00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النمل من أول السورة ـ آية 26 من ( ص 5 ـ 53 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثّاني عَشر

[ 5]

سُورَة النمل

مكيّة

وَعَدَدُ آياتها ثلاث وتَسعون آية

[ 7 ]

«سورة النّمل»

محتوى سورة النمل

هذه السورة نزلت بمكّة ـ كما ذكرنا آنفاً ـ والمعروف أنّها نزلت بعد سورة الشعراء.

ومحتوى هذه السورة ـ بصورة عامّة ـ كمحتوى سائر السور المكية، فأكثر اهتمامها ـ من الوجهة الإعتقادية ـ ينصبّ على المبدأ والمعاد ... وتتحدث عن الوحي والقرآن وآيات الله في عالم الإِيجاد والخلق، وكيفية المعاد والقيامة؟

وأمّا من ناحية المسائل العملية والاخلاقية، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لاُممهم المنحرفة، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلّة بمكّة في ذلك اليوم، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصّة النّبي سليمان وملكة سبأ، وكيفية إِيمانها بالتوحيد، وكلام الطير ـ كالهدهد، والحشرات كالنمل ـ مع سليمان(عليه السلام).

وهذه السورة سُمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الرّوايات «والنمل أُخرى» سليمان أحياناً، وكما سنلاحظ ... فإِنّ هذه التسميات للسور ليست اعتباطاً، بل هي مدروسة ودقيقة في تسميتها، فهي من تعليمات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكشف عن حقيقة

[ 8 ]

مهمّة يغفل عنها الناس في الظروف الإِعتيادية!.

وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم الله غير المحدود، وهيمنته وسلطانه على كل شيء في عالم الوجود، وحاكميته عالم عباده ... والإِلتفات إِلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإِنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد، فالبشرى للمؤمنين، والتهديد للناس بأنّ الله غير غافل عن أعمالكم.

 

فضيلة سورة النمل:

جاء في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإِبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلاّ الله»(1).

وبالرغم من أنّ هذه السورة تتحدث عن موسى وسليمان وداود وصالح ولوط، وليس فيها كلام عن هود وشعيب وإبراهيم، إِلاّ أنّه حيث أنّ جميع الأنبياء سواءٌ في دعوتهم إِلى الله ـ فلا مجال لأن نعجب من هذا التعبير.

وورد في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سور الطواسين الثلاث «يعني سور الشعراء والنمل والقصص» في ليلة جمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مئة زوجة من الحور العين» (2).

 

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات وتفسير الثقلين، ج4، ص 74.

2 ـ «ثواب الاعمال» نقلا، نور الثقلين، ج 4، ص 74.

[ 9 ]

 

 

 

 

الآيات

 

طس تِلْكَ ءَايَـتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَاب مُّبِين (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إنَّ الَّذِيْنَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاْخِرَةِِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمـلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاَْخْسَرُونَ (5) وَاِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيم عَلِيم (6)

 

التّفسير

القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم:

نواجه مرّة أُخرى ـ في بداية هذه السورة ـ الحروف المقطّعة من القرآن (طس).

وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البيّنات منه، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة... وإن الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف،

[ 10 ]

وكان لنا في هذا الشأن بحوث مفصّلة في بداية سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (تلك آيات القرآن كتاب مبين ) والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية، والتعبير بـ (المبين ) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً(1).

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل أنّ التعبير بـ (القرآن وكتاب مبين )إشارة إلى معنيين مستقلين، وأن «الكتاب المبين» يراد منه اللوح المحفوظ.... إلاّ أن ظاهر الآية يدلّ على أنّ كلاهما لبيان حقيقة واحدة، فالأوّل في ثوب الألفاظ والتلاوة، والثّاني في ثوب الكتابة والرسم.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول: (هدى وبشرى للمومنين... الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ).

وهكذا فإن اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد، وارتباط متين بالله وخلقه أيضاً... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع!.

وهنا ينقدح سؤال وهو: إذا كان هؤلاء المؤمنون قد اختاروا الطريق السوي، من حيث المباني الإعتقادية والعملية، فما الحاجة لأنّ يأتي القرآن لهدايتهم؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة أنّ الهداية لها مراحل مختلفة، وكل مرحلة مقدمة لما بعدها،.

