• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 110- في تفسير سورة النصر .

110- في تفسير سورة النصر

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾.

1 ـ جرت العادة على أن يتقدّم المشتاق نحو مَن يشتاق إليه، ولكن عند غاية الإكرام تُقدم الغاية إلى الطالب لها، كما تزفّ العروس إلى زوجها رغم شوقه الشديد إليها، ومثاله في القرآن الكريم هي الجنة الموعودة لأهلها فإنها تتقدّم إليهم لقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الشعراء، 90]. ومثاله الآخر ما في هذه السورة: فإنّ المجاهدين يسعون عادةً إلى ساحة النصر والفتح، ولكن النصر هنا جاء لساحة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) فقال تعالى: ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ.

2 ـ إنّ النصر ـ وإن كان منتسباً إلى الله تعالى كانتساب كل خير إليه ـ إلا أنّ منشأه بيد العبد، وقد أشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [سورة محمد، 7].

ومن المعلوم أنّ نصرته ـ بقول مطلق ـ يلزم منه:

- أوّلاً: النصرة في كلّ الميادين، أعني الأصغر والأكبر.

- ثانياً: قصر النظر على المنصور ـ وهو الله تعالى ـ من دون شائبة في البين، وإلا لما عادت نصرة له.

3 ـ إنّ تخصيص فتح مكة بالذِكر بعد ذِكر النصر العام، يدلّ على أنّ استئصال بؤرة الفساد ومراكز الإفساد، ضروري في إنجاح مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، فإنّ المناوشات لم تنقطع بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وأعدائه في بدر وأُحد والأحزاب إلا بفتح مكة، إذ لم تبق لهم باقية بعدها!

ومن هنا فإنّ وظيفة المؤمنين طوال التاريخ، اجتثاث جذور الفتنة في كلّ عصر بما أوتوا من قوّة؛ لئلا تتعثّر مسيرتهم نحو الفتح المظفّر.

4 ـ تعدّد ذكر النعم الإلهية في السور الأخيرة من هذا الجزء:

- فتارةً يذكر المولى نعمته على نبيّه بشرح الصدر في سورة الانشراح [﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ سورة الشرح، 1].

- وتارةً يعده بالعطاء الذي يرضى معه، متمثّلاً بالشفاعة كصورةٍ من صور العطاء في سورة الضحى.

- وتارةً بإعطاء الخير الكثير في سورة الكوثر [﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ سورة الكوثر، 1].

- وتارةً بإنزال القرآن الكريم على نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله) في سورة القدر [﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ سورة القدر، 1].

- وفي هذه السورة يذكر نصره لحبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وما تبعه من الفتح العظيم.

5 ـ إنّ هناك فرقاً بين (النصر) و(الفتح) وذلك أنّ الله تعالى قد ينصر عبده من خلال تأييده في مواجهة الأعداء: فيُبطل كيدهم ويدفع مكرهم من دون أن يحسم المعركة معهم ويزيل وجوده؛ ففي معركة بدر كان هناك نصر للمؤمنين [﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ سورة آل عمران، 123] ولكن لم يكن ما حدث فتحاً، ومن هنا لحقتهم هزيمة أُحد، ولكن الله تعالى جمع لنبيّه النصر والفتح بدخول مكة حيث سُمي (فتح الفتوح)؛ لأنّ بهذا الفتح حُسمت المعركة مع الكفر وأهله.

6 ـ وهذا الفرق في عالم الآفاق يأتي في عالم الأنفس أيضاً: فقد ينصر عبده في جهاده الأكبر في بعض مراحل حياته من دون أن يستقرّ له فتح، والمتمثّل في الاستقرار في عالم النفس المطمئنّة والدخول في مملكة ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [سورة الفجر، 29-30].

7 ـ إنّ الآية عبّرت عن الداخلين في دين الله تعالى بـ ﴿النَّاسَ ومن الممكن أن يقال: بأنّ غير الداخلين في الدين الخاتم، كأنّهم ليسوا من الناس!.. فإنّ القرآن الكريم عبّر عن المنحرفين عن الطاعة بأنّهم ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [سورة الفرقان، 44]، ويؤّيده ما روي عن الحسن بن علي (عليه السلام) عن الناس، فقال (عليه السلام): «نحن الناس، وأشياعنا أشباه الناس، وأعداؤنا النسناس» [تفسير الرازي، فخر الدين الرازي، ج32، ص156].

