00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 100 ـ 198 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الثاني)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

(بحث روائي)

في الدر المنثور عن السدي: في قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك الآية، انها نزلت في الاخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وقال: جئت أريد الاسلام ويعلم الله اني لصادق فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه فذلك قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله: وإذا تولى سعى في الارض الآية. وفي المجمع عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لانه يظهر خلاف ما يبطن، قال: وهو المروي عن الصادق عليه السلام. اقول: ولكنه غير منطبق على ظاهر الآيات. وفي بعض الروايات عن أئمه اهل البيت انها من الآيات النازلة في أعدائهم. وفي المجمع عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل: أن المراد بالحرث ههنا الدين، والنسل الانسان. اقول: وقد مر بيانه، وقد روي: ان المراد بالحرث الذرية والزرع، والامر التطبيق سهل. وفي امالي الشيخ عن علي بن الحسين عليه السلام: في قوله تعالى: ومن الناس من يشري

[ 100 ]

نفسه الآية، قال: نزلت في علي عليه السلام حين بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين انها نزلت في شأن ليلة الفراش، ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبي وغيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما اردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت الينا ولا مال لك وتخرج انت ومالك، والله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني ؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرتين. اقول: ورواه بطرق أخرى في بعضها ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية، وفي بعضها نزلت في صهيب وابي ذر بشرائهما انفسهما بأموالهما وقد مر ان الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء. وفي المجمع عن علي عليه السلام: ان المراد بالآية الرجل يقتل على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. اقول: وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاص. يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 208. فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم - 209. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الامور - 210.

[ 101 ]

(بيان) هذه الآيات وهي قوله: يا ايها الذين آمنوا إلى قوله: ألا إن نصر الله قريب الآيه سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الانسانية وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل، وانه لم ينفصم وحدة الدين، ولا ارتحلت سعادة الدارين، ولا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم، والتصرف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الامم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الامة لكن الله يعدهم بالنصر: الا ان نصر الله قريب. قوله تعالى: يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، السلم والاسلام والتسليم واحدة وكافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو امر متعلق بالمجموع وبكل واحد من اجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، ويجب على الجميع ايضا ان لا يختلفوا في ذلك ويسلموا الامر لله ولرسوله صلى الله عليه واله وسلم، وايضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الايمان به فيجب على المؤمنين ان يسلموا الامر إليه، ولا يذعنوا لانفسهم صلاحا باستبداد من الرأي ولا يضعوا لانفسهم من عند انفسهم طريقا يسلكونه من دون ان يبينه الله ورسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى والقول بغير العلم، ولم يسلب حق الحياة وسعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف. ومن هنا ظهر: ان المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من امر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق ويسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الانسان من غير علم، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية. وخصوصيات سياق الكلام وقيوده تدل على ذلك ايضا: فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك، وإذا كان سالكه هو المؤمن، وطريقه إنما هو طريق الايمان فهو طريق شيطاني في الايمان، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم

[ 102 ]

فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، واتباعه اتباع خطوات الشيطان. فالآية نظيرة قوله تعالى: (يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) البقرة - 169، وقد مر الكلام في الآية، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء والمنكر) النور - 21، وقوله تعالى: كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) الانعام - 142، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران - 103، وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام - 153، ويستفاد من الآية أن الاسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الاحكام والمعارف التي فيه صلاح الناس. قوله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جائتكم البينات، الزلة هي العثرة، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة وزللتم - والزلة هي اتباع خطوات الشيطان - فاعلموا ان الله عزيز غير مغلوب في امره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، ويجريه فيكم من غير ان يمنع عنه مانع. قوله تعالى: هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام (الخ)، الظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به، وظاهر الآية ان الملائكه عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول الله شصلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما اوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزق، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الامر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبئ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الامور، فلا مفر من حكمه وقضائه، فالسياق يقتضي ان يكون قوله: هل ينظرون، هو الوعيد الذي اوعدهم به في قوله

[ 103 ]

تعالى في الآية السابقة فاعلموا ان الله عزيز حكيم. ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة ان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الاجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر والحاجة والنقص، فقد قال تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى - 11، وقال تعالى: (والله هو الغني) الفاطر - 15، وقال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شئ من الصفات أو الافعال الحادثة إليه تعالى ينبغي ان يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافى صفاته العليا واسمائه الحسنى تبارك وتعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الاتيان إليه تعالى كقوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفا صفا) الفجر - 22، وقوله تعالى: (فأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا) الحشر - 2، وقوله تعالى: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) النحل - 26، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست اسمائه كالاحاطة ونحوها ولو مجازا، وعلى هذا فالمراد بالاتيان في قوله تعالى: أن يأتيهم الله الاحاطة بهم للقضاء في حقهم. على أنا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلا من الافعال عن استقلال الاسباب ووساطة الاوساط فربما نسبها إلى نفسه وربما نسبها إلى امره كقوله تعالى: (الله يتوفى الانفس) الزمر - 42، وقوله تعالى: (يتوفيكم ملك الموت) السجدة - 11، وقوله تعالى: (توفته رسلنا) الانعام - 61، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة ثم قال تعالى: في أمر الملائكة بأمره يعملون) الانبياء - 27، وكذلك قوله تعالى: ان ربك يقضي بينهم) يونس - 93، وقوله تعالى: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن - 78، وكما في هذه الآية: ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية وقوله تعالى: هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك) النحل - 33. وهذا يوجب صحة تقدير الامر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: جاء ربك، ويأتيهم الله، فالتقدير جاء أمر ربك ويأتيهم أمر الله.

[ 104 ]

فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك، وذلك أن أمثال قوله تعالى: " والله هو الغني " الفاطر - 15، وقوله تعالى: (العزيز الوهاب) ص - 9، وقوله تعالى (اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه - 50، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها، ملئ بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه اسم شئ فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته. فالمجئ والاتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، وركوبها كل سهل ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة. وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: إن الله عزيز حكيم، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " النحل - 33، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: " ولكل أمة رسول " يونس - 47، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى: " وأقم وجهك للدين حنيفا " الروم - 30، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.

[ 105 ]

قوله تعالى: وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور، السكوت عن ذكر فاعل القضاء، وهو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: وإلى الله ترجع الامور، لاظهار الكبرياء على ما يفعله الاعاظم في الاخبار عن وقوع احكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.

(بحث روائي)

قد تقدم في قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع، وفي بعض الروايات أن السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مر مرارا في نظائره. وفي التوحيد والمعاني عن الرضا عليه السلام في قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت، وعن قول الله عز وجل: " وجاء ربك والملك صفا صفا " قال: ان الله عز وجل لا يوصف بالمجئ والذهاب، تعالى عن الانتقال وانما يعني به وجاء امر ربك والملك صفا صفا. اقول: قوله عليه السلام يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائه. والمعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى اتيان أمره فإن الملائكة انما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالامر، قال تعالى: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء - 27، وقال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " النحل - 2. وها هنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو ان يكون الاستفهام الانكاري في قوله: هل ينظرون الا ان يأتيهم الله " الخ " لانكار مجموع الجملة لا لانكار المدخول فقط، والمعنى أن هؤلاء لا ينتظرون الا امرا محالا وهو: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات، وفيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات

[ 106 ]

ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على ان الكلام لو كان مسوقا لافاده ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في انفسهم وعتو عتوا كبيرا " الفرقان - 21، وقوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " الانبياء - 26. على انه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: في ظلل من الغمام، ولا نكتة ظاهرة لبقية الكلام وهو ظاهر.

(بحث روائي آخر)

 إعلم أنه ورد عن أئمه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق عليه السلام، تفسيرها بظهور المهدي عليه السلام كما رواه العياشي في تفسيره عن الباقر عليه السلام بطريقين. ونظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمه أهل البيت تارة بالقيامة وأخرى بالرجعة وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلا لوحدة وسنخية بين هذه المعاني، والناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، وهي مآت وربما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرقة، ومنهم من اولها على ظهورها وصراحتها، ومنهم - وهم أمثل طريقة - من ينقلها ويقف عليها من غير بحث. وغير الشيعة وهم عامة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهدي ورووه بطرق متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم أنكروا الرجعة وعدوا القول بها من مختصات الشيعة، وربما لحق بهم في هذه الاعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، وعد ذلك من الدس الذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالاسلام كعبد الله بن سبأ وأصحابه، وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: " إن الموت بحسب العناية الالهية

[ 107 ]

لا يطرء على حي حتى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة وهو بالفعل، هذا محال إلا إن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شئ وما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم اخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة، هذا. ولم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثنائا ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، وأن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، وأن كل صادق فهو بعينه كاذب. وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها. وأما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الانسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الاولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام. وأما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن أئمه أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة وأئمتهم من لدن الصدر الاول، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامة ه الدلالة قابلة الاعتماد، وسيجئ التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: " ويوم نحشر من كل امة فوجا

[ 108 ]

ممن يكذب بآياتنا " النمل: 83 وغيره من الآيات. على أن الآيات بنحو الاجمال دالة عليها كقوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " البقرة - 214، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الاموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: " والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل ". على أن هذه القضايا التي اخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقق صحة جميعها وصدق جميع مضامينها. ولنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، وبالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من اوصاف يوم القيامة ونعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الاسباب ولاشاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الاوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية ووجودها فلا شئ يدل على ذلك من كتاب وسنة بل الامر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب والسنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم. ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا كما ان النشأة البرزخية وهي ثابتة الآن للاموات منا لا تدفع الدنيا، ولا الدنيا تدفعها، قال تعالى: (تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم) النحل - 63. فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ، ولذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الاسباب عن

[ 109 ]

توهم الميت، فعن علي عليه السلام (من مات قامت قيامته)، وسيجئ بيان الجميع إنشاء الله. والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد وهو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه اغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الاموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا، ويفصل الحق من الباطل. وهذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظهور لامكان الشر والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي عليه السلام أيضا تمام لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور وإن كان هو أيضا دون الرجعة وقد ورد عن أئمة أهل البيت: (أيام الله ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرة ويوم القيامة) وفي بعضها: (أيام الله ثلاثة: يوم الموت ويوم الكرة ويوم القيامة)، وهذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم عليه السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة أخرى وبالظهور ثالثة، وقد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، ولا دليل مع المنكر يدل على نفيه. * * * سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمه الله من بعد ماجائته فإن الله شديد العقاب - 211. زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب - 212.

[ 110 ]

(بيان)

 قوله تعالى: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية (الخ) تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى: فإن زللتم مبعد ماجائتكم البينات فاعلموا ان الله عزيز حكيم، الاية من الوعيد بأخذ المخالفين اخذ عزيز مقتدر. يقول: هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الامة التي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة والملك، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على العالمين، سلهم كم آتيناهم من آية بينة ؟ وانظر في امرهم من اين بدئوا والى اين كان مصيرهم ؟ حرفوا الكلم عن مواضعه، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته أمورا من عند انفسهم بغيا بعد العلم، فعاقبهم الله أشد العقاب بما حل فيهم من اتخاذ الانداد، والاختلاف وتشتت الآراء، وأكل بعضهم بعضا، وذهاب السودد، وفناء السعادة، وعذاب الذلة، والمسكنة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون. وهذه هي السنة الجارية من الله سبحانه: من يبدل نعمة واخرجها إلى غير مجراها فإن الله يعاقبه، والله شديد العقاب، وعلي هذا فقوله: ومن يبدل نعمة الله إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلي موضع الجزئي للدلالة على الحكم، سنة جارية. قوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا، في موضع التعليل لما مر، وإن الملاك في ذلك تزين الحياة الدنيا لهم فانها إذا زينت لانسان دعته إلى هوى النفس وشهواتها، وأنست كل حق وحقيقة، فلا يريد الانسان إلانيلها: من جاه ومقام ومال وزينة، فلا يلبث دون ان يستخدم كل شئ لاجلها وفي سبيلها، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسل بها إلى التميزات والتعينات، فينقلب الدين إلى تميز الزعماء والرؤساء ومايلائم سوددهم ورئاستهم، وتقرب التبعة والمقلدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في أمتنا اليوم، وكنا شاهدناه في بني أسرائيل من قبل، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعم من ان يكون كفرا اصطلاحيا أو كفرا مطلقا في مقابل الايمان المطلق فتزين الحياة الدنيا لا يختص بالكفار اصطلاحا بل كل من ستر حقيقة من الحقائق الدينية، وغير نعمة دينية فهو كافر زينت له الحياة

[ 111 ]

الدنيا فليتهيأ لشديد العقاب. قوله تعالى: والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الخ، تبديل الايمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الايمان لا ينفع وحده لولا العمل. * * * كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم - 213.

(بيان)

الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الانساني به، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: ان الانسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أول اجتماعه امة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفعت بالتبشير والانذار: بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، وإرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدء والمعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وظهرت الشعوب والاحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلابغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، والله يهدي

[ 112 ]

من يشاء إلى صراط مستقيم. فالدين الالهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني، والمصلح لامر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظم للانسان سلك حياته الدنيوية والاخروية، والمادية والمعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع (الحياة الاجتماعية والدينية) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة. وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شؤون مختلفة.

