• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : المعرفة التحليلية للقرآن (*) .

المعرفة التحليلية للقرآن (*)

 الشهيد الشيخ مرتضى المطهري

عرض القرآن الكريم ووضّح أصول العقائد والأفكار التي يحتاج إليها الإنسان، على أساس أنه موجود مؤمن وصاحب عقيدة، وهكذا بيّن الأصول التربوية والخلقية والأنظمة الاجتماعية والروابط الأسرية، وبحث مسائل كثيرة، وتعرض لبعضها بشيء من التفصيل وبحث البعض الآخر بحثاً بإيجاز.

بالطبع، إن لكل هذه البحوث العامة شعباً وفروعاً مختلفة، فمثلاً عندما نبحث حول الإنسان، لا بد أن نبحث عن أخلاقه أيضاً، وعندما نبحث عن المجتمع، يلزمنا التحدث عن روابط الأفراد فيه وموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وموضوع الفوارق الاجتماعية، إلا أنه يبقى التفصيل والتفسير، وأحياناً الاجتهاد، وتطبيق الأصول على الفروع، وهذا موكول إلى السنة أو الاجتهاد (استنباط الأحكام).

إذا استطعنا ـ في المعرفة التحليلية ـ أن نؤدي حق الموضوع، وإذا فهمناه فهماً جيداً، وعرفنا معارف القرآن معرفة كافية، عندئذٍ نصل إلى الأصالة التي هي أساس أصالات القرآن، وهي الأصالة الإلهية، أي كون القرآن معجزة.

كيف يعرف القرآن نفسه؟

عندما نبحث عما يشتمل عليه القرآن، من الأفضل أن نرى رأي القرآن عن نفسه وكيف يعرف نفسه؟ إن أول نقطة يصرح بها القرآن ـ لدى التعريف عنه نفسه ـ أن هذه الكلمات والجمل هي كلام الله. ويصرح القرآن أنه ليس من تعبير وإنشاء النبي، بل، إن النبي يبين ـ بإذن من الله ـ ما يلقى عليه بواسطة روح القدس جبرائيل.

والتوضيح الآخر الذي يعرضه القرآن في تعريف نفسه، هو توضيح رسالته التي هي عبارة عن هداية أبناء البشر، وإرشادهم للخروج من الظلمات إلى النور، {.. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..} [سورة إبراهيم/1].

ولا شك أن الجهل والمجهولات من مصاديق هذه الظلمات، وأن القرآن يخرج البشر من هذه الظلمات، ويدخلهم إلى أنوار العلم.

ولكن إذا كانت هذه الظلمات تنحصر في المجهولات، فكان الفلاسفة أيضاً يتمكنون من إجراء هذه المهمة، إلا أن هناك ظلمات أخرى أخطر كثيراً من ظلمات الجهل، ولا يتمكن العلم من مقاومتها.

 ومن هذه الظلمات: حب المصلحة (الشخصية)، وحب الذات وهو النفس، و... التي تعتبر ظلمات فردية وخلقية.

وتوجد ظلمات اجتماعية مثل الظلم والتفرقة وغيرهما.

إن لفظة (الظلم) مأخوذة من مادة (الظلمة) وتبين نوعاً من الظلمة المعنوية والاجتماعية، وإن القرآن وسائر الكتب السماوية تتعهد بالنضال من أجل رفع الظلمات، يقول القرآن مخاطباً موسى بن عمران (عليه السلام): {..أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..} [سورة إبراهيم/5].

هذه الظلمة هي ظلمة ظلم فرعون والفراعنة، والنور هو نور الحرية والعدالة، وإن النقطة التي لاحظها المفسرون هي أن القرآن يذكر الظلمات دائماً بصيغة الجمع، ومع الألف واللام لكي تفيد الاستغراق، وتشمل جميع أنواع الظلمات، في الوقت الذي يذكر النور بصيغة الإفراد ويعني إن الصراط المستقيم طريق واحد لا غير، إلا أن طرق الضلال والانحراف متعددة. نقرأ في آية الكرسي مثلاً: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة/ 257].

