00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 384 ـ آخر الكتاب )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الثاني)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(كلام في الانفاق)

 الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسل إليه بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك. وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب افقهم من افق اهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله ايدي النمط الاوسط من الناس، بالنهي عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك. وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الا جزاء متشابهة الابعاض، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الارادات المتضادة واضغان القلوب ومنابت الاحقاد، فإن القرآن يرى ان شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والاجل، ويعيش به الانسان في معارف حقة، واخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة. ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات

[ 384 ]

المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والارض لله، والمال ماله. وهذه حقيقة اثبتت السيرة النبوية على سائرها افضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ امره. وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي عليه السلام إذ يقول: وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا اقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا ؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا ؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن باذنه عن سمع المواعظ وقرا ؟ (نهج البلاغة). وقد كشف توالي الايام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالانفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال - حيث ان الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الارض، والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على ابواب اولي القوة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الاسفل الا الحرمان، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الاكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالمية الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع. ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح ابواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق

[ 385 ]

ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الايام. وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه واقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى ان قال: فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون - إلى أن قال -: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبه الذين من قبل كان اكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل ان يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون الآيات " الروم - 30 - 43، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والانبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله. وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الانفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره. قوله تعالى: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة " الخ "، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لاجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر. وقد ذكروا أن قوله تعالى: كمثل حبة أنبتت " الخ "، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت " الخ " فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي إنفق في سبيل

[ 386 ]

الله لا مثل من إنفق وهو ظاهر. وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الامثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلادعائا وندائا " البقرة - 171، فإنه مثل من يدعو الكفار لامثل الكفار، وقوله تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه الآية " يونس - 24، وقوله تعالى: " مثل نوره كمشكوة " النور - 35، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية: وقوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة. وهذه الامثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للايجاز. توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لاخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الامثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إن الامثال لا تتغير، وكقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة، وهي قصة مفروضة خيالية. والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: " ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثة " الآية إبراهيم - 26، وقوله تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " الجمعة - 5، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل، وإنما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الاخير (مثال الانفاق والحبة) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمأة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة. وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه،

[ 387 ]

وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا ووجد انه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن. قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مأة حبة، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الاصل في معنى مادته الستر سمي به لانه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الاغلفد. ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبة، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في الخارج فالامثال التخيلية اكثر من ان تعد وتحصى، على ان اشتمال السنبلة على مأة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمأة حبة ليس بعزيز الوجود. قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة " البقرة - 245، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين. وقيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحق الكلام فيه حينئذ ان يصدر بإن كقوله تعالى: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس " المؤمن - 61، وأمثال ذلك. ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشئ من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائا أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الانساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الاسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الاثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها

[ 388 ]

فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الانسان بالبصر ليميز به الاشياء ضوئا ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الانسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر اعضائه فيقاسي أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة، وينقص من أفعال سائر الاعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الاعضاء الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والالوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيما إذا كان الانفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الانفاق. وإذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف، فإن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكن الانفاق الذي لايراد به إلا وجه الله ولا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل ولا يتعقبه إلا الخير قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " الخ " الاتباع اللحوق والالحاق، قال تعالى: " فأتبعوهم مشرقين " الشعراء - 60، أي لحقوهم، وقال تعالى: " فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة " القصص - 42، أي ألحقناهم. والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والاصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى: " لهم أجر غير ممنون " فصلت - 8، أي غير مقطوع، والاذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقع الضرر، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

[ 389 ]

قوله تعالى: قول معروف ومغفرة خير من صدقة " الخ " المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والاصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل. وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه، وتأثره عما يسوئه من السؤال، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة، ولا يغضب عند كل جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: والله غني حليم. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم " الخ " تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن والاذى، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المن والاذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدم إشباع الكلام في الحبط. قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، لما كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لانه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والاذى، بل انما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والاذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس وعمل المان والمؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان. واتحاد سياق الافعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن من دون أن يقال: ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم ايمان المرائي في الانفاق بالله واليوم الآخر عدم ايمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحب واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم ايمان المرائي عدم ايمانه بالله سبحانه رأسا.

[ 390 ]

ويظهر من الآية: ان الرياء في عمل يستلزم عدم الايمان بالله واليوم الآخر فيه، قوله تعالى: فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الاملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع. والضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئائا لانه في معنى الجمع، والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به، وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام وهو ان المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل. وخلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئائا وفي ترتب الثواب عليه كحال الحجر الاملس الذي عليه شئ من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الارض واخضر ارها وتزينها بزينة النبات، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، ولا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر اسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد. وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن كان العمل كالانفاق في سبيل الله من الاسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة. وقد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الاخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال: إنما الاعمال بالنيات. قوله تعالى: مثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من انفسهم، ابتغاء المرضات هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الذي امره بشئ واراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإن الآمر يستقبل المأمور اولا بالامر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة

[ 391 ]

الله هو ارادة وجهه عز وجل. واما قوله: وتثبيتا من انفسهم فقد قيل: إن المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبت اي يتثبتون اين يضعون اموالهم، وقيل: هو التثبت في الانفاق فإن كان لله امضى، وان كان خالطه شئ من الرياء امسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الايمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف. والذي ينبغي ان يقال - والله العالم - في المقام: هو ان الله سبحانه لما اطلق القول اولا في مدح الانفاق في سبيل الله، وان له عند الله عظيم الاجر اعترضه ان استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتب عليهما الثواب، وهما الانفاق ريائا الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه من أو اذى فإنه يبطل بهما وان انعقد اولا صحيحا، وليس يعرض البطلان. لهذين النوعين الا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية اعني ابتغاء المرضات ثانيا بعد ما كانت عليها اولا، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين واهل المن والاذى، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون انفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير ان يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده. ومن هنا يظهر ان المراد بابتغاء مرضاة الله ان لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتا من انفسهم تثبيت الانسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتا تميز وكلمة من نشوية وقوله انفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدر. والتقدير تثبيتا من انفسهم لانفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته. قوله تعالى: كمثل جنة بربوة اصابها وابل إلى آخر الآية، الاصل في مادة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الارض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها، والاكل بضمتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة، والطل اضعف المطر القليل الاثر. والغرض من المثل ان الانفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن اثرها الحسن

[ 392 ]

البتة، فإن العناية الالهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وان كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، واختلاف وزن الاعمال باختلافها، كما ان الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون ان تؤتي أكلها ايتائا جيدا البتة وإن كان ايتائها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل. ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: والله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه امر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الاعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا. قوله تعالى: أيود أحدكم ان تكون له جنة من نخيل واعناب " الخ "، الود هو الحب وفيه معنى التمني، والجنة: الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لانها تجن الارض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صح ان يقال: تجري من تحتها الانهار، ولو كانت هي الارض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لافادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الارض المعمورة: " ربوة ذات قرار ومعين " المؤمنون - 50، وكرر في كلامه قوله: جنات تجري من تحتها الانهار فجعل المعين (وهو الماء) فيها لاجاريا تحتها. ومن في قوله: من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى، ولذلك قال تعالى ثانيا: له فيها من كل الثمرات. والكبر كبر السن وهو الشيخوخة، والذرية الاولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الاسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لامكنه ان يستريح إلى قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة، ولو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لانه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله اولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة امكنهم ان يقتاتوا بما يكتسبونه، وان يستغنوا عنها بوجه ! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرية

[ 393 ]

