00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يوسف من ( آية 1 ـ 45 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

12 - سورة يوسف

مكية في قول مجاهد، وقتادة، وهي مئة واحدى عشر آية بلاخلاف في ذلك.

الآية: 1 - 19

بسم الله الرحمن الرحيم

(آلر تلك آيات الكتاب المبين(1))

آية بلاخلاف.

لم يعدوا (الر) آية، لانه على حرفين، ولايشاكل رؤوس الآي، فيعد من الفواصل بالوجهين، لانه بالحرفين يجري مجرى الاسماء الناقصة، وإنما يؤم بالفواصل التمام، وانما يعد (طه) لانه يشبه رؤوس الآي. وقد بينا فيما تقدم اختلاف المفسرين في مبادئ السور بهذه الحروف(1). وقلنا أن أقوي الاقوال قول من قال إنها اسماء للسور، فلاوجه، لاعادة القول فيها.

قوله " تلك آيات " قال قوم: هو اشارة إلى ماتقدم من ذكره السورة في قول " الر " كأنه قال سورة يوسف " تلك آيات الكتاب المبين ". الثاني - انه اشارة إلى مايأتي من ذكرها على وجه التوقع لها.

___________________________________

(1) انظر 1 / 47 - 50، 2 / 388، 4 / 367، 5 / 381، 511.

[92]

وقال قوم: معناه هذه تلك الآيات التي وعدتم بها في التوراة، كما قال " الم ذلك الكتاب " المبين " معناه المظهر لحلال الله وحرامه والمعاني المرادة به، وهوقول مجاهد وقتادة، ويروي عن معاذ أنه قال (المبين) قال بين الحروف التي سقطت عن السن الاعاجم، وهي ستة يعني حروف الحلق. والبيان هو الدلالة.

وقال الرماني البيان: إظهار المعنى من الطريق التي من جنسه. والبرهان إنما هو إظهار صحة المعنى بمايشهد به، وإنما سميت (آيات) لمافيها من الدلالة القاطعة على صحة ماتضمنته الآية الدالة.

قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون(2))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى أنه انزل هذا الكتاب قرآنا عربيا لكي يعقلوا معانيه وأغراضه، وسماه (قرآنا) لما تضمن مجموع خبر يوسف وغير ذلك.

و (القرآن) كلام في أعلا طبقة البلاغة، ووجه بلاغة القرآن كونه في نهاية التلاؤم المنافي للتنافر في تأليف اللفظ والمعنى: مع تشاكل المقاطع في الفواصل بمايقتضيه المعنى ومع تصريف القول على احسن ماتصرف به المعنى.

والعقل مجموعة علوم يتمكن معها من الاستدلال بالشاهدين على الغائب، ويفصل به بين الحسن والقبيح. ثم يجري على كل مايعقله الانسان في نفسه من المعانى. وفي الآية دليل على ان كلام الله محدث، لانه وصفه بالانزال وبأنه عربي، ولا يوصف بذلك القديم. وفيه دلالة على أن القرآن غير الله، لانه وصفه بأنه عربي، ومن يزعم أن الله عربي، فقد كفر، وماكان غير الله فهو محدث.

[93]

والهاء في قوله " انا أنزلناه " كناية عن الكتاب الذي تقدم ذكره.

قال الزجاج: ويجوز ان يكون المعنى إنا انزلنا خبر يوسف، وقصته، لان علماء اليهود، قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم لم انتقل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصة يوسف، فانزل الله الآية ودليله قوله " لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين.

قوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(3))

آية بلاخلاف.

أخبر الله انه يقص على نبيه احسن القصص، و (القصص) يتعدى بحرف الجر في عليك لان معناه يتلو بعض الحديث بعضا، ولوقال: نخبرك، لتعدى بنفسه وقوله " أحسن القصص " يدل على ان الحسن يتفاضل ويتعاظم، لان لفظ أفعل حقيقتها ذلك، وانما يتعاظم بكثرة استحقاق المدح عليه.

وقوله " بماأوحينا اليك هذا القران " دخلت الباء في بما اوحينا، لتبيين أن القصص يكون قرآنا وغير قرآن، والقصص - ههنا - بالوحي: القرآن كأنه قال أوحينا اليك هذا القرآن، ونصب القرآن بايقاع الوحي عليه، وكان يجوز فيه الجر على البدل من (ما) والرفع على ان يكون جواب (ما) (هذا) في قول الزجاج، ولم يقرأ بغير النصب.

وقوله " وان كنت من قبله لمن الغافلين " بمعنى كنت يامحمد صلى الله عليه وسلم قبل وحينا اليك غافلا عن الاحكام التي ذكرناها في القرآن حتى أتيناك بها، ودللناك عليها، ولم تكن تهتدي اليها. وقيل معناه من الغافلين عن قصة يوسف وأخوته، حتى أخبرناك بها.

[94]

قوله تعالى: (إذ قال يوسف لابيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين(4))

آية بلاخلاف.

قرأ ابن عامر وابوجعفر " ياأبت " بفتح التاء في جميع القرآن. الباقون بكسر التاء، وابن كثير يقف بالهاء. الباقون يقفون بالتاء، وقرأ ابوجعفر أحدعشر وتسعة عشر بسكون العين فيها. الباقون بفتحها.

العامل في (إذ) أحد أمرين: احدهما - اذكر " اذقال يوسف ". والثاني - نقص عليك " اذقال " في قول الزجاج، ولايكون على هذا الوجه ظرفا للقصص في معنى نذكره، ويجوز في " ياأبت " ثلاثة أوجه من الاعراب: احدهما - الكسر على حذف ياء الاضافة.

الثاني - (ياأبت) بفتح التاء على حذف الالف المنقلبة عن ياء الاضافة، كأنه أراد ياأبتا، فحذف الالف كما تحذف الياء، فتبقى الفتحة دالة على الالف، كما ان الكسرة دالة على الياء، قال رؤبة: * ياأبتا علك أو عساكا(1) *. فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم ألزموه القلب، قال ابوعلي الفارسي: ويحتمل ان يكون مثل ياطلحة اقبل، ووجهه ان الاسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما ينادى مرخما، فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم وترك الامر يجري على ماكان يجري عليه في الترخيم من الفتح، فلم يعتد بالهاء، واقحامها كماقالوا: واجمعت اليمامة يريدون أهل اليمامة، قالوا: أجمعت أهل اليمامة، فلم يعتدوا برد اهل.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 9: 119 وصدره: * تقول بنتي قد انى اناكا *

[95]

الثالث - ياأبة بضم الهاء في قول الفراء ولم يجره الزجاج، قال: لان التاء عوض من ياء الاضافة.

قال الرماني هذا جائز لان العوض لايمنع من الحذف، والوقف يجوز على التاء، لان الاضافة مقدرة بعدها، وان قدر على حذف الالف لم يجز الوقف، الا بالتاء وان قدر على الاقحام جاز الوقف كقول النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل اقاسيه بطئ الكواكب(1)

وانما دخلت الهاء في (ياأبت) للعوض من ياء الاضافة اذ يكثر في النداء، مع لزوم معنى الاضافة، فكان أحق بالعلامة لهذه العلة.

وقال أبوعلي: إنما وقف ابن كثير بالهاء، فقال ياأبة، لان التاء التي للتأنيث تبدل منها الهاء في الوقف، ولم يجز على تقدير الاضافة، لانه اذا وقف عليها سكنت للوقف واذا سكنت كانت بمنزلة مالايراد به الاضافة فأبدل منها الهاء كما إذا قال ياطلحة أقبل بفتح التاء، واذا وقف عليها أبدل الهاء ياء.

وإنما - أعاد ذكر " رأيتهم " لامرين: احدهما - للتوكيد حيث طال الكلام. الثاني - ليدل انه رآهم ورأى سجودهم، وفي معنى سجودهم قولان: احدهما - هوالسجود المعروف على الحقيقة تكرمة له لاعبادة له. الثاني - الخضوع - في قول ابي علي - كماقال الشاعر: ترى الا كم فيه سجدا للحوافر(2) وهو ترك للظاهر، وقال الحسن: الاحد عشر اخوته، والشمس والقمر أبواه، وانما قال ساجدين بالياء والنون، وهو جمع مالايعقل، لانه لما وصفها بفعل مايعقل من السجود أجرى عليها صفات مايعقل، كماقال " ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم "(3) لما أمروا امر من يعقل.

___________________________________

(1) مرتخريجه في 5: 368.

(2) مر هذا الشعر في 1: 148، 263، 311، 4: 233، 383.

(3) سورة النمل آية 18.

[96]

و (كوكبا) منصوب على التمييز و (أحد عشر) الاسمان جعلا اسما واحدا، وكذلك إلى تسعة عشر، واللغة الجيدة عند البصريين فتح العين، وحكي سكون العين، وحكى الزجاج احدى عشر وهي لغة ردية.

قوله تعالى: (قال يابني لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين(5))

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي الا أبا الحارث وقتيبة، والعبسي، وابن اليزيدي بامالة " رؤياك " والرؤيا في جميع القرآن، وروى ابوالحارث فتح " رؤياك " وامالة الباقي.

وقرأ قتيبة امالة " الرؤيا " ونصب " رؤياك ".

وقرأ خلف في اختياره بامالة مافيه ألف ولام.

الباقون بالتفخيم.

وخفف الهمزة في جميع ذلك أبوجعفر، وورش، والسموني، وشجاع والترمذي في الادراج، إلا ان أباجعفر يدغم الواو في الياء فتصير ياء مشددة، قال ابوعلي النحوي (الرؤيا) مصدر كالبشرى والسقيا والبقيا والشورى إلا انه لماصار اسما لهذا التخيل في المنام جرى مجرى الاسماء، كما أن (در) لماكثر في كلامهم في قولهم لله درك جرى مجرى الاسماء، وخرج من حكم الاعمال: فلا يعمل واحد منهما اعمال المصدر، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها (دري) فصادر بمنزلة (ظلم) والمصادر في الاكثر لاتكسر، والرؤيا على تحقيق الهمزة، فان حذفت قلبتها في اللفظ واوا ولم يدغم الواو في الياء، لان الواو في تقدير الهمزة فهي لذلك غير لازمة، فلايقع الاعتداد بها فلم تدغم، وقد كسر اولها قوم فقالوا (ريا) فهؤلاء قلبوا الواو قلبا لاعلى وجه التخفيف، ومن ثم كسروا الفاء، كما كسروا من قولهم: قرن لوى وقرون لي.

[97]

في هذه الآية حكاية ماأجاب به يعقوب يوسف حين قص عليه رؤياه ومنامه، فقال له " يابني لاتقصص رؤياك على أخوتك " أي لا تخبرهم بها فانك إن أخبرتهم بذلك حسدوك وكادوك واحتالوا عليك، وانماقال ذلك لعلمه بأن تأويل الرؤيا أنهم يخضعون له.

وقوله " يابني " فيه ثلاث ياآت، الياء الاصلية، وياء الاضافة، وياء التصغير. وحذفت ياء الاضافة اجتزاء بالكسرة وادغمت احدى اليائين في الاخرى. وفتح الياء وكسرها لغتان. وانما صغر (بني) مع عظم منزلته، لانه قصد بذلك صغر السن، ولم يقصد به تصغير الذم.

والرؤيا تصور المعنى في المنام على توهم الابصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم، فاذا تصور الانسان المعنى توهم أنه يراه.

والاخ المساوي في الولادة من أب او أم أو منهما، ويجمع أخوة وآخاء.

والكيد طلب الغيظ بأذى الطالب لغيره كاده يكيد كيدا، فهو كائد.

وقوله " ان الشيطان للانسان عدو مبين " اخبا رمنه تعالى بأن الشيطان معاد للانسان، ويلقى العداوة بينهم، واللام في قوله (لك كيدا) لام التعدية، كما يقال قدمت له طعاما، وقدمت اليه طعاما.

وقال قوم: هو مثل قولهم شكرته وشكرت له، لانه يقال كاده يكيده، وكادله.

وحكى الكسائي أن قوما يقولون: (الريا) بكسر الراء وتشديد الياء فيقلبون الهمزة واوا ويدعمون الواو في الياء.

و (رؤيا) فيها أربع لغات بضم الراء مع الهمزة وبالواو بلا همزة. وقد قرئ بهما، وبضم الراء والادغام. وبكسر الراء، ولايقرأ بهاتين.

[98]

قوله تعالى: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم(6))

آية بلاخلاف.

هذه حكاية ماقال يعقوب لابنه يوسف (ع) وقوله له ان الله يجتبيك، ويختارك، ويصطفيك ويكرمك بذلك، كما أكرمك بأن اراك في منامك هذه الرؤيا، فوجه التشبيه وهو اعطاء الرؤيا باعطاء الاجتباء مع ما انضاف اليه من الصفات الكريمة المحمودة التي ذكرها.

والاجتباء إختيار معالي الامور للمجتبى مثل مااختاره الله تعالى ليوسف من الخصال الكريمة والامور السنية، وقال الحسن: اجتباه الله بالنبوة، وبشره بذلك.

وأصله من جبيت الشئ اذا اخلصته لنفسك، ومنه جبيت الماء في الحوض.

