• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 111- في تفسير سورة المسد .

111- في تفسير سورة المسد

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5).

1 ـ إنّ التعبير بـ﴿تَبَّتْ و﴿تَبَّ وهما: إمّا إخبار بالهلاك والخسران أو دعاء بالهلاك، استعمل تارةً مسنداً إلى اليد وهي أداة من أدوات التنفيذ التي ينفّذ بها المرء مراده، وتارةً إلى الذات وهو صاحب اليد.

وعليه، فإنّ اللّعنة الإلهية الملازمة لهذا التعبير، مبطلة لأفعال الكافرين كما هي مُهلكة لذواتهم!.. وبعد هذا الوعيد الإلهي ـ الذي يشمل كلّ الظالمين أمثال أبي لهب طوال التاريخ ـ فأيّ خوف يبقى في نفوس المؤمنين؟!

2 ـ إنّ أقرب القرابات لأشرف الخلق كانت متمثّلة بأبي لهب؛ فالعمّ في طبيعة المجتمع يمثّل الأب الثاني بل هو الأب بعد فقده، كما أُطلق الأب على آزر عمّ إبراهيم (عليه السلام) ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ [سورة الأنعام، 74]. وحينئذٍ، هل من السائغ أن يعوّل أحد على قرابته من النبي (صلّى الله عليه وآله) ليفعل ما يشاء؟!.. والحال أنّ ما ذُكر من الذمّ والوعيد لعمّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قلّ نظيره في القرآن الكريم، حيث أُفردت له سورة كاملة في القرآن لذمّه، وذمّ زوجته أمّ جميل.

3 ـ إنّ البعض يتأبّى عن اللّعن والدعاء بالطرد من الرحمة الإلهية، والحال أنّ القرآن ذَكر اللّعن في أكثر من أربعين مورد بمختلف مشتقاته، ومنه ما في هذه السورة كصيغة اُخرى من صيغ الدعاء بالهلاك والطرد من الرحمة، وهي مختصّة بأبي لهب؛ لأنّه كان متميّزاً في إيذاء النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى درجة لا تُصدَّق، إذ كان يتتبّع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كالظلّ، وكلّما جاء وفد إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) يسألون عن عمّه أبي لهب اعتبارًا بكبره وقرابته وأهمّيته، كان يقول لهم: إنّه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنّا لم نزل نعالجه من الجنون فتبًا له وتعسًا.

وقال عنه أحدهم: «بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا بشاب يقول: «يا أيها الناس!.. قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا» وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيّها النّاس!.. إنه كذّاب فلا تصدقوه» [تفسير الميزان، ج20، ص386].

4 ـ إنّ الدعاء على الكافرين يتمثّل باللّعن والطرد من الرحمة، فيتجلّى أثره في القيامة غالباً، ولكن الآيات تشير إلى لوازم وآثار هذا اللّعن في الدنيا أيضاً، فمنها:

- خسران السعي في مقابلة الدعوة، كقوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ.

- إنّ الله تعالى هو الذي يتصدّى لمقاتلتهم. ومَن يطيق مقابلة قهّار السماوات والأرض ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة التوبة، 30].

- الطمس على الأموال وإفناؤها، كما حلّ بآل فرعون ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ [سورة يونس، 88].

- هدم قواعدهم، ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ [سورة النحل، 26].

5 ـ إنّ تالي القرآن يعيش مع ما أنزله الله تعالى وكأنّه نزل لحينه، فيتشوّق لنعيم الجنّة عند ذكرها، ويتعوّذ من عذاب النار وكأنّ شهيق جهنّم في أصول أذنيه، ويشكر آلاءه كلّما ذكّره الله تعالى بنعمةٍ من نعمه، ويتبرّأ من أعداء الله تعالى عندما يمرّ ذكرهم بسوء.

ومن مصاديق هذه المعايشة ما في هذه السورة، فيرجح أن يدعو على من ذمّه الله تعالى بأشدّ الذمّ، وهذا أيضاً من مصاديق البراءة من الظالمين في القرآن الكريم، وهو ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إذا قرأتم ﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ فادعوا على أبي لهب، فإنه كان من المكذّبين الذين يكذبون بالنبي (صلّى الله عليه وآله) وبما جاء به من عند الله» [وسائل الشيعة، ج6، ص73].

6 ـ إنّ كلّ مظاهر النعم والقوّة في الدنيا لا تُغني العبد إذا لم تكن بمباركة من الله تعالى؛ فهو الواهب لأصل النعم، كما أنّه هو الذي يبارك فيها.

ومن هنا، تعدّدت الآيات في بيان صور عدم إغناء ما كان يعوّل عليه أهل الغنى في الدنيا، ومنها:

- الأموال والأولاد؛ فأبطلها الله تعالى بقوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [سورة آل عمران، 10].

- الأصدقاء ومن يعتضد به الإنسان في تحقيق مآربه؛ فأبطلها الله تعالى بقوله: ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا [سورة الدخان، 41].

- الكيد وإخفاء المكر؛ فأبطلها الله تعالى بقوله: ﴿يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [سورة الطور، 46].

- شفاعة الكافرين؛ فأبطلها الله تعالى بقوله: ﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ﴾ [سورة يس، 23].

- الاعتداد بالفئة الكثيرة والعدّة والعدد؛ فأبطلها الله تعالى بقوله: ﴿لَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ [سورة الأنفال، 19].

