• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 80 ـ في تفسير سورة عبس .

80 ـ في تفسير سورة عبس

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (25) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (26) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (27) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (28) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (29) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (30) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (31) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾

  1. ـ إن هذه الآيات التي فيها من التقريع ما لا يخفى على المتأمل، لا تناسب أن تكون في حق النبي (ص) الذي وصفه القرآن بأنه على خلق عظيم [﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ سورة القلم: الآية 4]، إذ إن العبوس في وجه الكافر لم يكن من شيم النبي الأعظم (ص)؛ فكيف في وجوه المؤمنين؟!.. وكيف بمَن وصفه القرآن الكريم بـ﴿الْأَعْمَى﴾‏ ممّا يستلزم المزيد من الشفقة؟!.. فكيف بمَن جاء ﴿يَسْعَى﴾‏ بجهد ويريد أن يكون ممّن ﴿يَخْشَى﴾؟!

إن المزايا الأخلاقية التي تصدر من المؤمن، إنما هي من منطلق كماله الذاتي، لا طلبا لثناء أو شكر أو مكسب آخر.. فالعبوس في وجه الآخرين أمر مذموم ولو كان ذلك في وجه أعمى لا يرى ذلك العبوس!.. والمؤمن يجلّ نفسه عن ذلك؛ لأنها صفة مبغوضة عند ربه وفي نفسه.

إن القرآن عندما يتكلم عن الهداية، يذكر التزكية كمحور لحركة الأنبياء عليهم السلام [﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ سورة البقرة: الآية 151]، فالتشريعات كلها جاءت لتخليص الإنسان من عبودية الهوى إلى التسليم للهدى.. ومن المعلوم أن الطريق إلى التزكية هو بالتذكير المُخرج لصاحبه عن دائرة الغفلة، فجمعت الآية بينهما ﴿يَزَّكَّى﴾ و﴿يَذَّكَّرُ﴾.

إن دعوة الدعاة إلى الله تعالى، ليست دائماً للإخراج من الجهل ليكون عملهم تعليماً، بل يكون أيضاً للإخراج من الغفلة؛ فيكون عملهم تذكيراً، ومن هنا جعلت الآية التذكير نافعاً للبعض وإن كان غافلاً ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ ومن المعلوم أن هذا الأمر لا ينطبق على المعاندين، بل يزيدهم عتوّاً وكفراً.

إن عادة أهل الدنيا هو الميل لما هو ملاك التقدّم عندهم، ألا وهو الاستغناء ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى‏ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ لأنه كمال محسوس عندهم قريب إلى طبعهم؛ بخلاف من جاء يسعى وهو يخشى، فإن كماله لا يُدرك بحسب طباعهم البشرية ممّا يوجب الالتهاء عن أصحاب هذا الكمال، وهذه الصفة الثابتة لأهل الدنيا لا تنسجم أيضاً مع مقام النبي (ص) ممّا يؤكد مرة اُخرى انصراف هذا العتاب عنه.

إن الآيات التي توبّخ مَن أعرض عن الأعمى لعدم وجاهته الاجتماعية، تريد منا تحكيم الموازين الشرعية في التفاضل بين العباد، وهي قاعدة الأكرمية عند الله تعالى بالتقوى [﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ سورة الحجرات: الآية 13]، والتي لم تكن محكّمة أيام الجاهلية، بل ولا بعد الإسلام في كثير من الأوساط.

 ومن آثار عدم تحكيم هذه القاعدة، ما ذكرته الآية صريحة من إعراض العابس عمّن هو واجد لصفتين عظيمتين وهما: السعي للتزكية ﴿جَاءَكَ يَسْعَى﴾ والتلبّس بالخشية المستمرة المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾ بل أشارت إلى ما هو أسوأ من الإعراض أعني التشاغل بالغير؛ وهو المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾.

إن من صفات أهل الدنيا وطالبي الاستغناء هو عدم اهتمامهم باهتداء الناس إلى طريق الهدى؛ لأنهم أساساً غير معنيّين بالهداية والتزكية؛ فكيف يحملون همّ تزكية الآخرين؟!