وموضع الكاف من و (كذلك) نصب، والمعنى مثل مارأيت تأويله يجتبيك ربك.

" ويعلمك من تأويل الاحاديث " معناه أنه تعالى يعرفك عبارة الرؤيا في قول قتادة، ومجاهد - وذلك تأويل أحاديث الناس عما يرونه في منامهم، وقيل كان أعبر الناس للرؤيا، ذكره ابن زيد.

وقال الزجاج، والجبائي: معناه يعلمك تأويل الاحاديث في آيات الله تعالى ودلائلة على توحيده، وغير ذلك من أمور دينه.

والتأويل في الاصل هو المنتهى الذي يؤل اليه المعنى. وتأويل الحديث فقهه الذي هو حكمه، لانه اظهار مايؤل اليه أمره مما يعتمد عليه وفائدته.

وقوله " ويتم نعمته عليك " فاتمام النعمة هو أن يحكم بداومها على اخلاصها من شائب بها فهذه النعمة التامة بخلوصها مما ينغصها، ولاتطلب الا من الله تعالى لانه لايقدر عليها سواه.

وقوله " كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحاق " اخبار من يعقوب ليوسف أن الله تعالى يديم عليه هذه النعمة، كما أدامها على أبويه قبله: ابرهيم وإسحق، واصطفائه إياهما وجعله لهما نبيين رسولين إلى خلقه.

[99]

ثم أخبر مع ذلك أن الله تعالى عليم بمن يصلح أن يجتبى، حكيم في اجتبائه من يجتبيه واضع للشئ في موضعه، وفي غير ذلك من افعاله.

قال الفراء: قوله " وكذلك يجتبيك ربك " جواب لقوله إني رأيت أحد عشر كوكبا، فقيل له، وهكذا يجتبيك ربك (فكذلك، وهكذا) سواء في المعنى، وقال ابن اسحاق إنما قص الله تعالى قصة يوسف علي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليعلمه أنه بغى عليه أخوته وحسدوه، فيسليه بذلك من بغي قومه عليه وحسدهم اياه.

قوله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين(7))

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير وحده " آية للسائلين " على التوحيد الباقون " آيات " على الجمع.

قال أبوعلي النحوي من أفرد جعل شأنه كله آية.

ويقوي ذلك قوله " وجعلنا ابن مريم وامه آية "(1) فأفرد، وكل واحد منهما على انفراده يجوز أن يقال آية، فافرد مع ذلك، ومن جمع جعل كل واحد من احواله آية، ومن جمع على ذلك على أن المفرد المنكر في الايجاب يقع دالا على الكثرة كمايكون ذلك في غير الايجاب قال الشاعر:

فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم *** جزاء العطاش لاينام من الثار(2)

اللام في قوله " لقد " هي اللام التي يتلقى بها القسم.

أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه كان في يوسف وفي اخوته آيات. والآية الدلالة على ماكان من الامور العظيمة. والآية والعلامة والعبرة نظائر في اللغة.

وقال الرماني: الفرق بين الآية والحجة: أن الحجة معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى.

___________________________________

(1) سورة المؤمنون آية 51.

(2) مجمع البيان 3: 210

[100]

والآية تكشف عن المعنى الذي فيه أعجوبة.

ووجه الآية في يوسف واخوته أنهم نالوه للحسد بالاذى مع أنهم أولاد الانبياء: يعقوب واسحاق وابراهيم، فصفح وعفا، وأحسن ورجع إلى الاولى، وكان ذلك خروجاعن العادات.

وقال الزجاج: معناه بصيرة للذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فانبأهم بقصة يوسف - وهو صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كتابا، ولم يعلمه إلا من جهة الوحي - جوابا لهم حين سألوه.

وفي يوسف لغتان ضم السين وكسرها، وكذلك يونس بضم النون، وكسرها، والقراء على الضم فيهما، وحكى قطرب فتح النون في يونس وهي شاذة.

قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين(8))

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير ونافع والكسائي " مبين اقتلوا " بضم التنوين. الباقون بكسره.

قال أبوعلي: من ضم التنوين اتبع حركة التنوين ضمة الهمزة بعده، لان تحريكه ملزم لالتقاء الساكنين، كماقالوا مذ به وفي ظلمات فاتبعوا الضمة وكذلك " مبين اقتلوا " " وقالت اخرج "، ومن كسر لم يتبع، وكسر على أصل الحركة لالتقاء الساكنين في الامر الاكثر.

والعامل في (اذا) اذكر، وتقديره اذكر إذ قالوا ليوسف.

ويحتمل أن يكون العامل فيه ما في الآية الاولى من قوله " لقد كان في يوسف وأخوته آيات للسائلين.

إذ قالوا ليوسف ".

وفي الآية اخبار عما قالت أخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف وتأويل يعقوب إياه.

وقولهم: ان يوسف وأخاه لابيه وأمه، وهو ابن يامين " احب إلى أبينا " يعقوب " منا " مع انا عصبه أي جماعة، والحب ضد البغض، والحب

[101]

- بفتح الحاء - سمي به، لانه مما يحب، والحب بكسر الحاء - المفرط لما فيه من الحب، والاحباب ان يبرك البعير فلايثور، لانه يحب البروك والمحبة، على ضربين: احدهما - المحبة التي هي ميل الطباع. والثاني - ارادة المنافع.

والفرق بين المحبة والشهوة أن الانسان يحب الولد، ولا يشتهيه بأن يميل طبعه اليه ويرق عليه ويريد له الخير.

والشهوة منازعة النفس إلى مافيه اللذة.

والعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، وقولهم " ونحن عصبة " أي جماعة يعين بعضها البعض، وكانوا عشرة.

والعصبة يقع على الجماعة من عشرة إلى خمسة عشر، ولاواحد له من لفظه، كالرهط والقوم والنفر.

وقوله " ان ابانا لفي ضلال مبين " معناه الاخبار عن قولهم ان ابانا في ذهاب عن طريق الحق والصواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة.

وقيل: انهم أرادوا انه غلط في تدبير أمر الدنيا إذ كانوا انفع له من يوسف وأخيه من أمه وأبيه إذ كانوا يقومون بأمواله ومواشيه، ولم يريدوا الضلال في الدين، لانهم لو أرادوا ذلك، لكانوا كفارا، وذلك خلاف الاجماع.

واكثر المفسرين على ان اخوة يوسف كانوا انبياء، وقال قوم: لم يكونوا كذلك، وهو مذهبنا، لان الانبياء، لايجوز ان تقع منهم القبائح، وخاصة ما فعلوه مع أخيهم يوسف من طرحه في الجب، وبيعهم إياه بالثمن البخس، وادخالهم الغم به على أبيهم يعقوب، وكل ذلك يبين أنهم لم يكونوا أنبياء.

وقال البلخي: ذهب قوم إلى أنهم لم يكونوا في تلك الحال بلغوا الحلم، وقد يقع مثل ذلك ممن قارب البلوغ، وان لم يبلغ، ويعاتب عليه ويذم، ويضرب على فعله.

ومن قال: كانوا بالغين غير انهم لم يكونوا انبياء استدل على بلوغهم بقوله " وتكونوا من بعده قوما صالحين "، وقولهم " ياابانا استغفر لنا ذنوبنا " وقال الانبياء الاسباط من بني يعقوب غير هؤلاء.

[102]

قوله تعالى: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين(9))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى عن اخوة يوسف انهم قال بعضهم لبعض " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين " ومعناه اطرحوه في أرض تأكله السباع او يهلك بغير ذلك من الامور.

وقيل: معناه اطرحوه في أرض يبعد عن أبيه، ولايقدر عليه.

وقوله " يخل لكم وجه أبيكم " جواب الامر في قوله " اقتلوا يوسف " ولايجوز فيه غير الجزم، لانه ليس فيه ضمير، والمعنى انكم متى قتلتموه او طرحتموه في أرض اخرى خلا لكم أبوكم وحن عليكم " وتكونوا من بعده قوما صالحين " معناه إنكم اذا فعلتم ذلك وبلغتم أغراضكم تبتم مما فعلتموه، وكنتم من جملة الصالحين الذين يفعلون الخيرات، فيكفر عنكم عقاب ما فعلتموه.

وقال الحسن: معناه تكونوا قوما صالحين في أمر دنياكم، ولم يريدوا أمر الدين.

قوله تعالى: (قال قائل منهم لاتقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين(10))

آية بلاخلاف.

قرأ نافع وابوجعفر، " غيابات " على الجمع. الباقون " غيابة " على التوحيد، وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء، كماقالوا ذهبت بعض اصابعه، قال ابوعلي: وجه قول من أفرد، أن الجب لا يخلوا ان يكون له غيابة واحدة او غيابات، فغيابة المفرد يجوز ان يعنى به الجمع، كما يعنى به الواحد، ووجه قول من جمع: انه يجوز ان يكون له غيابة واحدة، فجعل كل جزء منه غيابة، فجمع على ذلك، كقولهم

[103]

شابت مفارقة، ويجوز ان يكون عنده للجب غيابات، فجمع على ذلك.

اخبر الله تعالى في هذه الآية عن واحد من جملة القوم أنه قال على وجه المشورة عليهم " لاتقتلوا يوسف " ولكن اطرحوه في جب عميق قليل الماء.

وقيل إنه كان اسم القائل لذلك (روبيل) وكان ابن خالة يوسف - في قول قتادة وابن اسحاق - وقال الزجاج: كان يهوذا، والغيابة الموضع الذي يغيب فيه صاحبه وغيابة البئر شبه الجاف او طاف فوق الماء وضعوه فيها.

وكلما غيب شئ عن الحس بكونه، فهو غيابة.

وقال الحسن يعني في قعر الجب قال المنخل:

فان انا يوم غيبتني غيابتي *** فسيروا بسيري في العشيرة والاهل(1)

والجب البئر التي لم تطو، لانه قطع عنها ترابها حتى طغى الماء من غير طي، ومنه المجبوب قال الاعشى:

لئن كنت في جب ثمانين قامة *** ورقيت أسباب السماء بسلم(2)

و (السيارة) الجماعة المسافرون، لانهم يسيرون في البلاد.

وقيل: هم مارة الطريق.

و (الالتقاط) تناول الشئ من الطريق، ومنه اللقطة واللقيطة.

وقيل: انهم أشاروا عليه بأن يقعد في دلو المدلي إذا استسقى ليخرجه من البئر ففعل.

ومعنى التقاطه أن يجدوه من غير ان يحسبوه، يقال وردت الماء التقاطا إذا وردته من غير ان تحسبه.

قوله تعالى: (قالوا ياأبانا مالك لاتأمنا على يوسف وإنا له لناصحون(11))

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) الشاعر هو المنخل بن نسيع العنبري. تفسير القرطبي 9 / 132 والتاج (غيب) ومجاز القرآن 1 / 302(2) ديوان (دار بيروت) 182 والصبح المنير 84 ومجاز القرآن 1 / 2. 3 وتفسير القرطبي 9 / 132 والكتاب لسيبويه 1 / 231.

[104]

كلهم قرأ " تامنا " بفتح الميم وادغام النون الاولى في الثانية، والاشارة إلى اعراب النون المدغمة بالضم اتفاقا، قال ابوعلي وجه ذلك ان الحرف المدغم بمنزلة الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون، فمن حيث اشموا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعا في الادراج اشموا النون المدغمة في (تامنا) وليس ذلك بصوت خارج إلى اللفظ، وانما هي هيئة العضو لاخراج ذلك الصوت به ليعلم بذلك أنه يريد ذلك المتهيأ له.

حكى الله تعالى عن أخوة يوسف لما تآمروا على مايفعلونه بيوسف أنهم، قالوا لابيهم لم " لاتأمنا على يوسف " قال الزجاج: يجوز في (تأمنا) أربعة أوجه: تأمننا بالاظهار ورفع النون الاولى، لان النونين من كلمة، و " تأمنا " بالادغام وهي قراء‌ة القراء لالتقاء المثلين، و (تأمنا) بالادغام والاشمام، وهو الذي حكاه ابن مجاهد عن الفراء، للاشعار بالضمة، و (تئمنا) بكسر التاء وهي قراء‌ة يحيى ابن وثاب، لان ماضيه فعل، كماقالوا تعلم ونعلم إلا ان القراء‌ة بالادغام والاشمام. والامن سكون النفس إلى إنتفاء الشر، وضده الخوف، وهو انزعاج النفس لما يتوقع من الضر.

وقوله " واناله لناصحون " تمام الحكاية عنهم أنهم قالوا إنا ليوسف لنا صحون مشفقون عليه. والنصح إخلاص العمل من فساد يتعمد. ونقيضه الغش.

والنصح في التوبة اخلاصها مما يفسدها.

وذلك واجب فيها وهي التوبة النصوح.

قوله تعالى: (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون(12))

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبوعمرو " نرتع ونلعب " بالنون فيهما.

وكسر العين من " يرتع " من غير بلوغ إلى الياء أهل الحجاز، إلا المالكي.

والعطار عن الزبيبي اثبات (ياء) في الوصل، والوقف بعد العين. الباقون بسكون العين، ولم

[105]

يختلفوافي سكون الباء من ويلعب، وقرأ نافع يرتع، ويلعب بالياء فيهما، وكسر العين.

