(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدى أبا الحسن عليه السلام عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل ؟ فإن الناس إنما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أبا الحسن ؟ فقال: قول الله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما
[ 199 ]
ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق (إلى ان قال:) فأما الاثم فإنها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأما الاثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر واثمهما اكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهدي ان قال لى: صدقت يا رافضي. اقول: وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية. وفي الكافي أيضا عن ابى بصير عن احدهما عليهما السلام قال: إن الله جعل للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر. وفيه أيضا عن ابى عبد الله عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الخمر رأس كل إثم. وفيه عن اسماعيل قال: أقبل أبو جعفر عليه السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم: فقال يا عم ما أكبر الكبائر ؟ قال عليه السلام: شرب الخمر. وفيه أيضا عن ابى البلاد عن احدهما عليهما السلام قال: ما عصي الله بشئ أشد من شرب المسكر، إن احدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على امه وابنته، واخته وهو لا يعقل. وفي الاحتجاج: سأل زنديق أبا عبد الله عليه السلام: لم حرم الله الخمر ولالذة أفضل منها ؟ قال: حرمها لانها ام الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية الاركبها الحديث. اقول: والروايات تفسر بعضها بعضا، والتجارب والاعتبار يساعدانها. وفي الكافي عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه،
[ 200 ]
وبايعها، ومشتريها وآكل ثمنها. وفي الكافي والمحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر. اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى: " ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المائدة - 3. وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر. وفي الامالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال: إن شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه. وفي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: حق على الله ان يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، والصديد قيح ودم غليظ يؤذي أهل النار حره ونتنه. اقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم " الدخان - 49. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة. وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار. اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عباس: إن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالا يأكل حتى يتصدق به.
[ 201 ]
وفي الدر المنثور أيضا عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: يارسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا ؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو. وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط. وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليه السلام: الكفاف. وفي رواية أبي بصير: القصد. وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام: في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط. وفي المجمع عن الباقر عليه السلام: العفو ما فضل عن قوت السنة. اقول: والروايات متوافقة، والاخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الاحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادق عليه السلام قال: إنه لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى: ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا، أخرج كل من كان عنده يتيم، وسالوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح. وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وإن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.
[ 202 ]
* * * ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم. اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون - 221.
(بيان)
قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، ومحال ان يكون في الاصل للجماع ثم استعير للعقد لان أسماء الجماع، كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود. والمشركات اسم فاعل من الاشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان، فالقول بتعدد الاله واتخاذ الاصنام والشفعاء شرك ظاهر وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة - وخاصة - إنهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبائه وهو شرك، وأخفى منه القول باستقلال الاسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته، فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا، قال تعالى: " ولله على الناس حج البيت (إلى أن قال) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " آل عمران - 97، وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافر بالحج، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين، وكالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل
[ 203 ]
الافعال المشاركة لها في مادتها، وهو ظاهر فللتوصيف والتسمية حكم، ولاسناد الفعل حكم آخر. على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الاطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " البينة - 1، وقوله تعالى: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " التوبة - 28، وقوله تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد " التوبة - 7، وقوله تعالى: " وقاتلوا المشركين كافة " التوبة - 36، وقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 5 إلى غير ذلك من الموارد. وأما قوله تعالى: " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " البقرة - 135، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى: " ماكان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " آل عمران - 67، ففي إثبات الحنف له عليه السلام تعريض لاهل الكتاب، وتبرئه لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى معنوية النصارى محضا بل هو عليه السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا المشركين عبدة الاوثان. وكذا قوله تعالى: " وما يؤمن أكثر هم بالله إلا وهم مشركون " يوسف - 106، وقوله تعالى: " وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " فصلت - 7، وقوله تعالى: " إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " النحل - 100، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الاولياء المقربون من صالحي عباد الله. فقد ظهر من هذا البيان على طوله: ان ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب. ومن هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة وهي قوله تعالى:
[ 204 ]
" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية " المائدة - 6. أو أن الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة اعني قوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " الممتحنة - 10، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة. وجه الفساد: ان هذه الاية اعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن اخذ فيها عنوان الكوافر وهو اعم من المشركات ويشمل اهل الكتاب، فإن الظاهر ان اطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " البقرة - 98 إلا أن ظاهر الاية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الامساك بعصمتها أي إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية. ولو سلم دلالة الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتدائا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي ابية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة. على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق. قوله تعالى: ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو اعجبتكم، الظاهر أن المراد بالامة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة وقد كان الناس يستذلون الاماء ويعيرون من
[ 205 ]
تزوج بهن، فتقييد الامة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الاماء واستذلالهن، والتحرز عن التزوج بهن يدل على ان المراد أن المؤمنة وان كانت أمة خير من المشركة وان كانت حرة ذات حسب ونسب ومال مما يعجب الانسان بحسب العادة. وقيل: ان المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية امة الله وعبده، وهو بعيد. قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن " الخ "، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة. قوله تعالى: اولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى والمغفرة والجنة بإذنه، اشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو ان المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر والفسوق، والمعمية عن أبصار طريق الحق والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالاخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار، والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الايمان، وتلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنة والمغفرة باذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الايمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدي إلى الجنة والمغفرة. وكان حق الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنة " الخ " ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على ان المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجودية إلى ربهم، لا يستقلون في شئ من الامور دون ربهم تبارك وتعالى وهو وليهم كما قال سبحانه: " والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68. وفي الآية وجه آخر: وهو ان يكون المراد بالدعوة إلى الجنة والمغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الخ "، فان جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والانس به الا البعد من الله سبحانه، وحثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة امره ونهيه دعوة من الله إلى الجنة، ويؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون، ويمكن ان يراد
[ 206 ]
بالدعوة الاعم من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم. " بحث روائي " في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن ابى مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان قويا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فابى وكانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك ان تتزوج بي ؟ فقال: حتى استاذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع استاذن في التزوج بها. اقول: وروي هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس. وفي الدر المنثور اخرج الواحدي من طريق السدي عن ابى مالك عن ابن عباس في هذه الآية: ولامة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له امة سوداء وانه غضب عليها فلطمها ثم انه فزع فاتي النبي ليالله عليه وآله وسلم فاخبره خبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ماهي يا عبد الله ؟ قال: تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد ان لا إله إلا الله وانك رسوله فقال يا عبد الله، هذه مؤمنة فقال عبد الله: فو الذي بعثك بالحق لاعتقها ولاتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح امة، وكانوا يريدون ان ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في احسابهم فانزل الله فيهم: ولامة مؤمنة خير من مشركة وفيه ايضا عن مقاتل في الآية ولآمة مؤمنة، قال بلغنا انها كانت أمة لحذيفة فاعتقها وتزوجها حذيفة. اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في اسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، الآية ناسخا لقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخا به، ستمر بك في تفسير الآية من سورة المائدة. * * * ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله
[ 207 ]
يحب التوابين ويحب المتطهرين - 222. نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين - 23
(بيان)
قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى " الخ " المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرئة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل. والاذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما ان الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضر وضار، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، وايضا قال تعالى: " لن يضروكم الا اذى " آل عمران - 111، ولو قيل لن يضروكم إلاضررا لفسد الكلام، وايضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في امثال قوله تعالى: " ان الذين يؤذون الله ورسوله " الاحزاب - 57، وقوله تعالى: " لم تؤذونني وقد تعلمون اني رسول الله اليكم " الصف - 5، فالظاهر ان الاذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه. وتسمية المحيض اذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للارضاع، واما على قولهم: ان الاذى هو الضرر فقد قيل: ان المراد بالمحيض اتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن اتيانهن في هذه الحال فاجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الاطباء ان الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم واعداده للحمل، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.
[ 208 ]
قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الانصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الاتيان من محل الدم على ما سنبين. وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، واما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير ان العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في امر المحيض والتشديد في امر معاشرتهن في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون اتيان النساء في المحيض ويعتقدون ان الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين. وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وان كان ظاهره الامر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: ولا تقربوهن، إلا ان قوله تعالى اخيرا فأتوهن من حيث امركم الله - ومن المعلوم انه محل الدم - قرينة على ان قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الاتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ. فالاسلام قد اخذ في امر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والاهمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن اتيان محل الدم والاذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه ان المحيض الاول اريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الاول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه. قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الاسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من
[ 209 ]
الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الاصول. وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الانسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر. فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمأرب العيش فالانسان يقصد كل شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد. وربما عرض للشئ عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الانسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاولي من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الاشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفه توجب كراهتها واستقذارها. وقد كان أول ما تنبه الانسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للامور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالانساب والافعال والاخلاق والعقائد والاقوال. هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الاصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الابل وتستبعد ويقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى
[ 210 ]
هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعد الانسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأن الاصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية. وقد اعتبر الاسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعممهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلية، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى: " ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية "، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى: " وثيابك فطهر " المدثر - 4، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 6، وقال تعالى: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " المائدة - 41، وقال تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79. وقد عدت الشريعة الاسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الانسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلوة وفي الاكل وفي الشرب، وقد عد من الطهارة أمور كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الاعيان النجسة، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه. وقد مر بيان أن الاسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الاصل الواحد في فروعه. ومن هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للانسان، وبعد ذلك أصول الاخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الاحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الاصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: " يريد ليطهركم " المائدة - 6، وقوله تعالى: " ويطهركم تطهيرا " الاحزاب - 33، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة. ولنرجع إلى ماكنا فيه فقوله تعالى: حتى يطهرن، أي ينقطع عنهن الدم، وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهرن اي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، امر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو
[ 211 ]
كناية عن الامر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الادب الالهي البارع، وتقييد الامر بالاتيان بقوله امركم الله، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما امر الله به امرا تكوينيا للدلالة على انه مما يتم به نظام النوع الانساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هو من اصول النواميس التكوينية. وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله، تماثل قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " البقرة - 187، وقوله تعالى: " فأتوا حرثكم انى شئتم وقدموا لانفسكم " البقرة - 223، من حيث السياق، فالظاهر ان المراد بالامر بالاتيان في الآية هو الامر التكويني المدلول عليه بتجهيز الانسان بالاعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما ان المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك، وهو ظاهر، ويمكن ان يكون المراد بالامر هو الايجاب الكفائي المتعلق بالازواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد. وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنه مبني إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهن وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، وإما على الاستدلال بدلالة الامر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف. على ان الاستدلال لو كان بالامر في قوله تعالى: فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب، ولو كان بالامر في قوله تعالى: من حيث امركم الله، فهو إن كان امرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، وإن كان امرا تشريعيا كان للايجاب الكفائي، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للامر الايجابي العيني المولوي. قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الاخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الاصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصة
[ 212 ]
في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في الميحض، وقوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، والآية أعني قوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهرين، كما جئ بصيغة المبالغة في قوله: التوابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا، أعني: إن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالاعمال الصالحة أو العلوم الحقه، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر. قوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الارض التي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنى من اسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربما استعمل في المكان أيضا، قال تعالى: " يا مريم أني لك هذا قالت هو من عند الله " آل عمران - 37، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، وكيف كان يفيد الاطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله: شئتم، وهذا هو الذي يمنع الامر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لايجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته. ثم إن تقديم قوله تعالى: نساءكم حرث لكم، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الاطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية الاطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه
[ 213 ]
أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما، ودلالتها أيضا على أن تحريم الاتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهير دائما، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم " المائدة - 6. ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، المشتمل أولا على التوسعة، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين، ومن هذا البيان يظهر: ان آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت. فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الانساني نسبة الحرث إلى الانسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لابقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وابقائها كذلك النساء يحتاج اليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لان الله سبحانه جعل تكون الانسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الاصلية مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله، وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لانفسكم. ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الاطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لانفسكم، بالتسمية قبل الجماع. قوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين، قد ظهر: ان المراد من قوله: قدموا لانفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال
[ 214 ]
والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الانسان وبقائه إلاحياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " الذاريات - 56، فلو أمرهم بشئ مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الارض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة. فالمراد بقوله: قدموا لانفسكم وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الانساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى ابقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى انفسهم والى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12. وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: ان المراد بتقديمهم لانفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " النبأ - 41، وقال تعالى أيضا: " وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا " المزمل - 20، فقوله تعالى: وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " الخ "، مماثل السياق لقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " الحشر - 18، فالمراد (والله اعلم) بقوله تعالى: وقدموا لانفسكم تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الاولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: واتقوا الله، التقوى بالاعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: واعلموا أنكم ملاقوه " إلخ " الامر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الامر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " الانفال - 24، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالايمان ذيل تعالى كلامه بقوله: وبشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.