وبهذا الترتيب يبين القرآن هدفه وهو: تحطيم قيود الجهل والضلال والظلم، والفساد الخلقي والاجتماعي، وفي كلمة واحدة: القضاء على الظلمات، والهداية نحو العدل والخير والنور.

التعرّف على لغة القرآن وتلاوته

يتصور البعض أن الغرض من تلاوة القرآن، ينحصر في قراءة القرآن لأجل الثواب، دون أن يدرك شيئاً من معانيه. وهؤلاء يقرؤون القرآن باستمرار، ولكن، إذا سئلوا مرة واحدة: إنكم هل تعرفون معنى ما تقرؤون؟ يعجزون في الإجابة.

إن قراءة القرآن من هذه الناحية، وهي أنها مقدمة لإدراك معاني القرآن، ضرورية وحسنة، ولكن ليس فقط لأجل اكتساب الثواب.

وهناك أيضاً خصائص لإدراك معاني القرآن لابد من ملاحظتها. إن ما يلزم حصوله للقارئ ـ وهو يريد الاستفادة من كثير من الكتب ـ هو مجموعة الأفكار الجديدة التي ليس لها وجود قبل ذلك في الذهن، وأن الذي يعمل ويتحرك هنا هو العقل، وقوة التفكير لدى القارئ ليس غير.

وبالنسبة للقرآن، فلا ريب بضرورة مطالعته بهدف دراسته وتعلّمه، يصرح القرآن في هذا المجال بقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [سورة ص/ 29].

إحدى مسؤوليات القرآن هي التعليم والتذكير، ومن هذه الجهة يخاطب القرآن عقل الإنسان، ويتحدث معه بالاستدلال والمنطق، غير أن للقرآن لغة أخرى، والمخاطب فيها ليس العقل، بل المخاطب هو القلب، وهذه اللغة الثانية تسمى (الإحساس).

وإن الذي يريد أن يتعرف على القرآن ويأنس به، عليه أن يتعرف على هاتين اللغتين ويستفيد منهما معاً، وأن تفكيك هاتين اللغتين يؤدي إلى بروز الخطأ والاشتباه ويسبب الضرر والخسران.

إن ما نسميه بالقلب هو عبارة عن شعور عظيم وعميق جداً في باطن الإنسان، ويسمونه أحياناً إحساس الوجود، أي: إحساس رابطة الإنسان مع الوجود المطلق.

فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها، يحرك الإنسان من أعماق وجوده، وعندئذٍ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب، بل ويتأثر كل وجوده.

وربما استطعنا أن نضرب الموسيقى مثلاً، كنموذج عن لغة الإحساس، فإن الأقسام المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة، وهي علامتها مع الاحساسات الإنسانية. تهيج الموسيقى روح الإنسان وتغرقها في عالم خاص من الإحساس، وبالطبع، فإن ضروب الانفعالات والأحاسيس تختلف مع اختلاف أنواع الموسيقى، فربما ارتبط أحد أنواع الموسيقى مع الشعور بالفتوة والشجاعة، فيتحدث بهذه اللغة مع الإنسان.

لقد رأيتم الأناشيد والمعزوفات العسكرية، تنشد وتعزف في ميادين القتال، ونرى أحياناً مدى تأثير هذه الأناشيد وقوّتها، بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوف الأعداء تجعله يتقدم إلى الأمام بكل الدفاع ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو.

وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة والشعور الجنسي، فيعرّض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات، ويدعوه ليستسلم إلى الفساد.

وقد لوحظ أن تأثير الموسيقى كبير في هذا المجال، وربما لم يستطع أي شيء آخر أن يؤثر إلى هذا الحد، في القضاء على جدران العفة والأخلاق، وبالنسبة إلى سائر الغرائز والأحاسيس أيضاً، عندما يقال شيء بلسان هذه الأحاسيس ـ بواسطة لغة الموسيقى أو بأي وسيلة أخرى ـ فإنه يمكن أن يوضع تحت المراقبة والنظر.

إن الشعور الديني والفطرة الإلهية من أسمى الغرائز والأحاسيس لدى كل إنسان، وإن علاقة القرآن مع هذا الإحساس الشريف علاقة أسمى وأعلى.

