00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 1 ـ 99 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الثاني)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

الميزان في تفسير القرآن

السيد الطباطبائي ج 2

[ 2 ]

تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره

[ 3 ]

الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الثاني منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة

[ 4 ]

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون - 183. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون - 184. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون - 185.

(بيان)

سياق الايات الثلاث يدل أولا على انها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: أياما معدودات، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: الصيام في لآية الاولى، وقوله تعالى: شهر رمضان، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدا محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله أياما معدودات، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف، والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله:

[ 5 ]

كتب عليكم الصيام، في الآية الاولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان. وسياق الايات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الاوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب، ولذلك ترى الآيتين الاوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيب النفس، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والأجل. ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الامم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى: لعلكم تتقون، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، وهو قوله تعالى: أياما معدودات، فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدل إشهار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) يوسف - 30، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدلة من فدية لا تشقه ولا يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر

[ 6 ]

إلى قوله، فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من ان يأتي به عن كره وهو قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له الخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية الاولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية) البقرة - 178، وقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين) البقرة - 180، فإن بين القصاص في القتلي والوصية للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقا، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع ان ترى القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبا بما جنى من القتل، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين، وخاصة عند الموت والفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الانباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الاكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إنشاء للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع. قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الايمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت

[ 7 ]

أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص. قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) المجادلة - 21، وقوله تعالى: (ونكتب ما قدموا وآثارهم) يس - 12، وقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة - 45، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربما يقال: انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامه موسى وعيسى وغيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت، وليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته. والمراد بالذين من قبلكم، الامم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: كما كتب، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام. بل الصوم عبادة مأثوره عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي

[ 8 ]

إليه الانسان بفطرته كما سيجئ. وربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الانبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف. قوله تعالى: لعلكم تتقون، كان أهل الاوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نإئرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وإن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذي، وبالجملة هو سبحانه برئ من كل نقص، فما تعطيه العبادات من الاثر الجميل، أي عبادة كانت وأي أثر كان، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس، كما ان المعاصي أيضا كذلك، قال تعالى: (ان أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها) الإسراء - 7، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي الى الانسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة، قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني:) الفاطر - 15، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: لعلكم تتقون، وكون التقوي مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الاخلاد إلى الارض، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة ان يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع. قوله تعالى: أياما معدودات، منصوب على الظرفية بتقدير، في ومتعلق

[ 9 ]

بقوله الصيام، وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف، وقد مر ان قوله: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن (الخ) بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان. وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالايام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء، وقال بعضهم: والثلاث الايام هي الايام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها، ثم نزل قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الخ، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض. والذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: ان الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، ولو كان الامر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الإعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به ووضعوا له فضائل وبركات، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى، وكل ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفرحتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الاضحى فما باله عزيزا بلا سبب ؟. وثانيا: ان الآية الثالثة من الآيات اعني قوله: شهر رمضان الخ، تأبى بسياقها ان تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فان ظاهر السياق ان قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدء لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للايام المعدودات

[ 10 ]

ويكون جميع الآيات الثلث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان، وأما جعل قوله: شهر رمضان مبتدئا خبره قوله: الذى انزل فيه القرآن فانه وان اوجب استقلال الآيه وصلاحيتها لان تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لان تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها، مع ان النسخ مشروط بالتنافى والتباين. وأضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: ان الآية الثانية اعني قوله تعالى: اياما معدودات إلخ، ناسخة للآية الاولى اعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى عليه السلام حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الاولى فكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والناس يصومونها في صدر الاسلام حتى نزل قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره. وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الاشكال، وكون الآية الثانية من متممات الآية الاولى اظهر واجلي، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية. قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من إيام أخر، الفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله: كتب عليكم، وقوله: معدودات اه، أي إن الصيام مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الايام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنه لا يرفع اليد عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: ولتكملوا العدة، فقوله تعالى: أياما معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض والحكم. ثم إن المرض خلاف الصحة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر

[ 11 ]

ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها، وكأن قوله تعالى: أو على سفر، ولم يقل: مسافرا للاشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل. وقد قال قوم - وهم المعظم من علماء أهل ا لسنة والجماعة - إن المدلول عليه بقوله تعالى: فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والافطار، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: فعدة من ايام أخر هو عزيمة الافطار دون الرخصة، وهو المروي عن أئمة اهل البيت، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدة من أيام أخر. وقد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: ان التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام اخر. ويرد عليه أولا: أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه. وثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الافطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الاعم من الوجوب والاستحباب والاباحة، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه الزاميا فلا دليل عليه من الكلام ألبتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر. قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، الا طاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع العل بجهد ومشقة، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الانسان، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله: وعلى الذين، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير.

[ 12 ]

وقد ذكر بعضهم: ان الجملة تفيد الرخصة ثم نسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لان الناس كانوا يومئذ غير متعودين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، واما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله، من جواز الفديه. ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعله لآياته عضين، وأنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، وينقض آخره أوله فتاره يقول كتب عليكم الصيام واخرى يقول يجوز على القادرين منكم الافطار والفدية، واخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: يطيقون، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا ان يكون قوله: وعلى الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله: كتب عليكم الصيام، في أولها لمكان التنافي، ويبقى الكلا وجهه تقييده بالاطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله: وعلى الذين يطيقونه في وسطها، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر والعاجز جميعا، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاءه وهذا من أفحش الفساد. وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أياما معدودات الخ، ونسخ قوله: اياما معدودات الخ، لقوله كتب عليكم الصيام، وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا. قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، التطوع تفعل من الطوع مقابل

[ 13 ]

الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعل الاخذ والقبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، وإما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية ان الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب واما الواجب ففيه شوب كره لمكان الالزام الذي فيه. وبالجملة التطوع كما قيل: لا دلاله فيه مادة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الامم التي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لاكرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من ان يأتي به كرها. ومن هنا يظهر: ان قوله: فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: (قد نعلم أنك ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) اي فاصبر ولا تحزن فانهم لا يكذبونك. وربما يقال: ان الجملة اعني قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، مرتبطة بالجملة التي تتلوها اعني قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، والمعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له. ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فأنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع ان قوله: فمن تطوع خيرا، لا دلاله له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة. قوله تعالى: وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، جملة متممة لسابقتها

[ 14 ]

والمعنى بحسب التقدير - كما مر - تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير. وربما يقال: ان الجملة اعني قوله: وأن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الافطار والقضاء. ويرد عليه: عدم الدليل عليه أو لا، واختلاف الجملتين اعني قوله: فمن كان منكم الخ، وقوله: وأن تصوموا خير لكم، بالغيبة والخطاب ثانيا، وأن الجملة الاولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: فعدة من أيام أخر، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، وأن الجملة الاولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والافطار حتى يكون قوله: وأن تصوموا خير لكم بيانا لاحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: وأن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرة رابعا، وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله: (فتوبوا إلى بارئكم واقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم) البقرة - 54، وقوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) الجمعة - 9، وقوله تعالى (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) الصف - 11، والآيات في ذلك كثيرة خامسا: قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شئ من الشهور في القرآن الا شهر رمضان.

[ 15 ]

والنزول هو الورود على المحل من العلو، والفرق بين الانزال والتنزيل أن الانزال دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى (انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون): الزخرف، - 3، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى ابعاضه. والآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا،): الاسراء - 106، وهو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلث وعشرون سنة تقريبا، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الايتين. وربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم نجوما وعلى مكث في مدة ثلث وعشرين سنة - مجموع مدة الدعوة - وهذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات. وقد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين. وأجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقا أذا التبس حق بباطل لا ينافي بقائه مدة على حال الشأنية من غير فعليه التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل. والحق ان حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم ان تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) المجادلة - 1، وقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) الجمعة - 11، وقوله تعالى: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) الاحزاب - 23، على أن في القرآن ناسخا

[ 16 ]

ومنسوخا، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول. وربما أجيب عن إلاشكال: إن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، ويرد عليه: أن المشهور عندهم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان اكثر من ثلثين يوما وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة اقرإ باسم ربك، يشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: أنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: (والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 3، وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): القدر - 1، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك. والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن): البقرة - 185 وقوله تعالى: (حم. والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة): الدخان - 3، وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر): القدر - 1، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: (كماء انزلناه من السماء) يونس - 24، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: (كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته) ص - 29، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل.. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)

[ 17 ]

هود - 1، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالاحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل. وأوضح منه قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يإتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) الاعراف - 53، وقوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) يونس - 39 فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شئ والتفصيل الذي يعرضه شئ آخر، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب. وأوضح منه قوله تعالى: (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف - 4. فإنه ظاهر في إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه - وهو في أم الكتاب - عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) الواقعة - 80، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الاغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بام

[ 18 ]

الكتاب وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج - 22، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك. ثم إن هذا المعنى اعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - ونحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية. وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه) طه - 114، وقوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) القيامة - 19، فإن الآيات ظاهره في إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -. وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدى الافكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، وسيجئ بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) آل

[ 19 ]

عمران - 7. فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا، وفي لوح محفوظ، ونازلا من عند الله، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا. ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان: قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والانذار، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) الدخان - 2، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة - 185. وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال: أنزلناه في ليلة (على ان القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والانجيل والزبور باصطلاح القرآن) قال: وذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: إقرأ بإسم ربك إلخ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ، ولما تلقى الوحى خطر بباله أن يسإله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى:

[ 20 ]

(يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات) المدثر - 2. قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الاخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت. قال: وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الاخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الانسان فيه، انتهى ملخصا. ولست أدرى أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام اجزائه - تقبل الاصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه ؟ فقد اتسع الخرق على الراتق. ففيه أولا أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل وأنه صلى عليه وآله وسلم نزل عليه: إقرأ بأسم ربك، وهو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلوة، ثم دخل البيت ونام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ. وثانيا: أنه ذكر ان من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والامر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة، وليس من المسلم ذلك. أما السنة فلان لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شئ من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شئ من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرنين فصاعدا فهذا في السنة،

