• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : علوم القرآن الكريم: رأي في المنهج والتجديد .

علوم القرآن الكريم: رأي في المنهج والتجديد

 السيد محيي الدين المشعل

عندمـا نـتتبع تـاريخ العلوم، نجد أن كثيراً من العلوم لا تمثل معرفة استقلالية في ذاتها، وإنما هي إفرازات علوم ذاتـية كانت تعتمد على مجموعة من الآليات المعرفية ازدادت‌ تدريجياً مع ظهور إشكاليات‌ جـديدة‌ في العلم الذاتي أو المـعرفة الأسـاسية، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الزيادة أن تنفصل الآليات التي تعتمد عليها المعرفة الذاتية لتؤسس لها علماً مستقلاً يمثل في كثير من الأوقات، منهجاً نظرياً للعلم الذاتي‌ يتم تطبيقه فيه.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ومختلفة، فلو لاحـظنا على سبيل المثال، علم أصول الفقه الذي هو منطق الفقه-كما يعبر عنه السيد الشهيد-لما عثرنا له على أساس بدون علم الفقه، فإن‌ المطلوب‌ من الفقه، ومن الفقيه هو أن يقدم حكماً شرعياً يمثل حكم اللّه تعالى فـي الحـياة ليعمل به المكلف، وحينئذ فما على الفقيه إلا أن يبحث عن مصادر الحكم كالكتاب والسنة‌ في مختلف أقسامها ليأخذ منها حكم اللّه، ويبلغه للمكلفين. ولكنه عندما تعامل مع هذه المصادر وجد أنـه أمـام كم هائل من الإشكاليات التأسيسية التي لا يمكنه بدون حل جذري‌ لها‌ أن يقدم أي حكم من الأحكام، فأخذ يقدم لها حلاًّ في ضمن العملية الاستنباطية للحكم الشرعي ويدمجها مع المسألة الفقهية، ولكـن كـلما كثرت الحاجة من خلال تعقيد الحياة الاجتماعية‌ إلى‌ أحكام‌ جديدة، قد لا تكون موجودة في‌ النصوص، زادت‌ معها‌ الإشكالات المنهجية التي هي بحاجة ماسة إلى حل، فبدأ- وبشكل تدريجي-يتبلور علم جديد عبر عنه بـعلم أصـول الفـقه، لم يكن ليوجد أساساً لولا‌ علم‌ الفـقه نـفسه، وهكذا علم الرجـال، والدراية. وكثير من العلوم‌ الأخرى.

والعلم المعبر عنه بعلوم القرآن هو الآخر له حالات، ومراحل تطورية تشبه إلى حد كبير حالات علم أصول‌ الفقه.

فـإن‌ عـلم (علوم القـرآن) لم يكن لتوجد أساساً لولا علم التفسير، ولذلك أتصور‌ أنه مـن غـير المناسب أن يجعل علم التفسير واحداً من ضمن علوم القرآن، وإنما ينبغي أن يكون علم‌ التفسير‌ هو‌ المنطق لتأسيس علوم القـرآن التـي تـسهم في تفسيره، وتوضيح مرادات‌ اللّه‌ من خلاله.

فعندما كان القرآن يـنزل على رسول اللّه (ص)، ما كان أحد بحاجة إلى معرفة المكي والمدني، والناسخ، والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وغير ذلك؛ لأن تفسير القرآن وبيان‌ أحـكامه‌ المـختلفة‌ مـن فقهية، واقتصادية، واجتماعية، وغيرها، كانت لها مرجعيتها المتمثلة في رسول اللّه (ص) وأهـل‌ بيته(ع) من‌ بعده، وربما تمثلت هذه المرجعية بمظهر ضئيل جداً في بعض أصحاب رسول اللّه(ص) وبعض‌ أصـحاب‌ أهـل بـيته(ع)، ولكن بعد أن بعد الناس عن عصر النزول، وكذلك عن عصر ظهور‌ المعصوم، وتـواجده‌ بـين النـاس، أضحت العملية التفسيرية لكتاب اللّه عملية معقدة جداً خصوصاً مع إمكان تحريف المعنى القرآني‌ وتوجيهه بـحسب الرغـبة والهوى.

