعني أمثال النور والظلمة والاخراج ونحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، وإنما الفرق بين القولين أن مصاديق النور والظلمة ونحوهما على القول الاول نفس أعمالنا وعقائدنا، وعلى القول الثاني امور خارجة عن اعمالنا وعقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، ولا طريق إلى نيلها والوقوف عليها. والقولان جميعا خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط والمفرط، والحق في

[ 346 ]

ذلك أن هذه الامور التي أخبر الله سبحانه بإيجادها وفعلها عند الطاعة والمعصية إنما هي امور حقيقية واقعية من غير تجوز غير انها لا تفارق أعمالنا وعقائدنا بل هي لوازمها التي في باطنها، وقد مر الكلام في ذلك، وهذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه وإضلال الطاغوت، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين: أحدهما كون النور والظلمة وما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له وثانيهما: أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق وواقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلا في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز ؟ وعلى أي حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات كنايتان عن الهداية والاضلال، وإلا لزم أن يكون لكل من المؤمن والكافر نور وظلمة معا، فإن لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور ان يكون قبل الايمان في ظلمة وبالعكس في الكافر، فعامة المؤمنين والكفار - وهم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفارا فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، وإن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور وظلمة معا وهذا كما ترى. لكن يمكن أن يقال: إن الانسان بحسب خلقته على نورالفطرة، هو نور إجمالي يقبل التفصيل، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والاعمال الصالحة تفصيلا فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره، والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما، والمؤمن بايمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلا، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية، والاتيان بالنور مفردا وبالظلمات جمعا في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للاشارة إلى ان الحق واحد لا اختلاف فيه كما ان الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى: " وإن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم " الانعام - 153.

(بحث روائي)

في الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في

[ 347 ]

ناسخه وابن منده في غرائب شعبه وابن حبان وابن مردويه والبيهقي في سننه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كانت المرئة من الانصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد ان تهوده، فلما اجليت بنوا النضير كان فيهم من ابناء الانصار فقالوا: لا ندع أبنائنا فأنزل الله لا اكراه في الدين. اقول: وروي أيضا هذا المعنى بطرق اخرى عن سعيد بن جبير وعن الشعبي. وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالا من الاوس، فلما أمر النبي صلى اللهعليه وآله وسلم بإجلائهم، قال أبنائهم من الاوس: لنذهبن معهم ولندينن دينهم، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا اكراه في الدين. اقول: وهذا المعنى أيضا مروي بغير هذا الطريق، وهو لا ينافي ما تقدم من نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم. وفيه أيضا: أخرج ابن اسحق وابن جرير عن ابن عباس: في قوله: لا اكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الانصارمن بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: قال: النور آل محمد و الظلمات أعدائهم. اقول: وهو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل. * * * ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتيه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين - 258. أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مأة عام ثم بعثه قال كم لبثت

[ 348 ]

قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير - 259. وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزء ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم - 260.

(بيان)

 الآيات مشتملة على معنى التوحيد ولذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها. قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لاثبات المدعي أو لابطال ما يقابله، واصل الحجة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به اثبات دعوى من الدعاوي، وقوله: في ربه متعلق بحاج، والضمير لابراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال ابراهيم ربي الذي يحيى ويميت، وهذا الذي حاج ابراهيم عليه السلام في ربه هو الملك الذي كان يعاصره وهو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ والرواية. وبالتأمل في سياق الآية، والذي جرى عليه الامر عند الناس ولا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما. بيان ذلك: ان الانسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثرة فيه، وهذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن اطوار الامم الخالية المتأمل في

[ 349 ]

حال الموجودين من الطوائف المختلفة، وقد بينا ذلك فيما مر من المباحث. وهو بفطرته يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين والتدبير، وقد مر أيضا بيانه، وهذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الانسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الانبياء وتعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون والماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الانسان إنسانا وإن قبلت الغفلة والذهول. لكن الانسان الاولى الساذج لما كان يقيس الاشياء إلى نفسه، وكان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه وأعضائه المختلفة، وكذا الافعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، وكذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة وان كانت جميع الازمة تجتمع عند الصانع الذي. يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لانواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الانواع كرب الارض ورب البحار ورب النار ورب الهواء والارياح وغير ذلك، وتارة كان يثبته باسم الكواكب وخاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر والمواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صورا وتماثيل لتلك الارباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم ويكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة والممات. ولذلك كانت الاصنام مختلفة بحسب اختلاف الامم والاجيال لان الآراء كانت مختلفة في تشخيص الانواع المختلفة وتخيل صور أرباب الانواع المحكية باصنامها، وربما لحقت بذلك أميال وتهوسات أخرى. وربما انجر الامر تدريجا إلى التشبث بالاصنام ونسيان اربابها حتى رب الارباب لان الحس والخيال كان يزين ما ناله لهم، وكان يذكرها وينسى ما ورائها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك انما كان منهم لانهم كانوا يرون لهذه الارباب تأثيرا في شؤن حياتهم بحيث تغلب ارادتها ارادتهم، وتستعلي تدبيرها على تدبيرهم. وربما كان يستفيد بعض اولي القوة والسطوة والسلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم

[ 350 ]