ثمّ إنّ استمرار الهداية مسألة مهمّة، وهي ما نسألُها الله سبحانه ليل نهار بقولنا: (إهدنا الصراط المستقيم ) ليثبتنا في هذا المسير، ويجعلنا مستمرين فيه

_____________________________

1 ـ «المبين» مشتق من (الإبانة) وكما يقول بعض المفسّرين «كالآلوسي في روح المعاني»: إنّ هذه المادة قد يأتي فعلها لازماً، وقد يأتى متعدياً ففي الصورة الأُولى يكون مفهوم المبين هو الواضح والبيّن، وفي الصورة الثّانية يكون مفهومه الموضح!

[ 11 ]

بلطفه، فلولا لطفه لما كان ذلك ممكناً لنا...

وبعد هذا كلّه، فالإفادة من آيات القرآن والكتاب المبين هي نصيب أُولئك الذين فيهم القابلية على معرفة الحق وطلب الحق. وإن لم يبلغوا مرحلة الهداية الكاملة... وإذا ما وجدنا التعبير في بعض آيات القرآن بأنّه (هدى للمتقين ) «كما في الآية 2 من سورة البقرة» وفي مكان آخر (للمسلمين ) «كما في الآية 102 من سوره النحل» وهنا (هُدًى وبشرى للمؤمنين ) فإنّ ذلك ناشىء من أنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع، فإنّه لا يتجه نحو الحق، ولا يبحث عنه، ولايفيد من نور هذا الكتاب المبين... لأنّ قابلية المحل شرط أيضاً.

ثمّ بعد ذلك فإن الهدى والبشرى مقترنين معاً.. وهما للمؤمنين فحسب، وليس للآخرين مثل هذه المزية...

ومن هنا يتّضح مجيء التعبير بالهداية بشكل واسع لعموم الناس (هدى للناس ) فإن المراد منه أُولئك الذين تتوفر فيهم الأرضيّة المناسبة لقبول الحق، وإلاّ فأنّ المعاندين الألداء. عُماة القلوب، لو أشرقت عليهم آلاف الشموس بدل شمسنا هذه ليهتدوا، لما اهتدوا أبداً.

وتتحدّث الاية التالية عن الاشخاص في المقابلة للمؤمنين، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم يعمهون ). أي حيارى في حياتهم.

فهم يرون الملوّث نقيّاً، والقبيح حسناً، والعيب فخراً، والشقاء سعادةً وانتصاراً!.

أجل، هذا حال من يسلك الطريق المنحرف ويتوغل فيها... فواضح أن الإنسان حين يقوم بعمل قبيح. فإنّ قبحه يخف تدريجاً، ويعتاد عليه، وعندما يتطبع عليه يوجههُ ويبرره، حتى يبدو له حسناً ويعدّه من وظائفه! وما أكثر الذين تلوثت أيديهم بالأعمال الإجرامية... وهم يفتخرون بتلك الأعمال ويعدونها

[ 12 ]

أعمالا إيجابيّة.

وهذا التغير في القِيمَ، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان، يؤدي إلى الحيرة في متاهات الحياة... وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.

والذى يلفت النظر أنّ «التزيين» في الآية محل البحث ـ وفي آية أُخرى من القرآن، وهي الآية (108) من سورة الأنعام، نسب إلى الله سبحانه، مع أنّه نُسب في ثمانية مواطن إلى الشيطان، وفي عشرة أُخَر جاء بصيغ الفعل المجهول (زُيّنَ) ولو فكرنا بإمعان ـ وأمعنا النظر، لوجدنا جميع هذه الصور كاشفة عن حقيقة واحدة!

فأمّا نسبة التزيين إلى الله، فلأنّه «مسبب الاسباب» في عالم الإيجاد، وما من موجود مؤثر إلاّ ويعود تأثيره إلى الله.

أجل، إنّ هذه الخاصية أوجدها الله في تكرار العمل ليتطبّع عليه الإنسان... ويتغير حسُّ التشخيص فيه دون أن تسلب المسؤولية عنه، أو أن تكون نقصاً في خلقة الله أو إيراداً عليه (لاحظوا بدقّة) .

وأمّا نسبة التزيين إلى الشيطان (أو هوى النفس) فلأن كلاّ منهما عامل قريب و بغير واسطة للتزيين.

وأمّا مجيء التزيين بصورة الفعل المبني للمجهول، فهو إشارة إلى أنّ طبيعة العمل يقتضي أن يوجد ـ على أثر التكرار ـ حالة وملكة وعلاقة وعشقاً!!

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال » وعاقبة أُولئك الذين شغفوا بها فتقول: (أُولئك لهم سوء العذاب ).

فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة (وفي الآخرة هم الأخسرون ).