وقرأ أهل الكوفة بالياء فيهما، وجزم العين والباء.

قال ابوعلي: قراء‌ة ابن كثير حسنة، لانه جعل الارتعاء القيام على المال لمن بلغ وجاوز الصغر، واسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولالوم على الصغير في اللعب، ولاذم. والدليل على صغر يوسف قول أخوته " واناله لحافظون " ولوكان كبيرا ما احتاج إلى حفظهم.

وايضا قال يعقوب أخاف ان يأكله الذئب، ولولم يكن صغيرا ماخاف عليه، وانما يخاف الذئب على من لادفاع فيه، ولاممانعة له: من شيخ، فان اوصبي صغير قال الشاعر:

اصبحت لا أحمل السلاح ولا *** املك رأس البعير ان نفرا

والذئب اخشاه ان مررت به *** وحدي واخشى الرياح والمطرا(1)

فأما اللعب فمما لاينبغي ان ينسب إلى اهل النسك والصلاح، ألا ترى إلى قوله: " أجئتنا بالحق ام انت من اللاعبين "(2) فقوبل اللعب بالحق فدل على انه خلافه، وقال " ولئن سألتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب "(3) وقال " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا " فأما الارتعاء فهو افتعال من رعيت مثل سويت واستويت وكل واحد منهما متعد إلى مفعول به، قال الشاعر:

ترتعي السفح فالكثيب فذا قا *** رفروض القطا فذات الرئال(4)

وقال ابوعبيدة: ويجوز ان يقال نرتع ويراد ترتع إبلهم ووجه ذلك انه كان الاصل ترتع إبلنا ثم حذف المضاف وأسند الفعل إلى المتكلمين، فصار نرتع وكذلك نرتعي على ترتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون نرتعي.

وقال أبو عبيدة: نرتع نلهو، وقد تكون هذه الكلمة على غير معنى النيل من الشئ كقولهم في المثل العبد والرتعة، فكان على هذا النيل والتناول مما يحتاج اليه الحيوان.

___________________________________

(1) قائله الربيع بن ضبيع الفزاري. سيبويه 1: 46 ومجمع البيان 3: 214.

(2) سورة الانبياء آية 55،.

(3) سورة التوبة 9 آية 65.

(4) قائله الاعشى، ديوان: 163 واللسان (سفح)، (رأل).

[106]

واما قراء‌ة ابي عمرو، وابن عامر، فعلى أن معناه نرتع أبلنا، او على اننا ننال مانحتاج اليه ومعناه ننال.

فأما قوله " ونلعب " فحكي ان ابا عمرو قيل له كيف يقولون نلعب، وهم انبياء؟ فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء، فعلى هذا سقط الاعتراض ولايجوز ان يكون المراد به مثل ماقال الشاعر.

حدت حداد تلاعب وتقشعت *** غمرات قالت ليسه حيران(1)

فكان اللعب ههنا الذي لم يتشمر في امره، فدخله بعض الهوينا، فهذا أسهل من الوجه الذي قوبل بالحق، وقدروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لجابر: (فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك) وانما اراد بذلك التشاغل بالمباح والعمل بما يتقوى به على العبادة والطاعة.

وقد روي عن بعض السلف انه كان اذا اكثر النظر في مسائل الفقه قال احمضونا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ان هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق فان المبتت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. فليس هذا اللعب من الذين " قال انما كنا نخوض ونلعب " في شئ.

ومن قرأ بالياء فإن كان يرتع من اللهو، كما فسره ابوعبيدة، فلا يمتنع ان يخبر به عن يوسف لصغره، كما لايمتنع ان ينسب اليه اللعب كذلك إن كان " يرتع " من النيل من الشئ، فلذلك ايضا لايمتنع عليه ايضا، فوجهها بين، وهو أبين من قول من قال " ونلعب " بالنون، لانهم سألوا ارساله ليتنفس بلعبه، ولم يسألوا ارساله ليلعبواهم.

والرتع الاتساع في البلاد بالذهاب في جهاتها من اليمين والشمال، فلان يرتع في المال وغيره من ضروب الملاذ، واصل الرتعة التصرف في الشهوات رتع فلان في ماله اذا انفق في شهواته قال القطامي:

أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعد عطائك المائة الرتاعا(2)

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 214 وروايته:

جدت جداد بلاعب وتقشعت *** عمرات قالت ليسه حيران

(2) مر في 1 / 26 وتفسير الطبري (دار المعارف) 15: 569، والطبعة الاولى 12 / 88.

[107]

وقال مجاهد معنى " نرتع " يحفظ بعضنا بعضا من الرعاية.

واللعب يحتمل مايستهجن ويستر ذل لطلب الفرح من غير مراعاة شئ من الحلم كفعل الصبي اذا قصد هذا القصد.

أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف انهم قالوا لابيهم ارسل يوسف معنا ينال الملاذ ويتفرح، ونحن حافظون له ومراعون لاحواله فلا تخشى عليه.

قوله تعالى: (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون(13))

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي وخلف في اختياره، وابوجعفر ووررش والاعشى واليزيدي في الادراج إلا سجادة، ومدين من طريق عبدالسلام " الذيب " بتخفيف الهمزة في المواضع الثلاثة. الباقون بالهمزة.

والهمز وترك الهمز لغتان مشهورتان قال ابوعلي: والاصل فيه الهمزة، فان خفف جاز، وان وقع في مكان الردف قلب قلبا كما قال الشاعر: كأن مكان الردف منه على رال(1) فقلب الهمزة الفا.

أخبر الله تعالى حكاية عن يعقوب انه قال حين طلب اخوة يوسف انفاذ يوسف معهم، واحتيالهم في ذلك. واشفق من ذلك، قال " اني ليحزنني " اي يؤلم قلبي.

يقال حزنتك وأحزنتك لغتان، والحزن ألم القلب بفراق المحب ويعظم اذا كان فراقه إلى مايبغض " أن تذهبوا به " اي ليحزنني اذهابكم به، والذهاب

___________________________________

(1) قائله امرؤ القيس، ديوانه: 165 وامالي الشريف المرتضى 1: 229 وصدره: وصم صلاب مايقين من الوجى وهو يصف حوافر الفرس بانها (صم) اي صلبة (لايقين) ليس فيها تجويف (من الوجى) وهو الخفاء. و (مكان الردف) الموضع الذي يردف عليه الراكب. و (الرال) فرخ الغزال.

[108]

والمرور والانطلاق نظائر وبين انه يخاف عليه الذئب ان يأكله لان الذئاب كانت ضارية في ذلك الوقت.

والذئب سبع معروف، واشتقاقه من تذاء‌ب الريح اذاجاء‌ت من كل جهة، فالذئب يختل بالحيلة من كل وجه وقوله " وانتم عنه غافلون " جملة في موضع الحال وتقديره اخاف ان يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه، والخوف والفزع والقلق نظائر ونقيضه الامن.

قوله تعالى: (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون(14))

آية بلاخلاف.

لما قال لهم يعقوب ماذكره في الآية الاولى، قالوا في الجواب عن ذلك " لئن اكله الذئب ونحن جماعة متعاضدون متناصرون نرى الذئب قد قصده، فلا نمنع عنه " انا اذا لخاسرون " أي بمنزلة الخاسر الذي ذهب رأس ماله على رغم منه، والخسران ذهاب رأس المال، والربح زيادة على رأس المال.

واللام في قوله " لئن " هي التي يتلقى بها القسم، فكأنهم أقسموا على ماقالوه. وأعظم الخسران مايذهب بالثواب، ويؤدي إلى العقاب، فلذلك أقسموا عليه، وقال المؤرج: معناه إنا اذا لمضيعون بلغة قيس عيلان.

قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لايشعرون(15))

آية بلاخلاف.

[109]

حكى الله تعالى انه لما أذن يعقوب ليوسف في المضي معهم، وذهبوابه " وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب " اي عزموا على فعل ذلك، ولايقال: أجمع الا اذا قويت الدواعي إلى الفعل من غير صارف وأما من دعاه داع واحد، فلا يقال فيه أنه أجمع، فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي، ويجوز ان يكون المراد انهم اتفقوا على إلقائه في غيابة الجب، والجعل والتصيير والعمل نظائر في اللغة.

والغيابة البقعة التي يغيب فيها الشئ عن الحس. وقيل طلبوا بئرا قليلة الماء تغيبه ولاتغرقه. وقيل بل جعلوه في جانب جبها، وسمى البئر التي لم تطو جبا لانه جب ترابها عنها فقط، كأنه ليس فيها إلا قطع التراب.

وجواب (لما) محذوف وتقديره عظمت فتنتهم أوكبر ماقصدوا له.

وقال قوم: الواو في وأجمعوا مقحمة.

والمعنى أجمعوا أن يجعلوه وهومذهب الكوفيين، وأنشدوا قول أمرئ القيس:

فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى *** بنابطن خبت ذي قفاف وعقنقل(1)

يريد، فلما اجزنا ساحة الحي انتحى، وقال آخر:

حتى اذا قملت بطونكم *** ورأيتم ابناء‌كم شبوا

وقلبتم ظهر المجن لنا *** ان اللئيم العاجز الخب(2)

يريد قلبتم، فادخل الواو. والبصريون لايجيزونه.

وقوله " واوحينا اليه " يعني إلى يوسف، قال الحسن أعطاه الله النبوة، وهو في الجب " لتنبئنهم بأمرهم هذا " معناه ستخبرهم بذلك في المستقبل و " هم لايشعرون " قال ابن عباس والحسن وابن جريج لايشعرن بأنه يوسف.

وقال مجاهد وقتادة: لايشعرون بأنه اوحي اليه. والشعور ادراك الشئ بمثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن.

___________________________________

(1) ديوانه: 149 من معلقته الشهيرة وتفسير الطبري 15: 575 وفي المعلقات العشر (حقاف) بدل (قفاف) وقال وروي (حقف ذي ركام).

(2) انظر 3: 19 تعليقة 4.

[110]

وقال قوم: معنى قوله " لتنبئنهم بأمرهم " لتجازينهم على فعلهم، تقول العرب للرجل: تتوعده بمجازاة سوء فعله: لانبئنك، ولاعرفنك، يعني لاجازينك.

قوله تعالى: (وجاؤا أباهم عشاء يبكون(16) قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وماأنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين(17))

آيتان بلاخلاف.

في الكلام حذف، لان التقدير إنهم أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب، وفعلوا ذلك، فلما فعلوه جاؤوا حينئذ " أباهم عشاء يبكون " والمجئ والمصير إلى الشئ واحد، وقد يكون المصير بالانقلاب، كمصير الطين خزفا، وقد يكون بمعنى الانتقال.

والعشاء آخر النهار. ونصبه لانه من ظروف الزمان.

ومنه اشتق (الاعشى) لانه يستضئ ببصر ضعيف.

والبكاء جريان الدمع من العين عند حال الحزن، فكانوا يعلمون أن اباهم يحزن لما جاؤا من خبر يوسف، فبكوا مع بكائه عليه، وفي حال خبره لما تصوروا تلك الحال.

وقيل: إنهم أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون فيما قالوه.

وقوله " إنا ذهبنا نستبق " قيل في معناه قولان: احدهما - قال الزجاج: ذهبنا نتنصل مشتق من السباق في الرمي.

وقال الجبائي: نستبق في العدو لنعلم اينا أسرع عدوا " وتركنا يوسف عند متاعنا " يعني تركناه عند الرحل ليحفظه.

وقوله " وماأنت بمؤمن لنا " أي لست بمصدق لنا " ولو كنا صادقين " وجواب (لو) محذوف، وتقديره: ولوكنا صادقين ماصدقتنا، لاتهامك لنافي أمر يوسف، ودل الكلام عليه. ولم يصفوه بأنه لايصدق الصادق، لان المعنى

[111]

انه لايصدقهم إتهاما لهم لشدة محبته ليوسف يسئ الظن بهم، ولاتسكن نفسه إلى خبرهم.

قوله تعالى: (وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون(18))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى عن أخوة يوسف انهم جاؤا أباهم، ومعهم قميص يوسف ملطخ بدم.

وقالوا له هذا دم يوسف حين أكله الذئب.

وقال ابن عباس ومجاهد كان دم سخلة، قال الحسن: لما رأى يعقوب القميص صحيحا، قال: يابني والله ما عهدت الذئب عليما.

قال عامر الشعبي: كان في قميص يوسف ثلاث آيات: احدها - حين ألقي على وجه أبيه، فارتد بصيرا، وحين قد من دبر، وحين جاؤا على قميصه بدم كذب.

ومعنى (كذب) مكذوب فيه، كماقيل الليلة الهلال فيرفع، وكماقال " فما ربحت تجارتهم "(1) أي ماربحوا في تجارتهم إلا انه وصف في المصدر، وتقديره بدم ذي كذب، لكن إذا بولغ في الصفة اجري على هذه الصفة، وقال الفراء يجوز ان يكون المصدر وقع موقع مفعول، كمايقع مفعول موقع المصدر في مثل قول الراعي القطامي:

حتى اذا لم يتركوا لعظامه *** لحما ولا لفؤاده معقولا(2)

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 16.