ذلك ونفوذ أمره في شؤون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام ويدعي الالوهية كما ينقل عن فرعون ونمرود وغيرهما، فيسلك نفسه في سلك الارباب وإن كان هو نفسه يعبد الاصنام كعبادتهم، وهذا وإن كان في بادء الامر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره ونفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الارباب وغلبة جانبه على جانبها، وقد تقدمت الاشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه: " أنا ربكم الاعلى " النازعات - 24، فقد كان يدعي انه أعلى الارباب مع كونه ممن يتخذ الارباب كما قال تعالى: " ويذرك وآلهتك " الاعراف - 127، وكذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا أحيي وأميت، في هذه الآية على ما سنبين. وينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين ابراهيم عليه السلام ونمرود، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه الوهية، ولو لا ذلك لم يسلم لابراهيم عليه السلام قوله: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ولم يبهت عند ذلك بل يمكنه ان يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو ان بعض الآلهة الاخرى يأتي بها من المشرق، وكان يرى ان هناك آلهة اخرى دون الله سبحانه، وكذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص ابراهيم عليه السلام كقصة الكوكب والقمر والشمس وما كلم به أباه في أمر الاصنام وما خاطب به قومه وجعله الاصنام جذاذا إلا كبيرا لهم وغير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى الوهية، وان معه آلهة اخرى لكنه كان يرى لنفسه الوهية، وانه أعلى الآلهة، ولذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج ابراهيم عليه السلام في ربه، ولم يذكر من امر الآلهة الاخرى شيئا. ومن هنا يستنتج ان المحاجة التي وقعت بينه وبين ابراهيم عليه السلام هي، ان ابراهيم عليه السلام كان يدعي ان ربه الله لا غير ونمرود كان يدعي انه رب ابراهيم وغيره ولذلك لما احتج ابراهيم عليه السلام على دعواه بقوله: ربي الذي يحيي ويميت، قال: انا أحيي وأميت، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الاصنام، ولم يقل: وانا أحيي وأميت، فادعى انه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه ان يخضع له ويشتغل بعبادته دون الله سبحانه ودون الاصنام، ولم يقل: وانا أحيي وأميت لان لازم العطف ان يشارك الله في ربوبيته ولم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، ولم يقل أيضا: والآلهة تحيي وتميت. ولم يعارض ابراهيم عليه السلام بالحق، بل بالتموين والمغالطة وتلبيس الامر على من

[ 351 ]

حضر، فإن ابراهيم عليه السلام إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي ويميت، الحياة والموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع ان يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن ان يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، ولا بشئ من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، وموتها عدمها، والشئ لا يقوى لا على إيجاد نفسه ولا على إعدام نفسه، ولو كان نمرود اخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشئ لكنه غالط فأخذ الحياة والموت بمعناهما المجازي أو الاعم من معناهما الحقيقي والمجازي فإن الاحياء كما يقال على جعل الحياة في شئ كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، وكذا الاماتة تطلق على التوفي وهو فعل الله وعلى مثل القتل بآلة قتالة، وعند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الآخر فقتل هذا واطلق ذاك فقال: انا أحيي وأميت، ولبس الامر على الحاضرين فصدقوه فيه، ولم يستطع لذلك ابراهيم عليه السلام ان يبين له وجه المغالطة، وانه لم يرد بالاحياء والاماتة هذا المعنى المجازي، وان الحجة لا تعارض الحجة، ولو كان في وسعه عليه السلام ذلك لبينه، ولم يكن ذلك إلا لانه شاهد حال نمرود في تمويهه، وحال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد انه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة اخرى لا يدع المكابر ان يعارضه بشئ فقال ابراهيم عليه السلام: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، وذلك ان الشمس وإن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب والقمر من قصته عليه السلام لكنها وما يلحق وجودها من الافعال كالطلوع والغروب مما يستند بالاخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الارباب، والفاعل الارادي إذا اختار فعلا بالارادة كان له ان يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الامر يدور مدار الارادة، وبالجملة لما قال ابراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه ان يقول: إن هذا الامر المستمر الجاري على وتيرة واحدة وهو طلوعها من المشرق دائما امر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، ولا كان يسعه ان يقول: إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، ولا كان يسعه ان يقول: إني انا الذي آتيها من المشرق وإلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجرا وبهته، والله لا يهدي القوم الظالمين.

[ 352 ]

قوله تعالى: ان آتيه الله الملك، ظاهر السياق: انه من قبيل قول القائل: أساء إلى فلان لاني احسنت إليه يريد: ان احساني إليه كان يستدعي ان يحسن إلى لكنه بدل الاحسان من الاسائه فأساء إلى، وقولهم: واتق شر من احسنت إليه، قال الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر * وحسن فعل كما يجزى سنمار فالجملة أعني قوله: ان آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل وهي من قبيل وضع الشئ موضع ضده للشكوى والاستعداء ونحوه، فإن عدوان نمرود وطغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي ان يعلل بضد انعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه الا الاحسان إليه وايتائه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " القصص - 8، فهذه نكتة في ذكر ايتائه الملك. وهناك نكته اخرى وهي: الدلالة على ردائة دعواه من رأس، وذلك انه انما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير ان يملكه لنفسه، فهو انما كان نمرود الملك ذا السلطة والسطوة بنعمة من ربه، وأما هو في نفسه فلم يكن الا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف، ولا يشار إليه بنعت، ولهذا لم يذكر اسمه وعبر عنه بقوله: الذي حاج ابراهيم في ربه، دلالة على حقارة شخصه وخسة أمره. واما نسبة ملكه إلى ايتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة: انه لا محذور فيه، فإن الملك وهو نوع سلطنة منبسطة على الامة كسائر انواع السلطنة والقدرة نعمة من الله وفضل يؤتيه من يشاء، وقد أودع في فطرة الانسان معرفته، والرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة وسعادة، قال تعالى: " وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة " القصص - 77، وان عدا طوره وانحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة وبوارا، قال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " ابراهيم - 28، وقد مر بيان ان لكل شئ نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى وتقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح والمسائة. ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: ان الضمير في قوله ان آتيه

[ 353 ]

الله الملك، يعود إلى ابراهيم عليه السلام، والمراد بالملك ملك ابراهيم كما قال تعالى: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما " النساء - 54، لا ملك نمرود لكونه ملك جور ومعصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه. ففيه أولا: ان القرآن ينسب هذا الملك وما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض " المؤمن - 29، وقوله تعالى حكاية عن فرعون - وقد امضاه بالحكاية -: " يا قوم أليس لي ملك مصر " الزخرف - 51، وقد قال تعالى: " له الملك " التغابن - 1، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك الا وهو منه تعالى، وقال تعالى حكايه عن موسى عليه السلام: " ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة " يونس - 88، وقال تعالى في قارون: " وآتيناه من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة " القصص - 76، وقال تعالى خطابا لنبيه: " ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا " - إلى ان قال -: " ومهدت له تمهيدا ثم يطمع ان ازيد " المدثر - 15، إلى غير ذلك. وثانيا: ان ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع ابراهيم في توحيده وإيمانه لا انه كان ينازعه ويحاجه في ملكه، فإن ملك الظاهر كان لنمرود، وما كان يرى لابراهيم ملكا حتى يشاجره فيه. وثالثا: ان لكل شئ نسبة إلى الله سبحانه والملك من جملة الاشياء ولا محذور في نسبته إليه تعالى وقد مر تفصيل بيانه. قوله تعالى: قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت، الحياة والموت وإن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان ايضا كالنبات، وقد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية الكرسي، لكن مراده عليه السلام منهما اما خصوص الحياة والممات الحيوانيين أو الاعم الشامل له لاطلاق اللفظ، والدليل على ذلك قول نمرود: أنا أحيي وأميت، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث والغرس مثلا، ولا احياء الحيوان بالسفاد والتوليد مثلا، فإن ذلك وأشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره

[ 354 ]

من أفراد الانسان، وهذا يؤيد ما وردت به الروايات: انه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق احدهما وقتل الآخر، وقال عند ذلك: أنا أحيي وأميت. وانما أخذ عليه السلام في حجته الاحياء والاماتة لانهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، وخاصة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور والارادة وهما أمران غير ماديين قطعا، وكذا الموت المقابل لها، والحجة على ما فيها من السطوع والوضوح لم تنجح في حقهم، لان انحطاطهم في الفكر وخبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه عليه السلام في حقهم، فلم يفهموا من الاحياء والاماتة إلا المعنى المجازي الشامل لمثل الاطلاق والقتل، فقال نمرود: انا أحيي وأميت وصدقه من حضره، ومن سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يؤمئذ في المعارف والمعنويات، ولا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري والتقدم المدني الذي يدل عليه الآثار والرسوم الباقية من بابل كلدة ومصر الفراعنة وغيرهما، فإن المدنية المادية أمر والتقدم في معنويات المعارف أمر آخر، وفي ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها وانحطاطها في الاخلاق والمعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة. ومن هنا يظهر: وجه عدم أخذه عليه السلام في حجته مسلئة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسموات والارض كما اخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله: اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين " الانعام - 79، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم اجمالا كانوا أنزل سطحا من ان يعقلوه على ما ينبغي ان يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه ويتضح مراده عليه السلام، وناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربي الذي يحيي ويميت. قوله تعالى: قال أنا أحيي وأميت، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي ويميت. قوله تعالى: قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، لما ايس عليه السلام من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي ويميت، لسوء فهم الخصم وتمويهه وتلبيسه الامر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الاحياء والاماتة إلى حجة أخرى، إلا انه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الاولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: فإن الله " الخ "، والمعنى: إن

[ 355 ]

كان الامر كما تقول: انك ربي ومن شأن الرب ان يتصرف في تدبير امر هذا النظام الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف انت بإتيانها من المغرب حتى يتضح انك رب كما ان الله رب كل شئ أو انك الرب فوق الارباب فبهت الذي كفر، وانما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن ان الحجة الاولى تمت لنمرود وانتجت ما ادعاه، ولذلك ايضا قال، فإن الله ولم يقل: فإن ربي لان الخصم استفاد من قوله: ربي سوئا وطبقة على نفسه بالمغالطة فأتى عليه السلام ثانيا بلفظة الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق ! قد مر بيان ان نمرود ما كان يسعه ان يتفوه في مقابل هذه الحجة بشئ دون ان يبهت فيسكت. قوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين، ظاهر السياق انه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره، وبعبارة اخرى معناه ان الله لم يهده فبهت لذلك ولو هداه لغلب على ابراهيم في الحجة لا انه لم يهده فكفر لذلك وذلك لان العناية في المقام متوجهة إلى محاجته ابراهيم عليه السلام لا إلى كفره وهو ظاهر. " ومن هنا يظهر: ان في الوصف إشعارا بالعلية أعني: ان السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقوله: " ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام والله لا يهدى القوم الظالمين " الصف - 7، وقوله: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة - 5، ونظير الظلم الفسق في قوله تعالى: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين " الصف - 5. وبالجملة الظلم وهو الانحراف عن صراط العدل والعدول عما ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغى موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، ومؤد إلى الخيبة والخسران بالاخرة، وهذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف وأكد القول فيها في آيات كثيرة.

[ 356 ]

(كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله)

هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا، وهي كلية لاتقبل الاستثناء وقد ذكرها بألسنة مختلفة وبنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى: " الذي اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، دل على ان كل شئ بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده وكمالات ذاته، وليس ذلك الا بارتباطه مع غيره من الاشياء واستفادته منها بالفعل والانفعال بالاجتماع والافتراق والاتصال والانفصال والقرب والبعد والاخذ والترك ونحو ذلك، ومن المعلوم ان الامور التكوينية لا تغلط في آثارها، والقصود الواقعية لاتخطي ولا تخبط في تشخيص غاياتها ومقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا وهي حارة لا تريد تبريده، والنامي كالنبات مثلا وهو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره وهكذا، وقد قال تعالى: " ان ربي على صراط مستقيم " هود - 56، فلا تخلف ولا اختلاف في الوجود. ولازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية وانتفاء الخطأ في التكوين ان يكون لكل شئ روابط حقيقية مع غيره، وان يكون بين كل شئ وبين الآثار والغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته والاثر المخصوص المقصود منه، وكذلك الغايات والمقاصد الوجودية انما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها والسبل الموصلة إليها، فالبذرة انما تنبت الشجرة التي في قوتها انباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها وشرائطها الخاصة، وكذلك الشجرة انما تثمر الثمرة التي من شأنها اثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا " الاعراف - 58، والعقل والحس يشهدان بذلك والا اختل قانون العلية العام. وإذا كان كذلك فالصنع والايجاد يهدي كل شئ إلى غاية خاصة، ولايهديه إلى غيرها، ويهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي اتقن كل شئ، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية واثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل اثرها لا محالة، هذا في الامور التكوينية.