[ 21 ]

والتاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل - حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا. وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك - وهي أول سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بمرئى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلوة ويذكر امره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها: (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية) العلق - 18، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهي مصليا عن الصلوة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد كان هذا المصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك: (كلا لا تطعه) العلق - 19. فقد دلت السورة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى، وهذا ه والنبوة ولم يسم امره ذلك انذارا، فكان صلى الله عليه وآله وسلم نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ. وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ، أويقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله رب العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الاليق ببلاغة القرآن الشريف. نعم وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها،

[ 22 ]

وسيجئ بيانه - قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) الحجر - 87. والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزئا منه بدليل قولة تعالى: (كتابا متشابها مثاني الآية) الزمر - 23. ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: (فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الآيات) الحجر - 95، ويدل ذلك على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد كف عن إلانذار مدة ثم أمر به ثانيا بقولة تعالى: فاصدع. وأما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله: قم فأنذر المدثر - 2، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فانذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا إلى آخر الايات) المدثر - 11، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وأعرض عن المشركين الخ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة. وثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله اخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وان المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الارض خطأ وفرية. أما اولا: فلانه لا شئ من ظاهر الكتاب يخالف هذه الاخبار على ما عرفت. واما ثانيا: فلان الاخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت. واما ثالثا: فلان قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع - وإنه اضحوكة - وليت شعري: ما هو الوجه المصحح - على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا ؟ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول ؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات ! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا ؟ فالواقع خلافه ! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه ؟ كما يدل

[ 23 ]

عليه: قوله تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة - 79، فإدراك المدركين فيه على السواء !. وبعد اللتيا والتي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: أنزل فيه القرآن: كأنما أنزل فيه القرآن، ومعنى: إنا أنزلناه في ليلة: كأنا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق !. ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا. وفي كلامه جهات اخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام. قوله تعالى: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، الناس، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، وقال تعالى: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت - 43، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الامور المعنوية بالبينة والبرهان، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الالهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز، قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة - 16. ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر.

[ 24 ]

قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكل. وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الانسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الاوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية. قوله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر، ايراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار. قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الافطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدة من أيام اخر لمكان وجوب اكمال العدة، واللام في قوله: لتكملوا العدة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، والتقدير وانما أمرناكم بالافطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة، ولعل ايراد قوله: ولتكملوا العدة هو الموجب لا سقاط معنى قوله: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة. قوله تعالى: ولتكبروا الله على ما هديكم ولعلكم تشكرون، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية (1) أنهما لبيان الغاية غاية اصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الذي انزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى ان التلبس بالصوم لاظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن واعلن ربوبيته وعبوديتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحق، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل. ولما كان الصوم انما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم وهو الاخلاص لله سبحانه في التنزه عن الواث الطبيعة والكف عن اعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على اخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير


(1) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح (منه) (*)

[ 25 ]

والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال: ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون كما قال: في اول الآيات: لعلكم تتقون.

(بحث روائي)

 في الحديث القدسي، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اجزي به. أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، وغيره كالصلوة والحج وغيرهما متألف من الاثبات أو لا يخلو من الاثبات، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه، لانه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الانية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الاخلاد إلى الارض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فان النفي لا 26 نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على انه لا يوسط في إعطاء الاجر بينه وبين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد: ان الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا، قال تعالى ؟ " ويأخذ الصدقات " التوبة - 104، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: كان رسول الله أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر، ويفطر حتى يقال، ما يصوم، ثم ترك ذلك وصام يوما وأفطر يوما وهو صوم داود، ثم ترك ذلك وصام الثلاثة الايام الغر، ثم ترك ذلك وفرقها في كل عشرة يوما خميسين بينهما اربعاء فقبض صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعمل ذلك. وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة ايام من كل شهر. أقول: والاخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الذي

[ 26 ]

كان يصومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما عدا صوم رمضان. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام، قال هي للمؤمنين خاصة وعن جميل قال: سئلت الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلها يجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة. وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا فقلت له: فقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، قال: إنما فرض الله شهر رمضان على الانبياء دون الامم ففضل الله هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى امته. اقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم عليه السلام وكأن الروايتين واحدة، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم، الانبياء خاصة ولو كان كذلك، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم. وفي الكافي عمن سأل الصادق عليه السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد ؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به. وفي الجوامع عنه عليه السلام: الفرقان كل آية محكمة في الكتاب. وفي تفسيري العياشي والقمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الانبياء. أقول: واللفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الاخبار أن رمضان اسم من اسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب، بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين.

[ 27 ]

والاخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي. وفي تفسير العياشي عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لابي عبد الله عليه السلام إن ابن أبي يعفور، أمرني أن اسألك عن مسائل فقال: وما هي ؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اسافر ؟ قال: إن الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه. أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالاخذ بالاطلاق. وفي الكافي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: فأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام اخر. أقول: ورواه العياشي أيضا. وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال عليه السلام: ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر. أقول: والاخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الافطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه. وفي تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض. وفي تفسيره أيضا عن الباقر عليه السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.

[ 28 ]

وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير. أقول: والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير ايام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة ايام اخر فإن المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش. وفي تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق عليه السلام قال: إن في الفطر تكبيرا، قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد. وفي الكافي عن سعيد النقاش قال: قال أبو عبد الله عليه السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون، قال: قلت: واين هو ؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلوة الفجر وفي صلوة العيد ثم يقطع، قال: قلت: كيف أقول ! قال: تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدة يعني الصلوة ولتكبروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرات. أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقوله عليه السلام: يعني الصلوة لعله يريد: أن المعنى ولتكملوا العدة أي عدة أيام الصوم بصلوة العيد ولتكبروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبروا الله على ما هديكم، فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الاخيرة يؤيد ما قيل: إن قوله: ولتكبروا الله على ما هديكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلي. وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام قال: قلت له، جعلت

[ 29 ]

فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلثين أحق هذا ؟ قال ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثين لان الله يقول: ولتكملوا العدة فكان رسول الله ينقصه. اقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الانكاري، والرواية تدل على ما قدمناه: أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان. وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية. اقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله. وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله، قال: سئلته عن قول الله عز وجل: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن، وإنما انزل في عشرين بين أوله وآخره فقال إبو عبد الله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت صحف ابراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وانزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان. اقول: ما رواه عليه السلام عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن وائلة بن الاسقع عن النبي. وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال اخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن. وفي الدر المنثور عن ابن عباس. قال: شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد

[ 30 ]

صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك في الامر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا. اقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى: " والذكر الحكيم " آل عمران - 58، وفي قوله تعالى: " وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع " الطور - 5، وقوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة - 79، وقوله تعالى: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا " حم السجدة - 12، وجميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع وانه السماء الاولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى، ومما يجب أن يعلم ان الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الاشارة والرمز شائع فيه، ولا سيما في امثال هذه الحقائق: من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن * * * وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون - 186.

(بيان)

 قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق اسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالامر، ثم قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإني قريب ولم يقل: فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن ثم الاتيان بالصفة دون الفعل

[ 31 ]

الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الاجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: أجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيد به شيئا بل هو عينه، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: " ادعوني أستجب لكم " المؤمن - 60، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلم سبع مرات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف. والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو در من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره. ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الانسان فالعبد هو من الانسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى. وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والافعال وساير ما ينسب إليهم من الازواج والاولاد والمال والجاه وغيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الانحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، واثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أياما كان وتمليكه فالله عز اسمه، هو الذي اضاف نفوسهم واعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الذي جعل لهم السمع والابصار والافئدة، وهو الذي خلق كل شئ وقدره تقديرا. فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو اقرب إلى خلقه من كل

[ 32 ]

شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الاطلاق كما قال تعالى: " ونحن اقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " الواقعة - 85، وقال تعالى: " ونحن اقرب إليه من حبل الوريد " ق - 16، وقال تعالى: " ان الله يحول بين المرء وقلبه " الانفال - 24، والقلب هو النفس المدركة. وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الاطلاق واقرب إليهم من كل شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي ان لله سبحانه ان يجيب اي دعاء دعى به احد من خلقه ويرفع بالاعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فان الملك عام، والسلطان والاحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: ان الله لما خلق الاشياء وقدر التقادير تم الامر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لان الامر مفروغ عنه، ولا كما يقوله جماعة من هذه الامة: ان لا صنع لله في افعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجوس هذه الامة فيما رواه الفريقان من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: القدرية مجوس هذه الامة. بل الملك لله سبحانه على الاطلاق ولا يملك شئ شيئا الا بتمليك منه سبحانه واذن فما شائه وملكه واذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى: " يا ايها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني " الفاطر - 15. فقد تبين: ان قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم اعني اجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لاجابته المطلقة لدعائهم، واطلاق الاجابة يستلزم اطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فانه مجيبه الا ان ههنا امرا وهو انه تعالى قيد قوله: اجيب دعوة الداع بقوله إذا دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشئ يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه، فان قولنا: اصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو اكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي

[ 33 ]

يجب الاصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدل على أن وعد الاجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " ابراهيم - 34، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، وقال تعالى: " يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن " الرحمن - 29، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح. فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الاجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الاجابة فقد فقد أحد امرين وهما اللذان ذكرهما بقوله: دعوة الداع إذا دعان. فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، وانما التبس الامر على الداعي التباسا كان يدعو الانسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الامر مثل ان يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الانبياء لاعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه. وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالاسباب العادية أو بامور وهمية توهمها كافية في امره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الاسباب والاوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم. فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات

[ 34 ]

النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: " قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم " الفرقان - 77، وقوله تعالى: " قل أرايتم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما كنتم تشركون " الانعام - 41، وقوله تعالى: " قل من ينجيكم في ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون " الانعام - 64، فالآيات دالة على أن للانسان دعاء غريزيا وسؤالا فطريا يسأل به ربه، غير انه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالاسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الامر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه، مع انه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولما وقع الشدة وطارت الاسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له ان لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الاسباب، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته واظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك والنسيان. وكقوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " المؤمن - 60، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالاجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث انها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار انما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض اقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك. وبذلك يظهر معنى آيات اخر من هذا الباب كقوله تعالى: " فأدعوا الله مخلصين له الدين " المؤمن - 14، وقوله تعالى: " وادعوه خوفا وطمعا ان رحمة الله قريب من المحسنين " الاعراف - 56، وقوله تعالى: " ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " الانبياء - 90، وقوله تعالى: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية انه لا يحب المعتدين " الاعراف - 55، وقوله تعالى: " إذ نادى ربه نداء خفيا، إلى قوله، ولم أك بدعائك ربي شقيا " مريم - 4، وقوله تعالى: " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله " الشورى - 26، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على

[ 35 ]

اركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الاخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والاصرار والذكر وصالح العمل والايمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات. قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: ان الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسئلونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.