والدليل على أنّهم في الآخرة هم الأخسرون، ما جاء في الآية (103) من سورة الكهف (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة

[ 13 ]

الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ).

فأية خسارة أعظم من أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً!! وأن يهدر جميع طاقاته من أجله، ظنّاً منه بأنّه عمل «إيجابي» مثبت، إلاّ أنّه يراه في عاقبة أمره شقاءً وذلة وعذاباً.

وأمّا الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: (وإنّك لتلقّى(1) القرآن من لدن حكيم عليم ).

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه، إلاّ أن الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية... وبتعبير آخر: إن العليم يخبر عن علم الله الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النّبي (محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)).

ومثل هذا القرآن النازل من قبل الله ينبغي أن يكن مبيناً ... وهدى وبشرى للمؤمنين، وأن تكون قصصه خالية من أي نوع من أنواع الخرافات والتضليل والأباطيل والتحريف.

 

الواقعية والإيمان:

المسألة المهمة في حياة الإنسان هي أن يدرك الواقعيّات بما هي عليه، وأن يكون موقفه منها صريحاً... فلا تمنعه من فهمها وإدراكها تصوراته وأحكامه المسبقة ورغباته الإنحرافية وحبّه وبغضه، ولذلك فأنّ أهم تعريف للفلسفة هو: إدراك الحقائق كما هي!.

_____________________________

1 ـ «تلقى» فعل مضارع مبني للمفعول، وهو من باب التفعيل، والفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة (لقي ) وهو يتعدى إلى مفعول واحد. أمّا المزيد فيتعدى إلى مفعولين. وفي الآية محل البحث (الله) هو الفاعل وملقي القرآن، والنّبي (مفعول به أول)، والقرآن مفعول ثان، وحيث أنّ الفعل بني للمجهول يقوم المفعول الأوّل مقام الفاعل فرفع، وأمّا المفعول الثّاني فعلى حالة.

[ 14 ]

ولذلك فقد كان من دعاء المعصومين: (اللّهم أرنى الأشياء كما هي) أي لأعرف قيمها وأؤدي حقّها.

وهذه الحالة لا تتحقق بغير الإيمان! لأنّ الهوى والهوس والإنحرافات أو الرغبات النفسية، تكون حجاباً وسداً كبيراً في هذا الطريق، ولا يمكن رفع هذا الحجاب أو السد إلاّ بالتقوى وضبط هوى النفس!.

لذلك فقد قرأنا في الآيات آنفة الذكر: (إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ).

والمثل الواضح والجلي لهذا المعنى نراه في حياة كثير من عبدة الدنيا في زماننا بشكل بيّن. فهم يفتخرون ببعض المسائل ويرونها حضارة، إلاّ أنّها في الواقع ليست إلاّ الفضيحة والعار والذل.

فالتفسخ والحماقة عندهم دليل «الحرية».

والتعري والسفور من قبل النساء دليل «التمدن» .

التكالب على بهارج الدنيا وزخارفها دليل على «الشخصيّة» .

الغرق في الوان الفساد دليل «التحرر».

القتل والإجرام دليل على «القوّة» .

التخريب وغصب رؤوس الأموال دليل على الاستعمار، أي البناء والعمران(1)!!

استخدام اجهزة الاعلام العامة كالراديو والتلفزيون لتوكيد المفاهيم!!

سحق حقوق المحرومين دليل على احترام حقوق البشر.

الأسر في قبضة المخدرات والفضائح وما إلى ذلك من أشكال الحرية!.

والتزوير والغش واقتناء الأموال من أي طريق كان وكيف كان، دليل على

_____________________________

1 ـ المفهوم اللغوي للإستعمار مفهوم جميل، يعني الإعمار كما جاء في القرآن (واستعمركم فيها )إلاّ أن المفهوم السياسي للإستعمار هو التسلط من قبل الأجنبي واستثماره لخيرات الشعوب (المصحح).

[ 15 ]

الجدارة والذكاء.

رعاية أصول العدل واحترام حقوق الآخرين دليل على الضعف وعدم اللياقة!.

الكذب والدجل ونقض العهود وما إلى ذلك دليل على السياسة.

والخلاصة: إنّ الأعمال السيئة والقبيحة تتزين في نظر هؤلاء الى درجة أنّهم لا يشعرون في أنفسهم بالخجل منها. بل ويفتخرون ويتباهون بها!!

وواضح إلى اين يتجه مثل هذا العالم وماذا سيكون مصيره!!