(2) تفسير الطبري 15: 583، وجمهرة اشعار العرب: 175 ومجاز القرآن 1: 303 وامالي الشريف المرتضى 1: 106.

[112]

ولايجيزه سيبويه، ويقول مفعول لايكون مصدرا، ويتأول قولهم: خذ ميسوره، ودع معسوره أي خذ مايسر ودع ماعسر عليه، وكذلك: ليس لفؤاده معقولا أي مايعقل به.

وقوله " قال بل سولت لكم انفسكم امرا " حكاية ماقال يعقوب لهم.

والتسويل تزيين النفس ماليس بحسن - في قول قتادة - وقيل معناه تقرير معنى في النفس على الطبع في تمامه، وهو تقدير معنى في النفس على توهم تمامه.

وقوله " فصبر جميل " فالصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه على ما يدعو إليه العقل، ويحتمل رفع الصبر أمرين: احدهما - ان يكون خبر ابتداء وتقديره فأمري صبر جميل. الثاني - ان يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره فصبر جميل أولى من الجزع الذي لاينبغي لي، قال الشاعر:

يشكوا الي جملي طول السرى صبر جميل فكلانا مبتلى(1)

ولو نصب لجاز، ولكن الاحسن الرفع، لانه موصوف.

وقوله " والله المستعان على ماتصفون " حكاية ماقال يعقوب عند ذلك، بأن الله تعالى هو الذي يطلب منه المعونة على ماذكروه، وتقديره استعين بالله على احتمال ما تصفونه، وعلى الصبر كله.

قوله تعالى: (وجاء‌ت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون(19))

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) امالي الشريف المرتضي 1: 107، وروايته:

شكاالي جملي طول السرى *** ياجملي ليس الي المشتكى

الدرهمان كلفان ماترى *** صبر جميل فكلانا مبتلى

[113]

قرأ أهل الكوفة " يابشري " بغير الف.

الباقون بالالف والياء، وكان يجوز أن يقرأ بياء مشددة " بشري " وهي لغة هذيل غير انه لم يقرأ به احد، قال أبوذؤيب:

سبقوا هوي واعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل جنب مصرع(1)

قال ابوعلي: من قرأ (يابشراي) فاضافه إلى الياء التى للمتكلم، كأن للالف التي هي حرف الاعراب موضعان من الاعراب: احدهما - ان تكون في موضع نصب لانه منادى مضاف. والآخر - ان تكون في موضع كسر، لانه بمنزلة حرف الاعراب في غلامي.

ومن قرأ " يابشرى " احتمل وجهين: احدهما - ان يكون في موضع ضم مثل يارجل بالنداء لاختصاصه كاختصاص الرجل. والآخر - ان يكون في موضع النصب لانك اشعت النداء ولم تخص به، كما فعلت في الوجه الاول كقوله " ياحسرتا على العباد "(2).

اخبر الله تعالى أنه حين ألقى أخوة يوسف يوسف في غيابة الجب جاء‌ت سيارة، وهم جماعة مسافرون مارة فبعثوا واردهم، وهوالذي يصير إلى الماء ليستسقي منه " فأدلى دلوه " يعني أرسل دلوه ليملا، يقال ادليت الدلو إذا ارسلتها لتملا، ودلوتها إذا اخرجتها مملاة، وقيل انه لماارسل الدلو تعلق بها يوسف، فقال المدلي " يابشراي " هذاغلام، في قول قتادة والسدي.

___________________________________

(1) ديوانه 1: 2 وامالي الشريف المرتضي 1: 293 ورواية الامالي (لسبيلهم) بدله (لهواهم).

(2) سورة يس آية 30.

[114]

وقيل في معنى (بشراي) قولان: احدهما - انه بشر اصحابه بأنه وجد عبدا. والثاني - قال السدي كان اسمه (بشرى) فناداه.

وقوله " واسروه بضاعة " قيل في معناه قولان: احدهما - قال مجاهد والسدي أسره المدلي، ومن معه من باقي التجار لئلا يسألوهم الشركة فيه. الثاني قال ابن عباس اسره اخوته يكتمون أنه أخوهم وتابعهم على ذلك يوسف لئلا يقتلوه. والبضاعة قطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشئ اذا قطعته، ومنه المبضع، لانه يبضع به العرق.

ومعنى " وأسروه " أنهم لما وجدوه أحبوا أن لايعلم أنه موجود، وان يوهموا أنه بضاعة دفعها اليهم أهل الماء، ونصب بضاعة على الحال.

وقوله " والله عليم بمايعملون " اخبار منه تعالى بأنه عالم بافعالهم، فيجازيهم على جميعها، وان اسروا بها، وفي ذلك غاية التهديد.

الآية: 20 - 39

قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين(20))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى عن اخوة يوسف أنهم باعوا يوسف. يقال شريت أشري اذا بعت.

ومنه قوله " ولبئس ماشروا به انفسهم لو كانوا يعلمون "(1) وقال يزيد ابن مفرغ الحميري:

وشريت بردا ليتني *** من بعد برد كنت هامه(2)

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 102.

(2) مرهذا البيت في 1: 348، 3: 257.

[115]

وقوله " بثمن بخس دراهم معدودة " أي بثمن ذي بخس، أي ناقص. وقيل بثمن ذي ظلم، لانه كان حرا، لايحل بيعه، فالثمن هوبدل الشئ من العين أو الورق. ويقال في غيرهما أيضا مجازا.

والبخس النقص من الحق، يقال: بخسه في الوزن او الكيل إذا نقصه من حقه فيهما.

ومعنى " معدودة " اي قليلة، لان الكثير قد يمنع من عدده لكثرته. وقيل: عدوها ولم يزنوها.

وقيل: انهم كانوا لايزنون الدراهم حتى تبلغ أوقية، وأوقيتهم أربعون درهما.

وقال عبدالله بن مسعود وابن عباس وقتادة: إنهاكانت عشرين درهما.

وعن ابي عبدالله (ع) إنهاكانت ثمانية عشر درهما.

وقال ابن عباس ومجاهد: ان الذين باعوه اخوته، وانهم كانوا حضورا، فقالوا هذا عبد لناابق، فباعوه.

وقال قتادة الذين باعوه السيارة.

وقوله " وكانوا فيه من الزاهدين " يعني الذين باعوه، زهدوا فيه، فلذلك باعوه بثمن بخس، وتقديره وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين بجهلهم بماله عند الله من المنزلة الرفيعة، وانما قدموا الظرف، لانه أقوى في حذف العامل من غيره، ولايجوز قياسا على ذلك (وكانوا زيدا من الضاربين)

قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون(21))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى عن من اشتري يوسف (ع) من بايعه من أهل مصر أنه قال: لامرأته حين حمله اليها " أكرمي مثواه " يعني موضع مقامه، وانما امرها باكرام مثواه دون اكرامه في نفسه، لان من أكرم غيره لاجله كان اعظم منزلة ممن يكرم في نفسه فقط، والاكرام اعطاء المراد على جهة الاعظام، وهويتعاظم

[116]

فأعلاه منزلة مايستحق بالنبوة، وادناه مايستحق لخصلة من الطاعة أدناها كإماطة الاذى من الطريق وغيره.

وقوله " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا "، بين أنه إنما يأمرها باكرامه لما يرجو من الانتفاع به فيما بعد أو للتبني به.

وقال ابن مسعود: احسن الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته " اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا " وابنة شعيب حين قالت في موسى " ياأبت استأجره "(1) وأبوبكر حين ولى عمر.

وقوله " وكذلك مكنا ليوسف في الارض " ووجه التشبيه فيه انه تعالى شبه التمكين له في الارض بالتوفيق للاسباب التي صار بها إلى ماصار بالنجاة من الهلاك والاخراج إلى اجل حال.

وقوله " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " اللام فيه محمولة على تقدير دبرنا ذلك لنمكنه في الارض، ولنعلمه من تأويل الاحاديث.

وقوله " والله غالب على امره " معناه أنه قادر عليه من غير نافع حتى يقع ما أراد، ومنه وقوع المقهور بالغلبة في الذلة. وقيل غالب على امريوسف يدبره ويحوطه.

وقوله " ولكن اكثر الناس لايعلمون " اخبار منه تعالى ان اكثر الخلق غير عالمين بحسن تدبير الله لخلقه، ومايجريه اليهم من مصالحهم وانه قادر لايغالب، بل هم جاهلون بتوحيده، ولايدل ذلك على ان من فعل ماكرهه الله يكون قد غالب الله، لان المراد بذلك ماقلناه من انه غالب على مايريد فعله بعباده. فاما مايريده على وجه الاختيار منهم فلا يدل على ذلك، ولذلك لايقال ان اليهودي المقعد قد غلب الخليفة حيث لم يفعل ما اراده الخليفة من الايمان، وفعل ماكرهه من اليهودية وهذا واضح.

___________________________________

(1) سورة القصص آية 26.

[117]

قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين(22))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى ان يوسف لما بلغ أشده، وهوكمال القوة.

وقال قوم هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة، وقال ابن عباس من عشرين.

وقال مجاهد من ثلاث وثلاثين سنة، والاشد جمع، لاواحد له من لفظه مستعمل.

وفي القياس واحد شد، كواحد الاضر ضر، وواحد الاشر شر قال الشاعر:

هل غير ان كثر الاشر واهلكت *** حرب الملوك اكاثر الاموال(1)

وقوله " آتيناه حكما وعلما " يعني أعطيناه ذلك، والحكم القول الفصل الذي يدعو إلى الحكمة ويقال تقديرا لما يوتى له بعلة: يعلم من دليل الحكم ومن غير دليل الحكم. والاصل في الحكم تبيين مايشهد به الدليل، لان الدليل حكمة من اجل أنه يقود إلى المعرفة.

وقيل: معناه آتيناه الحكم على الناس. وقيل آتيناه الحكمة في فعله بألطافنا له، والحكيم العامل بمايدعو اليه العلم. والعلم ما اقتضى سكون النفس.

وقال قوم هو تبيين الشئ على ماهو به، وزاد فيه الرماني: ما يحل في القلب تحرزا من الرؤية، لانها يبين بها الشئ على ماهو به، لكنه معنى يحل في العين، ومن قال الادراك ليس بمعنى لايحتاج إلى ذلك.

وقوله " وكذلك نجزي المحسنين " معناه مثل ماجازينا يوسف نجازي كل من أحسن وفعل الافعال الحسنة من الطاعات. والاحسان هوالنفع بالحسن الذي يستحق به الحمد، فعلى هذا يصح أن يحسن الانسان إلى نفسه كما يصح أن يسئ إلى نفسه، ولايصح ان ينعم على نفسه، لان النعمة تقتضي استحقاق الشكر عليها، ولايصح ذلك بين الانسان ونفسه.

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 221 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 12: 98 وروايته (الاشد) بدل (الاشر).

[118]

قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون(23))

آية بلاخلاف.

قرأ ابوعمرو، وعاصم وحمزة والكسائي (هيت) بفتح الهاء والتاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء، وضم التاء.

وقرأ نافع وابن عامر (هيت) بكسر الهاء وفتح التاء.

وروى هشام بن عامر عن ابن عامر (هئت) بالهمز من تهيأت، وكسر الهاء، وضم التاء، وانكر الهمزة أبوعمرو بن العلاء والكسائي، قال طرفة:

ليس قومي بالابعدين إذا *** ماقال داع من العشيرة هيت

هم يجيبون ذا هلم سراعا *** كالابابيل لايغادر بيت(1)

فهذا شاهد لابن كثير قال ابوعبيدة: هيت لك " معناه هلم، قال: وقال: رجل لعلي (ع): أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا ان العراق واهله سلم اليك فهيت هيتا(2) قال ابوالحسن: وكسر الهاء لغة، وقال بعضهم بالهمز من تهيأت لك، وهي حسنة إلا ان المعنى الاول أحسن، لانها دعته، والمفتوحة أكثر اللغات، ففيه ثلاث لغات.

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1: 303، وتفسير القرطبي 9: 194، وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 15، وتفسير الطبري (الطبعة الاولى)(12: 100.

(2) انظر تخريجه في الصفحة التي بعدها.

[119]

ومعنى قوله " وراودته " أي طالبته، والمراودة المطالبة بأمر للعمل به، ومنه المرود لانه يعمل به، ولايقال في المطالبة بدين راوده.

ومعنى " التي هو في بيتها " يعني امرأة العزيز " وغلقت الابواب " فالتغليق اطباق الباب بما يعسر فتحة.

وانما قيل (غلقت) لتكثير الاغلاق او المبالغة في الاغلاق، وألف (باب) منقلبة من الواو لقولهم: بويب وأبواب ومعنى " هيت لك " تعال وهلم إلى ماهو لك، أنشد ابوعمرو بن العلاء: أبلغ أمير المؤمنين اخا العراق اذا اتيت ان العراق واهله سلم اليك فهيت هيت(1) ويقال للواحد والاثنين والجمع والذكر والانثى (هيت) بلفظ واحد.

وقال ابن عباس والحسن وابن زيد معنى " هيت لك " هلم لك.

وقوله " معاذ الله " حكاية عن يوسف أنه قال ذلك. والمعنى أعوذ عياذا بالله أن أجيب إلى هذا أو ان يكون هذا أي اعتصم بالله من هذا.