(بدء تكوين الانسان)

 ومحصل ماتبينه تلك الآيات على تفرقها ان النوع الانساني ولاكل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الانسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الارض، فقد كانت الارض وما عليها والسماء ولا انسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع واليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: (انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل) الحجرات - 13، وقال تعالى: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها) الاعراف - 189، وقال تعالى: (كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59، وأما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الانواع وان الانسان مشتق من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، والفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني وانما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلمية، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الامكانات الذهنية، إذ لااعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والاحكام المربوطة بموضوع البحث، وسنستوعب هذا البحث انشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) آل عمران - 59.

[ 113 ]

(تركبه من روح وبدن)

 وقد أنشأ الله هذا النوع، حين ما أنشاء، مركبا من جزئين ومؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، وجوهر مجرد هي النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن ويفارقه الروح الحية، ثم يرجع الانسان إلى الله سبحانه، قال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشاناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين ثم انكم بعد ذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون " المؤمنون - 16، (انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر)، وفي هذا المعنى قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ص - 72، وأوضح من الجميع قوله سبحانه: " وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " السجدة - 11، فإنه تعالى أجاب عن اشكالهم بتفرق الاعضاء والاجزاء واستهلاكها في الارض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفيهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم ! فأبدانهم تضل في الارض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة ولافائتة ولامستهلكة وسيجئ انشاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الانساني في المحل المناسب له.

(شعوره الحقيقي وارتباطه بالاشياء)

 وقد خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركب فيه السمع والبصر والفؤاد، ففيه قوة الادراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه امر الحدوث والوقوع، فله إحاطة مابجميع الحوادث، قال تعالى: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق - 5، وقال تعالى: " والله اخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع

[ 114 ]

والابصار والافئدة " النحل - 78، وقال تعالى: " وعلم آدم الاسماء كلها " البقرة - 31، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شئ، ويستطيع الانتفاع من كل امر، اعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة واداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، وسلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة - 29، وقال تعالى: " وسخر لكم ما في السموات والارض جميعا منه " الجاثية - 13، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الاشياء مسخره للانسان.

(علومه العملية)

 وانتجت هاتان العنايتان: اعني قوة الفكر والادراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي ان يهيئ لنفسه علوما وإدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الاشياء وفعلية التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه. توضيح ذلك: انك إذا خليت ذهنك وأقبلت به على الانسان، هذا الموجود الارضي الفعال بالفكر والارادة، واعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه انه في افعاله الحيوية يوسط إدراكات وافكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتساع اطرافها وتشتت جهاتها العقل، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزيها وتركبها الحواس الظاهرة والباطنة من الانسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، وهذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ. ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم والادراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لان يتوسط بين الانسان وبين افعاله الارادية كمفاهيم الارض والسماء والماء والهواء والانسان والفرس ونحو ذلك من التصورات، وكمعاني قولنا: الاربعة زوج، والماء جسم سيال، والتفاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم وإدراكات تحققت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادة الخارجية وبين حواسنا وأدواتنا الادراكية، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا

[ 115 ]

(ما نحكي عنه بلفظ أنا)، والكليات الاخر المعقولة، فهذه العلوم والادراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إراده ولاصدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية. وهناك شطرآخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا وقبحا وما ينبغي ان يفعل وما يجب ان يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسية، والعبدية والمولوية فهذه سلسلة من الافكار والادراكات لاهم لنا إلا ان نشتغل بها ونستعملها ولا يتم فعل من الافعال الارادية إلا بتوسيطها والتوسل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة. وهي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا وعن أفهامنا كما كان الامر كذلك في القسم الاول فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوطة العمل ولاحاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن وألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عما لايلائمها يوجب حدوث صور من الاحساسات: كالحب والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثم هذه الصور الاحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والادراكات من معنى الحسن والقبح، وينبغي ولا ينبغي، ويجب ويجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا وبين المادة الخارجية وفعلنا المتعلق بها يتم لنا الامر، فقد تبين أن لنا علوما وإدراكات لا قيمة لها إلاالعمل، (وهي المسماة بالعلوم العملية) ولاستيفاء البحث عنها محل آخر. والله سبحانه ألهمها الانسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، والاخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، وقال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى - 3، وهذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور. وقال تعالى في الانسان خاصة: " ونفس وما سواها فألهمها فجور ها وتقويها " الشمس - 8، فأفاد أن الفجور والتقوى معلومان للانسان بإلهام فطري منه تعالى، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي، وهي العلوم العملية التي لااعتبار

[ 116 ]

لها خارجة عن النفس الانسانية، ولعله إليه الاشارة باضافة الفجور والتقوى إلى النفس. وقال تعالى: " وما هذه الحياة الدنيا إلالهو ولعب وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت - 64، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه ومال وتقدم وتأخر ورئاسة ومرؤوسية وغير ذلك إنما هي أمور خيالية لاواقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى ان الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الانسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الانسان وأحواله. فالموجود بحسب الواقع من " الانسان الرئيس " إنسانيته، وأما رئاسته فإنما هي في الوهم، ومن " الثوب المملوك " الثوب مثلا، وأما انه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، وعلى هذا القياس.

(جريه على استخدام غيره انتفاعا)

 فهذه السلسلة من العلوم والادراكات هي التي تربط الانسان بالعمل في المادة، ومن جملة هذه الافكار والتصديقات تصديق الانسان بأنه يجب ان يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، وبعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، ويستبقي حياته بأي سبب أمكن، وبذلك يأخذ في التصرف في المادة، ويعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، واستخدام الابرة للخياطة، واستخدام الاناء لحبس المايعات، واستخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولا يحد من حيث التركيب والتفصيل، وأنواع الصناعات والفنون المتخذة لبلوغ المقاصد والاغراض المنظور فيها. وبذلك يأخذ الانسان ايضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك يستخدم ايضا انواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها

[ 117 ]

وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون ان يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، ويتصرف في وجودها وافعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه.

(كونه مدنيا بالطبع)

 غير ان الانسان لما وجد ساير الافراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم ورضى منهم ان ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، وهذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، والاجتماع التعاوني ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعي. فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، والعدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الانسان أبدا، وهذا معنى ما يقال: إن الانسان مدني بالطبع، وإنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، ولذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني وحكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الامم القوية، وعلى ذلك جرى التاريخ ايضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة والحرية. وهو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: " إنه كان ظلوما جهولا " الاحزاب - 72، وقوله تعالى: " إن الانسان خلق هلوعا " المعارج - 19، وقوله تعالى: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم - 34، وقوله تعالى: " إن الانسان ليطغى ان رآه استغنى " العلق - 7. ولو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الانسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع ان المشهود دائما خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القوي العزيز مطالبه

[ 118 ]

الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

(حدوث الاختلاف بين افراد الانسان)

 ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الانسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الافراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والاخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف اكثر مما يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير ان ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج، وداعيا إلى هلاك الانسانية، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة. وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس - 19، وقوله تعالى: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " هود - 119، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها: " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية. وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين افراد المجتمعين من الانسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الانسانية الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الافكار والافعال بوجه، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الاحساسات والادراكات والاحوال في عين انها متحدة بنحو، إو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الاغراض والمقاصد والآمال، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الافعال، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع. وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كل ذي حق حقه، وتحميلها الناس. والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الانسان أحد طريقين:

[ 119 ]

الاول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى ان ينال كل من الافراد ما يليق به من كمال الحياة، مع الغاء المعارف الدينية، من التوحيد والاخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعي، وجعل الاخلاق تابعة للاجتماع وتحوله، فما وافق حال الاجتماع من الاخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، ويوما الخلاعة، ويوما الصدق، ويوما الكذب، ويوما الامانة، ويوما الخيانة، وهكذا. والثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الاخلاق واحترامها مع الغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية. وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الامة المجتمعة من الانسان: أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الانسان فقط، وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع، وهلاك الحقيقة الانسانية، فإن هذا الانسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الامد، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، وكيفية سلوك الانسان فيها، واكتسابه الاحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، وإذا بنى الانسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الامر فقد أهلك نفسه، واباد حقيقته. فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم. فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الاعراض والامتعة، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.

[ 120 ]

وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على اساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الامتعة الموجودة، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا. وقد أخطا القائلان جميعا، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك. والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الامتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، وما أريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.

(رفع الاختلاف بالدين)

 ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والاخلاق والافعال، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على اساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وانهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني والتقنين الالهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: " إن الحكم إلا لله أمر الا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يوسف - 40، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " الآية، فقارن بعثة الانبياء بالتبشير والانذار بإنزال الكتاب المشتمل على الاحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم. ومن هذا الباب قوله تعالى: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " الجاثية - 24، فإنهم إنما

[ 121 ]

كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لان القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحيا بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات. وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الاحوال والاعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها. وكذا قوله تعالى: " إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم - 30، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحق والعلم، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " الانفال - 24، وهذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، وقال تعالى: " أفمن يعلم أنما أنزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب " الرعد - 19، وقال تعالى: " قل هذه سبيلى ادعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان الله وما انا من المشركين " يوسف - 108، وقال تعالى: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الالباب " الزمر - 9، وقال تعالى: " يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة - 129، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به، وناهيك فيه انه يسمي العهد السابق على ظهور الاسلام عهد الجاهلية كما قيل. فما أبعد من الانصاف قول من يقول: ان الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الاثبات إثباتا للعدم، وقد أخطأوا في ظنهم، وخبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي امثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله برئ من المشركين ورسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطأوا

[ 122 ]

في حسبانهم، والدين أجل شأنا من ان يدعو إلى الجهل والتقليد، وامنع جانبا من ان يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جائه.

(الاختلاف في نفس الدين)

 وبالجملة فهو تعالى يخبرنا ان الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين. ثم إنه تعالى يخبرنا ان الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا، قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، إلى ان قال، وما تفرقوا إلا من بعد ما جائهم العلم بغيا بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم " الشورى - 14، وقال تعالى: " وما كان الناس إلا امة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون " يونس - 19، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " الاعراف - 24 فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم - 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

(الانسان بعد الدنيا)

 ثم إنه يخبرنا ان الانسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية وينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير ان حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، ومعنى كون الحياة انفرادية، انها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني،

[ 123 ]

والتشارك والتناصر، بل السلطنة هناك في جميع احكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر اصلا، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون والتشارك، لكن الانسان خلفه وراء ظهره، وأقبل إلى ربه، وبطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرف والمدنية والاجتماع التعاوني ولا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلا صحابة عمله، ونتيجة حسناته وسيئاته، ولا يظهر له إلا حقيقة الامر ويبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا " مريم - 80، وقال تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم انهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام - 94، وقال تعالى: " هنالك تبلوا كل نفس ما اسلفت وردوا إلى الله موليهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " يونس - 30، وقال تعالى: " مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " الصافات - 26، وقال تعالى: " يوم تبدل الارض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار " ابراهيم - 48، وقال تعالى: " وان ليس للانسان إلا ما سعى وان سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى " النجم - 41، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على ان الانسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة اجتماعية مبنية على التعاون والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، ولايجنى إلا ثمرة عمله ونتيجة سعيه، ظهر له ظهورا فيجزى به جزاء. قوله تعالى: كان الناس إمة واحدة، الناس معروف وهو الافراد المجتمعون من الانسان، والامة هي الجماعة من الناس، وربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله " النحل - 120، وربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: " وادكر بعد أمة " يوسف - 45، أي بعد سنين وقوله تعالى: " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة " هود - 8، وربما يطلق على الملة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " المؤمنون - 52، وفي قوله تعالى: " أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " الانبياء - 92، وأصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على

[ 124 ]

جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحح لاطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا أطلقت. وكيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في امور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والاراء، والدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فقد رتب بعثة الانبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد والوحدة، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي. وهذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الانساني لا يزال يرقى في العلم والفكر، ويتقدم في طريق المعرفة والثقافة، عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه اقل عرفانا برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الانسان الاولي الذي لا يوجد عنده الا النزر القليل من المعرفة بشؤون الحياة وحدود العيش، كأنهم ليس عندهم الا البديهيات ويسير من النظريات الفكرية التي تهيئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شئ من الصيد والايواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والاخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الانسان في أقدم عهوده، ومن المعلوم ان قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، ولا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لافراده الا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب. غير ان الانسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما اشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلب، وهو كل يوم يزداد علما وقوة على طرق الاستفادة، ويتنبه بمزايا جديدة، ويتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الاقوياء وأولوا السطوة وارباب

[ 125 ]

القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنية. ولا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدل امرهما، ويصلح شأنهما، وذلك كالانسان تتسابق قواه في افعالها، ويؤدي ذلك إلى التزاحم، كما ان جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة، وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكل بما يناسبه، ويقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الاخرى في فعلها. والتنافي بين حكمين فطريين فيما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الانسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، ولكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الانبياء بالتبشير والانذار، وانزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: ان المراد بالآية ان الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لان الاختلاف انما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، والبغي من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن ان الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، وقد مر بيانه، وعن ان الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الانبياء وانزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف، واشاعة الفساد، واثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الاخلاق مع استبطانها ؟ ويظهر به ايضا: فساد ما ذكره آخرون ان المراد بها ان الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: فبعث الله النبيين " الخ "، وقد غفل هذا القائل عن ان الله سبحانه يذكر ان هذا الضلال الذي ذكره وهو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، انما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والانزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين ؟

[ 126 ]

ويظهر به ايضا ما في قول آخرين ان المراد بالناس بنو اسرائيل حيث ان الله يذكر انهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: " فما اختلفوا الامن بعدما جائهم العلم بغيا بينهم " الجاثية - 16، وذلك أنه تفسير من غير دليل، ومجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم. وأفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم عليه السلام، والمعنى ان آدم عليه السلام كان أمد واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، فبعث الله النبيين " الخ "، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله ولا بعضه. ويظهر به ايضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: " وكان الله عزيزا حكيما " الفتح - 7، فهو دال على الثبوت، والمعنى: ان الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الانسان مدني بالطبع لايتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، واتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع والتعاون بين الافراد والمبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه ويستحقه في وجوده، فهذا حال الانسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتا من الاوقات، يدل عليه ما وصل الينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني وكونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير ان ذلك يؤدي إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، وبلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين ومنذرين، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف. فمحصل المعنى ان الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الانبياء وانزل الكتاب. ويرد عليه اولا: انه اخذ المدنية طبعا اوليا للانسان، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، وقد عرفت فيما مر ان الامر ليس كذلك، بل امر تصالحي اضطراري، وان القرآن ايضا يدل على خلافه. وثانيا: ان تفريع بعث الانبياء وإنزال الكتب على مجرد كون الانسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف،

[ 127 ]

وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام. وثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية وتتعرض به اختلافا واحدا، والآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول وما اختلف فيه اي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغيا بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأخذ الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه. قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " الخ " عبر تعالى بالبعث دون الارسال وما في معناه لان هذه الوحدة المخبر عنها من حال الانسان الاولي حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الذي هو الاقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون ان يعبر بالمرسلين أو الرسل، على ان البعث وانزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وخحياتهم، وإنبائهم انهم مخلوقون لربهم، وهو الله الذي لا آله إلا الله، وأنهم سالكون كادحون إلى الله يوم عظيم، واقفون في منازل من منازل السير، لاحقيقة له إلالعب وغرور، فيجب أن يراعو ذالك في هذه الحياة وأفعالها، وان يجعلو نصب اعينهم انهم من أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، ولذالك عبر بالبنين، وفي أسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الانبياء في تلقيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في اخر البيان، وأما التبشير والانذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن اتقى، والوعيد لعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن گذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال لغير ربهم من ثواب أو عقاب. قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفو فيه، الكتاب

[ 128 ]

فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من اطلاقه وان استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة انما يبرم بالكتابة غالبا شاع اطلاقه على كل حكم مفروض واجب الا أو كل بيان بل كل معى لا يقبل النقض في أبرامه وقد كثر استعماله بهذا المعنى في آلقران، وبهذا المعنى سمي آلقران كتاباوهو كلام ألهي، قال تعالى: " كتاب انزلناه اليك مبارك " ص - 29، وقال تعالى: " ان الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " النساء - 103 وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على ان المعنى: كان الناس امة واحدة فاختلفوا فبعث الله " الخ " كما مر. واللام في الكتاب اما للجنس واما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليه السلام لقوله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى " الشورى - 13، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين ان الشريعة النازلة على هذه الامة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الانبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الانبياء العظام: نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولما كان قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على ان الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام اولا: على ان لنوح عليه السلام كتابا متضمنا لشريعة، وانه المراد بقوله تعالى: وانزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إما وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس. وثانيا: ان كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية. وثالثا: ان هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس أمة واحدة الآية كان قبل بعثة نوح عليه السلام وقد حكم فيه كتابه عليه السلام. قوله تعالى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها " الروم - 30،

[ 129 ]

نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي. وفي قوله تعالى: إلا الذين أوتوه، دلالة على ان المراد بالجملة هو الاشارة إلى الاصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، وقد عذر من اشتبه عليه الامر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا، قال تعالى: " انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب اليم " الشورى - 42، وقال تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - إلى أن قال -: وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " التوبة - 106، وقال تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " النساء - 99. على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمد والبغي، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الالهية، قال تعالى: " والذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة - 39، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم. قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب بالحق، وعند ذلك عنت الهداية الالهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحق والمعارف الالهية الذي كان عامله الاصلي بغى حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وايجابا على الله تعالى ان يهديهم لايمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: والله يهدي من يشاء إلى

[ 130 ]

صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لان له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وقد تبين من الآية اولا: حد الدين ومعرفه، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج. وثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا. وثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الاديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، وقال تعالى: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " النحل - 89، وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة - 42. ورابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها. وخامسا: السبب في بعث الانبياء وإنزال الكتب، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، وهو أن الانسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شئ ما يجذبه به إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والايجاد فما هو مقدمته كذلك، وقد قال تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه - 50، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقة الانسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضا: " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " الاسراء - 20، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الامداد بالعطاء: يمد

[ 131 ]

كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقه، وأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى. ومن المعلوم أن الانسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية ؟. وإذا كانت الطبيعة الانسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للانسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالاصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الالهية التي هي النبوة بالوحي، ولذا عبر تعالى عن قيام الانبياء بهذا الاصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع ان قيام الانبياء كسائر الامور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية. فالنبوة حالة إلهية (وإن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الادراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الانسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الانسان، وهذا الادراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، والحالة التي يتخذها الانسان منه لنفسه بالنبوة. ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدي من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود النبوة وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة. تقريره: أن نوع الانسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والايجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الانسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها ؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الالهي غير الطبيعي المسمى

[ 132 ]

بالنبوة والوحي، وهذه الحجه مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للانسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الانسانية التي يذكرها التاريخ. فلا الانسان انصرف في حين من احيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا ان فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك من انحطاط الاخلاق وفساد عالم الانسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة ؟. وأما أن الصنع والايجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا: أما البحث: فلان الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الاخلاق ومحاسن الافعال فصلاح العالم الانساني مفروض فيه، وأما التجربة: فالاسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الانسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الاسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في محل آخرأليق به. وسادسا: أن الدين الذي هو خاتم الاديان يقضي بوقوف الاستكمال الانساني،

[ 133 ]

قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للانسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه. وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الانسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، وأخلاقه الفاضلة موقفة الذي كان عليه، ولم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع اقداما خلفه القهقري، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معا. وقد اشتبه الامر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولاشك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الاسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليه السلام وموسى عليه السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الاسلام ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر. والجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للانسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الانساني، وبني أساسه على الكمال الروحي والجسمي معا، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة والسياسة، وقد اختلط الامر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الابحاث الاجتماعية المادية (والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها) حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعا، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شئ من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية ؟. وسابعا: أن الانبياء عليهم السلام معصومون عن الخطاء.

[ 134 ]

(كلام في عصمة الانبياء)

 توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولوية، ويرجع بالاخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاه ما، ونعني بالعصمة وجود أمر في الانسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية. وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ، وبعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطأ في الامور الخارجية نظير الاغلاط الواقعة للانسان في الحواس وإدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، ونظير الخطأ في تشخيص الامور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث. وكيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم عليهم السلام في جميع الجهات الثلاث: أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في الآية: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير والانذار وانزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل، وبعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالى: " لا يضل ربي ولا ينسى " طه - 52، فبين أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والامر وله الملك والحكم، وقد بعث الانبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابد أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون ! وقال تعالى ايضا: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3، وقال ايضا: " والله غالب على أمره " يوسف - 21.

[ 135 ]

ويدل على العصمة عن الخطأ أيضا قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عددا " الجن - 28، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والاحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم - 64، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره. وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الانبياء عليهم السلام في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فأن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى. ويدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: " أولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده " الانعام - 90، فجميعهم عليهم السلام كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى: " ومن يضلل الله فماله من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل " الزمر - 37. وقال تعالى: " من يهد الله فهو المهتد " الكهف - 17، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا " يس - 62، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته

[ 136 ]

تعالى في حق الانبياء عليهم السلام ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئه منه تعالى لساحد انبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه. ويدل عليها أيضا قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا " النساء - 68، وقال أيضا: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الانبياء: " أولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية ابراهيم وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا " مريم - 59، فجمع في الانبياء أولا الخصلتين: اعني الانعام والهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله وممن هدينا واجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، ووصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، والفريق الثاني غير الاول لان الفريق الاول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، وإذ وصف الفريق الثاني وعرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا فالفريق الاول وهم الانبياء ما كانوا يتبعون الشهوات ولا يلحقهم غي، ومن البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى انهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الاطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وسوف يلقون غيا. وهذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الانبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل وإجراء المعجزات على ايديهم تصديق لقولهم. فلا يصدر عنهم كذب وكذا تصديق لاهليتهم للتبليغ، والعقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي والافعال المنافية لمرام ومقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي وفي تبليغ الرسالة وفي امتثالهم للتكاليف المتوجة إليهم بالطاعة.

[ 137 ]

ولا يرد عليه: ان الناس وهم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم وأقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور والتقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لاحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور والتقصير، وإما لان مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الامر المطلوب، والقبض على اليسير والغض عن الكثير وشئ من الامرين لا يليق بساحته تعالى. ولا يرد عليه ايضا: ظاهر قوله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفه ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة - 123، فإن الآية وإن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه اذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين وتفقهوا فيه، لاتصديق لهم فيما أنذروا به وجعل حجية لقولهم على الناس والمحذور انما هو في الثاني دون الاول. ومما يدل على عصمتهم عليهم السلام قوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للارسال، وقصر الغاية فيه، وذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق ارادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول وهو قوله أو فعله لان كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطاء في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك ارادة منه تعالى للباطل والله سبحانه لا يريد الا الحق. وكذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا والمعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق ارادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا وناهيا، محبا ومبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات والافعال علوا كبيرا وهو باطل وان قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فان تكليف مالا يطاق تكليف بالمحال وما نحن فيه تكليف نفسه محال لانه تكليف ولا تكليف وارادة ولا ارادة وحب ولاحب ومدح وذم بالنسبة إلى فعل واحد ! ومما يدل على ذلك ايضا قوله تعالى: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء - 165، فان الآية ظاهرة في ان الله سبحانه

[ 138 ]

يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة والمعصية وان لا قاطع للعذر الا الرسل عليهم السلام، ومن المعلوم ان قطع الرسل عذر الناس ورفعهم لحجتهم انما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم مالا يوافق ارادة الله ورضاه: من قول أو فعل، وخطاء أو معصية والا كان للناس ان يتمسكوا به ويحتجوا على ربهم سبحانه وهو نقض لغرضه تعالى. فان قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو ان الانبياء عليهم السلام لا يقع منهم خطاء ولا يصدر عنهم معصية وليس ذلك من العصمة في شئ فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الانسان عن الوقوع في الخطأ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره وانما هي مبدء نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الافعال عن الملكات النفسانية. قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الابحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي عليه السلام ولا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة وهو ظاهر. ومع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الاعجاز من دلالة قوله تعالى: " إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق - 3، وكذا قوله تعالى: " إن ربي على صراط مستقيم " هود - 56، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدء يصدر عنه وسبب يتحقق به، فهذه الافعال الصادرة عن النبي عليه السلام على وتيرة واحدة صوابا وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي عليه السلام وفي نفسه وهي القوة الرادعة، وتوضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الافعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة وبعضها معصية ولا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية، وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الامر مثلا تحققت الطاعة، وإن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى واقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية وامتثال الامر الالهي لما صدر إلا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقق

[ 139 ]

إلا المعصية، وعلى هذا فصدور الافعال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوصف الطاعة دائما ليس إلا لان العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، وهو الاذعان بوجوب العبودية دائما، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية. ومن جهة أخرى النبي لا يخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطئ في تلقي المعارف وتبليغها ولا تعصي في العمل ولو فرضنا أن هذه الافعال وهي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الاسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي عليه السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته في تأثيرها في أفعاله وفي ذلك خروج الافعال الاختيارية عن كونها اختيارية، وهو ينافي افتراض كونه فردا من إفراد الانسان الفاعل بالعلم والارادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الانسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا وطاعة وهو نوع من العلم الراسخ وهو الملكه كما مر.