ومن هنا جعلت الآية هذه الحالة من إهمال تزكية الغير من موجبات العتاب ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى﴾ ومن الممكن القول: إن هذه الحالة من عدم الاكتراث، لهو من مصاديق: «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» [الكافي: ج 2 ص 164] إذ إن من أهم أمور المسلمين هو السعي لتزكية الآخرين.

إن الآيات المتعلقة بالقرآن الكريم في هذا المقطع، تدل على عظمة القرآن من جهة أنها:

مجموعة في ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ﴾ وذلك في عالم الغيب، سوى هذه الصحف التي بين أيدينا.

أنها مرتفعة القدر ﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾ بارتفاع قدر منزلها.

هي ﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾ من كل دنس، ومن أن تنالها يد التحريف.

هي ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ كرام؛ وهم أعوان الملك الأعظم جبرائيل عليه السلام منزل الوحي، ومن هنا كان مطاعاً ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [سورة التكوير: الآية 21] فقد جرت العادة على استحفاظ نفائس الأشياء بأيدٍ عديدة، مبالغة في إكرامها أو حفظها.

إن القرآن كما تحمله أيدي الكرام البررة في عالم الإرسال، فكذلك يتحمّله كرام الأمة الخاتمة في عالم التلقّي، وهم المعصومون عليهم السلام الذين يحملون حقائق القرآن في كل عصر، ويليهم الأمثل فالأمثل في الطهارة والكرامة؛ لأن الصحف المكرمة المطهرة تحتاج إلى أوعية متناسبة مع ذي الوعاء في الطهارة والقدس، ومن هنا فانه لا يستوعب حقائق القران الكريم ـ حتى من العلماء ـ إلا مَن كان طاهرا مطهرا ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾ [سورة الواقعة: الآية 79].

إن الرب الذي يدعو المسرفين إلى رحمته متحبّباً إلى العصاة من خلقه [﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِم... سورة الزمر: الآية 53] فإنه يدعو على فئة من خلقه وهم الذين كفروا بأنعمه بأشد التعبير؛ ألا وهو الموت قتلاً ﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾!.. فالتفاوت شاسع بين قوسي الرحمة والغضب، وذلك لأن في الكفر نوع تحدٍّ لمقام الربوبية.

ومن الممكن بعد التأمل أن نقول: إن الغضب أيضاً شعبة من شعب رحمته، إذ إن قوام العدل وتربية العباد، يكون أيضاً بنفاذ الغضب في موضعها، لتتبين الرحمة في موضعها أيضاً.

إن الكفر الأعظم يتمثل في تغطية المنعِم بحجاب الإنكار ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ والكفر الأصغر يتمثل في تغطية نِعمه، ويطلق على مرتكبِهما عنوان (الكافر) ولكن العتاب الشديد في الآيات يتناسب مع الكفر بالربوبية.

ومع ذلك فإن هذا العتاب قد يشمل الكفر بالنعمة بدرجة من الدرجات، وهذا العتاب لو خففّناه لكان الباقي منه ثقيلاً على العبد أيضاً، ومن هنا أُلحق المبذّر بالنعمة بـ﴿إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [سورة الإسراء: الآية 27] لأنه نوع كفران بها.

إن استعمال صيغة التعجب من خالق الوجود لأمر من الأمور ملفت حقّاً!.. فالذي لا يرى في الوجود شيئاً يُعتد به لعظم سلطانه وترامي ملكه، فإن إظهار التعجب منه تعالى في كتابه ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ يدل على فداحة الأمر، وأيّ خطب أعظم من إنكار مَن يصف نفسه في موضع آخر قائلاً ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [سورة إبراهيم: الآية 10].

إن الله تعالى عندما دعا بالقتل على الكافر ـ وهو أبلغ من اللعن في بيان الطرد من ساحة الرحمة ـ فإنه لا يُحقق دعائه في الدنيا دائماً، إذ قد يعيش مَن دعا ربه عليه بالقتل منعّماً مترفاً في الدنيا، ولكن الأشد من قتل الأبدان هو موت الأرواح الذي هو بحكم القتل لها ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [سورة النحل: الآية 21] حيث أن جوارحهم الباطنية، من سمعٍ وبصرٍ وفؤادٍ معطلة لا تعمل، وأيّ حياة بعد هذا كله؟!

