• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 101 ـ في تفسير سورة القارعة .

101 ـ في تفسير سورة القارعة

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11).

1 ـ إنّ سياق الحديث عن القارعة التي تقرع القلوب والأسماع يوم القيامة، تشبه سياق الحديث في سورة الحاقة حيث يقول تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [سورة الحاقة، 1-3] ففيها استفهامان: الأوّل بنحو بسيط يعني: السؤال عن حقيقة هذا المبتدأ الذي ذُكر أوّلاً لإثارة الانتباه، والآخر بإضافة كلمة ﴿أَدْرَاكَ يعني: وأيّ شيء يدريك ما حقيقة هذا المبتدأ؟!.. فكان أبلغ في بيان التفخيم، وكأنّ ما ورد في هذه السورة وأمثالها لا يكفي لبيان الحقيقة كما هي.

ورد التعبير بـ﴿وَمَا أَدْرَاكَ في أكثر من عشرة مواضع من القرآن الكريم، وورد التعبير بـ﴿وَمَا يُدْرِيكَ في ثلاثة مواضع، وقيل في الفرق بينها: إنّ الأوّل في مواضع يريد الله تعالى أن يُدري نبيّه (ص) ما أثار السؤال حوله، وأمّا في الثاني: فإنّها في موارد أراد الله تعالى أن يطوي عنها، ويعرض عن الإجابة عنها، فكان تصريحاً حقيقة بعدم الدراية بها وإدراك العقول لها، كما في مورد الحديث عن القيامة قائلاً: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [سورة الشورى، 17].

والملفت حقّاً في عموم القرآن الكريم: إنّ الله تعالى لم يخاطب العقول بشكل مجرّد من أدوات الإثارة، وهذا درس لنا نحن أيضاً في عدم الاكتفاء بالخطاب المباشر، الخالي من أيّ مثير وجداني.

إنّ الآية الكريمة ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ تصف أهوال القيامة، والمتمثّلة في كون الناس كالفراش أو الجراد على التفسيرين:

إمّا من جهة (ضعف) هذه المخلوقات؛ فهما معدودان من الحشرات، فلا يعبأ بعددها وإن كان مبثوثاً أو منتشراً ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ [سورة القمر، 7] وهو الغوغاء الذي يركب بعضُه بعضاً.

أو من جهة (عشوائية) هذه الحشرة حتى قيل: كتهافت الفراش في النار، في أنّها لا تقصد عند طيرانها جهة بعينها ولو إلى النار!.

فأهل المحشر يحشرون كغوغاء الجراد في حال ضعف، ومن دون هدف بعينه.. والطامّة الكبرى أنّ المشبّه به في هذه الآية ـ وهي الحشرات التي لا يُعبأ بها ـ أحسن حالاً من كثير من الناس الذين ما حقّقوا الهدف من خلقتهم!

أشارت آيتا وصف الناس بالفراش المبثوث، والجبال بالعهن (أي: الصوف الملون) المنفوش (أي: المندوف) إلى حالة زوال الاستقرار الذي يراه الناس في الحياة الدنيا.. وعليه، فإنّ الإشارة تكون إلى حالة طبيعية واُخرى اجتماعية:

فالأولى: متمثّلة بالجبال الرواسي ذات الألوان المختلفة، لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [سورة فاطر، 27] فيزول استقرارها بأن تتحوّل إلى عهن منفوش.

والثانية: متمثّلة بالمجتمع البشريّ المستقرّ والمتحكّم بجوانب الأرض، وإذا بالقارعة التي تقرع البشر تزيل استقرارهم فتحوّلهم إلى فراش مبثوث.

وفي هذا درس للجميع لعدم التعلّق بما هو زائل، ولخصوص المؤمنين لعدم الاعتداد بما سواه والذي يؤول إلى ما ذِكر، ويجمعهما التعبير بـ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [سورة الرحمن، 26].

جرى الحديث عن القيامة في قالب القَسَم وغيره في سبعين مورد في القرآن الكريم، وفيه دلالة واضحة على مصيرية الاعتقاد به كأصل من أصول الدين أوّلاً، والالتفات التفصيليّ إليه في حركة الحياة ثانياً كعنصر مُذكّر باللّقاء الإلهيّ!

وذلك لأنّ مشكلة القرب إلى الله تعالى تتمثّل في الغفلة تارةً، وغلبة الهوى تارةً اُخرى؛ وكلاهما يرتفعان أو يحدّدان بتذكّر النهاية المشتركة المحتومة لكل البشر، حيث تنتهي كل اللّذّات وتبقى كل التبعات، ومنها ما في هذه السورة من صور التأكيد.

إنّ الثقل والخفّة لا توصف بهما الأوزان وما يوزن به فحسب، بل إنّ كل ما له شأن وقدر من الممكن أن يُجعل معياراً في عالم الأوزان، ومن هذه الأوزان (الحقّ) كما قال تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، 8] فصار الحقّ وحدة من وحدات ما يوزن به العمل.