(كلام في النبوة)

 والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة (وهي وصف إرشاد الناس بالوحي) في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: وهما الرسول والنبي، قال تعالى: " وجيئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وقال تعالى: " يوم يجمع الله الرسل ماذا أجبتم " المائدة - 109، ومعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه والنبي شرف العلم بالله وبما عنده. وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبهث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

[ 140 ]

لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى: (واذكر في الكتاب موسى أنه كان مخاصا وكان رسول نبيا) مريم - 51، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى. وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " الحج - 51، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر - 69، وكذا قوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال إلى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: وكان رسولا نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجورى المعنى فالمعنى وكان رسولا خبيرا بآيات الله ومعارفه، وكذا قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية لامكان ان يقال: ان النبي والرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير ان النبي بعث لينبئ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالحق " يونس - 47، وقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " الاسراء - 15، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء - 165، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، ولازمه هو الذي أشرنا إليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت " عليهم السلام " من الفرق بينهما. ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " المؤمن - 78، إلى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم

[ 141 ]

بضعة وعشرون نبيا وهم: آدم، ونوح، وادريس، وهود، وصالح، وابراهيم، ولوط، واسماعيل، واليسع، وذو الكفل، والياس، ويونس، واسحق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وايوب، وزكريا، ويحيى، واسماعيل صادق الوعد، وعيسى، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين. وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية، قال سبحانه: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا) البقرة - 246، وقال تعالى: " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " البقرة - 259، وقال تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " يس - 14، وقال تعالى: " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما " الكهف - 65، وقال تعالى: " والاسباط " البقرة - 136، وهناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: " واذ قال موسى لفتاه " الكهف - 60، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم. وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبيا. واعلم: ان سادات الانبياء هم أولوا العزم منهم وهم: نوح، وابراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، قال تعالى: " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " الاحقاف - 35، وسيجئ ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه، قال تعالى: " واذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " الاحزاب - 7، وقال تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " طه - 115. وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب، قال تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى " الشورى - 13، وقال تعالى: " إن هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى " الاعلى - 19، وقال تعالى: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون: إلى أن

[ 142 ]

قال: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور - إلى أن قال - وأنزلنا اليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " المائدة - 51. والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كتبا، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة " الخ "، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود عليه السلام، قال تعالى: " وآتينا داود زبورا " النساء - 163، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، وشيث، وادريس، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع. واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء - 163، وسيجئ استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إنشاء الله.

(بحث روائي)

في المجمع عن الباقر عليه السلام أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال: وكان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا ؟ قال بل كانوا ضلالا، وذلك إنه لما انقرض آدم وصالح ذريته، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إلا من هو سلف، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر، وكذبوا، إنما هو شئ يحكم الله في كل عام ثم قرء: فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك وتعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، - قلت أفضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أما تسمع بقول ابراهيم: لئن لم يهدني

[ 143 ]

ربي لاكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق. اقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، وأنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الالهية، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله عليه السلام في رواية المجمع المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالا. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية. وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى إبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء ورسلا ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا لما أثبتنا: ان لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم، وفي تركه فنائهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في احوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من احياء الموتى، وابراء الاكمه والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. اقول: والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة. إحداها: الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية. وثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، وما ذكره عليه السلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى: " وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله " البقرة - 23.

[ 144 ]

وثالثتها: مسألة عدم خلو الارض عن الحجة وسيأتي بيانه إنشاء الله. وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون ؟ قال: مأة وأربعة وعشرون الف نبي، قلت: كم المرسلون منهم ؟ قال ثلثمأة وثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الانبياء ؟ قال: آدم، قلت: وكان من الانبياء مرسلا ؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم، ونوح، وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي، قلت: يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال: مأة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وانزل التوراة، والانجيل، والزبور، والفرقان. اقول: والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي عن الرضا عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن زيد بن علي عن آبائه عن امير المؤمنين عليه السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة، والسيد في الاقبال عن السجاد عليه السلام، وفي البصائر عن الباقر عليه السلام. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وكان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين. اقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: " فأرسل إلى هارون " الشعراء - 13، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، وربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم ؟ فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه

[ 145 ]

بعضهم على دلالة قوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب - 40، أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية ونظائرها. والجواب: ان النبوة أعم مصداقا من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق. وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: إنما سمي أولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، وكل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن موسى، وكل نبي كان في زمن موسى كان على شريعه موسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعه عيسى ومنهاجه وتابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهؤلاء الخمسة أولوا العزم، وهم أفضل الانبياء والرسل عليهم السلام وشريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، ولا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه. اقول: وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق عليه السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية، وهم نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عليهم السلام، ومعنى أولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم: وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى. اقول: وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أولي العزم من الانبياء خمسة: نوح، وابراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رويناه من طرق أهل البيت، وهناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، وابراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين، وذهب بعضهم

[ 146 ]

إلى أنهم أربعة: ابراهيم، ونوح، وهود، ورابعهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك. وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام، قال ؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث. اقول: وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بطرق كثيرة. وفي الصافي عن المجمع عن علي عليه السلام بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته. وفي النهج قال عليه السلام في خطبة له يذكر فيها آدم عليه السلام: فأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه واتخذوا الانداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبيائه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسى نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، واحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة إو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الابناء، إلى ان بعث الله سبحانه محمدا لانجاز عدته، وتمام نبوته الخطبة. اقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، وقوله: واتر إليهم، أي ارسل واحدا بعد واحد، والاوصاب جمع وصب وهو المرض، والاحداث جمع الحدث وهو النازلة، وقوله نسلت القرون اي مضت، وإنجاز العدة تصديق الوعد، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشر به عيسى عليه السلام وغيره من الانبياء عليهم السلام، قال تعالى: " وتمت كلمه ربك صدقا وعدلا " الانعام - 115.

[ 147 ]

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: وكتبنا له في الالواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله، وقال تعالى لعيسى: لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ. اقول: وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، وقوله عليه السلام قال الله لموسى " الخ " إشارة إلى ان قوله تعالى في الالواح من كل شئ يفسر قوله تعالى في حق التوراة: " وتفصيل كل شئ " إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شئ لم يصح قوله: في الالواح من كل شئ فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شئ تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم. (بحث فلسفي) مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للاحكام وقوانين مجعولة مشرعة وهي أمور اعتبارية غير حقيقية، وإن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الاشياء من حيث وجوداتها الخارجية وحقائقها العينية ولا يتناول الامور المجعولة الاعتبارية. لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية وبحث حقيقي، وذلك أن المواد الدينية: من المعارف الاصلية والاحكام الخلقية والعملية لها ارتباط بالنفس الانسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو احوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، وهذه العلوم والملكات تكون صورا للنفس الانسانية تعين طريقها إلى السعادة والشقاوة، والقرب والبعد من الله سبحانه، فإن الانسان بواسطة الاعمال الصالحة والاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق الا بما هي له عند الله سبحانه من القرب والزلفى، والرضوان والجنان وبواسطة الاعمال الطالحة والعقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة وزخارفها الفانية ويؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا وانقطاع الاختيار إلى دار البوار ومهاد النار وهذا سير حقيقي.

[ 148 ]

وعلى هذا فالمسألة حقيقية والحجة التي ذكرناها في البيان السابق واستفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية. توضيح ذلك: ان هذه الصور للنفس الانسانية الواقعة في طريق الاستكمال، والانسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، والعلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الاخير في وجودها بشهادة التجربة والبرهان، والواجب تعالى تام الافاضة فيجب أن يكون هناك افاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، ويتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة ان كانت ذات صفات حسنة وملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة ان كانت ذات رذائل وهيئات ردية. واذ كانت هذه الملكات والصور حاصلة لها من طريق الافعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح والفساد، والخوف والرجاء، والرغبة إلى المنافع، والرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الافاضة أيضا متعلقة بالدعوة الدينية بالتبشير والانذار والتخويف والتطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، وخسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، والدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها وهو النبي المبعوث من عنده تعالى. فان قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الانسان للحق في الاعتقاد والعمل، وسلوكه طريق الفضيلة والتقوى، فأي حاجة إلى بعث الانبياء. قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، ويأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن والقبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الاشياء كما مر بيانه سابقا، والعقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الاحساسات الباطنة، والاحساسات التي هي بالفعل في الانسان في بادي حاله هي إحساسات القوي الشهوية والغضبية، وأما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة، وقد مر أن هذا الاحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الانسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الانسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش والبربرية مع وجود العقل فيهم وحكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.

[ 149 ]

(بحث اجتماعي)

 فان قلت: هب ان العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير ولكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها والاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالاخرة على هيئد صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين وهو الاصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالاخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الانسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الافراد، ويشهد به ما نشاهده ويؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل وتتمنى الصلاح وتتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الانسان، فمنها ما بلغ مبتغاه وامنيته كما في بعض الامم مثل سويسره، ومنها ما هو في الطريق ولما يتم له شرائط الكمال وهي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول. قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها وسعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، والاجتماع المنتهى إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الامعان فيه أن هذا التمايل والتوجه لا يستوجب فعلية الكمال والسعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي والغضبي في الانسان وكون مبادي السعادة الحقيقية فيه بالقوة، والشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة والحاضرة متوجهة إلى الكمال، ونيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، وقرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال والسعادة هو الكمال الجسمي وليس الكمال الجسمي هو كمال الانسان، فإن الانسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم وروح، مؤلف من جهتين مادية ومعنوية له حياة في البدن وحياة بعد مفارقته من غير فناء وزوال، يحتاج إلى كمال وسعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له وسعادة بالنسبة إليه، وحقيقته هذه الحقيقة. فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الانساني، وإن كان في قصدها هداية الانسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الانسانية وانحلال تركيبه، وضلاله عن

[ 150 ]

صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، والهداية الالهية. فان قلت: لو صحت هذه الدعود النبوية ولها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الانسانية، كما ان هداية الانسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة والتكوين، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات، ويجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، وليس كذلك، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا ولا تقبله الاجتماعات الانسانية ؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة. قلت: أولا اثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه الا مكابر، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا وألوفا من الافراد في جانب السعادة، واضعاف ذلك وأضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول والرد والانقياد والاستكبار، والايمان والكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة احيانا من الزمان، على ان الدنيا لم تقض عمرها بعد، ولما ينقرض العالم الانساني، ومن الممكن أن يتحول الاجتماع الانساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الانسانية الحقيقية وسعادة الفضائل والاخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، ويسار فيه بالعدالة والفضيلة وليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به. وثانيا: أن الابحاث الاجتماعية وكذا علم النفس وعلم الاخلاق تثبت أن الافعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالاحوال والملكات من الاخلاق ترتضع من ثدى الصفات النفسانية، ولها تأثير في النفوس، فالافعال آثار النفوس وصفاتها، ولها آثار في النفوس في صفاتها، ويستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات والاخلاق، وأصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، وتتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا. فهذه الدعوة العظيمة وهي تصاحب الاجتماعات الانسانية من اقدم عهودها، في تاريخها المضبوط وقبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الانسان الاجتماعية من حيث الاخلاق الفاضلة والصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينية آثار في النفوس وإن لم تجبها ولم تؤمن بها.

