• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : نزول القرآن هداية للناس ووجوب تدبّره * .

نزول القرآن هداية للناس ووجوب تدبّره *

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

لا شك في أن الله أنزل القرآن على نبيه دليلاً على نبوته وبرهانًا لصدقه في دعوته وجامعًا لما بعثه لتبليغه، فهو المعجز في أسلوبه والهادي للإنسان بمضامينه، يسير مع الخلود وينادي بنداء: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، تحدّيًا على المنكرين الشاكّين في كونه كلام رب العالمين، ومزيدًا لإيمان أرباب اليقين، ولم يشهد التاريخ في طول أعصاره من اجترأ على الإقدام بإتيان مثله، إلا رجع خائبًا واعترف بعجزه.

وأما مضامينه فتتضح يومًا بيوم وتتبلور في الأذهان بتطوّر العلوم؛ فظاهره أنيق وباطنه عميق، يتحيّر العاقل بأن يقرع أي باب من أبواب علومه المتنوعة، وأن ينظر إلى أي جانب من جوانبه المتعددة، فهل ينظر إلى هذا السبك البديع المعجز لكل بليغ عن مباراته مع أن اللغة عبارة عن سلسلة من المواد وجملة من الهيئات منتظمة بقواعد نحوية، وهي معلومة لكل إنسان عربي ومعروضة على كل طالب أجنبي، فمن عرف اللغة العربية بموادّها وهيئاتها وقواعدها، لم يعسر عليه تركيب الجمل، فلم يقدم أحد على معارضة القرآن، وهلا يكون هذا إلا الاعجاز، وهل يبقى مجال للوسوسة في كونه كلام الرحمن؟!

ثمّ لا يدري العاقل هل يتأمل في فصاحته وبلاغته وتمثيلاته واستعاراته وتلميحاته وترشيحاته؟ أم يتدبر في معانيه العميقة ومطالبه الراقية الدقيقة، أو يدقق النظر في كيفية رعايته لسعادة الإنسان في عيشته العائلية والنظامية، ومعالجته لمشاكل الحياة مقرونًا بما يسعده في الآخرة، فالقرآن هو الكفيل الوحيد لسعادة النشأتين من دون تعطيل قانون من قوانين الحياة المادية أو تعطيل غريزة من الغرائز البشرية.

أم هل يتعمق في معارفه الحقة وأحكامه العادلة ونظامه السياسي‏ والاقتصادي وأمره بالأخلاق الفاضلة ونهيه عن الصفات الرذيلة؟ أو هل ينظر إلى ما قص علينا من قصص الغابرين تذكرة وموعظة لنا في سيرتنا وسريرتنا لنأخذ منهم ما مكّنهم من الارتقاء إلى المدارج العالية ونتجنّب ما ورّطهم في المهالك؟ فالقرآن هو الكافل لجوامع الكمال والشامل لموازين الاعتدال والجامع لقوانين العدل والإحسان، والمعيار التام للأخلاق الفاضلة والمقياس العام للخصال النازلة، وهو الهادي للبشر إلى الصراط الأقوم والمرشد لهم إلى الشرع الأتم، وهو المشرع للأحكام والجاعل لهم رسوم العبادة وطرق السير إلى الله سبحانه.

وهو الداعي إلى السعادتين والمصباح للنشأتين، المبيّن للحكم والحقائق، والموضح للرموز والدقائق ينبوع العلوم والفنون والصنائع، وعيبة النواميس والودائع والبدائع، موقظ الخلف بما جرى على السلف كي يعتبر المعتبر ويتيقظ المستبصر فيعمل صالحًا ولا يعيش ظالمًا.

فهذا الكتاب دائرة للمعارف الربانية، وخزينة للجواهر السماوية، يجب على كل إنسان فطنٍ نابهٍ أن يتدبر في آيات القرآن لاستكشاف كنوزه واستخراج جواهره مستضيئًا بأنوار أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام الورى.

الكتاب والسنّة

ويدل على أن القرآن هادٍ ويجب التدبر فيه: الكتاب والسنة.

أما الكتاب، فيدل على كونه هاديًا إلى قول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾.

وفيها أيضًا: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ والْفُرْقانِ﴾، وفي سورة الإسراء: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وفي سورة القمر: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾.

ويدل على لزوم التدبر في القرآن قوله تعالى في سورة القمر كما مر ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، وفي سورة النساء: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ وفي سورة محمد (صلّى الله عليه وآله): ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾.

وأما السنة فيدل على الأمرين (أن القرآن هاد وأنه يجب التدبر فيه) ما رواه الكليني في الكافي عن الصادق (عليه السّلام) قال: ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور.

وما رواه في الكافي أيضًا عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السّلام) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أيها الناس إنكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر والسير بكم سريع وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد فأعدوا الجهاز لبعد المجاز. قال: فقام المقداد ابن الأسود فقال: يا رسول الله وما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ وانقطاع فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وصادق مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم وعلى تخومه تخوم. لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الدجى ومنار الحكمة ودليل‏ على المعرفة لمن عرف الصفة فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره ينج من عطب ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص.