(بحث روائي)

 عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدة الداعي في الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك. وفي المكارم عنه عليه السلام الدعاء افضل من قرائة القرآن لان الله عز وجل قال: " قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعائكم "، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام. وفي عدة الداعي في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوحى الله إلى بعض انبيائه في بعض وحيه: وعزتي وجلالي لاقطعن امل كل آمل امل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولابعدنه من فرجي وفضلي، ايأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني ؟ الحديث. وفي عدة الداعي ايضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت اسباب السموات واسباب الارض من دونه فان سئلني لم أعطه وان دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السموات والارض

[ 36 ]

رزقه، فإن دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان استغفرني غفرت له. اقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الاخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية الاسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الاشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، وللانسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته ان لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، ويشعر ايضا ان كل ما يتوجه إليه من الاسباب الظاهرية يمكن ان يتخلف عنه اثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل امر، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الاسباب ولازم ذلك ان لا يركن الركون التام إلى شئ من هذه الاسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري، والانسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سئل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك انه سئل ربه واتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الاسباب إلى ربه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الاسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وانما هو امر صوره له تخيله لعلل اوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر. ونظير ذلك: ان الانسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه واهم واحب فترك الاول وأخذ بالثاني، وربما هرب من شئ حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الاول وترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحه فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللانسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، واما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربما سأل الانسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الاحاديث، وهو اللائح من قول علي عليه السلام فيما سيأتي: أن العطية على قدر النية الحديث. وفي عدة الداعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ادعوا الله وانتم موقنون بالاجابة

[ 37 ]

وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا. اقول: وذلك ان الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة. كما مر، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون. وفي العدة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله الا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، واما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم. وفي نهج البلاغة: في وصية له عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام: ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما اذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئابيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما اخرت عنك الاجابة ليكون ذلك أعظم لاجر السائل، واجزل لعطاء الامل، وربما سألت الشئ فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له. اقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد عليه السلام به: ان الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي احسن جملة واجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والاجابة. وقد بين عليه السلام بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالابطاء في الاجابة، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو اوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لان السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الاجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم ان فيه سعادته

[ 38 ]

وانما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا. وفي عدة الداعي عن الباقر عليه السلام ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره. اقول: وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لانكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء ايماء إلى أنه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدس. وهو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلوة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس وألاخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين عليه السلام عن النبي، وفي عدة الداعي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين. وفي البحار عن علي عليه السلام أنه سمع رجلا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال عليه السلام: أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.

[ 39 ]

وفي عدة الداعي عن الصادق عليه السلام: إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. اقول: وفي العدة أيضا عن علي عليه السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه. اقول: وفي هذا المعنى روايات أخر، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو. وفي دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من اجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة. اقول: وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لاجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبدا عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: (ويدع الانسان بالشر دعائه بالخير وكان الانسان عجولا) الاسراء - 11. وفي عدة الداعي: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي ذر: يا ابا ذر ألا اعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن ؟ قلت بلى يا رسول الله، قال لى الله عليه واله وسلم: احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده امامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه. اقول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعائك في الشدة ولا ينساك، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الاسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الاخلاق عن الصادق عليه السلام قال عليه السلام من تقدم في الدعاء أستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم

[ 40 ]

يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: ان ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من اطلاق قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) التوبة - 67، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإذا سئلت فأسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله، ارشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الاسباب العادية التي بين أيدينا انما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها الا الطريقية والوساطة في الايصال، والامر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله ان يجري الامور الا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الاسباب الا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى الغاء الاسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك اسباب ؟ واعتبر ذلك بالانسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الاسباب كان كمن سأل الانسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الانسان في اعطائه أو بعينه في نظرها أو باذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الانسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، وليس ذلك تقييدا للقدرة الالهية غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الانسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الانسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون الاباليد، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والاذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الاطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الاسباب فزيد مثلا وهو فعل لله هو الانسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل

[ 41 ]

والشرائط لم يكن هو هو، فهو في ايجاده يتوقف على تحقق جميعها، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الاسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأما هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: ولو أن الخلق كلهم جهدوا الخ. ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: ان الدعاء من القدر. اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: ان الحاجة المدعو لها اما ان تكون مقضية مقدرة اولا، وهي على الاول واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أي حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أن فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن اسباب وجوده، والدعاء من اسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: ان الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اخر. ففي البحار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لايرد القضاء الا الدعاء. وعن الصادق عليه السلام: الدعاء يرد القضاء بعد ماأبرم ابراما. وعن أبي الحسن موسى عليه السلام: عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل يرد البلاء، وقد قدر وقضى فلم يبق الا امضائه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا. وعن الصادق عليه السلام ان الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم ابراما - فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله الا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه الا أوشك أن يفتح لصاحبه. اقول: وفيها اشارة إلى الاصرار وهو من محققات الدعاء، فان كثرة الاتيان

[ 42 ]

بالقصد يوجب صفائه. وعن اسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليه السلام: دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية. اقول: وفيها اشارة إلى اخفاء الدعاء واسراره فإنه أحفظ لاخلاص الطلب. وفي المكارم عن الصادق عليه السلام: لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد وعن الصادق عليه السلام ايضا، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا أستجيب له. وعن الصادق عليه السلام أيضا - وقد قال لرجل من اصحابه أني لاجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا اجدهما - قال: فقال: وماهما ؟ قلت: ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى اجابة، قال افترى الله اخلف وعده ؟ قلت: لا، قال: فمه ؟ قلت: لا ادري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما امر به ثم دعاه من جهه الدعاء اجابه، قلت: وما جهة الدعاء ؟ قال: تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال: وما الآية الاخرى ؟ قلت: وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وأرانى أنفق ولا أرى خلفا، قال: ا فترى الله اخلف وعده ؟ قلت: لا، قال: فمه ؟ قلت: لا أدرى، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وانفق في حقه لم ينفق درهما الا اخلف الله عليه. اقول: والوجه في هذه الاحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة. وفي الدر المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله إذا اراد ان يستجيب لعبد اذن له في الدعاء وعن ابن عمر ايضا عنه صلى عليه وآله وسلم: من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له ابواب الرحمة، وفي رواية من فتح له في الدعاء منكم فتحت له ابواب الجنة. اقول: وهذه المعنى مروي من طرق ائمة اهل البيت ايضا: من أعطي الدعاء أعطي الاجابة، ومعناه واضح مما مر.

[ 43 ]

وفي الدر المنثور أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال. اقول: وذلك ان الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الاسباب يوجب الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة واسبابها العادية حتى ان الانسان ربما زال عن الاذعان بحقيقة التأثير للاسباب لكن يبقى الاذعان بتعين الطرق ووساطة الاسباب المتوسطة فإنا نرى ان الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بان السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وانه لو لا السير لم يكن قرب ولا اقتراب، وبالجملة ان المسببات لا تتخلف عن اسبابها وان لم يكن للاسباب الا الوساطة دون التأثير، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الالهية، وهذا التوهم هو الذي اوجب ان نعتقد استحالة تخلف المسببات عن اسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن الحركة، والشبع عن الاكل، والرى عن الشرب، وهكذا، وقد مر في البحث عن الاعجاز ان ناموس العلية والمعلولية، وبعبارة أخرى توسط الاسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على اسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، والكتاب والسنة تثبت اصل التوسط وتبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها. إذا عرفت هذا علمت: ان العلم بالله يوجب الاذعان بان ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما ان العمدة من معجزات الانبياء راجعة إلى استجابة الدعوة. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعلمون اني اقدر ان أعطيهم ما يسألوني. وفي المجمع، قال: وروي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال: وليؤمنوا بي اي وليتحققوا اني قادر على اعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون، اي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه

[ 44 ]

أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفى عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون - 187.