[ 357 ]

والامور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية وغيرها على هذا الوصف أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشؤن الاجتماعية والمقامات التي فيه والافعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار وغايات لا تتولد منه إلا تلك الآثار والغايات ولاتتولد هي إلا منه فالتربية الصالحة لاتتحقق إلا من مرب صالح والمربي الفاسد لا يترتب على تربيته، إلا الاثر الفاسد (ذاك الفساد المكمون في نفسه) وإن تظاهر بالصلاح ولازم الطريق المستقيم في تربيته، وضرب على الفساد المطوي في نفسه بمأه ستر واحتجب دونه بألف حجاب، وكذلك الحاكم المتغلب في حكومته، والقاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، وكل من تقلد منصبا اجتماعيا من غير طريقه المشروع، وكذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق وحل بذلك محل الفعل الحق، والقول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الامانة والاسائة موضع الاحسان والمكر موضع النصح والكذب موضع الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها ويقطع دابرها وإن اشتبه أمرها اياما، وتلبس بلباس الصدق والحق أحيانا، سنة الله التي جرت في خلقه ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا. فالحق لا يموت ولا يتزلزل أثره، وإن خفي على ادراك المدركين اويقات، والباطل لا يثبت ولا يبقى أثره، وإن كان ربما اشتبه أمره ووباله، قال تعالى: " ليحق الحق ويبطل الباطل " الانفال - 8، من تحقيق الحق تثبيت أثره، ومن إبطال الباطل ظهور فساده وانتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه والتمويه، وقال تعالى: " الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " ابراهيم - 27، وقد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، ولا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق: " قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون " يوسف - 23، فالظالم لا يفلح في ظلمه، ولا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه والمتقي بتقواه، قال

[ 358 ]

تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت - 69، وقال تعالى: " والعاقبة للتقوى " طه - 132. والآيات القرآنية في هذه المعاني ثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، ومن أجمعها وأتمها بيانا فيه قوله تعالى: " أنزل من السماء مائا فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبا مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض كذالك يضرب الله الامثال " الرعد - 17. وقد مرت إلاشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية والمعلولية الجارية بين أجزاء العالم، وأن التجربة القطعية الحاصلة من تكرار الحس تشهد به، فما منا من أحد إلا وفي ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين وانقطاع دابرهم. قوله تعالى: أو كلذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خوائا إذا خلت، والعروش جمع العرش وهو ما يعمل مثل السقف للكرم قائم على أعمدة، قال تعالى: " جنات معروشات وغير معروشات " الانعام - 142، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران والعرش وهو السقف مع الاركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صح أن يقال في الديار أنها خالية على عروشها ولا يصح أن يقال: خالية على سقفها. وقد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كلذي، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج ابراهيهم، والكاف اسمية، والمعنى أو هل رأيت مثل الذي مر على قرية (الخ)، وقد جئ بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية (الخ)، وقيل: انه عطف محمول على المعنى، والمعنى: ألم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، وقيل: انه من كلام ابراهيم جوابا عن دعوى الخصم انه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيى فأحيى كإحياء الذي مر على قرية (الخ) فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.

[ 359 ]

وأظن - والله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق ولا يهدي الكافر في كفره بل يضله أوليائه الذين اتخذته من دون الله اولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتبة: اوليها: الهداية إلى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى ابراهيم إلى حق القول، ولم يهد الذي حاجه بل ابهته وأضله كفره، وإنما لم يصرح بهداية ابراهيم بل وضع عمدة الكلام في امر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. والثانية: الهداية إلى الحق بالارائة والاشهاد كما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من امر الاحياء بإماتته واحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالارائة والاشهاد. الثالثة: الهداية إلى الحق وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه الحادثة، وبعبارة اخرى بإرائة السبب والمسبب معا، وهذا اقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما ان من كان لم ير الجبن مثلا وارتاب في امره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده واكل منه وذاق طعمه، وتارة بإرائته قطعة من الجبن واذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الانفحه وخلط مقدار منها به حتى يجمد ثم اذاقته شيئا منه وهي أنفى المراتب للشبهة. إذا عرفت ما ذكرناه علمت ان المقام في الآيات الثلاث - وهو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق: الم تر إلى قصة ابراهيم ونمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مر على قرية، أو لم تر إلى قصة ابراهيم والطير، أو يقال: ان الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى ابراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: ان الله

[ 360 ]

يهدي المؤمنين إلى الحق وأذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، واذكر الذي مر على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب ارني. فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير ان الله سبحانه اخذ بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب واستيفائا لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء. ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: أو كالذي، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، والتقدير: إما كالذي حاج ابراهيم أو كالذي مر على قرية، ويظهر ايضا ان قوله في الآية التالية: واذ قال ابراهيم، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصة المحاجة وقصة الذي مر على قرية، واذكر إذ قال ابراهيم رب ارني " الخ ". وقد ابهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أن الانسب في مقام الاستشهاد الاشارة إلى اسمائهم ليكون أنفى للشبهة. لكن الآية وهي الاحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الامور بالتصغير والتهوين تعظيما لمقام أنفسهم، ولذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصة من اسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الاجزاء وغيرها في الآية اللاحقة. وأما التصريح باسم إبراهيم عليه السلام فإن للقرآن عناية تشريف به عليه السلام، قال تعالى: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " الانعام - 83، وقال تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام - 75، ففي ذكره عليه السلام بالاسم عناية خاصة.

[ 361 ]

ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الاحياء والاماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى: " وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم " الروم - 27، وقال تعالى: " قال رب أنى يكون لي غلام - إلى قوله -: قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " مريم - 9. قوله تعالى: قال أنى يحيي هذه الله، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: " واسئل القرية " يوسف - 82. وإنما قال هذا القول استعظاما للامر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الانكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: اعلم أن الله على كل شئ قدير ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: " الآن حصحص الحق " يوسف - 51، وسيجئ توضيحه قريبا. على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة إلى الناس والانبياء معصومون حاشاهم عن الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد اصول الدين. قوله تعالى: فأماته الله مأة عام ثم بعثه، ظاهره توفيه بقبض روحه وإبقائه على هذا الحال مأة عام ثم إحيائه برد روحه إليه. وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الاطباء بالسبات وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة اصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة. قال: والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة امر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الانسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مأة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلا ان تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إليه ثانيا بعد سلبه مأة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الاموات بعد سلبها عنهم الوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.

