• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 112- في تفسير سورة الإخلاص .

112- في تفسير سورة الإخلاص

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾.

1 ـ إنّ هذه السورة شأنها شأن آية الكرسيّ، في أنّها تصف الربّ وتُشير إليه بأعظم صفاته، وهي أحديّة الذات، وعدم وجود نظير له؛ لا في الذات، ولا في الصفات، ولا في الأفعال. ويتفرّع عليه أنّه هو الذي يستحقّ الرجوع إليه في كلّ شيء، وأنّه منزّه عن التركيب المحوج إلى الغير والمستلزم للتجسّم.

ومن هنا اكتسبت هذه السورة شرافة خاصّة، لأنّها مبيّنة لأعظم حقائق الوجود بآيات قصيرة، كما يُفهم من رواية الصادق (عليه السلام) في حديث المعراج: «أن الله قال له أي للنبي  (صلّى الله عليه وآله): اقرأ قل هو الله أحد كما أنزلت فإنها نسبتي ونعتي» [علل الشرائع، ج2، ص315]. ومن هنا، ناسب التصديق بها للصلاة قائلين بعدها: كذلك الله ربّي!

- صرّحت الروايات [الکافي، ج4، ص644. وسائل الشيعة، ج6، ص225] بأنّ هذه السورة تعادل ثلث القرآن الكريم. وقيل في توجيه ذلك:

- إنّه قد يكون من جهة أنّ المعارف العقائدية في القرآن متمثّلة في: التوحيد، والنبوّة، والمعاد؛ فكانت هذه السورة متكفّلة لبيان الثلث الأوّل منها.

- من جهة أنّ أساس الشريعة معرفة الله تعالى في الأبعاد الثلاثة؛ أي من جهة: الذات، والصفات، والأفعال؛ فكانت هذه السورة متكفّلة أيضاً لبيان الثلث الأوّل منها.

- من جهة أنّ مجموع ما في القرآن الكريم يدور حول: العقائد، والأحكام، وسير الغابرين؛ فكانت هذه السورة متكفّلة لبيان الثلث الأوّل منه.

2 ـ إنّ هناك مناسبةً وترابطاً بين ما يعبّر عنها بالقلاقل الأربعة، وهي: المعوّذتان، والإخلاص، والكافرون:

- ففي الإخلاص: يغلب جانب الإثبات؛ وهو الالتفات إلى جانب الربوبيّة بكلّ لوازمها، من الانقطاع والرجوع إليه في طلب الحوائج.

- وفي الكافرون: يغلب جانب النفي؛ أي: نفي الالتفات إلى غيره من كلّ معبود سواه، وكلا السورتين متعلّقتان بأفعال القلوب.

- وأمّا المعوّذتان: ففيهما بيان سبيل النجاة من شرّ كلّ موسوسٍ يصدّ عن الطاعة، ومن شرّ كلّ حاسدٍ يحسد على النعم، ومن شرّ كلّ ذي شرٍّ، سواءً كان ظلاماً أو سحر ساحر؛ وكلّها متعلّقة بأفعال الجوارح.

3 ـ تعدّد ذِكر لفظ الجلالة في أكثر من ألفين وخمسمئة مورد في القرآن الكريم، وهو العلَم الذي يُطلق عليه تعالى للدلالة على جميع صفات جلاله وكماله، بخلاف ما دلّ على صفة من صفاته: كالكريم، والعالم، وغيره.

وقد ورد في القرآن كلّ أجزاء هذه اللّفظة المباركة: بدءاً من ﴿الله و﴿لله و﴿له، وانتهاءً بالضمير العائد إليه ﴿هُوَ.

4 ـ إنّ الإشارة إليه تعالى بـ﴿هُوَ كناية عنه ـ لا بمعنى ضمير الشأن على قول آخر ـ ثمّ بلفظ الجلالة الدالّة عليه، فيها معانٍ عميقة؛ إذ كانت الإشارة أوّلاً:

- إلى تلك الجهة بما لها من الكمال والإبهام، وبما يفوق كلّ تعيّن ووصف قائلاً: ﴿هُوَ.

- ثمّ الإشارة إليها بالاسم الدالّ على صفاته قائلاً: ﴿اللهُ﴾.

- ثمّ الإشارة إليه بوصفٍ من صفاته بذِكر ﴿أَحَدٌ ثمّ ﴿الصَّمَدُ.