(بيان)

 قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، الاحلال بمعنى الاجازة، وأصله من الحل مقابل العقد، والرفث هوالتصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الالفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، وقد كني به هيهنا عن عمل الجماع وهو من أدب القرآن الكريم وكذا سائر الالفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة والدخول والمس واللمس والاتيان والقرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، وكذا لفظ الوطئ والجماع وغيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية وإن اخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما ان الفاظ الفرج والغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، وتعدية الرفث بألى لتضمينه معنى الافضاء على ما قيل. قوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، الظاهر من اللباس معناه المعروف، وهو ما يستر به الانسان بدنة، والجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور وإشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته ويستر به عورته. وهذه استعارة لطيفة، وتزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: احل لكم ليلة الصيام

[ 45 ]

الرفث إلى نسائكم، فإن الانسان يستر عورته عن غيره باللباس، وأما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقى به صاحبه عن الرفث إلى غيره، واما الرفث إليه فلا لانه لباسه المتصل بنفسه المباشر له. قوله تعالى: علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم، الاختيان والخيانة بمعنى، وفيه معنى النقص على ما قيل وفي قوله: انكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على ان هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لانفسهم، ولو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة والعفو، وهما وان لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، وخاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك. وعلي هذا فالآية دالة على ان حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، والآية بنزولها شرعت الحلية ونسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، ويشعر به أو يدل عليه قوله: أحل لكم، وقوله: كنتم تختانون، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وقوله: فالآن باشروهن، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام ان يقال: فلا جناح عليكم ان تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، وهو ظاهر. وربما يقال: ان الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الاكل والشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق اهل السنة والجماعة، ان المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم وسمعوا قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في الاحكام من جميع الجهات، وقد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون ويأكلون ويشربون في اول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير ان ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصيه وخيانة لانفسهم، والشيوخ ربما اجهدهم الكف عن الاكل والشرب بعد النوم، وربما اخذ بعضهم النوم فحرم عليه الاكل والشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت ان النكاح والاكل والشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، وظهر بذلك: ان مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم التشبيه في اصل فرض الصوم لا في

[ 46 ]

خصوصياته، واما قوله تعالى: أحل لكم، فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) المائدة - 96، إذ من المعلوم ان صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، وكذا قوله تعالى (علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم)، انما يعني به انهم كانوا يخونون بحسب زعمهم وحسبانهم ذلك خيانة ومعصية ولذا قال: تختانون انفسكم ولم يقل: تختانون الله كما قال: (لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا اماناتكم) الانفال - 27، مع احتمال ان يراد بالاختيان النقص، والمعنى علم الله انكم كنتم تنقصون انفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح وغيره، وكذا قوله تعالى: فتاب عليكم وعفا عنكم، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا. وفيه ما عرفت: ان ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: أحل لكم، وقوله: كنتم تختانون انفسكم، وقوله: فتاب عليكم وعفا عنكم، وان لم تكن صريحة في النسخ غيران لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: فالآن باشروهن (الخ)، إذ لو لم يكن هناك الا جواز مستمر قبل نزول الآية وبعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، واما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فانها لم تبين سائر احكام الصوم ايضا مثل حرمة النكاح والاكل والشرب في نهار الصيام، ومن المعلوم ان رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الاحكام، والآية تنسخ ما بينه الرسول وان لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك. فإن قلت: قوله تعالى: هن لباس لكم وانتم لباس لهن، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد ان لا يعم الناسخ والمنسوخ لبشاعة ان يعلل النسخ بما يعم الناسخ والمنسوخ معا وان قلنا: ان هذه التعليلات الواقعة في موارد الاحكام حكم ومصالح لا علل، ولا يلزم في الحكمة ان تكون جامعة ومانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء وهن لباس لهم. قلت: اولا انه منقوض بتقييد قوله: أحل لكم بقوله: ليلة الصيام مع ان

[ 47 ]

حكم اللباس جار في النهار كالليل وهو محرم في النهار، وثانيا: ان القيود المأخوذة في الآية من قوله: ليلة الصيام، وقوله: هن لباس لكم، وقوله: انكم كنتم تختانون انفسكم، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ والناسخ فكون احد الزوجين لباسا للآخر يوجب ان يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله: ليله الصيام، والصيام هو الكف والامساك عن مشتهيات النفس من الاكل والشرب والنكاح يوجب تقييد جواز الرفث وصرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم ووقوعهم في معصية مستمرة وخيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، وبذلك يعود اطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض اطلاقه وهو ان يعمل به ليلا لا نهارا، والمعنى والله اعلم: ان اطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا ونهارا وحرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا انكم تختانون انفسكم فيه واردنا التخفيف عنكم رأفة ورحمة، واعدنا اطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام وقصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل. والحاصل: ان قوله تعالى: هن لباس لكم وانتم لباس لهن، وان كان علة أو حكمة لاحلال اصل الرفث الا ان الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام وهو مجموع قوله: هن لباس لكم إلى قوله: وعفا عنكم، وهذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ ولا يعم المنسوخ قطعا. قوله تعالى: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، امر واقع بعد الحضر فيدل على الجواز، وقد سبقه قوله تعالى: في أول الآية احل لكم والمعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن، والابتغاء هو الطلب، والمراد بابتغاء ماكتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الانساني من طريق المباشرة، وفطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوه النكاح والمباشرة، وسخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم وأن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة ونيل اللذة كما انه تعالى كتب لهم بقاء الحياة والنمو بالاكل والشرب وهو المطلوب الفطري وان لم يقصدوا بالاكل والشرب إلا الحصول على لذة الذوق والشبع والري، فإنما هو تسخير إلهي.

[ 48 ]

واما ما قيل: ان المراد بما كتب الله لهم الحل والرخصة فإن الله يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه، فيبعده: ان الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية والرخصة. قوله تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل وبذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، وعمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الافق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائره الافق إلى ثمانية عشر درجة تحت الافق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الافق كالخيط الابيض الممدود عليه وهو الفجر الثاني ويسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه ويخبر به من قدوم النهار واتصاله بطلوع الشمس. ومن هنا يعلم ان المراد بالخيط الابيض هو الفجر الصادق، وان كلمة من، بيانية وان قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الاسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الافق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط ابيض يتبين من الخيط الاسود. ومن هنا يعلم أيضا: ان المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط ابيض ولا خيط اسود. قوله تعالى: ثم اتموا الصيام إلى الليل، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره ايثارا للايجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، وفي قوله: اتموا دلاله على انه واحد بسيط وعبادة واحدة تامة من غير ان تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، وهذا هو الفرق بين التمام والكمال حيث ان الاول انتهاء وجود ما لا يتألف من اجزاء ذوات آثار والثاني انتهاء وجود ما لكل من اجزائه اثر مستقل وحده، قال تعالى: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي) المائدة - 3، فإن الدين مجموع الصلوة والصوم والحج وغيرها التي لكل منها اثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في الكلام على الآية.

[ 49 ]

قوله تعالى: ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد، العكوف والاعتكاف هو اللزوم والاعتكاف بالمكان الاقامة فيه ملازما له. والاعتكاف عبادة خاصة من احكامها لزوم المسجد وعدم الخروج منه الا لعذر والصيام معه، ولذلك صح ان يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد. قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها، أصل الحد هو المنع واليه يرجع جميع استعمالاته واشتقاقاته كحد السيف وحد الفجور وحد الدار والحديد إلى غير ذلك، والنهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها والتعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الاكل والشرب والمباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الاحكام والحرمات الالهية التي بينها لكم وهي احكام الصوم بإضاعتها وترك التقوى فيها.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام قال: كان الاكل والنكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء ونام ولم يفطر ثم انتبه حرم عليه الافطار، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الانصاري اخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه اصحابه وبقي في اثنى عشر رجلا فقتل على باب الشعب، وكان اخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، وكان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام ؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطات عليه اهله بالطعام فنام قبل ان يفطر، فلما انتبه قال لاهله، قد حرم على الاكل في هذه الليلة فلما اصبح حضر حفر الخندق فاغمى عليه فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرق له وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، والاكل بعد النوم إلى طلوع الفجر

[ 50 ]

لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد الليل. اقول: وقوله: يعني إلى قوله: وكان رجل، من كلام الراوي، وهذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني والعياشي وغيرهما، وفي جميعها ان سبب نزول قوله: وكلوا واشربوا (الخ) إنما هو قصة خوات بن جبير الانصاري وان سبب نزول قوله: أحل لكم (الخ)، ماكان يفعله الشبان من المسلمين. وفي الدر المنثور عن عدة من اصحاب التفسير والرواية عن البراء بن عازب قال: كان اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الانصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في ارضه فلما حضر الافطار اتى امرأته فقال: هل عندك طعام ؟ قالت: لا ولكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجائت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا. اقول: وروي بطرق أخر القصة وفي بعضها أبو قبيس بن صرمة وفي بعضها صرمه بن مالك الانصاري على اختلاف ما في القصة. وفي الدر المنثور أيضا: واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: ان المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء - حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله احل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن يعني انكحوهن. اقول: والروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وفي أكثرها اسم من عمر، وهي متحدة في ان حكم النكاح بالليل كحكم الاكل والشرب وأنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، وظاهر ما أوردناه من الرواية الاولى ان النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل والنهار جميعا بخلاف الاكل والشرب فقد كانا محللين في اول الليل قبل النوم محرمين بعده، وسياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الاكل والشرب

[ 51 ]

محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ ان يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض الخ، وقد قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، ولم يأت بقيد يدل على الغاية، وكذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: ان الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الاكل والشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم (الخ)، قبل قوله: كلوا واشربوا. وفي الدر المنثور أيضا: ان رسول الله قال: الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، واما المستطيل الذي يأخذ الافق فإنه يحل الصلوة ويحرم الطعام. اقول: والروايات في هذا المعنى مستفيضة من طرق العامة والخاصة وكذا الروايات في الاعتكاف وحرمة الجماع فيه * * * ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون - 188.

(بيان)

 قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، المراد بالاكل الاخذ أو مطلق التصرف مجازا، والمصحح لهذا الاطلاق المجازي كون الاكل أقرب الافعال الطبيعية التي يحتاج الانسان إلى فعلها وأقدمها فالانسان أول ما ينشاء وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس والمسكن والنكاح ونحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، ولذلك كان تسمية التصرف والاخذ، وخاصة في مورد الاموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات. والمال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل

[ 52 ]

إليه القلب، والبين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، والباطل يقابل الحق الذي هو الامر الثابت بنحو من الثبوت. وفي تقييد الحكم، أعني قوله: ولا تأكلوا اموالكم، بقوله: بينكم، دلالة على ان جميع الاموال لجميع الناس وإنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا، فالآية كالشارحة لاطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الارض جميعا وفي إضافته الاموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الانساني من اعتبار أصل الملك واحترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الارض على ما يذكره النقل والتاريخ، وقد ذكر هذا الاصل في القرآن بلفظ الملك والمال ولام الملك والاستخلاف وغيرها في أزيد من مأة مورد ولا حاجه إلى إيرادها في هذا الموضع، وكذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع والتجارة ونحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: (وإحل الله البيع) البقره - 275، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض) النساء - 29، وقوله تعالى: (تجارة تخشون كسادها) التوبة - 24، وغيرها، والسنة المتواترة تؤيده. قوله تعالى: وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا، الادلاء هو ارسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، وهو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، والفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشئ، والجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، ويمكن ان يكون الواو بمعنى مع والفعل منصوبا بأن المقدرة، التقدير مع ان تأكلوا فتكون الآيه بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، وهو النهي عن تصالح الراشي والمرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما وتقسيمها لانفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه واخذ الراشي فريقا آخر منها بالاثم وهما يعلمان ان ذلك باطل غير حق.