[ 215 ]
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج احمد وعبد بن حميد والدارمي ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابو يعلى وابن المنذر وابو حاتم والنحاس في ناسخه وابو حيان والبيهقي في سننه عن انس: ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شئ الا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل ان يدع من أمرنا شيئا الا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن خضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله ان اليهود قالت: كذا وكذا أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظننا ان قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا انه لم يحد عليهما. وفي الدر المنثور عن السدي في قوله: ويسألونك عن المحيض، قال: الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح. أقول: وروي مثله عن مقاتل ايضا. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام في حديث في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، قال عليه السلام: هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله. وفي الكافي: سئل عن الصادق عليه السلام: ما لصاحب المرئه الحائض منها ؟ فقال عليه السلام: كل شئ ما عدا القبل بعينه. وفيه أيضا عنه عليه السلام: في المرئه ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها، قال عليه السلام: إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء، قبل ان تغتسل، وفي رواية: والغسل أحب إلى. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة جدا وهي تؤيد قرائه يطهرن بالتخفيف وهو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن ويتطهرن ان الثاني قبول الطهارة، ففيه
[ 216 ]
معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الاول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، والمراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، وإن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الاتيان بعد الغسل كما أفاده عليه السلام بقوله: والغسل أحب إلى، لاحرمة الاتيان قبله أعني فيما بين الطهارة والتطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهى، فافهم ذلك. وفي الكافي ايضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعه فأنزل الله في كتابه: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. اقول: والاخبار في هذا المعنى كثيرة، وفي بعضها: ان اول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية وجرت به السنة. وفيه عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند ابي جعفر عليه السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لابي جعفر عليه السلام: أخبرك أطال الله بقاك وامتعنا بك -: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الاموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر عليه السلام إنما هي القلوب، مرة تصعب ومرة تسهل ثم قال أبو جعفر عليه السلام أما إن اصحاب محمد قالوا يا رسول الله نخاف علينا من النفاق ؟ قال: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ولم تخافون ذلك ؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت - وشممنا الاولاد ورأينا العيال والاهل يكاد ان نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شئ، أفتخاف علينا ان يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم انفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولو لا انكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، ان المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقال تعالى:
[ 217 ]
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه. أقول: وروي مثله العياشي في تفسيره، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية وهو الانصراف عن الدنيا والاشراف على ما عند الله سبحانه، وقد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى: " الذين إذا اصابتهم مصيبة " البقرة - 156. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا انكم تذنبون " الخ "، اشارة إلى سر القدر، وهو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الافعال وجزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الاسماء من الاقتضائات، وسيجئ الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر - 21، وسائر آيات القدر، وقوله أما سمعت قول الله عز وجل: إن الله يحب التوابين " الخ "، من كلام ابى جعفر عليه السلام، والخطاب لحمران، وفيه تفسير التوبة والتطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي وإزالة قذارات الذنوب عن النفس، ورينها عن القلب، وهذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79، من الاستدلال به على ان علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت، والاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة. وكما ان الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى: " وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر - 21، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل الا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، وسيجئ له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية " آل عمران - 7. ومن هنا يستأنس ما مرت إليه الاشارة: ان المراد بالتوبة والتطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو ارجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه. ويظهر ايضا: معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي من قوله عليه السلام: انزل الله على ابراهيم عليه السلام الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فاما التي في الراس: فاخذ الشارب، واعفاء اللحى، وطم الشعر،
[ 218 ]
والسواك، والخلال، واما التي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، والختان، وقلم الاظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء، وهي الحنفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، والاخبار في كون هذه الامور من الطهارة كثيرة، وفيها: ان النوره طهور. وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية: عن معمر بن خلاد عن ابي الحسن الرضا (عليه السلام) انه قال: أي شئ تقولون في اتيان النساء في أعجازهن ؟ قلت بلغني ان اهل المدينة لا يرون به بأسا، قال (عليه السلام): ان اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نسائكم حرث لكم فاتوا حرثكم انى شئتم، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في ادبارهن. وفيه عن الصادق (عليه السلام) في الآية فقال (عليه السلام): من قدامها ومن خلفها في القبل. وفيه عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك وقال: وإياكم ومحاش النساء، وقال: إنما معنى نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي ساعه شئتم. وفيه عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) في مثله، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها والمرأة لعبة لا تؤذي وهي حرث كما قال الله. أقول: والروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي والتهذيب وتفسيري العياشي والقمي، وهي تدل جميعا: ان الآية لاتدل على أزيد من الاتيان من قدامهن، وعلى ذلك يمكن ان يحمل قول الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي عن عبد الله بن ابي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس ثم تلا هذه الآية: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم. اقول: الظاهر ان المراد بالاتيان في اعجازهن هو الاتيان من الخلف في الفرج، والاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم. وفي الدر المنثور: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الانصار تأتي نسائها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الانصار فأراد ان يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فاخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 219 ]
فأنزل: " فأتوا حرثكم أنى شئتم " أي قائما وقاعدا ومضطجعا بعد ان يكون في صمام واحد. اقول: وقد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، وقد مرت الرواية فيه عن الرضا (عليه السلام). وقوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الاتيان في الفرج فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الاتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقول أئمة أهل البيت وإن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم عليهم السلام إلا أنهم عليهم السلام لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط: قال: " إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين " الحجر - 71، حيث عرض " عليه السلام " عليهم بناته وهو يعلم أنهم لا يريدون الفروج ولم ينسخ الحكم بشئ من القرآن. والحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا وكانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى: نسائكم حرث لكم الآية حتى ان المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه. ففي الدر المنثور عن الدار قطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك علي المصحف يا نافع ! فقرأ حتى أتى على، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الانصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله " نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها. اقول: وروي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: وقال ابن عبد البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة. وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن راهويه وأبو يعلى وابن جرير والطحاوي
[ 220 ]
في مشكل الآثار وابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت، نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الآية. وفيه أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: سألت مالك بن انس عن وطى الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه. وفيه أيضا: أخرج الطحاوي من طريق إصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم، قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني: وطى المرأة في دبرها ثم قرأ: نسائكم حرث لكم، ثم قال: فأي شئ أبين من هذا ؟ وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر - والله يغفر له - أوهم إنما كان هذا الحي من الانصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، وكان يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من امر أهل الكتاب ان لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أثر ما تكون المرأة، وكان هذا الحي من الانصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الانصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنما كنا نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عز وجل: نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم انى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد. اقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور بطرق اخرى أيضا عن مجاهد، عن ابن عباس.
[ 221 ]
وفيه أيضا: اخرج ابن عبد الحكم: ان الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها (الاعكان جمع عكنة بضم العين: ما انطوى وثنى من لحم البطن) أفي ذلك حرث: قال: لا، قال، أفيحرم ؟ قال: لا، قال: فكيف تحتج بما لا تقولون به ؟ وفيه أيضا: اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض ؟ قال: بلى فأقرأ: ويسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهن من حيث امركم الله فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت ان تأتي فقال: كيف بالآية نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ؟ فقال: اي، ويحك، وفي الدبر من حرث ؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا، ولكن انى شئتم من الليل والنهار. اقول: واستدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لاتدل على أزيد من حرمة الاتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الادبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض ؟ على انك قد عرفت ان آية الحرث ايضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الادبار، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الاتيان من محاشيهن بالامر الذي في قوله تعالى: فأتوهن من حيث امركم الله الآية، وقد عرفت فيما مر من البيان انه من افسد الاستدلال، وان الآية تدل على حرمة الاتيان من محل الدم ما لم يطهرن وهي ساكتة عما دونه، وان آية الحرث ايضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث، والمسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات. * * * ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم - 224. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم - 225. للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فائوا فإن الله غفور رحيم - 226. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم - 227.
[ 222 ]
(بيان)
قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا إلى آخر الآية، العرضة بالضم من العرض وهو كإرائة الشئ للشئ حتى يرى صلوحه لما يريده ويقصده كعرض المال للبيع وعرض المنزل للنزول وعرض الغذاء للاكل، ومنه ما يقال للهدف: إنه عرضة للسهام، وللفتاة الصالحة للازدواج انها عرضة للنكاح، وللدابة المعدة للسفر إنها عرضة للسفر وهذا هو الاصل في معناها، واما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق وكذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات وتواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخلية في اصل المعنى. والايمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف والعهد والبيعة ونحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للاصبع التي يسب بها. ومعنى الآية (والله اعلم): ولا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها ايمانكم التي عقدتموها بحلفكم ان لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى ان يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما امر به من البر والتقوى والاصلاح بين الناس، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إنشاء الله. وعلى هذا يصير قوله تعالى: أن تبروا " إلخ "، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا، وهو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى " يبين الله لكم أن تضلوا " النساء - 17، اي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا، ويمكن أن لا يكون بتقدير، لا، وقوله تعالى: أن تبروا، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: ولا تجعلوا، من النهى أي ينهيكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ويمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الاكثار من الحلف بالله سبحانه، والمعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أديكم إلى أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم
[ 223 ]
ما حلف به ويصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، وكذا يهون خطبه وينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق ويعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، ولا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حد قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف مهين " القلم - 10، والانسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله ولا تجعلوا، كما مر. وفي قوله تعالى: والله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني أن المعنى الاول أظهرها كما لا يخفى. قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم إلى آخر الآية، اللغو من الافعال مالا يستبعد أثرا، وأثر الشئ يختلف فاختلاف جهاته ومعلقاته، فلليمين إثر من حيث انه لفظ، واثر من حيث انه مؤكد للكلام، واثر من حيث انه عقد واثر من حيث حنثه ومخالفة مؤداه، وهكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين وبين المؤاخذة على ما كسبت القلوب وخاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، وهو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شئ من قول: لا والله وبلى والله. والكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما واصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الانسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الانسان بعمل من اعماله من خير أو شر ككسب المدح والفخر وبحسن الذكر بحسن الخلق والخدمات النوعية وكسب الخلق الحسن والعلم النافع والفضيلة بالاعمال المناسبة لها، وكسب اللوم والذم، واللعن والطعن، والذنوب والآثام، ونوهما بالآعمال المستتبعة لذالك، فهذا هو معنى الكسب والاكتساب، وقد قيل في الفرق بينهما أن الاكتساب اجتلاب الانسان المنفعة لنفسه، والكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده وكسب الولي للمولى عليه ونحو ذلك. وكيف كان فالكاسب والمكتسب هو الانسان لاغير.
(كلام في معنى القلب في القرآن)
وهذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الانسان بمعنى النفس والروح،
[ 224 ]
فإن التعقل والتفكر والحب والبغض والخوف وأمثال ذلك وإن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الاذن والابصار إلى العين والذوق إلى اللسان، لكن الكسب والاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الانسان البتة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى: " وجاء بقلب منيب " ق - 33. والظاهر: أن الانسان لما شاهد نفسه وسائر أصناف الحيوان وتأمل فيها ورأى أن الشعور والادراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، والحياة المدلول عليها بحركة القلب ونبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدء الحياة هو القلب، أي ان الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب وإن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، وإن الآثار والخواص الروحية كالاحساسات الوجدانية مثل الشعور والارادة والحب والبغض والرجاء والخوف وأمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح، وهذا لا ينافي كون كل عضو من الاعضاء مبدئا لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر والعين للابصار والسمع للوعي والرئة للتنفس ونحو ذلك، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الافعال المحتاجة إلى توسيط الآلة. وربما يؤيد هذا النظر: ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا انها تفقد الادراك ولا تشعر بشئ وتبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية ووقوف القلب عن ضرباته. وربما أيده أيضا: ان الابحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الاحكام البدنية أعني عرش الاوامر التي يمتثلها الاعضاء الفعالة في البدن الانساني، إذ لا ريب انها في عين التشتت والتفرق من حيث انفسها وافعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لامير واحد، وحدة حقيقية. ولا ينبغي ان يتوهم ان ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن امر الدماغ وما يخصه من الفعل الادراكي، فإن الانسان قد تنبه لما عليه الرأس من الاهمية منذ أقدم الازمنة، والشاهد عليه ما نرى في جميع الامم والملل على اختلاف ألسنتهم من تسميه مبدء الحكم
[ 225 ]
والامر بالرأس، واشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس والرئيس والرئاسة، ورأس الخيط، ورأس المدة، ورأس المسافة، ورأس الكلام، ورأس الجبل، والرأس من الدواب والانعام، ورئاس السيف. فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الادراك والشعور وما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب والبغض والرجاء والخوف والقصد والحسد والعفة والشجاعة والجرأة ونحو ذلك إلى القلب، ومرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح وكما ينسبونها إلى انفسهم، يقال: أحببته وأحبته روحي وأحبته نفسي وأحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب وأريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لانحاء الادراك والافعال والصفات الروحية. وفي القرآن شئ كثير من هذا الباب، قال تعالى: " يشرح صدره للاسلام " الانعام - 125، وقال تعالى: " إنك يضيق صدرك " الحجر - 97، وقال تعالى: " وبلغت القلوب الحناجر " الاحزاب - 10، وهو كناية عن ضيق الصدر، وقال تعالى: " ان الله عليم بذات الصدور " المائدة - 7، وليس من البعيد أن تكون هذه الاطلاقات في كتابه تعالى اشارة إلى تحقيق هذا النظر وان لم يتضح كل الاتضاح بعد. وقد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الادراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الادراك وللدماغ الوساطد. ولنرجع إلى الآية ولا يخلو قوله تعالى: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الاضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين وهو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه ولكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره وهو الاثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي وإضراب في إضراب للاشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى: " إن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " البقرة - 284، وقال تعالى: " ولكن يناله التقوى منكم " الحج - 37. وفي قوله تعالى: والله غفور حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما
[ 226 ]
لا ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى: " وقد أفلح المؤمنون إلى أن قال والذين هم عن اللغو معرضون " المؤمنون - 3. قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم " الخ "، الايلاء من الالية بمعنى الحلف، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا واضرارا، وهو المراد في الآية، والتربص هو الانتظار، والفئ هو الرجوع. والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، ويشعر به تحديد التربص بالاربعة أشهر فإنها الامد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع ايقاعه، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فإن الله سميع عليم، فإن السمع انما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه. وفي قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ. واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: " لا يؤاخذكم " الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية " المائدة - 89. فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم اربعة اشهر فإن رجع إلى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق واوقعه فهو المخلص الآخر، والله سميع عليم.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم الآية، قال عليه السلام: هو قول الرجل: لا والله وبلى والله. وفيه أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام في الآية: يعني الرجل يحلف أن لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك أو لا يكلم أمه. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل على يمين ان لاافعل.
