• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : القرآن كتاباً تشريعياً ـ القسم الثاني ـ .

القرآن كتاباً تشريعياً ـ القسم الثاني ـ

 السيّد حكمت أسد الموسوي

 

تقدّم في القسم الأوّل من البحث الإشارة إلى الأقوال المختلفة في قضية كون القرآن الكريم في مقام التشريع ومناقشتها، وذكرنا أيضاً بعض الأدلة على كون القرآن نظاماً تشريعياً.

وسيأتي في هذا القسم إن شاء الله البحث عن موضوع القرآن والنظام الاقتصادي كنموذج لاهتمام النظام الإسلامي بمصلحة الفرد والمجتمع والموازنة بينهما وكنموذج للنظام التشريعي في القرآن، وأخيراً ذكر الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون.

القرآن والنظام الاقتصادي: الشمولية والنظام الكامل

يمثّل الإسلام عقيدة تحدّد للإنسان موقفة من خالقه وأبناء جنسه والكون ونفسه. ويأتي النظام الاقتصادي الذي أكّد عليه الإسلام كنموذج بارز ومؤثّر في هذه العلاقات وما يترتب على هذا النظام من ثمرات معنوية ومادية واسعة الأبعاد.

النظام الاقتصادي

يبيّن لنا القرآن الكريم الأصول والمسائل التي يرجع إليها وهي في جملتها ترجع إلى أصلين:

الأصل الأول: حسن النظر في اكتساب المال:

فقد أوضح الشارع كيفية اكتساب المال من طرقه المباحة وبأساليبه المناسبة بحيث لا تقدح في الدين ولا في المروءة قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}([1]).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}([2]).

وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}([3]).

وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا}([4]).

الأصل الثاني: حسن النظر في صرف المال في مصارفه:

فقد أمر القرآن الكريم بالكرم والاقتصاد في الصرف، بحيث لا يكون بخل ولا إسراف، قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}([5]).

وقال تعالى في مقام تعريفه بصفات عباده الصالحين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}([6]).

وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}([7]).

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}([8]).

حل مشكلة الفقر

فقد سبق الإسلام إلى حل المشكلات الإنسانية وعلى رأسها مشكلة الفقر على نحو لا نظير له . وذلك بتحديد أنظمة التكافل الاجتماعي وعلى رأسها نظام الزكاة ، وأنظمة الحكم وما إليها من الأنظمة السياسية والجنائية .لقد جاء هذا التشريع الذي عجز عن مثله عظماء رجال القانون في عصرنا. {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}([9])، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}([10]).

المعايير الاجتماعية التي تنظم أوجه العلاقات بين الأفراد والجماعات

فقد أعطاها القرآن الكريم عناية فائقة، منها ما يأمر به الرئيس الكبير أن يفعله مع مجتمعه {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}([11]). {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}([12]).

وما يأمر به المجتمع العام أن يفعله مع رؤسائه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}([13]).

وما يأمر الإنسان أن يفعله مع مجتمعه الخاص كأولاده وزوجته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}([14]).. وكيف ينبهه على الحذر والحزم في مجتمعه الخاص، ويأمره إن عثر على ما لا ينبغي منهم، أن يعفو ويصفح، فيأمره أولًا بالحذر والحزم، وثانياً بالعفو والصفح. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([15]).

وما يأمر به أفراد المجتمع العام أن يتعاملوا به فيما بينهم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([16]). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}([17]). {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([18]). {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}([19]). {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}([20]). {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}([21]).

وقد بين تعالى أن ذلك التعامل بالرفق لخصوص المسلمين دون الكافرين قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}([22]). وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}([23]). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}([24]).

فالشدة في محل اللين حمق وخرق واللين في محل الشدة ضعف وخور.

الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون

ان الجاهلين بالشريعة يبنون عقيدتهم الخاطئة في عدم صلاحية الشريعة على قياس خاطئ وليس على دراسة منظمة، ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القائمة الآن لا تمت بسبب إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، وعلموا أن القوانين الوضعية الحديثة قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، وتحملهم المقارنة بين هذين النوعين من القوانين على الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، وهو اعتقاد كله حق، ولكنهم ينساقون بعد ذلك إلى الخطأ حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية فيقولون: ما دامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر؛ فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ظل الكثير من أحكامها معمولاً به حتى أواخر القرن الثامن العشر.

وتختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلٌّ من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثمَّ كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائماً ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.

أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ ومن ثمَّ صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شئ في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر جل شأنه أن لا تغير ولا تبدل حيث قال: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ}([25])؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.

وقد يصعب على بعض الناس بأن يؤمنوا بهذا القول لأنهم لا يؤمنون قبل كل شيء بأن الشريعة من عند الله، ولست أهتم من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها الصفات التي ذكرتها، وعلى أن أقيم لهم الدليل على توافرها وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاؤوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها، ولينتظروا مني أن أقدم لهم الدليل عند الكلام على مميزات الشريعة، وإن كان في كل فصل من فصول هذا الكتاب الدليل على ما أقول.

أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات المذكورة في الشريعة ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك، لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر بهذه الصفات فمن كان يؤمن بأن الله هو خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتهم، وجعل لكل مخلوق خلقه من الحيوان ونبات وجماد نظاماً دائماً لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان. من كان يؤمن بهذا كله وبأن الله أتقن كل شيء خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانوناً ثابتاً كاملاً لتنظيم الأفراد والجماعات والدولة، ولتحكم معاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حداً يعجز عن تصوره الإنسان.

الوجه الثاني: أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها. فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غداً، لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغير كلما تغيرت حال الجماعة.

أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة. ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:

أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.

ثانياً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة.

والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.

ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستُحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل؛ ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.

هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمَّة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطق النصوص، وخذ مثلاً قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}([26]).

الوجه الثالث: أن الجماعة هي التي تصنع القانون، وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها، والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شئون الجماعة، ولا يوضع لتوجيه الجماعة، ومن ثم القانون متأخراً عن الجماعة وتابعاً لتطورها، وكان القانون من صنع الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون.

وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجوده، فإن هذا الأصل قد تعدل في القرن الحالي، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، وقد كان أسبق الدول إلى الأخذ بهذه الطريقة روسيا الشيوعية، وتركيا ، ثم تلتهما إيطاليا الفاشيستية وألمانيا النازية، ثم اقتبست بقية الدول هذه الطريقة، فأصبح الغرض اليوم من القانون تنظيم الجماعة وتوجيهها الوجهات التي يرى أولياء الأمور أنها في صالح الجماعة.

أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع الجماعة، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي، وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه. وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة.

اذن الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ العالم غير الإسلامي لمعرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ هذا العالم لمعرفته أو يصل إليه حتى الآن. ومن أجل هذا تولى الله جل شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل؛ حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل.([27])

المميزات الجوهرية التي تميز الشريعة عن القانون

ونستطيع بعد أن عرضنا الخلافات الأساسية بين الشريعة والقوانين الوضعية أن نتبين أهم المميزات التي تميز الشريعة عن القوانين؛ لأن كل ما تخالف الشريعة فيه القوانين يعتبر في الوقت نفسه مما يميز الشريعة عن القوانين. وعلى هذا يمكننا أن نستخلص مما ذكر من الاختلافات، أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية:

1- الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.

2- السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو؛ أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائماً من مستوى الجماعة؛ وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.

3- الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان، وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.

الأدلة على توفر هذه المميزات في الشريعة

سنعرض أولاً طائفة من النظريات والمبادئ الشرعية القرآنية التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيراً، أو لم تعرفها بعد، تتوفر فيها جميعاً كل هذه المميزات.

نظرية الحرية

من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية مبدأ الحرية، فقد أعلنت الشريعة الحرية وقررتها في أروع مظاهرها؛ فقررت حرية التفكير، وحرية الاعتقاد، وحرية القول.

حرية التفكير

جاءت الشريعة الإسلامية معلنة حرية التفكير، محررة للعقل من الأوهام والخرافات والتقاليد والعادات، داعية إلى نبذ كل ما لا يقبله العقل. فهي تحث على التفكير في كل شيء وعرضه على العقل، فإن آمن به العقل كان محل إيمان، وإن كفر به كان محل كفران. فلا تسمح الشريعة للإنسان أن يؤمن بشيء إلا بعد أن يفكر فيه ويعقله، ولا تبيح له أن يقول مقالاً أو أن يفعل فعلاً إلا بعد أن يفكر فيما يقول ويفعل ويعقله.

ولقد قامت الدعوة الإسلامية نفسها على أساس العقل، فها هو القرآن يعتمد في إثبات وجود الله، ويعتمد في إقناع الناس بالإسلام، ويعتمد في حملهم على الإيمان بالله ورسوله وكتابه.

ونصوص القرآن التي تحض على استخدام العقل وتحرير الفكر لا تعد كثرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}([28])، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}([29])، وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}([30])، وقوله: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}([31])، وقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ* فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}([32])، وقوله: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}([33])، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}([34])، وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}([35]).([36])

 


 

الخاتمة

من المصاديق الواضحة لكون القرآن كتاباً تشريعياً هو الشمولية والنظام الكامل.