الضعفاء، واحترقت الجنة انقطعت الاسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنة يمكنه ان يعيد لنفسه الشباب والقوة أو الايام الخالية حتى يهيئ لنفسه نظير ما كان قد هيأها، ولا لذريته قوة على ذلك، ولا لهم رجاء ان ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والاثمار. والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والارض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر. وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى اعادة العمل الباطل إلى حال صحته واستقامته، وانطباق المثل على الممثل ظاهر، ورجا منهم التفكر لان امثال هذه الافاعيل المفسدة للاعمال انما تصدر من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح، لا تدع للانسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار، ولو تفكروا لتبصروا. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم الخ، التيمم هو القصد والتعمد، والخبيث ضد الطيب، وقوله: منه، متعلق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لاتيمموا، وقوله: ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله ان تغمضوا فيه في تأويل المصدر، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلا لاغماضكم فيه، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلا بمصاحبة الاغماض. ومعنى الآية ظاهر، وإنما بين تعالى كيفية مال الانفاق، وانه ينبغي ان يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض، فإنه لا يتصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصور بصورة التخلص، فلا يفيد حبا للصنيعة والمعروف ولا كمالا للنفس، ولذلك ختمها بقوله: واعلموا ان الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال، أو انه غني محمود لا ينبغي ان تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله. قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على ان اختيار خبيث المال للانفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم، ففي النهى مصلحة أمرهم كما ان في المنهى عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن انفاق طيب

[ 394 ]

المال وبذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوف أوليائه من الفقر، مع ان البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر، مع ان الذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى: " وانه هو أغنى وأقنى " النجم - 48. وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير انه وضع السبب موضع المسبب، أعني انه وضع وعد الشيطان موضع خوف انفسهم ليدل على انه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل والضلال إما ابتدائا ومن غير واسطة، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه انه حق. ولما كان من الممكن ان يتوهم ان هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: ويأمركم بالفحشاء أولا، فإن هذا الامساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الامساك وسجية البخل، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الاعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الاعراض وكل جناية وفحشاء، قال تعالى: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون إلى ان قال: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " التوبة - 79. ثم بإتباعه بقوله: والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ثانيا، فإن الله قد بين للمؤمنين: ان هناك حقا وضلالا لا ثالث لهما، وان الحق وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وان الضلال من الشيطان، قال تعالى: " فماذا بعد الحق الا الضلال " يونس - 32، وقال تعالى: " قل الله يهدي للحق " يونس - 35، وقال تعالى في الشيطان: " انه عدو مضل مبين " القصص - 15، والآيات جميعا مكية، وبالجملة نبه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف

[ 395 ]

ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة انما هما في البذل من طيبات المال. فقوله تعالى: والله يعدكم " الخ "، نظير قوله: الشيطان يعدكم " الخ "، من قبيل وضع السبب موضع المسبب، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو اصلح لبالهم منهما. فحاصل حجة الآية: ان اختياركم الخبيث على الطيب انما هو لخوف الفقر، والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق، أما خوف الفقر فهو القاء، شيطاني، ولا يريد الشيطان بكم الا الضلال والفحشاء فلا يجوز ان تتبعوه، واما مايستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحق لان الذي يعدكم استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق، وهو واسع يسعه ان يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئا ولا حالا من شئ فوعده وعد عن علم. قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، الايتاء هو الاعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الاحكام والاتقان أو نوع من الامر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة. والجملة تدل على ان البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الاثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الالهية في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية. قوله تعالى: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، المعنى ظاهر، وقد أبهم فاعل الايتاء مع ان الجملة السابقة عليه تدل على انه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام على ان الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير، لامن جهة انتساب اتيانه إليه تعالى، فإن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال،

[ 396 ]

قال تعالى في قارون " وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إلى آخر الآيات " القصص - 76، وانما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الامر لان الامر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وامر السعادة مراعي بالعاقبة والخاتمة. قوله تعالى: وما يذكر إلا أولوا الالباب، اللب هو العقل لانه في الانسان بمنزلة اللب من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأن لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الاسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنما استعمل منه الافعال مثل يعقلون. والتذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها، أو من الشئ إلى نتائجها، والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر، وأن التذكر يتوقف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الادراك المستعملة في القرآن الكريم. قوله تعالى: وما انفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد، ويؤكده قوله تعالى: وما للظالمين من أنصار. وفي هذه الجملة أعني قوله: وما للظالمين من أنصار، دلالة اولا: على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الامساك عن الانفاق عليهم، وحبس حقوقهم المالية، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا ومكفرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى: " لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى ان قال: وأنيبوا إلى ربكم " الزمر - 54، وقال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، وقال تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " الانبياء - 28، ومن هنا يظهر: وجه اتيان الانصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا. وثانيا: أن هذا الظلم وهو ترك الالنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر

[ 397 ]

لقبله فهو من الكبائر، وأنه لا يقبل التوبة، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات: أن التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه، وأنه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى: " إلا أصحاب اليمين في جنات يتسائلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين إلى أن قال: فما تنفعهم شفاعة الشافعين " المدثر - 48. وثالثا: أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه كما مر بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله. ورابعا: أن الامتناع من أصل انفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله وكفرا بالآخرة، قال تعالى: " ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون " فصلت - 7، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها. قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي " الخ "، الابداء هو الاظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب وربما يقال: إن الاصل في معناها الانفاق المندوب. وقد مدح الله سبحانه كلا من شقى الترديد، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة، فأما اظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف، وتشويقا للناس إلى البذل والانفاق، وتطييبا لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا رحماء بحالهم، وأموالا موضوعة لرفع حوائجهم، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الاغنياء المثرين، وفي ذلك كل الخير، وأما اخفائها فإنه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمن والاذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلائة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجا، وصدقة السر أخلص طهارة. ولما كان بناء الدين على الاخلاص وكان العمل كلما قرب من الاخلاص كان أقرب

[ 398 ]

من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال: وان تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإن كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ في تمييز الخير من غيره، وهو قوله تعالى: والله بما تعملون خبير. قوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن ما كان يشاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالاخلاص من بعضهم والمن والاذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الايمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الايمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والايعاد والخشونة. والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس. على أن هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه. فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والاقبال عليه صلى الله عليه وآله، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآيات " القيمة - 17. فلما تم الاعتراض عاد إلى الاصل في الكلام من خطاب المؤمنين. قوله تعالى: وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " إلى آخر الآية " رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والانذار والتحنن والتغيظ معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ولكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى. فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين، وما تنفقوا من خير فلانفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لاتنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: ولا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله:

[ 399 ]

فلانفسكم. ولما أمكن ان يتوهم ان هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون، فبين ان نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس امرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى اليكم من غير ان يظلكم بفقد أو نقص. وإبهام الفاعل في قوله: يوف اليكم، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام ابلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير. قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله إلى آخر الآية، الحصر هو المنع والحبس، والاصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات: والحصر والاحصار المنع من طريق البيت، فالاحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن أحصرتم فمحمول على الامرين وكذلك قوله: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، وقوله عز وجل: أو جائوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى. والتعفف التلبس بالعفة، والسيماء العلامة، والالحاف هو الالحاح في السؤال. وفي الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل واسباب إلى ذلك: اما عدو اخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك. وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل اي الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف دلالة على انهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما. ومن هنا يظهر: ان المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافا انهم لا يسألون الناس اصلا حتى ينجر إلى الالحاف والاصرار في السؤال، فإن السؤال أول مره يجوز للنفس

[ 400 ]

الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها ان لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف، والالحاف على كل أحد، كذا قيل، ولا يبعد ان يكون المراد نفى الالحاف لا اصل السؤال، ويكون المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى الاظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا، والزائد عليه وهو الالحاف هو المذموم. وفي قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون ان يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان امرهم وظهور ذلهم. وأما معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحالهم بتوسمه من سيماهم، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا ذهاب كرامتهم، وهذا - والله أعلم - هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد. قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار إلى آخر الآية، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين، واستيفاء الازمنة والاحوال في الانفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة والتلطف فقال: لهم أجرهم عند ربهم الخ.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور في قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء الآية، اخرج ابن ماجه عن الحسن بن علي بن أبي طالب وابي الدرداء وابي هريرة وابي امامة الباهلي و عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله انه قال: ح، واخرج ابن ماجه وابن ابي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ارسل بنفقة في سبيل الله واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية: والله يضاعف لمن يشاء.