[ 227 ]
اقول: والرواية الاولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث، فكأن المراد انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الاثم والله يغفر له، فيكون مصداقا للعامل بالآية. وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم الآية، قال: اللغو قول الرجل: لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ. اقول: وهذا المعنى مروي في الكافي عنه عليه السلام من غير الطريق، وفي المجمع عنه وعن الباقر عليه السلام. وفي الكافي أيضا عن الباقر والصادق عليهما السلام انهما قالا: إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الاربعة اشهر، ولا إثم عليه في الكف عنها في الاربعة اشهر، فإن مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إما ان تفئ فتمسها وإما ان تطلق، وعزم الطلاق ان يخلي عنها، فإذا حاضت وطهرت طلقها، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله. وفيه ايضا عن الصادق عليه السلام في حديث: والايلاء ان يقول: والله لا اجامعك كذا وكذا أو يقول: والله لاغيظنك ثم يغاظها، الحديث. اقول: وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة، والبحث فقهي مذكور في الفقه. * * * والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
[ 228 ]
درجة والله عزيز حكيم - 228. الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون - 229. فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون - 230. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم - 231. وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 232. والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم
[ 229 ]
بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير - 233. والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير - 234. ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم - 235. لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين - 236. وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير - 237. حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين - 238. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون - 239. والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم - 240. وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين - 241. كذلك يبين الله
[ 230 ]
لكم آياته لعلكم تعقلون - 242.
(بيان)
الآيات في احكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها، وفي خلالها شئ من احكام الصلاة. قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، اصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال. والتربص هو الانتظار والحبس، وقد قيد بقوله تعالى: بأنفسهن، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة اعني عدة الطلاق، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه، ويزيد على معنى العدة الاشارة إلى حكمة التشريع، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الانساب، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين والاحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، والجملة خبر أريد به الانشاء تأكيدا. والقروء جمع القرء، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا، فهو على ما قيل من الاضداد، غير ان الاصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلى هذا فالاظهر ان يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القرائه، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأن الاصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة - 18، وقوله تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " بني إسرائيل - 106، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما، وبه سمي القرآن قرآنا.
[ 231 ]
قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسما جامع للامرين: الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى. قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك، وفي تقييده بقوله: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط اصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الاشارة إلى ان هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم، وهذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس ان أردت خيرا، وقولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء. قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ان ارادوا اصلاحا، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل اصلا يشتق منه الالفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، وللارض المستعلية بعل، وللصنم بعل، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك. والضمير في بعولتهن للمطلقات إلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الاعم منها ومن البائنات، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة، والتقييد بقوله ان ارادوا اصلاحا، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، الآية. ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الاول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق، والزوج الاول احق بها لسبق
[ 232 ]
الزوجية، غير ان الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الاول. ومن هنا يظهر: ان في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في ايام العدة، وهذه الاحقية انما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، وهذه هي القرينة على ان الحكم مخصوص بالرجعيات، لا ان ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر. قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل اعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، وحكم الشرع، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الادب. وحيث بنى الاسلام شريعته على اساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة، ومن احكام الاجتماع المبني على اساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما عليهم مثل مالهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، وللمحكوم محكوميته، وللعالم علمه، وللجاهل حاله، وللقوي من حيث العمل قوته، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حق حقه، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والاسلام يرى في ذلك ان للرجال عليهن درجة، والدرجة المنزلة. ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قيد متمم للجملة السابقة، والمراد بالجميع معنى واحد وهو: ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم،
[ 233 ]
وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها. قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمكساك بمعروف أو تسريح بإحسان، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما ان الدفعة والكرة والنزلة مثلها وزنا ومعنى واعتبارا. والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الابل وهو ان ترعيه السرح، وهو شجر له ثمر يرعاه الابل وقد استعير في الآية لاطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجئ. والمراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرتان، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد: فإمساك " الخ "، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية. والمراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الاوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الاظهر انه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الاطلاق في تفريع قوله: فإمساك " الخ "، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها " الخ " بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الاجمالي. وفي تقييد الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان من لطيف العناية مالا يخفى، فإن الامساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك، يريد بذلك إيذائها والاضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه، بل الامساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع إليها بنوع من انواع الالتيام، ويتم به الانس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة. وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب، ويتصور بصورة الانتقام، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، وهذا التعبير هو الاصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيد
[ 234 ]
التسريح بالاحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. بيانه: ان التقييد بالمعروف والاحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفي الامساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان يأخذ الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالاحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي، ولو قيل: أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم " الخ "، فاتت النكتة. قوله تعالى: إلا ان يخافا الا يقيما حدود الله، الخوف هو الغلبة على ظنهما ان لا يقيما حدود الله، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين، وذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك. قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كانه للاشارة إلى لزوم ان يكون الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة، لاما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها، ولذلك عدل أيضا عن الاضمار فقيل ألا يقيما حدود الله، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس. وأما نفى الجناح عنهما مع ان النهي في قوله: ولا يحل لكم ان تأخذوا " الخ "، إنما تعلق بالزوج فلان حرمة الاخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من باب الاعانة على الاثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية، ولاجناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين على الاخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به. قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله " الخ "، المشار
[ 235 ]
إليه هي المعارف المذكورة في الايتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل اخلاقية، وأخرى علمية مبتنية على معارف اصلية، والاعتداء والتعدي هو التجاوز. وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والاصول الاخلاقية، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على اجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية " البقرة - 231. وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحل لكم، وقوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثم إلى المفرد في قوله: فاولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء. قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع ان المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، وليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد والوطئ جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الاول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الاوليين، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله. ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لان المراد بالحدود غير الحدود. وفي الآية من عجيب الايجاز مايبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير ان يوجب تعقيدا في الكلام، ولا إغلاقا في الفهم.
[ 236 ]
وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الاسماء المنكرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة اسماء منكرة، وقوله تعالى: مما آتيتموهن شيئا كني به عن المهر، وقوله تعالى: فإن خفتم، كني به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، وقوله تعالى: فيما افتدت به، كني به عن مال الخلع، وقوله تعالى: فإن طلقها، اريد به التطليقة الثالثة، وقوله تعالى: فلا تحل له، أريد به تحريم العقد والوطئ، وقوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، أريد به العقد والوطئ معا كناية مؤدبة، وقوله تعالى: ان يتراجعا، كني به عن العقد. وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله: إن ظنا ان يقيما حدود الله، والتفنن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها وقوله: ومن يتعد. قوله تعالى: وإذاطلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: لتعتدوا، المراد ببلوغ الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، والدليل على ان المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، إذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة: وفي قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالاخذ من المهر في غير الخلع. قوله تعالى: ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الامساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، ولا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز، والامساك خاصة رجوع إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق، وفيه جمع الشمل بعد شتاته، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة. فمن يفعل ذلك أي امسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الانسانية. على انه اتخذ آيات الله هزوا يستهزء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم
[ 237 ]
من الاحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذا وإعطائا وإمساكا وتسريحا وغير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، ويتم بها سعادة الحياة الانسانية، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، وتطهر بها الارواح، وتصفو بها المعارف العالية: من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا. والمراد بالنعمة في قوله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: " وأتممت عليكم نعمتي " المائدة - 3، وقوله تعالى: " وليتم نعمته عليكم " المائدة - 6، وقوله تعالى: " فأصبحتم بنعمته إخوانا " آل عمران - 103. وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده: وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به، كالمفسر لهذه النعمة، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها. ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الالهية، التكوينية وغيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الاحكام وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شئ عليم، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره. قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، العضل المنع، والظاهر أن الخطاب في قوله: فلا تعضلوهن، لاوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لايسعهن مخالفته، والمراد بأزواجهن، الازواج قبل الطلاق، فالآية تدل على نهي الاولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة ان تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي.
[ 238 ]
اما اولا: فلان قوله: فلا تعضلوهن، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره. واما ثانيا: فلان اختصاص الخطاب بالاولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم، وأن النهى نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى: ذلكم ازكى لكم وأطهر. وربما قيل: إن الخطاب للازواج جريا على ما جرى به قوله: وإذا طلقتم النساء، والمعنى: وإذا طلقتم النساء يا أيها الازواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو ذلك. وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهن، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجا وهو ظاهر. والمراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهن: انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لاحد من الاولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن احق بردهن في ذلك. على أن قوله تعالى: ان ينكحن، دون ان يقال: يرجعن ونحوه ينافي ذلك. قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، هذا كقوله فيما مر: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر الآية، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالايمان بالله واليوم الآخر، وهو التوحيد، لان دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، ويقضي بالوصل دون الفصل. وفي قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، والاصل في هذا الكلام خطاب المجموع اعني خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحده في غير جهات الاحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، وقوله فاولئك هم الظالمون، وقوله: وبعولتهن احق بردهن في ذلك، وقوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظا لقوام الخطاب، ورعاية لحال من هو ركن في هذه
[ 239 ]
المخاطبة وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، وغيره فخاطب بوساطته، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه. قوله تعالى: ذلكم ازكى لكم واطهر، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، وقد مر الكلام في معنى الطهارة، والمشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى ازواجهن، أو نفس رجوعهن إلى ازواجهن، والمال واحد، وذلك ان فيه رجوعا من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن واطهر لنفوسهن، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الاجانب إذا منعن عن نكاح ازواجهن. والاسلام دين الزكاة والطهارة والعلم، قال تعالى: " ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولكن يريد ليطهركم " المائدة - 7. قوله تعالى: والله يعلم وانتم لا تعلمون، اي إلاما يعلمكم كما قال تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة " آل عمران - 164، وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء " البقرة - 255، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله. قوله تعالى: والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعه. الوالدات هن الامهات، وإنما عدل عن الامهات إلى الوالدات لان الام اعم من الوالدة كما ان الاب اعم من الوالد والابن اعم من الولد، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له، واما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه اشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه ان يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته، ومنها كسوة امه التي ترضعه، ونفقتها، وكان على أمه ان لا تضار والده لان الولد مولود له.