إن القرآن الكريم كثيراً ما يذكّر الإنسان بأصله بتعابير مختلفة ﴿مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ [سورة القيامة: الآية 37] و﴿مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‌﴾ [سورة السجدة: الآية 8] كما أن في هذه الآيات أيضاً تذكيراً للكافر بأصله، ليذكّره أوّلاً بحقارة منشئه ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ﴾ فهو من ماء دنسٍ ذي رائحة كريهة، ولبيان عظمة خلقه ثانياً، إذ إنه تعالى يخرج من ظلمات الأرحام في شهور ثلاثة ما يبهر الألباب بجماله ودقة صنعه، ومن هنا استحق الدعاء عليه بالقتل عند إنكاره لمبدئه.

وملخص القول: إن مَن كان هذا أصله، فإنه لا يليق به أن يتفوّه بما يوجب الكفر.

إن التعبير بـ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ يُشعر بأن هناك يداً مُقدِّرة، أرادت التدخل في هذه الفترة القصيرة لتصنع الأعاجيب، وبعدها يترك الخالق أمر العبد إلى نفسه، ليصنع ما يشاء!.. فلو أن العبد طلب من مولاه أن يرعاه بلسان المقال ـ بعد خروجه من عالم الأرحام ـ ما كان يطلبه في ذلك العالم بلسان الحال، أفلا يصل إلى كماله التشريعي كما وصل إلى كماله التكويني، فاليد المقدّرة في الحالتين واحدة؟!

إن الله تعالى خلق الخلق، وكلٌّ مُيسّر لما خُلق له ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ وهذا المعنى يراه العبد متجلّياً في أول الطريق ـ وإن كان عاصياً ـ إلا أنه ومع تكرار المعاصي وخاصة الكبائر منها، يصل إلى مرحلة لا يرى السبيل مُيسّراً بل ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [سورة الليل: الآية 10] فيرى في نفسه ميلاً قهرياً إلى الباطل، والشياطين المستولية عليه تسوقه إلى موجبات العسر سوقاً، وهذا معنى ولاية الشيطان على بعض من اتبع غير سبيل الهدى.

إن الالتفات إلى أوّل مراحل الدنيا ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ وإلى آخر مراحلها ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ لمن موجبات كسر الغرور الباطني، وخاصة عند مَن يرى في نفسه مقتضياً لذلك، كمَن ذكرته الآية في أوّل السورة، أي: الذي يتصدّى لمَن استغنى، ويتلهّى عمّن يخشى.

فذكر الإماتة والإقبار في سياق العتاب على مَن دعا عليه القرآن بالقتل، قد يدل على نوع من أنواع التحقير أيضاً لمَن يعيش غرور الكفر، فقد ذكّرته تارة بأنه من نطفة قذرة ﴿أَلَمْ نَخْلُقْکُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‌﴾ [سورة المرسلات: الآية20] وفي هذه السورة تذكره بأنه سيؤول أخيراً إلى جيفة نتنة [نهج البلاغة: الحكمة 451] لا بُد أن تُقبر دفعاً للأذى، فلِمَ الغرور قِبال كبرياء رب العالمين؟!

إن الإماتة التي مآلها الإقبار، هي هذه الإماتة الظاهرية للأبدان التي تتحلل في التراب، ولولا خاصية الأرض في تحليل الموتى، لكانت الجثث ممّا يوجب التقذّر والتنفّر من أصحابها!.. ولكن هذا السير النزوليّ للأبدان ـ عموماً ـ يقابله سير صعوديّ لبعض الأرواح، فإن من الأرواح ما هو مآلها إلى ﴿مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر﴾ [سورة القمر: الآية 55].

إن الحكمة الإلهية تقتضي إحياء الموتى لينال المستحق جزاءه من الثواب والعقاب، ولكن كل ذلك في دائرة المشيئة الإلهية، ولهذا عبّرت الآية بأنه ﴿إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾ فهو المالك للرقاب: بدءاً وختماً، تكليفاً وجزاءً.