 

* * *

[ 16 ]

 

 

 

الآيات

إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً سَأَتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَاب قَبَس لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمّـا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهـا وَسُبْحَـنَ اللهِ رَبِّ الْعـالَمِينَ (8) يَـمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَـاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسَى لاَتَخَفْ إِنِّى لاَيَخـافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فىِ جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء فِى تِسْعِ ءَايـت إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فـسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايـتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عَـقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ (14)

 

التّفسير

موسى يقتبس النّور:

يجري الكلام في هذه السورة ـ كما أشرنا من قبلُ ـبعد بيان أهمّية القرآن، عن قصص خمسة أنبياء عظام، وذكر أُممهم، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

[ 17 ]

الكافرين.

فأوَّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة، هو موسى عليه السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرةً بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه، وتكليم الله إيّاه إذ تقول الآية: (إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً )(1) اي رأيت ناراً من بعيد، فامكثوا هنيئة (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون )(2).

في تلك الليلة الظلماء، كان موسى(عليه السلام) يسير بزوجته بنت النبيّ شعيب(عليه السلام) في طريق مصر ـ وفي الصحراء ـ فهبت ريح باردة، وكانت زوجته (أهله ) مُقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى (عليه السلام)نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أىّ شيء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتَيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

ممّا يلفت النظر أنّ موسى(عليه السلام) يقول لأهله سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس «بضمير الجمع لا الإفراد» ولعل هذا التعبير هو أنّ موسى (عليه السلام)كان معه بالإضافة إلى زوجته أطفال أيضاً.. لأنّه كان قد مضى على زواجه عشر حجج (عشر سنين) في مدين.. أو أنّ الخطاب بصيغة الجمع (آتيكم) يوحي بالإطمئنان في هذه الصحراء الموحشة!.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النّار» التي آنسها (فلمّا جاءها نودي أن بورك من في النّار ومن حولها وسبحان الله ربّ العالمين ).

وهناك احتمالات مختلفة عند المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (من في

_____________________________

1 ـ «آنستُ» فعل ماض مأخوذ من (الإيناس) وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

2 ـ «الشهاب» هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود، وكل نور له عمود يدعى شهاباً، وفي الأصل يطلق الشهاب على واحد النيازك التي تهوي من السماء بسرعة مذهلة فتحرق بسب اصطدامها بالغلاف الجوي فيكون لها عمود من نار، «والقبس» شعلة من النّار تنفصل عنها. «وتصطلون» من الإصطلاء وهو الدفء (بالنّار)..

[ 18 ]

النّار ) (ومن حولها )!... فما المقصود من هذا التعبير؟!

ويبدو أنّ المراد مِن (مَن في النّار ) هو موسى نفسه، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها، فكأنّ موسى كان في النّار نفسها، وأنّ المراد مِن (مَنْ حولها ) هم الملائكة المقرّبون من ساحة القدس، الذين كانوا يحيطون

بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت.

أو أنّ المراد ـ على عكس ما ذكرنا آنفاً ـ فمن في النّار: هم الملائكة المقرّبون، ومن حولها هو موسى(عليه السلام)

وعلى كلّ حال فقد جاء في بعض الرّوايات أنّ موسى(عليه السلام) لما وصل النّار ونظر بدقّة، رأى النّار تشتعل من غصن أخضر! وتتسع الشعلة لحظة بعد أُخرى، والشجرة تزداد اخضراراً وجمالا.. فلا حرارة النّار تحرق الشجرة، ولا رطوبة الشجرة تطفىء لهب النّار، فتعجب من هذا المشهد الرائع.... وانحنى ليقتبس من هذه النّار ويشعل الغصن اليابس «الحطب» الذي كان معه، فأتته النّار فارتاع ورجع... فمرّة يأتي موسى إلى النّار، ومرّة تأتي النّار إلى موسى، وبيّنا هو على هذه الحالة، إذا بالنداء يقرع سمعه مبشراً إيّاه بالوحي.

فالمراد أنّ موسى(عليه السلام)اقترب من النّار ألى درجة عُبّر عنه بأنّه «في النّار».

والتّفسير الثّالث لهذه الجملة، هو أنّ المراد من (من في النّار ) هو نور الله الذي تجلّى في تلك الشعلة، والمراد من «من حولها» هو موسى الذي كان قريباً منها. وعلى كل حال فمن أجل أن لا يتوهم أحد من هذه العبارة مفهوم «التجسيم» فقد خُتمت الآية بـ (سبحان الله ربّ العالمين ) تنزيهاً له عن كل عيب ونقص وجسميّة وما يعترض الجسم من عوارض!.