[ 151 ]

بل حقيقة الامر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل والامم الحية من آثار النبوة والدين، وقد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته وانتحلت به أمم وجماعات هامة، وهو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الايمان، والاخلاق الفاضلة والعدل والصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم وإن كان قليلا بقايا من آثاره ونتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد وهو يدعو إلى الرقية في جميع الشؤون الانسانية، وثانيها القوانين المدنية وهي تجري وتحكم في الافعال فحسب، وتدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الاخلاق وغيرها، وثالثها الدين وهو يحكم في الاعتقادات والاخلاق والافعال جميعا ويدعو إلى إصلاح الجميع. فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين وتربيته. ويشهد بذلك ما نشاهده من أمر الامم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، وأهملت أمر الدين والاخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح والرحمة والمحبة وصفاء القلب وسائر الفضائل الخلقية والفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، ولو كانت أصل الفطرة كافيه، ولم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك. على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الامم المسيحية بعد الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الاسلامية فتقلدوها وتقدموا بها، والحال أن المسلمين اتخذوها ورائهم ظهريا، فتأخر هؤلاء وتقدم أولئك، والكلام طويل الذيل. وبالجملة الاصلان المذكوران، أعني السراية والوراثة، وهما التقليد الغريزي في الانسان والتحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك وهو تأثير فعلي. فان قلت: فعلى هذا فما فائدد الفطرة فإنها لا تغني طائلا وإنما أمر السعادة بيد النبوة ؟ وما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة. قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الانسان وكماله يكفي في حل هذه الشبهة، فإن السعادة والكمال الذي تجلبه النبوة إلى الانسان ليس أمرا

[ 152 ]

خارجا عن هذا النوع، ولا غريبا عن الفطرة فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، وهذا المعين الذي يعينها على ذلك وهو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الانسانية وكمالها، منضما إلى الانسان كالحجر الموضوع في جنب الانسان مثلا، وإلا كان ما يعود منه إلى الانسان أمرا غير كماله وسعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الانسان في وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للانسان مذخور في هذا النوع، وهو شعور خاص وإدراك مخصوص مكمون في حقيقتة لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الالهية كما أن للبالغ من الانسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الافراد غير البالغين بالفعل، وإن كان الجميع من البالغ وغير البالغ مشتركين في الفطرة الانسانية، والشعور شعور مرتبط بالفطرة. وبالجملة لا حقيقة النبوه أمر زائد على انسانية الانسان الذي يسمى نبيا، وخارج عن فطرته، ولا السعادة التي تهتدي سائر الامة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم وفطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الانساني، وإلا لم تكن كمالا وسعادة بالنسبة إليهم. فان قلت: فيعود الاشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها والنبوة غير خارجة عن الفطرة. فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الانساني المتمدن بفطرته والمختلف في اجتماعه يتميز من بين افراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، وعقولهم سليمة عن الاوهام والتهوسات ورذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، وسلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، وسعادة الانسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، وعمران الدنيا والآخرة، فإن النبي هو الانسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي. قلت: كلا ! وإنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، ولا ما تستتبعه. اما اولا: فلان ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني، والفحص عن حقائق المبدء والمعاد. فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة وسلامة العقل،

[ 153 ]

وهذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، وما يصلح به هذا الاجتماع المختل، وما يسعد به الانسان الاجتماعي. فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، والفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي، والقوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، وروحه الطاهر الذي يفيض هذه الافكار إلى قواه الفكرية ولا يخون العالم الانساني باتباع الهوى هو الروح الامين وهو جبرائيل، والموحي الحقيقي هو الله سبحانه، والكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، والملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير، والشيطان هي النفس الامارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر والفساد، وعلى هذا القياس. وهذا فرض فاسد، وقد مر في البحث عن الاعجاز، أن النبوة بهذا المعنى لان تسمى لعبة سياسية أولى بها من ان تسمى نبوة إلهية. وقد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الافعال وشرها بالمصلحة والمفسدة وهو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الانسان ومن هدايا الفطرة المشتركة، وتقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، وإذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف، واحتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، وقد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الانسان وتهتدي به الفطرة إلى سعادة الانسان الحقيقية في معاشه ومعاده. ومن هنا يظهر ان هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده الانسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي، والطريق غير الطريق. ولا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الانسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، ويعطيه عجائب من المعارف والمعلومات، وراء ما يناله العقل والفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا وجمع من علماء النفس من اوروبا مثل جمز الانجليزي وغيره.

[ 154 ]

فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، وان النبوة وكذا الشريعة والدين والكتاب والملك والشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني. واما ثانيا: فلان المأثور من كلام هؤلاء الانبياء المدعين لمقام النبوة والوحي مثل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح " عليهم السلام " وغيرهم - وبعضهم يصدق بعضا - وكذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة والوحي ونزول الكتاب والملك وغير ذلك من الحقائق، فإن صريح الكتاب والسنة وما نقل من الانبياء العظام عليهم السلام أن هذه الحقائق وآثارها امور خارجة عن سنخ الطبيعة، ونشأة المادة، وحكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة وحكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، ولا يرتضيه ذوق التخاطب. وقد تبين بما ذكرنا أن الامر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الانساني وهو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الانسان. فان قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الانسان من انفسهم وانما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى اصلاح شأنهم ويهدي النوع إلى سعادته الحقيقية ؟ ! وقد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للانسان إلى سعادته وكماله النوعي وجب إن يهديه بالارتباط والاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الانسان إليه. قلت: كون هذا الامر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، وكذا كونه أمرا من قبيل الادراكات الباطنية ونحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الامر الخارق للعادة ولا الامر المستور عن الحواس الظاهرة وانما يدفع المحال، وللعقل طريق إلى تصديق الامور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فان له أن يستدل على الشئ من طريق علله وهو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره وهو الاستدلال الاني فيثبت بذلك وجوده، والنبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن ان يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره وتبعاته وهو اشتمال الدين الذي

[ 155 ]

يأتي به النبي على سعادة الانسان في دنياه وآخرته، وتارة من جهة اللوازم وهو ان النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها ممن يدعيها هي دعوى ان الذي وراء الطبيعة وهو الهها الذي يهديها إلى سعادتها ويهدي النوع الانساني منها إلى كماله وسعادته يتصرف في بعض أفراد النوع تصرفا خارقا للعادة وهو التصرف بالوحى، ولو كان هذا التصرف الخارق للعادة جائزا جاز غيره من خوارق العادة، لان حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فلو كانت دعوى النبوة من النبي حقا وكان النبي واجدا لها لكان من الجائز ان يأتي بأمر آخر خارق للعادة مرتبطة بنبوته نحو ارتباط يوجب تصديق العقل الشاك في نبوة هذا المدعى للنبوة، وهذا الامر الخارق للعادة هي الآية المعجزة وقد تكلمنا في الاعجاز في تفسير قوله تعالى: " وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية " البقرة - 23. فان قلت: هب ان هذا الاختلاف ارتفع بهذا الشعور الباطني المسمى بوحى النبوة وأثبتها النبي بالاعجاز، وكان على الناس ان يأخذوا بآثاره وهو الدين المشرع الذي جاء به النبي، لكن ما المؤمن عن الغلط ؟ وما الذي يصون النبي عن الوقوع في الخطأ في تشريعه وهو إنسان طبعه طبع سائر الافراد في جواز الوقوع في الخطأ. ومن المعلوم ان وقوع الخطأ في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعي في سد طريق استكمال النوع الانساني، وإضلاله هذا النوع في سيرة إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس. قلت: الابحاث السابقة تكفي مؤنة حل هذه العقدة، فإن الذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعلية أعني الامر الروحي الذي يرفع الاختلاف إنما هو الناموس التكويني الذي هو الايصال التكويني لكل نوع من الانواع الوجودية إلى كماله الوجودي وسعادته الحقيقية، فإن السبب الذي أوجب وجود الانسان في الخارج وجودا حقيقيا كسائر الانواع الخارجية هو الذي يهديه هداية تكوينية خارجية إلى سعادته، ومن المعلوم ان الامور الخارجية من حيث انها خارجية لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني الوجود الخارجي لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح ان ما في الخارج هو ما في الخارج ! وإنما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقية والامور الفكرية من جهة تطبيقها على الخارج فإن الصدق والكذب من خواص القضايا، تعرضها من حيث

[ 156 ]

مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض ان الذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الايجاد والتكوين لزم ان لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته التي هي روح النبوة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبي، ولا هذا الشعور الذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطا وخطائا في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب ان يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط. فظهر: ان هذا الروح النبوي لا يحل محلا إلا بمصاحبة العصمة، وهي المصونية عن الخطأ في أمر الدين والشريعة المشرعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقا، فإن هذه عصمة في تلقي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبودية، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإن كلتيهما واقعتان في طريق سعاده الانسان التكوينية وقوعا تكوينيا، ولا خطاء ولا غلط في التكوين. وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطني مثل الشعور الفطري المشترك أعني الشعور الفكري في نحو الوجود بأن يكون محكوما بحكم التغير والتأثر ؟ فإن الشعور الفطري وان كان أمرا غير مادي، ومن الامور القائمة بالنفس المجردة عن المادة إلا انه من جهة ارتباطه بالمادة يقبل الشدة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطني أمر متعلق بالبدن المادي نحوا من التعلق، وان سلم انه غير مادي في ذاته فيجب ان يكون حاله حال الشعور الفكري في قبول التغير والفساد، ومع امكان عروض التغير والفساد فيه يعود الاشكالات السابقة البتة. والجواب: انا بينا ان هذا السوق أعني سوق النوع الانساني نحو سعادته الحقيقية انما يتحقق بيد الصنع والايجاد الخارجي دون العقل الفكري، ولا معنى لتحقق الخطأ في الوجود الخارجي.

[ 157 ]

وأما كون هذا الشعور الباطني في معرض التغير والفساد لكونه متعلقا نحو تعلق بالبدن فلا نسلم كون كل شعور متعلق بالبدن معرضا للتغير والفساد، وانما القدر المسلم من ذلك هذا الشعور الفكري (وقد مر ان الشعور النبوي ليس من قبيل الشعور الفكري) وذلك ان من الشعور شعور الانسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغير والخطأ فإنه علم حضوري معلومه عين المعلوم الخارجي، وتتمة هذا الكلام موكول إلى محله. فقد تبين مما مر امور: احدهما: انسياق الاجتماع الانساني إلى التمدن والاختلاف. ثانيها: ان هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكري من القوانين المقررة. ثالثها: ان رافع هذا الاختلاف إنما هو الشعور النبوي الذي يوجده الله سبحانه في بعض آحاد الانسان لا غير. رابعها: ان سنخ هذا الشعور الباطني الموجود في الانبياء غير سنخ الشعور الفكري المشترك بين العقلاء من افراد الانسان. خامسها: ان هذا الشعور الباطني لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الانساني في سعادته الحقيقية. سادسها: ان هذه النتائج (ويهمنا من بينها الثلثة الاخيرة أعني: لزوم بعثة الانبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكري سنخا، وكون النبي معصوما غير غالط في تلقي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العام المشاهد في هذه العالم الطبيعي، وهو سير كل واحد من الانواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجودية التي جهزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبس بها، والانسان أحد هذه الانواع، وهو مجهز بما يمكنه به ان يعتقد الاعتقاد الحق ويتلبس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملا صالحا في مدينة صالحة فاضلة، فلا بد ان يكون الوجود يهيئ له هذه السعادة يوما في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينية ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مر بيانه.

[ 158 ]

* * * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله. ألا إن نصر الله قريب - 214.

(بيان)

 قد مر ان هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض. قوله تعالى: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، وهو ان الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب ان يسلموا له ولا يتبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائا، ولا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا ونقمة من اتباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإن المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب رب العالمين إلا بالثبات والتسليم. وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن اصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافه، وإنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا... وكلمة أم منقطعة تفيد الاضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم ان تدخلوا الجنة " الخ "، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحق ان ام لافاده الترديد، وأن الدلالة على معنى الاضراب من حيث انطباق معنى الاضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الايمان والثبات على نعمة الدين، والاتفاق والاتحاد فيه ام لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة " الخ ". قوله تعالى: ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون

[ 159 ]

الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثل الشئ ويحضره ويشخصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا " الجمعة - 5، ومنه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: " أنظر كيف ضربوا لك الامثال " الفرقان - 9، وإنما قالوا له صلى الله عليه وآله وسلم: مجنون وساحر وكذاب ونحو ذلك، وحيث انه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: مستهم البأساء والضراء إلخ فالمراد به المعنى الاول. قوله تعالى: مستهم البأساء والضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الاجمال الذي دل عليه بقوله: ولما ياتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله: مستهم البأساء والضراء والبأساء هو الشدة المتوجهة إلى الانسان في خارج نفسه كالمال والجاه والاهل والامن الذي يحتاج إليه في حيوته، والضراء هي الشدة التي تصيب الانسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف واصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الارض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصر وصرصر، وصل وصلصل، وكب وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادهاش. قوله تعالى: حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة. قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول والذين آمنوا معه جميعا، ولا ضير في ان يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائا وطلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون " الصافات - 172، وقال تعالى: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " المجادلد - 21، وقد قال تعالى أيضا: " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جائهم نصرنا " يوسف - 110، وهو أشد لحنا من هذه الآية.

[ 160 ]

والظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول والذين آمنوا معه... والآية (كما مرت إليه الاشارة سابقا) تدل على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الامة كما جرى في الامم السابقة. وتدل أيضا على اتحاد الوصف والمثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، وهو الذي يسمى بتكرر التاريخ وعوده. يسألونك ماذا ينفقون. قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم - 215.

