• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 86 ـ في تفسير سورة الطارق .

86 ـ في تفسير سورة الطارق

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)﴾

1. إنّ القرآن الكريم كثيراً ما يدعو الإنسان للنظر إلى ما فوقه من السماء والنجوم، وذلك للانتقال من مألوف الأرض إلى غريب السماء!

وقد ذكر ـ في هذا السياق أيضاً ـ ذلك النجم الذي يثقب ظلام اللّيل ، وقد فخّم القرآن أمره بقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾، وهو الاستعمال الوحيد لغير أحداث القيامة وليلة القدر في مثل هذا التعبير ؛ أي: استعمال صيغة ﴿وَما أَدْراكَ﴾ في عنصر مادّي من عناصر هذا الوجود ، وهو يكشف عن عظمة هذا النجم!

2. ما الذي يمنع مَن يخرق ظلمة اللّيل بذلك ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ فينير ظلمته ، من أن يخرق ظلمة النفس فينير ما أظلم منها ، إذ إنّ يد القدرة الإلهية واحدة في الجميع، فلِمَ اليأس من العناية الإلهية في غمرة الظلمات الأنفسية ، وهو الذي أزاح الظلمة الآفاقية بالنجم الثاقب؟!

3. إنّ الحفظ المذكور في هذه الآية ، من الممكن أن يكون إشارة إلى :

- حفظ الملائكة لأعمال العبد كما ذُكر في قوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سورة الانفطار، 10-12].

- حفظ الملائكة للعبد من الحوادث والمهالك كما ذكر في قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ [سورة الرعد، 11].

ويجمعهما أنّ الإنسان مقترن بصنف آخر من الخلق، هم الملائكة الذين يقومون بدور الوسطاء بينه وبين ربّه: في حفظ الأعمال تارةً ، وحفظه من الآفات تارةً اُخرى .

4. إنّ هذه السورة تنتقل من ذِكر ما هو في أعلى طبقات السماء من النجم الثاقب، إلى ما في أسفل بدن الإنسان الذي منه يخرج المنيّ الدافق؛ ليتأمّل العبد بفكره في كل زوايا الوجود المذهل؛ متعرّفاً على عظمة خالقه في كل شيء ، مدركاً أنّ كل ذلك لحكمة جامعة ، متمثّلة بالعودة إليه كما خلقه أوّل مرّة .

5. إنّ القرآن يذكّر العبد بأعقد عملية في هذا الوجود ، ألا وهي عملية تشكّل الوجود البشري الذي جعله في أحسن تقويم ، وذلك بالتذكير بالمنشأ وهو الخلق من ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ الخارج من ﴿الصُّلْبِ، إذ لولا سيلانه وتدفّقه لما تحقّق التلقيح، والتذكير بموضع النطفة الملقّحة ، وهو الجوف المحفوظ بعظام الصدر ﴿التَّرائِبِ والظهر ؛ ليبقى العبد مبهوراً بعظمة خالقه أوّلاً ، ومتيقّناً من قدرته على إعادة النشأة ثانياً .

6. إنّ القرآن كثيراً ما يربط بين أوّل الخلقة وآخرها، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة يس، 79]، وبين القدرة على الإيجاد والإعادة ، كما ورد في هذه السورة ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾، ليبقى العبد متذكّراً لنهاية الأمر وهو منشغل بأوّله، فطبيعة الدنيا بما فيها من مزيج المتع والبلاء من موجبات الغفلة والانشغال عمّا يراد بصاحبها .

7. إنّ الإنسان بإمكانه ستر سريرته الفاسدة بإظهار ما يوجب له حسن الذكر والصلاح ؛ ولكن ماذا ينفعه ذلك ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾؟! ومن هنا لزم على العبد المراقب أن يُصلح سريرته الباطنة غير مكتف بإصلاح أعماله الظاهرة ؛ وهو ما يغفل عنه حتى الخواص من الخلق!

فإنّ الله تعالى يحاسب على البواطن كما يحاسب على الظواهر ، بل يعذّب عليها كما في الانحرافات الاعتقادية ، أو ما أوجب معصيةً في الظاهر ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سورة البقرة، 284].

8. إنّ الذي ينكشف سرّه الموجب للفضيحة بين الناس ، يتشبّث بكل حيلة لدفع الضرّ عن نفسه ، سواءً بالاعتماد على قوّته أو على قوّة غيره ، ومن المعلوم أنّ الخلائق في ذلك اليوم متساوية المثول بين يديه ، فلا يمكن أن يكون أحد ناصراً لأحد قبال الحاكمية الإلهية المطلقة.

