• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : الإعجاز القرآني (2) .

الإعجاز القرآني (2)

الشيخ محمد هادي معرفة (ره)

سرّ الإعجاز

وجوه الإعجاز في مختلف الآراء والنظرات:

اختلفت أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن بين مَن أنهاه إلى عدّة وجوه ومَن اقتصر على وجه واحد، ولا يزال البحث مستمرّاً على هذا السر الذي هو دليل الإسلام.

١ - ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة، إنْ في بديع نَظمه أو في عجيب رصفه، الذي لم يسبق له نظير ولن يَخلفه بديل.

قد نُضّدت عباراته نضداً مؤتلفاً، ونُظّمت فرائده نظماً متلائماً، وُضعت كلّ لفظة من في موضعها اللائق بها، ورُصّفت كلّ كلمة منه إلى كلمات تناسبها وتوائمها، وضعاً دقيقاً ورصفاً تامّاً، يجمع بين أناقة التعبير وسلاسة البيان، وجزالة اللفظ وفخامة الكلام، حلواً رشيقاً وعذباً سائغاً، ويستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع، ممّا يستشفّ عن إحاطة واسعة ومعرفة كاملة بأوضاع اللغة ومزايا الألفاظ والكلمات والتعابير، ويقصر دونه طوق البشر المحدود!

قالوا في دقّة هذا الرصف والنَضد: لو انتُزعت منه لفظة ثُمّ أُدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في موضعها الخاصّ لم توجد البتة.

٢ - وزادوا جانب أُسلوبه وسبكه الجديد على العرب، لا هو شعر كشعرهم ولا هو نثر كنثرهم، ولا فيه تكلّف أهل الكهانة والسجع، قد جمع مزايا أنواع الكلام، فيه أناقة الشعر، وطلاقة النثر، وجزالة السجع الرصين، في حلاوة وطلاوة وزهوٍ وجمال: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه يعلو ولا يُعلى) كلام قاله عظيم العرب وفريدها الوليد.

أو كما قال الراغب: القرآن حاوٍ لمحاسن أنواع الكلام بنظمٍ ليس هو نظم شيء منها.

٣ - وتوسّع المحدثون في البحث وراء نظامه الصوتي العجيب:

أنغام وألحان تبهر العقول وتذهل النفوس، نُظّمت كلماته على أنظمة صوتية دقيقة، ورُصّفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسلة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية عجيبة، واستهواءٍ سحريّ غريب!

٤ - وأضاف المحقّقون جانب اشتماله على معارف سامية وتعاليم راقية تُنبئك عن لطيف سرّ الخليقة، وبديع فلسفة الوجود، في جلال وجمال وعظمة وكبرياء، بما يترفّع كثيراً عمّا راجت في تعاليم مصطنعة ذلك العهد، سواءٌ في أوساط أهل الكتاب أم الوثنيّين.

٥ - وهكذا تشريعاته جاءت حكيمة ومتينة، متوافقة مع الفطرة ومتوائمة مع العقل السليم، في طهارة وقداسة وسعة وشمول، كانت جامعةً كاملةً كافلةً؛ لإسعاد الحياة في النشأتَينِ.

٦ - وكانت براهينه ساطعة، ودلائله ناصعة، واضحة ولائحة، قامت على صدق الدعوة وإثبات الرسالة، في بيانٍ رصين، ومنطقٍ رزين وفصل خطاب.

٧ - واشتمالُه على أنباء غيبية، إمّا سالفة كانت محرّفةً سقيمةً فجاءت محرّرة سليمة في القرآن الكريم، أو إخبار عمّا يأتي تحقّق صدقها بعد فترة قصيرة أو طويلة، كانت شاهدة صدق على الرسالة.

٨ - إلى جنب إشارات علمية عابرة إلى أسرار من هذا الكون الفسيح، وإلماعات خاطفة إلى حقائق من خفايا الوجود، ممّا لا تكاد تبلغه معرفة الإنسان العائش يومذاك.

٩ - وأخيراً استقامته في البيان، وسلامته من أيّ تناقض أو اختلاف، في طول نزوله، وكثره تكراره لسرد حوادث الماضين، كلٌّ مشتمل على مزية ذات حكمة لا توجد في أختها، وكذا خلوّه عن الأباطيل وعمّا لا طائل تحتها.