وممّا يبيّن عظمة الإشارة إلى تلك الجهة من دون تعيينٍ باسم أو بوصف، ما رُوي عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: «رأيت الخضر (عليه السلام) في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئاً أُنصر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو!.. يا من لا هو إلا هو، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لي: يا علي، عُلمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر»  [التوحيد، للشيخ الصدوق، ص89].

5 ـ إنّ الثمرة العملية للاعتقاد بتوحيد الذات والصفات والأفعال هو التوحيد في العبادة، فمن كان بهذه المثابة، كيف يتعقّل عبادة غيره؟!.. ومن هنا، عُلم أيضاً أنّ تعميق المعرفة النظرية من موجبات حصر العبادة العملية به تعالى، فإنّ طبيعة البشر قائمة على الالتفات إلى من يسدّ حاجته، فإذا لم يرَ مؤثّراً في الوجود إلا هو ـ  وهذا من لوازم النظرة التوحيدية ـ كان من الطبيعي أن ينحصر التجاؤه إليه، ولو كان طمعاً لتحقيق مآربه، لا لكونه أهلاً للعبادة!

6 ـ إنّ مادّة الاشتقاق في هذا الاسم الكريم، أعني لفظ الجلالة، تدلّ على التحيّر فيه والفزع إليه، إذ تقول العرب: (أله الرجل)، إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علماً، و (وله)، إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره ويخافه.

ويمكن أن نجعل في هذا السياق ما رُوي عن أمير المؤمنين (ع): «(الله) معناه: المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه، و(الله) هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات» [المصدر نفسه].. وكذلك ما روي عن الإمام الباقر (ع): «(الله) معناه: المعبود الذي أله الخلق عن درك ماهيته، والإحاطة بكيفيته» [المصدر نفسه].

7 ـ إنّ هناك بوناً شاسعاً بين الواحد والأحد، والأليق بمقام الجلالة هو الثاني؛ لأنّ نفي الواحد لا ينافي ثبوت المعدود من الاثنين فصاعداً، فتقول: ما جاءني واحد، لتثبت مجيئ الاثنين، ولكن نفي الأحد يستلزم نفي كلّ معدود سواه، سواءً كان في الذهن أو في الخارج، ويؤول هذا النفي إلى نفي الكثرة بكلّ صورها، ومن هنا لم يُطلق هذا الوصف إلا على ذاته المقدَّسة.

وهذه الدقّة في التعبير جعلت هذه السورة متوجّهة لأهل التعمّق في المعاني، كما ورد عن الإمام السجاد (ع) حيث قال: «إنّ الله عز وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل اللّه عز وجل ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ والآيات من سورة الحديد... إلى قوله ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ فمن رام وراء ما هنالك هلك» [الكافي، ج1، ص91].

إنّ الطريقة القرآنية قائمة على إثارة الألباب، فيأتي بكلمات ذات دلالات محتملة الانطباق على معان متعدّدة كـ ﴿الْكَوْثَرَ﴾ [سورة الكوثر، 1] مثلاً.

ومنها ما في هذه السورة من الإشارة إلى جهة غائبة، حاكية عن مفهوم مبهم ﴿قُلْ هُوَ ثمّ يزيده بياناً ﴿اللهُ أَحَدٌ فيكون خبراً بعد خبر، لذلك الذي هو في غاية الخفاء من جهة الذات، وإن كان في غاية الظهور من جهة الآثار.

إنّ كلمة ﴿الصَّمَدُ﴾ تُطلق على ذلك الذي يُقصد إليه في قضاء الحوائج مع الاعتماد عليه، وهو ما روي عن الإمام الجواد (ع) عندما سُئل: ما الصمد؟.. فقال: «السيد المصمود إليه في القليل والكثير» [الكافي، ج1، ص123] وهو لا يُطلق إطلاقاً حقيقياً إلا لمن اتصف بصفة الأحدية، حيث لا نظير له في الذات، ولا في الصفات، ولا في الأفعال.

وقد أطلق ﴿الصَّمَدُ عليه تعالى في هذه الآية مبتدأً بلفظ الجلالة، كما أطلق عليه صفة ﴿أَحَدٌ مستنداً إلى لفظ الجلالة أيضاً، فكانت كلّ آية مبيّنة لجهةٍ من الجهات على وزن واحد؛ إذ كان الأوّل ﴿اللهُ الصَّمَدُ في بيان ما يتعلّق بالفعل، وكان الثاني ﴿هُوَ اللهُ أَحَدٌ في بيان ما يتعلّق بالذات، ومن المعلوم أنّ التوحيد الكامل هو ما كان متسرّياً إلى الجهتين.