إن الآيات العديدة تصف طبيعة الإنسان بأنها: ميّالة إلى الهلع والجزع [﴿إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً سورة المعارج: الآية 19-20]، وأنه ظلوم وجهول [﴿إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً سورة الأحزاب: الآية 72]، وأنه في خسر [﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَفي‏ خُسْرٍ﴾ سورة العصر: الآية 2]، وهذه الآية تُبيّن أن الإنسان الذي هو في قبضة مولاه وفي كل تقلّباته، لا يلتفت إلى كل ما ذكرته الآية من الخلق والإقبار، فهل قضى ما أمره به ربّه؟.. والجواب: ﴿كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾.

إن الأمر بالنظر إلى الطعام يعمّ كل وجوه النظر سواء من جهة المنشأ، أو كيفية تحصيله، وتنوّع محصوله، وتضافر الأيادي على تجهيزه.. ومن الممكن الانتقال من الطعام المادّيّ للأبدان إلى الطعام المعنويّ للأرواح، وقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الطعام في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ أنه قال: «علمه الّذي يأخذه عمّن يأخذه» [الكافي: ج 1 ص50].

انتقلت الآيات ـ بعد العتاب الموجّه إلى كل مَن كفر بربه ـ إلى خطاب عموم البشر، لإثارة دواعي التأمّل والتفكّر في أنفسهم، ومنها دعوتهم للنظر إلى آثار رحمة الله تعالى في الأرض، فقد سخّر الله تعالى الماء المصبوب ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ والأرض المُخرجة لأنواع النبات ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ وذلك لإشباع جوعة بني آدم ﴿فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا﴾ بل لتلذذه بالنظر إليها؛ كالأشجار الشامخة ﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾!

وهذه من أقرب اللذائذ الحسية لعموم البشر، ولعل الآية اختارتها من بين عموم النعم، للمنّة على العباد بما هو واضح لديهم من المأكول والمشروب.

إن هذه الآيات صريحة في أنها تنسب إنبات الأرض وإنزال الماء من السماء إلى الله تعالى، والحال أن الغافلين من عباده يرون انتساب الزراعة إلى أصحابها أوضح من انتسابها إليه تعالى، غفلة عن مسبّبيّته للأسباب ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [سورة الواقعة: الآية 64].

ومن هنا وعندما يأكل العبد ممّا ذكرته الآية من ﴿عِنَباً وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا﴾ و﴿فَاكِهَةً﴾ والخضروات ﴿قَضْبًا﴾ فإنه يعيش حالة الامتنان والشكر لخالقه؛ أكثر ممّا يعيشه تجاه مقدّمه.. فأين الخالق لأصل الطعام، وأين مَن يقدّمه لمخلوق مثله؟!

إن القرآن الكريم عندما يذكر المتاع المأكول يقرن الأنعام ببني آدم ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ ومنه ما في هذه السورة فيذكر ما هو مأكول الإنسان ﴿فَاكِهَةً﴾ وما هو مأكول الحيوان ﴿أَبًّا﴾ في سياق واحد؛ ولكن عندما يصل الأمر إلى المتاع المعقول، فانه يجعله في سياق الملائكة العارفين بالله تعالى ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [سورة آل عمران: الآية 18].

تكرّر في القرآن ذِكر أنواع الصيحة يوم القيامة، فمنها:

الصيحة المجردة: ﴿صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [سورة يس: الآية 53].

الراجفة: وهي الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب.

الصاخة: وهي الصيحة الشديدة التي تصمّ الأسماع من شدتها.

الناقور: الذي ينبعث منه صوت يخرق الأسماع.

والجامع بين هذه الأصوات جميعاً: هو أن هناك صوتاً مفزعاً يؤذن بالحساب يوم القيامة، والحال أن الله تعالى في دار الدنيا تلطّف كثيراً في الخطاب، لبعث العباد على محاسبة النفس قبل محاسبة القيامة: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» [بحار الأنوار: ج67 ص 73]، وللموت الاختياري قبل الموت الإجباري «موتوا قبل أن تموتوا» [بحار الأنوار: ج ٦٩ ص ٥٩]، ولزنتها في دار الدنيا قبل أن توزن في الآخرة «وزنوها قبل أن توزنوا» [بحار الأنوار: ج67 ص 73]، حيث لا مجال للتدارك بعدها.