(بحث روائي)

 في الكافي عن الصادق عليه السلام في الآية كانت تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم

[ 53 ]

الله عن ذلك. وفي الكافي ايضا عن ابي بصير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: قول الله عز وجل في كتابه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام، قال يا أبا بصير إن الله عز وجل قد علم ان في الامة حكاما يجورون، اما إنه لم يعن حكام أهل العدل ولكنه عنى حكام اهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام اهل العدل فأبى عليك إلا ان يرافعك إلى حكام اهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عز وجل: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت. وفي المجمع قال: روي عن ابي جعفر عليه السلام: يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الاموال. اقول: وهذه مصاديق والآية مطلقة.

(بحث علمي اجتماعي)

 كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، ومنها النبات والحيوان والانسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن ان ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده وبقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، ولا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه انواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها ونشؤها وتوليد مثلها، وكذلك اقسام الحيوان والانسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه ولو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه. وهذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، والحيوان والانسان بالشعور الغريزي ان التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية والانتفاع في حفظ الوجود والبقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى ان الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين (فهذا حاصل الامر وملاكه) ولذلك فالفاعل من الانسان اوما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره والتصرف فيما يريد هو التصرف فيه، وهذا اصل الاختصاص الذي

[ 54 ]

لا يتوقف في اعتباره إنسان وهو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا ولك ذلك، ولي ان افعل كذا ولك ان تفعل كذا. ويشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما أصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج ونحو ذلك، وما نشاهده من تشاجر الاطفال فيما حازوه من غذاء ونحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الانسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته وقضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما ادركه بأصل الفطرة إجمالا، ولا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا وترتيبه وتعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، وعند ذلك يتنوع الاختصاص الاجمالي المذكور أنواعا متفرقه ذوات أسام مختلفه فيسمى الاختصاص المالي بالملك وغيره بالحق وغير ذلك. وهم وإن أمكن ان يختلفوا في تحقق الملك من جهة اسبابه كالوراثة والبيع والشراء والغصب بقوة السلطان وغير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالانسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، وينقصوا من بعض، ويثبتوا لبعض وينفوا عن بعض، لكن اصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، ولذلك نرى ان المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد وينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم وهم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من اصله ولن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، وفي بطلان الفطرة فناء الانسان. وسنبحث في ما يتعلق بهذا الاصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة والربح والارث والغنيمة والحيازة ومن حيث الموضوع كالبالغ والصغير وغيرهما في موارد يناسب ذلك انشاء الله العزيز * * *

[ 55 ]

يسألونك عن الاهله قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتو االبيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها وأتقوا الله لعلكم تفلحون - 189.

(بيان)

 قوله تعالى: يسئلونك إلى قوله: والحج، الاهلة جمع هلال ويسمى القمر هلالا اول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الاولى والثانية كما قيل، وقال بعضهم الليالي الثلاثة الاول، وقال بعضهم حتى يتحجر، والتحجر ان يستدير بخطة دقيقة، وقال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل وذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا ويسمى في الرابعة عشر بدرا، واسمه العام عند العرب الزبرقان. والهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، ومن قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لان الناس يهلون بذكره إذا راوا. والمواقيت جمع ميقات وهو الوقت المضروب للفعل، ويطلق ايضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام وميقات أهل اليمن، والمراد هلهنا الاول. وفي قوله تعالى: يسئلونك عن الاهلة، وان لم يشرح ان السؤال في امرها عماذا عن حقيقة القمر وسبب تشكلاتها المختلفة في صورالهلال والقمر والبدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في اول الشهر القمري كما ذكره بعضهم أو عن غير ذلك. ولكن اتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الاهلة دليل على ان السؤال لم يكن عن ماهية القمر واختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الانسب ان يقال: يسئلونك عن القمر لا عن الاهلة وايضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال وسبب تشكله الخاص كان الانسب ان يقال: يسئلونك عن الهلال إذ لا غرض

[ 56 ]

حينئذ يتعلق بالجمع، ففي اتيان الاهلة بصيغة الجمع دلالة على ان السؤال انما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال ورسمه الشهور القمرية وعبر عن ذلك بالاهلة لانها هي المحققة لذلك فاجيب بالفائدة. ويستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس والحج، فإن المواقيت وهي الازمان المضروبة للافعال، والاعمال انما هي الشهور دون الاهلة التي ليست بأزمنة وانما هي أشكال وصور في القمر. وبالجملة قد تحصل ان الغرض في السؤال انما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فاجيب ببيان الفائدة وانها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم فإن الانسان لا بد له من حيث الخلقة من ان يقدر أفعاله واعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، ولازم ذلك ان يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا وكبارا مثل الليل والنهار واليوم والشهر والفصول والسنين بالعناية الالهية التي تدبر امور خلقه وتهديهم إلى صلاح حياتهم، والتقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم والجاهل والبدوي والحضري ويسهل حفظه على الجميع انما هو تقطيع الايام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الادراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها ولم ينل دقيق حسابها الانسان الا بعد قرون واحقاب من بدء حياته في الارض وهو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما. فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في امور دينهم ودنياهم وللحج خاصة فإنه أشهر معلومات، وكأن اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور. قوله تعالى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى قوله: من ابوابها، ثبت بالنقل ان جماعة من العرب الجاهلي كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها ودخلوا منه فنهى عن ذلك الاسلام وامرهم بدخول البيوت من ابوابها، ونزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، وبذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله. ولو لا ذلك لامكن ان يقال: ان قوله: وليس البرالى آخره، كناية عن النهي

[ 57 ]

عن امتثال الاوامر الالهية والعمل بالاحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمما لاول الاية، وكان المعنى: ان هذه الشهور أوقات مضروبة لاعمال شرعت فيها ولايجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الاية مشتملة على بيان حكم واحد. وعلى التقدير الاول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على ان العمل المذكور لم يكن مما امضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفى كونه برا فانما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، وأثبت ان البر هو التقوي، وكان الظاهر ان يقال: ولكن البر هو التقوي، وانما عدل إلى قوله: ولكن البر من اتقى، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن الآية. والامر في قوله تعالى: وإتوا البيوت من أبوابها، ليس امرا مولويا وإنما هو إرشاد إلى حسن اتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجرى على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة. قوله تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة ان التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم ان جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الاخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة، ولذلك قال تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.

[ 58 ]

(بحث روائي)

 في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاهلة فنزلت هذه الآية (يسئلونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس) يعلمون بها أجل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم. أقول: وروى هذا المعنى فيه بطرق أخر عن ابي العالية وقتادة وغيرهما، وروي أيضا أن بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حالات القمرالمختلفة فنزلت الآية. وهذا هو الذي ذكرنا آنفا انه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به. وفي الدر المنثور أيضا: أخرج وكيع، والبخاري، وابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها. وفي الدر المنثور أيضا اخرج ابن ابي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الابواب في الاحرام وكانت الانصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الانصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال: إني رجل أحمس قال: فإن ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها. اقول: وقد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، والحمس جمع أحمس كحمر وأحمر من الحماسة وهي الشدة سميت به قريش لشدتهم في امر دينهم أو لصلابتهم وشدة باسهم. وظاهر الرواية ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش ولذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت (الخ)، وعلى هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، وهي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، ولكنك قد عرفت ان الآية تنافيه حيث تقول: ليس البر بأن تأتوا، وحاشا الله سبحانه

[ 59 ]

ان يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الاحكام ثم يذمه أو يقبحه وينسخه بعد ذلك وهو ظاهر. وفي محاسن البرقي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها قال يعني ان يأتي الامر من وجهه أي الامور كان. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: الاوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتي ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه. أقول: الرواية من الجرى وبيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الاولى، ولا شك ان الآية بحسب المعنى عامة وإن كانت بحسب مورد النزول خاصة، وقوله عليه السلام ولولاهم ما عرف الله، يعني البيان الحق والدعوة التامة الذين معهم، وله معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إنشاء الله والروايات في معنى الروايتين كثيرة. * * * وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين - 190. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين - 191. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم - 192. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين - 193. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين - 19 4. وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين - 195

[ 60 ]

(بيان)

 سياق الآيات الشريفة يدل على انها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لاول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لاخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك امور مربوطة بمشركي مكة، على انه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم ان قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيدا احترازيا، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل انما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله. بل الظاهر ان الفعل اعني يقاتلونكم، للحال والوصف للاشارة، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة. فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط. على ان الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله، لاصل الحكم، وقوله تعالى: لا تعتدوا الخ، تحديد له من حيث الانتظام، وقوله تعالى: واقتلوهم (الخ) تحديد له من حيث التشديد، وقوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام (الخ)، تحديد له من حيث المكان، وقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (الخ) تحديد له من حيث الامد والزمان، وقوله تعالى: الشهر الحرام (الخ)، بيان ان هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى: وأنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية وهو الانفاق للتجهيز والتجهز، فيقرب ان يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا ان تكون نازلة في شؤون متفرقه كما

[ 61 ]

ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين. قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الاسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فان الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. قوله تعالى: ولا تعتدوا (الخ) الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا واعتدى إذا جاوز حده، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدو، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية. قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي وجد وادرك فمعنى الآية معنى قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 6، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبلها. فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لان في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين. قوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه (الخ)، فيه نهى عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى

[ 62 ]

المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد. قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع والكف، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الاسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ولا تقاتلوهم عند المسجد، وعلى هذا فكل من الجملتين اعني قوله تعالى: فإن انتهوا فان الله، وقوله تعالى: فان انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار. وفي قوله تعالى: فان الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فان الله غفور رحيم. قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله، تحديد لامد القتال كما مر ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الاصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكه، ويدل عليه قوله تعالى: ويكون الدين لله: والآية نظيرة لقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وإن تولوا فاعلموا ان الله موليكم نعم المولى ونعم النصير) الانفال - 40، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وان ردت فلا ولاية الا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذى يستقر على التوحيد. ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 30، بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة خاصة بالمشركين غير شاملة لاهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الاصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرون به، وإن كان ذلك كفرامنهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، لكن الاسلام قنع منهم

[ 63 ]

بمجرد التوحيد، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزيه لاعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإظهار الاسلام على الدين كله. قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) التوبة - 12 قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدوا النبي وأصحابه عن الحج عام الحديبية ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات وأعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لانه شرع القصاص في جميع الحرمات وإنما شرع القصاص في الحرمات لانه شرع جواز الاعتداء بالمثل. ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لان فيه استعمالا للشدة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحب المعتدين، وهم أحوج إلى محبة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين. وأما أمره تعالى بالاعتداء مع انه لا يحب المعتدين فأن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء وأما إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبر مع المتكبر، والجهر بالسوء لمن ظلم.