وقوله " ان ربي احسن مثواي " معناه ان الملك الذي هو زوجها، مالكي في الحكم " أحسن مثواي " باكرامي وبسط يدي ورفع منزلتي، وهوقول مجاهد وابن اسحاق والسدي والجبائي، وقال الحسن يعني العزيز، وقال الزجاج يجوز ان يكون اراد ان الله ربي احسن مثواي أي في طول مقامي.

وقوله " انه لا يفلح الظالمون " حكاية ان يوسف قال: ان من ظلم نفسه بارتكاب المعاصي لايفلح ولايفوز بشئ من الثواب.

___________________________________

(1) اللسان (هيت) ومجاز القرآن 1: 305، وتفسير القرطبي 9: 194 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 15، وتفسير الطبري 12: 99.

[120]

قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رآ برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين(24))

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة، ونافع " المخلصين " بفتح اللام. الباقون بكسرها.

قال أبوعلي حجة من كسر اللام قوله " اخلصوا دينهم "(1) ومن فتح اللام، فيكون بنى الفعل للمفعول به، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد، فاذا أخلصوا هم دينهم فهم مخلصون، واذا أخلصوا فهم مخلصون.

ومعنى (الهم) في اللغة على وجوه، منها: العزم على الفعل، كقوله " إذهم قوم ان يبسطوا اليكم أيديهم "(2)، أي أرادوا ذلك وعزموا عليه ومثله قول الشاعر:

هممت ولم افعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله(3)

وقال حاتم طي:

ولله صعلوك تساور همه *** ويمضي على الايام والدهر مقدما(4)

ومنها: خطور الشئ بالبال، وان لم يعزم عليه.

كقوله " اذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "(5) والمعنى ان الفشل خطر ببالهم، ولو كان الهم ههنا عزما لماكان الله وليهما، لانه قال " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال او متحيزا إلى فئة فقدباء بغضب من الله "(6)، وارادة المعصية والعزم عليها معصية بلاخلاف، وقال قوم: العزم على الكبير كبير، وعلى الكفر كفر، ولايجوز أن يكون الله ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ماقال كعب ابن زهير:

___________________________________

(1) سورة النساء آية 145.

(2) سورة المائدة آية 12.

(3) تفسير القرطبي 9: 166 ومجمع البيان 3: 223.

(4) مجمع البيان 3: 223.

(5) سورة آل عمران آية 122.

(6) سورة الانفال آية 16.

[121]

فكم فيهم من سيدمتوسع *** ومن فاعل للخير إن هم أو عزم

ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى، ومنها المقاربة يقولون: هم بكذا، وكذا أي كاد يفعله قال ذوالرمة:

أقول لمسعود بجرعاء مالك *** وقد هم دمعي ان تسيح اوائله(1)

والدمع لايجوز عليه العزم، وانما أراد كاد، وقارب، وقال ابوالاسود الدؤلي:

وكنت متى تهمم يمينك مرة *** لتفعل خيرا يعتقبها شمالكا(2)

وعلى هذا قوله تعالى " جدارا يريد ان ينقض "(3) أي يكاد وقال الحارثي:

يريد الرمح صدر ابي براء *** ويرغب عن دماء بني عقيل(4)

ومنها الشهوة وميل الطباع، يقول القاتل فيما يشتهيه، ويميل طبعه ونفسه اليه هذا من همي، وهذا أهم الاشياء الي. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن.

وقال: اماهمها وكان اخبث الهم، واما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، واذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه (ع) العزم على القبيح واجزنا باقي الوجوه، لان كل واحد منها يليق بحال، ويمكن ان يحمل الهم في الآية على العزم، ويكون المعنى، وهم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن اوقع به ضربا او مكروها وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله " لولا ان رأى برهان ربه " مع ان الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها، إنه لماهم بدفعها اراه الله برهانا على انه ان اقدم على مايهم به، اهلكه اهلها وقتلوه، وانها تدعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء

___________________________________

(1) الاغاني (دار الثقافة) 17: 308.

(2) مجمع البيان 3: 224.

(3) سوررة الكهف آية 78.

(4) تأويل مشكل القرآن: 100، ومجمع البيان 3: 224.

[122]

والفحشا اللذين هما القتل والمكروه او ظن القبيح واعتقاده فيه.

فان قيل هذا يقتضي ان جواب (لولا) تقدمها في ترتيب الكلام، ويكون التقدير: لولا ان رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح او يقتضي ان تكون (لولا) بغير جواب !. قلنا: اما تقدم جواب (لولا) فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد، ولا نحتاج اليه في هذا الجواب، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إلا انه انصرف عنها بالبرهان الذي رآه، ويكون التقدير ولقد همت به، وهم بدفعها لولاان رأى برهان ربه، لفعل ذلك، فالجواب المتعلق ب‍ (لولا) محذوف في الكلام، كما حذف في قوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته.

وان الله رؤف رحيم "(1) معناه، ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله " كلا لو تعلمون علم اليقين "(2) لم تنافسوا في الدنيا وتحرصوا على حطامها، وقال امرؤ القيس:

فلوانها نفس تموت سوية *** ولكنها نفس تساقط انفسا(3)

والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على ان الكلام يقتضيه، ولابد لمن حمل الآية على انه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب، لان التقدير، ولقد همت بالزنا وهم بمثله،، و " لولا ان رأى برهان ربه " لفعله. وانما حمل همها على الفاحشة وهمه على غير ذلك، لان الدليل دل من جهة العقل والشرع على ان الانبياء، لايجوز عليهم فعل القبائح، ولم يدل على انه لايجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح، قال الله تعالى " وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه.

وقوله حاكيا عنها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وقال " قالت فذلكن الذي لمتنني يه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " واجمعت الامة من المفسرين واصحاب الاخبار

___________________________________

(1) سورة النور آية 20.

(2) سورة التكاثر آية 5.

(3) ديوان: 117 واللسان " جمع " وامالي السيد المرتضي 1: 479.

ورواية اللسان " جميعه " بدل " سوية ".

[123]

على انها همت بالمعصية، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم بالفاحشة. ولاعزم عليها منها قوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " وقوله " انه من عبادنا المخلصين " ومن ارتكب الفاحشة لايوصف بذلك وقوله " ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب " ولوكان الامر على ماقاله الجهال من جلوسه مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل، لكان خائنا، ولم يكن صرف عنه السوء والفحشاء.

وقال ايضا " ولقد راودته عن نفسه " فاستعصم " وفي موضع آخر حكاية عنها " أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وقوله حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر " انه من كيد كن إن كيد كن عظيم " فنسب الكيد اليها دونه، وقوله ايضا " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين " فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه.

وقوله " رب السجن احب الي مما يدعونني اليه. وإلا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " والاستجابة تقتضي براء‌ة ساحته من كل سوء، ويدل على انه لو فعل ماذكروه، لكان قد صبا ولم يصرف عنه كيدهن.

وقوله " قلن حاش لله ماعلمنا عليه من سوء " والعزم على المعصية من اكبر السوء.

وقوله حاكيا عن الملك " ائتوني به استخلصه لنفسي، فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين " ومن فعل ماقاله الجهال لايقال له ذلك.

ووجه آخر في الآية: إذا حمل الهم على ان المراد به العزم، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت، لولا اني تدار كتك، وقتلت لولا اني خلصتك، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت، وان لم يكن وقع هلاك ولاقتل قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريحا لحرة *** لئن كنت مقتولا ويسلم عامر(1)

___________________________________

(1) الكتاب لسيبوية 1 / 427 وامالى الشريف المرتضى 1 / 480 ومجمع البيان 3 / 226

[124]

وقال آخر:

فلايدعني قومي صريحا لحرة *** لئن لم أعجل طعنة أو اعجل(1)

فقدم جواب (لئن) في البيتين جميعا.

وقال قوم: لو جاز هذا لجاز أن تقول: قام زيد لولاعمرو، وقصد زيد لولابكر، وقد بينا ان ذلك غير مستبعد، وان القائل قد يقول: قدكنت قمت لولا كذا، وكذا، وقد كنت قصدتك لولا ان صدني فلان، وان لم يقع قيام ولاقصد. على ان في الكلام شرطا، وهوقوله " لولا ان رأى برهان ربه " فكيف يحمل على الاطلاق. والبرهان الذي رآه، روي عن ابن عباس، والحسن، وسعيدبن جبير، ومجاهد: انه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله.

وقال قتادة: انه نودي يايوسف أنت مكتوب في الانبياء وتعمل عمل السفهاء.

وروي في رواية أخرى عن ابن عباس: انه رأى الملك.

وهذا الذي ذكروه كله غير صحيح، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف، ولوكان ذلك لمااستحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحا ولاثوابا، وذلك ينافي ما وصفه الله تعالى. من انه صرف عنه السوء والفحشاء، وانه من عبادنا المخلصين.

ويحتمل ان يكون البرهان لطفا لطف الله تعالى له في تلك الحال او قبلها، اختار عنده الامتناع من المعاصي، وهوالذي اقتضى كونه معصوما ويجوز ان تكون الرؤية بمعنى العلم، وقال قوم: البرهان هو مادل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك الفعل، وعلى ان من فعله استحق العقاب، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوي لدواعي الامتناع، وهذا ايضا جائز، وهوقول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي.

___________________________________

(1) مجمع البيان 3 / 225 وامالى السيد المرتضى 1 / 480

[125]

قوله تعالى: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدا الباب قالت ماجزاء من أرد بأهلك سوء‌ا إلا أن يسجن أو عذاب أليم(25))

آية بلاخلاف.

معنى قوله " واستبقا الباب " اي طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز السبق إلى الباب، والسبق تقدم الشئ لصاحبه في مجيئه.

وقوله " وقدت قميصه من دبر " اي شقته طولا، والقد شق الشئ طولا، ومنه: قد الاديم يقده قدا، فهو مقدود، إذاكان ذاهبا في جهة الطول على استواء.

وقوله " من دبر " اي من جهة الخلف. والقبل جهة القدام، يقال اتاه قبلا، ودبرا، اذا أتاه من الجهتين ومعنى " الفيا سيدها " صادفاه، ألفى يلفي الفا قال ذوالرمة:

ومطعم الصيد هبال لبغيته *** الفى اباه بذاك الكسب يكتسب(1)

وقوله " قالت ماجزاء من أراد بأهلك سوء‌ا " حكاية ماقالت المرأة للملك، ومافي مقابلة من اراد باهلك سوء‌ا، والجزاء مقابلة العمل بما هوحقه من خير او شر يقال: جازاه يجازيه مجازاة، وجزاء‌ا " إلا ان يسجن او عذاب أليم " معناه انه ليس مقابلته إلا سجنه أو يعذب على فعله عذابا مؤلما موجعا.

وعطف العذاب - وهو إسم - على الفعل، وهوقوله " ان يسجن " لان تقديره إلا السجن أو عذاب اليم.

___________________________________

(1) اللسان " طعم "

[126]

قوله تعالى: (قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين(26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين(27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم(28))

ثلاث آيات بلاخلاف.

حكى الله تعالى في الاية الاولى عن يوسف انه قال للملك حين قذفته زوجته بالسؤ: هي طالبتني عن نفسي، وانابرئ الساحة، وشهد له بذلك شاهد من أهل المرأة.

قال ابن عباس، وسعيدبن جبير - في رواية عنهما - وابوهريرة: انه كان صبيا في المهد. وفي رواية اخرى عن ابن عباس، وابن جبير، وهوقول الحسن وقتادة: انه كان رجلا حكيما، واختاره الجبائي، قال: انه لو كان طفلا لكان قوله معجزا لايحتاج معه إلى الثاني، فلما قال الشاهد إن كان قميصه كذا، وكذا ذهب إلى الاستدلال بأنه لو كان هذا المراود، لكان القميص مقدودا من قبل، وحيث هو مقدود من دبر علم أنها هي المراودة ومع كلام الطفل لا يحتاج إلى ذلك.

وقوله " ان كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " حكاية ماقال الشاهد، وكذلك قوله " وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " تمام الحكاية عن الشاهد.

و (من) في قوله " قد من دبر... و... من قبل " لابتداء الغاية، لان ابتداء القدكان منها، التي في قوله " من الكاذبين " للتبعيض، لانه بعض الكاذبين واسقط (أن) من شهد أنه ان كان لانه ذهب مذهب القول في الحكاية، كما قال " يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثين "(1) لان التقدير يوصيكم الله في اولادكم ان المال، وقال ابوالعباس المبرد: معنى " ان كان

___________________________________

(1) سورة النساء آية 11

[127]

قميصه " ان يكن، وجاز ذلك في كان، لانها ام الباب، كما جاز ماكان ابردها. ولم يجز ماأصبح أبردها.

وقال ابن السراج: إن يكن بمعنى ان يصح قد قميصه من دبر.

وقوله " فلما رأى قميصه قد من دبر " حكاية من الله ان الملك لما سمع قول الشاهد ورأى قميصه قد من دبر اقبل عليها وقال: " إنه من كيد كن إن كيد كن عظيم " وقال قوم إن ذلك من قول الشاهد.

