• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 109 ـ في تفسير سورة الكافرون .

109 ـ في تفسير سورة الكافرون

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾.

1 ـ إنّ الخطاب للكافرين في هذه السورة ـ وإن كان مطلقاً ـ إلا أنّه ناظر إلى صنف خاص كان على زمان النبي (ص) وهذا النوع من أعتى جماعة الكفار على مرّ العصور، لاجتماع جهالتهم مع عنادهم!.. فسيقت الآيات لليأس من إيمانهم، وإلا فلطالما انسلخ الكفار من غيرهم عن كفرهم كالذين آمنوا بعد فتح مكّة وحسن إسلامهم، وكالسحرة الذين آمنوا بموسى (ع) بعد طول جحود .

2 ـ إنّ هذه السورة أكّدت في أربع آيات ـ متشابهة في أصل المضامين ـ على حقيقة جوهرية ألا وهي عدم المشاركة في العبادة بين الخصمين،  أعني خطّ الإيمان وخطّ الكفر، لأهمّية الجانب الاعتقادي في بنية المؤمن وخصوصاً فيما يتعلّق بالتوحيد؛ لأنّ كل سلوكيّاته تتأثّر بهذا الأصل الأصيل.

ومن المعلوم أنّ عدم المهادنة في هذا الأصل الثابت، لا ينافي المصالحة فيما لا يمسّ أصل العقيدة، ومن هنا صالح النبي (ص) الكفار كما في صلح الحديبية، بل أمره الله تعالى بالصلح في موارده، لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [سورة الأنفال: 61] .

3 ـ إنّ استعمال النفي بـ﴿لا الدال على النفي في الاستقبال وذلك في بيان موقف النبي (ص) لعبادة آلهتهم وموقف الكفار لعبادة الله تعالى؛ يدلّ على أنّه لا التقاء بين النبي (ص) وبين خصومه إلى الأبد.

ومن هنا انتفت المداهنة في مجال العقائد وإن أمكنت الهدنة في مجال القتال، وقد حسم القرآن الكريم ذلك بقوله: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة، 120] بمعنى أنّ التنازل عن المبدأ، هو السبيل الوحيد لإرضاء الغير، وهيهات أن يكون ذلك!

4 ـ إنّ استعمال ﴿ما﴾ المسوقة لغير ذوي العقول؛ واقع في محلّه بالنسبة إلى آلهة الكفار في ﴿لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ لكونها أصناماً لا تعقل، وأمّا بالنسبة إلى الاستعمال نفسه في المعبود الحقّ في ﴿وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ﴾، فلا بُد من توجيه الأمر، وذلك بالقول أنّ ذلك إمّا من باب: المشاكلة في التعبير، أو إطلاقه على طريقة العبادة، وإمّا بمعنى المصدر؛ أي: ولا أنتم عابدون عبادتي .

5 ـ إنّ الخلاف بين النبي (ص) وكفار زمانه لم يكن في الخالقية، فهم لم ينكروا الخالق كما يقول القرآن الكريمُ: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [سورة الزمر، 3]، وإنّما الخلاف في طريقة العبادة وممارسة الشرك فيها؛ أي: التوحيد في العبادة، ومن هنا كان محور هذه الآيات في مادّة اشتقاق العبادة وما يتعلّق بها.

وليُعلم أنّ كثيراً ممّا يفعله المراؤون في العبادة ممّن يؤمن بالله تعالى ؛ يعود إلى الخلل في هذا الجانب الذي وقع فيه الكافرون، فما الفائدة في العبادة التي لا توحيد فيها؟!

6 ـ إنّ من أهداف الآيات الظاهرة في التكرار هو تثبيت هذه الحقيقة، وهو عدم إمكان عدول المتخاصمَين عن عبادة من يعبده، وإن اختلف التعبير في جانب النبي (ص) بـ﴿لا أَعْبُدُ﴾ الدالّة على الفعل تارةً و﴿وَلا أَنا عابِدٌ الدالّة على صفة الفاعل تارةً اُخرى، فكان مجموع التعبيرين أبلغ في النفي!

