• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 100 ـ في تفسير سورة العاديات .

100 ـ في تفسير سورة العاديات

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11).

1 ـ إنّ محور القَسَم في هذه السورة المباركة، هي حالات وحركات مركب المجاهدين من الخيول العادية من جهة: أصواتها عند العدو، وما توريه حوافرها من النار، ومباغتتها للأعداء صباحاً، وإثارتها للغبار عند ركضها، ودخولها وسط القوم عند إغارتها.

وحينئذٍ نقول إذا تحقّق القَسَم بمركب يركبه المجاهدون في سبيل الله تعالى؛ فكيف بذواتهم؟!.. أوَ هناك تقدير أعظم من هذا التقدير؛ أي: القَسَم بما يركبه مَن يُراد تعظيمه؟!

2 ـ إنّ سراية العظمة من العظيم إلى بعض متعلّقاته الفاقدة للعظمة بذواتها لولا انتسابها، لها شواهد متعدّدة في القرآن فمنها: قميص يوسف (ع) ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [سورة يوسف، 96] وتابوت موسى (ع) ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [سورة البقرة، 248] وناقة صالح (ع) ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا [سورة الشمس، 13] ومنها ما في هذه الآية من خيول المجاهدين، إلى درجة يُقسِم الله تعالى فيها بحافر ذلك المركوب الذي تنقدح منه النار عند الجري ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾.

3 ـ إنّ مدح صفة الإغارة صبحاً ـ لكونها في سياق القَسَم ـ يدلّ على مطلوبية مباغتة العدوّ، فإنّ الحرب خدعة.. ومن المعلوم أنّ من سبل المباغتة هي الإغارة الصباحية: فلا هو ليل دامس؛ لئلا يرى الإنسان عدوّه، ولا هو صبح مسفر؛ ليكون العدوّ على أهبته!

إلا أنّ الأمر لا ينحصر بهذا المصداق من الاستعداد لقهر العدوّ، إذ لا بُدّ من السعي لكل ما يوجب الغلبة على الأعداء، ومنه إعداد القوّة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [سورة الأنفال، 60] ولا يخفى أنّه لا خصوصية للخيول المذكورة في هذه السورة، بل المراد كل قوّة يواجه بها الأعداء ولو لم يكن خيلاً، وهو الواضح أيضاً من عدم إرادة رباط الخيل، في آية إعداد القوّة المذكورة.

4 ـ ذهب البعض إلى أنّ المراد بما أقَسَم عليه في هذه الآيات، هي إبل الحجاج المتنقّلة ما بين عرفات ومنى والمزدلفة، وهو مرويٌّ عن أمير المؤمنين عليه السلام [تفسير نور الثقلين، ج5، ص656] . وعلى هذا التفسير فإنّ الآيات تبيّن عظمة الحجّاج من ناحية، وعظمة هذه البقاع من ناحية اُخرى، فبذلك تحقّق قَسَم بمركوب يحمل راكباً شريفاً في بقعة شريفة.. ومن هذا المورد وأشباهه، يُعلم أنّ القرآن حمّال ذو وجوه.

5 ـ إنّ وجه الارتباط بين القَسَم والمُقْسَم عليه ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ خفي نوعاً ما، فمن الممكن القول: إنّ وجه المناسبة بين كفورية الإنسان وخيول المجاهدين، هي:

- المقارنة بين فئة تبذل أغلى ما عندها ـ وهي النفوس ـ في خدمة الدين، وبين مَن يستأثر بمال الله تعالى الذي أُودع عنده أمانة إلى حين الرجوع إليه، حال كونه كنوداً كافراً به وبأنعمه، فصار تكريم خيول هؤلاء ـ بالقَسَم عليه ـ تعريضاً بهم، وكأنّهم دون هذه الخيول بمراتب في الفضل عند الله تعالى!

