• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 114 - في تفسير سورة الناس .

114 - في تفسير سورة الناس

العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

 1 ـ إنّ الله تعالى قرن بين سورتين لدعوة العباد إلى الالتجاء إليه، فإنّ الإنسان لا يخلو ممّا يخيفه طوال مسيرته في الحياة، وقد تميّزت سورة (الفلق) بذكر الآفات المحسوسة من: الليل، والحاسد، والساحر. وأمّا هذه السورة فقد تميّزت بذكر الآفات غير المحسوسة من: الوسوسة في الصدور ـ سواء كانت من الإنس أو الجن ـ ولا يتمّ التحصين من مجموع الشرور إلا بالتخلّص من آفات الجوارح والجوانح معاً.

2 ـ إنّ البعض يكتفي بالاستعاذة اللّفظية قبل قراءة القرآن عملاً بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة النحل: 98] لأنّ تكالب الشياطين يشتد عند عمل الخير!.. ولكن هذا العمل اللّفظي لا يغنيه عن الاستعاذة الحقيقية؛ فإنّ المأمور به في ﴿قُلْ أَعُوذُ ليس مجرّد اللّفظ؛ بل لابد من الإحساس القلبي بالالتجاء أوّلاً، ثمّ العمل الخارجي بما تستلزمه الاستعاذة كترك التعرّب بعد الهجرة عند الاستعاذة من فساد الدين، بل عدم العمل بما هو خلاف الاستعاذة، وذلك كمن يستعيذ بالله تعالى من السباع الضارية وأمامه قلعة حصينة لا يدخل فيها!..

3 ـ إنّ المُستعاذ في هذه السورة مذكور من جهات مختلفة، فمن جهة كانت الاستعاذة:

 ـ ﴿بِرَبِّ النَّاسِ وهذا سبب مستقل لأن يكون الله تعالى ملجأً لكل مستعيذ؛ فهو الرب المدبّر الذي بيده تصريف شؤون العباد.

 ـ وتارة بـ ﴿مَلِكِ النَّاسِ وهذا سبب مستقل آخر؛ فهو الملك النافذ سلطانه على العباد، والقاهر لهم بما يريد وعلى ما يريد وكيف يريد.

 ـ واُخرى بـ ﴿إِلهِ النَّاسِ وهذا سبب مستقل آخر؛ فهو المعبود الذي يُرجع إليه في كل الأمور، والمصمود إليه في قضاء جميع الحوائج.

 ومن مجموع ما ذُكر، فإنّه يتعيّن على العبد أن يستعيذ بمن جمع بين جميع هذه الأسباب.

4 ـ إنّ الجمع بين خصائص الربوبية والألوهية والملكية ممّا ينطق به القرآن الكريم في آيات كثيرة، فممّا يشير إلى جهة الربوبية والألوهية قوله تعالى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [سورة المزمل: 9]، وممّا يشير إلى جهة الملكية قوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [سورة الحديد: 5] وهناك ما يشير إلى الجهات الثلاث في آية واحدة، وهو قوله تعالى: ﴿ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [سورة الزمر: 6] حيث تمّت الإشارة إلى جهة الربوبية، والملكية، والألوهية.. وحينئذٍ نقول: إنّ من يعتقد باستجماع من يعوذ به لهذه الجهات الثلاث، كيف يبقى عنده خوف عند مواجهة شرور هذه الحياة؟!..

5 ـ إنّ الآيات الثلاث الأولى فيها تدرّج عند الإشارة إلى المُستعاذ وهو الله تعالى، وذلك بذكر الرب، ثمّ الملك، ثمّ الإله، ويمكن أن نفهم أنّ ما فيها من المعاني يوجب مثل هذا الترتب:

 ـ فمقام الربوبية أقرب إلى معايشة العبد، وذلك لما يراه من آثار التدبير الربوبي في أدقّ جزئيات حياته.

 ـ ثمّ يليه إحساسه بالمُلكية المستوعبة لكل الوجود، ومن المعلوم أنّ الالتفات لهذا المقام يختصّ بمن يعيش حقيقة أنّه لا كافي له سواه مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [سورة الزمر: 36].

 ـ ثمّ يليه الإحساس بمقام القرب المعنوي، المتمثّل بعلاقة العبودية الخالصة بينه وبين الإله الذي لا معبود سواه.