والكيد طلب الشئ بمايكرهه، كما طلبت المرأة يوسف بمايكرهه ويأباه.

وقوله " فلما رأى " تحتمل الرؤية أمرين: احدهما - ان يكون المعنى رؤية العين، فلايكون روية للقد، لانه حال، وانما بين رؤية القميص. والاخر - ان يكون بمعنى العلم فيكون رؤية للقد، لانه خبر والهاء في قوله (إنه) يحتمل ان تكون عائدة إلى السوء، ويحتمل ان تكون عائدة إلى ما تقدم ذكره من معنى الكذب.

والنون في قوله " كيد كن " نون جماعة النساء، وشددت لتكون على قياس نظيرها من المذكر في ضربكموا في انه على ثلاثة احرف.

وقال قوم ان ذلك من قول الزوج. وقال آخرون من قول الشاهد.

قوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين(29))

آية بلاخلاف.

هذا حكاية مانادى زوج المرأة يوسف، فقال له يايوسف، ولذلك قال قوم: إنه لم يكن له غيرة.

وروي عن ابن عباس انه قال ذلك من قول الشاهد واسقط حرف النداء لانه اسم علم ولم يجز ذلك في المبهم " اعرض عن هذا " اي اصرف وجهك عنه.

[128]

والاغراض صرف الوجه عن الشئ إلى جهة العرض، فكأنه قال اجعله بمنزلة ماتصرف وجهك عنه بأن لاتذكره " واستغفري لذنبك " اي اطلبي المغفرة من الله من خطيئتك، والذنب الخطيأة، والخطيأة العدول عما تدعوا اليه الحكمة إلى ماتزجر عنه، ويقال لصاحبه خاطئ اذا قصد ذلك، فاذا وقع عن غير قصد قيل اخطأ المقصد، فهو مخطئ، وان لم يكن صفة ذم.

واصل الخطأ العدول عن الغرض الحكمي بقصد أو غير قصد، فان كان بقصد قيل خطئ يخطأ خطأ فهو خاطئ قال أمية:

عبادك يخطئون وانت رب *** بكفيك المنايا والحياة(1)

وانما قال " من الخاطئين " ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث اذا اختلطا، كماتقول عبيدك واماء‌ك جاؤني.

قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين(30))

آية بلا خلاف.

اخبر الله تعالى انه " قال نسوة في المدينة " التي كان فيها الملك وزوجته ويوسف إن امرأة العزيز تطلب فتاها عن نفسه، والعزيز المنيع بقدرته عن ان يضام في أمره وسمي بذلك لانه كان ملكا ممتنعا بملكه واتساع قدرته قال أبوداود:

درة غاص عليها تاجر *** حليت عند عزيز يوم ظل(2)

والفتى الغلام الشاب والمرأة فتاة قال الشاعر:

___________________________________

(1) مجمع البيان 3 / 226، وتفسير الطبرى " الطبعة الاولى " 12 / 109 وروايته " الحتوم " يدل " الحياة ".

(2) تفسير الطبري 12 / 110 ومجمع البيان 3 / 229.

ورواية الطبرى " عاص " بدل " غاص " و " جليت " بدل " حليت ".

[129]

كأنا يوم فري انما يقتل ايانا *** قتلنا منهم كل فتى ابيض حسانا(1)

ومعنى " شغفها حبا " بلغ الحب شغاف قلبها، وهو داخله.

وقوله " انا لنراها في ضلال مبين " معناه إنا لنعلمها في عدول عن طريق الرشد، فعابوها بذلك وذلك ان تصير إلى مايذهلها ويبلغ صميم قلبها بحب إنسان. وإنما حذف حرف التأنيث في قوله " وقال نسوة " لانه تأنيث جمع قدم عليه الفعل، وتأنيث الجمع تأنيث لفظ يبطل تأنيث المعنى، لانه لايجتمع في اسم واحد تأنيثان، وكما يبطل تذكير المعنى في رجال، فاذا صار كذلك جاز فيه وجهان، ان حمل على اللفظ انث، وان حمل على المعنى ذكر.

وقيل في معنى الشغاف ثلاثة اوجه: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه تقول دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب - في قول السدي وابي عبيدة -.

الثاني - قال الحسن: هو باطن القلب.

الثالث - قال ابوعلي الجبائي: هو وسط القلب قال النابغة:

وقد حال هم دون ذلك داخل *** مكان الشغاف تبتغيه الاصابع(2)

وروي شعفها بالعين اي ذهب بها الحب كل مذهب من شعف الجبال وهي رؤسها قال امرؤ القيس:

اتقتلني وقد شعفت فؤادها *** كما شغف المهنؤة الرجل الطالي(3)

قال بو زيد هما مختلفان فالشعف بالعين في البغض وبالغين في الحب.

___________________________________

(1) الكتاب لسيبويه 1 / 271، 383.

(2) ديوانه 79 وروايته (شاغل) بدل (داخل) وتفسير القرطبي 9 / 179 وتفسير الطبرى (الطبعة الاولى) 12 / 110.

(3) ديوانه 162، وتفسر الطبرى 12 / 111 والقرطبى 9 / 177 والشوكاني (الفتح القدير) 3 / 19 ورواية الديوان:

ليقتلني اني شغفت فؤادها *** كما شغف المهنوء‌ه الرجل الطالي

[130]

قوله تعالى: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ماهذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم(31))

آية بلاخلاف.

قرأ ابوعمرو ونافع في رواية الاصمعي عنه " حاشا " بألف.

الباقون بلا الف، فمن حجة أبي عمرو، قال الشاعر:

حاشى ابي ثوبان إن به *** ضنا عن الملحاة والشتم(1)

قال ابوعلي الفارسي لايخلوا قولهم: حاش لله من ان يكون الحرف الجار في الاستثناء، كما ذكرناه في البيت أو فاعل من قولهم: حاشى يحاشي، ولايجوز ان يكون حرف الجر لان حرف الجر لايدخل على مثله، ولان الحروف لا تحذف اذالم يكن فيها تضعيف، فاذا بطل ذلك ثبت انها فاعل مأخوذا من الحشا الذي هو الناحية.

والمعنى انه صار في حشاء اي ناحية مما قذف به، وفاعله يوسف، والمعنى بعد عن هذا الذي رمي به " لله " اي لخوفه من الله، ومراقبة امره.

ومن حذف الالف، فكما حذف لم يك، ولا أدر، فاذا أريد به حرف الجر يقال حاشا، وحاش، وحشا، ثلاث لغات قال الشاعر:

حشارهط النبي فان فيهم *** بحورا لاتكدرها الدلاء(2)

حكى الله تعالى عن امرأة العزير انها حين سمعت قول نسوة المدينة فيها

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 9 / 181 ومجاز القرآن 1 / 310، والمفضليات 190 والاصمعيات 80، واللسان والتاج " حشى " وتفسير الطبري " الطبعة الاولى " 12 / 115.

(2) اللسان " حشا " ومجمع البيان 3: 229

[131]

وعذ لهن اياها، ومكرهن بها.

وقيل انهن مكرن بها لتريهن يوسف، فلما اطلعتهن على ذلك أشعن خبرها؟، والمكر الفتل بالحيلة إلى مايراد من الطلبة يقال: هي ممكورة الساقين بمعنى مفتولة الساقين، وممكورة البدن أي ملتفة " أرسلت اليهن " أي بعثت اليهن تدعوهن إلى دعوتها.

وقوله " واعتدت لهن متكئا " معناه اعدت، ومعناه اتخذت من العتاد، وقولهم: اعتدت من العدوان، والالف فيه ألف وصل، والمتكأ الوسادة، وهو النمرق الذي يتكأ عليه.

وقال قوم: انه الاترج. وانكر ذلك ابوعبيدة.

وقوله " وآتت كل واحدة منهن سكينا " قيل انها قدمت اليهن فاكهة وأعطتهن سكينا ليقطعن الفاكهة، فلما رأينه - يعني يوسف - دهشن " وقطعن ايديهن " وقوله " اكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه.

وقال قوم: معنى ذلك انهن حضن حين رأينه وأنشد قول الشاعر:

يأتي النساء على اطهارهن ولا *** يأتي النساء اذا اكبرن اكبارا(3)

وانكر ذلك ابوعبيدة، وقال: ذلك لايعرف في اللغة، لكن يجوز ان يكون من شدة ما أعظمنه حضن، والبيت مصنوع لايعرفه العلماء بالشعر.

وقوله " حاش لله " تنزيه له عن حال البشر، وانه لايجوز ان تكون هذه صورة للبشر، وانماهو ملك كريم.

وقال الجبائي: فيه دلالة على تفضيل الملائكة على البشر لانه خرج مخرج التعظيم، ولم ينكره الله تعالى، وهذا ليس بشئ، لان الله تعالى حكى عن النساء انهن أعظمن يوسف، لما رأبن من وقاره وسكونه وبعده عن السوء.

وقلن: ليس هذا بشرا، بل هو ملك يريدون في سكونه، ولم يقصدن كثرة ثوابه على ثواب البشر، وكيف يقصدنه، وهن لاطريق لهن إلى معرفة ذلك، على ان هذا من قول النسوة اللاتي وقع منهن من الخطأ والميل

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 9: 180 وتفسير الشوكاني 3: 20.

[132]

اليه مالايجوز ان يحتج بقولهن.

وقوله لم ينكره الله، انما لم ينكره، لانه تعالى علم انهن لم يقصدن ماقال الجبائي، ولوكن قصدنه لانكره، على أن ظاهر الكلام انهن نفين ان يكون يوسف من البشر، وفيه قطع على انه ملك، وهذا كذب، ولم ينكره الله. والوجه فيه انهن لم يقصدن الاخبار بذلك عن حاله، وانما اخبرن بتشبيه حاله فيما قلناه بحال الملائكة، فلذلك لم ينكره الله.

وقوله " ماهذا بشرا " نصب بشرا على مذهب اهل الحجاز في اعمال (ما) عمل ليس، فيرفعون بها الاسم، وينصبون الخبر، فأما بنو تميم، فلا يعلونها قال الشاعر:

لشتان ماأنوي وينوي بنو أبي *** جميعا فما هذان مستويان

تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى *** وكل فتى والموت يلتقيان(4)

وقد قرئ " ما هذا بشرى " أي ليس بمملوك، وهو شاذ، لايقرأبه.

وقرئ (متكأ) بتسكين التاء قال مجاهد: معنا الاترج، وقال قتادة: معناه طعاما، وبه قال عكرمة وابن اسحق وابن زيد والضحاك، وقال مجاهد، وغيره: اعطي يوسف نصف الحسن، وقيل ثلثه.

وقيل ثلثاه، والباقي لجميع الخلق.

قوله تعالى: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ماآمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين(32))

آية بلاخلاف.

هذه الآية فيها حكاية ماقالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي عذلنها على محبتها ليوسف،

___________________________________

(1) مجمع البيان 3 / 229 وتفسير الطبري 12 / 115.

[133]

وانها حين رأت مافعلت النسوة للدهش بيوسف، قالت لهن هذا هو ذلك الذي لمتنني فيه، واللوم الوصف بالقبيح على وجه التحقير، ومثله الذم وضده الحمد.

وقوله " ولقد راودته عن نفسه " اعتراف منها انها هي التي طلبته عن نفسه وانه استعصم منها أي امتنع من ذلك، والاستعصام طلب العصمة من الله بفعل لطف من ألطافه ليمتنع من الفاحشة. وفيه دلالة على ان يوسف لم يقع منه قبيح.

وقوله " ولئن لم يفعل ماآمره ليسجنن " اخبار عما قالت امرأة العزيز على وجه التهديد ليوسف من انه ان لم يفعل ماتأمره به من المعصية ويجيبها إلى ملتمسها لتمنعنه التصرف من مراده بالحبس، تقول: سجنه يسجنه سجنا، والسجان المتولي للسجن على وجه الحرفة.

وقوله " وليكونن من الصاغرين " هذه النون الخفيفة التي يتلقى بها القسم، واذا وقفت عليها وقفت بالالف، تقول: وليكونا، وهي بمنزلة التنوين الذي يوقف عليه بالالف قال الشاعر:

وصل على حين العشيات والضحى *** ولاتعبد الشيطان والله فاعبدا(1)

اي فاعبدن، فأبدل في الوقف من النون ألفا.

والصغار الذل بصغر القدر صغر يصغر صغارا، ومنه قوله " حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "(2).

___________________________________

(1) قائله الاعشى، ديوانه 103 القصيدة 17 وروايته " فاحمدا " بدل " فاعبدا " وهو في مجمع البيان 3. 230 وتفسير الطبري 12: 16 " فاعبدا ".

(2) سورة التوبة آية 29؟.

[134]

قوله تعالى: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين(33))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى عن يوسف انه لما سمع وعيد المرأة له بالحبس والصغار ان لم يجبها إلى ماتريده، قال يا " رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه " من ركوب الفاحشة، وانما جاز ان يقول السجن أحب الي من ذلك، وهولا يحب مايدعونه اليه، ولايريده، ولايريد السجن ايضا، لانه ان اريد به المكان فذلك لايراد، وان اريد به المصدر، فهو معصية منهي عنها، فلايجوز ان يريده لامرين: احدهما - ان ذلك على وجه التقدير، ومعناه اني لو كنت ممااريد لكانت ارادتي لهذا أشد الثاني - ان المراد ان توطين نفسي على السجن أحب الي.