وعليه، فإنّ ما ورد في هذه السورة من ذِكر الثقل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ يفيد أنّ أصحاب العيشة الراضية، هم ممّن كان سعيهم في دائرة الحقّ.. لذا، ينبغي للعبد اجتناب كل ما ينطبق عليه الباطل سواءً في تعامله مع نفسه كالغناء مثلاً، أو مع غيره كأكل ماله بالباطل، وبعبارة جامعة: فإنّ الحقّ هو كل ما تعلّق بالله تعالى، والباطل هو كل ما ارتبط بسواه ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [سورة الحج، 62].

ورد في روايات أهل البيت (ع) أنّ ما يوجب ثقل الموازين يوم القيامة (الصلاة على محمّد وآل محمّد) وهي تدخل في سياق مودّة ذوي القربي، أضف إلى أنّها من مصاديق الدعوة المستجابة، فأيّ دعاء أقرب للإجابة من طلب إنزال البركات على أشرف الخلق؟

وليُعلم أنّ الموازين في هذه السورة يمكن إطلاقها على نفس الأعمال أي الموزون، لا على ما يوزن به وهو الميزان، ومن هنا ناسب التعبير عنها بصيغة الجمع.

إنّ الإسلام دين الواقعية لا المثالية، فلا يراد من أحدنا أن يتمحض أعماله في الخير محضاً، فهذا لا يناله إلا المعصوم (ع)، إذ إنّ لازمة تركّب الإنسان من النفس اللّوّامة والأمّارة أن يستقيم تارةً، ويخرّ اُخرى.

 ومن هنا عُبّر عن الجزاء يوم القيامة بوصف الميزان خفّة وثقلاً ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ الذي فيه كفّة راجحة واُخرى مرجوحة، فالمهمّ في ختام الأمر أن تثقل كفّة الحسنات ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ كما عبّرت عنه الآية الكريمة.

إنّ ما يوجب هناءة العيش، هو أن يكون صاحبها راضياً عن عيشته رضاً بحقّ، ومن هنا وصف الله تعالى به أهل الجنة، لأنّ سخط الإنسان على نفسه أو على عيشته من أشدّ العذاب النفسي على صاحبه، فهو يوجب ملامة لا تنقطع أبداً، ومن المعلوم أنّ ما يوجب هذه الحالة في الآخرة هو سلوك العبد في الدنيا.

وعليه، فإنّ ما يعيشه أهل الجنة غداً من العيشة الراضية ـ باعتبار صاحبها ـ يعيشها المؤمن فعلاً في دار الدنيا لأنّه لا يرتكب فيها ما يوجب سخط ربّه، وبذلك يعيش ﴿عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ في الدنيا والآخرة.

إنّ التعبير عن جهنّم بـ﴿فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ يوحي وكأنّها بمثابة الأمّ لأصحابها من جهة:

الانتساب العميق لأهل جهنّم إليها، فهؤلاء كأنّهم أولاد النار خرجوا من بطنها فعادوا إليها.

ومن جهة أنّ الولد يأوي في الشدائد إلى أمّه، وهؤلاء لا ملجأ لهم يومئذٍ إلا أمّهم المتمثّلة بالنار.

هذا إذا فسّرنا الهاوية بجهنّم باعتبار من يهوي فيها، وأمّا إذا جعلناها وصفاً لأمّ رأس الذي يهوي في نار جهنّم، فيكون المعنى: إنّ صاحبه يهوي بدماغه في نار جهنّم وهو أبلغ في الإذلال، لأنّه يسقط بأشرف جزء من جسده، أضف إلى ما في كلمة الهاوية من معنى التردّي.

ومن الممكن أن نجعل ارتباطاً بين أمّ الرأس وبين الناصية الكاذبة؛ أي: يكون الكذب والخطيئة من موجبات هذا الهويّ في نار جهنّم.

إنّ الآيات الأولى من هذه السورة بدأت بـ﴿وَمَا أَدْرَاكَ لذِكر أهوال يوم القيامة، إلا أنّها أعادت التعبير نفسه بالنسبة إلى خصوص جهنّم، فقالت: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ فكان الأمر تعظيماً في ذِكر تعظيم؛ أي: تعظيم أمر جهنّم في ضمن ذكر عظائم يوم القيامة.

ومن الملفت هنا  إنّ الآية تصف النار بأنّها حامية، وهو أمر بديهيّ لكل أحد إذ لا يُعقل سوى ذلك، ولكن الآية كأنّها تريد أن تقول: بأنّ النار الحامية حقيقة، هي هذه النار الأخروية قياساً إلى نار هذه الدنيا، وكأنّها غير حامية!

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1880
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24