وعليه، فإنّ التدرّج فيها تدرّج في مقامات الارتباط بالمبدأ وهو الذي يناسب التحصّن به من الشرور الأنفسية، وأمّا في سورة (الفلق) فالتحصّن كان ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ فحسب والمناسب للشرور الآفاقية التي هي أقل خطراً من سابقتها.

6 ـ إنّ هذه السورة أمرت بالتحصّن بالله تعالى من خلال تجلياته الثلاثة، أعني الربوبية والملكية والألوهية من دون عطف بأداة العطف، بتكرار كلمة ﴿النَّاسِ مع كل ذكر له تعالى ممّا يُفهم من المجموع: أن كل آية تفيد سبباً من أسباب الاستعاذة به.. ومن الملاحظ أنّ البشر فيما بينهم يجعلون هذه الجهات أيضاً من أسباب التجاء بعضهم إلى بعض؛ فمن وقع عليه ظلم يلجأ أوّلاً إلى من يتولّى شؤونه كالأب مثلاً، ثم إلى من بيده القوّة والمنع كالحاكم مثلاً، وإذا يئس منهما توجّه إلى من هو وراء البشر من معبود يعبده!..

7 ـ إنّ شدّة تأثير الوساوس البشرية والشيطانية على النفس الإنسانية تُفهم من خلال الأمر بالاستعاذات الثلاث على شر واحد، خلافاً لسورة (الفلق) التي فيها استعاذة واحدة على شرور أربعة، والسبب في ذلك:

 ـ أنّ الوسوسة كيد خفي لا يشعر به الإنسان؛ فإنّه من عالم الإلقاء في النفوس ﴿فِي صُدُورِ.

 ـ أنّها تأتي من مصدرين مختلفين ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.

 ـ أنّ الموسوس مستمر في وسوسته بمقتضى الفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُ.

 ـ أنّه لا ييأس من المحاولة مرّة بعد اُخرى فهو ﴿الْخَنَّاسِ.

ومن هنا لزمت الاستعاذة العظمى، برب عظيم لهذا الشر العظيم!..

8 ـ إنّ تنقية البواطن من التأثير الشيطاني لمن سبل تنقية الجوارح، فإنّ الإنسان في معرض التأثّر بالإلقاءات التي تشتدّ إلى درجة تسلب معها الإرادة ـ ما دام هناك موسوس في الصدور ـ فإنّ ما يدفع الإنسان باطناً، قد يصل إلى مستوى ما يدفعه خارجاً كاليد الدافعة.. ومن المعلوم: أنّه كما أطلق الله تعالى يد موسوس الشر في النفوس؛ فإنّه يحفظ لنفسه الحق ـ بطريق أولى ـ لأن يُلهم أولياءه ما فيه الخير، وهو الواقع كثيراً كما يذكره القرآن الكريم في موارد، منها قوله تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنا إلى أُمِّكَ ما يُوحى‏ [سورة طه: 38] ومنها ما وقع لأهل الكهف حيث قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدى [سورة الكهف: 13].

9 ـ إنّ تصوّر: هيمنة الشيطان على القلب، وأنّه يحوم حوله، وأنّه يجري في ابن آدم مجرى الدم في العروق، وأنّه كلما ذكر الله تعالى خنس كما تذكره هذه السورة؛ كل ذلك يجعل العبد حريصاً على الذكر الدائم، فإنّ دفع الوسوسة المستمرة بالفعل المضارع ﴿يُوَسْوِسُلا يكون إلا بالاستعاذة المستمرّة ﴿أَعُوذُ.. ومن هنا علينا أن نعلم أنّ الأصل في بني آدم هو أن يكون في معرض التقام الشياطين لقلبه، ولا يخرج من ذلك إلا إذا تحقّق له ما يوجب انصراف الشيطان عنه، وخير ما يصوّر لنا هذه الحالة ما رُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: (إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم: فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه؛ فذلك الوسواس الخناس).