[ 401 ]

وفي تفسير العياشي ورواه البرقي ايضا عن الصادق عليه السلام: إذا احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله. وفي تفسير العياشي عن عمر بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا احسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا اعمالكم التي تعملونها لثواب الله، قلت: وما الاحسان ؟ قال: إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك، وإذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك وعمرتك، قال: وكل عمل تعمله فليكن نقيا من الدنس. وفيه عن حمران عن ابي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أرايت المؤمن له فضل على المسلم في شئ من المواريث والقضايا والاحكام حتى يكون للمؤمن اكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك ؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا حكم الامام عليهما، ولكن للمؤمن فضلا على المسلم في اعمالهما، قال: فقلت: أليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر امثالها، وزعمت انهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن ؟ قال: فقال: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء اضعافا كثيرة ؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا من فضيلتهم، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة ايمانه اضعافا مضاعفة كثيرة ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء. اقول: وفي هذا المعنى اخبار أخر وهي مبتنية جميعا على الاخذ بإطلاق قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، والامر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، ولا يكون المورد مخصصا ولا مقيدا، وإذا كانت الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقا بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره، ويكون المعنى: والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكل محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو اقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، ولا ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء

[ 402 ]

لان الذي نفينا هناك انما هو تقييده بالمنفقين، والمعنى الذي تدل عليه الرواية نفى التقييد. وقوله عليه السلام: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحديهما: هذه الآية من سوره البقرة، والاخرى: قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " البقرة - 245، ومما يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين وترتب الثواب عليها، وسيجئ البحث عنها في قوله تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال الآية " النساء - 98. وفي المجمع قال: والآية عامة في النفقة في جميع ذلك (يشير إلى الجهاد وغيره من أبواب البر) وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال: أشرف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أو ليس في سبيل الله إلا من قتل ؟ ثم قال: من خرج في الارض يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالا يكف به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان. وفيه أيضا أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل البراء ابن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك ؟ وكان موسعا على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها ؟ قال: فإن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك منا ولا أذى. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، وفيها أن كل عمل يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، وكل نفقة في سبيل الله فهي صدقة. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية عن الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم أذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادق عليه السلام: والصفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنة بربوة الآية وابل أي

[ 403 ]

مطر، والطل ما يقع بالليل على الشجر والنبات، وقال في قوله تعالى: إعصار فيه نار الآية الاعصار الرياح. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات الآية، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، قال: من الذهب والفضة ومما اخرجنا لكم من الارض، قال: يعني من الحب والتمر وكل شئ عليه زكاة. وفيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر الانصار، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان احدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه " قال: لو ان احدكم أهدي إليه مثل ما اعطي لم يأخذه الا عن إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي احدنا بصالح ما عنده. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله: يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا امر بالنخل ان يزكى يجئ قوم بألوان من التمر وهو من اردئ التمر، يؤدونه عن زكوتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى، وكان بعضهم يجئ بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا تجيئوا منها بشئ وفي ذلك نزل: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الا ان تغمضوا فيه، والاغماض ان تأخذ هاتين التمرتين، وفي رواية أخرى عن ابي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: انفقوا من طيبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما اسلموا ارادوا ان يخرجوها من اموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله

[ 404 ]

تبارك وتعالى الا ان يخرجوا من اطيب ما كسبوا. اقول: وفي هذا المعنى اخبار كثيرة من طرق الفريقين. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: ان الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلا اي يغفر لكم ان انفقتم لله وفضلا يخلف عليكم. وفي الدر المنثور اخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الاخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرء: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية. وفي تفسير العياشي أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: المعرفة. وفيه عن الصادق عليه السلام: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في الآية: قال: طاعة الله ومعرفه الامام. اقول: وفي معناه روايات أخر وهي من قبيل عد المصداق. وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن احمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل افضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله افضل من جميع عقول امته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الالباب، قال الله تبارك وتعالى: وما يذكر إلا أولوا الالباب. وعن الصادق عليه السلام قال: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ولو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت،

[ 405 ]

قال الله عز وجل: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالباب. اقول: وفي قوله تعالى: وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إنشاء الله. وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس وابن جبير واسماء بنت ابي بكر وغيرهم: ان رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الاسلام وان المسلمين كانوا يكرهون الانفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الاية فأجاز ذلك. اقول: قد مر أن قوله: هداهم إنما يصلح لان يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول، على ان تعيين المورد في قوله: للفقراء الذين أحصروا الآية لا يلائمه كثير ملائمة، وأما مسألة الانفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله عز وجل: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكوة، إن الزكوة علانية غير سر. وفيه عنه عليه السلام: كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان تطوعا فإسراره افضل من إعلانه. اقول: وفي معنى الحديثين أحاديث أخرى وقد تقدم ما يتضح به معناها. وفي المجمع في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية قال قال أبو جعفر عليه السلام نزلت الآية في أصحاب الصفة، قال: وكذلك رواه الكلبي عن ابن عباس، وهم نحو من اربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وفي تفسير العياشي عن ابي جعفر عليه السلام: إن الله يبغض الملحف. وفي المجمع في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت معه أربعة

[ 406 ]

دراهم، فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية فنزل، الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، قال الطبرسي: وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. اقول: وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره، والمفيد في الاختصاص، والصدوق في العيون. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن ابيه عن ابن عباس في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية قال: نزلت في علي بن ابي طالب عليه السلام كانت له اربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما. في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب في المناقب عن ابن عباس والسدي ومجاهد والكلبي وابي صالح والواحدي والطوسي والثعلبي والطبرسي والماوردي والقشيري والثمالي والنقاش والفتال وعبد الله بن الحسين وعلي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه كان عند ابن ابي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا وبواحد نهارا وبواحد سرا وبواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فسمى كل درهم مالا وبشره بالقبول. وفي بعض التفاسير: ان الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية. اقول: ذكر الآلوسي في تفسيره في ذيل هذا الحديث: أن الامام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين الف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة وليس فيه ذكر من نزول الآية، وكأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق، قال: لما قبض أبو بكر واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون مالا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرا لانفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، وقرء الآية الكريمة وانت

[ 407 ]

تعلم انها لا دلالة فيها على نزولها في حقه، انتهى. وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابي أمامة وابي الدرداء وابن عباس وغيرهم أن الآية نزلت في أصحاب الخيل. اقول: والمراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا ونهارا، لكن لفظ الآية أعني قوله: سرا وعلانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في الانفاق على الخيل اصلا. وفي الدر المنثور أيضا اخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة. اقول: والاشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الاشكال في سابقه. * * * الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 275. يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم - 276. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكوه لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 277. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين - 278. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون - 279. وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وإن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون - 280.

[ 408 ]

واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون - 281.