- إنّ تشريع الجهاد لمواجهة أصحاب هذه النفوس السقيمة المتردّية بكفرها، فصارت هذه الآيات تحقيراً لهم، حيث تعرّضوا لإذلال الفاتحين لهم بالنصر عليهم، بسبب ما هم عليه من النقص والضلال.

6 ـ إنّ هناك مجموعة من الصفات المرتكزة في باطن الإنسان قد ذكرها القرآن الكريم مثل: الظلم والجهل ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [سورة الأحزاب، 72] والهلع ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾ [سورة المعارج، 19] والجزع ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [سورة المعارج، 20] واليأس والكفر ﴿إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [سورة هود، 9] والطغيان ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى [سورة العلق، 6] والضعف ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [سورة النساء، 28].

وقد ذكرت هذه السورة خصلة من هذه الخصال الباطنية، وجعلت الموضع لها هو الإنسان بما هو إنسان لم يتربَّ بتربية الأنبياء (ع)؛ ألا وهي (الكفران) مسبوقة بأداة التأكيد (إنّ) وكذلك اللام المؤكّدة.

ومن المعلوم أنّ مثَل هذه الخصال في النفوس، كمثل البذور في الأرض التي تنتظر ما يُنبتها، فمن دون مجاهدة وسبر لغور النفس، وتصفيةٍ لها ممّا هي فيها؛ فإنّ هذه الخصال منابت لسيّئات الأعمال بمقتضى طبيعتها.

7 ـ إنّ من موجبات تشديد مؤاخذة العبد يوم القيامة؛ علمه بما هو فيه من الشرور لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ بناءً على ارجاع الضمير إلى العبد لا إليه تعالى، فكأنّ هذا الكفور الكنود تجاهل ما هو فيه من العيب مجاراةً لهوى نفسه، وذلك لأنّ المشي على خلاف ما تقتضيه تلك الصفة ـ كالبخل مثلاً ـ يحتاج إلى مجاهدة ليسوا هم من أهلها، وبذلك كانت الحجّة عليهم أبلغ!.. ونظير هذه الآية في بيان حقيقة علم الإنسان بنفسه قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ [سورة القيامة، 14-15].

8 ـ إنّ هذه السورة فيها حقائق تمسّ عالم الباطن من: كنودية الإنسان، وحبّه الشديد للخير، وأنّ العبد عالمٌ بما في نفسه وإنْ كابر وأنكر.. كما تمسّ عالم الغيب من جهة اُخرى، وهو: انكشاف خبيريّة الله تعالى للعباد يوم الجزاء.

ومن هنا ناسب أن يكون هناك: قَسَم في البين لتقبّل هذه الحقائق غير الظاهرة للحسّ، وتأكيدٌ في كل هذه الموارد بكلمة (إنّ) والجملة الاسمية وحرف (اللام) التي تفيد التأكيد.

9 ـ إنّ الآية عبّرت عن المال بأنّه خير، كما في قوله تعالى في موارد اُخرى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [سورة البقرة، 180] وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [سورة المعارج، 21]. وهذا التعبير قد يكون بلحاظ:

- ادّعائهم، وذلك بالقول بأنّ المال هو الخير لهم؛ فكل استمتاع في الدنيا إنّما يتحقّق بهذا المال.

- الواقع، فإنّ المال بنفسه ـ بل الدنيا بأكملها ـ لا عيب فيها بل هو مادّة للخير، وإنّما يتحقّق الشرّ من وراء حبّه ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر، 20] فيلهيه عن الله تعالى، فيصبح فتنة ﴿أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة الأنفال، 28] وعدوّاً ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [سورة التغابن، 14].

والدليل على إنّ الإلهاء ليس من ذاتيّات المال: إنّ نبيّ الله سليمان (ع) أوتي المال الكثير، ولكن من دون أن يوهن عزمه في طريق العبودية لله تعالى، وسيؤتَى المهديّ الموعود (ع) أيضاً من المال ما لا يخطر بالبال، حيث تُخرج الأرض كنوزها، وتُنزل السماء قطرها.