[ 240 ]
ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لان الاولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الامهات، وأنشد المأمون بن الرشيد: وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللآباء أبناء. انتهى ملخصا، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى: أولادهن ويقول: بولدها، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس. وقد اختلط على كثير من علماء الادب امر اللغة، وامر التشريع، حكم الاجتماع وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية. وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده اليهما معا، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الامم: فبعض الامم يلحقه بالوالدة، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض، وتشير إليه بقوله: المولود له كما تقدم، والارضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه، والحول هو السنة سميت به لانها تحول، وإنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: اقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه اياما. وفي قوله تعالى: لمن اراد ان يتم الرضاعة، دلالة على ان الحضانة والارضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها، والبلوغ إلى آخر المدة ايضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك، واما الزوج فليس له في ذلك حق الا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن ارادا فصالا " الخ ". قوله تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس الا وسعها، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج، وهو قوله تعالى: لا تكلف نفس الا وسعها، وقد فرع عليه حكمين
[ 241 ]
آخرين، احدهما: حق الحضانة والارضاع الذي للزوجة وما اشبهه فلا يحق للزوج ان يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة وحرج عليها، وثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك، وذلك قوله تعالى: لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله: بولده دون ان يقول به رفع التناقض المتوهم، فإنه لو قيل: ولا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى: ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لان إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي إن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده وولدها، وله فحسب تشريعا لانه مولود له. قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك، ظاهر الآية: ان الذى جعل على الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، وقد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها، وقد تركنا ذكرها لانها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الاخبار، وهو الموافق أيضا لظاهر الآية. قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور إلى آخر الآية، الفصال: الفطام، والتشاور: الاجتماع على المشورة، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين، فالحضانة والرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو حق يمكنها أن تتركه. فمن الجائز ان يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس، وكذا من الجائز ان يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن ارضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، وهو قوله تعالى: وإن أردتم أن تسترضعوا اولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، أمر بالتقوى وان
[ 242 ]
يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الاعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك: واتقوا الله واعلموا ان الله بما تعملون بصير، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن الآية من قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا ان الله بكل شئ عليم، فان تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، والمضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الاثر بعد. قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا، التوفي هو الاماتة، يقال: توفاه الله إذا اماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما، والمراد بالعشر الايام حذفت لدلالة الكلام عليه. قوله تعالى: فإذا بلغن اجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف المراد ببلوغ الاجل انقضاء العدة، وقوله: فلا جناح " الخ " كناية عن إعطاء الاختيار لهن في افعالهن فإن اخترن لانفسهن الازدواج فلهن ذلك، وليس لقرابة الميت منعهن عن شئ من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع وليس لاحد ان ينهي عن المعروف. وقد كانت الامم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحزاق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها وإقبارها معه، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها، وهو مبني على أساس الانس والالفه، وللحب حرمة يجب رعايتها، وهذا وان كان معنى قائما بالطرفين، ومرتبطا بالزوج والزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الايدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه
[ 243 ]
الاقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، وقد عين الاسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة، أعني اربعة أشهر وعشرا. قوله تعالى: والله بما تعملون خبير، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها، وكان كل ذلك تشخيصا للاعمال مستندا إلى الخبرة الالهية كان الانسب تعليله بأن الله خبير بالاعمال مشخص للمحظور منها عن المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لانفسهن في مورد آخر، ولذا ذيل الكلام بقوله: والله بما تعملون خبير. قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في انفسكم التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح. والفرق بين التعريض والكناية ان للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إني حسن المعاشرة واحب النساء، اي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش وصرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد انه سخي. والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولايقال: خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء. والاكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الاكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في انفسكم، والكن بما يستر بشئ من الاجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى: " كأنهن بيض مكنون " الصافات - 49، وقال تعالى: " كأمثال اللؤلؤء المكنون " الواقعة - 23، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في امرها. قوله تعالى: علم الله انكم ستذكرونهن، في مورد التعليل لنفي الجناح عن
[ 244 ]
الخطبة والتعريض فيها، والمعنى: ان ذكركم إياهن امر مطبوع في طباعكم والله لاينهي عن امر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم، بل يجوزه، وهذا من الموارد الظاهرة في ان دين الاسلام مبني على اساس الفطرة. قوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره الا ان يبطل من رأس، والعقدة من العقد بمعنى الشد. وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كأن حبالة النكاح تصير الزوجين واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو امر قلبي اشارة إلى ان سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد والادراك، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة الآية " البقرة - 213، ففي الآية استعارة وكناية، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص الذي فرضه الله على المعتدات. فمعنى الآية: ولاتجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، وهذه الآية تكشف أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن، وعلى هذا فاللام في قوله: النساء للعهد دون الجنس وغيره. قوله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم " الخ " ايراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، اعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الامور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها. قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضه، المس كناية عن المواقعة، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر، والمعنى: ان عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر. قوله تعالى: ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف،
[ 245 ]
التمتيع إعطاء ما يتمتع به، والمتاع والمتعة ما يتمتع به، ومتاعا مفعول مطلق لقوله تعالى: ومتعوهن، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنه من الافعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد. ومعنى الآية: يجب عليكم ان تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف وإنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع، وعلى المقتر قدره من التمتيع، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، والدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها. قوله تعالى: حقا على المحسنين، اي حق الحكم حقا على المحسنين، وظاهر الجملة وان كان كون الوصف اعني الاحسان دخيلا في الحكم، وحيث ليس الاحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا ان النصوص من طرق اهل البيت تفسر الحكم بالوجوب، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الاحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم - المحسنون، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون، والله اعلم. قوله تعالى: وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن " الخ "، أي وان اوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور ايضا، أو الزوج فان عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لان من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الاعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه اقوى وأقدر. قوله تعالى: ولا تنسوا الفضل بينكم " الخ " الفضل هو الزيادة كالفضول غير
[ 246 ]
ان الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي ان يؤثره الانسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، والمراد به الترغيب في الاحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس، والنكتة في قوله تعالى: إن الله على كل شئ بصير، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولاد هن الآية. قوله تعالى: حافظوا على الصلوات إلى آخر الآية، حفظ الشئ ضبطه وهو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، والوسطى مؤنث الاوسط، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، وإنما تفسيره السنة، وسيجئ ما ورد من الروايات في تعيينه. واللام في قوله تعالى: قوموا لله، للغاية، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس بفعله، والقنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: " كل له قانتون " البقرة - 116، وقال تعالى: " ومن يقنت منكن لله ورسوله " الاحزاب - 31، فمحصل المعنى: تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولاجله. قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إلى آخر الآية عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، وإن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب، وهذه صلاة الخوف. والفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي ان المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من اصله بل إن لم تخافوا شيئا وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم، وإن زال عنكم الخوف بتجدد الامن ثانيا عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه. والكاف في قوله تعالى: كما علمكم، للتشبيه، وقوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم، والمعنى على
[ 247 ]
هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الامن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين. قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لالزواجهم. وصية مفعول مطلق لمقدر، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي. وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة، أعني الاربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نسائهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الازواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير ان هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه كان لهن ان يطالبن به، وان يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت ان يوصي للوالدين والاقربين بالمعروف، قال تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين " البقرة - 180. ومما ذكرنا يظهر ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن. قوله تعالى: وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، الآية في حق مطلق المطلقات، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب. قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، الاصل في معنى العقل العقد والامساك وبه سمي إدراك الانسان إدراكا يعقد عليه عقلا، وما أدركه عقلا، والقوة التي يزعم انها إحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلا، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة. والالفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الادراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، والحسبان، والشعور، والذكر، والعرفان، والفهم، والفقه، والدراية، واليقين، والفكر، والرأى، والزعم، والحفظ، والحكمة، والخبرة، والشهادة، والعقل، ويلحق بها مثل القول، والفتوى، والبصيرة ونحو ذلك. والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع، وكذا الحسبان،
[ 248 ]
غير ان الحسبان كأن استعماله في الادراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا: عد زيدا من الابطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب. والشعور هو الادراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، ومنه إطلاق المشاعر للحواس. والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الادراك أو حفظه من ان يغيب عن الادراك. والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق. والفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه. والفقه: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق. والدراية: هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الامر وتعظيمه، قال تعالى: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة - 2، وقال تعالى: انا انزلناه في ليلة القدر، وما ادراك ما ليلة القدر " القدر - 2. واليقين: هو اشتداد الادراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن. والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات. والرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي، غير انه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الامور التكوينية، ويقرب منه البصيرة، والافتاء، والقول، غير ان استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لان القول في شئ يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه. والزعم: هو التصديق من حيث أنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا. والعلم كما مر: هو الادراك المانع من النقيض
[ 249 ]
والحفظ: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال. والحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها. والخبره: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها. والشهادة: هو نيل نفس الشئ وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والارادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك. والالفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الاخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة، فلا يقال فيه تعالى: انه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك. واما الالفاظ الخمسة الاخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: " والله بكل شئ عليم " النساء - 75، وقال تعالى: " وربك على كل شئ حفيظ " سبأ - 21، وقال تعالى: " والله بما تعملون خبير " البقرة - 234، وقال تعالى: " هو العليم الحكيم " يوسف - 83، وقال تعالى: " إنه على كل شئ شهيد " فصلت - 53. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الادراك من حيث ان فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في اول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الاشياء، وباخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الاشياء الخارجة عنها كالارادة، والحب والبغض، والرجاء، والخوف، ونحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريات والامور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، وفي العمليات والامور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الاصلية، وهذا هو العقل.
[ 250 ]
لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الافراط والتفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض وليس بقاض، كذلك الانسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الانسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب. وعلى هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الانسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط، قال تعالى " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير " الملك - 10. وقال تعالى: " أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج - 46، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الانسان بالقيام عليه بنفسه، والسمع في الادراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، وقال تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " البقرة - 130، وقد مر ان الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن الحديث. فقد تبين من جميع ما ذكرنا: ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي يتم للانسان مع سلامه فطرته، وبه يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، فبالبيان يتم العلم، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون " العنكبوت - 43.