(بيان)

 الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف ولسانها غير لسان التشريع: وانما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون " آل عمران - 130، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، وسياق الآية يدل على ان المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهى السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، وترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، ومن هنا يظهر معنى قوله: فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله الآية على ما سيجئ بيانه. وقد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهى قوله تعالى في سورة الروم وهي مكية: " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون " الروم - 39، ومن هنا يظهر ان الربا كان امرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم امر النهى عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهى عليها، ومن هنا يظهر: ان هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران. على ان حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله: " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه " النساء - 161، ويشعر به قوله: - حكاية عنهم - " ليس علينا في الاميين سبيل " آل عمران - 75، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الاسلام. والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الانفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقوله: وان تصدقوا خير لكم، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران

[ 409 ]

مقارنا لذكر الانفاق والصدقة والحث عليه والترغيب فيه. على ان الاعتبار ايضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد والمقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما ان الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة وتحاذيها على الكلية من غير تخلف واستثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبة، وإقامة اصلاب المساكين والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الامر واستقرار النظام والامن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا. وقد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شئ من فروع الدين إلا في تولي اعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، واما سائر الكبائر فإن القرآن وإن اعلن مخالفتها وشدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الامرين، حتى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو اعظم منها كقتل النفس التي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولي اعداء الدين. وليس ذلك إلا لان تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الافراد في بسط آثارها المشؤمة، ولا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلا في الاعمال والافعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الانسانية ويسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إنشاء الله العزيز بعض الاتضاح. وقد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في امرهما حيث أهبطت المداهنة والتولي والتحاب والتمائل إلى اعداء الدين الامم الاسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم، لا يملكون مالا ولا عرضا ولا نفسا، ولا يستحقون موتا ولا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامة الفضائل. وحيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقي، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الارض، ويهدد الانسانية بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أسائوا السوأى. وسيظهر لك إنشاء الله تعالى ان ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولي أعداء

[ 410 ]

الدين من ملاحم القرآن الكريم. قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، وللانسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، وهذه الافعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها ونظمها الانسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية والاجتماعية، فهو يقصد الاكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح، والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لامور وينقبض عن اخرى في معاشرته، ويريد كل مقدمة عند ارادة ذيها، وإذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه. وهذه الافعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته. وانما اهتدى الانسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح وقد مر بعض الكلام في ذلك. واما الانسان الممسوس وهو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن والقبيح والنافع والضار والخير والشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لانه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنه بالاخرة انسان ذو إرادة، ومن المحال ان يصدر عن الانسان غير الافعال الانسانية بل لانه يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا والخير والنافع شرا وضارا وبالعكس فهو خابط في تطبيق الاحكام وتعيين الموارد. وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك ان يكون عنده آراء وافكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيله ويريده هو المتبع عنده، فالعادي وغير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة الا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك. وهذا حال المرابي في اخذه الربا (إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالاجل) فإن الذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الانسان الاجتماعية ان يعامل

[ 411 ]

بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغنى عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، واما اعطاء المال واخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شئ ينهدم به قضاء الفطرة واساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمعه وتراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو الا من مال الغير، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر. وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شئ مع تزايد الحاجة وكلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير امر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين. فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الانساني الذي هدته إليه الفطرة الالهية. وهذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره ان يختل عنده اصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى ان يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب ان البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا واخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: انما البيع مثل الربا. ومن هذا البيان يظهر: أولا: ان المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقوم الا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فانه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: " ليقوم الناس بالقسط " الحديد - 25، وقال تعالى: " ان تقوم السماء والارض بأمره " الروم - 25، وقال تعالى: " وان تقوموا لليتامى بالقسط " النساء - 127، واما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية. وثانيا: ان المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فان ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا، وبناء عمله عليه، ومحصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.

[ 412 ]

وثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، ولم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجئ توضيحه. ورابعا: أن التشبيه أعني قوله: الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فان الآية وإن لم تدل على ان كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدل على ان هذا المس من فعل إبليس نفسه فان الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على ابليس وعلى شرار الجن وشرار الانس، وابليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية ان للجن شأنا في بعض الممسوسين ان لم يكن في كلهم. وما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك لانه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لان الله سبحانه أعدل من ان يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن. ففيه: انه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه " كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت - 42، وقال تعالى: " انه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق - 14. وأما أن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الاشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الاسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستنده بالاخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل. على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال. لان التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنما الاشكال في ان ينحرف الادراك العقلي عن مجرى الحق وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الانسان العاقل

[ 413 ]

الحسن قبيحا وبالعكس، أو يرى الحق باطلا وبالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأما ذهاب القوة المميزة وفساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان. على ان استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الاسباب الطبيعية كاختلال الاعصاب والآفة الدماغية اسباب قريبة ورائها الشيطان، كما ان انواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الاسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن ايوب عليه السلام إذ قال: " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص - 41، وإذ قال: " أني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين " الانبياء - 83، والضر هو المرض وله اسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى اسبابه الطبيعية إلى الشيطان. وهذا وما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من اهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث ان اصحاب المادة لما سمعوا الالهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الامر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية وإقامة لما وراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا ان المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرت الاشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا. وخامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: ان المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون. ووجه الفساد ان ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، وإنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة. قال في تفسير المنار: وأما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن. اقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: ان المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وأن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود بل روى الطبراني

[ 414 ]

من حديث عوف بن مالك مرفوعا " إياك والذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط. ثم قال: والمتبادر إلى جميع الافهام ما قاله ابن عطية لانه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الاعمال، ولا قرينة تدل على ان المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شئ من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية الا من لم يظهر له صحته في الواقع. ثم قال: وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، وقلما يصح في التفسير شئ، انتهى ما ذكره. ولقد أصاب فيما ذكره من خطئهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لاجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في إعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، انتهى. فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أما الاول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية وإخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية والوقار النفساني، وتأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، وتعقب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا وإن لم يمس الربا طول حياته. وأما الثاني فلان الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، ولو كان كما يقول كان الانسب الاحتجاج

[ 415 ]

على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى ما قدمناه. قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط والاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - أن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، ولو قال: ان الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الادراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي ان الذي ينهي عنه ذو مزية مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزية وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط، إنما البيع مثل الربا، ولو أنه قال: ان الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس. والظاهر ان قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا انما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك وان لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس. وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: انما البيع مثل الربا نظمهما في سلك واحد، وإنما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلا وشبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله: ومهمه مغبرة أرجائه * كأن لون أرضه سمائه وكذا فساد ما ذكره آخرون: إنه يجوز ان يكون التشبيه غير مقلوب بنائا على ما فهموه: ان البيع إنما حل لاجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر مما تقدم. قوله تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا، جملة مستأنفة بنائا على ان الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد. يقال: جائني زيد وقد ضرب عمرا، ولا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه، فلو كانت حالا لافادت: أن تخبطهم لقولهم انما البيع مثل

[ 416 ]

الربا انما هو في حال أحل الله البيع وحرم الربا عليهم، مع ان الامر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية وانما هي مستأنفة. وهذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون " آل عمران - 130، فالجملة أعني قوله: وأحل الله " الخ " لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الاخبار عن حكم سابق وتوطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جائه موعظة من ربه الخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة. وقد قيل: إن قوله: وأحل الله البيع وحرم الربوا مسوق لابطال قولهم: انما البيع مثل الربا، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع ان الله أحل احدهما وحرم الآخر. وفيه انه وإن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فانه معنى كون الجملة، وأحل الله " الخ "، حالية وليست بحال. وأضعف منه ما ذكره آخرون: ان معنى قوله: وأحل الله " الخ " انه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لاني احللت البيع وحرمت الربا، والامر امري، والخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، واستعبدهم بما أريد، ليس لاحد منهم ان يعترض في حكمي. وفيه: انه أيضا مبني على اخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على انه مبني على إنكار ارتباط الاحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببية والمسببية، وبعبارة أخرى على نفى العلية والمعلولية بين الاشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، والضرورة تبطله، على انه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل احكامه وشرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على ان قوله في ضمن هذه الآيات: وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين الآية، وقوله: لا تظلمون الآية، وقوله: ان الذين يأكلون الربا إلى قوله مثل الربا، تدل على نوع تعليل لاحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحيوة، وكونه منافيا غير ملائم للايمان بالله تعالى، وكونه ظلما.