القرآن عندما يصف نفسه فإنّه يتحدث بلسانين: فتارة يعرف نفسه بأنه كتاب التفكر والمنطق والاستدلال، وتارة أخرى بأنه كتاب الإحساس والعشق. وبعبارة أخرى: القرآن ليس للعقل والفكر فحسب، بل هو غذاء للروح أيضاً.

يؤكد القرآن كثيراً على الموسيقى الخاصة به، الموسيقى التي لها تأثير أكبر من كل موسيقى أخرى، في إثارة الأحاسيس العميقة والمتعالية عند الإنسان.

يأمر القرآن المؤمنين بأن يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن، وأن يرتلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجهون إلى الله، وفي خطاب للرسول يقول: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [سورة المزمل/ 1-3].

الترتيل هو قراءة القرآن بتأن في الوقت الذي يلاحظ فيه محتوى الآيات بدقة.

وفي الآية الأخيرة لتلك السورة يدعونا أن لا ننسى العبادة في حال من الأحوال اليومية، وحتى في الأوقات التي نحتاج لنوم أكثر، مثل أوقات الجهاد أو الأعمال التجارية اليومية، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا..} [سورة المزمل/ 20].

فالنداء السماوي للقرآن، أوجد في مدة قصيرة من أهل الجاهلية مجتمعاً مؤمناً مستقيماً، استطاعوا أن يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر ويقضوا عليها.

 فالمسلمون لم يتخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب؛ بل كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوة وازدياد الإيمان. فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل، يشير الإمام السجاد (عليه السلام) إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن: >واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً<، ويناجون ربهم تضرّعاً وخفية، وفي الصباح يهاجمون الأعداء كالأسود البواسل، والقرآن ينتظر مثل ذلك منهم، يقول مخاطباً النبي (صلى الله عليه وآله): {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [سورة الفرقان/ 52].

عندما يعتبر القرآن بأنّ لغته لغة القلب، فإن غرضه من هذا القلب هو الذي ينسجم مع آيات الله ويتفاعل معها، وهي لغة تختلف أيضاً عن لغة الأنغام والأناشيد العسكرية لتحيي في الجيش الحماسة البطولية، إنها تلك اللغة التي تصنع من أهل البداوة مجاهدين، فقيل في حقهم: >حملوا بصائرهم على أسيافهم<، أولئك الذين وضعوا أفكارهم النيرة ومعارفهم ومعنوياتهم على سيوفهم، ويستخدمون سيوفهم في طريق هذه الأفكار والعقائد.

إنهم لم يهتموا بمصالحهم الشخصية وأمورهم الفردية، وبالرغم من أنهم لم يكونوا معصومين، بل ويخطئون أيضاً، إلا أنهم المصاديق الحقيقية للقائمين في الليل، والصائمين في النهار >قائم الليل وصائم النهار<، كانوا في علاقة مستمرة مع أعماق الوجود، يقضون لياليهم في العبادة وأيامهم في الجهاد.

يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقين في خطبة المتقين (الخطبة 193 من نهج البلاغة)، بعد أن يذكر أقوالهم وأحوالهم، قائلاً: >أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً. يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم...<.

يؤكد القرآن كثيراً على هذه النقطة التي تعتبر من خصائصه، وهي أنه كتاب القلب والروح، كتاب يثير النفوس ويسيل الدموع ويهز القلوب، ويعتبر القرآن هذه الميزة صادقة حتى لأهل الكتاب.

يصف مجموعة منهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [سورة الأنفال/ 2].

ويؤكد في آية أخرى أن المسيحين من أهل الكتاب هم أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، كما في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [سورة المائدة/ 82].

ثم يصف القرآن جماعة من المسيحين، الذين آمنوا بعد أن سمعوا القرآن، بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [سورة المائدة/ 83].

وفي محل آخر، حينما يتحدث عن المؤمنين، يقول في وصفهم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر/ 23].

