• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 95 ـ في تفسير سورة التين .

95 ـ في تفسير سورة التين

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8).

1 ـ إنّ القرآن الكريم ينوّع في طريقة القَسَم تنويعاً ملفتاً، فينتقل من القَسَم بفاكهتين ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ إلى بلدين مقدَّسين ﴿وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ إذ إنّ كل شيء منتسب إلى الله تعالى بنحوٍ من الانتساب ـ فاكهة كانت أو بقعة مباركة ـ فهو مقدّس يمكن القَسَم عليه، إذ إنّ شرافة العالي تسري إلى الداني إذا عُدّ شأناً من شؤونه، ولا غرابة في ذلك وهما مترشّحان من عالم الأمر والخلق؟!

إنّ طور سيناء لم يكن موطناً لموسى (ع)، بل محلاً لمناجاته بخلاف باقي المدن المقدَّسة المذكورة في السورة؛ ممّا يدلّ على أنّ تشرّف العبد بذِكر مولاه ـ ولو في فترة قصيرة كأربعين ليلة ـ يوجب قدسية ذلك المكان الذي ناجى ربّه فيه، بما يستحقّ أن يُقسم عليه.

إنّ إطلاق الأمان على مكّة المكرّمة ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ يشير إلى قدسية هذا المكان الشريف، سواء فسّرنا الأمن هنا:

بالمعنى الفاعلي؛ أيّ: الحافظ لما دخل في دائرة حمايته، فكأنّ هذا المكان يجعل من دخله في حرزه الحريز ـ وهذا ثابت بحسب التشريع وإنّ خالفه البشر ـ فهو بلد يأمن فيه ما يمكن صيده من الحيوان، والحاج والمعتمر من البشر حتى لو كان مجرماً.

أو بالمعنى المفعولي كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [سورة العنكبوت، 67] أي: أنّ الله تعالى قرّر ذلك له، فمَن أخلّ بأمنه يكون قد تحدّى الله تعالى فيما شرّع وقرّر، ومن هنا رأينا العقاب الأليم المتوجّه لأصحاب الفيل، الذين حاولوا تدنيس هذه القدسية.

ينبغي الالتفات إلى تنوّع النعم الإلهية في حياة العباد، وهذا بدوره يستلزم تنوّع الشكر القولي والفعلي بإزاء كل نعمة من تلك النعم، فالبعض متنعّم بمزايا عالم الأرض فينسى بركات عالم السماء كنعمة الإسلام والإيمان، والبعض يستشعر النعم المعنوية تاركاً شكر نعمة الطعام والشراب مثلاً، والحال أنّ عين المؤمن متوجّهة إلى كل ما يصدر من مولاه، مادّة كانت أو معنى.

ومن هنا فإنّ السورة جمعت بين ذِكر النعم المادّية المرتبطة (بالمأكول) كالفاكهتين وبين (المعقول) كالإيمان، كما جمعت بين ما يوجب سلامة (الأبدان) من الفاكهة النافعة للبدن من التين والزيتون، اللّذين قيل في حقّهما الكثير من الخواص المذهلة، وبين ما يوجب سلامة (الأوطان) من تحقّق الأمان ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ.

إنّ الآيات الأولى من هذه السورة فُسّرت على أنّها مواطن الأنبياء (ع) فأشارت إلى:

بلاد الشام المشتهرة بالتين؛ وهي مكان هجرة إبراهيم (ع).

فلسطين المشتهرة بالزيتون؛ وهي مكان ولادة عيسى  (ع) ومنشؤه.

طور سينين؛ وهو الموضع الذي نودي منه موسى  (ع).

البلد الأمين؛ وهو بلد نبيّنا الخاتم (ص).

وهذه بمجموعها تدلّ على أنّ البقاع تكتسب شرافةً ممّن هو عليها، فلا يفتخر من عليها بما هو عليه من الأرض، لوضوح أنّ شرف المكان بالمكين ولا العكس!

إنّ الأمان التشريعي المجعول للبلد الأمين، إنّما هو استجابة لدعوة إبراهيم الخليل (ع) الذي طلب من الله تعالى الأمان له قائلاً: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [سورة إبراهيم، 35] فكانت الاستجابة ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا [سورة العنكبوت، 67]؟!.. فكم هو أمر عظيم أن يحقّق الله تعالى أماناً لبلد إلى يوم القيامة؛ استجابة لدعوة عبد من عباده المكرمين!

إنّ الله تعالى خلق الإنسان في أفضل قابلية للكمال المادّي والروحي قائلاً: ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فإنّ:

الجسم الإنساني بما له من الطاقات والقابليّات، يمكنه القيام بعجائب الأمور، وهو ما نراه حاليّاً من التقدّم العلميّ في كل المجالات.

الروح الإنسانية بما أراها الله تعالى من طريق الخير والشرّ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد، 10] هي أيضاً لها القابلية في العروج إلى أعلى درجات الكمال.

فكم من الظلم بعدها أن لا يحقّق الإنسان هذا الكمال، مع وجود تمام القابلية فيه ليقال في حقّه أخيراً: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [سورة الفرقان، 44]!