ويا حبّذا لو استشعر الإنسان هذه الحقيقة في دار الدنيا ، وهي أنّه لا حول له ولا قوّة إلا بالله تعالى ، وأنّه لا ناصر سواه ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾، فإنّ نفي القوّة والناصر حقيقة سارية في كل النشآت ، وإن استشعرها الإنسان في ذلك اليوم .

9. إنّ القرآن يرعى المناسبة بين القَسَم والمُقْسَم عليه، وهو مقتضى الحكمة بلا ريب في كل موارد القَسَم ، فهنا أقَسَم بالسماء ﴿ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ وهو المطر الذي يرجع إلى الأرض بعد صعود البخار منه [مفردات ألفاظ القرآن، ص343]، والأرض ﴿ذاتِ الصَّدْعِ؛ أي: ذات الشق الذي يخرج منه النبات [مجمع البحرين : ج4 ص358]، فمجموع القَسَمين يوحي بأنّ هناك يداً تُحيي الأرض بعد موتها ، بتسبيب الأسباب الأرضية والسماوية!

ومن المعلوم أنّ القادر على الإحياء في هذه النشأة هو القادر على الإحياء في تلك النشأة أيضاً ، وهو ما ورد ذكره في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ .

10. إنّ المناسبة أيضاً واضحة بين ظاهرة الإمطار السماوي والإنبات الأرضي ، وبين إنزال القرآن الكريم ، فهو أيضاً من مظاهر الرحمة الإلهية التي تنزل على القلوب المستعدّة ، فتخرج منها ثمار المعرفة.

وعليه ، فإنّ مَن يريد فاعلية تأثير الهدى الإلهي في النفوس ؛ لا بُدّ له من أن تكون له القابلية لتلقّي الفيوضات الإلهية ، كما هي حال الأرض في استعدادها لتلقّي مطر الرحمة لتخرج ﴿حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ [سورة النمل، 60]، وقد عبّر القرآن الكريم عن نفسه بأنّه ﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ بين الحقّ والباطل ، فمَن لم يلتزم به وقع في الباطل قهراً؛ إذ ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [سورة يونس، 32].

11. إنّ الذين تعاملوا مع القرآن الكريم ـ والذي لا جِدّ فوقه ـ معاملة ما هو من مصاديق ﴿الْهَزْلِ جعلوا أنفسهم في مقام التحدّي لجبّار السماوات والأرض ؛ ولهذا جعل الله تعالى نفسه في مقام الكيد لهم ، وهو الانتقام مع ما يشوبه شيء من المباغتة والاستدراج ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾، وكم هو منتهى الحمق أن يواجه العبد بكيده كيدَ ربّ العالمين!

ومن هذا المنطلق أيضاً لا ينبغي الخوف من كيد الظالمين ، ما دمنا نعتقد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد .

12. إنّ الكيد وإن كان مذموماً في أصله ، إلا أنّه لمّا كان في مقابل كيد الكائدين صار من باب المقابلة بالمثل ، وهو راجح من باب ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [سورة يونس، 27].

أضف إلى أنّ الله تعالى ـ وهو المالك على الإطلاق ـ له الحقّ في مجازاة الظالمين بشكل خفيّ وهو ما يفيده التعبير بالكيد ؛ لأنّ الله تعالى يختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم ؛ ليجرّهم أخيراً إلى عذاب أليم .

13. إنّ الله تعالى يطلب من نبيّه عدم الاستعجال في رؤية انتقام الله تعالى من الكافرين وعدم الانشغال بهم ؛ بل طلب منه الإمهال، كما في قوله: ﴿أَمْهِلْهُمْ امهالاً ﴿رُوَيْدًا؛ أي: قليلاً ليريه الله تعالى جزاء كيدهم!

وهو ما تحقّق للنبي (صلّى الله عليه وآله) في حياته المباركة من رؤية الانتصارات الباهرة بدءاً من معركة بدر ، وانتهاءً بدحر أعدائه الذين أخرجوه من بلده وذلك بفتح مكّة، ومن المعلوم أنّ ما خفي من العذاب يوم القيامة أعظم ، وهو أيضاً قريب لمَن تيقّن بحلوله!


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2447
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 01 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28