10 ـ إنّ الحديث عن أبدان الخلق في عالم القبور، يشبه الحديث عن الجمادات فيها، ففي آية ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [سورة الزلزلة، 2] نستشعر أنّ الأبدان شأنها شأن باقي دفائن الأرض، تلفظها الأرض وكأنّها استراحت منها!.. وقد ورد في هذه السورة أيضاً التعبير بـ﴿بُعْثِرَ وهي إثارة الأرض لإخراج ما فيها، كما يعمل الفلاح لإخراج ما نبت في باطنها.

وعليه، فإنّه من الممكن القول: إنّ هذه الأبدان لا شرافة لها بنفسها، وإنّما المعوّل على الأرواح المصاحبة لها، فهي كالبذرة في السنابل تُراد بنفسها، وإلا فبعد خروجها منها بالحصاد، فإنّ القشرة تُرمى جانباً تذروها الرياح أو تحرقها النيران.

11 ـ إنّ الله تعالى خصّ الصدور بالذكر عند الحساب ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ ولم يذكر الجوارح؛ لأنّ نسبتها إلى الصدور نسبة المعلول إلى العلّة، فكانت الصدور أولى بالذِكر.

ومن هنا نقول: بأنّ المنجي واقعاً يوم القيامة ـ والذي عليه مدار الحساب ـ هو القلب السليم كما ذُكر في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [سورة الشعراء، 89].

وعليه، فإنّ مَن يزيّن جوارحه بالطاعات، ولا يصلح جوانحه بالملكات الصالحات؛ سوف يرى أنّ المحصّل من صدره ـ على ما وعدت به الآية ـ ليس ممّا يُسرّ به العبد يوم القيامة!

وممّا يؤيّد محورية العمل الجوانحي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [سورة البقرة، 283] فجعل موطن الإثم هو القلب، وقوله تعالى: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [سورة الأحزاب، 32] فجعل مرض القلب سبباً لإثارة الشهوة عند التعامل مع النساء، وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [سورة الحج، 37] وإلا فما قيمة الدماء المسالة في منى إذا لم يحقّق التقوى؟!.. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [سورة الحج، 32]  فالقلب المتّقي يصدر منه الورع الجوارحي، ومنه تعظيم الشعائر الإلهية بكل صورها، وقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة، 183] فجعل ثمرة الصيام رجاء تحقّق التقوى، ومن المعلوم أنّ التقوى أيضاً حالة في القلب.

12 ـ إنّ الله تعالى عالم خبير بكل أفعالنا حين صدورها بل قبل صدورها بمقتضى علمه بالغيب، وعلمنا بهذا العلم الإلهي لمن موجبات إتقان العمل، إلا أنّ الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ تجعل ظرف هذا العلم الإلهي مرتبطاً بيوم القيامة، والحال بأنّ علمه تعالى لا زمان له، فكيف يتمّ التوفيق بين الآية والواقع؟!

والجواب عن ذلك ـ بعد القول إنّ الآية لا تنفي العلم في غير ذلك الوقت ـ هو إنّ القيامة ليست ظرفاً لأصل العلم؛ وإنّما لتجلّي أثر هذا العلم المتمثّل بالجزاء، ومن المعلوم أنّ الربط بين هذا العلم في دار الدنيا وأثره في دار الآخرة من موجبات الارتداع عن المعصية إن وجد إيمان راسخ باليوم الآخر!

ونظيره في ذلك قوله تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [سورة غافر، 16] والحال أنّ ملكه أبدي لا زوال له فكيف ارتبط بذلك اليوم؟! فنقول فيه أيضاً: إنّ المراد هو المُلك المحقّق الذي يقرّ به جميع المماليك.

وينبغي الالتفات إلى أنّ متعلّق العلم الإلهي؛ هي ذواتهم ﴿بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ لا أفعالهم، وهذا أبلغ في بيان الإحاطة؛ لأنّ من أحاط بالذات أحاط بالفعل، وليس العكس!

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1884
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 01 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24