(بيان)

 قوله تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الانفاق وهو المال على أقسامه، وكان الاحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال. والذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، وهو أن الآية مع ذلك متعرضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، وثانيا بقولها: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على ان الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، وان ذلك فعل خير والله به عليم، لكنهم كان عليهم ان يسألوا عمن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والاقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل. ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: ان المراد بما في قوله تعالى: ماذا

[ 161 ]

ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي ان ينزل عليه الكلام العربي ولا سيما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، وانهم كيف ينفقونه، وفي أي موضع يضعونه، فاجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة. ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: ان السؤال وإن كان بلفظ ما إلا ان المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم ان الذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، وتعين ان السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا " البقرة - 70، فكان من المعلوم ان البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين ان يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول الآية " البقرة - 71. وقد اشتبه الامر على هؤلاء، فإن ما وان لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، وهي الحد المؤلف من الجنس والفصل القريبين، لكنه لا يستلزم ان تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيدة، حتى يصح لقائل ان يقول عند السؤال عن المستحقين للانفاق: ماذا أنفق: أي على من أنفق ؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والاقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن. بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشئ سواء كان معرفا بالحد والماهية، أو معرفا بالخواص والاوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفية الشئ، ومنه يعلم ان قوله تعالى: " يبين لنا ما هي " وقوله تعالى: " إنها بقرة لا ذلول " سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عما يعرف الشئ ويخصه والجواب بذلك. وأما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطأ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الامرين جميعا: ما

[ 162 ]

ينفقون ؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه ! وهو كما ترى. وكيف كان لا ينبغي الشك في ان في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على ان الاحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلا فكون الانفاق من الخير والمال ظاهر، والتحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من الطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعائا وندائا " البقرة - 171 وقوله تعالى: " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر " آل عمران - 117 وقوله تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل " البقرة - 261، وقوله تعالى: " يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " الشعراء - 89، وقوله تعالى: " قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا " الفرقان - 57، وقوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات. قوله تعالى: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الانفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الانفاق وان كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره، غير انه ينبغي ان يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " آل عمران - 92، وكما قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا ان تغمضوا فيه " البقرة - 267. وايماء إلى ان الانفاق ينبغى ان لا يكون على نحو الشر كالانفاق بالمن والاذى كما قال تعالى: " ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى " البقرة - 262، وقوله تعالى: " ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو " البقرة - 219.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور عن ابن عباس قال ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك

[ 163 ]

عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسئلونك عن اليتامى، ويسئلونك عن المحيض، ويسئلونك عن الانفال، ويسئلونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم. في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله ! بماذا أتصدق ؟ وعلى من أتصدق ؟ فأنزل الله هذه الآية. اقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه. ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اين يضعون أموالهم ؟ فنزلت يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، والزكوة سوى ذلك كله. ونظيرها في ذلك ايضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على اهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة: " خذ من أموالهم صدقة " التوبة - 104، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلا ان يعني بالنسخ معنى آخر. كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 216. يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن

[ 164 ]

استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 217. إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم - 218.

(بيان)

 قوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج " النور - 61، وغير ذلك من الآيات والادلة. ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: " وهو كره لكم " وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين. والكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الانسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه، قال تعالى: " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " النساء - 19، وقال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها " فصلت - 11، وكون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لان القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس وتعب الابدان والمضار المالية وارتفاع الامن والرخص والرفاهية، وغير ذلك مما يستكرهه الانسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها وشاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر ان فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، ومعلوم ان من الجائز

[ 165 ]

أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره واكثرهم كارهون، فهذا وجه. وإما لان المؤمنين كانوا يرون ان القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة والقوة لا يتم على صلاح الاسلام والمسلمين، وان الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الاموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الاقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإن لله أمرا في هذا الامر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الامر وهم لا يعلمون إلا ظاهره وهذا وجه آخر. وإما لان المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الايمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفار من الهلاك الابدي والبوار الدائم، فبين ذلك انهم مخطئون في ذلك، فإن الله - وهو المشرع لحكم القتال - يعلم ان الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، وانه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الانسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الاعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضا وجه. فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: (وهو كره لكم) إلا ان الاول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على ان التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك. قوله تعالى: وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، قد مر فيما مر ان أمثال عسى ولعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى ان يكون كذا لا لانه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو

[ 166 ]

السامع. وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الامرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من اخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، وأما من اخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الا عتزال، فالذي تقتضيه البلاغة ان يشار إلى خطأه في الامرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبك اهتديت، عسى ان تكره شيئا وهو خير لك وعسى ان تحب شيئا وهو شر لك لانك جاهل لا تقدر ان تهتدي بنفسك إلى حقيقة الامر، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به ايضا قوله تعالى سابقا: أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما: عسى ان تكرهوا، وعسى ان تحبوا. قوله تعالى: " والله يعلم وانتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطأهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطأهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى ان تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، وزوال صفة الجهل المركب عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الامور، والذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه وكشف عن حقيقته، فعليكم ان تسلموا إليه سبحانه الامر. والآية في إثباته العلم له تعالى على الاطلاق ونفى العلم عن غيره على الاطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: " إن الله لا يخفى عليه شئ " آل عمران - 5، وقوله تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة - 255، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: " وقاتلوا في سبيل الله " البقرة - 190. قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمة بأنه صد عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على ان إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وان الفتنة أكبر من القتل، يؤذن

[ 167 ]

بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وان هناك قتلا، وانه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش وأصحابه. قوله تعالى: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، الصد هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصة الحج، والظاهر ان ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله اي صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. والآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " التوبة - 6، وليس بصواب، وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال. قوله تعالى: وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل، أي والذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين، وهم أهل المسجد الحرام، منه اكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين ان يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما اصابوه منهم إلا راجين رحمة الله والله غفور رحيم. قوله تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم. قوله تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه " الخ " تهديد للمرتد بحبط العمل وخلود النار.

 (كلام في الحبط)

 والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر - 65،

[ 168 ]

وقوله تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط اعمالهم، يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا اعمالكم " محمد - 33، وذيل الآية يدل بالمقابلة على ان الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " هود - 16، ويقرب منه قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا منثورا " الفرقان - 23. وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إن اصله من الحبط بالتحريك وهو ان يكثر الحيوان من الاكل فينتفخ بطنه وربما ادى إلى هلاكه. والذي ذكره تعالى من اثر الحبط بطلان الاعمال في الدنيا والآخرة معا، فللحبط تعلق بالاعمال من حيث اثرها في الحياة الآخرة، فإن الايمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل - 97، وخسران سعى الكافر، وخاصة من ارتد إلى الكفر بعد الايمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، وهو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، ويتسلى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام - 122، تبين الآية ان للمؤمن في الدنيا حياة ونورا في افعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى، " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى " طه - 124، حيث يبين ان معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيده رحبة وسيعة. وقد جمع الجميع ودل على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لامولى لهم " محمد - 11. فظهر مما قربناه ان المراد بالاعمال مطلق الافعال التي يريد الانسان بها سعادة الحيوة، لا خصوص الاعمال العبادية، والافعال القربية التي كان المرتد عملها واتى بها حال الايمان، مضافا إلى ان الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، ولا فعل قربي

[ 169 ]

لهم كالكفار والمنافقين كقوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم واضل اعمالهم ذلك بانهم كرهوا ما انزل الله فاحبط اعمالهم " محمد - 9، وقوله تعالى: " ان الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم اولئك الذين حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " آل عمران - 22، إلى غير ذلك من الآيات. فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو ان الكفر والارتداد يوجب بطلان العمل عن ان يؤثر في سعادة الحياة، كما ان الايمان يوجب حياة في الاعمال تؤثر بها اثرها في السعادة، فإن آمن الانسان بعد الكفر حييت اعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتد بعد الايمان ماتت اعماله جميعا وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية ولا أخروية، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردة وان مات على الردة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء. ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء اعمال المرتد إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه. توضيح ذلك: انه ذهب بعضهم إلى ان أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الايمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدل عليه بقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية " وربما أيده قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبائا منثورا " الفرقان - 23، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، ويتفرع عليه انه لو رجع إلى الايمان تملك اعماله الصالحة السابقة على الارتداد. وذهب آخرون إلى ان الردة تحبط الاعمال من اصلها فلا تعود إليه وان آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الاعمال بعد الايمان ثانيا إلى حين الموت، واما الآية فإنما اخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع اعماله وافعاله التي عملها في الدنيا ! وانت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، ان لا وجه لهذا النزاع اصلا، وان الآية بصدد بيان بطلان جميع اعماله وافعاله من حيث التأثير في سعادته !

[ 170 ]

وهنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة وهي مسألة الاحباط والتكفير، وهي ان الاعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيئة حكمها، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن. ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الاعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه ان لا يكون عند الانسان من عمله إلا حسنة فقط أو سيئة فقط، ومن قائل بالموارنة وهو ان ينقص من الاكثر بمقدار الاقل ويبقى الباقي سليما عن المنافي، ولازم القولين جميعا ان لا يكون عند الانسان من اعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شئ منهما. ويردهما اولا قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم والله غفور رحيم " التوبة - 102، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الاعمال وبقائها على حالها إلى ان تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه. وثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الاعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الانساني من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الاحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الايراد. وذهب آخرون إلى أن نوع الاعمال محفوظة، ولكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيئة. نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: " يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم " الانفال - 29، وقال تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية " البقرة - 203، وقال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، بل بعض الاعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان - 70. وهنا مسألة أخرى هي كالاصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق

[ 171 ]

الجزاء وموطنه، فقيل: إنه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقر عليه، فيكتب ما يستحقه حال العمل. وقد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الاوقات بحسب الانطباق، وربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة. والذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الاعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها الآية " - 26، كان لازم ذلك كون النفس الانسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول والتغير بحسب ما يطرئها من الحسنات والسيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحول واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتا لا يقبل التحول والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا. وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الانسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الالهية وترتب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الاطاعة والمعصية في التكاليف الاجتماعية وترتب المدح والذم عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذم العاصي والمسئ بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح والذم قابلا للتغير والتحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير والزوال عما هو عليه من الانقياد والتمرد، فلحوق المدح والذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، وأما ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

[ 172 ]

ومن هنا يعلم: أن في جميع الاقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه. وأن الحق أولا: أن الانسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول والتغير بعد، وإنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه. وثانيا: أن حبط الاعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الاجر يتحقق عند صدور المعصية ويتحتم عند الموت. وثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالاعمال الاخروية كذلك يتعلق بالاعمال الدنيوية. ورابعا: أن التحابط بين الاعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

(كلام في احكام الاعمال من حيث الجزاء)

 من أحكام الاعمال: أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى: " ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية " وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى: " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة " آل عمران - 22، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالاسلام والتوبة، قال تعالى: " قل يا عبادي الذين أسرفو على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم " الزمر - 55، وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى " طه - 124. وأيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا

[ 173 ]

تبطلوا اعمالكم " سورة محمد - 33، فان المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الامر بالاطاعة في معنى النهي عن المشاقة، وإبطال العمل هو الاحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون " الحجرات - 2. وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: " وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " هود - 114، وكالحج، قال تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " البقرة - 203، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى: " ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " النساء - 31، وقال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة " النجم - 32. وأيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: " انى أريد ان تبوء بإثمى واثمك " المائدة - 29، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي وأئمة أهل البيت، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ. وأيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الانسان لاعينها، قال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " النحل - 25، وقال: " وليحملن أثقالا وأثقالا وأثقالهم " العنكبوت - 13، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الانسان لاعينها، قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس - 12. وأيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: " إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات " الاسراء - 75، وقال تعالى: " يضاعف لها العذاب ضعفين " الاحزاب - 30، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالانفاق في سبيل الله، قال تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة " البقرة - 261، ومثله ما في قوله تعالى: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " القصص - 54، وما في قوله تعالى: " يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم

[ 174 ]

نورا تمشون به ويغفر لكم " الحديد - 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: " من جاء بالحسة فله عشر أمثالها " الانعام - 160. وأيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " الفرقان - 70. وأيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: " الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور - 21، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الايتام من نسل الظالم، قال تعالى: " وليخش الذين لو تركوامن خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9. وأيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيئاته إليه، وهذا من عجيب الامر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال - 37. وفي موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إنشاء الله العزيز. وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر: أن في الاعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، وذلك أن فعل الاكل مثلا من حيث انه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، ولا يتعداه إلى غيره، ولا يتبدل بغيره، ولا ينقلب عن هويته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لاغير وكان زيد ضاربا لاغير، وكان عمرو مضروبا لاغير إلى غير ذلك من الامثلة، لكن هذه الافعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الاحكام كما قال تعالى:

[ 175 ]

" وما ظلمونا ولكن كانوا انفسهم يظلمون " البقرة - 57، وقال تعالى: " ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله " الفاطر - 43، وقال تعالى: " انظر كيف كذبوا على انفسهم " الانعام - 24، وقال تعالى: " ثم قيل لهم اين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين " المؤمن - 74. وبالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، وربما نقل الفعل واسنده إلى غير فاعله، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني. ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الاعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شئ منه على شئ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى (فيما حكاه في كتابه) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الامور على المجرمين في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول. قال تعالى: " ونفخ في الصور فصعق من في السموات والارض إلا ما شاء الله ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، وقد تكرر في القرآن الاخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية " إبراهيم - 22. ومن هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الاعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه. والذي يحل به هذه العقدة: ان الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، وتمسك بالاصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والانبياء رسلا إليهم، وواصلهم بالامر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والانذار،

[ 176 ]

والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك. وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الامر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير انه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف - 4. فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الاحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن لطيف الامر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الافهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الاول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، وفي المثال الثاني بإن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها افعال للتابعين فيها، فهي افعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون. وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للانسان، أو للانسان امثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة. فالقرآن الكريم يعلل هذه الاحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الانسان بفعل غيره خيرا أو شرا، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الافهام العامة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، وكانت الاحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على

[ 177 ]

الانسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق " الاعراف - 53، وقال تعالى: " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين (إلى أن قال) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " يونس - 39. وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الاحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال - 8، وقوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى " الانعام - 164، وقوله تعالى: " كل امرء بما كسب رهين " الطور - 21، وقوله تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " النجم - 39، وقوله تعالى: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس - 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وذلك ان الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، وكذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو وفعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، وكذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، وفاعل كمثله، فهؤلاء وأمثالهم من مصاديق قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر أخرى الآية " ونظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون " الزمر - 70، فقوله: وهو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه ويحاسبه من افعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند انفسهم من غير علم ولا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن اصحاب السعير " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير " الملك - 10، وفي الآخرة ايضا حيث قال

[ 178 ]

" ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا " الاسراء - 72، وقال تعالى: " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة " الهمزة - 7، وقال تعالى في تصديق هذا السلب: " قالت أخريهم لاوليهم ربنا هؤلاء اضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الاعراف - 38، فأثبت لكل من المتبوعين وتابعيهم الضعف من العذاب، اما المتبوعين فلضلالهم وإضلالهم، واما التابعين فلضلالهم وإقامتهم امر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر انهم جميعا لا يعلمون. فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا والآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فصلت - 3، وكالآيات التي تحتج عليهم ولا معنى للاحتجاج على من لا علم له ولا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة ولا مناص من إثبات العقل والادراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم واليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقوله تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " السجدة - 12. قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، ومعنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث وعدم انفكاك الاعمال عنهم كما قال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقوله تعالى: " قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف - 38، إلى غير ذلك من الآيات، وسيجئ إستيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: " يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون " البقرة - 242. وقد أجاب الامام الغزالي عن إشكال انتقال الاعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: إن نقل الحسنات والسيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، ولم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله

[ 179 ]

الواحد القهار "، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة وهو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، وما لا يعلمه الانسان فليس بموجود له وإن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الان في حقه. فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل والعرض كيف ينقل ؟. فنقول: المنقول ثواب الطاعة لا نفس الطاعة، ولكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، وأثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الانسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، ونقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، وإن كان جوهرا فما هذا الجوهر ؟ ! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير وللمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة والظلمة، وبأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور والمعرفة والمشاهدة، وبالظلم والقسوة يستعد القلب للحجاب والبعد، وبين آثار الطاعات والمعاصي تعاقب وتضاد كما قال تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اتبع السيئة الحسنة تمحقها " والآثام تمحيصات للذنوب، ولذلك قال عليه السلام: إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، وقال عليه السلام: الحدود كفارات. فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها، والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم وهذا معنى نقل الحسنات والسيئات. فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم وحدوث نور آخر في قلب المظلوم، وبطلان الظلمة من قلب المظلوم وحدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم وليس هذا نقلا حقيقة. قلنا إسم النقل قد يطلق على مثل هذا الامر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر، وانتقل نور الشمس أو السراج من الارض إلى الحائط

[ 180 ]

إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كنى بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، وسمى إثبات الوصف في محل وابطال مثله في محل آخر بالنقل، وكل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا. أقول: محصل ما أفاده أن اطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق اي القاتل والمقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لاثر الطاعة في القلب واستعارة اسم النقل لامحاء شئ واثبات شئ آخر في محل آخر، وإذا إطرد هذا الوجه في سائر احكام الاعمال المذكورة عادت جميع هذه الاحكام مجازات، وقد عرفت انه سبحانه قرر هذه الاحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، ويبني عليه احكامه من المصالح والمفاسد، ولاريب ان هذه الاحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل وما يشبه ذلك باعتقاد ان الجرم عين الجرم والحسنة عين الحسنة وهكذا. هذا حال هذه الاحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن احكام العقل العملي، واما بالنسبة إلى غير هذا الظرف وهو ظرف الحقائق فالجميع مجازات الا بحسب التحليل بمعنى ان نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى والتشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك. ومن احكام الاعمال: انها محفوظة مكتوبة متجسمة كما قال تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه امدا بعيدا " آل عمران - 30، وقال تعالى: " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا " الاسراء - 13، وقال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ احصيناه في إمام مبين " يس - 12، وقال تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد " ق - 22، وقد مر البحث عن تجسم الاعمال. ومن احكام الاعمال: ان بينها وبين الحوادث الخارجية ارتباطا، ونعني بالاعمال

[ 181 ]

الحسنات والسيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية دون الحركات والسكنات التي هي آثار الاجسام الطبيعية فقد قال تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " الشورى - 30، وقال تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوئا فلا مرد له " الرعد - 11، وقال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الانفال - 53، والآيات ظاهرة في ان بين الاعمال والحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا. ويجمع جملة الامر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف - 96، وقوله تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم - 41. فالحوادث الكونية تتبع الاعمال بعض التبعية، فجرى النوع الانساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغي والضلالة وفساد النيات وشناعة الاعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الامم بفشو الظلم وارتفاع الامن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الانسان واعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل. فالامة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق " المؤمن - 21، وقال تعالى: " وإذا اردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء - 16، وقال تعالى: " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون - 44، هذا كله في الامة الطالحة،

[ 182 ]

والامة الصالحة على خلاف ذلك. والفرد كالامة يؤخذ بالحسنة والسيئة والنقم والمثلات غير ان الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما انه يؤخذ بمظالم غيره كابائه واجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: " قال انا يوسف وهذا اخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع اجر المحسنين " يوسف - 90، والمراد به ما أنعم الله عليه من الملك والعزة وغيرهما، وقال تعالى: " فخسفنا به وبداره الارض " القصص - 81، وقال تعالى: " وجعلنا له لسان صدق عليا " مريم - 50، وكأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: " جعلنا كلمة باقية في عقبه " الزخرف - 28، وقال تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فأراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما " الكهف - 82، وقال تعالى: " فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء - 9، والمراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه. وبالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من افراد الانسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة انعمها عليه وامتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول: " قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام اكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " النمل - 40، وقال تعالى: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " ابراهيم - 7، والآية كسابقتها تدل على ان نفس الشكر من الاعمال الصالحة التي تستتبع النعم. وان كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه واستدراجا وإملائا يملى عليه كما قال تعالى: " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " الانفال - 30، وقال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون واملي لهم ان كيدي متين " القلم - 45، وقال تعالى: " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون " الدخان - 17. وإذا انزلت النوازل وكرت المصائب والبلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة ومحنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، وكان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة والمحك، قال تعالى: " احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ام حسب الذين يعملون السيئات ان يسبقونا ساء ما يحكمون " العنكبوت - 4

[ 183 ]

وقال تعالى: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء " آل عمران - 140. وإن كان المصاب طالحا كان ذلك اخذا بالنقمة وعقابا بالاعمال، والآيات السابقة دالة على ذلك. فهذا حكم العمل يظهر في الكون ويعود إلى عامله، وأما قوله تعالى: " ولو لا ان يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وان كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " الزخرف - 35، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به (والله اعلم) ذم الدنيا ومتاعها وانها لا قدر لها ولمتاعها عند الله سبحانه، ولذلك يؤثر للكافر، وان القدر للآخرة ولو لا ان افراد الانسان امثال والمساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر. فان قيل: الحوادث العامة والخاصة كالسيول والزلازل والامراض المسرية والحروب والاجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، وعليه فلا محل للتعليل بالاعمال الحسنة والسيئة بل هو فرضية دينية، وتقدير لا يطابق الواقع. قلت: هذا اشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى وسنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: " ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء " الاعراف - 64. وجملة القول فيه: ان الشبهة ناشئة عن سوء الفهم وعدم التنبه لمقاصد القرآن واهله، فهم لا يريدون بقولهم: " ان الاعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا، ابطال العلل الطبيعية وانكار تأثيرها، ولا تشريك الاعمال مع العوامل المادية، كما ان الالهيين لا يريدون بإثبات الصانع ابطال قانون العلية والمعلولية العام واثبات الاتفاق والمجازفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية واستناد بعض الامور إليه والبعض الآخر إليها، بل مرادهم اثبات علة في طول علة، وعامل معنوي فوق العوامل المادية، واسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن

[ 184 ]

بالترتيب: اولا وثانيا، نظير الكتابة المنسوبة إلى الانسان وإلى يده. ومغزى الكلام: هو ان سائق التكوين يسوق الانسان إلى سعادته الوجودية وكماله الحيوي كما مر الكلام فيه في البحث عن النبوة العامة، ومن المعلوم ان من جملة منازل هذا النوع في مسيره إلى السعادة منزل الاعمال، فإذا عرض لهذا السير عائق مانع يوجب توقفه أو اشراف سائره إلى الهلاك والبوار قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور أو يهلك الجزء الفاسد، نظير المزاج البدني يعارض العاهة العارضة للبدن أو لعضو من اعضائه فإن وفق له اصلح المحل وان عجز عنه تركه مفلجا لا يستفاد به. وقد دلت المشاهدة والتجربة على ان الصنع والتكوين جهز كل موجود نوعي بما يدفع به الآفات والفسادات المتوجه إليه، ولا معنى لاستثناء الانسان في نوعه وفرده عن هذه الكلية ! ودلتا ايضا على ان التكوين يعارض كل موجود نوعي بامور غير ملائمة تدعوه إلى اعمال قواه الوجودية ليكمل بذلك في وجوده ويوصله غايته وسعادته التي هيأها له، فما بال الانسان لا يعتنى في شأنه بذلك ؟ وهذا هو الذي يدل عليه قوله تعالى " وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن اكثرهم لا يعلمون " الدخان - 39، وقوله تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " ص - 27، فكما ان صانعا من الصناع إذا صنع شيئا لعبا ومن غير غاية مثلا انقطعت الرابطة بينه وبين مصنوعه بمجرد ايجاده، ولم يبال: إلى ما يؤل امره ؟ وماذا يصادفه من الفساد والآفة ؟ لكنه لو صنعه لغاية كان مراقبا لامره شاهدا على راسه، إذا عرضه عارض يعوقه عن الغاية التي صنعه لاجلها وركب اجزائه للوصول إليها اصلح حاله وتعرض لشأنه بزيادة ونقيصة أو بإبطاله من راس وتحليل تركيبه والعود إلى صنعة جديدة، كذلك الحال في خلق السموات والارض وما بينهما ومن جملتها الانسان، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثا، ولم يوجده هبائا، بل للرجوع إليه كما قال تعالى: " افحسبتم انما خلقناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون " المؤمنون - 115، وقال تعالى: " وان إلى ربك المنتهى " النجم - 42، ومن الضروري حينئذ ان تتعلق العناية الربانية إلى

[ 185 ]

ايصال الانسان كسائر ما خلق من خلق إلى غايته بالدعوة والارشاد، ثم بالامتحان والابتلاء، ثم بإهلاك من بطل في حقه غاية الخلقة وسقطت عنه الهداية، فإن في ذلك اتقانا للصنع في الفرد والنوع وختما للامر في امة وإراحة الآخرين، قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة ان يشاء يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما انشأكم من ذرية قوم آخرين " الانعام - 133، (انظر إلى موضع قوله تعالى: وربك الغني ذو الرحمة). وهذه السنة الربانية اعني سنة الابتلاء والانتقام هي التي اخبر الله عنها انها سنة غير مغلوبة ولا مقهورة، بل غالبة منصورة كما قال تعالى: " وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير وما انتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير " الشورى - 31، وقال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173. ومن احكام الاعمال من حيث السعادة والشقاء: ان قبيل السعادة فائقة على قبيل الشقاء، ومن خواص قبيل السعادة كل صفة وخاصة جميلة كالفتح والظفر والثبات والاستقرار والامن والتأصل والبقاء، كما ان مقابلاتها من الزهاق والبطلان والتزلزل والخوف والزوال والمغلوبية وما يشاكلها من خواص قبيل الشقاء. والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة متكثرة، ويكفي في ذلك ما ضربه الله تعالى مثلا: " كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " إبراهيم - 27، وقوله تعالى: " ليحق الحق ويبطل الباطل " الانفال - 8، وقوله تعالى: " والعاقبة للتقوى " طه - 132، وقوله تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون " الصافات - 173، وقوله تعالى: " والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون " يوسف - 21، إلى غير ذلك من الآيات. وتذييل الكلام في هذه الآية الاخيرة بقوله: ولكن اكثر الناس لا يعلمون، مشعر

[ 186 ]