لذا كـان لزاماً أن يكون هناك منهج‌ متكامل‌ بحفظ‌ العملية التفسيرية على مستوى النص كما صرح بـه تـبارك تعالى في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)، كما يبقى مصوناً على مستوى المعنى والمـضمون، من خـلال‌ عـملية‌ التفسير‌ الصحيح والموضوعي.

لذلك كان لزاماً علينا أن نعيد النظر في المنهج الذي اتبعه العلماء‌ في‌ تأسيس‌ مـباحث عـلوم القرآن لنجد أن هناك علوماً لا مدخلية لها في قضية التفسير، أو‌ أن لها دخالة ضـئيلة جـداً، كما أن هـناك بحوثاً في علوم القرآن أمرها كذلك.

وعلى سبيل المثال:‌ يبحث‌ في علوم القرآن أمر الاعجاز القـرآني الذي هـو بحث عقائدي في حقيقته، لأن‌ إعجاز‌ القرآن ليس أمراً مرتبطاً بالتفسير، فإن التفسير الذي هـو‌ مـن‌ التغير يعني كشف القناع عن وجوه اللفظ‌ لمعرفة‌ معانيها، وبالتالي اكتشاف المراد الحقيقي للّه من خـلال الاعـتماد عـلى الظاهر، وعلى أساليب‌ المحاورة‌ العرفية في اللغة العربية، وهذا‌ أمر‌ يتسنى بـدون‌ أن‌ نبحث‌ في معنى الاعجاز، ومظاهره، ومميزات‌ المعجز‌ كما نراه في كتب علوم القرآن التي تبحث المـسألة بـحثاً كلاسيكياً.

نعم، لا‌ شك أن البحث في المجال العقائدي‌ لابد منه، بل هو من‌ الضرورات‌ الديـنية التـي لا يختلف عليها‌ أحد‌ من المسلمين، وذلك لأن قضية إثـبات كـون القـرآن قد نزل من عند اللّه‌ متوقفة‌ عـلى كـونه معجزاً ليس في‌ مقدور‌ البشر‌ الاتيان به، ومن‌ ثمّ يمكن لنا أن‌ نـبحث‌ بـحثاً تفصيلياً في الأصل الثالث مـن أصـول الدين وهـو النـبوة عـن قضية الإعجاز، ومظاهره‌ المختلفة، وما يـرتبط بـهذا المطلب.

أما‌ أن‌ نبحث القضية‌ في‌ مباحث‌ علوم القرآن بعد التسليم‌ بأن مـباحث عـلوم القرآن هي مباحث العلوم التي تـخدم القرآن في تفسيره، فهذا مـن الأمـور التي‌ تخالف‌ المنهج الصحيح فـي هـذا العلم.

وكذلك‌ نجد‌ بحوثاً‌ مفصلة‌ حول ظاهرة الوحي‌ في‌ كتب علوم القرآن، وهذا المـبحث أيـضاً مبحث عقائدي من جهة تـشابه الجـهة التـي توجد في مـبحث‌ الاعـجاز، وكذلك‌ هو تفسيري مـن جـهة أخرى لاشتمال الكثير‌ من‌ الآيات‌ على‌ الاشارة‌ إليه.

ولا أتصوّر أيضاً أن العملية التفسيرية متوقفة على مـعرفة تـفاصيل هذا المبحث إذ أن المفسر لا يتعامل مع القـرآن إلا عـلى أساس أنـه الوحـي الذي أنـزل‌ على رسول اللّه (ص)، والذي أعـجز الإنس والجن، وهذا مبحث عقائدي لابد من تأسيسه في البحث في أصول الدين.

نعم، ربما يـحاول بـعض رواد تيار الحداثة الذين يرون أن السلطة‌ الأولى‌ والأخـيرة للنـقد، وللنـقد فـقط، أن يتعاملوا مع القـرآن عـلى أساس أنه نص أدبي مجرد من المقدسية، وتالياً ينفون عنه جهة الوحي، الأمر الذي قد يحتم عـلى البـاحث فـي علوم‌ القرآن‌ أن يدرس هذين الجانبين في هـذا العـلم ليـقول للآخـر بـأن هـذا الكتاب معجز بما يشتمل عليه من مستوى بياني فارد، وأفق بلاغي فريد، وبالتالي‌ فهو وحي الهي، لا يمكن‌ نفي‌ القداسة عنه بوجه من الوجوه.