بيان

التخوم: المصاديق الخفية وما تحدث بمرور الزمان وتنطبق عليها عموميات القرآن.

ويدل على لزوم الرجوع في غوامض معاني القرآن وعويصات بطونه العميقة إلى أهل بيت النبي (صلوات الله عليه وعليهم)، أخبار كثيرة منها خبر الثقلين الذي رواه أكثر من ثلاثين صحابيًا عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبدًا فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض. وإنكار سنده (و هو متواتر) كإنكار دلالته- وهي نصٌّ في كونهم أمناء على علم القرآن- الدالة صريحًا على لزوم التمسك بعروتهم بالسؤال عن معضلاته كما أن تبديل كلمة عترتي بسنتي وإن كان سهلاً على المتعصّب المعاند، إلا أننا في غنية عن قبول المتعنّتين، ثبّتنا الله بالقول الثابت.

ثم إنه على فرض تسليمنا، فإن الكلمة الواردة عن لسان النبي (صلّى الله عليه وآله) هي وسنتي، نقول: إن السنة الصحيحة غير المكذوبة على النبي (صلّى الله عليه وآله) إنما هي عند وصيه وحامل علمه علي وأولاده (عليهم السّلام)، ولا نقبل السنة من أمثال أبي هريرة الذي تعرفه إذا راجعت كتاب أبي هريرة تأليف العلامة السيد شرف الدين العاملي (ره).

وقد ظهر مما ذكرنا بطلان قول الخارجين عن طاعة علي (عليه السّلام): كفانا كتاب الله، لوضوح الحاجة في شرح مجملات القرآن ومؤولاته وبطونه وغوامضه إليهم (عليهم السّلام)، وظهر أيضًا لزوم تحصيل العلم بقواعد توجب التمكن من تفسير القرآن، فعلم التفسير من العلوم اللازمة المفيدة خلافًا لمن يقول إن القرآن واضح ولا يحتاج إلى البيان.

تبصرة

الهداية في اللغة الارشاد، البيان، التعريف، الايصال، يقال: أرشده الطريق أو إلى الطريق؛ بيّنه له وعرّفه به، ويقال: هدى أو أهدى العروس إلى بعلها؛ زفّها إليه، والظاهر من التبادر الذاتي أن للهداية مفهومًا عامًا قابلاً للانطباق على الارشاد والايصال معًا، فهو مشترك معنوي لا لفظي، والتبادر المذكور أيضًا شاهد على عدم كون الايصال معنى مجازيًا للهداية وعلى هذا يصح لنا القول بأن الهداية حقيقة ذات مراتب ربما تجتمع وربما تفترق وربما تستلزم مرتبة منها مرتبة أخرى، فبالنسبة إلى هداية الله سبحانه لعباده يمكن أن نجعل لها مراتب اربع، وإن شئت قلت مصاديق أربعة:

الأولى: اعطاء ما يهدى الإنسان وإنعامه به، وهو العقل الموهوب للإنسان وهو الهادي له والحجة الباطنة، قال الله تعالى ... ﴿وفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾، وهذا الهادي لا ينفك عن الإنسان ما دام حيًّا (لو لا العارض).

الثانية، اعطاء ما به يهتدى الإنسان، واعني به آيات التوحيد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ تشمل الأعضاء والجوارح، ومما يهتدي به الإنسان أسلوب القرآن المعجز للبلغاء عن معارضته بالمثل، حيث إن العاقل يقطع بكونه كلام اللّه فيعتقد بجميع العقائد الحقة.

الثالثة: بعث الرسل الهادين إلى القوانين الإلهية وإنزال الكتب بمضامينها العالية المرشدة للإنسان إلى المعارف والأحكام، وإلى هذه المرتبة يشير قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً﴾، وقوله‏ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

الرابعة: الايصال إلى المقصود، ويشير إلى هذه المرتبة قوله تعالى: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾، وقوله تعالى: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾.

وقد تجمعت المراتب ما عدا الأولى في القرآن، كما يظهر بأدنى تأمّل:

1- انه لسبب سبكه المستحيل مماثلته يدل على كونه منزلاً من اللّه على نبيه المرسل.

2- وبسبب معارفه وحقائقه وأحكامه يهدي الناس للتي هي أقوم.

3- ولسبب اهتداء المتقين به واتخاذهم له دليلاً على أعمالهم في السلوك إلى السعادة الأبدية يكون موصلاً لهم إلى الجنة- آخر أمنية العاقل- وذلك معنى: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾.

والمرتبة الثانية من مراتب هداية القرآن تحتاج إلى التدبر الذي أمر اللّه به وهو يحتاج إلى أمور تذكر في التفسير، ومن هنا جاء دور التفسير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) من مقدّمة: تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي، ج‏1، ص: 228-233، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2356
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 05 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24