(بحث روائي)
في سنن أبي داود عن اسماء بنت يزيد بن السكن الانصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق:
[ 251 ]
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " فكانت أول من انزلت فيها العدة للطلاق. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، عن زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي وهو يقول: ان من رأيي ان الاقراء التي سمى الله في القرآن انما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليس إ بالحيض، قال: فدخلت على ابي جعفر عليه السلام فحدثته بما قال ربيعة فقال: ولم يقل برأيه انما بلغه عن علي عليه السلام فقلت: اصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك ؟ قال: نعم، كان يقول: انما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: اصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرا غير جماع بشهادة عدلين ؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للازواج، الحديث. اقول: هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه عليه السلام، وقوله: قلت: اصلحك الله أكان علي عليه السلام يقول ذلك إنما استفهم ذلك بعد قوله عليه السلام: إنما بلغه عن علي، لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول: إن القروء في الآية هي الحيض دون الاطهار كما في الدر المنثور عن الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحل للازواج، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك وينسبون إليه (عليه السلام): أن الاقراء الاطهار دون الحيض كما مرت في الرواية، وقد نسبوا هذا القول إلى عدة أخرى من الصحابة غيره (عليه السلام) كزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ورووه عنهم. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا يحل لهن ان يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية: الحبل والحيض. وفي تفسير القمي: وقد فوض الله إلى النساء ثلاثة اشياء: الطهر والحيض والحبل. وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة، قال: قال عليه السلام حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال. اقول: وهذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن ابي جعفر عليه السلام، قال: إن الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
[ 252 ]
أو تسريح بإحسان والتسريح بالاحسان هو التطليقة الثالثة. وفي التهذيب عن ابي جعفر عليه السلام، قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقرائها فإذا مضت اقرائها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، وإن شاءت فلا، وإن أراد ان يراجعها أشهد على رجعتها قبل ان تمضي اقرائها، فتكون عنده على التطليقة الماضية، الحديث. وفي الفقيه عن الحسن بن فضال، قال: سألت الرضا عن العلة التي من اجلها لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال عليه السلام: إن الله عز وجل إنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز وجل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، ولدخوله فيما كره الله عز وجل من الطلاق الذي حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق ولا تضار النساء، الحديث. اقول: مذهب أئمة اهل البيت: ان الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إلا تطليقة واحدة، وإن قال طلقتك ثلاثا على ماروته الشيعة، واما اهل السنة والجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدل على وقوعه طلاقا واحدا، وبعضها يدل على وقوع الثلاثة، وربما رووا ذلك عن علي وجعفر بن محمد عليهما السلام، لكن يظهر من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم والنسائي وأبي داود وغيرهم: ان وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي الدر المنثور: اخرج عبد الرزاق ومسلم وابو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدا فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في امر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فامضاه عليهم. وفي سنن ابي داود عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة ام ركانة ونكح امرأة من مزينة فجائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة اخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حميه فدعا بركانه واخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا وفلان منه كذا وكذا
[ 253 ]
قالوا نعم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، قال: راجع امرأتك ام ركانة فقال: اني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت ارجعها وتلا: يا ايها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وفي الدر المنثورعن البيهقي عن ابن عباس، قال: طلق ركانة امراة ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها ؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: نعم فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها فكان ابن عباس يرى انما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي امر الله بها: فطلقوهن لعدتهن. اقول: وهذا المعنى مروي في روايات أخرى ايضا والكلام على هذه الاجازة نظير الكلام المتقدم في متعة الحج. وقد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإن المرتين والثلاث لا يصدق على ما انشئ بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل، وفي المجمع في قوله تعالى: أو تسريح بإحسان، قال: فيه قولان، احدهما: انه الطلقة الثالثة، والثاني انه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة، عن السدي والضحاك، وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. اقول: والاخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا ان يخافا ان لا يقيما حدود الله الآية، عن الصادق عليه السلام قال: الخلع لا يكون إلا ان تقول المرأة لزوجها: لاابرلك قسما، ولاخرجن بغير اذنك، ولاوطئن فراشك غيرك ولااغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك امرا أو تطلقني، فإذا قالت ذلك فقد حل له ان يأخذ منها جميع ما اعطاها وكل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، وهو خاطب من الخطاب، فإن شائت زوجته نفسها، وان شائت لم تفعل، فإن زوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين وينبغي له ان يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في شئ مما اعطيتني فأنا املك ببضعك، وقال عليه السلام: لا خلع ولا مباراة ولا تخيير الا
[ 254 ]
على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، والمختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلقها يحل للآول ان يتزوج بها، وقال: لا رجعة للزوج على المختلعة ولا على المباراة إلا ان يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها. وفي الفقيه عن الباقر عليه السلام قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لااطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حل له ان يأخذ منها، وليس له عليها رجعة. وفي الدر المنثور: أخرج احمد عن سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته، وكان رجلا دميما فجائت وقالت يا رسول الله إني لا أراه، فلولا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها: أتردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته وفرق بينهما، فكان ذلك اول خلع كان في الاسلام. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: وتلك حدود الله فلا تعتدوها الآية، فقال إن الله غضب على الزاني فجعل له مأة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه برئ فذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها. وفي الكافي عن ابي بصير قال: المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، قال: هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة، وهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها. اقول: العسيلة الجماع، قال في الصحاح: وفي الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل، وصغرت بالهاء لان الغالب في العسل التأنيث ويقال: إنما انث لانه اريد به العسلة وهي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، انتهى. وقوله عليه السلام: ويذوق عسيلتها، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك، في قصة رفاعة. ففي الدر المنثور: عن البزاز والطبراني والبيهقي: ان رفاعة بن سموأل طلق امرأته فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله قد تزوجني عبد الرحمن وما معه إلا مثل هذه، وأومأت إلى هدبة من ثوبها، فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثم قال
[ 255 ]
لها: تريدين ان ترجعي إلى رفاعة: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. أقول: والرواية من المشهورات، رواها جمع كثير من الرواة من ارباب الصحاح وغيرهم من طرق أهل السنة، والجماعة وبعض الخاصة، وألفاظ الروايات وإن كانت مختلفة لكن أكثرها تشتمل على هذه اللفظة. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام عن تزويج المتعة أيحلل ؟ قال: لا لان الله يقول فإن طلقها فلا تحل له أن تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا، والمتعة ليس فيه طلاق. وفيه أيضا عن محمد بن مضارب قال: سئلت الرضا عليه السلام عن الخصي يحلل ؟ قال: لا يحلل. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا الآية، قال: قال عليه السلام: إذا طلقها لم يجز له ان يراجعها إن لم يردها. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها، وليس له فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه، الا ان يطلق ثم يراجع وهو ينوي الامساك. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ولا تتخذوا آيات الله هزوا الآية، عن عمر ابن الجميع رفعه إلى امير المؤمنين عليه السلام في حديث، قال: ومن قرأ القرآن من هذه الامة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، الحديث. في صحيح البخاري في قوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن، الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: فلا تعضلوهن ان ينكحن ازواجهن. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عنه وعن عدة من ارباب الصحاح كالنسائي وابن ماجة والترمذي وابن داود وغيرهم. وفي الدر المنثور ايضا عن السدي، قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله
[ 256 ]
الانصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة وانقضت عدتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد ان تنكحها الثانية وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله وإذا طلقتم النساء، الآية. أقول: لاولاية للاخ ولا لابن العم على مذهب أئمة أهل البيت فلو سلمت إحدى الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية، ولا لجعل حكم وضعي بل للارشاد إلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفية متعلقة بكل من يعضلهن عن النكاح لاغير. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن، الآية عن الصادق عليه السلام، قال: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، قال: ما دام الولد في الرضاع فهو بين الابوين بالسوية فإذا فطم فالوالد أحق به من العصبة وإن وجد الاب من يرضعه بأربعة دراهم، وقالت الام: لاأرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه منها، إلا ان ذلك اجبر له وأقدم وأرفق به أن يترك مع أمه. وفيه أيضا عنه في قوله تعالى: لاتضار والدة الآية، قال عليه السلام: كانت المرأة ممن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك، إنى أخاف أن احمل على ولدي، ويقول الرجل للمرأة: لااجامعك إنى أخاف ان تعلقي فأقتل ولدي، فنهى الله أن يضار الرجل المرأة والمرأة الرجل. وفيه ايضا عن احدهما عليهما السلام في قوله تعالى: وعلى الوارث مثل ذلك قال: هو في النفقة: على الوارث مثل ما على الوالد. وفيه أيضا عن الصادق عليه السلام في الآية: قال لا ينبغي للوارث ايضا ان يضار المرأة فيقول: لاأدع ولدها يأتيها، ويضار ولدها إن كان لهم عنده شئ، ولا ينبغي له ان يقتر عليه. وفيه ايضا عن حماد عن الصادق عليه السلام قال: لارضاع بعد فطام، قال: قلت له: جعلت فداك وما الفطام ؟ قال: الحولين الذي قال الله عز وجل. اقول: قوله: الحولين، حكاية لما في لفظ الآية ولذا وصفه عليه السلام بقوله: الذي قال الله.
[ 257 ]
وفي الدر المنثور: اخرج عبد الرزاق في المصنف وابن عدي عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لايتم بعد حلم، ولا رضاع بعد فصال، ولا صمت يوم إلى الليل، ولا وصال في الصيام، ولا نذر في معصية، ولا نفقة في المعصية، ولا يمين في قطيعة رحم، ولا تعرب بعد الهجرة، ولا هجرة بعد الفتح، ولا يمين لزوجة مع زوج، ولا يمين لولد مع والد، ولا يمين لمملوك مع سيده، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك. وفي تفسير العياشي عن ابي بكر الحضرمي عن الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية: والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشرا جئن النساء يخاصمن رسول الله وقلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله: كانت إحديكن إذا مات زوجها اخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول اخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت فوضع الله عنكن ثمانية اشهر. وفي التهذيب عن الباقر عليه السلام كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو امة، وعلى اي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة اربعة اشهر وعشرا. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة اشهر وصارت عدة المتوفي عنها زوجها أربعة اشهر وعشرا ؟ فقال: اما عدة المطلقة ثلاث قروء فلاجل استبراء الرحم من الولد، وأما عدة المتوفى عنها زوجها فإن الله شرط للنساء شرطا وشرط عليهن: وأما ما شرط لهن ففي الايلاء اربعة اشهر إذ يقول: للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة أشهر، فلن يجوز لاحد اكثر من اربعة اشهر لعلمه تبارك وتعالى انها غاية صبر المرأة من الرجل، وأما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتد إذا مات زوجها أربعه أشهر وعشرا فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته. أقول: وهذا المعنى مروي أيضا عن الرضا والهادي عليهما السلام بطرق أخرى
[ 258 ]
وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء، الآية: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، ولا تقول: إني أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الامر في البضع وكل أمر قبيح، وفي رواية أخرى تقول لها وهي في عدتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرك ولو قد مضى عدتك لا تفوتيني إنشاء الله، ولا تستبقي بنفسك، وهذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح. اقول: وفي هذا المعنى روايات أخر عنهم عليهم السلام. وفي تفسير العياشي: في قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، الآية، عن الصادق عليه السلام، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها وإن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وليس لها عدة وتزوج من شاءت من ساعتها. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا وإن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء. اقول: وفيه تفسير المتاع بالمعروف. وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي وغيرها عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى: الذي بيده عقدة النكاح، قالا: هو الولي. اقول: والروايات فيه كثيرة، وقد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنة والجماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام: ان الذي بيده عقدة النكاح الزوج. في الكافي والفقيه وتفسير العياشي والقمي في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام: أن الصلاة الوسطى هي الظهر. اقول: هذا هو المأثور عن أئمة اهل البيت في الروايات المروية عنهم لسانا واحدا. نعم في بعضها انها الجمعة إلا أن المستفاد منها انهم اخذوا الظهر والجمعة نوعا
[ 259 ]
واحدا لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي وتفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) واللفظ لما في الكافي، قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى، وهي صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار، ووسط صلوتين بالنهار صلوة الغداة وصلوة العصر، قال: ونزلت هذه الآية ورسول الله في سفره فقنت فيها رسول الله وتركها على حالها في السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين، وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام فمن صلى يوم الجمعه في غير جماعة فليصلها اربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الايام، الحديث، والرواية كما ترى تعد الظهر والجمعة صلاة واحدة وتحكم بأنها هي الصلاة الوسطى ولكن معظم الروايات مقطوعة، وما كان منها مسندا فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي وهي مع ذلك غير واضحة لانطباق على الآية، والله العالم. وفي الدر المنثور: اخرج احمد وابن المنيع والنسائي وابن جرير والشاشي والضياء من طريق الزبرقان: ان رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فإرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون ورائه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لينتهين رجال أو لاحرقن بيوتهن. اقول: وروي هذا السبب عن زيد بن ثابت وغيره بطرق أخرى. واعلم: أن الاقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم: فقيل إنها صلاة الصبح ورووه عن علي عليه السلام وبعض الصحابة، وقيل: إنها صلاة الظهر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقيل: إنها صلاة العصر ورووه عن النبي وعدة من الصحابة، وقد روى السيوطي في الدر المنثور فيه بضعا وخمسين رواية، وقيل: إنها صلاة المغرب، وقيل انها مخفية بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي، وروى فيهما روايات عن الصحابة، وقيل: إنها صلاة العشاء وقيل: إنها الجمعة. وفي المجمع في قوله تعالى: وقوموا لله قانتين، قال: هو الدعاء في الصلاة حال القيام، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
[ 260 ]
أقول: وروي ذلك عن بعض الصحابة. وفي تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في الآية: إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها ولا يشغله شئ. اقول: ولا منافاة بين الروايتين وهو ظاهر. في الكافي عن الصادق في قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية: إذا خاف من سبع أو لص يكبر ويومي إيمائا. وفي الفقيه عنه (عليه السلام) في صلاة الزحف، قال: تكبير وتهليل ثم تلا الآية. وفيه عنه (عليه السلام): إن كنت في ارض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا فصل الفريضة وأنت على دابتك. وفيه عن الباقر (عليه السلام): الذي يخاف اللصوص يصلي إيمائا على دابته. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة. وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج، قال عليه السلام: هي منسوخة، قلت: وكيف كانت ؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها. وفيه عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله: والذين يتوفون " الخ "، قال: منسوخة نسختها آية يتربصن بأنفسهن اربعة اشهر وعشرا، ونسختها آية الميراث. وفي الكافي وتفسير العياشي: سئل الصادق عليه السلام عن الرجل يطلق امرأته يمتعها ؟ قال: نعم، أما يحب أن يكون من المحسنين أما يحب ان يكون من المتقين ؟
(بحث علمي)
من المعلوم أن الاسلام - والذي شرعه هو الله عز اسمه - لم يبن شرائعه على اصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إلى
[ 261 ]
التأمل في الاحكام والقوانين والرسوم الدائرة بين الامم الحاضرة والقرون الخالية، ثم البحث عن السعادة الانسانية، وتطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم ومسالكهم حتى نزن به مكانته ومكانتها، ونميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها، وهذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل وسيرها، واستحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل والمذاهب في الحياة. ولذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الاسلام ويعتقده في. 1 - هوية المرأة والمقايسة بينها وبين هوية الرجل. 2 - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الانساني. 3 - حقوقها والاحكام التي شرعت لاجلها. 4 - الاساس الذي بنيت عليه الاحكام المربوطة بها. إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الاسلام وما كانت الامم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة وغير ها، والاستقصاء في ذلك وإن كان خارجا عن طوق الكتاب، لكنا نذكر طرفا منه:
(حياة المرأة في الامم غير المتمدنة)
كانت حياة النساء في الامم والقبائل الوحشية كالامم القاطنين بإفريقيا وأستراليا والجزائر المسكونة بالاوقيانوسية وامريكا القديمة وغيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الاهلية من الانعام وغيرها بالنسبة إلى حياة الانسان. فكما أن الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الانعام وسائر الحيوانات الاهلية ويتصرف فيها كيفما شاء وفي أي حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها ووبرها ولحمها وعظمها ودمها وجلدها وحليبها وحفظها وحراستها وسفادها ونتاجها ونمائها، وفي حمل الاثقال، وفي الحرث، وفي الصيد، إلى غير ذلك من الاغراض التي لا تحصى كثرة. وليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة وآمال القلوب في المأكل
[ 262 ]
والمشرب والمسكن والسفاد والراحة إلاما رضي به الانسان الذي امتلكها ولم يرضى إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها وله فيه نفع في الحياة، وربما أدى ذلك إلى تهكمات عجيبة ومجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في امر نفسه: فمن مظلوم من غير أي جرم كان اجرمه، ومستغيث وليس له أي مغيث يغيثه، ومن ظالم من غير مانع يمنعه، ومن سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في انعم عيش وألذه عنده، ومن شقي من غير استحقاق كحمار الحمل وفرس الطاحونة. وليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الانسان المالك لها حقا لنفسه فمن تعدى إليها لا يؤاخذ إلا لانه تعدى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كل ذلك لان الانسان يرى وجودها تبعا لوجود نفسه وحياتها فرعا لحياته ومكانتها مكانة الطفيلي. كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الامم والقبائل حياة تبعية، وكانت النساء مخلوقة عندهم " لاجل الرجال " بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود والحيوة لهم من غير استقلال في حياة، ولافي حق فكان آبائهن ما لم ينكحن، وبعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الاطلاق. كان للرجل ان يبيع المرأة ممن شاء وكان له ان يهبها لغيره، وكان له ان يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، وكان له ان يسوسها حتى بالقتل، وكان له ان يخلي عنها، ماتت أو عاشت، وكان له ان يقتلها ويرتزق بلحمها كالبهيمة وخاصة في المجاعة وفي المآدب، وكان له ما للمرأة من المال والحق وخاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع وشرى وأخذ ورد. وكان على المرأة ان تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعا أو كرها، وكان عليها ان لا تستقل عنه في امر يرجع إليه أو إليها، وكان عليها ان تلي امور البيت والاولاد وجميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، وكان عليها ان تتحمل من الاشغال أشقها كحمل الاثقال وعمل الطين وما يجري مجراهما ومن الحرف والصناعات أرديها وسفسافها، وقد بلغ عجيب الامر إلى حيث ان المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، ونام الرجل على فراشها أياما يتمرض ويداوي نفسه، هذه كليات ماله وعليها، ولكل جيل من هذه الاجيال
[ 263 ]
الوحشية خصائل وخصائص من السنن والآداب القومية باختلاف عاد اتها الموروثة في مناطق حياتها والاجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشؤون.