وقيل معناه ان السجن أسهل علي مما يدعونني اليه.

وقرأ الحس (السجن) بفتح السين واراد المصد ر، وبه قرأ يعقوب، وتأويله ماقلنا ه.

والدعاء طلب الفعل من المدعو وصيغته صيغة الامر إلا ان الدعاء لمن فوقك والامر لمن دونك.

وقوله " إلا تصرف عني كيدهن " معناه ضرر كيدهن، لان كيدهن قد وقع، والصرف نفي الشئ عن غيره بضده او بأن لايفعل، وصورته كصورة النهي إلا ان النهي مع الزجر لمن هو دونك، وليس كذلك الصرف (والصبا) رقة الهوى، يقال صبا يصبو صبا فهوصاب، فكأنه قيل أميل هواي اليهن، قال الشاعر:

إلى هند صبا قلبي *** وهند مثلها يصبي(1)

وقال ايضا:

___________________________________

(1) قائله زيد بن ضبة، تفسير القرطبي 9: 185 ومجاز القرآن 1: 311 واللسان (صبا) وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 21 وتفسير الطبري 12 / 117.

[135]

صبا صبوة بل لج وهو لجوج *** وزالت له بالانعمين حدوج(1)

وقوله " وأكن من الجاهلين " معناه. أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، لانه بمنزلة من قد اعتقد الشئ على خلاف ماهو ربه، وإلا فهو كان عالما بأن ذلك معصية، والغرض فيه بيان ان صفة الجهل من أغلظ صفة الذم.

وقال البلخي والجبائي: في الآية دلالة على انه لاينصرف احد عن معصية إلا بلطف الله عزوجل، لانه لو لم يعلم ذلك، لما صح خبره به، وليس في الآية مايدل على ذلك، بل فيها مايدل على ان يوسف كان له لطف، ولولاه لفعل المعصية، وأما ان يدل على انه لا أحد ينتهي عن معصية إلا بلطف، فلا، بل ذلك مجوز، وليس فيها مايمنع منه، ويحتمل قوله " أصب اليهن " على لفظ الجمع اشياء: احدها - قال ابوعلي الجبائي: ان كل واحدة منهن دعته إلى مثل مادعت اليه امرأة العزيز بدلالة هذا الكلام.

وقال قوم: انهن قلن لها نحن نسأله ان يفعل مادعوته اليه، فخلت كل واحدة منهن به. ويحتمل ان يكون المراد أصب إلى قولهن في الدعاء إلى اجابة امرأة العزيز.

قوله تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم(34))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى انه اجاب يوسف إلى مادعاه به وأراد منه ورغب اليه فيه وانه فعل، لانه دعابه، فهو اجابة له واستجابة والذي تعلقت به الارادة مستجاب، وقال ابوعلي الجبائي: الاجابة من الله تعالى ثواب لقوله تعالى " ومادعاء

___________________________________

(1) قائله ابوذؤيب الهذلي، ديوانه 1 / 50 وشواهد المغنى 109، والخزانة 1 / 194 ومجاز القرآن 1 / 311 ومجع البيان 3 / 229.

[136]

الكافرين إلا في ضلال "(1) وهذا انما هو في الجملة، قال الرماني: وصرف الله تعالى له عن الفعل بالزجر عنه واعلامه الذم على فعله، وفرق بين الصرف عن الفعل والزجر عنه، بأن الزجر عنه بالذم على ايقاعه. والصرف عنه اعلامه ان غيره أصلح له من غير ذم عليه لو عمله كما يجب في الزجر، والظاهر بغير ذلك أشبه، لان يوسف (ع) كان عالما بأن ما دعته اليه قبيح يستحق به الذم، ومع ذلك سأل ان يصرف ضرر كيدهن عنه، لان كيدهن الذي هو دعاؤهن وأغواؤهن، كان قد حصل، فكأنه قد سأل الله تعالى لطفا من ألطافه يصرفه عنده عن اجابة النسوة إلى مادعونه من ارتكاب المعصية، لان ظاهر القول خرج مخرج الشرط والجزاء المقتضيين للاستقبال، فكان ماقلناه أولى.

فقوله " انه هوالسميع العليم " معناه ههنا انه السميع لدعاء الداعي العليم باخلاصه في دعائه او ترك اخلاصه وبما يصلحه من الاجابة او يفسده، قال الرماني: ولا يجوز ان يكون السميع للصوت بمعنى العليم بالصوت موجودا، لانه قد يعلم الانسان موجودا، اذا كان بعيدا وهو لايسمعه كعلمه بصوت المطارق في الحدادين، وليس من طريق الحاسة وانما يعلمه بضرب من الاستدلال او يظن ذلك، واذا علمه من طريق الحاسة علمه ضرورة، فكان ذلك فرقا بين الموضعين.

وقال ابوعلي الجبائي: في الآية دلالة على جواز الدعاء بما يعلم انه يكون، لان يوسف عالما بأنه إن كان له لطف فلابد ان يفعل الله به، ومع هذا سأله وليس في الآية مايدل على ذلك لانه لايمتنع ان يكون يوسف سأل لتجويزه ان يكون له لطف عند الدعاء، ولولم يدع له لم يكن ذلك لطفا، فما سأل الا ما جوز ان لايكون لولم يدع، غير ان المذهب: ماقال ابوعلي لانه تعالى تعبدنا بأن نقول " رب احكم بالحق(2) وقد علمنا انه لايحكم الا بالحق، ولكن الآية لاتدل على ذلك.

___________________________________

(1) سورة الرعد آية 15 وسورة المؤمن (غافر) آية 50.

(2) سورة الانبياء آية 112.

[137]

قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد مارأوا الآيات ليسجننه حتى حين(35))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى انه ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات، يقال بدايبدو بدوا، وبدأ والبداء في الرأي التلون فيه، لانه كلما ظهر رأي مال اليه، وانما قال " لهم " ولم يقل (لهن) مع تقدم ذكر النسوة، لامرين: احدهما - قال الحسن انه اراد بذلك الملك. والثاني - انه اراد ذكر الذكور معهن من اعوانها فغلب المذكر، فقال لهم، قال الرماني: وفاعل (بدا) مضمر وتقديره ثم بدا لهم بداء، ودل عليه قوله " ليسجننه ".

والآيات التي رأوها، قال قتادة: هو قد القميص وحز الايدي وقال غيره: هو قطع الايدي والاستعظام، وقد القميص.

وقوله " ليسجننه " انما هو فعل المذكر كما قال " بدالهم " ولم نقل (لهن) ودخلت النون الثقيلة جوابا للقسم وليس بفعل المؤنث، ولوكان على صيغة فعل المؤنث قيل (ليسجن) (وليقتلن) ثم تدخل عليها نون التأكيد الشديدة فيصير ليسجنانه كقولك تقتلنانه.

وقوله " حتى حين " ف‍ (حتى) تنصرف على اربعة اوجه، تكون حرف جر، وحرف عطف، وناصبة للفعل، وحرف من حروف الابتداء، فالجارة نحوهذه التي في الآية، والعاطفة كقولهم خرج الناس حتى الامير، والناصبة كقوله " حتى يأتي وعد الله "(1)، وحرف الابتداء كقولك سرحت القوم حتى زيد مسرح.

___________________________________

(1) سورة الرعد آية 33.

[138]

قوله تعالى: (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين(36))

آية بلاخلاف.

وفي الآية تقدير فسجن يوسف، ودخل معه فتيان يعني شابان والفتى الشاب القوي قال الشاعر:

ياعز هل لك في شيخ فتى ابدا *** وقد يكون شباب غير فتيان

وقال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى، شيخا كان او شابا.

والفتيان قال السدي وقتادة: كانا غلامي ملك مصر الاكبر أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه، فنمي اليه ان صاحب طعامه يريد ان يسمه. وظن ان الآخر ساعده ومالاه على ذلك.

وقوله " قال احدهما " يعني احد الفتيين ليوسف: " إني اراني اعصر خمرا " من رؤيا المنام، والخمر عصير العنب اذا كان فيه الشدة والتقدير اعصر العنب للخمر، وقال الضحاك: هي لغة، تسمي العنب خمرا ذكر جماعة انها لغة عمان.

وقال الزجاج: تقديره عنب الخمر.

وقوله " وقال الآخر إني اراني احمل فوق رأسي خبزا " فالحمل رفع الشئ بعماد، يقال: حمل يحمل حملا، واحتمل احتمالا، وتحمل تحملا، وحمله تحميلا.

و (الخبز) معروف " تأكل الطير منه " وقوله " نبئنا بتأويله " اي اخبرنا بتأويل رؤيانا " انا نراك من المحسنين " معناه انا نعلمك او نظنك ممن يعرف تأويل الرؤيا.

ومن ذلك قول علي (ع) (قيمة كل ما يحسنه) اي مايعرفه.

والاحسان النفع الواصل إلى الغير اذا وقع على وجه يستحق به الحمد واذا اختصرت فقلت هو النفع الذي يستحق عليه الحمد جاز، لان مايفعله الانسان

لايسمى احسانا.

وقيل انه *** كان يداوي مريضهم ويعزي حزينهم

[139]

ويجتهد في عبادة ربه.

وقال الزجاج: كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود المريض.

وقيل " من المحسنين " في عبارة الرؤيا، لانه كان يعبر لغيرهم، فيحسن ذكره الجبائي.

قوله تعالى: (قال لايأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون(37))

آية بلاخلاف.

في هذه الآية اخبار بمااجاب به يوسف للفتيين اللذين سألاه عن المنام، فقال لهما " لايأتيكما طعام ترزقانه " والطعام كل جسم فيه طعم يصلح للاكل، غير انه يختلف باضافته إلى الحيوان. والرزق العطاء الجاري في الحكم وكذلك لو اعطاه مرة واحدة، وقد حكم بانه يجريه كان رزقا.

وقال السدي وابن اسحاق: معنى ذلك اني عالم بتعبير الرؤيا اذ لا يأتيكما ماترزقانه في منامكما إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة.

وقال ابن جريج: كان الملك اذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما، فأرسل به اليه، فعلى هذا يرزقانه في اليقظة. وقيل انه كان يخبر بما غاب كما كان عيسى (ع)، وإنما عدل عن تعبير الرؤيا إلى الجواب بهذا لاحد أمرين: احدهما - ماقال ابن جريج: انه كره ان يخبرهما بالتأويل على احدهما فيه، فلم يتركاه حتى أخبرهما.

وقال ابوعلي: إنما قدم هذا، ليعلما ماخصه الله به من النبوة، وليقبلا إلى الطاعة، والاقرار بتوحيد الله.

والانباء: الاخبار بما يستفاد وذلك ان النبأ له شأن، وفيه تعظيم الخبر بما فيه من الفائدة، ولذلك اخذت منه النبوة.

والتأويل: الخبر عما حضر بما يؤل اليه أمره، فيما غاب.

ولذلك قال " قبل ان يأتيكما " وتأويل القرآن مايؤل اليه من المعنى أي يرجع اليه والتعليم تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم بالمعنى، وقديكون الاعلام بخلق العلم بالمعنى في القلب.

[140]

وقوله " اني تركت ملة قوم لايؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون " اخبار من يوسف أنه إنما علمه الله تعالى تأويل ماسألاه لايمانه بالله وحده لاشريك له وعدوله عن ملة الكفار وجحدهم البعث والنشور والجزاء بالثواب والعقاب، و (هم) الثانية دخلت للتأكيد لانه لما دخل بينهما قوله " وبالآخرة " صارت الاولى كالملغاة، وصار الاعتماد على الثانية، كماقال " وهم بالآخرة هم يوقنون "(1) وكماقال " ايعدكم انكم اذا متم وكنتم ترابا وعظاما انكم مخرجون "(2)

قوله تعالى: (واتبعت ملة آبائي إبرهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لايشكرن(38))

آية بلاخلاف.

في هذه الآية أخبار عن يوسف أنه قال لهما: إني في ترك اتباع ملة الكفار وجحدهم البعث والنشور وفي إيماني بالله وتوحيدي له اتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب، فالاتباع اقتفاء الاثر وهو طلب اللحاق بالاول، فاتباع المحق بالقصد إلى موافقته من أجل دعائه.

والملة مذهب جماعة يحمي بعضها بعضا في الديانة، واصله الحمى من المليلة وهي حمى مايلحق الانسان دون الحمى.

والآباء جمع أب وهوالذي يكون منه نطفة الولد، والام الانثى التي يكون منها الولد والجد أب بواسطة، ولا يطلق عليه صفة أب، وإنما يجوز ذلك بقرينة تدل على انه أب بواسطة الابن، وجد الاب اب بواسطتين.

___________________________________

(1) سورة النمل آية 3، وسورة الروم آية 4.

(2) سورة المؤمنون آية 35

[141]

وقوله " ماكان لنا ان نشرك بالله من شئ " إخبار من يوسف أنه ليس له، ولالاحد من آبائه أن يشرك بالله شيئا، ودخلت (من) للنفي العام، والاشراك بلوغ منزلة الجمع لعبادة غير الله إلى عبادته - في عظم الجرم. واليهودي مشرك، لانه بكفره بالنبي قد بلغ تلك المنزلة في عظم الجرم.