[ 362 ]

وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الاماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات " على تقدير تسليمه " بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية ؟ وهل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة ؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مأة سنة ثم إحيائه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، وقد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، وسيجئ التعرض له. وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مأة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، وقوله بعده، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك، وقوله: وانظر إلى العظام، مما لاريب فيه. قوله تعالى: قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مأة عام، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوما وانتباها، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوما (لو تخللت الليلة) أو بعض يوم (لو لم تتخلل) قال: بل لبثت مأة عام. قوله تعالى: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه إلى قوله لحما، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجئ بقوله: ولنجعلك متخللا في الكلام وكان الظاهر أن يتأخر عن جملة: وانظر إلى العظام، على ان بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية - وهو احياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لان يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام ؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة. (القصة) التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا

[ 363 ]

لامره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبين الامر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، أنه كان مأنوسا بالوحي والتكليم، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال " الخ " أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى عليه السلام: " فلما أتيها نودي يا موسى إني أنا ربك " طه - 12، وقوله تعالى فيه أيضا: " فلما أتيها نودي من شاطئ الوادي الايمن " القصص - 30. وكيف كان فقد كان عليه السلام خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاما وشرابا يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصدا نفس القرية، وإنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من امر القرية الخربة التي كان قد أبيد اهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منه عليه السلام، فإنه يشير إلى الموتى بقوله، أنى يحيي هذه الله، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والاشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: انى يعمر هذه الله. على ان القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، ولا ان عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، ولو كانت الاموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام. ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، وتطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الاصل نسيا منسيا، وعند ذلك قال: انى يحيى هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: " احديهما ": استعظام طول المدة والاحياء مع ذلك، " والثانية ": استعظام رجوع الاجزاء إلى صورتها الاولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبين الله له الامر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الاولى فإماتته ثم إحيائه وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه. فأماته الله مأة عام ثم بعثه، وقد كان الاماتة والاحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف

[ 364 ]

الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مأة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه ما استعظمه من طول المكث. ثم استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مأة عام بقوله: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ! وذلك: أن قوله: لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشئ من طول المدة وقصره، وإنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل ونحوهما، فلما اجيب بقوله تعالى: بل لبثت مأة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شئ من هيئة بدنه، والانسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة والطراوة وكان ترابا وعظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن وأن يخطر بباله بأمره ان ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير شئ منهما عما كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام والشراب يدل على إمكان ان يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير ان يتغير شئ من هيئته عما هي عليه. ومن هنا يظهر ان الحمار ايضا قد أميت وكان رميما وكأن السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الادب البارع. وبالجملة تم عند ذلك البيان الالهي: ان استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث اخذ الله منه الاعتراف بأن مأة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف اهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له ان تخلل الزمان بين الاماتة والاحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شئ، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونريه قريبا " المعارج - 7، وقال تعالى: " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر " النحل - 77. ثم قال تعالى: ولنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدل على ان هناك غيرها من

[ 365 ]

الغايات، والمعنى انا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الالهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الامر له نفسه بل هناك غاية اخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: وانظر إلى العظام " الخ " بيان الامر له فقط، ومن إماتته وإحيائه بيان الامر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: ولنجعلك " الخ " على قوله: وانظر إلى العظام " الخ ". ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره. وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " الروم - 56. ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: أني يحيى هذه الله وهو: أنه كيف يعود الاجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والانشاز الانماء، وظاهر الآية ان المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام اهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الذين احياهم الله تعالى ! ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الابدان الحية فإنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيى الموتى إنه على كل شئ قدير، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الارض الميتة التي يحييها الله بالانبات، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب. وقد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: أنى يحيى هذه الله. قوله تعالى: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ قدير، رجوع منه بعد التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه عليه السلام لما خطر بباله الخاطر الذي

[ 366 ]

ذكره بقوله: أني يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الامر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلا، بل علم يليق بالاعتماد عليه. وهذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للانسان علم بشئ ثم يخطر بباله ويهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك وبطلان العلم، بل لاسباب وعوامل اخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه ! وليس معنى الكلام: أنه لما تبين له الامر حصل له العلم وقد كان شاكا قبل ذلك فقال أعلم " الخ " كما مرت الاشارة إليه لان الرجل كان نبيا مكلما وساحة الانبياء منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات اولا: ولان حق الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدي معناه ثانيا: ولان حصول العلم بتعلق القدرة باحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شئ وقد قال: اعلم أن الله بكل شئ قدير، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الاحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الامور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الالهي مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة: فلما تبين له قال: أعلم ان الله على كل شئ قدير، على انه خطأ في القول لا يليق بساحة الانبياء ثالثا. قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى، قد مر أنه معطوف على مقدر والتقدير: واذكر إذ قال " الخ " وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم ان يكون عامل الظرف هو قوله: قال أو لم تؤمن، وترتيب الكلام: أو لم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني " الخ " وليس بشئ. وفي قوله: ارني كيف تحيي الموتى، دلالة:

[ 367 ]

اولا على انه عليه السلام إنما سأل الرؤية دون البيان الاستدلالي، فإن الانبياء وخاصة مثل النبي الجليل إبراهيم الخليل ارفع قدرا من ان يعتقد البعث ولا حجة له عليه، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه إما اعتقاد تقليدي أو ناش عن اختلال فكري وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيم عليه السلام، على انه عليه السلام إنما سأل ما سأل بلفظ كيف، وانما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشئ لا عن اصل وجوده فإنك إذا قلت: أرأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه وانما السؤال عن خصوصيات الرؤية فظهر انه عليه السلام انما سأل البيان بالارائة والاشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال. وثانيا: على ان ابراهيم عليه السلام إنما سأل أن يشاهد كيفية الاحياء لا أصل الاحياء كما أنه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، وهذا السؤال متصور على وجهين: الوجه الاول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الاجزاء المادية الحياة، وتجمعها بعد التفرق والتبدد، وتصورها بصورة الحي، ويرجع محصله إلى تعلق القدرة بالاحياء بعد الموت والفناء. الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الاموات وفعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة ويرجع محصله إلى السؤال عن السبب وكيفية تأثيره، وهذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الاشياء في قوله عز من قائل: " انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس - 83. وانما سأل ابراهيم عليه السلام عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الاول: أما أولا: فلانه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الاحياء فسأل عن كيفية الاحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحي بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الاجزاء وعودها إلى صورتها الاولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية واما ثانيا: فلانه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الاجزاء للحياة لم يكن لاجراء الامر بيد ابراهيم وجه، ولكفى في ذلك أي يريد الله احياء شئ من الحيوان بعد موته، واما ثالثا: فلانه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن

[ 368 ]

يقال: واعلم ان الله على كل شئ قدير لا بقوله: واعلم ان الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة والحكمة فإن العزة والحكمة - وهما وجدان الذات كل ماتفقده وتستحقه الاشياء واحكامه في امره - انما ترتبطان بإفاضة الحياة لااستفاضة المادة لها فافهم ذلك. ومما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان إبراهيم عليه السلام إنما سأل بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الاحياء دون مشاهدة كيفية الاحياء، وأن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: انه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه امره بالاحياء، ولا ان إبراهيم عليه السلام فعل ما أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الانشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا ؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبرا تريد ان هذه كيفيته، ولا تريد به ان تأمره ان يصنع الحبر بالفعل. قال: وفي القرآن شئ كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الامر، والكلام هيهنا مثل لاحياء الموتى، ومعناه خذ اربعة من الطير فضمها اليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع اليك من غير ان يمنعها تفرق امكنتها وبعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون احياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسموات والارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين. قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها اليك وانسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الامالة، وما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزائا بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، واما ما قيل: إن قوله: اليك متعلق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهن والمعنى: خذ اليك اربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام. وثانيا: ان الظاهر: ان ضمائر فصرهن ومنهن وادعهن ويأتينك جميعا راجعة

[ 369 ]

إلى الطير، ويلزم على قولهم: ان المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن ان يفرق بين الضمائر فيعود الاولان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الاجزاء وهو خلاف الظاهر. واضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها. وثالثا: ان إرائه كيفية الخلقة ان كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع اجزائها وتغير صورها إلى الصورة الاولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الاجزاء ومزجه إياها ووضعه على جبل بعيد، جزئا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الاجزاء من الحركات المختلفة والتغيرات المتنوعة، وان كان المراد إرائة كيفية الاحياء بمعنى الاحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الارادة الالهية المتعلقة بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالاشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون ان هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية. ورابعا: ان قوله: ثم اجعل، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله: فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع. وخامسا: انه لو كان كما يقولون لكان الانسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه. وانت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله: كيف تحيي وإجراء الامر بيد ابراهيم على ما مر بيانها كل ذلك ينافي هذا المعنى، على ان الجزء في قوله تعالى: " ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور. واما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الاول: ان معنى صرهن قطعهن، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الامالة كما في قوله تعالى: " الرفث إلى نسائكم " البقرة - 187، حيث ضمن معنى الافضاء. وعن الثاني: ان جميع الضمائر الاربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع

[ 370 ]

ضمير ادعهن ويأتينك إليها مع انها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " فصلت - 10، وقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن " يس - 82، وحقيقة الامر: ان الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب واما الخطاب التكويني فالامر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب فيه هو الايجاد ومن المعلوم ان الوجود فرع الايجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: ان نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرع على قوله كن وهو خطاب الامر. وعن الثالث: انا نختار الشق الثاني وان السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفية قبول المادة وحياتها، وقوله: إن البشر لا يمكنه ان ينال كنه الارادة الالهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن وعليه المسلمون. قلنا: إن الارادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والاحياء ونحوهما، والذي لاسبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى: " ولا يحيطون به علما " طه - 110. فالارادة منتزعة من الفعل، وهو الايجاد المتحد مع وجود الشئ، وهو كلمة كن في قوله تعالى: ان نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية ان هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شئ إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ الآية، وقد ذكر الله تعالى انه ارى ابراهيم ملكوت خلقه إذ قال: " وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين " الانعام - 75، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية. ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين انهم يظنون ان دعوة ابراهيم عليه السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسى عليه السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها مما يشتمل عليه الكتاب والسنة إنما هو لاثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه الفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفي عليهم ان ذلك انما هو

[ 371 ]

عن اتصال باطني بقوة الهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة. وعن الرابع: ان التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الاجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر. وعن الخامس: ان الاشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هوان الله انما بين كيفية الاحياء لابراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم ان المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة والحكمة، وقد عرفت مما قدمنا ان الانسب على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية. ويظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: ان المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن اشهاد كيفيه الاحياء بمعنى كيفية قبول الاجزاء صورة الحياة. قال: ما محصله: ان السؤال لم يكن في أمر ديني - والعياذ بالله - ولكنه سؤال عن كيفية الاحياء ليحيط علما بها، وكيفية الاحياء لا يشترط في الايمان الاحاطة بصورتها فإبراهيم عليه السلام طلب علم لا يتوقف الايمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا ان يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشك انه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وانما جاء التقرير أعني قوله: أو لم تؤمن، بعده لان تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت الا انها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع: انه يحمل ثقلا من الاثقال وانت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد انك عاجز عن حمله، والله سبحانه لما علم برائة ابراهيم عليه السلام عن الحوم حول هذا الحمى اراد ان ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الاولى لكون ايمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الايمان بالقدرة

[ 372 ]