(حياة المرئة في الامم المتمدنة قبل الاسلام)
نعني بهم الامم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين والهند ومصر القديم وإيران ونحوها. تشترك جميع هؤلاء الامم: في ان المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال وحرية، لافي إرادتها ولافي أعمالها، بل كانت تحت الولاية والقيمومة، لا تنجز شيئا من قبل نفسها ولا كان لها حق المداخلة في الشؤون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما. وكان عليها: ان تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب وغير ذلك. وكان عليها: ان تختص بامور البيت والاولاد، وكان عليها ان تطيع الرجل في جميع ما يأمرها ويريد منها. وكانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالا بالنسبة إليها في الامم غير المتمدنة، فلم تكن تقتل وتؤكل لحمها، ولم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك وإن لم تكن لها ان تتصرف فيها بالاستقلال، وكان للرجل ان يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد وكان لها تطليق من شاء منهن، وكان للزوج ان يتزوج بعد موت الزوجة ولاعكس غالبا، وكانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالبا. ولكل أمة من هذه الامم مختصات بحسب اقتضاء المناطق والاوضاع: كما ان تمايز الطبقات في ايران ربما أوجب تميزا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك والحكومة أو نيل السلطنة ونحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من ام أو بنت أو اخت أو غيرها. وكما انه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعا من اشتراء نفسها ومملوكيتها، وكانت هي ممنوعة من الارث ومن ان تشارك الرجال حتى ابنائها في التغذي، وكان للرجال
[ 264 ]
ان يتشارك اكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، والانتفاع من اعمالها، ويلحق الاولاد بأقوى الازواج غالبا. وكما ان النساء كانت بالهند من تبعات ازواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي ازواجهن أبدا، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات، وهن في ايام الحيض انجاس خبيثات لازمة الاجتناب وكذا ثيابها وكل ما لامستها بالبشرة. ويمكن ان يلخص شأنها في هذه الامم: انها كالبرزخ بين الحيوان والانسان يستفاد منها استفادة الانسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا ان يمد الانسان المتوسط في امور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير انها تحت الولاية والقيمومة دائما.
(وهيهنا امم أخرى)
كانت الامم المذكورة آنفا امما تجري معظم آدابهم ورسومهم الخاصة على اساس اقتضاء المناطق والعادات الموروثة ونحوها من غير ان تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرا لكن هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة والروم واليونان. اما الكلدة والاشور فقد حكم فيهم شرع " حامورابي " بتبعية المرأة لزوجها وسقوط استقلالها في الارادة والعمل، حتى ان الزوجة لو لم تطع زوجها في شئ من امور المعاشرة أو استقل بشئ فيها كان له ان يخرجها من بيته، أو يتزوج عليها ويعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضا، ولو اخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له ان يرفع امرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم. واما الروم فهي ايضا من اقدم الامم وضعا للقوانين المدنية، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم اخذوا في تكميله تدريجا، وهو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الاوامر المختصة به، ولرب البيت وهو زوج المرأة وأبو اولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك اهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، وكان له الاختيار التام والمشية النافذة في جميع ما
[ 265 ]
يريده ويأمر به على اهل البيت من زوجة واولاد حتى القتل لو رأى ان الصلاح فيه، ولا يعارضه في ذلك معارض، وكانت النساء نساء البيت كالزوجة والبنت والاخت أردء حالا من الرجال حتى الابناء التابعين محضا لرب البيت، فإنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية، ولا ينفذ منهن معاملة، ولا تصح منهن في الامور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال اعني الاخوة والذكور من الاولاد حتى الادعياء (فإن التبني والحاق الولد بغير أبيه كان معمولا شائعا عندهم وكذا في يونان وايران والعرب) كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بامور الحياة مطلقا لانفسهم. ولم يكن اجزاء اصيلة في البيت بل كان اهل البيت هم الرجال، واما النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث ونحوها مختصه بما بين الرجال، واما النساء فلا قرابة بينهن انفسهن كالام مع البنت أو الاخت مع الاخت، ولا بينهن وبين الرجال كالزوجين أو الام مع الابن أو الاخت مع الاخ أو البنت مع الاب ولا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية (وهي التي يوجبها الاتصال في الولادة) كانت موجودة بينهم، وربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، وولاية رئيس البيت وربه لها. وبالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع (المجتمع المدني والبيتي) زمام حياتها وإرادتها بيد رب البيت من ابيها إن كانت في بيت الاب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، فربما باعها، وربما وهبها، وربما اقرضها للتمتع، وربما أعطاها في حق يراد استيفائه منه كدين وخراج ونحوهما، وربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، وبيده تدبير مالها إن ملكت شيئا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لابالارث لانها كانت محرومة منه، وبيد ابيها أو واحد من سراة قومها تزويجها، وبيد زوجها تطليقها. واما اليونان فالامر عندهم في تكون البيوت وربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم. فقد كان الاجتماع المدني وكذا الاجتماع البيتي عندهم متقوما بالرجال، والنساء تبع لهم، ولذا لم يكن لها استقلال في إرادة ولافعل إلاتحت ولاية الرجال، لكنهم
[ 266 ]
جميعا ناقضوا انفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال ولاتحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، ولاتثاب لحسناتها ولاتراعى جانبها إلا بالتبع وتحت ولاية الرجل. وهذا بعينه من الشواهد الدالة على ان جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزء ضعيفا من المجتمع الانساني ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير ان للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب ان يعتني بشأنها، وتذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، ويحتلب الرجال درها إذا احسنت أو نفعت، ولا تترك على حيال إرادتها صونا من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ اسيرا مسترقا يعيش طول حياته تحت القهر، إن جاء بالسيئة يؤاخذ بها وإن جاء بالحسنة لم يشكر لها. وهذا الذي سمعته: ان الاجتماع كان متقوما عندهم بالرجال هو الذي الزمهم ان يعتقدوا ان الاولاد بالحقيقة هم الذكور، وأن بقاء النسل ببقائهم، وهذا هو منشأ ظهور عمل التبني والالحاق بينهم، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوما بالخراب، والنسل مكتوبا عليه الفناء والانقراض، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ ابناء صونا عن الانقراض وموت الذكر، فدعوا غير ابناءهم لاصلابهم أبنائا لانفسهم فكانوا ابنائا رسما يرثون ويورثون ويرتب عليهم آثار الابناء الصلبيين، وكان الرجل منهم إذا زعم انه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض اقاربه كأخيه وابن اخيه فأورده فراش اهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه، ويقوم بقاء بيته. وكان الامر في التزويج والتطليق في اليونان قريبا منهما في الروم، وكان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير ان الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية والباقية غير رسمية.
(حال المرأة عند العرب ومحيط حياتهم محيط نزول القرآن)
وقد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة وهي منطقة حارة جدبة الارض
[ 267 ]
والمعظم من امتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة والمدنية، يعيشون بشن الغارات، وهم متصلون بإيران من جانب وبالروم من جانب وببلاد الحبشه والسودان من آخر. ولذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش، وربما وجد خلالها شئ من عادات الروم وإيران، ومن عادات الهند ومصر القديم أحيانا. كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالا في الحياة ولا حرمة ولا شرافة إلا حرمة البيت وشرافته، وكانت لا تورث النساء، وكانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود، وكذا في الطلاق، وكانت تئد البنات، ابتدء بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدة من بناتهم، والقصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجية في غيرهم، وكانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدها عارا لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، لكن يسره الابن مهما كثر ولو بالدعاء والالحاق حتى انهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، وربما نازع رجال من صناديدهم وأولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه. وربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم وخاصة للبنات في امر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة وانتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الاشراف بإيران الجاري على تمايز لطبقات. وكيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة اهل المدينة من الروم وإيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، والشركة في الامور العامة الاجتماعية كالحكم والحرب وامر الازدواج إلا استثنائا، ومن معاملة أهل التوحش والبربرية، فلم يكن حرمانهن مستندا إلى تقديس رؤساء البيوت وعبادتهم، بل من باب غلبة القوي واستخدامه للضعيف. واما العبادة فكانوا يعبدون جميعا (رجالا ونسائا) اصناما يشبه امرها امر الاصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب وارباب الانواع، وتتميز أصنامهم بحسب تميز القبائل وأهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب والملائكة (وهم بنات الله سبحانه بزعمهم) ويتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم، ومن اشياء مختلفة كالحجارة والخشب، وقد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة انهم اتخذوا لهم
[ 268 ]
صنما من الحيس فعبدوه دهرا طويلا ثم اصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم:
أكلت حنيفة ربها * زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم * سوء العواقب والتباعة
وربما عبدوا حجرا حتى إذا وجدوا حجرا أحسن منه طرحوا الاول وأخذوا بالثاني وإذا لم يجدوا شيئا جمعوا حفنة من تراب ثم جاؤا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها. وقد أودعت هذا الحرمان والشقاء في نفوس النساء ضعفا في الفكرة يصور لها أوهاما وخرافاه عجيبة في الحوادث والوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير والتاريخ. فهذه جمل من احوال المرأة في المجتمع الانساني من ادواره المختلفة قبل الاسلام وزمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التام، ويستنتج من جميع ذلك: اولا: انهم كانوا يرونها إنسانا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانا ضعيف الانسانية منحطا لا يؤمن شره وفساده لو أطلق من قيد التبعية واكتسب الحرية في حياته، والنظر الاول أنسب لسيرة الامم الوحشية والثاني لغيرهم، وثانيا: انهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي انها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، وإنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو انها كالاسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين، وثالثا: انهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها، ورابعا: ان اساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف وبعبارة أخرى قريحة الاستخدام، هذا في الامم غير المتمدنة، واما الامم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في امرها: انها انسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرها، وربما اختلط الامر اختلاطا باختلاف الامم والاجيال.