[ 64 ]

قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بانفاق المال لاقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الانفاق هيهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في اول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، والباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة والاستطاعة والقدرة فان اليد مظهر لذلك، وربما يقال: ان الباء للسببية ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدى أنفسكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الانسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره. والكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أن البخل والامساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، وكما أن التبذير بانفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروة. ثم ختم سبحانه وتعالى الكلام بالاحسان فقال: وأحسنوا ان الله يحب المحسنين، وليس المراد بالاحسان الكف عن القتال أو الرأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الاحسان هو الاتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكف في مورد الكف، والشدة في مورد الشدة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الانسانية باستيفاء حقها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الاقصى من الدين، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع، قال تعالى: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران - 31، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء وان الله لا يحب المعتدين وختمت بالامر بالاحسان وأن الله يحب المحسنين، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى الجهاد الذى يأمر به القرآن كان القرآن يامر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله

[ 65 ]

سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، إلى قوله: لكم دينكم ولي دين) الكافرون - 6، وقال تعالى: (واصبر على ما يقولون) المزمل - 10، وقال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال) النساء - 77، كأن هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة - 110. ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير) الانفال - 40، وكذا قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة - 190. ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة - 29. ومنها آيات القتال مع المشركين عامة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: (فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) التوبة - 5، وكقوله تعالى: (قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) التوبة - 36. ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة) التوبة - 123. وجملة الامر أن القرآن يذكر أن الاسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الانسانية في حيوتها كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة

[ 66 ]

الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم - 30، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الانسانية المشروعة كما قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى - 13، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) الحج - 40، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع، ونظيره قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) البقرة - 251، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الانفال: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الانفال - 8، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الانفال - 24، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الاسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الانسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الانسانية وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها وإحيائها بعد الموت. ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب: إنه ينبغي أن يكون للاسلام حكم دفاعي في تطهير الارض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الايمان لله سبحانه وتعالى فان هذا القتال الذى تذكره الآيات المذكورة إنما هو لاماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لاعلاء كلمة الحق على كلمة اهل الكتاب بحملهم على اعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وان كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حق الانسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق. والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على اعدائهم لا يتم أمره إلا بانجاز الامر بهذه المرتبة، من القتال وهوالقتال لاقامة الاخلاص في التوحيد، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق

[ 67 ]

ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف - 9، وأظهرمنه قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون) الانبياء - 105، وأصرح منه قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، النور - 55، فقوله تعالى: يعبدونني يعني به عبادة الاخلاص بحقيقة الايمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئا، مع أنه تعالى يعد بعض الايمان شركا، قال تعالى: (وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف - 106، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الارض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا. وربما يتوهم المتوهم: أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالاسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنهم في الارض، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه ايماء إلى القتال. على أن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذله على المؤمنين اعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) المائدة - 54، - على ما سيجئ في محله - يشير إلى دعوة حقة، ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة انما تقع عن دعوة جهاد. وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الاسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الانبياء السالفين فان دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية، دون الاكراه على الايمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الاجبار والاكراه !. وذلك أن القرآن يبين أن الاسلام مبني على قضاء الفطرة الانسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الانسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضى بأن التوحيد هو الاساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه، وأن الدفاع

[ 68 ]

عن هذا الاصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للانسانية يجب استيفائه بأى وسيلة ممكنة، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الاذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الاسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الانسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشئ من القتال الا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية، قال تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل - 125، والآية مطلقة، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) الانفال - 42. وأما ما ذكروه من استلزامه الاكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الانسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الافراد بعد البيان واقامة الحجة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فان المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها. على ان الكره انما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا. وأما ما ذكروه: ان سائر الانبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح عليهم السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب، وكذلك كان عيسى عليه السلام أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طر والنسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الاسلام. على أن جمعا من الانبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، والقرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) آل عمران - 147، وقال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -:

[ 69 ]

(وإذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) المائدة - 24، وقال تعالى: (ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله) البقرة - 246، إلى آخر قصة طالوت وجالوت. وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ: (ألا تعلوا على وأتوني مسلمين) - إلى أن قال تعالى -: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذله وهم صاغرون) النمل - 37، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها (إلخ) إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.

(بحث اجتماعي)

 لاريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الانسان وسائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود والبقاء. وكما أن الفطرة والجبلة اعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالانسان يتصرف في الجماد والنبات والحيوان حتى في الانسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها وإذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده وبقائه بالشعور والحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحه تصرفه المذكور، ويدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من انها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لان تستعمل في الدفاع كالقرون والانياب والمخالب والاظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك، وبعضها الذي لم يتسلح بشئ من هذه الاسلحة الطبيعية القوية

[ 70 ]

تستريح إلى الفرار إو الاستتار اوالخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات، وبعضها الذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربما اخذ بها في الدفاع كالقرد والدب والثعلب وأمثالها. والانسان من بين بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، وله فطرة كسائر الانواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أن للانسان حقا في التصرف، وحقا في الدفاع عن حقه الفطري، وهذا الحق الذي يذعن به الانسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الانساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما اوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه ان يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الانسان إذا احس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الافراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة والموافقة على التمدن والعدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدله الاجتماع بتعديله. ومن هنا يعلم: ان الانسان لا يستند في شئ من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الانسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع واعترف بإنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه. فكل قتال دفاع في الحقيقة حتى أن الفاتحين من الملوك والمتغلبين من الدول يفرضون لانفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية ولياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الارض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الارض وإهلاك الحرث والنسل. فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الانسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للانسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الاهميه فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الانسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق

[ 71 ]

الضائع المستنقذ في الاهمية الحيوية، وقد أثبت القرآن أن أهم حقوق الانسانية هو التوحيد والقوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الانساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الانساني التي تحفظ منافع الافراد في حياتهم.

(بحث روائي)

 في المجمع عن ابن عباس في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا واربعمأه فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر احرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية. أقول: وروي هذا المعنى في الدر المنثور بطرق عن ابن عباس وغيره. وفي المجمع أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية. أقول: وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه. وفي المجمع في قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه: أن الفتنة في الدين - وهو الشرك - إعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز.

[ 72 ]

اقول: وقد عرفت: ان ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة انها نزلت دفعة واحدة. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، بطرق عن قتادة، قال: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله. قال: حتى يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واليها دعا، وذكر لنا: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: إن الله أمرني ان أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: وإن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله. اقول: قوله: وإن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي وهي استفادة حسنة، وروي نظير ذلك عن عكرمة وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: إنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما يمنعك ان تخرج ؟ قال: يمنعني: أن الله حرم دم أخي: قالا: ألم يقل الله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون ان تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. اقول: وقد أخطأ في معنى الفتنة وأخطأ السائلان، وقد مر بيانه، وانما المورد من مصاديق الفساد في الارض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه. وفي المجمع في قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، عن العلاء بن الفضيل، قال: سئلته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام ؟ قال إذا كان المشركون ابتدئوهم باستحلاهم، - رأى المسلمون بما انهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.

[ 73 ]

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، ويغزو فإذا حضره قام حتى ينسلخ وفي الكافي عن معاوية بن عمار قال: سئلت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال عليه السلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم يقام عليه الحد في الحرم لانه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله: عز وجل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) - فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكه، قال: لوان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق، أليس الله يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني المقتصدين ! وروى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه يقول الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وفي الدر المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله: فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الانصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد اعز الاسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الاقامة في الاموال وإصلاحها وتركنا

[ 74 ]

الغزو. اقول: واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية مطلقة تشمل جانبي الافراط والتفريط في الانفاق جميعا بل تعم الانفاق وغيره. * * * وأتموا لحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعملوا أن الله شديد العقاب - 196. الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الالباب - 197 ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين - 198. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم - 199. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وماله في الآخرة من خلاق - 200. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار - 201. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله

[ 75 ]

سريع الحساب - 202. واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون - 203.

(بيان)

نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، وفيها تشريع حج التمتع. قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله، تمام الشئ هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالاتمام هو ضم تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشئ ترتب عليه من الاثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الانسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشئ داخلا فيه اهتماما بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الاول الحقيقي والدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه الماتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الاتمام بمعنى الاكمال وهو ظاهر. والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل عليه السلام وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الامة شريعة باقية إلى يوم القيامة. ويبتدي هذا العمل بالاحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وفيها أمور مفروضة أخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الافراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.

