• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : القرآن والإمامة (*) .

القرآن والإمامة (*)

آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

القرآن هذا الكتاب السّماوي، خير مرشدٍ وهادٍ في كل أمر، وفي الإمامة أيضاً، فهو يبحثها من مختلف الجوانب:

1- القرآن يرى أن الإمامة اختياراً إلهياً

يرى القرآن الكريم أنَّ ابراهيم (عليه السلام) لم يحز مرتبة الإمامة الّا بعد نيله مرتبة النّبوة والرّسالة وأداء امتحانات كبرى، ففي الآية 124 من سورة البقرة يقول:

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾.

هنالك قرائن قرآنية وتاريخية مختلفة تؤكد أنَّه نال مرتبة الإمامة بعد أنْ‌ حارب عبدة الاصنام في بابل، وبعد هجرته إلى الشام، وبنائه الكعبة، وأخذ ابنه إسماعيل ليذبحه قرباناً لله.

فإذا كانت النّبوة والرسالة من جانب الله، فمن الأولى أنْ يكون تعيين مقام الإمامة ـ الذي يعتبر أعلى مراحل التكامل في قيادة الأمة ـ من جانب الله أيضاً، فهو ليس من الأمور التي يمكن أنْ يوكل اختيارها إلى الناس. ولذلك فإنَّ الله يقول مخاطباً إبراهيم (عليه السلام):

﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾.

كذلك يقول القرآن في الآية 73 من سورة الأنبياء وهو يتحدّث عن جمع من الأنبياء العظام: إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام):

﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾.

وفي القرآن آيات أخرى‌ شبيهة بهذه تدلّ كلها على أنَّ هذا المنصب إلهيّ، وأنَّ الله هو الذي يعيّن مَن يشاء لهذا المقام.

كما إنَّنا في الآية نفسها التي ينال فيها إبراهيم مقام الإمامة، نقرأ أنَّ إبراهيم (عليه السلام) طلب هذا المنصب لذريّته، ولكن جواب الله كان‌: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: إنّ طلبك قد أجيب، إلّا فيما يخص الظالمين من ذريّتك، فإنَّهم لن يصلوا إلى هذا المقام الرفيع.

فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ مفردة «ظالم» في اللغة عموماً وفي لغة القرآن تشمل مساحة واسعة من المعاني، بما فيها الذنوب كالشرك الظاهر والخفي وكل ظلم للنفس وللآخرين، وإذا أخذنا أيضاً بنظر الاعتبار أنّ معرفة هذه الحالات‌ معرفة تامّة لا تتأتى‌ لأحد سوى الله، لأنَّه هو وحده العالم ببواطن الناس ونياتهم، يتبين لنا جليّاً أن تعيين الإمام لمقام الإمامة لا يكون إلّا بأمر من الله.

2- التّبليغ‌

نقرأ في الآية 67 من سورة المائدة ما يلي:

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾.

تدلّ لهجة هذه الآية على أنَّ الكلام يدور حول مهمة خطيرة موضوعة على عاتق رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنها مهمّة تثير القلق، وقد تواجه معارضة بعض الناس، ولذلك تطمئن الآية خاطر الرسول بقولها: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ مع التوكيد على ضرورة أداء المهمّة.

ولا شك أنَّ هذه المسألة المهمة لم تكن تتعلق بقضايا التوحيد والشرك ومحاربة الأعداء من اليهود والمنافقين وغير ذلك، لأنَّ هذه المسائل كانت كلها قد أنجزت قبل نزول هذه الآية من سورة المائدة.

ثمّ إنَّ إبلاغ أحكام الإسلام للناس لم يكن يوماً مصحوباً بمثل هذا القلق والتوجس، بينما يتبين من الآية أنَّ المهمّة كانت على قدرٍ من الأهمية بحيث أنَّها لا تقلّ وزناً عن أداء الرسالة برمّتها، بحيث لو أنَّه لم يؤدّ تلك المهمة فكأنَّه لم يؤدّ الرسالة نفسها. فهل هناك شيء ذو أهمية غير مسألة تعيين خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ خاصة وأنَّ الآية قد نزلت في أواخر عمر النّبي (صلّى الله عليه وآله)، أي: في الوقت‌ المناسب لتعيين من يخلف النّبي من بعده، للاطمئنان على استمرار النّبوة والرسالة.

ثمّ إنَّ هناك روايات كثيرة وردت عن فريق كبير من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، منهم «زيد بن أرقم» و«أبو سعيد الخدري» و«ابن عباس» و«جابر بن عبد اللّه الانصاري» و«أبو هريرة» و«حذيفة» و«ابن مسعود»، وبعض هذه الروايات قد وصل إلينا عن أحد عشر طريقاً، نقلها كثير من علماء أهل السنّة من المفسّرين والمحدّثين والمؤرّخين، وكلها تقول إنَّ هذه الآية نزلت بحق الإمام علي (عليه السلام) يوم الغدير. [انظر في ذلك «احقاق الحق» و«الغدير» و«المراجعات» و«دلائل الصدق»].