10 ـ إذا جعلنا وصف ﴿الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ مشتركاً بين ﴿الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ـ كما هو ظاهر الآية ـ فإنّها تدل على قوّة بعض البشر في التأثير الباطني على بني جنسه؛ لأنّ تأثير الشياطين الخفية التي تعمل على القلوب أساساً لهو أمر متوقع؛ ولكن سلطة البشر على الغير تنحصر بما لا يتعدى جوارحه عادة، ومن هنا فإنّ نفوذ البعض إلى مملكة الجوانح تحتاج إلى قدرة شيطانية خاصة؛ ومن هنا لزم الحذر منهم كالحذر من الشياطين!.. وليُعلم أنّ صفة ﴿الْخَنَّاسِ منطبقة عليهم أيضاً؛ فلا يرفعون أيديهم عن الغريم من أوّل مقاومة، شأنهم في ذلك شأن الأبالسة في إصرارهم على الإيقاع بالضحية في الرذيلة.

11 ـ إنّ اقتران التعبير بـ ﴿الْوَسْواسِ مع ﴿الْخَنَّاسِ يُفهم منه: أنّ هناك حالة من الكرّ والفرّ بين النفس وشياطين الجن والإنس، ومن هنا جاء التعبير بما يُفهم منه الاختفاء بعد الظهور (الخنس) ولكن مع استمرار هذه المعركة وغلبة ﴿الْوَسْواسِ أخيراً، فإنّ الأمر يتعدّى من الخنس إلى مرحلة الطبع على القلوب ﴿أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِم [سورة النحل: 108] والختم عليها ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَعَلى‏ سَمْعِهِمْ وَعَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَة [سورة البقرة: 7] وهي المرحلة التي عبّر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ) [نهج البلاغة: الخطبة 50].

12 ـ ما دامت الوسوسة مرتبطة بعالم القلوب وليس لكل إنسان سيطرة على ما هو غائب عن عالم الحواس ـ فإنه تتأكد الحاجة والاضطرار للالتجاء إلى من بيده مفاتيح القلوب، إذ (إن قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن) [السنة لابن أبي عاصم: ص101] وهو الذي ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال: 24] وهو الذي ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر: 19] وقد جاءت هذه السورة في سياق دفع الإنسان لهذه الجهة، والتي بيدها لا بيد غيرها جعل المُستعيذ في درعه الحصينة.

13 ـ إنّ هناك فرقاً بين الوسوسة المتوجهة إلى صدور عامة الناس ﴿صُدُورِ النَّاسِ والتي منها تنشأ الخواطر الباطلة ثمّ الميل إلى الحرام ثمّ استجابة الجوارح لها، وبين الوسوسة التي تعرض على الخواص وهم الأنبياء (عليهم السلام) كما حصل لأبينا آدم (عليه السلام)﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [سورة طه: 120] وما يحصل للمتقين من عباده ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [سورة الأعراف: 201] فإنها وسوسة عابرة غير مستقرة في القلب، ولا يُخشى على أصحابها منها من جهة الوقوع في الحرام.

14 ـ إن عطف الناس على الشياطين يدل على السنخية فيما بينهما؛ فكما نجد رسولاً باطنياً يتمثّل بالعقل يعضد الرسول الخارجي، فإنّ هناك ممثّلاً خارجياً من الناس للشيطان الباطني ممّا جعل القرآن الكريم يقرنهم في آية واحدة ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [سورة الانعام: 112].. والملفت هنا: أنّ هناك قسماً من البشر يتعلّم في سنوات قصيرة ما تعلمته الشياطين في سنوات طويلة، بل يصل الأمر إلى درجة يتبادلون الإيحاء فيما بينهم لصد طريق الأنبياء (عليهم السلام) لقوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحي‏ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الانعام: 112].

15 ـ إنّ المحصلة النهائية لهذه السورة الخاتمة للقرآن الكريم هي دعوة العبد لتحصين مركز القرار في وجوده، ألا وهو القلب المعبر عنه بالصدر هنا، لئلا يقع في أيدي الأعداء المتربصين وهم الموسوسون من شياطين الجن والإنس، ومن المعلوم أنّه من دون تحصين هذه القلعة ـ التي فيها أمير البدن ـ فإنّ العبادات البدنية لا تجدي نفعاً في دفع من يحوم حول هذا الحصن.. وخير ما يجسّد لنا هذه الصورة من الحرب الدائرة بين النفس وأعدائها، ما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله) [جامع الأخبار: 518/ 1468، عنه: ميزان الحكمة: ج1، ص503]، وهذه الجملة على قصرها تلخّص نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى تنقية القلوب وتهذيبها.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1851
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 10 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24