وقوله " ذلك من فضل الله علينا " اعتراف منه ان ذلك العدول عن عبادة غير الله هو من فضل الله عليهم من حيث كان بلطفه وهدايته وتوفيقه. والفضل النفع الزائد على مقدار الواجب بوجوب الدين الذي يستحق به الشكر، وكل مايفعله الله تعالى بالعبد، فهو فضل من فضله. والعقاب ايضا فضل، لانه زجر به عن المعاصي. وقيل ذلك من فضل الله علينا ان جعلنا أنبياء وعلى الناس ان جعلنا رسلا اليهم - في قول ابن عباس - وقوله " على الناس " دال على ان الله قد عم جميع خلقه بفضله وهدايته إياهم إلى التوحيد والايمان.

قوله تعالى: (ياصاحبي السجن ء‌أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار(39))

آية.

هذاحكاية مانادى به يوسف للمتسفتين له عن تأويل رأياهما، فقال لهما " يا صاحبي السجن " اي يا ملازمي السجن. والصاحب الملازم لغيره على وجه الاختصاص بوجه من الوجوه، وهو خلاف ملازمة الاتصال، ولذلك قيل أصحاب مالك، واصحاب الشافعي للاختصاص بمذاهبهما، واصحاب النبي لملازمتهم له، والكون معه في حروبه، وصاحبا السجن هما الملازمان له بالكون فيه.

والسجن هوالحبس الذي يمنع من التصرف قال الفرزدق:

وماسجنوني غير اني ابن غالب *** واني من الاثرين غير الزعانف(1)

___________________________________

(1) ديوانه 1: 536 وسيبويه 1: 366 وقد مرفي 1: 320 من هذا الكتاب

[142]

وقوله " ارباب متفرقون " فيه أقوال: قال قوم املاك متباينون خير أم المالك القاهر للجميع، يدلهم بهذا على أنه لايجوز ان يعتقدوا الربوبية إلا لله تعالى - عزوجل - وحده.

وقال الحسن متفرقون من صغير وكبير ووسط، يعني الاوثان.

وقال قوم: معناه متفرقون بمباينة كل واحد للآخر بما يوجب النقص، والقاهر القادر بمايجب به الغلبة لامحالة والقهار مبالغة في الصفة يقتضى انه القادر بما يجب به الغلبة لكل احد والخير الا بلغ في صفة المدح، والشر الا بلغ في صفة الذم.

الآية: 40 - 59

قوله تعالى: ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون(40))

آية بلاخلاف.

وهذا تمام ماقال يوسف للكفار الذين يعبدون غير الله، فقال لهم لستم تعبدون من دون الله إلا أسماء سميتموها.

وقيل في معناه قولان: احدهما - انه لماكانت الاسماء التي سموابها آلهتهم لاتصح معانيها صارت كأنها اسماء فارغة يرجعون في عبادتهم اليها فكأنهم إنما يعبدون الاسماء، لانه لايصح معاني يصح لها من إله ورب الثاني - إلا اصحاب أسماء سميتموها لاحقيقة لها، والعبادة هي الاعتراف بالنعمة مع ضرب من الخضوع في أعلى الرتبة، ولذلك لايستحقها إلا الله تعالى وقوله " ماانزل الله بها من سلطان " أي لم ينزل الله على صحة ما تدعونه حجة، ولابرهانا فهي باطلة لهذه العلة، لانها لوكانت صحيحة، لكان عليها دليل.

[143]

وقوله " ان الحكم إلا لله " معناه ليس الحكم إلا لله فيما فعله او أمر به، والحكم فصل المعنى بماتدعو إليه الحكمة من صواب او خطأ. والامر قول القائل لمن دونه (افعل) والصحيح انه يقتضي الايجاب.

وقوله " امر ان لاتعبدوا إلا اياه " معناه أمر أن تعبدوه، وكره منكم عبادة غيره، لان الامر لايتعلق بأن لايكون الشئ، لانه انما يكون أمرا بارادة المأمور والارادة لاتتعلق الا بحدوث الشئ.

وقوله " وذلك الدين القيم " معناه ان الذي أمر به من عبادته وحده، وان لايشرك به شئ هو " الدين القيم " المستقيم الصواب، ولكن اكثر الناس لا يعلمون صحة مااقوله، لعدولهم عن الحق، والنظر والاستدلال.

قوله تعالى: (ياصاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذي فيه تستفتيان(41))

آية بلاخلاف.

في هذه الآية اخبارعما أجاب به يوسف للفتيين في تأويل رؤياهما حين راجعاه في معرفته، فقال " ياصاحبي اما أحد كما فيسقي ربه خمرا " يعني سيده، ومالكه، لانه كان صاحب شرابه، واجرى عليه صفة الرب، لانه مضاف، كمايقال رب الدار، والضيعة.

و " اما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " فروي ان صاحب الصلب، قال مارأيت شيئا، فقال له قضي الامر الذي فيه تستفتيان. وهذا يدل على انه كان ذلك بوحي من الله ولفظ احد لواحد من المضاف اليه مما له مثل صفة المضاف في الافراد نحو احد الانسانين، واحد الدرهمين، فهو إنسان ودرهم لامحالة. والبعض يحتمل ان يكون لاثنين فصاعدا، ولذلك اذا قال جاء‌ني احد الرجال، فهم منه إنه جاء‌ه واحد منهم.

واذا قال جاء‌ني بعض الرجال جاز ان يكون اكثر من واحد. والاستفتاء طلب الفتيا. والفتيا جواب بحكم

[144]

المعنى، فهو غير الجواب بعينه.

قوله تعالى: (وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنسه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين(42))

آية بلاخلاف.

وهذا حكاية عما قال يوسف (ع) للذي ظن انه ينجو منهما، وقال ابوعلي: الظن ههنا بمعنى العلم لقوله " ظننت اني ملاق حسابيه "(1) وقال قتادة: الرؤيا على الظن، وقال غيره: إلا رؤيا الانبياء، فانها يقين.

والظن هو ماقوي عند الظان كون المظنون على ماظنه مع تجويزه ان يكون على خلافه. والنجاة هي السلامة.

وقوله " اذكرني عند ربك " يعني عند سيدك كماقال الشاعر:

وإن يك رب أذواد فحسبي *** أصابوا من لقائك ماأصابوا(2)

وانما سأله ان يذكره عند سيده بخير ويعرفه علمه وماخصه الله تعالى من الفضل والعلم ليكون ذلك سبب خلاصه.

والذكر حضور المعنى للنفس، وعلى حال الذكر يتعاقب العلم واضداده من الجهل والشك.

والنسيان ذهاب المعنى عن النفس وعزوبه عنها.

والهاء في قوله " فانساه " تعود إلى يوسف في قول ابن عباس - والتقدير فانسي يوسف الشيطان ذكر الله، فلذلك سأل غيره حتى قال مجاعة إن ذلك كان سبب للبثه في السجن مدة من الزمان.

وقال ابن اسحاق والحسن والجبائي يعود على الساقي، وتقديره فأنسى الساقي الشيطان ذكر يوسف.

___________________________________

(1) سورة الحاقة آية 20.

(2) قائله النابغة الذبياني. ديوانه 19 (دار بيروت) وروايته:

وان تكن الفوارس يوم حسبي *** اصابوا من لقائك مااصابوا

[145]

وقوله " فلبث في السجن بضع سنين " فاللبث في المكان هو الكون فيه على طول من الزمان، واللبث والثبوت والسكون نظائر. والبضع قطعة من الدهر. وقيل البضع من الثلث إلى العشر - في قول ابن عباس - وقال قتادة ومجاهد إلى التسع وقال وهب: إلى سبع سنين. والسنة إثنا عشر شهرا ويجمع سنين وسنوات.

قوله تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملا أفتوني في رء‌ياي إن كنتم للرء‌يا تعبرون(43))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى في هذه الآية: إن الملك الذي كان يوسف في حبسه، وكان ملك مصر فيما روي، قال إنه رأى في المنام " سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " يعنى مهازيل " وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " ثم أقبل على قومه، فقال " ياايها الملا " اي ياايها الاشراف والعظماء الذين يرجع اليهم " أفتوني في رؤياي ان كنتم " تعبرون الرؤيا، وتدعون العلم بتأويلها، والملك القادر الواسع المقدور الذي اليه السياسة والتدبير.

والرؤيا تخيل النفس للمعنى في المنام حتى كأنه يرى، ويجوز فيها الهمزة وتركها.

والبقرات جمع بقرة والسمن زيادة في البدن من الشحم واللحم وهو على الشحم أغلب، والعجف يبس الهزال يقال: عجف يعجف عجفا، فهو أعجف. والانثى عجفاء، والجمع عجاف، وسنبلات جمع سنبل، والعبارة: نقل معنى التأويل إلى نفس السائل بالتفسير، وهي من عبور النهر وغيره، ومنه المعبر والعبارة، وإنما دخلت اللام في قوله " للرؤيا " مع أن الفعل يتعدى بنفسه، لانه

[146]

إذاتقدم المفعول ضعف عمله، فجاز إدخال حرف الاضافة لهذه العلة، ولايجوز يعبرون للرؤيا، لانه في قوة عمله.

قوله تعالى: (قالوا أضغاث أحلام ومانحن بتأويل الاحلام بعالمين(44))

آية بلاخلاف.

هذا حكاية ماأجاب به الملا الملك حين سألهم عن تعبير رؤياه ولم يعرفوا معناها، قالوا: " أضغاث أحلام " أي هذه الرؤيا أضغاث أحلام، والاضغاث جمع ضغث، قال قوم: هو الحزمة من الحشيش، والبقل، وغيره.

وقال آخرون: هو خلط قش المد، وهو غير متشاكل، ولا متلائم، فشبهوا به تخليط المنام، ونفوا ان يكونوا عالمين بمثل ذلك.

وقال قتادة: هي اخلاط أحلام وقال ابن مقبل:

خود كان فراشها وضعت به *** اضغاث ريحان عداه شمال(1)

وقال آخر:

يحمي ذمار جنين قل مانعه *** طاو لضغث الخلا في البطن ممتكن(2)

وقال آخر:

واستقل مني هذه قدر بطنها *** والقيت صغثا من خلا متطيب(3)

والاحلام جمع حلم، وهوالرؤيا في النوم، وقد يقال: جاء بالحلم أي الشئ الكثير، كأنه جاء بما لايرى إلا في النوم لكثرته.

والحلم: الاناة، حلم حلما: إذا كان ذا أناة وإمهال. والحلم ضد الطيش. ومنه " ان ابراهيم لحليم أواه

___________________________________

(1، 2) تفسير الطبري (الطبعة الاولى) 12: 125 وروايته (غداة) بدل (عداه).

(3) مجاز القرآن 1: 312 وجمهرة اشعار العرب 2: 23 وقد نسب إلى عوف بن عطية ابن عمر بن الحارث بن تميم. انظر سمط اللالي 377، 723 ومعجم البلدان 277.

[147]

منيب "(1) والحليم: من له مايصح به الاناة دون الخرق والعجلة.

والله الحليم، الكريم، و (الحلم) بضم اللام مايرى في المنام، لانها حال أناة وسكون ودعة تقول: حلم يحلم حلما بسكون اللام - اذا اردت المصدر، والحلمة رأس الثدي، لانها، تحلم الطفل، والحلام الجدي الذي قد حلمه الرضاع، ثم كثر حتى قيل لكل جدي.

قوله تعالى: (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون(45))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى في هذه الآية أن الذي نجا من الفتيين اللذين رأيا المنام، وفسره لهما يوسف وهو صاحب الشراب - على ماذكره له يوسف، فتذكر بعد وقت وحين من الزمان، لامر يوسف، وقال لهم أنا اخبركم بمايؤل اليه هذا المنام، فابعثوني حتى ابحث عنه.

و (النجاة) التخلص من الهلاك. والادكار طلب الذكر. ومثله التذكر والاستذكار، ووزنه (الافتعال) من الذكر وأصله الاذتكار، فقلبت التاء ذالا وادغمت فيها الدال على أصل ادغام الاول في الثاني ويجوز اذكر، على تغليب الاصلى على الزائد.

و (الامة) المذكورة هي الجملة من الجبن، وأصله الجماعة من الجبن، وسميت الجماعة الكثير من الناس أمة، لاجتماعها على مقصد في امرها.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: " بعدأمة " أي بعدحين، وحكى الزجاج وغيره عن ابن عباس " بعد أمة " اي بعد نسيان، يقال أمه يأمه أمها بفتح الميم -، وحكي عن ابي عبيدة - بسكون الميم - قال الزجاج هذا ليس بصحيح وأجازه غيره، وروى هذه القراء‌ة عن جماعة كقتادة وعكرمة وغيرهم.

___________________________________

(1) سورة هود آية 75.

[148]

وتأويل الرؤيا تفسير مايؤل اليه معناه، وتأويل كل شئ تفسير مايؤل اليه معنى الكلام.

وحكي عن الحسن أنه قرأ " أنا اجبكم بتأويله " وهو خلاف المصحف.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336595

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:41

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net