حيث إنّ القرآن الكريم (والسنّة الشريفة المبيّنة لآياته) قد حدّد للإنسان موقفه من الوجود والكون والحياة وفق قوانين ونظم متكاملة ترسم له الطريق الأمثل في الحياة. ومن هذه النظم:

1- الاقتصاد الإسلامي، حيث جاء بقوانين رصينة تعالج معها المشكلة الاقتصادية التي يعيشها العالم الآن. وعرّفت المشكلة الاقتصادية بعدم إمكانية الموارد الاقتصادية المحدودة من تلبية كافّة الاحتياجات المتزايدة باطراد وفق قانون تزايد الحاجات.

ومن الحلول المقترحة لحلّ المشكلة الاقتصادية: الحلّ الرأسمالي والحل الاشتراكي.

يرى الحلّ الرأسمالي توفير الحدّ الأدنى من المعيشة للجميع، فتبنّى الملكية الفردية المطلقة وأهمل الجانب الاجتماعي بشكل واضح.

أمّا الحلّ الاشتراكي فيرى تأميم وسائل الانتاج بواسطة محو الطبقية بشكل تام واعتبار مصادر الثروة ملكاً للمجموع، مهملاً بذلك الاستعدادات والاختلافات الطبيعية بين الأفراد. فظهر التفاوت الطبقي بشكله الجديد ولم تحلّ المشكلة.

أمّا الحلّ الإسلامي فيتركّز عبر الحرية المشروطة وعدالة التوزيع، من خلال مبادئ هي:

أ- مبدأ الملكية المزدوجة. فتقرّ الملكية الفردية للفرد، وفي نفس الوقت يستجيب لعلاقاته الاجتماعية باعتباره فرداً من أفراد المجتمع.

ب- مبدأ الحرّية الاقتصادية في نطاق محدود، بالسماح للأفراد بممارسة الفعاليات الاقتصادية بحرّية محدودة بالقيم المعنوية والخُلقية التي يقرّها الإسلام عبر تحديد ذاتي من خلال التربية الإسلامية الخاصة للفرد، والتحديد الموضوعي، أي: في ظل قوّة خارجية تتكفّل به الشريعة الإسلامية.

ج- مبدأ العدالة الاجتماعية. وذلك عبر مبدأين: التكافل الاجتماعي والتآلف بين الأفراد؛ كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والتوازن الاجتماعي بين الأفراد في مستوى المعيشة لا مستوى الدخل. وهذا من مسؤولية الدولة الإسلامية لتتسنّى القدرات الإنسانية أن تنعم بالتطوّر والرقيّ في ظلّها.

2- النظام الاجتماعي

فقد أعطاها القرآن الكريم عناية فائقة بهذا الأمر، سواء إلى ما يأمر به الرئيس الكبير أن يفعله مع مجتمعه أو إلى ما يأمر به المجتمع العام أن يفعله مع رؤسائه، أو إلى ما يأمر الإنسان أن يفعله مع مجتمعه الخاص كأولاده وزوجته، أو كيف ينبهه على الحذر والحزم في مجتمعه الخاص، ويأمره إن عثر على ما لا ينبغي منهم، أن يعفو ويصفح، فيأمره أولًا بالحذر والحزم، وثانيًا بالعفو والصفح، أو إلى ما يأمر به أفراد المجتمع العام أن يتعاملوا به فيما بينهم، وغير ذلك من المواضيع ذات الطابع الاجتماعي.

3- الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون

أما الشريعة فقواعد وضعها الله تعالى على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة. ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:

أولاً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.

ثانياً: أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة.

والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.

ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرناً، تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً، واستُحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل؛ ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.



([1]) الجمعة: 10.

([2]) النساء: 29.

([3]) البقرة: 275.

([4]) الأنفال: 69.

([5]) الإسراء: 29.

([6]) الفرقان: 67.

([7]) البقرة: 219.

([8]) البقرة: 215.

([9]) الفرقان : 6.

([10]) الإسراء : 30.

([11]) الشعراء: 215.

([12]) آل عمران: 159.

([13]) النساء: 59.

([14]) التحريم: 6.

([15]) التغابن: 14.

([16]) النحل: 90.

([17]) الحجرات: 12.

([18]) الحجرات: 11.

([19]) المائدة: 2.

([20]) الحجرات: 10.

([21]) الشورى: 38.

([22]) المائدة: 54.

([23]) الفتح: 29.

([24]) التحريم: 9.

([25]) يونس: 64.

([26]) الشورى: 38.

([27]) انظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (بتصرّف). الناشر: دار الكتب العلمية ـ نسخة المكتبة الشاملة.

([28]) البقرة: 164.

([29]) سبأ: 46.

([30]) الروم: 8.

([31]) يونس: 101.

([32]) الطارق: 5 – 7.

([33]) الغاشية: 17 – 20.

([34]) ق: 37.

([35]) آل عمران: 7.

([36]) انظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (بتصرّف). الناشر: دار الكتب العلمية ـ نسخة المكتبة الشاملة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقالة المرتبطة: 

القرآن كتاباً تشريعياً ـ القسم الأوّل ـ


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2191
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 11 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24