[ 417 ]

قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، تفريع على قوله: وأحل الله البيع " الخ "، والكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، والمعنى: ان ما ذكرناه لكم في امر الربا موعظة جائتكم من ربكم ومن جائه موعظة " الخ " فان انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله. ومن هنا يظهر: ان المراد من مجئ الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهي عنه انتهائا عن نهيه تعالى: ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه، ومن قوله: فله ما سلف وأمره إلى الله، انه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما اسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، ويبقى عليهم: ان امرهم إلى الله فربما اطلقهم في بعض الاحكام، وربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه. واعلم: ان أمر الآية عجيب، فان قوله: فمن جائه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، والقوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، ورجوع الامر إلى الله فيمن انتهى، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجئ الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية. إذا علمت هذا ظهر لك: ان قوله: فله ما سلف وأمره إلى الله لا يفيد الا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها، فالمعنى: ان من انتهى عن موعظة جائته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته ايضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، ان شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلوة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات ورد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وان شاء عفى عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب

[ 418 ]

الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك، فإن قوله: فمن جائه موعظة من ربه وانتهى، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في اول التشريع وغيرهم من التابعين وأهل الاعصار اللاحقة. وأما قوله: ومن عاد فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على ان المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، ويلازم ذلك الاصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردة باطنا ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا ولا يفلح ابدا. فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الاصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت. ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب. فان الآية وان دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه. وقد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، وفي قوله: وأمره إلى الله، وقوله: ومن عاد " الخ " وجوه من المعاني والاحتمالات على اساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ. قوله تعالى: يمحق الله الربوا ويربي الصدقات " الخ "، المحق نقصان الشئ حالا بعد حال، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجا، والارباء الانماء، والاثيم الحامل للاثم، وقد مر معنى الاثم. وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا، وقد تقدم ان إرباء الصدقات وإنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا ايضا كذلك لا محالة. فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنمائا يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة وحسن التفاهم وتألف القلوب وتبسط الامن والحفظ، وتصرف القلوب عن ان تهم بالغضب والاختلاس والافساد

[ 419 ]

والسرقة، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعاونة، وتنسد بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودره أضعافا مضاعفة. كذلك الربا من خاصته انه يمحق المال ويفنيه تدريجا من حيث انه ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظن، ويفسد الامن والحفظ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرد أو تسبيبا، وتدعو إلى التفرق والاختلاف، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال، وقلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه. وكل ذلك لان هذين الامرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسان بحيوة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، واستعدت للدفاع عن حقوق الحيوة نفوسهم المنكوبة المستذلة، وهموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فان أحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض - والحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالاحسان وحسن النية وأثرت الاثر الجميل، وإن أسئ إليهم باعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأي وسيلة، وقلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من اخبار آكلي الربا من ذهاب اموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم. ويجب عليك: ان تعلم اولا: ان العلل والاسباب التي تبنى عليها الامور والحوادث الاجتماعية امور أغلبية الوجود والتأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها التي يغلب تحققها، ونوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الاغلب لا على الدوام، ونلحق الشاذ النادر بالمعدوم، وأما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية. والتدبر في آيات الاحكام التي ذكر فيها مصالح الافعال والاعمال ومفاسدها مما يؤدي إلى السعادة والشقاوة يعطي ان القرآن في بناء آثار الاعمال على الاعمال وبناء الاعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء. وثانيا: ان المجتمع كالفرد والامر الاجتماعي كالامر الانفرادي متماثلان في الاحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما ان للفرد حيوة وعمرا وموتا

[ 420 ]

مؤجلا وأفعالا وآثارا فكذلك المجتمع في حيوته وموته وعمره وأفعاله وآثاره. وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من امة أجلها وما يستأخرون " الحجر - 5. وعلى هذا فلو تبدل وصف أمر من الامور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه وزواله وأثره. فالعفة والخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحيوة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الانسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا والمجتمع على خلافه، وأما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لانها كانت تبعات الانكار العمومي والاستهجان العام للفعل وقد أذهبه التداول والشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل والامراض التناسلية والمفاسد الاخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الانساب واختلالها وفساد الانشعابات القومية والفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة والبطؤ. إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، وقل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصة تدفع عن ساحة حيوته الفناء والمذلة، وبين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل والدول بالرسمية، ووضعت عليها القوانين، وأسست عليها البنوج فانه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية وتراكمها في جانب، وحلول الفقر والحرمان العمومي في جانب آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامة بين القبيلين: الموسرين والمعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا وسوف يؤثر أثره السئ المشؤم، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، وربما لم نعتن به لالحاقه من جهة طول الامد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فان العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، واليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد. قال تعالى: " وتلك الايام نداولها بين الناس " آل عمران - 140، وهذا اليوم يراد به العصر الذي

[ 421 ]

ظهر فيه ناس على ناس، وطائفة على طائفة، وحكومة على حكومة، وأمة على أمة، وظاهر ان سعادة الانسان كما يجب ان يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع. والقرآن ليس يتكلم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعاده الانسان: نوعه وفرده، ومهيمنا على سعادة الدنيا: حاضرها وغابرها. فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبين حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، والمحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما ان الارباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق وإن سمي ربا والصدقة ربا رابية وان لم تسم ربا، وإلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، وتوصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق. وبما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: ان محق الربا ليس بمعنى ابطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة والعيان يكذبه، وانما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوئا، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين له، ووجه ضعفه ظاهر. وكذا ما ذكره آخرون: ان المراد به محق الآخرة وثواب الاعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: انه لا شك ان ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك. وكذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: ومن عاد " الخ "، وقد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعا. قوله تعالى: إن الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، والمعنى ان آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الانسانية، وهي طرق المعاملات الفطرية، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات

[ 422 ]

والمعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذه فيها، وباستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، ويضمن غيره، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة، وباستعمال الطمع والحرص في اموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من اصول الاخلاق والفضائل وفروعها، وهو اثيم مستقر في نفسه الاثم فالله سبحانه لا يحبه لان الله لا يحب كل كفار أثيم. قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " الخ "، تعليل يبين به ثواب المتصدقين والمنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقبه من الامر بقوله وذروا ما بقي من الربا، وهو يدل على انه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، وله بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، وهدد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله الآية. وهذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي. وفي تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى ان تركه من لوازم الايمان، وتأكيد لما تقدم من قوله: ومن عاد " الخ " وقوله: ان الله لا يحب كل كفار " الخ ". قوله تعالى: وأن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، الاذن كالعلم وزنا ومعنى، وقرء فآذنوا بالامر من الايذان، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه، والمعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا انفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله، وتنكير الحرب لافادة التعظيم أو التنويع، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ، ولو كان لله وحده لكان امرا تكوينيا، واما رسوله فلا يستقل في امر دون الله سبحانه قال تعالى: " ليس لك من الامر شئ " آل عمران - 128. والحرب من الله ورسوله في حكم من الاحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله " الحجرات - 9، على ان لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه وهو

[ 423 ]

محاربته إياهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، وهي التي تقطع انفاسهم، وتخرب ديارهم، وتعفى آثارهم، قال تعالى: " وإذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء - 16. قوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، كلمة وان تبتم، تؤيد ما مر ان الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه، وقوله: فلكم رؤوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تظلمون بالتعدي إلى رؤوس أموالكم، وفي الآية دلالة على إمضاء اصل الملك أولا: وعلى كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: وعلى إمضاء اصناف المعاملات حيث عبر بقوله رؤوس أموالكم والمال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات وأصناف الكسب ثالثا. قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، والنظرة المهلة، والميسرة اليسار، والتمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه وامهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه. والآية وإن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية ويأمر بالانظار. قوله تعالى: وان تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا. قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الخ "، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، ويهيئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، وهو ان أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. واما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، ومعنى هذه التوفية فسيجئ الكلام فيه في تفسير سورة الانعام إنشاء الله تعالى.