بأن هذه الغلبة من الله سبحانه ليست بحيث يفقهها جميع الناس بل اكثرهم جاهلون بها، ولو كانت هي الغلبة الحسية التي يعرفها كل احد لم يجهلها الاكثرون، وانما جهلها من جهلها، وانكرها من انكرها من جهتين: الاولى: ان الانسان محدود فكره، مقصور نظره على ما بين يديه مما يشهده ولا يغيب عنه، يتكلم عن الحال ويغفل عن المستقبل، ويحسب دولة يوم دولة، ويعد غلبة ساعة غلبة، ويأخذ عمره القصير ومتاعه القليل مقياسا يحكم به على عامة الوجود، لكن الله سبحانه، وهو المحيط بالزمان والمكان، والحاكم على الدنيا والآخرة والقيوم على كل شئ إذا حكم حكم فصلا، وإذا قضى قضى حقا، والاولى، والعقبى بالنسبة إليه واحدة، لا يخاف فوتا، ولا يعجل في أمر، فمن الممكن (بل الواقع ذلك) ان يقدر فساد يوم مقدمة يتوسل بها إلى إصلاح دهر، أو حرمان فرد ذريعة إلى فلاح أمه، فيظن الجاهل ان الامر أعجزه تعالى وان الله سبحانه مسبوق مغلوب (ساء ما يحكمون)، لكن الله سبحانه يرى سلسلة الزمان كما يرى القطعة منه، ويحكم على جميع خلقه كما يحكم على الواحد منهم لا يشغله شأن عن شأن ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران - 196. والثانية: ان غلبة المعنويات غير غلبة الجسمانيات، فإن غلبة الجسمانيات وقهرها ان تتسلط على الافعال فتجعلها منقادة مطيعة للقاهر الغالب عليها بسلب حرية الاختيار، وبسط الكره والاجبار كما كان ذلك دأب المتغلبين من ملوك الاستبداد، فكانوا يقتلون فريقا، ويأسرون آخرين، ويفعلون ما يشائون بالتحكم والتهكم، وقد دل التجارب وحكم البرهان على ان الكره والقسر لا يدوم، وان سلطة الاجانب لا يستقر على الامم الحية استقرارا مؤبدا، وإنما هي رهينة أيام قلائل. وأما غلبة المعنويات فبأن توجد لها قلوب تستكنها، وبأن تربى أفرادا تعتقدها وتؤمن بها، فليس فوق الايمان التام درجة ولا كإحكامه حصن، فإذا استقر الايمان بمعنى من المعاني فإنه سوف يظهر دهرا وإن استخفى يوما أو برهة، ولذلك نجد ان الدول المعظمة والمجامع الحية اليوم تعتني بشأن التبليغ اكثر مما تعتني بشأن العدة والقوة

[ 187 ]

فسلاح المعنى أشد بأسا. هذا في المعنويات الصورية الوهمية التي بين الناس في شؤونهم الاجتماعية التي لا تتجاوز حد الخيال والوهم، وأما المعنى الحق الذي يدعو إليه سبحانه فإن أمره أوضح وأبين. فالحق من حيث نفسه لا يقابل إلا الضلال والباطل، وما ذا بعد الحق إلا الضلال، ومن المعلوم ان الباطل لا يقاوم الحق فالغلبة لحجة الحق على الباطل. والحق من حيث تأثيره وإيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف ولا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، وإن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره والاضطرار، ووافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: " إلا ان تتقوا منهم تقية " آل عمران - 28، وان قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " البقرة - 154. فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، اما ظاهرا وباطنا، واما باطنا فقط، قال تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " التوبة - 52. ومن هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا وباطنا معا، أما ظاهرا: فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الانساني هداية تكوينية إلى الحق والسعادة، وسوف يبلغ غايته، فإن الظهور المترائى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، وانما هو مقدمة لظهور الحق ولما ينقض سلسلة الزمان ولما يفن الدهر، والنظام الكوني غير مغلوب البتة، وأما باطنا: فلما عرفت ان الغلبة لحجة الحق. واما ان لحق القول الفعل كل صفة جميلة كالثبات والبقاء والحسن، ولباطل القول والفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل والزوال والقبح والسوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الابحاث: ان المستفاد من قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ " المؤمن - 62، وقوله تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة -، وقوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء - 79، ان السيئات اعدام وبطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض

[ 188 ]

للوجود بخلاف الحسنات، ولذلك كان القول الحسن والفعل الحسن منشأ كل جمال وحسن، ومنبع كل خير وسعادة كالثبات والبقاء، والبركة والنفع دون السيئ من القول والفعل، قال تعالى: " أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليه أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفائا واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض " الرعد: 17. ومن احكام الاعمال: ان الحسنات من الاقوال والافعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الافعال والاقوال، وقد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل (ونعني بالعقل ما يدرك به الانسان الحق والباطل، ويميز به الحسن من السيئ). ولذلك أوصى باتباعه ونهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر والقمار واللهو والغش والغرر في المعاملات، وكذا نهى عن الكذب والافتراء والبهتان والخيانة والفتك وجميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الافعال والاعمال توجب خبط العقل الانساني في عمله وقد ابتنيت الحياة الانسانية على سلامة الادراك والفكر في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية. وأنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية والفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت ان الاساس فيها هي الاعمال التي يبطل بها حكومة العقل، وان بقية المفاسد وان كثرت وعظمت مبنية عليها، ولتوضيح الامر في هذا المقام محل آخر سيأتي إنشاء الله تعالى.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر وإن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين وقد قرات القرآن ؟ قال وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

[ 189 ]

اقول: وفي الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع والتكوين وإنما يختلف باختلاف الاعتبار، واما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، وقد مر ان عسى في القرآن بمعناه اللغوي وهو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شئ في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب ! واعجب منه ما نقل عن بعض آخر: ان كل شئ من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن طلقكن، وفي بني إسرائيل عسى ربكم ان يرحمكم. وفي الدر المنثورايضا: اخرج ابن جرير من طريق السدي: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية وفيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الاسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وابو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن صفوان السلمي حليف لبنى نوفل، وسهل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة. وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب مع ابن جحش كتابا وأمره ان لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه ان سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لاصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، وسار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان، وعمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة وانفلت المغيرة، وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها اصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجعوا إلى المدينة بالاسيرين وما غنموا من الاموال، قال المشركون: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: " يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير لا يحل "، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين اكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمدا، والفتنة وهي الشرك اعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: وصد عن سبيل الله وكفر به. اقول: والروايات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة من طرقهم، وروي هذا المعنى ايضا في المجمع، وفي بعض الروايات: ان السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، وفي الدر المنثور أيضا: أخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش إلى

[ 190 ]

نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من اخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام، وكتب له كتابا قبل ان يعلمه انه يسير، فقال اخرج انت واصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامض له، ولا تستكرهن أحدا من اصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: ان امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من اخبار قريش بما اتصل اليك منهم، فقال لاصحابه حين قرء الكتاب: سمع وطاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني ماض لامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني ان استكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه يطلبانه، ومضى القوم حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف، أدم وزيت، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، وائتمر القوم بهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخر يوم من جمادي، فقالوا: لئن قتلتموهم انكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة فأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الاسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما قال سقط في ايديهم وظنوا ان قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام وأخذ المال، وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العير وفدى الاسيرين، فقال المسلمون: - يا رسول الله ! أتطمع ان يكون لنا غزوة ؟ فانزل الله: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش. اقول: وفي كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هاجروا الآية، نازلة في أمر

[ 191 ]

أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، والآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، وتدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب. وفي الروايات إشارة إلى ان المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، ويؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وآله وسلم، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام الرواية، ويؤيد ذلك ان الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم. * * * يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما. ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون - 219. في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم إن الله عزيز حكيم - 220.

(بيان)

 قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، والاصل في معناه الستر، وسمي به لانه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمرت الاناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت الخميرة خميرة لانها تعجن أولا ثم تغطى وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من اقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في اقسامه

[ 192 ]

تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمر. والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والاصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان اكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضا: الازلام والاقلام. وأما كيفيتة فهي انهم كانوا يشترون جزورا وينحرونه، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزئا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزئا، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلي سبعة، وهو أكثر القداح نصيبا، وأما الثلاثة الاخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الاجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الاخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الانصباء والسهام. قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، وقرء إثم كثير بالثاء المثلثة، والاثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشئ أو في العقل يبطئ الانسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاخرى وهذان على هذه الصفة. أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والامعاء والكبد والرئة وسلسلة الاعصاب والشرائين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما الف فيه تأليفات من حذاق الاطباء قديما وحديثا، ولهم في ذلك احصائات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الامراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك. وأما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق وتأديته الانسان إلى الفحش، والاضرار والجنايات، والقتل وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الانسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في

[ 193 ]

الاعراض والنفوس والاموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملات الدنيا ونغصت عيشة الانسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم. وأما مضرته في الادراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الانسان وتغييره مجرى الادراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الاثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاخر. والشريعة الاسلامية كما مرت إليه الاشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهى كالخمر، والميسر، والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن اشد الافعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الافعال وقول الكذب والزور من بين الاقوال. فهذه الاعمال أعني: الاعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الانسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة الا وهي امر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء الا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة انشاء الله. ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الاعمال الشهوانية اسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجرى على نواميس السعادة الانسانية، ولذلك ان الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الاحكام على سبيل التدريج، وكلفهم بالرفق والامهال. ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في إلآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: احديها: قوله تعالى: " قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق " الاعراف - 33، والآية مكية حرم فيها الاثم صريحا، وفي الخمر

[ 194 ]

اثم غير انه لم يبين ان الاثم ما هو وان في الخمر اثما كبيرا. ولعل ذلك انما كان نوعا من الارفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الاغماض كما يشعر به ايضا قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " النحل 67، والآية أيضا مكية، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى " النساء - 43، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في افضل الحالات وفي افضل الاماكن وهي الصلاة في المسجد. والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى ان تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاص بعد ورود النهى المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الاسهل إلى الاشق لا بالعكس. ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: " ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الاثم في الخمر " فيهما إثم كبير " وتقدم نزول آية الاعراف المكية الصريحة في تحريم الاثم. ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: " قل فيهما إثم كبير " لا يدل على أزيد من ان فيه إثما والاثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة اخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا انهم يتيسر لهم ان ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: " إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون ". وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الاثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الاثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الاثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما

[ 195 ]

عظيما " النساء - 47، وقوله تعالى: " فإنه آثم قلبه " البقرة - 283، وقوله تعالى: " ان تبوء بإثمي وإثمك " المائدة - 29، وقوله تعالى: " لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم " النور - 11، وقوله تعالى: " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات. وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول " وإثمهما أكبر من نفعهما " وارجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص. واما ثالثا: فهب ان الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الاثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الاعراف المحرمة للاثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية. على ان آية الاعراف تدل على تحريم مطلق الاثم وهذه الآية قيدت الاثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في ان الخمر فرد تام ومصداق كامل للاثم لا ينبغي الشك في كونه من الاثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالاثم ولم يصف الاثم في شئ من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: " ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما " النساء - 48، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم. ثم نزلت آيتا المائدة: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون " المائدة - 91، وذيل الكلام يدل على ان المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر. واما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة امر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة انشاء الله. ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما اثم

[ 196 ]

كبير ومنافع للناس، قد مر الكلام في معنى الاثم، واما الكبر فهو في الاحجام بمنزلة الكثرة في الاعداد، والكبر يقابل الصغر كما ان الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان اضافيان بمعنى ان الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر اكبر منه، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلة، ويشبه ان يكون اول ما تنبه الناس لمعنى الكبر انما تنبهوا له في الاحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى: " إنها لاحدى الكبر " المدثر - 35، وقال تعالى: " كبرت كلمة تخرج من أفواههم " الكهف - 5، وقال تعالى: " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " الشورى - 13، والعظم في معناه كالكبر، غير ان الظاهر ان العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد اجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الاصلية. والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الامور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما ان الخير والشر يطلقان على الامور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي، ولما قوبل ثانيا بين الاثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع والغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: واثمهما اكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما. قوله تعالى: ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الاثر والعفو بمعنى التوسط في الانفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم. والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين الآية. قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا والآخرة، الظرف أعني قوله

[ 197 ]

تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون وليس بظرف له، والمعنى لعلكم تتفكرون في امر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وان الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا. وفي الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الاخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الانسان وشقاوته. وثانيا: ان القرآن وان كان يدعو إلى الاطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد، غير انه لا يرضي ان يؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الامر، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى. وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الاحكام والقوانين، وايضاح اصول المعارف والعلوم. قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير، في الآية اشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل ولو شاء الله لاعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في امر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والامر على ذلك، فإن ههنا آيات شديدة اللحن في امر اليتامى كقوله تعالى " ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " النساء - 10 وقوله تعالى: " وآتوا اليتامى اموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، فالظاهر ان الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الاصلاح، دلالة على ان المرضي عند الله سبحانه نوع من الاصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحا في ظاهر الامر فقط،

[ 198 ]

فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لافاده التنويع فالمراد به الاصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلا -: والله يعلم المفسد من المصلح. قوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين اثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي، وبين الغني المثرى والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " الحجرات - 10. فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم ان يكون كالمخالطة بين الاخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالاية تحاذي قوله تعالى: " وآتوا اليتامى أموالهم ولاتتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " النساء - 2، وهذه المحاذاة من الشواهد على ان في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، وكما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: ان المخالطة ان كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الاخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لو كان بغرض الاصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الامر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح. قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت هو الكلفة والمشقة.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334819

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:42

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net