ونكتفي بالقول هنا إنَّ هذه الآية تكشف أنّ الله تعالى أمر نبيّه (صلّى الله عليه وآله) أثناء عودته من حجّة الوداع، أي: آخر حجّة له في عمره، أنْ يعلن عن تنصيب علي (عليه السلام) خليفةً له من بعده بصورة رسمية وعلى ملأ من المسلمين.

3- آية إطاعة أولي الأمر

في الآية 59 من سورة النساء نقرأ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.

هنا نلاحظ أنَّ إطاعة أولي الأمر قد جاءت إلى جانب إطاعة الله ورسوله بدون أيّ قيد أو شرط. فهل المقصود من أولي الأمر هم الحكام في كل عصر وفي كل مجتمع؟ وهل على المسلمين في هذا العصر مثلًا وفي مختلف البلدان أن يطيعوا حكّامهم بدون قيد ولا شرط؟ (كما يقول بعض مفسّري أهل السنّة).

إنَّ هذا التفسير لا ينسجم مع أيّ منطق، إذ إنَّ أكثر الحكّام في مختلف العصور كانوا حكّاماً منحرفين ملوّثين بالإثم ويتّبعون الظلم والظالمين.

فهل المقصود إذاً إطاعة الحكّام على شرط أنْ لا يكون حكمهم مخالفاً لأحكام الإسلام؟ هذا أيضاً لا ينسجم مع إطلاق الآية.

فهل المقصود هم صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ هذا المفهوم أيضاً لا يتلاءم مع المفهوم العام الذي تنطوي عليه الآية والشامل لمختلف العصور.

بناء على ذلك، يتبيّن لنا بوضوح أنّ المقصود هو القائد المعصوم الموجود في كل عصر وزمان، فهو الذي تجب اطاعته بدون قيد ولا شرط، وأمره كأمر الله ورسوله، واجب التنفيذ.

إنَّ الأحاديث الكثيرة الواصلة إلينا من مصادر إسلامية متعدّدة بهذا الشأن والتي تفسّر «أولي الأمر» بالإمام علي (عليه السلام) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، دليل آخر يؤيد هذا الادعاء. [لمزيد من الايضاح، انظر: «تفسير الأمثل»، ج 3، ص 435]

4- آية الولاية

نقرأ في الآية 55 من سورة المائدة:

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.

باستعمال «إنَّما» الدالّة على الحصر، يحصر القرآن ولاية المسلمين ورعايتهم بثلاثة: الله، والرسول، والذين آمنوا ويعطون الزكاة أثناء ركوعهم.

لا شك أوّلًا أنّ «الولاية» هنا لا تعني المحبّة بين المسلمين، لأنَّ تبادل المحبّة بين عامة المسلمين لا يستوجب هذه القيود والشروط، فالمسلمون إخوة يحبّ بعضهم بعضاً، وإنْ لم يدفعوا زكاة أثناء الرّكوع. وبناء على ذلك، فالولاية هنا تعني القيادة والإمامة المادية والمعنوية، خاصّة أنَّها جاءت في مصاف‌ «ولاية الله» و«ولاية الرسول».

كما أنَّه من الواضح أيضاً أنَّ هذه الآية بالأوصاف التي وردت فيها تشير إلى شخص معيّن بذاته، وهو الذي كان راكعاً عندما أعطى الزكاة، وإلّا فليس هناك ما يدعو الإنسان إلى أنْ يعطي زكاته عندما يصلّي وعند الركوع من صلاته. وهذا في الواقع علامة، وليس صفة عامة.

مجموع هذه القرائن يدلّ على أنَّ هذه الآية إشارة عميقة المعنى إلى حكاية الإمام علي (عليه السلام) وهي أنَّه كان راكعاً في صلاته فسمع فقيراً يطلب الصدقة من المصلّين، إلّا أنَّ أحداً لم يسعفه بشيء، فمدّ يده اليمنى أثناء ركوعه إلى ذلك الفقير مشيراً إليه أنْ يأخذ خاتماً كان في إصبعه، فأخذه الفقير وانصرف، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد لحظ ما جرى بطرف عينه. وعند انتهاء الصلاة رفع رأسه إلى السماء وقال:

«اللّهم إنَّ أخي موسى سألك فقال: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾. اللّهم وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللّهم فاشرح لي صدري ويسِّر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً، أشدد به ظهري ...».

لم يكد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ينتهي من دعائه حتى نزل جبرئيل بالآية المذكورة.

وإنّه ممّا يلفت النظر أنَّ كثيرين من كبار مفسِّري أهل السنّة ومحدّثيهم ومؤرّخيهم يؤيّدون كون الآية قد نزلت في علي (عليه السلام). وهناك جماعة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في نحو عشرة أشخاص نقلوا هذا الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مباشرة.

إنَّ الآيات النازلة في الولاية كثيرة، اكتفينا بإيراد أربع منها هنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) مقتبسة من: سلسلة دروس في العقائد الإسلامية، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج1، ص:221- 227، عن موقع مكتبة مدرسة الفقاهة www.eShia.ir، بتصرّف يسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2337
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2018 / 03 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24