8 ـ إنّ الآيات في هذه السورة مترابطة بأفضل صور الترابط:

- فإنّ لازمة الأحدية: أن يكون (صمداً) يُفزع إليه لتفردّه في كلّ صفات الجلال والكمال.

- ولازمة الصمدية: نفي (الجزئية) من والدٍ أو مولودٍ لاحتياج كلّ مركّب إلى جزئه، ونفي (المثلية) له؛ لأنّه لا يتحقّق مثل هذا النفي إلا عند الاستغناء عن أيّ نظير مفروض له، من جهة الذات أو الفعل أو الصفة.

- فُسِّر لفظ ﴿الصَّمَدُ﴾ في هذه السورة بالذي لا جوف له، كما رُوي عن الإمام الحسين (عليه السلام) حيث قال: «الصمد الذي لا جوف له» [التوحيد، للشيخ الصدوق: ص90].. فـ﴿الصَّمَدُ﴾ هنا بمعنى (المصمت) فكان التعبير بذلك مجازياً إمّا:

- لعدم الثأثّر بالغير: فإنّ الأجسام القابلة للانضغاط تنضغط لما في جوفها من الفراغ.

- أو لعدم وجود محلّ للتوالد، كما هي في المخلوقين: فكان قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ بياناً لهذه الجهة.

- إنّ الافتراء على الله تعالى بفرية الوالدية كانت هي السائدة في الأمم السابقة: كادّعاء بنوّة عيسى وعُزير، كما ذكره تعالى: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وقالَتِ النَّصارى‏ الْمَسيحُ ابْنُ اللهِ [سورة التوبة، 30]، وكبنوّة الملائكة له، كقوله تعالى: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام، 100] و﴿أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً [سورة الإسراء: 40].

ومن هنا، تقدّم نفي الوالدية على المولودية؛ إذ ندر من نسب إليه التولّد من إلهٍ آخر، كما عليه بعض الوثنيين.

9 ـ إنّ تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر، فتقديم ﴿لَهُ على ﴿كُفُواً أَحَدٌ يدلّ على حصر عدم الكفؤية به تعالى، وإلا فإنّ كلّ ما سواه يمكن أن يفترض له نظير، فإنّ الممكنات متساوية في الحدوث والقابلية.. وهذا هو الحصر المستفاد أيضاً من قوله تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد، 28] فتدلّ على حصر اطمئنان القلب بذكره تعالى شأنه، فمن لا كفؤ له في الذات لا كفؤ له في الآثار، ومن الآثار اطمئنان القلب بذكره!.

10 ـ إنّ (الكفوية في الذات) لم يقل بها أحد بمعنى وجود واجبي وجود، ولكن (الكفؤية في الفعل) لها أمثلة كثيرة في التأريخ، فأعطى البعض صفة التدبير مستقلاً لغير الله تعالى، مثلما كان عليه عبّاد الأوثان أو عبّاد البشر، كمن آمن بربوبيّة فرعون مثلاً!

ومن الممكن أن يكون من صور الشرك الخفيّ بهذا المعنى ـ أي: الكفؤية في التدبير ـ مَن اعتمد على غير الله تعالى في تدبير شؤونه في قبال تدبير الله تعالى له، وإن لم يقرّ بذلك اعتقاداً.

11 ـ إنّ من آثار التوحيد الراسخ ـ سوى التوحيد في العبودية ـ هو التوحيد في الحاكمية والتشريع أيضاً، وهذا هو البُعد الاجتماعي للتوحيد إضافة إلى البُعد الفردي الذي يرِد ذِكره عادةً، فإنّ من اعتقد بالإله الأحد الصمد الذي لا كفؤ له، كيف يعطي الحقّ لغيره أن يكون حاكماً (بنفسه) من غير تفويض من الحاكم الأحد، أو (بتشريعه) من غير تعليم من الملهم الصمد؟!

ومن هنا، جعل القرآن الكريم مَن لم يحكم بما أنزل الله تعالى في عداد الكافرين، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة، 44]. 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1855
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 11 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24