تلك روائع آراء نتيجتها أنظار الأُدباء، وبدائع أسرار وصلت إليها أفكار العلماء، كانت مِن وجوه إعجاز القرآن ومزاياه الوسيمة، سوف نسرد عليك تفاصيلها في مجالها الآتي إن شاء الله.

١٠ - لكن هناك وجه آخر يجعل من الإعجاز أمراً خارجيّاً عن جوهر القرآن بعيداً عن ذاته، وإنّما هو لعجزٍ أَحدثه الله في أَنفس العرب والناس جميعاً، ومنعهم دون القيام بمعارضته قهراً عليهم، وهو القول بالصرفة، الذي عليه بعض المتكلّمين الأوائل ومَن لفّ لفّهم من الكُتّاب الأُدباء.

وسنتعرّض لتفنيده وتزييفه على منصّة البحث والاختبار، بعونه تعالى.

وبعد، فإليك تفصيل آراء ونظرات حول إعجاز القرآن، مِن القدماء والمحدثين لها قيمتها في عالم الاعتبار.

* * *

آراءٌ ونظراتٌ عن إعجاز القرآن

(أَوّلاً) في دراسات السابقين:

هناك للعلماء - سلفاً وخلفاً - بحوث ودراسات وافية حول مسألة إعجاز القرآن، مُنذ مطالع القرون الأُولى فإلى هذا الدور، ولهم كلمات ومقالات ضافية عن وجه هذا الإعجاز المُتحدّي به من أَوّل يومه، ولا يزال مُستمرّاً عِبر الخلود ولهذه الأبحاث والدراسات قيمتها ووزنها العلمي النظري في كلّ عصر وفي كلّ دور، وأنّ الفضل يرجع إلى الأسبق ممّن فتح هذا الباب وأَسّس أساس هذا البنيان، فكان مَن يأتي مِن بعد، إنّما يجري على منواله ويضرب على ذات وتره، مهما تغيّر اللون أو تنوّع الأُسلوب. ونحن نقدّم من آراء مَن سلف الأهمّ منها فالأهمّ، ثُمّ نعقبها بطرف من آراء المتأخّرين ممّن قاربنا عصره، وعلى أيّ تقدير، فإنّ مساعيهم جميعاً مشكورة، ومواقفهم في استنباط حقائق من الكتاب العزيز مقدّرة، فلله درّهم وعليه أجرهم، وإليك:

* * *

١ - رأي أبي سليمان البُستي:

يرى أبو سليمان حمد بن محمّد بن إبراهيم الخطّابي البُستي [نسبة إلى بُست مدينة من بلاد كابل كانت محلّ إقامته، وينتهي نسبه إلى زيد بن الخطّاب أخي عمر بن الخطّاب، أديب لغوي ومحدّث كبير، قيل: هو أوّل من كتب في الإعجاز وطرق هذا الباب.

لكن ذَكَر ابن النديم لمحمّد بن زيد الواسطي - الذي هو من أجلّة المتكلّمين وكبارهم وصاحب كتاب (الإمامة) المتوفى سنة ٣٠٧هـ - كتاباً أسماه (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه)، (راجع الفهرست: ص٦٣ و٢٥٩، والذريعة: ج٢، ص٢٣٢، رقم ٩١٧).

وقبله أبو عبيدة معمّر بن المثنّى (توفيّ سنة ٢٠٩هـ) له كتاب (إعجاز القرآن) في جزءَين، وهو مِن أَوّل الدراسات القرآنية التي ظهر فيها الاتجاه إلى الكشف عن أسرار أُسلوب القرآن، وقد نشره الخانجي بمصر سنة ١٩٥٥م (راجع مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب (ثلاث رسائل في إعجاز القرآن): ص٥، والتمهيد: ج١، ص٨).] (توفّي سنة ٣٨٨هـ) في رسالته الوجيزة التي وضعها في بيان إعجاز القرآن - ولعلّه أَسبق مِن توسّع في هذا البحث أفاد وأجاد -: أنّ الإعجاز قائم بنظمه، ذلك المتّسق البديع ورصفه، ذلك المؤتلف العجيب، قد وُضعت كلّ كلمة في موضعها اللائق بدقّة فائقة، ممّا يستدعي إحاطة شاملة تعوزها البشرية على الإطلاق، الأمر الذي أبهر وأعجب.