[ 424 ]

وقد قيل: إن هذه الآية: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيجئ ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وإذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوا وعشيا، ويقولون ربنا متى تقوم الساعة. اقول: وهو مثال برزخي وتصديق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون. وفي الدر المنثور أخرج الاصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. اقول: وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة، وفي بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه. وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك إن الناس زعموا ان الربح على المضطر حرام فقال: وهل رأيت احدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة ؟ يا عمر قد احل الله البيع وحرم الربا، فاربح ولا ترب. قلت: وما الربا ؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة مثلين بمثل. وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن ابي عبد الله عليه السلام قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن. اقول: وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والذي هو مذهب أهل البيت عليهم السلام ؟ انه إنما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن، والمسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.

[ 425 ]

وفي الكافي عن احدهما وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فمن جائه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال: الموعظة التوبة. وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على ابي عبد الله عليه السلام من اهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شئ حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى ابي جعفر عليه السلام فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر عليه السلام مخرجك من كتاب الله عز وجل، فمن جائه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف امره إلى الله. قال: الموعظة التوبة. وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام: كل ربا اكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: وقال لو ان رجلا ورث من ابيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله وان عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله وليرد الزيادة. وفي الفقيه والعيون عن الرضا عليه السلام: هي كبيرد بعد البيان. قال: والاستخفاف بذلك دخول في الكفر. وفي الكافي: انه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى انه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز وجل. وفي الكافي والفقيه عن الصادق عليه السلام وقد سأل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات الآية، وقيل: قد ارى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر. اقول: والرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه، وهي لا تنافي ما مر من عموم المحق. وفي المجمع عن علي عليه السلام: انه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الربا خمسة: آكله وموكله وشاهديه وكاتبه ؟ اقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام قال: قال الله تعالى: انا خالق كل شئ وكلت بالاشياء غيري إلا الصدقة فإني اقبضها بيدي حتى ان الرجل والمرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله وفلوه حتى اتركه يوم القيامة

[ 426 ]

اعظم من احد. وفيه عن علي بن الحسين عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان الله ليربي لاحدكم الصدقة كما يربي احدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل احد. اقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريره و عائشة وابن عمر وابي برزة الاسلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي: انه لما انزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا ابي في ثقيف وقد اوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا الاية. اقول: وروي قريبا منه في المجمع عن الباقر عليه السلام. وفي المجمع ايضا عن السدي وعكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الاسلام ولهما اموال عظيمة في الربا فانزل الله هذه الآية فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب، وكل دم في الجاهلية موضوع، واول دم اضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل. اقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن السدي الا ان فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة. وفي الدر المنثور اخرج ابو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن ابي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الاحوص: انه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الا ان كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة ان الآية نزلت في اموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، وكانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الاسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الاسلام ذلك فرفع امرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية. وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان: ان الربا كان محرما في الاسلام قبل نزول هذه الآيات ومبينا للناس، وان هذه انما تؤكد التحريم وتقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي ان حرمة الربا انما نزلت في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانه قبض ولم يبين للناس

[ 427 ]

امر الربا كما في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب: انه خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لايريبكم. على ان من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام: ان الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من امر دينهم وبين ذلك للناس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس إ والسدي وعطيه العوفي وأبي صالح وسعيد بن جبير: ان آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية وفي المجمع عن الصادق عليه السلام: انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أورفدا. وفي المجمع أيضا عن علي عليه السلام إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا. أقول: وقد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات. وفيه: في قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: واختلف في حد الاعسار فروي عن أبي عبد الله عليه السلام انه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد. وفيه: انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. وفيه ! قال الباقر عليه السلام: إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وان تصدقوا خير لكم ان كنتم تعلمون انه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم. أقول: والرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، وقد مر له معنى آخر، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه. (بحث علمي) تقدم مرارا في المباحث السابقة: ان لا هم للانسان في حياته الا ان يأتي بما يأتي

[ 428 ]

من اعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، وبعبارة اخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، ويرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الاثر عند أهل الاجتماع) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، ويعده ملكا جائز التصرف لشخصه، والعقلاء من اهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم. لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من ابواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، وهذا اصل المعاملة والمعاوضة. غير ان التبائن التام بين الاموال والامتعة من حيث النوع، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الاكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض. فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الاصل في وضعه: انهم جعلوا شيئا من الامتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا اصلا يرجع إليه بقية الامتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية افراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شئ من الامتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض. ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للاشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه، وعند ذلك تعينت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلا ان القيراط من الالماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبين بذلك ان القيراط من الالماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس. ثم توسعوا في وضع نقود أخر من اجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

[ 429 ]

ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من الافراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع. فهذه أعمال قدمها الانسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، واستقر الامر بالاخرة على ان الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الانسان لانه الذي يقدر الانسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، وربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والامتعة وهو الصرف. وقد ظهر بما مر: ان اصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في اصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، وهذا أعني المغايرة هو الاصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا ؟ الربا - ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو اعطاء سلعة بعشرة إلى أجل واخذ اثنتي عشرة عند حلول الاجل وما اشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالاعسار والاعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه ان له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام مايقترضه، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد (20 - 0 = المال) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة. واما المرابى فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض، وذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال، وليس الا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، وتحكمهم

[ 430 ]

في أموال الناس واعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الانسان من قريحة التعالي والاستخدام، والى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن انفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الانسانية وفناء المدنية. هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على اداء ديونه أو يريد ذلك. هذا في الربا المتداول بين الاغنياء واهل العسرة، واما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما فيه انه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجاره واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول بينها واكل بعضها بعضا، وانهضام بعضها في بعض، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الاقلين، وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفا. ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد ان السبب الوحيد في شيوع الشيوعية وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدمهم البارز في مزايا الحياة، وحرمان آخرين وهم الاكثرون من أوجب واجباتهم، وقد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به اسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في حقوق الانسانية، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون انها يسعدهم في ما يريدونه من الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكم المطلق بما شائوا، وانها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون ان صار ما حسبوه لهم عليهم، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وكان عاقبة الذين اساؤوا السوآى، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الانسانية في مستقبل أيامها، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الاموال، وحبس الالوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى، وجلوس قوم على أريكة البطالة والاتراف، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو اتكاء الانسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لاترافهم، ولا يعيش به

[ 431 ]

آخرون لحرمانهم.

(بحث آخر علمي)

 قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في اعيانهما ولكن يضطر الخلق اليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، ولابد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الاشياء لا تناسب فيها، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت هذه الاعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المراتب، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الاموال حتى تقدر الاموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوى مأة، فهما من حيث انهما متساويان لشئ واحد متساويان، وانما أمكن التعديل بالنقدين إذ لاغرض في أعيانهما، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك في حق من لاغرض له فلا ينتظم الامر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الايدي، ويكونا حاكمين بين الاموال بالعدل. ولحكمة أخرى وهي: التوسل بهما إلى سائر الاشياء لانهما عزيز ان في أنفسهما، ولاغرض في اعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الاموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شئ، لاكمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابه مثلا، فاحتيج إلى شئ آخر هو في صورته كأنه ليس بشئ وهو في معناه كأنه كل الاشياء، والشئ انما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لالون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لاغرض فيه وهو وسيلد إلى كل غرض، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية. وفيهما ايضا حكم يطول ذكرها.