على الاحياء على اكمل الوجوده، ورؤية الكيفية لم يزد في ايمانه المطلوب منه شيئا، وانما أفادت أمرا لا يجب الايمان به. ثم قال بعد كلام له طويل: ان الآية تدل على فضل ابراهيم عليه السلام حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مأة عام. وانت بالتدبر في الآية والتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإن السؤال انما وقع عن كيفية احيائه تعالى لا عن كيفية قبول الاجزاء الحياة ثانيا فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على ان اجراء الامر على يد ابراهيم عليه السلام يدل على ذلك ولو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إرائة شئ من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولم تكن حاجة إلى اجراء الاحياء على يد ابراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي أشرنا إليه آنفا: انهم يقيسون نفوس الانبياء في تلقيهم المعارف الالهية ومصدريتهم للامور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا: ان لا فرق بين تكون الحياة بيد ابراهيم وتكونه في الخارج بالنسبة إلى حال ابراهيم، وهذاامر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لاهمالهم امر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق. ألا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون والاشكال المتصورة مع ان هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له الى ساحة مثل ابراهيم عليه السلام، مع ان الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشئ فإن ابراهيم عليه السلام قال: كيف تحيي الموتى ؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الانسان أو الأعم منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه الا تكون الحياة في اربعة من الطير. ثم ذكر فضل ابراهيم عليه السلام على عزير (يريد به صاحب القصة في الآية السابقة) بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا، مع ان الآيتين جميعا - على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.

[ 373 ]

على ان المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة والحكمة كما في قوله تعالى: " ومن آياته انك ترى الارض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ان الذي أحياها لمحيي الموتى انه على كل شئ قدير " فصلت - 39، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى: " أو لم يروا ان الله الذي خلق السموات ولارض ولم يعي بخلقهن بقادر على ان يحيي الموتى بلى انه على كل شئ قدير " الاحقاف - 33، ففيه أيضا بيان الكيفية بإرائة الامثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة. قوله تعالى: قال: أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، بلى كلمة يرد به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى: " ألست بربكم قالوا بلى " الاعراف - 172، ولو قالوا نعم لكان كفرا، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الارض وارض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها. وقد قال تعالى: أو لم تؤمن، ولم يقل: ألم تؤمن للاشعار بأن للسؤال والطلب محلا لكنه لا ينبغي ان يقارن عدم الايمان بالاحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دل على ان المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الايمان، فكان عتابا وردعا عن مثل هذا السؤال، وذلك ان الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاما عن ان هذا السؤال هل يقارنه عدم الايمان، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا وردعا. والايمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على ان الايمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الاحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالاحياء لان المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه. وكذا قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: ليطمئن قلبي، مطلق يدل على كون مطلوبه عليه السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي واعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية واحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس وكان جل أحكامها وتصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الاحكام الكلية

[ 374 ]

العقلية الحقة من الامور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها وان سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الاحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى وتتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، وان كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالامر فلاتضرها إلا أذى، كما ان من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: ان الميت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضر شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيلة ان تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، وربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس. فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الايمان والتصديق دائما، غير أنها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، ولذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه. وقد ظهر من هنا ومما مر سابقا أن ابراهيم عليه السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل انما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وان كان لا ينفك عن الامر المحسوس الذي هو قبول الاجزاء المادية للحياة بالاجتماع والتصور بصورة الحي، فهو عليه السلام انما كان يسأل حق اليقين. قوله تعالى: قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا، صرهن بضم الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو امال، أو بكسر الصاد على القرائة الاخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدل على تضمين معنى الامالة. فالمعنى: اقطعهن مميلا اليك أو أملهن اليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير. وكيف كان فقوله تعالى: خذ اربعة من الطير " الخ "، جواب عن ما سأله ابراهيم

[ 375 ]

عليه السلام بقوله: رب أرني كيف تحيى الموتى، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصة القرآن الذي هو خير كلام القاه خير متكلم إلى خير سامع واع، وليست القصة على تلك البساطة التي تترائى منها في بادي النظر، ولو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان، ولكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد أخذ فيها قيود وخصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أريد إحيائه أن يكون طيرا، وان يكون حيا، وان يكون ذا عدد أربعة، وان يقتل ويخلط ويمزج أجزائها، وان يفرق الاجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الاحياء بيد ابراهيم عليه السلام (نفس السائل) بدعوته إياهن، وان يجتمع الجميع عنده. فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود افادته، وقد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث الا عجبا (يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير). وكيف كان فهذه الخصوصيات لا بدان تكون مرتبطة بالسؤال، والذي يوجد في السؤال - وهو قوله: رب أرني كيف تحيى الموتى - أمران. أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو ان المسؤول مشاهدة الاحياء من حيث انه وصف لله سبحانه لا من حيث انه وصف لاجزاء المادة الحاملة للحياة. وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة. أما الاول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الامر بيد ابراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الامر ويقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعيا وهو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحيائه، ولا إحياء إلا بأمر الله، فدعوة ابراهيم إياهن بأمر الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الاحياء، وعند ذلك شاهده ابراهيم ورأى كيفية فيضان الامر بالحياة، ولو كانت دعوة ابراهيم إياهن غير

[ 376 ]

متصلة بأمر الله الذي هو ان يقول لشئ أرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي في الوجود. واما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدل على ان لكثرة الاموات وتعددها دخلا في السؤال، وليس إلا ان الاجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار، وتصير كالاحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا محاط في الواقع. وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى عليه السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله: " قال فما بال القرون الاولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " طه - 51. وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زمانا) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها، ويعرفها معرفة تامة أولا، ثم يقتلها ويخلط أجزائها خلطادقيقا ثم يجعل ذلك ابعاضا، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص، وتزول المعرفة، ثم يدعوهن يأتينه سعيا، فإنه يشاهد حينئذ ان التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لانفسها لا بالعكس، فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإلى أي حال تحول الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد حيا من الاحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: " وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي

[ 377 ]

خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " السجدة - 11، وقد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس، وسيأتي تفصيل الكلام في محله إنشاء الله. فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير انما امر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعاده الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميز أولا وزوالهما ثانيا، وقوله: فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا أي اذبحهن وبدد أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الاجزاء وهي غير متميزة، وهذا من الشواهد على ان القصة انما وقعت بعد مهاجرة ابراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها، وقوله ثم ادعهن، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان، ويمكن ان يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير " هن " الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهن، فإن الدعوة لو كانت لاجزاء الطيور دون أنفسها كان الانسب ان يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه عليه السلام واللفظ المستعمل في البعيد خاصة هوالنداء دون الدعاء، وقوله: يأتينك سعيا، أي يتجسدن والتصفن بالاتيان والاسراع اليك. قوله تعالى: واعلم ان الله عزيز حكيم، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئا الا من طريقه اللائق به، فيوجد الاجساد بإحضار الارواح وايجادها دون العكس. وفي قوله تعالى: واعلم ان " الخ "، دون ان يقال ان الله " الخ "، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان ابراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى: ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه الآية: اخرج الطيالسي وابن ابي حاتم عن علي بن ابي طالب قال: الذي حاج ابراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.

