• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 113- في تفسير سورة الفلق .

113- في تفسير سورة الفلق

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

 1 ـ إنّ كل استعاذة ـ وهي الاعتصام بالالتجاء إلى الغير من كل ذي شر ـ فيها أركان ثلاثة؛ هي:

 ـ أوّلاً المعتصِم؛ ولازمه تحقق الخوف ممّا يحذره وإلا لما كان معتصماً.

 ـ وثانياً المُعتَصم به أو الملتجَأ إليه؛ ولازمه الثقة بقدرته على الإعانة والإعاذة.

 ـ وثالثاً المُعتصم منه وهو ذلك الشر الذي يستعيذ منه الانسان لخوفه من ضرره.

ومن المعلوم انّه لدى اجتماع الأركان الثلاثة، يُتوقع فعلية الاستعاذة والالتجاء، وذلك فيما لو كان المعتصِم جاداً في استعاذته.

وقد جاءت السورة لتثبيت هذه الأركان الثلاثة: فالمأمور بـ ﴿قُلْ هو المستعِيذ، والرب المتعال هو المستعَاذ ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ والمخوف المستعاذ منه ما ذكر من الشرور في السورة الكريمة.

2 ـ ورد الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم اعتماداً على الاسم الدال على الذات ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل: 98] وهنا ورد الأمر بالاستعاذة اعتماداً على الاسم الدال على الوصف ﴿أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقد يكون في ذلك إشارة إلى عظمة وسوسة الشيطان عند قراءة القرآن المستلزم لذكر المولى بأعظم أسمائه؛ لأنّ المقام مقام دفع الشر في عالم القرب إلى الله تعالى، خلافاً لمقام الاستعاذة من شر الظلام والساحر والحسود فقد يكون الضرر دنيوياً محضاً.

3 ـ إنّ الاستعاذة راجحة قبل وقوع الواقعة بل هي الدافعة لها، ومن المعلوم أنّ الدفع أيسر من الرفع!.. فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) يستعيذ هو بهذه السورة وكان كثيراً ما يعوّذ الحسن والحسين (عليهما السلام) بهاتين السورتين أي (الفلق) و(الناس) وخاصة على القول بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يكون في معرض التأثر بالسحر وإلا صار وهْن فيه ينافي مقام الرسالة، فإنّ الاستعاذة من شر غير واقع لا ضير فيه.

4 ـ إنّ الاستعاذة تلازم الخوف والخوف يستدعي العمل للنجاة ممّا يُخاف منه، وهو ما نراه فيما نقله القرآن الكريم عن أهل البيت (عليهم السلام) عند التصدق بالطعام حينما قالوا: ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [سورة الإنسان: 10] فهم جمعوا بين ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [سورة الإنسان: 9] وبين ذلك الخوف الموجب للاستعاذة.. وعليه فإنّ المستعيذ الصادق هو الذي يلتجئ بصدق، وصدق الالتجاء يكون بالعمل على ما يوجب النجاة.

5 ـ إنّ المناسبة واضحة بين التعبير ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ والاستعاذة من مختلف الشرور المذكورة في هذه السورة؛ فما المانع أن يُزيل الله تعالى ظلمة الشرور بنور الفرج عند الاستعاذة به، وهو الذي يشقّ ظلمة الليل بعمود الصبح ويرينا ذلك في كل يوم؟!.. وقد تكون المناسبة هي النفحات المقارنة لساعة الفلق فعندها نشهد ﴿الْمُسْتَغْفِرينَ بِالْأَسْحار [سورة آل عمران: 17] وعندها تقترن ملائكة الليل بالنهار، وعندها يتحقق قرآن الفجر المشهود لدى ملائكة الليل والنهار ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء: 78] فكانت الاستعاذة بالرب والمستندة لهذا الوقت المبارك أدعى للاستجابة!..

6 ـ إنّ كلمة ﴿الْفَلَقِ هنا كـ ﴿الْكَوْثَرَ [سورة الكوثر: 1] و ﴿الْفَجْرِ [سورة الفجر: 1] وغيرها من المفردات التي اختلف في معناها المفسرون، وذلك لإمكان انطباقها على محتملات كثيرة وهو بدوره كاشف عن عمق هذا الكتاب، وتبين الحاجة إلى من يُعيّن المراد من بين المحتملات، فقيل:

 ـ إنّه الصبح الذي يشق الظلام.

 ـ إخراج كل موجود إلى الوجود بفلق وعائه أي بشقه، سواء في الحيوان أو النبات فهو القائل ﴿إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [سورة الانعام: 95].

 ـ إنّه إخراج كل شيء من ظلمة العدم إلى نور الوجود؛ فهو شق لستار العدم أيضاً.

7 ـ تعجب البعض من أنّه كيف نستعيذ بالله تعالى من شر كل ذي شر ﴿مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وهو الخالق له فكأنّه استعاذة به منه!.. والجواب: أنّ الشر يأتي تارة من قاصد للشر كشر بني آدم وتارة يأتي من غير عاقل كشر الهوام المؤذية؛ وفي الموردين فإنّ الله تعالى خلق أصل ذلك الموجود مزوّداً بما يصدر منه الخير والشر، وحينئذٍ نقول: إنّ ما يقع منه خارجاً: إما لانحراف في مزاجه كشرور البشر، أو لمقتضى في طبعه كشرور البهائم، فصار من الراجح أن يستعيذ العبد بربّه المدبّر لهذا الوجود بخيره وشره، ليصرف عنه الانحراف في المزاج أو لازم الطبع.