(ماذا أبدعه الاسلام في أمرها)
لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلة
[ 269 ]
والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أمة من الامم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهو ان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف اصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجبان، ويؤنب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:
وما أدري وليت إخال ادري * أقوم آل حصن أم نساء
مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة. وهذا في نفسه كاف في ان يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الانسانية في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الامم والملل في امرها، فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها وآدابها. ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة وما وصى به عيسى بن مريم عليهما السلام من لزوم التسهيل عليها والارفاق بها. وأما الاسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعا في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من اول يوم وأعفت آثارها، والغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقادا وما كانت تسير فيها سيرتها عملا. اما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان وأن كل إنسان ذكرا أو أنثى فإنه انسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكر وانثى ولا فضل لاحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: " يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الحجرات - 13، فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفا من انسانين ذكر وأنثى هما معا وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكرا أو انثى مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:
[ 270 ]
وإنما أمهات الناس اوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر:
بنونا بنو ابنائنا وبناتنا * بنوهن ابناء الرجال الاباعد
بل جعل تعالى كلا مخلوقا مؤلفا من كل. فعاد الكل امثالا، ولا بيان اتم ولا، ابلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى. وقال تعالى: " إنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " آل عمران - 195، فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيع عند الله وعلل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وهو ان الرجل والمرأة جميعا من نوع واحد من غير فرق في الاصل والسنخ. ثم بين بذلك ان عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح. وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى، ومن التقوى الاخلاق الفاضلة كالايمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الايمان، أو المليئة علما، أو الرزينة عقلا، أو الحسنة خلقا أكرم ذاتا وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة. وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل - 97، وقوله تعالى: " ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن - 40، وقوله تعالى: " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " النساء - 124.
[ 271 ]
وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذم: " وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون " النحل - 59، ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عارا على المولود له، وعمدة ذلك انهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الاول فيه فيما مر، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: " وإذا الموئودة سئلت بأي ذنب قتلت " التكوير - 9. وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر، مع أن الاسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها. واما وزنها الاجتماعي: فإن الاسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالارادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الارادة بما تحتاج إليه البنية الانسانية في الاكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى: " بعضكم من بعض " آل عمران - 195، فلها ان تستقل بالارادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق، " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ". فهما سواء فيما يراه الاسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الالهي: احديهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الاحكام بمثل ما يختص به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل. والثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور، ولذلك أيضا تأثير في أحوالها والوظائف الاجتماعية المحولة إليها. فهذا وزنها الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، واليه تنحل جميع الاحكام المشتركة بينهما وما يختص به احدهما في الاسلام، قال تعالى: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن
[ 272 ]
واسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما " النساء - 32، يريد أن الاعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، وان من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الارث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الايمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل التي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسئلوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوامون، على ما سيجئ بيانه. واما الاحكام المشتركة والمختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الاحكام العبادية والحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضى طباعها ذلك. وعمدة هذه المورد: أنها لا تتولى الحكومة والقضاء، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الامر كمداواة الجرحى مثلا، ولها نصف سهم الرجل في الارث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها، وتدورك ما فاتها بأن نفتتها في الحياة على الرجل: الاب أو الزوج، وان عليه ان يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأن لها حق تربية الولد وحضانته. وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، وأنها لازمة الارفاق في جميع الاحوال. والمتحصل من جميع ذلك: انها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، واما في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها، وأما تنظيم الحياة - الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة - للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ من
[ 273 ]
ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به، وفخرا لها تتفاخر به، وقد جوز الاسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب. والسنة النبوية تؤيد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الابحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها. واما الاساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحا فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالاخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الانسانية هي التي هدت الانسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم والعاهة. فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي بالاخرة إلى الطبيعة وان اختلف القسمان من حيث ان الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل. فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الالهي فبينه بأبدع البيان، قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر
[ 274 ]
فهدى " الاعلى - 3، وقال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقويها " الشمس - 8، إلى غير ذلك من آيات القدر. فالاشياء ومن جملتها الانسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة بسعادة الانسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقا تاما، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائا صحيحا، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم - 30، والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الاجتماعية بين الافراد - على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير ان يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلا على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلده الانسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشؤون والدرجات، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفسادا لحالهما معا. بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي ويفسر به معنى التسوية، ان يعطى كل ذي حق حقه وينزل منزلته، فالتساوي بين الافراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل اويبطل حق بغيا أو تحكما ونحو ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال. ثم إن اشتراك القبيلين اعني الرجال والنساء في اصول المواهب الوجودية اعني، الفكر والارادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والارادة اعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع، وقد اعطاها الاسلام هذا الاستقلال والحرية ه على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الارادة والعمل عن
[ 275 ]
الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: " فلا جناح عليكم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف " الآية، البقرة - 234. لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والاعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الاعضاء، واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب، وأن الاحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية. ولذلك فرق الاسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الامرين أعني التعقل، والاحساس فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، وخص مثل حضانة الاولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الارث (وهو في الحقيقة بمنزلة ان يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا وعينا وثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن. وسنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الارث إنشاء الله تعالى) ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الاشارة إليها. فان قلت: ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الاسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الاعمال والاشغال فتنمو على ذلك نمائا رديا وتنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدت التجربة ذلك.
[ 276 ]
قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الانسان نباتا حسنا أمر آخر، والذي أصيب به الاسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الاولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الاحكام، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الاولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بامورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لا تامر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الامويين والعباسيين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.
(حرية المرأة في المدنية الغربية)
لا شك ان الاسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الاسارة، وإعطائها الاستقلال في الارادة والعمل، وأن امم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الاسلام - وان اساؤوا التقليد والمحاذاة - فإن سيرة الاسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية وهي متوسطة متخللة، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها. وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الازمنة بعد ان اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله. والرأي العام عندهم تقريبا: أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل. ويتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل
[ 277 ]
في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الاحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل. ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الاسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إنشاء الله تعالى.
(بحث علمي آخر)
عمل النكاح من اصول الاعمال الاجتماعية، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، وقد عرفت أن هذه الاعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتدائا أو بالاخرة. وقد وضع الاسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاناث - لم يوضع هبائا باطلا، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الانسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الاناث وكذا العكس، وأن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدة والاولاد والارث ونحو ذلك. وأما القوانين الاخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشئ مما تعرض له الاسلام من أحكام العفة ونحو ذلك. وهذا البناء على ما يتفرع عليه من انواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة اصلا، فإن غاية ما نجده
[ 278 ]
في الانسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى امور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده ان يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الاشغال ونحو من انحاء الاعمال متفرقة في الافراد يحصل من مجموعها مجموع الاشغال والاعمال. وهذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه. ولو كان الامر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الاحكام الاجتماعية بشئ اصلا إلا الاحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا وإبطال أحكام الانساب والمواريث كما التزمته الشيوعية، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الانسان، وسنزيده إيضاحا في محل يناسبه إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، واما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الاسلامية، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه، واما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز. وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى ادخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن. * * * ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون - 243.
[ 279 ]
(بيان)
قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف حذر الموت، الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى: " ألم تر ان الله خلق السموات والارض بالحق " إبراهيم - 19، وقوله تعالى: " ألم تر كيف خلق الله سبع سموات طباقا " نوح - 15. وقد ذكر الزمخشري ان لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه الا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن ان يكون مفعولا مطلقا والتقدير يحذرون الموت حذرا. قوله تعالى: فقال لهم الله موتوا ثم احياهم، الامر تكويني ولا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات: ان ذلك كان بالطاعون، وإنما عبر بالامر، دون ان يقال: فاماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة وغلبة الامر، فإن التعبير بالانشاء في التكوينيات أقوى وآكد من التعبير بالاخبار كما ان التعبير بصورة الاخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى وآكد من الانشاء، ولا يخلو قوله تعالى: ثم أحياهم عن الدلالة على ان الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف، على ان قوله تعالى بعد: إن الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك ايضا. قوله تعالى: ولكن اكثر الناس لا يشكرون، الاظهار في موضع الاضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على ان هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالاحياء طائفة خاصة، وليس المراد كون الاكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الاكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها. وقد ذكر بعض المفسرين ان الآية مثل ضربه الله لحال الامة في تأخرها وموتها باستخزاء الاجانب إياها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثم حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيوية واستقلالها في حكومتها على نفسها.
[ 280 ]
قال ما حاصله: ان الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه اكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الاشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع ان الآية خالية عن ذلك، على ان التوراة ايضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا وآله وعليه السلام فليست الروايات إلا من الاسرائيليات التي دستها اليهود، مع ان الموت والحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى " الدخان - 56، وقوله تعالى: " وأحييتنا اثنتين " المؤمن - 11، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم اولوا القدرة والقوة من اعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم الوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل، فإن الجهل والخمود موت كما ان العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الانفال - 24، وقال تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122. وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكن الاعداء منهم ويبقون امواتا، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق انفسهم واستقلوا في امرهم، وهؤلاء الذين احياهم الله وإن كانوا بحسب الاشخاص غير الذين اماتهم الله الا ان الجميع امة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الاشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل: " انجيناكم من آل فرعون " الاعراف - 141، وقوله تعالى: " ثم بعثناكم من بعد موتكم " البقرة - 56، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخصا. وهذا الكلام كما ترى مبني اولا: على انكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مر اثباتها، على ان ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك مما لا يمكن انكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحته من طريق العقل.
[ 281 ]
وثانيا: على دعوى ان القرآن يدل على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل بمثل قوله تعالى: " لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى " الدخان - 56، وقوله تعالى: " أحييتنا اثنتين " المؤمن - 11. وفيه ان جميع الآيات الدالة على احياء الموتى كما في قصص ابراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في رد ما ذكره، على ان الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد احسن الاستفادة من قصة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتد، والمراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة. وثالثا: على ان الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم وتشخيص النبي الذي احياهم. وانت تعلم ان مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة، والكلام كما ربما يجري مجرى الاطناب كذلك يجري مجرى الايجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى: " قتل اصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " البروج - 7، وقوله تعالى: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " الاعراف - 181. ورابعا: على ان الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وانت تعلم ان نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض الا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ. فالحق ان الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة، وليت شعري اي بلاغة في ان يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى اكثر الناظرين فيه الا انه قصة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة. مع ان دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله: " مثلهم كمثل الذي " البقرة - 17، وقوله: " انما مثل الحياة الدنيا " يونس - 24، وقوله: " مثل الذين حملوا " الجمعة - 5، إلى غير ذلك.
[ 282 ]
(بحث روائي)
في الاحتجاج عن الصادق عليه السلام في حديث قال عليه السلام: أحيى الله قوما خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم، وتقطعت أوصالهم، وصاروا ترابا، فبعث الله في وقت احب ان يرى خلقه نبيا يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت ابدانهم، ورجعت فيها ارواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لايفتقدون في اعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا. أقول: وروي هذا المعنى الكليني والعياشي بنحو ابسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.
* * *
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم - 244. من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون - 245. ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين - 246 وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفيه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم - 247. وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون تحمله الملئكة
[ 283 ]
إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين - 248. فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين - 249. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وأنصرنا على القوم الكافرين - 250. فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين - 251. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين - 252.