قال: قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديماً وحديثاً، وذهبوا فيه كلّ مذهب من القول وما وجدناهم بعدُ، صَدَروا عن ريٍّ؛ وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيّته، فأمّا أن يكون قد نقبت في النفوس نقبة [أَي أُلقيت في النفوس إلقاءً، وهو قول قريب من القول بالصرفة، ومِن ثَمّ رفضه] بكونه معجزاً للخلق ممتنعاً عليهم الإتيان بمِثله على حال، فلا موضع لها، والأمر في ذلك أَبين مِن أن نحتاج إلى أن نُدِلّ عليه بأكثر من الوجود القائم المستمرّ على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه، وذلك أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد تحدّى العرب قاطبةً بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه وانقطعوا دونه، وقد بقيَ (صلّى الله عليه وآله) يُطالبهم به مدّة عشرين سنة، مُظهِراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مُسفِّهاً آراءهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المُهج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال.

ولو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة [الفاقرة: الداهية، والإبارة: الإهلاك]، ولم يكونوا تركوا السَهل الدَمِث من القول، إلى الحَزِن الوعر من الفعل [الدماثة: السهولة، يقال: أرض دمث أي ذَلول، ضد الحزونة والوعورة]. هذا مالا يفعله عاقل ولا يختاره ذو لبّ، وقد كان قومه قريش خاصّة موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلّقون [المصقع: البليغ، وشاعر مفلّق - بزنة اسم الفاعل - مُبدع]، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللَّدَد، فقال سبحانه: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٨]، وقال سبحانه: ﴿وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً﴾ [مريم: ٩٧]، فكيف كان جوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة - أن يغفلوه ولا يهتبلوا الفرصة فيه [اهتبال الفرصة: اغتنامها] وأن يضربوا عنه صَفحاً، ولا يجوزوا الفلح والظفر فيه، لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه.

قال: وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينُها دلالةً وأَيسرها مؤونةً، وهو مُقنع لمَن تُنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه [أي وهذا أيسر الوجوه لمَن أراد الاقتناع النفسي ولو تقليداً وليس تحقيقاً].

٢ - اختيار ابن عطيّة:

ولأبي محمّد عبد الحقّ بن غالب المحاربي الغرناطي - الفقيه المفسّر (توفّي سنة ٥٤٢هـ) - اختيار يشبه اختيار أبي سليمان البُستي، ولعلّه اختزال منه، ذَكره في مقدّمة تفسيره (المحرّر) ونقله الإمام بدر الدين الزركشي، مع تصرّف واختصار.

قال ابن عطيّة: إنّ الذي عليه الجمهور والحذّاق - وهو الصحيح في نفسه - أنّ التحدّي إنّما وقع بنظمه، وصحّة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً، وأحاط بالكلام كلّه علماً، فإذا ترتّبت اللفظة من القرآن علم - بإحاطته - أيّ لفظة تصلح أن تلي الأُولى، ويتبيّن المعنى دون المعنى، ثُمّ كذلك من أَوّل القرآن إلى آخره.

والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلومٌ ضرورةً أنّ بشراً لم يكن قطّ مُحيطاً، فبهذا جاء نظم القرآن، في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يَبطل قول مَن قال: إنّ العرب كان في قدرتها الإتيان بمِثله، فلمّا جاءهم محمّد (صلّى الله عليه وآله) صُرفوا عن ذلك وعَجزوا عنه! والصحيح أنّ الإتيان بمِثل القرآن لم يكن قطّ في قدرة أحد مِن المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبةً أو قصيدةً يستفرغ فيها جهده، ثُمّ لا يزال يُنقِّها حولاً كاملاً، ثُمّ تُعطى لأحد نظيره فيأخذها بقريحة خاصّة فيُبدّل فيها ويُنقّح، ثُمّ لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل.

وكتاب الله سبحانه لو نُزعت منه لفظة، ثمّ أُدير لسان العرب على لفظة في أن يوجد أحسن منها لم توجد، ونحن تتبيّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع؛ لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذٍ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وميز الكلام.

قال: وقامت الحجّة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة كما قامت الحجّة في معجزة عيسى بالأطبّاء، وفي معجزة موسى بالسَحَرة، فإنّ الله تعالى إنّما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أَبرع ما يكون في زمن النبيّ الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدّة موسى قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطبّ في زمن عيسى، والفصاحة في مدّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) [المحرّر الوجيز: المقدّمة ج١، ص٧١ - ٧٢، وراجع الزركشي في البرهان: ج٢، ص٩٧].