[ 76 ]

والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالاحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعنى الحج، والعمرة عبادتان لايتمان إلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية. قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم (الخ)، الاحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الاتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالاحرام والاستيسار صيرورة الشئ يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، والهدى هو ما يقدمه الانسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، واصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدى والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الانسان للتضحية به في حجه من النعم. قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه (الخ)، الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الراس يدل على ان المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والاتيان بقوله: أو به أذى من رأسه بلفطة أو الترديد يدل على ان المراد بالاذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس فهذان الامران يجوزان الحلق مع الفدية بشئ من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك. وقد وردت السنة ان الصيام ثلاثة ايام، وأن الصدقة أطعام ستة مساكين، وان النسك شاة. قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الاحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والاحلال إلى زمان الاهلال بالحج فما استيسر من الهدى، فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الاحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالاحلال. قوله تعالى: فما استيسر من الهدى، ظاهر الآية ان ذلك نسك لا جبران لما فات منه من الاهلال بالحج من الميقات فإن ذلك امر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

[ 77 ]

فان قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدى، على قوله: فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع ان اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدى واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك. قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فان ذلك يناسب التجويز للتمتع في اثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الاهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدى جبرانا لما فاته من الاهلال بالحج من الميقات دون مكة، وظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى أخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبني عليه تشريع الهدى، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدى وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدى، وأما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، وهو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة ايام، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ان وقت الصيام قبل يوم الاضحى أو بعد إيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله والافعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، ولم يقل حين الرجوع على ان الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك. قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها. قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام

[ 78 ]

أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون اهله حاضري المسجد الحرام من الطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة والانسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والاهلال بالحج من المسجد الحرام من غير ان يسير ثانيا إلى الميقات. وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة أنما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن (الخ)، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولاشخص دون شخص ولاحال دون حال. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الامر فإن الحج خاصة من بين الاحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الاسلام على ماكان تقريباإلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالانكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الاية بالامر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه. قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ألى قوله: في الحج، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي اليك يوم الجمعة مع ان المجئ إنما هو في بعضه

[ 79 ]

دون جميعه. وفي تكرارلفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الايجاز فإن المراد بالحج الاول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولو لا الاظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل. وفرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآية، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق، بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله. قوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الاعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبين أصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم، العمل فان العلم من غير عمل لا قيمة له في الاسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: واتقوني يا أولي الالباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين. قوله تعالى: ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم، هو نظير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) إلى أن قال: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله) الجمعة - 10 فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع اثناء الحج. قوله تعالى: فإذا افضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، الافاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة. قوله تعالى: واذكروه كما هديكم (الخ) أي واذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم وانكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.

[ 80 ]

قوله تعالى: ثم افيضوا من حيث افاض الناس، ظاهره إيجاب الافاضة على ما كان من دأب الناس والحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل ان قريشا وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن اهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالافاضة من حيث افاض الناس وهو عرفات. وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى ان أحكام الحج هي التي ذكرت غير انه يجب عليكم في الافاضة ان تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديما وتأخيرا في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات. قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم إلى قوله: ذكرا، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لان نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: (واذكروه كما هديكم) أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حينا في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم وأو في قوله أو أشد ذكرا، للاضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو امر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى: (واذكروا الله ذكرا كثيرا) الاحزاب - 41، وقال تعالى: (والذاكرين الله كثيرا) الاحزاب - 35، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصورا في اللفظ، بل هو امر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن ان يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعود أو على جنوبهم) آل عمران - 191، وإن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، موردا يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الانسب توصيف الذكر الذي أمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر. قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ) تفريع على قوله

[ 81 ]

تعالى: فاذكروا الله كذكركم آبائكم، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الانسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آبائه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد الا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئا لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا نصيب له في الاخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الاخرة ولهؤلاء نصيب في الاخرة. ومن هنا يظهر وجه ذكر الحسنة في قول أهل الاخرة دون أهل الدنيا، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسنا عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الارضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإن ما في الدنيا وما في الاخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة. و المقابلة بين قوله: وما له في الآخرة من خلاق، وقوله: أولئك لهم نصيب مما كسبوا، تعطي أن أعمال الطائفة الاولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان - 23، وقال تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) الاحقاف - 20، وقال تعالى: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا) الكهف - 105. قوله تعالى: والله سريع الحساب، إسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معا، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئا من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاء وفاقا. فالمحصل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الاخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب

[ 82 ]

بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آئسين. قوله تعالى: واذكروا الله في أيام معدودات، الايام المعدودات هي ايام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على ان هذه الايام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: فمن تعجل في يومين (الخ)، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الايام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضا. قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الاثم عن الحاج ولم يقيد بشئ أصلا، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى إن من اتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، ومن هنا يظهر: ان الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال. واما قوله: لمن اتقى، فليس بيانا للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام ان يقال: على من اتقى، بل الظاهر ان قوله: لمن اتقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية، والمراد ان هذا الحكم لمن اتقى واما من لم يتق فليس له، ومن اللازم ان يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيؤل المعنى ان الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الاحرام أو بعضها أما من لم يتق فيجب ان يقيم بمنى ويذكر الله في ايام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمه اهل البيت كما سيجئ إنشاء الله. قوله تعالى: واتقوا الله واعلموا انكم إليه تحشرون، امر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26. وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: انكم إليه تحشرون، مع ما في نسك

[ 83 ]

الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي ان يذكر بهذا الجمع والافاضة يوما يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم احدا

(بحث روائي)

في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: واتموا الحج والعمرة لله، قال: هما مفروضان. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهم السلام قالوا: سألناهما عن قوله: واتموا الحج والعمرة لله، قالا: فإن تمام الحج ان لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما. اقول: والروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الاتمام فإن فرضهما وادائهما هو إتمامهما. وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حج حجة الاسلام خرج في اربع بقين من ذي القعدة حتى اتى الشجرة وصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فإحرم منها واهل بالحج وساق مأة بدنة واحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبدا بما بدء الله عز وجل به فأتى الصفا فبدء بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعا، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا وأمرهم ان يحلوا ويجعلوها عمرة، وهو شئ امر الله عز وجل به فأحل الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت كما امرتكم، ولم يكن يستطيع من اجل الهدى الذي معه، إن الله عز وجل يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدى محله، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي امرتنا به لعامنا أو لكل عام ؟ فقال

[ 84 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بل للابد، وإن رجلا قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤسنا تقطر من نسائنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك لن تؤمن بها أبدا، قال: عليه السلام: واقبل علي عليه السلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد احلت ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بأي شئ أهللت ؟ فقال بما اهل به النبي، فقال: لا تحل انت فاشركه في الهدى وجعل له سبعا وثلاثين ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا وستين فنحرها بيده ثم اخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم امر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقال صلى الله عليه وآله وسلم قد اكلنا الآن منه جميعا والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاج المفرد، قال: وسئلته: ليلا احرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم نهارا ؟ فقال: نهارا، فقلت: اي ساعة ؟ قال: صلوة الظهر. اقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره. وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيمه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فليس لاحد إلا أن يتمتع لان الله انزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فما استيسر من الهدى شاة. وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية ؟ قال: يصوم ثلاثة ايام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله ؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين، قيل: وما الحصبة ؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر ؟ قال: نعم اليس هو يوم عرفة مسافرا ؟ إنا اهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة ايام في الحج، يقول: في ذي الحجة. وروي الشيخ عن الصادق عليه السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس له متعة. اقول: يعني ان ما دون المواقيت فساكنة يصدق عليه انه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمه اهل البيت. وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: الحج اشهر معلومات، قال:

[ 85 ]

الحج اشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ليس لاحد ان يحج فيما سواهن. وفيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: فمن فرض فيهن (الخ)، الفرض التلبية والاشعار والتقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج وفي الكافي عنه عليه السلام في قوله تعالى: فلا رفث (الخ)، الرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلا من ربكم الآيه يعني الرزق فإذا أحل الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبع في الموسم. اقول: ويقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآيه. وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم ان تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن ابي جعفر عليه السلام. اقول: وفيه تمسك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الافراد. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ثم افيضوا من حيث افاض الناس الآيه، قال: إن اهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم اهل عرفة، وكان رجل يكني أبا سيار وكان له حمار فاره، وكان يسبق اهل عرفه، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا فامرهم الله ان يقفوا بعرفة وان يفيضوا منه. اقول: وفي هذا المعنى روايات اخر. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة، قال: رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا وعنه عليه السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنة.

[ 86 ]

وعن علي عليه السلام في الدنيا المرئه الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرئة السوء. أقول: والروايات من قبيل عد المصداق والآيه مطلقة، ولما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الاولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية. وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: وأذكروا الله في أيام معدودات الآية، قال: وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جل شأنه: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا، قال: والتكبير: الله اكبر، الله اكبر، لا إله إلا الله والله اكبر ولله الحمد، الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام وفيه عنه عليه السلام قال: والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الامصار يكبر عقيب عشر صلوات. وفي الفقيه في قوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه الآية، سئل الصادق عليه السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفورا له لا ذنب له. وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام قال يرجع مغفورا له لا ذنب له لمن اتقى. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: لمن اتقى الآية، قال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى. وعن الباقر عليه السلام لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إحرامه. وعنه أيضا: لمن اتقى الله عز وجل. وعن الصادق عليه السلام لمن اتقى الكبائر. أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، ويمكن التمسك بعموم التقوى كما في

[ 87 ]

الروايتين الاخيرتين.