(بيان)
الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصة طالوت وداود وجالوت يعطي ان هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم الامة في حياتهم الدينية، والدنيوية، وسعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدة والقوة، وسماه إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والايذان بالقرب، ثم يقص قصة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا ان الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم اصحاب القصة، كانوا
[ 284 ]
أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلما قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحق وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولى اكثرهم عند إنجاز القتال أو لا، وبالاعتراض على طالوت ثانيا، وبالشرب من النهر ثالثا، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقر الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوتهم، ولم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربنا افرغ علينا صبرا وانصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين ان يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين. قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، فرض وأيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم ولا يستقر في الخيال ان هذه الوظيفة الدينية المهمة لايجاد السلطة الدنيوية الجافة، وتوسعة المملكة الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الاسلامي من الاجتماعيين وغيرهم، بل هو التوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى: واعلموا ان الله سميع عليم، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير ان لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في امر طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا " الخ "، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه. قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله اضعافا كثيرة، القرض معروف وقد عد الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر انه للترغيب، ولانه إنفاق في سبيله، ولانه مما سيرد إليهم اضعافا مضاعفة. وقد غير سياق الخطاب من الامر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في سبيل الله: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الامر غير الخالي من كلفة
[ 285 ]
التكليف إلى حيز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج. قوله تعالى: والله يقبض ويبصط واليه ترجعون، القبض الاخذ بالشئ اليك ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضا وباسطا ومرجعا يرجعون إليه للاشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا ولا يستبعد تضعيفه اضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، ويزيد ما شاء، واليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية. قوله تعالى: ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إلى قوله: في سبيل الله، الملا كما قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة وأبهة. وقولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدل على ان الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلة من الديار والاولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الامر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى انفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيهم ان يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت امره في سبيل الله. قوله تعالى: قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيهم ان يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبي بل الامر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيهم الامر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيما لان الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى ان الامر منه واليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض انما تكون من الله تعالى. وقد كانت المخالفة والتولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام
[ 286 ]
ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ومالنا ان لا نقاتل في سبيل الله. قوله تعالى: قالوا: وما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا، الاخراج من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه، ومنعهم عن التصرف فيها والتمتع بها، كني به عن مطلق التصرف والتمتع، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضا كما نسب إلى البلاد. قوله تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين، تفريع على قول نبيهم: هل عسيتم " الخ "، وقولهم: وما لنا ان لا نقاتل، وفي قوله تعالى: والله عليم بالظالمين، دلالة على ان قول نبيهم لهم: هل عسيتم ان كتب عليكم القتال الا تقاتلوا، انما كان لوحى من الله سبحانه: انهم سيتولون عن القتال. قوله تعالى: وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث إلى قوله: من المال في جوابه عليه السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: اسأل الله ان يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال. وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا ونحن احق بالملك منه، ومن المعلوم ان قولهم هذا لنبيهم، ولم يستدلوا على كونهم احق بالملك منه بشئ يدل على ان دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلا ان بيت النبوة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولامن بيت النبوة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوة معا، أحق بالملك منه لان الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله: إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما
[ 287 ]
في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيرا، وقد أجاب عنه نبيهم بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم " الخ ". قوله تعالى: قال: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم. أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: ان هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان احق بالملك منهم، وكان الشرف والتقدم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى. واما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: ان الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغر الوحيد منه أن يتلائم الارادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحد الازمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذالك فرد من غير حق، ولا يتأخر فرد من غير حق. وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، ويدفع كل ما يمانع ذللك، والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران: أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها، وثانيهما: القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، وهما اللذان يشير اليهما قوله تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم، وأما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل. ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: والله يؤت ملكه من يشاء، وهو أن الملك لله وحده ليس لاحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه وهو مع ذلك لله كما يفيده الاضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، وإذا كان كذالك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد، ليس لاحد أن يقول: لماذا أو بماذا (أي ان يسئل عن علة التصرف لان الله تعالى هو السبب المطلق، ولا عن متمم العلية واداة الفعل لان الله تعالى تام لا يحتاج لامتمم) فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت
[ 288 ]
إلى بيت، أو تقليده احدا ليس له اسبابه الظاهرة من الجمع والمال. والايتاء والافاضة الالهية وإن كانت كيف شاء ولمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم والمصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ميشاء، ويؤتي الملك من يشاء ونظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف وإن لم يصادف فقد صار جزافا ولا محذور لان الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية والبراهين العقلية. بل المقصود بذلك: ان الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق وأمر فالمصالح وجهات الخير مثل سائر الاشياء مخلوقه له تعالى، وإذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا ولا يفعل إلا الجميل، ولا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم ولامقهور للمصلحة. ومن هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، اعني اجتماع قوله تعالى: والله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، فإن الحجة الاولى مشتملة على التعليل بالمصالح والاسباب، والحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، ولو لا ان اطلاق الملك وكونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون افعاله مقارنة للمصالح والحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر. وقد اوضح هذا المعنى احسن الايضاح تذئيل الآية بقوله تعالى: والله واسع عليم فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل وإيتاء اصلا والعليم يدل على ان فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطئ فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء ولا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة. والوسعة والسعة في الاصل حال في الجسم به يقبل اشياء أخر من حيث التمكن كسعة الاناء لما يصب فيه، والصندوق لما يوضع فيه، والدار لمن يحل فيها ثم استعير للغنى ولكن لا كل غنى ومن كل جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كأن المال يسع
[ 289 ]
بذل ما اريد بذله، وبهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما اراد بذله بل يقدر على ذلك. قوله تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، التابوت هو الصندوق، وهو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لان الانسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع. (كلام في معنى السكينة) والسكينة من السكون خلاف الحركة وتستعمل في سكون القلب وهو استقرار الانسان وعدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الانسان الحكيم (من الحكمة باصطلاح فن الاخلاق) صاحب العزيمة في أفعاله، والله سبحانه جعلها من خواص الايمان في مرتبة كماله، وعدها من مواهبه السامية. بيان ذلك: ان الانسان بغريزته الفطرية يصدر افعاله عن التعقل، وهو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح الافعال، وتأثيرها في سعادته في حياته والخير المطلوب في اجتماعه، ثم استنتاج ما ينبغي ان يفعله وما ينبغي أن يتركه. وهذا العمل الفكري إذا جرى الانسان على اسلوب فطرته ولم يقصد إلا ما ينفعه نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس وسكون من الفكر من غير اضطراب وتزلزل، وأما إذا أخلد الانسان في حياته إلى الارض واتبع الهوى اختلط عليه الامر، وداخل الخيال بتزييناته وتنميقاته في افكاره وعزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، وتردده واضطرابه في عزمه وتصميم إرادته وإقدامه على شدائد الامور وهزاهزها أخرى. والمؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك وركن لا ينهدم. بانيا اموره على معارف حقة لاتقبل الشك والريب، مقدما في أعماله عن تكليف الهي لا يرتاب فيها، ليس إليه من الامر شئ حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره.
[ 290 ]
وأما غير المؤمن فلا ولي له يتولى امره، بل خيره وشره يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الافكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى والخيال والاحساسات المشؤومة، قال تعالى: " والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68، وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم " محمد - 11، وقال تعالى: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقرة - 257، وقال تعالى: " انا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف - 27، وقال تعالى: " ذلكم الشيطان يخوف أوليائه " آل عمران - 175، وقال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة) البقرة - 268، وقال تعالى: " ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا - إلى أن قال - وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا " النساء - 122، وقال تعالى: " ألا إن اولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون " يونس - 62، والآيات كما ترى تضع كل خوف وحزن واضطراب وغرور في جانب الكفر، وما يقابلها من الصفات في جانب الايمان. وقد بين الامر أوضح من ذلك بقوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، ويدرك به خيره وشره، وذلك لان الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، وتلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، وفي معناه قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم " الحديد - 28. ثم قال تعالى: " لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو ابناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة - 22، فأفاد ان هذه الحياة إنما هي بروح منه، وتلازم لزوم الايمان واستقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الايمان في قلوبهم، والحياة الجديدة في قوالبهم، والنور المضئ قدامهم.
[ 291 ]
وهذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما " الفتح - 4، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة وازدياد الايمان على الايمان في هذه على كتابة الايمان في تلك، ويؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية: ولله جنود السموات والارض، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة والروح. ويقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " الفتح - 26، وكذا قوله تعالى: " فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها " التوبة - 40. وقد ظهر مما مر انه يمكن ان يستفاد من كلامه تعالى ان السكينة روح إلهي أو تستلزم روحا إلهيا من امر الله تعالى يوجب سكينة القلب واستقرار النفس وربط الجأش، ومن المعلوم ان ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر واستعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب وعدم اضطرابه في الروح الالهي، وبهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات. قوله تعالى: وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة " الخ " آل الرجل خاصته من اهله ويدخل فيهم نفسه إذا اطلق، فآل موسى وآل هرون هم موسى وهرون وخاصتهما من اهلهما، وقوله: تحمله الملائكة، حال عن التابوت، وفي قوله تعالى: ان في ذلك لآية لكم ان كنتم مؤمنين، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به: ان الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود قال ان الله مبتليكم بنهر إلى قوله منهم، الفصل ههنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى: " فلما فصلت العير " يوسف - 94، وربما استعمل بمعنى القطع وهو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى: " وهو خير الفاصلين " الانعام - 57، فالكلمة ممايتعدى ولا يتعدى. والجند المجتمع الغليظ من كل شئ وسمي العسكر جندا لتراكم الاشخاص فيه وغلظتهم، وفي جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به
[ 292 ]
وخاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر وتفرق الناس، ونظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود. وفي مجموع الكلام إشارة إلى حق الامر في شأن بني إسرائيل وإيفائهم بميثاق الله، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا وشدوا الميثاق، وقد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا، وهذه الجنود أيضا لم تغن عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر ولم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل ونفاق بينهم من جهة المغترفين، ومع ذلك كان النصر للذين آمنوا وصبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة. والابتلاء الامتحان، والنهر مجرى الماء الفائض، والاغتراف والغرف رفع الشئ وتناوله، يقال: غرف الماء غرفة واغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله ويشربه. وفي استثناء قوله تعالى: إلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة، وقد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى: ومن لم يطعمه فإنه مني في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم ومعناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت، والشرب يوجب انقطاع جمع منه والاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال وأما لو اضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى: ومن لم يطعمه فإنه مني إلى الجملة الاولى كان مفاد الكلام أن الامر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين ويشخصهما فيعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر، ويتعين به من هو منه وهو من لم يطعمه، وإذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء الا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لان ذلك انما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الاولى فقط، واما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان: اعني الذين ليسوا منه وهم الشاربون، والذين هم منه وهم غير الطاعمين، ومن المعلوم ان الاخراج من الطائفة الاولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، ولازم ذلك ان الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الذين ليسوا منه،
[ 293 ]
والذين هم منه، والمغترفون، وعلى هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الذين هم منه، والذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر والجزع والاعتماد بالله والقلق والاضطراب. قوله تعالى: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، والتدبر في الآيات يعطي ان يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، والمجيبون لهم هم الذين لم يطعموه اصلا، والظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به واما كناية عن الخشوع. ولم يقولوا: يمكن ان تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا: كم من فئة " الخ "، أخذا بالواقع في الاحتجاج بإرائة المصداق ليكون أقنع للخصم. قوله تعالى: ولما برزوا لجالوت وجنوده " الخ " البروز هو الظهور، ومنه البراز وهو الظهور للحرب، والافراغ صب نحو المادة السيالة في القالب والمراد افاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، وكذا تثبيت الاقدام كناية عن الثبات وعدم الفرار. قوله تعالى: فهزموهم بإذن الله " الخ "، الهزم الدفع. قوله تعالى: ولو لادفع الله الناس بعضهم ببعض إلى آخر الآية، من المعلوم أن المراد بفساد الارض فساد من على الارض اي فساد الاجتماع الانساني ولو استتبع فساد الاجتماع فسادا في أديم الارض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، وهذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن. بيان ذلك: أن سعادة هذه النوع لا تتم الابالاجتماع والتعاون. ومن المعلوم أن هذا الامر لايتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع وأجزائه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل وينفعل عن نفس واحدة وبدن واحد، والوحدة الاجتماعية ومركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون ومركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، ومن المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة التأثير والتأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الاسباب التكوينية وغلبة بعضها على بعض واندفاع بعضها الآخر عنه ومغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها
[ 294 ]
ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، وعند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود. كذلك نظام الاجتماع الانساني لو لم يقم على أساس التأثير والتأثر، والدفع والغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، ولم يتحقق حينئذ نظام وبطلت سعادة النوع، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، وهو الغلبة وتحميل الارادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر (سواء منافعه المشروعة أو غيرها) لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه ويلائمها وهكذا، وبذلك تنقطع الوحدة من بين الاجزاء وبطل الاجتماع، وهذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الاصل الاول الفطري للانسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، وأما التعاون والمدنية فمتفرع عليه وأصل ثانوي، وقد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: " كان الناس أمة واحدة " البقرة - 213. وفي الحقيقة معنى الدفع والغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الانساني وحقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الانسان، ودفعه عما يزاحمه ويمانعه عليه، وهذا معنى عام موجود في الحرب والسلم معا، وفي الشدة والرخاء، والراحة والعناء جميعا، وبين جميع الافراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الانسان له عند ظهور المخالفة ومزاحمة بعض الافراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات والميول ونحوها، فيشرع الانسان في دفع الانسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه ومعلوم أن هذا على مراتب ضعيفة وشديدة، والقتال والحرب إحدى مراتبه. وأنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع والغلبة من الاصول الفطرية عند الانسان أصل فطري أعم من ان يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الانسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه، لادفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الانسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن والكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله. وهذا الاصل الفطري ينتفع به الانسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره وتمالك ما بيده تغلبا وبغيا، وينتفع به
[ 295 ]
في دفعه واسترداد ما تملكه تغلبا وبغيا، وينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين الناس وتحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطري ينتفع به الانسان أكثر مما يستضر به. وهذا الذي ذكرناه " لعله " هو المراد بقوله تعالى: ولو لادفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض، ويؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى: " ولكن الله ذو فضل على العالمين ". وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضا كذلك، وربما أيده أيضا قوله تعالى: " ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله " الحج - 40. وفيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الارض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت وقصص أخرى يسيرة معدودة. وربما ذكر آخرون: أن المراد بها دفع الله العذاب والهلاك عن الفاجر بسبب البر، وقد وردت فيه من طرق العامة والخاصة روايات كما في المجمع والدر المنثور عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده واهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام، قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث، ومثلهما غيرهما. وفيه: أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس. وربما ذكر بعضهم: ان المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، وهو كما ترى. قوله تعالى: تلك آيات الله " الخ " كالخاتمة يختم بها الكلام والقصة غير أن آخر الآية: وإنك لمن المرسلين، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.
[ 296 ]
|