ويوضّح القرآن في هذه الآيات وفي آيات أخرى كثيرة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [سورة مريم/ 58]، والآيات الأولى من سورة الصف، أنه ليس كتاباً علمياً وتحليلياً محضاً؛ بل إنه في الوقت الذي يستخدم الاستدلال المنطقي، يتحدث مع إحساس الإنسان وذوقه ولطائف روحه ويؤثر عليه.

المخاطبون في القرآن

من النقاط الأخرى التي لا بد أن تستنبط من القرآن، في بحث المعرفة التحليلية للقرآن، هي تعيين المخاطبين في القرآن.

وردت كثيراً في القرآن تعابير مثل: {.. هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، {.. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا...} هنا يمكن طرح هذا الإشكال، وهو أن الهداية لا تلزم للمتقين، لأنهم أنفسهم متقون.

ومن جانب آخر نرى القرآن هكذا يعرف نفسه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [سورة ص/ 87]، ثم يقول: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [سورة ص/ 88]، وهذه الآية من الآيات العجيبة في القرآن، عندما نزلت كان النبي (صلى الله عليه وآله) في مكة، وكان يتحدث مع أهالي إحدى القرى، كان عجيباً عند الناس أن يروا رجلاً وحيداً يخاطبهم بكل طمأنينة قائلاً: أنكم سوف تسمعون نبأ هذه الآية فيها بعد، سوف تسمعون قريباً ماذا يصنع هذا الكتاب مع العالم خلال فترة قصيرة.

وفي آية أخرى يخاطب الله رسوله قائلاً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء107].

ونقول بإيجاز: في الآيات التي يخاطب فيها القرآن جميع أبناء العلام، يريد ـ في الواقع ـ أن يقول بأنه لا يختص بقوم وجماعة خاصة، فكل من يتوجه نحو القرآن يحصل على النجاة.

وأما في الآيات التي يتحدث فيها عن أنه كتاب هداية للمؤمنين والمتقين، يريد أن يوضح هذه النقطة، وهي: من الذي يسير نحو القرآن في النهاية ومن الذي يبتعد عنه؟

لا يذكر القرآن شعباً خاصاً وقبيلة معينة على أساس أنهم المعتقدون الوحيدون به والتابعون له، ولا يقول أنه كتاب شعب خاص ومجتمع معيّن.

القرآن ـ خلافاً لسائر المبادئ الاخرى ـ لم يهتم بمصالح طبقة خاصة دون اخرى، ولم يقل مثلاً أنه جاء لتأمين مصالح طبقة ما، ولم يقل أيضاً أن هدفه الوحيد هو مساندة العمال أو الدفاع عن حقوق الفلاحين.

يؤكّد القرآن عندما يتحدث عن نفسه: أنه كتاب لبسط العدالة، يقول عن الأنبياء: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد/ 25].

يريد القرآن القسط والعدل لكل المجتمع البشري، وليس لقوم أو طبقة أو قبيلة خاصة. ولكي يجذب الناس إلى نفسه لم يشر إلى العصبيات القومية مثل النازية.

وخلافاً لمبادئ أخرى كالماركسية مثلاً، لا يستند على مصالحهم ومنافعهم الشخصية، ليثيرهم عن هذا الطريق، لأنه في هذه الحالة لا يستهدف العدل والحق لإتباعه؛ بل يستهدف وصوله إلى منافعهم وطلباتهم الشخصية.

وكما أن القرآن يعتقد بأصالة الوجدان العقلي للإنسان، فإنه يعتقد له أيضاً أصالة وجدانية وفطرية، وعلى أساس فطرة طلب الحق والعدل يدعوهم إلى الحركة والثورة، ولهذا فإن رسالته لا تنحصر بطبقة العمال أو الفلاحين أو المحرومين أو المستضعفين.

يقول القرآن بأن أتباعه هم الذين طهرت نفوسهم وزكت أرواحهم، وهؤلاء اتبعوا القرآن على أساس مطالبة الحق والعدل، التي هي في فطرة كل إنسان، ولم يتبعوا ما تقتضيه مصالحهم وميولهم المادية والزخارف الدنيوية.

ـــــــــــــــــــــ

(*) من كتاب: (التعرف على القرآن)، ص59- 80، بتصرّف.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1783
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 05 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28