إنّ الله تعالى ينسب الخلقة في ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إلى نفسه كما ينسب الردّ إلى أسفل سافلين إلى نفسه أيضاً ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ بفارق أنّ:

الأوّل: فعلُه المحض فهو كان مع العبد حين خُلق ولم يكن ﴿شَيْئًا مَذْكُورًا [سورة الإنسان، 1].

الثاني: فعلُه المترتّب على فعل العبد، وهذا من باب الخذلان والعقوبة كأيّ قانون من قوانين عالم التكوين، فإنّ الله تعالى هو المحرق ولكن عندما يشعل النارَ صاحبُها.

كم هو الفرق الشاسع بين قوس الصعود الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقوله ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، 10] وما روي من أنّه «لولاك؛ لما خلقت الأفلاك» [مناقب ابن شهر آشوب، ج1، ص217] وبين قوس النزول الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وقوله: ﴿إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار [سورة الإنسان، 145]!

والملفت هنا أنّ التنقل بين قوسي الصعود والنزول يتمّ في هذه الحياة الدنيا، فهي على قصرها تحدّد ذلك كلّه!

إنّ القرآن الكريم ربط بين الإيمان والعمل الصالح فيما يقرب من خمسين مورداً، ممّا يدلّ على أنّ النجاة لا تتمّ إلا بهما: فالذين ابتغوا غير الإسلام ديناً، أو ابتغوا غير منهج النبيّ وآله (ص) منهجاً أخلّوا بالركن الأوّل، والذين انحرفوا عن الطريق القويم ولم يعملوا صالحاً، أو خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فقد أخلّوا بالركن الثاني.

والملفت: أنّ لحن الآيات الدالّة على هذه الحقيقة متنوّع بين:

ما يذكر العمل الصالح بصيغة الماضي ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الدالّ على الثبات.

وما يذكره بصيغة المضارع الدالّ على الاستمرار، مضافاً إلى ذكر الإيمان كصفة للذات لا للفعل كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [سورة الأنبياء، 94].

ما يذكُره على نحو البشارة منتسباً إلى فرد من المؤمنين كقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ [سورة طه، 75] أو إلى جماعة منهم ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [سورة الإسراء، 9].

إنّ العطاء الأكمل هو ذلك العطاء:

المتّصل: إذ إنّ حزن ساعة المنع لا تجبره ساعات العطاء السابقة، فمن البديهيّ أنّ الفرح المتصرّم لا يجبر الحزن الفعلي، ومن هنا وصف الله تعالى الأجر في هذه السورة بأنّه غير ممنون؛ أي: غير مقطوع.

الذي لا يصاحبه المنّ: لما في ذلك من الأذى على الممنون عليه، وهو أيضاً ممّا قد يُفهم من كلمة غير ممنون.

الذي يُفهم فيه بأنّ المعطَى له يستحقّ هذا الجزاء: فقد عبّرت الآية عن الأجر بأنّه ثابت لهم ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فكأنّ هذا الأجر كان استحقاقاً لازماً لهم، والحال بأنّ الله تعالى هو المتفضّل في (أصل الأجر)؛ لأنّ ما قاموا به هو من لوازم العبودية، وفي (حجم الفضل)؛ لأنّ جزاء الخلود الأبدي لا يقاس بالطاعة الفانية في الدنيا.

إنّ القرآن الكريم يعلّمنا كيف نتعامل مع الخلق في جانب الإقناع النظري، فبعد ذكر عجائب خلقته في عالم التكوين وإرساله للأنبياء العظام، يطرح سؤالاً تقريعيّاً حول ما يدعو الناس إلى التكذيب بيوم الجزاء قائلاً: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ففيه إشعار ضمني بأنّ هذا الأمر في غاية الغرابة، وهذا أسلوب من أساليب تحريك العقول الجامدة.

ومن الممكن إرجاع الخطاب للنبيّ الأكرم (ص) بما يكون تسكيناً لخاطره الشريف، وعليه، يكون المعنى: فمَن يكذّبك يا أيّها الرسول بالدين بعد ظهور هذه الدلائل المحكمة؟!

إنّ الله تعالى يلخّص في بعض الحالات أغراض السورة في جملة واحدة، وتطبيقاً لذلك فإنّه يمكن القول بأنّ آية ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ كأنّها تعبّر عن النتيجة المتحصّلة لكل ما قيل في صدر هذه السورة، إذ إنّ: إبداع الخلق التكويني، وتخصيص البعض بالنبوّة، وإرجاع البعض إلى الدرجات السفلى، والأجر المتّصل، وتهديد المكذّب بالدين؛ كل ذلك فرع حاكميّته المطلقة في هذا الوجود.

إنّ سياق هذه السورة يشابه سياق سورة العصر، وذلك في تقرير حقيقة مصيرية تخصّ كل فرد في هذا الوجود، تتمثّل في بيان قاعدة الخسران والتي هي الأصل الأساس في حياة كل فرد، وأنّه لا يمكن الخروج من هذا الأصل الأوّلي، إلا بالجمع بين الإيمان والعمل الصالح.

وعليه، فإنّ المرء لو أعفى نفسه من الصعود إلى عالم ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فإنّ النتيجة القهرية هي التسافل إلى عالم ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ كتسافل كل جسم ـ بفعل جاذبية الأرض ـ إذا لم يتكلّف الصعود.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1901
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20