8 ـ إنّ هناك فرقاً بين دخول الناس في الدين أحادى وفرادى، وبين دخولهم في الدين جماعة وأفواجاً؛ فهذا أقرب إلى مقصد الشريعة وأرضى للربّ، ومن هنا خصّت هذه الحالة بالذِكر.. وعليه، فإنّ من قام بما يوجب دخول الناس في الدين كذلك، كان أقرب إلى النصرة الإلهية والفتح الإلهي.

وبقرينة المقابلة: فإنّ مَن يوجب خروج الناس من الدين؛ فإنّ عليه من الوزر ما لا يخفى، وهو ما سيتحقّق في مرحلة من مراحل حياة الأمّة، حيث روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «دخل الناس في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً» [تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي، ج3، ص867].

9 ـ إنّ مقتضى الفطرة السليمة التي فُطر الناس عليها، هو إقبالهم على دين الله تعالى والتي هي منسجمة تمام الانسجام مع هذه الفطرة.. ومن هنا سُميّت الشريعة بالحنيفية؛ أي: المائلة عن جادّة الباطل، ولكن هيمنة قوى الأعداء تحوْل دون ذلك، كما فعل الفراعنة وأمثالهم طوال التاريخ، فقد قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [سورة الزخرف، 54] ولكن عند زوال دولة الباطل فإنّ هذا المانع يرتفع ليعمل المقتضي أثره، ومن هنا كان فتح مكة نصراً عظيماً، لارتفاع أهمّ مانع من موانع نجاح الدعوة في ذلك العصر.

10 ـ إنّ النصر والفتح إنّما يكتسبان القيمة والشرافة إذا كانا في سبيل دخول الناس أفواجاً في دين الله تعالى، بل قد يُقال عموماً: بأنّ أيّة مزيّة من مزايا الدنيا ينبغي أن يُنظر إليها في سياق ارتباطها بمزايا عالم الغيب، فما كان سبباً للقرب من الله تعالى صار محموداً، وإلا كانت وبالاً على صاحبها.

وعليه، لو حكّم أهل الدنيا هذا المقياس في حياتهم لما فرحوا بكثير من إقبال الدنيا عليهم، نصراً كان على الأعداء، أو زبداً من عاجل المتاع.

11 ـ إنّ الله تعالى ذكر اسمه الدالّ على ذاته عند ذِكر النصر ﴿نَصْرُ اللَّهِ وكذلك الدين ﴿دِينِ اللَّهِ؛ لأنّ المقام مقام بيان العظمة وهو المناسب لذِكر أشرف أسمائه، ولكن عندما يصل الأمر لذكر حبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) فإنّه ينسبه إليه بما دلّ على ربوبيّته ﴿رَبِّكَ ولا يخفى ما في هذا التعبير من اللّطف والدلال وذلك:

- بأصل إضافة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) إليه إضافة تشريفية.

- والتعبير بالرب للإشارة إلى جهة الربوبية الباعثة للنصر، بعد ذكر تلك الإضافة التشريفية لنبيه الكريم.

- أضف إلى صيغة الخطاب الدالّ على الالتفات والمؤانسة.

12 ـ تتأكّد الحاجة إلى الذكر عند وجود ما يشغل الإنسان عن ذِكر ربّه ومنها ساحة القتال؛ فإنّ طبيعة الكرّ والفرّ على الأعداء قد توجب الذهول عن الذِكر الكثير، ومن هنا جاء الأمر الإلهي بذلك قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأنفال، 45].

ومن موارد الغفلة أيضاً الانشغال بلوازم النصر من الغنائم الخارجية والاستعلاء الباطني؛ لذا جاء الأمر أيضاً بالذكر المتمثّل بالتسبيح والاستغفار في هذه السورة بعد النصر والفتح.

13 ـ إنّه من الممكن تفسير التسبيح بالحمد بوجوه، فمنها:

- الأمر بالجمع بينهما، كما تأمر بالجمع بين التهليل والتكبير من دون علاقة بينهما.

- إنّ التسبيح وهو التنزيه من النقص، يكون بالحمد والثناء إذ لا يستحقّ المحمود الثناء، إلا إذا كان خالياً من العيب في الذات والصفة.

- أن يكون الغرض الأولي هو التسبيح، ولكن مستعيناً بحمد الله وفضله، كما تسند كل أفعال الخير إلى نفسك حامداً لله تعالى فتقول: صلّيت بحمد الله تعالى.