ومرّة أُخرى نودي موسى بالقول: (ياموسى إنّي أنا الله العزيز الحكيم ).

وذلك يزول عن موسى (عليه السلام)كل شك وتردّد، وليعلم أنّ الّذي يكلمه هو ربّ العالمين، لا شعلة النّار ولا الشجرة، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر،

[ 19 ]

والحكيم ذو التدبير في جميع الأُمور!.

وهذا التعبير في الحقيقة مقدّمة لبيان المعجزة التي سيأتي بيانها في الآية التالية لأنّ الإعجاز آت من هاتين الصفتين «قدرة الله» و«حكمته»، ولكن قبل أن نصل إلى الآية التالية.. ينقدح هذا السؤال وهو: من أين تيقن موسى (عليه السلام) أنّ هذا النداء هو نداء الله وليس سواه؟!

يمكن أن يجاب على هذا السؤال بأنّ هذا النداء ـ أو الصوت المقرون بمعجزة جليّة، وهي إشراق النّار من الغصن الأخضر «في الشجرة الخضراء» ـ دليل حي على أنّ هذا أمر إلهي!.

ثمّ إنّه ـ كما سنرى في الآية التالية ـ بعد هذا النداء أمر موسى (عليه السلام) بإلقاء العصا وإظهار اليد البيضاء، على نحو الإعجاز، وهما شاهدان صادقان آخران على هذه الحقيقة.

ثمّ بعد هذا كله (فعلى القاعدة) فإن نداء الله له خصوصية تميزه عن كلّ نداء آخر، وحين يسمعه الإنسان يؤثر في روحه وقلبه تأثيراً لا يخالطه الشك أو التردد بأنّ هذا النداء هو نداء الله سبحانه.

وحيث أنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم كفرعون). لابدّ له من قوّة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيته... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه: (وألق عصاك ).

فألقى موسى عصاه، فتبدلت ثعباناً عظيماً، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت الى الوراء: (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقِّب ). (1)

ويحتمل أنّ عصا موسى تبدلت بادىء الأمر إلى حيّة صغيرة، ثمّ تحولت إلى

_____________________________

1 ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ «الجان» مأخوذ من الجن، وهو الموجود غير المرئي، لأنّ الحيّات الصغيرة تتحرك بين العشب في الارض وتخفي نفسها..

[ 20 ]

أفعى كبيرة في المراحل الأُخر!

وهنا خوطب موسى مرّة أُخرى أن (يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون )

فهنا مقام القرب، وحرم أمن الله القادر المتعال.

وهنا لا معنى للخوف والوحشة. ومعنى الآية: أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم، والحضور عنده ملازم لأمن المطلق!.

ونقرأ نظير هذا التعبير في الآية (31) من سورة القصص: (يا موسى أقبل  ولا  تخف إنّك من الآمنين ).

إلاّ أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة، حيث ذكره القرآن فقال: (إلاّ من ظلم ثمّ بدّل حُسناً بعد سوء فإنّي غفورٌ رحيمٌ )!.

وهناك رأيان مختلفان لدى المفسّرين في علاقة الإستثناء بالجملة:

فالرأي الأوّل: أنّ هناك حذفاً ذيل الآية آنفة الذكر وتقديره: إنّك من الآمنين وغير الأنبياء ليس آمناً. ثمّ استثنى سبحانه من ذلك «بإلاّ» من ظلم ثمّ بدل حسناً، فهو من الآمنين أيضاً (لأنّ الله غفور رحيم ).

والثّاني: أنّ الإستثناء من ضمن الجملة، والظلم إشارة إلى ترك الأُولى الذي قد يقع من الأنبياء، وهو لا ينافي مقام العصمة، ومعنى الآية على هذا الرأي: أن الأنبياء في حال ترك الأولى غير آمنين أيضاً، وأنّ الله يحاسبهم حساباً عسيراً، كما جاء في آيات القرآن عن قصّة آدم وقصّة يونس(عليهما السلام)!.

إلاّ أُولئك الذين التفتوا إلى ترك الأولى، وانعطفوا نحو الله الرحيم، فبدلوا حسناً وعملا صالحاً بعد ذلك، كما جاء في شأن موسى (عليه السلام) نفسه في قصّة قتله الرجل القبطي، إذ اعترف موسى بتركه الأَولى، فقال: (ربّ إنّى ظلمت نفسي فاغفر لي )(1).

_____________________________

1 ـ القصص، 16.