[ 432 ]

ثم قال ما محصله: انهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله. وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم وابطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس والقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل. وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال وهما مقصودان لغيرهما، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والاعمال التي يقوم بها أخساء الناس. وفرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنه كفر بالنعمة وظلم، فعنهما خلقا لغيرهما لالنفسهما، إذ لاغرض يتعلق بأعيانهما. وقد اشتبه عليه الامر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك: اما اولا: فإنه ذكر ان لاغرض يتعلق بهما في انفسهما، ولو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الامتعة والحوائج، وكيف يجوز أن يقدر شئ شيئا بما ليس فيه ؟ وهل يمكن ان يقدر الذراع طول شئ الا بالطول الذي له ؟ أو يقدر المن ثقل شئ الا بثقله الذي فيه ؟ على ان اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم الا بكونهما مقصودين لانفسهما، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبي. على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم أعني الذهب والفضة في الاعتبار، والواقع يكذب ذلك، ولكان جميع أنواع النقود متساوية القيم، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الامتعة كالجلد والملح وغيرهما. واما ثانيا: فلان الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله الآية " التوبة - 34، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل والمبادلة دائما كما سيجئ بيان ذلك في تفسير الآية. واما ثالثا: فلان ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه ظلما وكفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما، وكذا في بيع الصرف، ولم يعدا في الشرع ظلما وكفرا ولاحراما.

[ 433 ]

واما رابعا: فلان ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم والكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض، ولم يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع ان الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعا ومنعا. والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض. قال تعالى: " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون " الروم - 39، فجعل الربا رابيا في أموال الناس وذلك انه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما ان البذر من النبات ينمو بالتغذي من الارض وضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، وهذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم، وبذلك يظهر ان المراد بقوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس. * * * يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها

[ 434 ]

وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم - 282. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي إئتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم - 283.

(بيان)

 قوله تعالى: إذا تداينتم " الخ "، التداين، مداينة بعضهم بعضا، والاملال والاملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره. والفسوق هو الخروج عن الطاعة. والرهان، وقرء فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون. والاظهار الواقع في موقع الاضمار في قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره. والضمير البارز في قوله: أن يمل هو فليملل وليه، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الاوليين بأن الولي في الصورتين الاوليين هو المسؤول بالامر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليه. وقوله: أن تضل إحديهما، على تقدير حذر ان تضل إحديهما، وفي قوله: إحديهما الاخرى وضع الظاهر موضع المضمر، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الاول احديهما لاعلى التعيين، ومن الثاني احديهما بعد ضلال الاخرى، فالمعنيان مختلفان. وقوله: واتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الامر والنهى، وأما قوله: ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الارث: " يبين الله لكم ان تضلوا " النساء - 176، فالمراد به

[ 435 ]

الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام. وما قيل: إن قوله: واتقوا الله ويعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم الالهي، فيه أنه وان كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف، على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها. ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فانه لو لاكون قوله ويعلمكم الله، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق ان يقال: يعلمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم، أظهر الاسم اولا وثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل، كأنه قيل: هو بكل شئ عليم لانه الله. واعلم: ان الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين والرهن وغيرهما، والاخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه، ولذلك آثرنا الاغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه. * * * لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير - 284.

(بيان)

 قوله تعالى: لله ما في السموات وما في الارض، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السموات والارض، وهو توطئة لقوله بعده: وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن له ما في السموات والارض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على اعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها. وربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لاعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو مما في السموات، ولله ما في السموات كما ان ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الارض، ولله ما في الارض فما انطوى في النفوس سواء أبدى أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.

[ 436 ]

قوله تعالى: وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، الابداء هو الاظهار مقابل الاخفاء، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه، ولا مستقر في النفس إلا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالايمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإنها هي التي تقبل الاظهار والاخفاء. أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانية من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الافعال، فبصدور الافعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها. وأما إخفائها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس. وبالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت والاستقرار في النفس، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا وقوله: أو تخفوها فان الوصفين يدلان على ان ما في النفس بحيث يمكن ان يكون منشئأ للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء، وهذه الصفات يمكن ان تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، وأما الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الانسان وكذلك التصورات الساذجة التي لاتصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لانها كما عرفت غير مستقرة في النفس، ولا منشأ لصدور الافعال. فتحصل: ان الآية إنما تدل على الاحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر الافعال من الطاعات والمعاصي، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الانسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " البقرة - 225، وقوله تعالى: " فانه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا " الاسراء - 36، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالا وأوصافا يحاسب الانسان بها، وكذا قوله تعالى: " إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة " النور - 9، فانها ظاهرة في ان العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي، هذا.

[ 437 ]

فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفي، وأما كون الجزاء في صورتي الاخفاء والاظهار على حد سواء، وبعبارة اخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك. وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره، وليس الا تكليفا بما لا يطاق، فمن ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص. فمنهم من قال: إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، وهو تكليف بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية. وفيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر. على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب. على انه تعالى يخبر بقوله: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج - 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق. ومنهم من قال: إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنها مخصوصة بالكفار. ومنهم من قال: إن المعنى: إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله. ومنهم من قال: ان المراد بالآية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الاخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو اخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى: " فينبئكم بما كنتم تعملون " المائدة - 105، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الاية كما تقدم. قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات والاحوال النفسانية السيئة، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصة. وقوله: إن الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الاخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

[ 438 ]

(بحث روائي)

 في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مجثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق: الصلوة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولانطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في اثرها: آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلف الله نفسا الا وسعها إلى آخرها. اقول: ورواه في الدر المنثور عن احمد ومسلم وابي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابي هريرة، وروى قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس. وروي النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة. وروي عن الربيع بن أنس: ان الآية محكمة غير منسوخة وإنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا. وروي عن ابن عباس بطرق: ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها. فهي محكمة غير منسوخة. وروي عن عائشة أيضا: ان المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن إذا هم بالمعصية ولم يفعلها، فالآية ايضا محكمة غير منسوخة. وروي من طريق علي عن ابن عباس في قوله: وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فانها لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: اني أخبركم بما أخفيتم في انفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله: يحاسبكم به الله يقول يخبركم. وأما اهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم. اقول: والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في انها مخالفة لظاهر

[ 439 ]

القرآن على ما تقدم: ان ظاهر الآية هو: ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما من طريق الجوارح، وليس في الخطور النفساني كسب، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الاخبار بالخطورات والهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم. وأما حديث النسخ خاصد ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية. اولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه. ثانيها: اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه. ولاسيما منه تعالى، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترئها القوم " الخ " ان النسخ انما وقع قبل العمل وهو محذور. ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: ان قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لا يصلح لان يكون ناسخا لشئ، وإنما يدل على ان كل نفس انما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فانما هو امر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن الا نفسها، فالجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا الا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل. رابعها: انه سيجئ ايضا: ان وجه الكلام في الآيتين ليس إلى امر الخطورات النفسانية اصلا، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لابد منه في باب النسخ. بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السموات وما في الارض إلى آخر الآية على ما سيأتي إنشاء الله. * * * آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - 285. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت

[ 440 ]

وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين - 286.