[ 378 ]

وفي تفسير البرهان: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الاصنام قبل القائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد القائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما، عن الصادق عليه السلام. اقول: الآية وان لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الالقاء في النار، فان قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته اباه وقومه وكسره الاصنام تعطي ان اول ما لاقى ابراهيم عليه السلام نمرود وكان حين رفع امره إليه في قضية كسر الاصنام مجرما عندهم، فحكم عليه بالاحراق، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في امر ربه: أهو الله أو نمرود ؟ ولو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في امر الله وامر الاصنام دون امر الله وامر نفسه ؟ وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها: انها عزير، الا انها آحاد غير واجبة القبول، وفي اسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصة غير مذكورة في التوراة، والتي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها. وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: واذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قال عليه السلام: وهذه آية متشابهة، ومعناها انه سأل عن الكيفية والكيفية من فعل الله عز وجل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض في توحيده نقص، الحديث. اقول: وقد اتضح معنى الحديث مما مر. وفي تفسير العياشي عن علي بن اسباط: ان أبا الحسن الرضا عليه السلام سئل عن قول الله: قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أكان في قلبه شك قال لا ولكن اراد من الله الزيادة، الحديث. اقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح عليهما السلام وقد مر بيانه. وفي تفسير القمي عن ابيه عن ابن ابي أيوب عن ابي بصير عن

[ 379 ]

الصادق عليه السلام، قال: ان إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكاها سباع البحر، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فتعجب إبراهيم فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ فقال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال: فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم، فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، فقال الله عز وجل: فصرهن اليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، وفرقهن على عشرة جبال، ثم دعاهن فقال: احيى بأذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم واحد وعظمه إلى رأسه، فطارت إلى ابراهيم، فعند ذلك قال ابراهيم ان الله عزيز حكيم. أقول: وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس. قوله: ان ابراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني الخ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال وهى تفرق اجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها وانتقالها إلى امكنة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الاصل شئ. فإن قلت: ظاهر الرواية: ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، وأكل بعضها بعضا، ثم فرعت على ذلك تعجب ابراهيم وسؤاله. قلت: الشبهة شبهتان - احديهما - تفرق أجزاء الجسد وفناء اصلها من الصور والاعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة - وثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما تأمين معا لان المفروض ان بعض بدن احدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد منهما اعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الاعادة، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول. وما أجاب الله سبحانه به - وهو تبعية البدن للروح - وان كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا، الا ان الذي امر به ابراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل والمأكول، وهو أكل بعض الحيوان بعضا، بل انما تشتمل على تفرق الاجزاء واختلاطها وتغير صورها وحالاتها، وهذه مادة الشبهة الاولى، فالآية انما تتعرض لدفعها وان

[ 380 ]

كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اجيب به في الآية كما مر، وما اشتملت عليه الرواية من اكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية. قوله عليه السلام فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، وفي بعض الروايات ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك، رواه الصدوق في العيون عن الرضا عليه السلام ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد، وفي بعضها انها الهدهد والصرد والطاووس والغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق عليه السلام وفي بعضها: انها النعامة والطاووس والوزة والديك، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر عليه السلام ونقل عن ابن عباس، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس ايضا " انها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة، والذي تشترك فيه جميع الروايات والا قوال: الطاووس. قوله عليه السلام: وفرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الاخبار المأثورة عن ائمة اهل البيت وقيل انها كانت اربعة وقيل سبعة. وفي العيون مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أليس من قولك: ان الانبياء معصومون ؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله ان قال له فأخبرني عن قول الله: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى - ولكن ليطمئن قلبي، قال الرضا: ان الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى ابراهيم: اني متخذ من عبادي خليلا ان سألني احياء الموتى اجبته فوقع في قلب ابراهيم انه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمأن قلبي بالخلة، الحديث. اقول: وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه الرواية التي رواها عن الرضا عليه السلام فارجع. واعلم: ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على ان مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء، واللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة، والخليل انما يسمى خليلا لان الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء

[ 381 ]

* * * مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم - 261. الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 262. قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم - 263. يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين 264. ومثل الذين ينفقون أموالهم إبتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فاتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير - 265. أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون - 266. يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد - 267. الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله

[ 382 ]

واسع عليم - 268. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلاأولوا الالباب - 269. وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار - 270. إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير - 271. ليس عليك هديهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون - 272. للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم - 273. الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 274.

(بيان)

 سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان امر الانفاق، ورجوع مضامينها واغراضها بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب اولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربما زاد على ذلك بإذن الله، وثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلا للانفاق ريائا لا لوجه الله، وانه لا ينمو نمائا ولا يثمر أثرا، وتنهي عن الانفاق بالمن والاذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم اجره، ثم تأمر بأن يكون الانفاق من طيب المال لامن خبيثه بخلا وشحا، ثم تعين

[ 383 ]

المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الانفاق من عظيم الاجر عند الله. وبالجملة الآيات تدعو إلى الانفاق، وتبين أولا وجهه وغرضه وهو ان يكون لله لا للناس، وثانيا صورة عمله وكيفيته وهو ان لا يتعقبه المن والاذى، وثالثا وصف مال الانفاق وهو ان يكون طيبا لا خبيثا، ورابعا نعت مورد الانفاق وهو ان يكون فقيرا احصر في سبيل الله، وخامسا ما له من عظيم الاجر عاجلا وآجلا




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335106

  • التاريخ : 28/03/2024 - 14:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net