٣ - رأي عبد القاهر الجرجاني:

يرى الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني (تُوفّي سنة ٤٧٢هـ) - وهو الواضع الأَوّل لأُسس عِلمَي المعاني والبيان -: أنّ إعجاز القرآن الذي تحدّى به العرب قائم بجانب فصاحته البالغة وبلاغته الخارقة، وبأُسلوب بيانه ذلك البديع، ممّا هو شأن نظم الكلام وتأليفه في ذلك التنافس والتلاؤم العجيب، الأمر الذي لا يمسّ شيئاً من معاني القرآن وحِكَمِه وتشريعاته، وهي كانت موجودةً من ذي قبل في كتب السالفين، وقد أطلق لهم المعاني من أيّ نمط كانت.

وقد وضع كتابَيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) تمهيداً لبيان وجوه إعجاز القرآن لمن مارس أسرار هذا العلم. وثَلّثهما برسالته (الشافية) التي خصّصها بالكلام حول إعجاز القرآن والإجابة على أسئلة دارت حول الموضوع.

قال - في مقدّمة كتابه (دلائل الإعجاز) بعد أن أشاد بشأن النَظم في الكلام وتأليفه وتنسيقه -: وإذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأُمور الوجوه من التعلّق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحّة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرّفوا فيها وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدّل ولا يختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبراً لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر.

فما هذا الإعجاز الذي تجدّد بالقرآن من عظيم مزيّة، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتّى أعجز الخلق قاطبةً، وحتّى قهر من البلغاء والفصحاء القُوَى والقُدَر، وقيّد الخواطر والفكر، حتّى خرست الشقاشق [الشقاشق: جمع شقشقة - بكسر الشين - وهي لهاة البعير أو شيء كالرئة يُخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويُقال للفصيح: هدرتْ شقاشقه، يُريدون الانطلاق في القول وقوّة البيان، ويُقال في مقابل ذلك: خرست شقاشقه] وعدم نطق الناطق، وحتّى لم يجرِ لسان، ولم يبنِ بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمضِ له حدّ، وحتّى أَسال الوادي عليهم عجزاً، وأخذ منافذ القول عليهم أخذاً؟!

أَيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونردّه عن ضلاله، وأن نطبّ لدائه، ونزيل الفساد عن رائه [الراء: الرأي]؟ فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكلّ ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه (يريد نفس كتاب دلائل الإعجاز) ويستقصي التأمّل لما أودعناه [في مقدمة دلائل الإعجاز: ص (ف - ص)].

وكرّ في الكتاب قائلاً: وإنّه كما يَفضل النظمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثُمّ يعظُم الفضل، وتكثر المزيّة، حتّى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتّى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعضُ الكلام بعضاً، ويتقدّم منه الشيء الشيء، ثُمّ يزداد من فضله ذلك، ويترقّى منزلةً فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مَرْقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتّى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتنحسر الظنون، وتسقط القُوى، وتستوي الأقدام في العجز [دلائل الإعجاز: ص٢٥ - ٢٦].

ثم قال: واعلم أنّه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتّى يبلغ القول غايته، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك، وتصويره في نفسك، وتقريره عندك، إلاّ أنّ هاهنا نكتة، إن أنت تأمّلتها تأمّل المُتثبّت، ونظرت فيها نظر المُتأنّي، رجوت أن يحسن ظنّك، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك، وهي: إنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنّهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدّوا إلى معارضته، سمعوا كلاماً لم يسمعوا قطّ مِثله، وأنّهم قد رازوا أنفسهم [يقال: رَاز الحجر أي وَزنه ليَعرف ثقله، ورَاز الرجل: جرّب ما عنده ليختبره] فأحسّوا بالعجز على أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يدّعوا معارضته وقد تحدّوا إليه، وقرعوا فيه، وطولبوا به، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة [الشبا: جمع شَبوة، وهي إبرة العقرب، وحدّ كلّ شيء] ويقتحموا موارد الموت.

فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبّرونا عنهم، عمّاذا عجزوا، أَعَن معانٍ من دقة معانيه وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مِثل ألفاظه؟ فإن قلتم: عن الألفاظ، فماذا أَعجزهم من اللفظ، أم بهرهم منه؟

فقلنا: أَعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نَظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كلّ مثل، ومساق كلّ خبر، وصورة كلّ عظة وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، ومع كلّ حجّة وبرهان، وصفة وتبيان، وبهرهم أنّهم تأمّلوه سورة سورة، وعشراً عشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ولفظة ينكر شأنها، أو يَرى أنّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتّساقاً بَهر العقول، وأَعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يدع في نفس بليغ منهم لو حكّ بيافوخه السماء [اليافوخ: مقدّمة الدماغ في الرأس وهو مَثل يُضرب لمَن يستعلي ويتكبّر] موضع طمع حتّى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول، وخلدت القُروم [القَرم - بالفتح -: الفحل إذا تُرك عن الركوب والعمل] فلم تملك أن تصول [دلائل الإعجاز: ص ٢٧ - ٢٨].

ويُعقّب ذلك بأنّ هذه كانت دلائل إعجاز القرآن، ومزايا ظهرت في نَظمه وسياقه، بَهرت العرب الأوائل، فهل ينبغي للفتى الذكي العاقل أن يكون مُقلّداً في ذلك؟ أم يكون باحثاً ومتتبّعاً كي يعلم ذلك بيقين؟ ومِن ثَمّ وَضع كتابه الحاضر (دلائل الإعجاز) ليَدلّ الناشدينَ على ضالّتهم، ويضع يدهم على مواقع الإعجاز من القرآن، ويدعم مُدّعاه في ذلك بالحجّة والبرهان، والرائد لا يُكذِّب أهله، قال: وبذلك قد قطعتُ عذرَ المتهاون، ودللت على ما أضاع من حظّه، وهدايته لرشده [دلائل الإعجاز: ص٢٩].

وقال - في رسالته (الشافية): كيف يجوز أن يظهر في صميم العرب وفي مِثل قريش ذوي الأَنفس الأبيّة والهِمم العليّة والأَنفة والحميّة مَن يدّعي النبوّة ويقول: وحجّتي أنّ الله قد أنزل عليّ كتاباً تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ولا بعشر سورٍ منه ولا بسورة واحدة، ولو جَهدتم جهدَكم واجتمع معكم الجنّ والإنس، ثُمّ لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبيّنوا سَرَفه في دعواه، لو كان ممكناً لهم، وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته حدّاً تركوا معه أحلامهم وخرجوا عن طاعة عقولهم، حتّى واجهوه بكلّ قبيح وَلَقوه بكلّ أذىً ومكروه ووقفوا له بكلّ طريق.

وهل سُمع قطّ بذي عقل استطاع أن يخرس خصمه بكلمة يجيبه بها، فيترك ذلك إلى أُمور ينسب معها إلى ضيق الذَرع، وأنّه مغلوب قد أَعوزته الحيلة وعزّ عليه المَخلص؟ وهل مِثل هذا إلاّ مِثل رجل عَرض له خصم فادّعى عليه دعوى خطيرة وأقام على دعواه بيّنةً، وكان عند المدّعى عليه ما يُبطل تلك البيّنة أو يُعارضها، فيترك إظهار ذلك ويضرب عنه الصفح جملةً، ليصير الحال بينهما إلى جِدال عنيف وإخطار بالمُهج والنفوس؟ قال: هذه شهادة الأحوال، وأمّا شهادة الأقوال فكثيرة [الشافية (المطبوعة ضمن ثلاث رسائل): ص١٢٠ - ١٢٢].

ثمّ قال: في وجه التحدّي -: لم يكن التحدّي إلى أن يُعبّروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يُشبه لفظه ونَظم يوازي نظمه، هذا تقدير باطل، فإنّ التحدّي كان إلى أن يجيئوا، في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنَظم يبلغ نظم القرآن، في الشرف أو يقرُب منه، يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣] أي مِثله في النظم، وليكن المعنى مُفترى لِما قلتم، فلا إلى المعنى دعيتم، ولكن إلى النظم... [الشافية: ص١٤١ و١٤٤].

قال: ويجزم القول بأنّهم تحدّوا إلى أن يجيئوا في أيّ معنى أرادوا مطلقاً غير مقيّد، وموسّعاً عليهم غير مضيّق، بما يشبه نظم القرآن أن يقرب من ذلك [الشافية: ١٤١ و١٤٤].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقالة مرتبطة:

الإعجاز القرآني (1)


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2280
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 08 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24