إن التعبير بالفرار ممّن ذكرتهم الآية ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ يدل على عظم ما فيه أهل المحشر، فهو:

إما لانشغال كل فرد بنفسه، بما يشغله من أهوال يوم القيامة.

وإما للخوف من مطالبة مَن ذُكر، لحقوقهم المضيّعة في الدنيا.

وإما فراراً من التورّط بهم، إذ قد يطلبون منه شيئاً من حسناته، وهو أحوج ما يكون إليها!

إن مَن يتذكر هذه الآية ـ وهو في الحياة الدنيا ـ يعيش حالة من الحذر ممّن حوله حتى من أقرب المقرّبين إليه !.. والطريق الأمثل للخلاص من تبعاتهم، هو تحويلهم إلى أعوان لآخرته، بدلاً من أن يكونوا عوناً على دنياه فحسب ـ كما هو ديدن أهل الدنيا ـ إذ لا يريدون من الأولاد إلا عزة، وتفاخراً، وتكاثراً، بخلاف المؤمن الذي همّه أن يجعل من ذريته صدقة جارية له بعد موته.

وعندئذ فإنه من الطبيعي أن يرحب بهم في عرصات القيامة، بل يبحث عنهم ليُعين بعضهم بعضاً، ليكونوا في درجة واحدة في الجنة، ومصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏﴾ [سورة الطور: الآية 21].

إن من الملفت في هذه السورة ذكر آية ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ بعد ذكر فرار الإنسان من أهله الأقربين منه، ممّا يفهم منه أن انشغاله بنفسه هو الذي جعله يلهيه عمّن سواه، وما انشغاله بنفسه إلا لانكشاف الحجب عنده، ووقوفه موقف المساءلة بين يدي الله تعالى.

ومن هنا نقول: لو عاش العبد حقيقة المحضرية في الحياة الدنيا لتحققت الثمرتان معاً، أعني عدم تعلّقه المشغل بغير الله تعالى أوّلاً، وانشغاله بنفسه ثانياً.. وهو ما دعت إليه الروايات المتعددة في أن يلتفت الإنسان إلى نفسه أوّلاً قبل الالتفات إلى غيره، والآية الكريمة ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [سورة التحريم: الآية 6] شاهدة على ذلك أيضاً.

إن التدرج في الآية بين الأخ والأم والأب والزوجة والابن، قد يكون بلحاظ التدرج الصعودي في التعلق القلبي ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ فأوله الأخوة، وآخره البنوة لأن الولد قطعة من الأبوين وليسا هما قطعة منه.

ولعل من هذه الجهة نفسها خص القرآن الكريم ذِكر الأولاد في سياق الأموال، من جهة الافتتان بهما ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [سورة الأنفال: الآية 28].

إن الوجوه الظاهرية مظهر للحالات الروحية التي يمر بها العبد في الدنيا والآخرة:

أما في الآخرة: فالأمر واضح كما تذكره الآية إلى درجة يكون الأمر فيها حسيّاً، ففي جانب الخير هناك الإشراقة في الوجه ﴿مُسْفِرَةٌ﴾ وفي جانب الشر هنالك الغبار والظلمة ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ بحيث يعلمه ويراه أهل المحشر، لانكشاف الغطاء عنهم جميعاً.

وأما في الدنيا: فإن هناك مسحة من النور تلفُّ وجه المؤمن وهو يستشعرها، بل يراها كل مَن أوتي فراسة إيمانية توجب له الرؤية بنور الله تعالى.

ولا يخفى أن نور الوجه يوم القيامة إنما يُكتسب في هذه الدنيا، وخاصة بقيام الليل وتلاوة القرآن.

إن الانحراف الموجب لظلمة الوجه ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ يكون من سببين:

الانحراف العقائدي الذي يتمثّل أوجه في الكفر بالله تعالى ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ﴾.

الانحراف السلوكي المشار إليه بكلمة ﴿الْفَجَرَةُ﴾.

وعليه، فلا ينبغي أن يركن مَن هو على عقيدة صحيحة ـ بل ويرى في قلبه حبّاً لأولياء الله تعالى ـ إلى ما هو عليه، إذا لم يكن مستقيماً في مقام العمل، فالفجور عِدلٌ للكفر كما ذكرته الآية في سياق واحد.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2467
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 03 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24