8 ـ إنّ ﴿غاسِقٍ إِذا وَقَبَ ـ وهو الليل المظلم إذا وقب ودخل ـ كأنّه يُعين على الشر بنشر ظلمته فيعصي فيه العاصي من دون فاضح، ويهجم فيه المعتدي مباغتاً لعدوّه فلا يقدر على صرفه، أضف إلى ما يعيشه البعض من خوف لأصل هول الليل وخاصة إذا اجتمع مع ظلمة البحر، وهذا هو السرّ في تخصيصه بالذكر بعد ذكر أصل الشر، ولعل يسْر ارتكاب بعض المعاصي في الليل من أهم موجبات الشر فيه.. وكم هو الفرق بين ليل يقع فيه ما يقع من الشرور وبين ليل يصفه القرآن الكريم ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ [سورة آل عمران: 113]؟!..

9 ـ إنّ هذا الكون مزيج بين الغيب والشهادة، فكما أنّ هناك شرّاً محسوساً يُرى بالعيان كالسباع المفترسة، أو بالآلة كالجراثيم الصغيرة، فإنّ هناك أيضاً شراً غير محسوس، يتمثّل بما لا يرتبط بالحواس كتأثير السحر ﴿النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ والعين ﴿وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ وقد أقرّ القرآن بأصل هذا التأثير في آيات اُخرى، فذكر السحر قائلاً: ﴿وَلكِنَّ الشَّياطينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [سورة البقرة: 102] وذكر العين قائلاً: ﴿وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [سورة القلم: 51] وذكر الجن﴿وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [سورة الجن: 6].. وعليه، فلا معنى للمسارعة إلى إنكار ما لم يخضع للحواس ما دام العقل لا ينكره، والشواهد الخارجية مصدقة له.

10 ـ إنّ نسبة السحر إلى النساء النفاثات في العقد، إن لم نجعلها إشارة إلى ساحرات بعينهنّ في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) فقد يكون:

 ـ إمّا من جهة ضعفهنّ في مواجهة الخصوم؛ فيلجأن إلى كيد ليست فيه مواجهة الرجال للرجال بما فيها من قوّة المواجهة.

 ـ أو من جهة عاطفتهنّ في جلب قلوب الرجل؛ فيلجأن إلى جلب أسباب المحبّة ولو كان بطريق منهي عنه، لما فيه الإضرار بالغير.

11 ـ إنّه من الممكن القول: إنّ الحديث في الآية ليس عن سحر النساء بالنفث في عقد الخيط وما شابه، وإنّما عن سعيهنّ البشري لاجتذاب قلوب الرجال، فهنّ ـ بما أعطاهنّ الله تعالى من الجذب في الوجوه والنفوس ـ يستملن قلوب الرجال، وكأنّهنّ ينفثن في قلوبهم ما يسلبهم العزم والهمّة!.. وهذا المعنى جلي في الخلوة المريبة، فيعمل الرجل فيها خلاف عقله وشرعه وكأنّه مسحور حقيقة، فناسب التحذير منهنّ كما يُحذّر من الساحر، فالعداوة فيهما مشتركة، ويؤيّده قوله تعالى في حديثه عن النساء ولو كانت عن الزوجة: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم [سورة التغابن: 14].

12 ـ إنّ التنكير في ﴿غاسِقٍ و ﴿حاسِدٍ قد يكون:

 ـ لتعظيم شرّهما قياساً إلى النفاثات، وذلك أنّ الشر في النفاثات أمر اتفاقي لا يقع إلا نادراً، بخلاف الليل الذي يُقبل علينا في كل يوم، ومعاشرة البشر الذين نحن مبتلون بهم في كل ناد.

 ـ لتقليل شرّهما قياساً إلى النفاثات من جهة أنّ الشر لا يلازم الليل والحاسد؛ فكم من ليل خال من الشر!.. وكم من حاسد لا يصدر منه شر!.. فناسب التنكير فيهما بخلاف النفاثات فإنّ الشر لازم لها.

13 ـ إنّ الحاسد إذا كتم حسده ولم يُظهره ـ بل تأذّى ممّا هو فيه ـ قد يجعله في معرض الرحمة الإلهية، فيقلّب المولى حاله كما يقلب الليل والنهار!.. إلا أنّ الشر ينقدح عندما يعمل الحاسد حسده، ومن هنا استُعيذ من شرّه عنه بقيد إعمال الحسد ﴿وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ وذلك إمّا: بعينه، فقد رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (كاد الحسد أن يسبق القدر) [عيون أخبار الرضا (ع): 1/ 139]، أو بفعله عندما يكيد للمحسود فيفعل ما يسخط الرب ليكون مصداقاً لقول النبي (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: (إياكم والحسد!.. فإنّ الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب) [بحار الأنوار: 70/ 256].

14 ـ إنّ تخصيص ذكر الحاسد بعد الساحر من بين كل شرور الوجود، يدل على قبح ما هو فيه لأنّه:

 ـ في منتهى اللؤم، حيث لا يسأل الخير لنفسه؛ بل يتمنّى زوال الخير من غيره.

 ـ في منتهى الجهل، فلا يسأل الخير ممّن بيده خزائن السماوات والأرض، وهو الذي يطلب من عباده أن يسألوا من فضله قائلاً: ﴿وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء: 32].

 ـ في منتهى التحدّي ـ وإن لم يشعر به ـ إذ كأنّه يعارض الله تعالى فيما يفعل وهو القائل: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه [سورة النساء: 54].

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1852
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 10 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28