14 ـ تكرّر ذكر التسبيح في القرآن الكريم أكثر من التهليل والتكبير والتحميد، ولعل السرّ في ذلك أنّ مخالفة الإنسان لربّه في كثير من أوامره ونواهيه، توجب له الوقوع في كثير من الكبوات والعثرات، ومن هنا ناسب أن ينزّه العبد ربّه من أن يسند إليه نقص ومنه (الظلم) وذلك عندما يرى في نفسه ما لا يسرّه من العقوبة الإلهية على فعله، بل ينسب التقصير إلى نفسه وهو ما ناجى به يونس (عليه السلام) قائلاً: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الأنبياء، 87]، وهذا التسبيح هو الذي صار سبباً لنجاته كما كان سبباً لقبول اعتذار الملائكة كما قال تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة، 32].

15 ـ إنّ من لوازم التنزيّه والتسبيح المطلق، هو أنّ الله تعالى منزّه من خذلان أوليائه في الحياة الدنيا والآخرة ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [سورة غافر، 51]. ومن الواضح أنّ مقتضى مقابلة الجميل بالجميل، أن ينصر الله تعالى من ينصره، لقوله تعالى في آية فيها صور متعدّدة من التأكيد ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [سورة الحج، 40] وقد دلّت حوادث التاريخ على هذه الحقيقة، أعني نصر أوليائه وخذلان أعدائه ولو بعد حين!

16 ـ إنّ استغفار النبي (صلّى الله عليه وآله) والأمر به كما في هذه السورة، وكما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سورة محمد، 19] قد يكون لوجوه؛ منها:

- لاقتداء الغير تأسياً به (صلّى الله عليه وآله)، وهذا المعنى يتّفق في تربية الآخرين، فقد يعنّف المعلم مجتهداً من تلاميذه لتنبيه غير المجتهد على تقصيره وأنّه هو الأولى بذلك العتاب.

- لترك الأولى وما هو الأفضل، وهذا الترك لا ينافي العصمة، ومع ذلك يوجب حالة من الاستحياء بين يدي الله تعالى عند شدّة المراقبة، بما يستدعي الاستغفار الحقيقي.

- أنّه قد يكون من لوازم طيّ المنازل في السير إلى الله تعالى، فإنّ المرتحل من منزل عالٍ إلى منزل أعلى، يرى وكأنّه كان في نقص وتقصير باعتبار المنزل السابق، بما يستحقّ معه الاعتذار ممن يُقصد إليه.

17 ـ إنّ الاستغفار سنخ من الدعاء يتوجّه به العبد إلى ربّه.. وعليه، فلا بُد من مراعاة كلّ آداب الطلب، ومنه تقديم المحمدة والثناء قبله وهو ما تحقّق في هذه السورة، فإنّ الله تعالى طلب من نبيّه (صلّى الله عليه وآله) التسبيح والتحميد ثمّ أمره بالاستغفار؛ وهو أدب ينبغي مراعاته في جميع صور الدعاء وحالاته.

18 ـ إنّ طبيعة النصر والفتح تقتضي حالة من الغرور والعجب المعروفَين عند الفاتحين، ولكن السورة جاءت لتُذكّر بالاستغفار بعد الذكر، على خلاف ما هو المتوقّع من طبيعة الموقف.

ولعلّ السرّ في ذلك هو دفع مثل هذا الغرور أوّلاً، ودفع توهّم الانتساب الحقيقي للنصر إليهم ثانياً، فإنّ الله تعالى ينسب ذلك إلى نفسه مباشرة قائلاً: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [سورة آل عمران، 126].

19 ـ إنّ الله تعالى لم يقيّد الاستغفار في هذه السورة بكثير قيد كما في باقي آيات التوبة من: الجهالة، وقرب وقوعها، وعدم الإصرار على الذنب قبلها، فإنّ الاستغفار هنا جاء في سياق نصر الله تعالى المترتّب على نصرة العبيد له، فلم يحتج إلى كثير قيد، بل إنّ الآية ذكرت التوبة مترتبة على الاستغفار مباشرة بصيغ من التأكيد: فمنه التعبير بـ﴿إِنَّهُ المؤكّدة، والمبالغة في وصف التوبة ﴿تَوَّاباً والتعبير بثبوت هذه التوبة ﴿كانَ.

لا يخفى ما في التعبير بـ(التوّاب) بدلاً من (الغفّار) من لطف في سياق ذِكر النصر؛ فإنّ فيه معنى رجوع الربّ إلى العبد بالتفاتة لطف ورحمة، ممّا يُلهم العبد نيّة الرجوع إليه لقوله تعالى: ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [سورة التوبة، 118] وهذا معنى يغاير مجرّد المغفرة، فإنّ الله تعالى قد يعفو عن عبده؛ بمعنى محو السيّئة عنه من دون أن يُقبل عليه.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1857
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 11 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24