7 ـ إنّه من الممكن القول بأنّ الفرق بين (مالُهُ) و (ما كَسَبَ) أنّ الأوّل: إشارة إلى ما تملّكه العبد ولو من دون كسب كالمال الموروث، وأمّا الثاني: فإشارة إلى سعيه بناء على جعل ﴿ما مصدرية.

وعليه، فإنّ الغضب الإلهي حلّ على مجموع هذا الكيان المتمثّل بجهده (يَدا) وبذاته ﴿أَبِي لَهَبٍ وبماله ﴿مالُهُ وبسعيه في الحياة ﴿وَما كَسَبَ فما حال مَنْ أدركته اللّعنة الإلهية في كلّ أبعاد وجوده؟!

8 ـ إنّ القرآن الكريم يُشير في آيات عديدة إلى كيد الكفار ومكرهم ولكنّه يذكره بتحقير وازدراء؛ تقوية لقلوب المؤمنين عندما يرون من الكيد ما تزول منه الجبال، ومنها قوله: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ [سورة غافر: 25] و ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [سورة الأنفال، 18]، ومنها ما في هذه السورة من بيان هلاك رأس من رؤوس العناد وهو (أبو لهب)، فيذكر أنّ ما سخّره من الثروة لإيذاء النبي (صلّى الله عليه وآله) لم ينفعه، بل أوجب أن يكون لهباً في نار جهنّم.

9 ـ إنّ العذاب الإلهي في الآخرة يتسانخ مع ما عليه المرء في الدنيا: فجزاء أبي لهب في الآخرة من سنخ كنيته، وعذاب زوجته من سنخ عملها؛ فهي تحمل الحطب والشوك وترميه في طريق النبي (صلّى الله عليه وآله) فكان حقاً أن يتحوّل ذلك إلى حطب مشتعل بلهبٍ لا يُعلم شدّته، باعتبار الإتيان بكلمة ﴿ناراً نكرة دالّة على التهويل، وإلا فإنّ كلّ نار متّسمة بأنّها ذات لهب.

10 ـ إنّ التعبير بالزوجة يُشعر بنوعٍ من الألفة والمودّة التي جعلها الله تعالى في الزوجين، ومن هنا فإنّ القرآن لم يستعمل هذا التعبير ـ أي: الزوجية ـ لمن كانت عاقبة أمرها إلى الجحيم كما ورد في هذه السورة ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، ومنه ما وصف به تعالى امرأة نوح ولوط ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ [سورة التحريم، 10]، ومنه ما وصف الله تعالى به زوجة فرعون حيث قال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ [سورة التحريم، 11]..

- فالاُولى: مثال المرأة الفاسدة بجوار الرجل الفاسد.

- والثانية: مثال المرأة الفاسدة بجوار الرجل الصالح.

- والثالثة: مثال المرأة الصالحة بجوار الرجل الفاسد.

- وأما الرابعة: مثال الزوجة الصالحة في كنف الزوج الصالح فهو أفضل كفئيّ الزوجين في الوجود والمتمثّل بعلي وفاطمة (عليهما السلام) حيث ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [سورة الرحمن، 19-22].

11 ـ إنّ السنخية بين الزوجين من الحقائق التي لا تخفى في مسيرة المجتمعات، فلم تكن المناسبة بين حمّالة الحطب وأبي لهب اعتباطية؛ فإنّ الزوجين عموماً متعاونان في الخير والشرّ بمقتضى التسانخ الزوجي، ولو كان في زوجة أبي لهب شيء من بذور الخير لعلّها ردعت زوجها، أو خفّفت من عتوّه.

ومن هنا لزمت الدقّة في الاختيار، ليرى الرجل أين يضع نفسه؟!

12 ـ إنّ من صور العذاب في النار هو تحقير أهلها بصورٍ من التحقير، ومنها ما ورد في هذه السورة بالنسبة إلى حمّالة الحطب زوجة أبي لهب، فقد صوّرت في النار بأبشع الصور، إذ إنّ المرأة تتزيّن عادةً بقلادةٍ من الذهب، ولكنّ هذه البائسة متقلّدة في رقبتها حبلاً من مسد، خشن الملمس، مفتولاً من اللّيف، وتحمل معها حطباً وهي مادّة عذابها في النار.

وهذا كلّه تجسيد لما كانت عليه في دار الدنيا، إذ لا يُستبعد أنّها كانت تحمل في رقبتها وعاءً مشدوداً بحبلٍ من اللّيف، وتضع فيه الشوك لترميه في طريق النبي (صلّى الله عليه وآله).

13 ـ إنّ هذه السورة من ملاحم القرآن المخبرة عن الغيب، فإنّها نزلت زمان كفر أبي لهب، وكان بإمكانه أن يتحدّى القرآن الكريم ويؤمن إبطالاً لهذا الإخبار!

ولكن لعلْم الله تعالى بأنّه لا يكون ذلك، نزلت هذه السورة، وفيها بيان قاعدة عامّة مفادها: إنّ الإخبار الغيبي بأفعال العباد لا يسلب منهم الاختيار، فما يذكر من أفعالهم إنّما هو في فرض الاختيار أيضاً، وإلا فلو كان موجباً للجبر لانتفت العقوبة معه.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1856
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 11 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19