7 ـ إنّه من الممكن القول ـ دفعاً للتكرار المخالف للأصل ـ بأنّ:

- التكرار في الآيتين ناظر إلى دعوة الكفار للنبي (ص) لأن يعبد آلهتهم في سنة وليعبدوا هم إلهه في سنة اُخرى، فكان النفي باعتبار تعدّد سنوات التبادل في العبادة .

- ﴿ما﴾ في الأوليتين هي موصولة ناظرة إلى المعبود، بمعنى نفي عبادة معبود كل منهما، و﴿ما﴾ في الأخيرتين هي مصدرية ناظرة إلى طريقة العبادة، فمحصّل الآيات ـ على هذا التقدير ـ أنّ الاختلاف واقع في أصل المعبود وفي طريقة العبادة أيضاً.

- قوله تعالى: ﴿لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ناظر إلى الحال بلحاظ الفعل المضارع فيها ﴿وَلا أَنا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ بلحاظ الفعل الماضي، فكانت الآيتان في المجموع، دالّتين على انتفاء العبادة في كل الأزمنة.

8 ـ إنّ تقديم الجار والمجرور على المبتدأ في قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ دالّ على حصر الدين الحقّ والباطل بأصحابهما؛ فإنّ دين الكافرين لا يتعدّى منهم إلى النبي (ص) وكذا العكس!

ولا يخفى ما في هذا البيان أيضاً من التأكيد على عدم الاشتراك في الدين وأنّه لا مجال للمهادنة في أصل من الأصول .

9 ـ لا مجال للتوهّم بأنّ الآيات الدالّة على سماح كل فريق بالتمسّك بدينه، دالّة أيضاً على حرّية الاعتقاد بأيّ معتقد، حقّاً كان أو باطلاً ـ وهو ما يروّج له أهل الضلال في كل عصر للانفلات من تقيّد الشريعة ـ فإنّ مجمل القرآن الكريم هي الدعوة إلى التوحيد وبطلان أيّ دين غير الإسلام، فكانت هذه الآيات مستبطنة للتهديد بمعنى القول: كونوا على دينكم فسترون عاقبة أمركم!.. ويجري ما قلناه أيضاً في قوله تعالى: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ [سورة ص، 55]!

10 ـ إنّ المؤمن له مواقف مختلفة بحسب الجهة التي يواجهها:

- فمع المؤمن الغافل له موقف التذكير ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الذاريات، 55] .

- ومع المؤمن الفاسق له موقف الأمر بالمعروف ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [سورة آل عمران، 104].

- ومع المؤمن الباغي له موقف الإصلاح ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ [سورة الحجرات، 9].

- ومع المهاجم الكافر له موقف القتال ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة، 190].

- ومع الكافر المسالم له موقف المهادنة ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة، 8].

11 ـ إنّ التكرار في القرآن الكريم أسلوب معهود لتركيز معنى يراد تركيزه بهذا التكرار ـ وهو أعلم بمراده وما يفيد عباده ـ ومن ذلك تكرار قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الآية 13] أكثر من ثلاثين مرّة في سورة الرحمن لترسيخ معنى الشكر، وآية ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الآية 15] عشر مرّات في سورة المرسلات لترسيخ التهديد المتوجّه للمكذّبين، وآية ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [الآية 19] في سورة المدثر لترسيخ معنى الدعاء عليهم، وآية ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [الآية 3] في سورة التكاثر لترسيخ معنى التخويف بيوم المعاد، ومنه ما في هذه السورة من نفي أن يترك النبي (ص) دينه مجاراةً للكافرين، حيث تكرّر المضمون ـ ولو بتعبيرين ـ حيث قال تعالى: ﴿لا أَعْبُدُ و﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ.

12 ـ إنّ القرآن الكريم يدعو المؤمنين إلى تولّي أولياء الله تعالى والتبرّي من أعدائه، ومن أوضح ما دعا إليه هو ما ذُكر في أوّل سورة براءة حيث قال تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة التوبة، 1].

وفي هذه السورة أيضاً هناك صورة من صور الدعوة إلى البراءة من الكافرين، وذلك بعدم مداهنتهم على دينهم، ومن المعلوم أنّ الخطاب متوجّه بالخصوص إلى قادة الأمّة وعلى رأسهم النبيّ الأكرم (ص) فإنّ المداهنة تبدأ ممّن هم على رأس القيادة، إذا لم يتّسموا بالتقوى.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1870
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28