(بيان)

 الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورد من التفاصيل المبينة لغرضها، وقد مر في ما مر أن غرض السورة بيان ان من حق عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، وهذا هو الذي تشتمل عليه الآية الاولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، وفي السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر، وهذا هو الذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الاولى وتمام الآية الثانية، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله وختمه إلى بدئه. ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب ان يتصف به اهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر ان المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة، فلاجرم انعم الله عليهم بهداية القرآن، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين. ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية، وأكرمهم بأنواع النعم، وعظائم الحباء، فلم يقابلوه الا بالعتو وعصيان الامر وكفر النعمة، والرد على الله وعلى رسله، ومعاداة ملائكته، والتفريق بين رسل الله وكتبه. فقابلهم الله بحمل الاصر الشاق من الاحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم. ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف اهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والارشاد الا بأنعم القبول والسمع والطاعة، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرقين بين أحد

[ 441 ]

من رسله، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة الربوبية، فانهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الاجابة. لان وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطأ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما اورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجأوا إلى جناب العزة ومنبع الرحمة ان لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، ولا يحمل عليهم إصرا، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين. فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الاية الدال على التكليف بما لا يطاق، وأن الاية الاولى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الاية، حكاية لقبول الاصحاب تكليف ما لا يطاق، والاية الثانية ناسخة لذلك ! وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فان هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الانصار للدين الالهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالاموال والانفس، وترك المؤمنين من المهاجرين الاهلين والبنين والاموال والاوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لاجابتهم دعوة نبيه بالسمع والقبول، وشكر منه لهم، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الاية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فان الجملة يؤمي إلى ان سؤالهم هذا كان في اوائل ظهور الاسلام. وفي الآية من الاجمال والتفصيل، والايجاز ثم الاطناب، وأدب العبودية وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب. قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، تصديق لايمان الرسول والمؤمنون، وإنما أفرد رسول الله عنهم بالايمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: " فأنزل الله سكينته

[ 442 ]

على رسوله وعلى المؤمنين " الفتح - 26، وقوله تعالى: " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا " التحريم - 8. قوله تعالى: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، تفصيل للاجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة، فان ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الايمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به. قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، وقد مر في قوله تعالى: " وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " البقرة - 127، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية، وأنه من أجمل السياقات القرآنية، والنكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الايمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، وان كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده وفي نفسه، وأما تكلمهم به لسانا واحدا فليس الا بلسان الحال. ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا " الخ "، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه، وهما جميعا من قول المؤمنين في اجابة دعوة الداعي. والوجه في هذه التفرقة أن قولهم: لا نفرق " الخ " مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا وأطعنا. وقد بدء تعالى بالاخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الافراد فقال: كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال: لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين، لان الذي جرى من هذه الامور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين عيسى ومحمد، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى، وبين محمد فانشعبوا شعبا وتحزبوا أحزابا وقد كان الله تعالى خلقهم امة واحدة على الفطرة، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الايمان

[ 443 ]

فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة. قوله تعالى: وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، قولهم سمعنا وأطعنا، إنشاء وليس باخبار وهو كناية عن الاجابة إيمانا بالقلب وعملا بالجوارح، فإن السمع يكني به لغة عن القبول والاذعان. والاطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والاطاعة يتم به أمر الايمان. وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها. وهذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، وهو العبادة كما قال تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما اريد ان يطعمون " الذاريات - 57، وقال تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن اعبدوني " يس - 61. وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الانبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم ان يغفر لهم ان أطاعوه بالعبودية كما ذكره اول ما شرع الشريعة لآدم وولده فقال: " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة - 38، وليس الا المغفرة. والقوم لما قالوا: سمعنا وأطعنا وهو الاجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا وأطعنا: غفرانك ربنا وإليك المصير، والمغفرة والغفران: الستر، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية، ويظهر عند مصير العبد إلى ربه، ولذلك عقبوا قولهم: غفرانك ربنا بقولهم: واليك المصير. قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، الوسع هو الجدة والطاقة، والاصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الانسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الافعال الاختيارية، فما يقدر عليه الانسان من الاعمال كأنه تسعه قدرته، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل وسع الانسان أي طاقته وظرفية قدرته. وقد عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: ان يسمع ويطيع، ومن البين

[ 444 ]

أن الانسان إنما يقول: " سمعا " فيما يمكن ان تقبله نفسه بالفهم، وأما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لاجابته بالسمع والقبول. ومن البين أيضا ان الانسان انما يقول: " طاعة " فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل، فإن الاطاعة هي مطاوعة الانسان وتأثر قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثر مثلا، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الانسان ان يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مره ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فإجابة داعي الحق بالسمع والطاعة لاتتحقق الا في ما هو اختياري للانسان تتعلق به قدرته، وهو الذي يكسب به الانسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الانسان إنما وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة. فظهر مما ذكرنا ان قوله: لا يكلف الله، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: ان لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الايمان بما هو فوق فهمهم والاطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، وهي ايضا السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين: سمعنا وأطعنا من غير زيادة ولا نقيصة. والجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين. أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم ان يأتوا به. وأما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سئله النبي والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان، وعدم حمل الاصر عليهم، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم به، كل ذلك وإن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرد والمعصية، وأما المؤاخذة على الخطأ والنسيان فإنهما وان كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما. فمن الممكن ان يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بأيجاب التحفظ عنهما، وخاصة إذا كان ابتلاء الانسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، ومثله الكلام في حمل الاصر فإنه إذا استند

[ 445 ]

إلى التشديد على الانسان جزائا لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه ويحترج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل لانها مما اختاره الانسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه. قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطانا، لما قالوا في مقام اجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الاجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه، امر الذين كانوا من قبلهم وقد كانوا أمما امثالهم استرحموا ربهم وسألوه ان لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لانهم علموا بما علمهم الله ان لاحول ولا قوة إلا بالله، وان لا عاصم من الله إلا رحمته. والنبى صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان معصوما من الخطأ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصح له ان يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين. قوله تعالى: ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، الاصر هو الثقل على ما قيل، وقيل هو حبس الشئ بقهره، وهو قريب من المعنى الاول فإن في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه. والمراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ماتشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى، " ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم " الاعراف - 157. قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا مالا طاقه لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبدا، وان كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه. قوله تعالى: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، العفو محو أثر الشئ، والمغفرة ستره، والرحمة معروفة، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب ان يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الاصل، وبعبارة أخرى من الاخص

[ 446 ]

فائدة ألى الاعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب اثر الذنب وإمحائه كالعقاب المكتوب على المذنب، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه، والرحمة هي العطية الالهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته.

 وعطف هذه الثلاثة أعني قوله: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا على قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا على ما للجميع من السياق والنظم يشعر: بأن المراد من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها. ومنه يظهر ان المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الاجابة المطلقة على ما تقدم وهذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطأ، فسؤال المغفرة غير مكرر.

 وقد كرر لفظ الرب في هذه الادعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالايماء والتلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبيه يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.

 قوله تعالى: انت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين، استيناف ودعاء مستقل، والمولى هو الناصر لكن لاكل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولى الامر، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو موليهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى: " والله ولي المؤمنين " آل عمران - 68، وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم: محمد - 11.

 وهذا الدعاء منهم يدل على انهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لاصل الدين هم الا في إقامتة ونشره والجهاد لاعلان كلمة الحق، وتحصيل اتفاق كلمة الامم عليه، قال تعالى: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين " يوسف - 108، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي يتعقب الجهاد والقتال والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والانذار، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، ويشير إلى ما به من الاهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " الشورى - 13، فقولهم انت مولينا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة، والله اعلم. والحمد لله

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338286

  • التاريخ : 29/03/2024 - 09:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net