(بحث روائي آخر)

 في الدر المنثور أخرج البخاري والبيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والانصار وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدى فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدى ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدى كما قال الله: فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وأشهر الحج التي ذكر الله: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الاشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء. وفي الدر المنثور أيضا أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمره إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشئ حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. وفي الدر المنثور أيضا أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجا حتى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالاحلال، قلنا أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا ؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيبا فقال: أ بالله تعلمون أيها الناس ؟ فأنا والله أعلمكم بالله

[ 88 ]

وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدى فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هديا فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه. وفي الدر المنثور أيضا أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عمر ان بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ أخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور. وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النسائي عن مطرف، قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي وإن مت فحدث بها عني إني قد سلم على وأعلم أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء. وفي صحيح الترمذي أيضا وزاد المعاد لابن القيم سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي صحيح الترمذي وسنن النسائي وسنن البيهقي وموطأ مالك وكتاب الام للشافعي عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن ابى وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالبطحاء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أهللت ؟ قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هل سقت من هدى ؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة

[ 89 ]

ثم حل فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأه من قومي فمشطتني رأسي وغسلت رأسي فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جائني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشئ فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فاتموا فلما قدم قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك ؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: وأتموا الحج والعمرة لله، وأن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر الهدى. وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء وإن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه اتم لحجكم وأتم لعمرتكم. وفي مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني المتعة ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحوا بهن حجاجا. وفي جمع الجوامع للسيوطي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهي عنها وذلك أن احدكم يأتي من افق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما والحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الاراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم. وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير ينهي عن المتعة وإبن عباس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس، فقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما إحديهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى اجل إلا

[ 90 ]

غيبته بالحجارة والاخرى متعة الحج. وفي سنن النسائي عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: والله إني لانهاكم عن المتعة وانها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني العمرة في الحج. وفي الدر المنثور اخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي عليه السلام: لقد علمت انا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ولكنا كنا خائفين. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابن ابي شيبة ومسلم عن ابي ذر كانت المتعة في الحج لاصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. وفي الدر المنثور أيضا أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج. اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهى ربما يبحث فيه من جهه كون ناهيه محقا أو معذورا فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب. وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب. فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله الآيه وان التمتع مما كان مختصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما امركم الله، فقد عرفت: ان قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله الآيه لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج والعمرة بعد فرضهما. والدليل عليه قوله تعالى: فإن أحصرتم (الخ)، واما كون الآيه دالة على الاتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، وأن عدم الفصل كان أمر خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، أو به وبمن معه في تلك الحجة (حجة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد. وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله: والله إني لانهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها

[ 91 ]

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واما الاستدلال عليه بأن في النهي اخذا بالكتاب أو السنة كما في رواية ابي موسى من قوله: ان نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: واتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدى انتهى، فقد عرفت ان الكتاب يدل على خلافه، واما ان ترك التمتع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه لم يحل حتى نحر الهدى ففيه: اولا: انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الاخر التي مر بعضها آنفا. وثانيا: ان الروايات ناصة على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها، وانه صلى الله عليه وآله وسلم اهل بالعمرة واهل ثانيا بالحج، وانه خطب وقال: أبا لله تعلمون ايها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية ان حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حج قران وان المتعة كانت تطلق على حج القران ! وثالثا: ان مجرد عدم حلق الراس حتى يبلغ الهدى محله ليس احراما للحج ولا يثبت به ذلك، والآيه ايضا تدل على ان سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة. ورابعا: هب ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتى بغير التمتع لكنه امر جميع اصحابه ومن معه بالتمتع، وكيف يمكن ان يعد ما شأنه هذا سنته ؟ وهل يمكن ان يتحقق امر خص به رسول الله نفسه ويأمر أمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس ؟ ! واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكني اخشى ان يعرسوا بهن تحت الاراك ثم يروحوا بهن حجاجا انتهى، وكما في بعض الروايات قد علمت ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله واصحابه ولكني كرهت ان يعرسوا بهن في الاراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم، والله ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه ! ومن أعجب

[ 92 ]

الامر أن الآيه التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما ؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه ! واعجب منه: ان الاصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية ! وامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام خطيبا ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا. واما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي عن سعيد بن المسيب من قوله: مع ان أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى. ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على ان الله سبحانه يرد عليه في نظير المسأله بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ان الله عليم حكيم) التوبة - 28. واما الاستدلال عليه بإن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي عليه السلام ولكنا كنا خائفين انتهى، وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه امر حتى يذهب ايام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث. ففيه: ان الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت ان الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون

[ 93 ]

قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية. على أن جميع الروايات ناصة في ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتى بحجه تمتعا، وانه أهل بإهلالين للعمرة والحج. واما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في روايتي الدر المنثور عن ابي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد انه كان حكما خاصا لاصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه انه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام الآية. على ان إنكار بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وابي موسى ومعاوية (وروي ان منهم ابا بكر) ينافي ذلك ! واما الاستدلال عليه بالولاية وانه إنما نهى عنه بحق ولايته الامر وقد فرض الله طاعة أولي الامر إذ قال (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم الآية) النساء - 54، ففيه ان الولاية التي جعلها القرآن لاهلها لا يشمل المورد. بيان ذلك: ان الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما انزله الله على رسوله كقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم) الاعراف - 3، وما بينه رسول الله مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) التوبه - 29، وقوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر - 7، فالمراد بالايتاء الامر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الاوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون) المائدة - 45، وفي موضع آخر (فاولئك هم الفاسقون) المائدة - 47، وفي موضع آخر (فاولئك هم الكافرون) المائدة - 44، وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الاحزاب - 36، وقال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص - 68 فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك، وقد نص القرآن على انه

[ 94 ]

كتاب غير منسوخ وان الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت - 42، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الامة، أولي الامر فمن دونهم. ومن هنا يظهر: ان قوله تعالى: (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) إنما يجعل لاولى الامر حق الطاعة في غير الاحكام فهم ومن دونهم من الامة سواء في انه يجب عليهم التحفظ لاحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة اولي الامر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الامة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة. فكما ان الواحد من الناس له ان يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الاكل له من مال نفسه، وله ان يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، وله ان يترافع إلى الحاكم إذا نازعه احد في ملكه، وله ان يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الاحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له ان يأخذ الربا، ولا له ان يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رأى صلاح نفسه في ذلك لان ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الامر له ان يتصرف في الامور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الاحكام الالهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الاسلام حينا، ويمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الانفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة. وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين ان يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الامر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة. ولو جاز لولي الامر ان يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعه إلى يوم القيمة

[ 95 ]

معنى البتة، فما الفرق بين ان يقول قائل: ان حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين ان يقول القائل: ان اباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم اهمالها، أو ان اجراء الحدود مما لا تهضمه الانسانية الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله ؟ ! وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور: اخرج اسحق بن راعويه في مسنده، واحمد عن الحسن: ان عمر بن الخطاب هم ان ينهي عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل عمر. * * * ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام - 204. وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد - 205. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد - 206. ومن الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد - 207. (بيان) تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما ان الآيات السابقة اعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا (الخ)، تشتمل على تقسيم لهم غير ان تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الايمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة. قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا (الخ) اعجبه الشئ

[ 96 ]

اي راقه وسره، وقوله: في الحياة الدنيا، متعلق بقوله: يعجبك، اي ان الاعجاب في الدنيا من جهة ان هذه الحياة نوع حياة لا تحكم الا على الظاهر، واما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الانسان وهو متعلق الحياة بالدنيا الا ان يستكشف شيئا من امر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، والمعنى انه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والامه وهو اشد الخصماء للحق خصومة، وقوله: الد، افعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألد الخصام اشد خصومة. قوله تعالى: وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها (الخ) التولي هو تملك الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالاثم، الدال على ان له عزة مكتسبة بالاثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو العمل والاسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأوتي سلطانا وتولى امر الناس سعى في الارض ليفسد فيها، ويمكن ان يكون التولي بمعنى الاعراض عن المخاطبة والمواجهة، اي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الارض لاجل الفساد والافساد. قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل، ظاهرة انه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها اي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولما كان قوام النوع الانساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: اما التوليد فظاهر، واما التغذي فانما يركن الانسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الاصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى انه يفسد في الارض بإفناء الانسان وابادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل. قوله تعالى: والله لا يحب الفساد، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون

[ 97 ]

والوجود (الفساد التكويني) فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد، ولا حياة إلا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، وحاشا ان يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه. وانما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله انما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به اعمال عباده فيصلح اخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الانسانية والجامعة البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه في قوله تعالى: كان الناس أمه واحدة. فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الارض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الاصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الاخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الانسانية، وفساد الدنيا، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم اكتاف هذه الامة الاسلامية، وتصرفهم في امر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين الا وبالا، وللمسلمين الا انحطاط، ا وللامة الا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولا الانسانية الا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الارض، وذلك بهلاك الدين اولا، وهلاك الانسانية ثانيا، ولهذا فسر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والانسانية كما سيأتي انشاء الله. قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله اخذتة العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد، العزة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر ان قوله: بالاثم متعلق بالعزة، والمعنى انه إذا أمر بتقوى الله اخذتة العزة الظاهرة التي اكتسبها بالاثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك ان العزة المطلقة انما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: (تعز من تشاء وتذل من تشاء) آل عمران - 26، وقال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) المنافقين - 8، وقال تعالى: (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) النساء - 139. وحاشا ان ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب اثما أو شرا فهذه العزة انما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الامر عزة بحسب ظاهر الحياه الدنيا

[ 98 ]

لا عزة حقيقية اعطاها الله سبحانه لصاحبها. ومن هنا يظهر ان قوله: بالاثم ليس متعلقا بقوله: اخذته، بأن يكون الباء للتعدية، والمعنى حملته العزة على الاثم ورد الامر بالتقوى، وتجيبه الآمر بما يسوئه من القول، أو يكون الباء للسببية، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الاثم الذي اكتسبه، وذلك ان اطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم امضائها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالاثم. واما قوله تعالى: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم اهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) ص - 2، فليس من قبيل التسمية والامضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم اهلكنا من قبلهم (الخ) فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا اصيلة. قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله (الخ)، مقابلته مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله (الخ) يفيد ان الوصف مقابل الوصف أي كما ان المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك، بيان ان هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالاصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والانسانية الا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ومن الناس من يشري نفسه (الخ)، بيان ان هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد الا ما اراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له الا بربه ولا ابتغاء له الا لمرضات الله تعالى، فيصلح به امر الدين والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الانسانية، ويدر به ضرع الاسلام، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر اعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) البقرة - 251، وقال تعالى:

[ 99 ]

(ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) الحج - 40، وقال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) الانعام - 89، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الارض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) التوبة - 111، إلى غير ذلك من الآيات.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335580

  • التاريخ : 28/03/2024 - 16:12

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net