لكن من الواضح جداً أن هـذا البحث عقلي، ارتباطه بالجهة العقائدية أكبر بكثير من ارتباطه بالجهة التفسيرية. فما لم يؤسّس في‌ البحث‌ العقيدي ويقبل هناك‌ فإنه‌ في علوم القرآن لن يكون مقدمة، وممهداً للعملية التفسيرية كما هو واضح.

ونجد أيضاً، عندمـا نـراجع كتب علوم القرآن، بحوثاً تفصيلية حول طرق كتابة القرآن، وتاريخها، وتطورها، وهو بحث قد‌ تكون‌ له جدواه العملية، بل ربما حتى العملية، ولكن لا ارتباط له بالتفسير، ولا أعتقد أن المفسر قد يرتطم في مـقام البـحث التطبيقي للعملية التفسيرية بإشكالية لها علاقة بنقط المصحف، أو طريقة‌ كتابة‌ الكثير من‌ الكلمات التي تفتقد بعض الحروف المقروءة كالسموات وكالصلوة، أو بعض الكلمات التي فيما حـروف زائدة غـير مقروءة كما‌ في قوله تـعالى فـي سورة الكهف: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ (الآية 23)

خصوصاً وأن الفقهاء لا يستشكلون في ‌‌كتابه‌ القرآن بنصه بحرف غير عربي كما لو أراد الانجليزي أن يـقرأ القـرآن، وهو‌ لا‌ يعرف‌ الحرف العـربي فبإمكانه أن يكتبه بحرف الانجليزي ليقرأه كما يقرأه العربي، كما أن الأعمى يمكنه‌ أن يكتب النص القرآني بلغة (برايل) التي تعتمد على تخريق الورقة وهكذا...

وبشكل‌ عام فهناك بحوث في‌ علوم‌ القرآن لا تخدم التفسير، ولا تمثل آلية مـن آليـاته تحتاج إلى دراسة مستوعبة ليتعرف على فوائدها في مجال آخر غير التفسير إن كانت، وإلا فلا داعي لبحثها، وإضاعة الوقت فيها.

كما‌ أن هناك بحوثاً يشعر المفسر المعاصر بأنها تخدم العملية التفسيرية خدمة مهمة وأسـاسية يـنبغي درجها فـي مباحث العلوم القرآنية، وعدم إغفالها كبعض نظريات اللغة التي اكتشفت أخيراً، وبعض الآليات الحديثة‌ التي‌ تسهم فـي فهم النص واستنطاقه، كما فعل (السيوطي) قديماً عندما أفرد في كتابه (الاتقان في عـلوم القـرآن) بحوثاً لغـوية يفيد منها المفسر في العملية التفسيرية فائدة كبيرة.

والخلاصة أن المنهج العلمي الذي‌ ينبغي‌ أن يبتني على أساسه قبول بـحث ‌مـا أو رفضه، وروده وجعله من مباحث علوم القرآن، أو إخراجه منها هو كون البحث قادراً عـلى أن يـكون خـادماً للعملية التفسيرية، وسهيماً‌ في‌ نتاج قرآني قدير على مواكبة العصر، وحل إشكالياته.

وهذا قد جعلنا نـرفض الكثير مما يعده البعض من مباحث علوم القرآن، ونقبل الكثير أيضاً مما قـد لا يعدونه من‌ مباحث‌ عـلوم‌ القرآن.

وعـليه، فنحن لابد‌ لنا‌ دائما‌ً أن نبدأ بالتفسير من خلال ما أسس لإنجاح عملية التفسير، فإذا وجدنا أننا لا نحتاج إلى بحث من مباحث علوم القرآن‌ المدونة، حتى في‌ عملية واحدة من عمليات التفسير يمكننا أن نستغني‌ عـن‌ ذلك البحث، وإذا وجدنا تكرر آلية معينة من مباحث علوم القرآن في أكثر عمليات التفسير، بحيث تمثل ظاهرة في العمل‌ التفسيري، فإنها‌ لا‌ محالة تكون من مباحث علوم القرآن الأساسية والأولية، وإذا‌ وجدت آلية يقل استخدام المـفسر لهـا فإنها يمكن أن تدرج في مباحث علوم القرآن، ويحسن تسميتها علوم‌ القرآن‌ الثانوية، أو غير الأساسية.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2114
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 03 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24