[ 21 ]

أمّا المعجزة الثّانية التي أمر موسى أن يظهرها، فهي اليد البيضاء، إذ تقول الآية: (وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ).

والقيد (من غير سوء ) إشارة إلى أن بياض اليد ليس من برص ونحوه، بل هو بياضٌ نوراني يلفت النظر، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة:

ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر، قال لموسى بأن معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين، بل (في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنّهم كانوا قوماً فاسقين )(1).

ويستفاد من ظاهر الآية أن هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة، وقد استنتجنا ذلك من الآية (101) من سورة الإسراء، وإن المعاجز السبع الأُخر هي:

1 ـ الطوفان 2 ـ الجراد 3 ـ كثرة الضفادع 4 ـ تبدل لون نهر النيل كلون الدم 5 ـ الآفات في النباتات. وكل واحدة من هذه المعاجز الخمس تعدّ إنذاراً لفرعون وقومه، فكانوا عند البلاء يلجأون إلى موسى ليرفع عنهم ذلك.

أمّا المعجزتان الأُخريان فهما 6 ـ القحط «السنين» 7 ـ ونقص الثمرات. إذ أشارت إليهما الآية (130) من سورة الأعراف فقالت: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون )... «ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء التاسع من التّفسير الأمثل ذيل الآية (101) من سورة الإسراء».

وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق، كما يصرح القرآن بذلك في آيته التالية (فلما جاءَتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبين ).

و معلوم أنّ هذا الإتّهام «بالسحر» لم يكن خاصّاً بموسى(عليه السلام)، بل اتّخذه

_____________________________

1 ـ الجار والمجرور «في تسع آيات» إمّا متعلقان بجملة (إذهب ) أو بأحد أفعال العموم المقدرة.. وقد تكون (في ) بمعنى (مع ) و (إلى فرعون ) متعلق بالجملة ذاتها، أو بجملة أنت مرسل بها المفهومة من السياق تقديراً.

[ 22 ]

المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين، والإتّهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة، بحيث اتّهموه بالسحر.

مع أنّنا نعرف أن الأنبياء كانوا رجالا صالحين صادقين طلاّب حق مخلصين، أمّا السحرة فهم منحرفون ماديّون تتوفر فيهم جميع صفات المدلّسين «أصحاب التزوير».

وإضافة إلى ذلك فإن السحرة كانت لديهم قدرة محدودة على الأعمال الخارقة، إلاّ أنّ الأنبياء فقد كان محتوى دعوتهم ومنهاجهم وسلوكهم يكشف عن حقانيتهم، وكانوا يقومون بأعمال غير محدودة، بحيث كان ما يقومون به معجزاً  لا يشبه سحر السحرة أبداً.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلا: إنّ هذا الإتهام لم يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم و مترددين فعلا، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً ).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشيء!.

وبعبارة أُخرى: إنّ حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحقّ، فبناءً على ذلك إذا كان الإنسان مستيقناً بشيء ما، إلاّ أنّه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان. بل هو ذو كفر جحودي، وهذا موضوع مفصل، ونكتفي هنا بهذه الاشارة.

لذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يذكر فيه ضمن عدّه أقسام الكفر الخمسة «كفر الجحود » ويبيّن بعض شعبه بالتعبير التالي (هو أنّ يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقرّ عنده) .(1)

_____________________________

1 ـ الكافي، ج 2، باب وجوه الكفر ص 287.

[ 23 ]

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ القرآن يعد الباعث على إنكار فرعون وقومه أمرين:الأوّل الظلم، والثّاني العلوّ: (ظلماً وعلوّاً ).

ولعل «الظلم» إشارة إلى غصب حقوق الآخرين، و «العلوّ» إشارة إلى طلب التفوّق على بني إسرائيل.

أىّ إنّهم كانوا يرون أنّهم إذا أذعنوا لموسى(عليه السلام) وآمنوا به وبآياته، فإنّ منافعهم غير المشروعة ستكون في خطر، كما أنّهم سيكونون مع رقيقهم «بنى إسرائيل» جنباً إلى جنب، ولا يمكنهم تحمل اىّ من هذين الأمرين.

أو أنّ المراد من الظلم هو ظلم النفس أو الظلم بالآيات، وأنّ المراد من العلوّ هو الظلم للآخرين، كما جاء في الآية (9) من سورة الأعراف (بما كانوا بآياتنا يظلمون ).

وعلى كل حال، فإنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة، في جملة موجزة ذات معنى كبير، مشيراً إلى هلاكهم وغرقهم فيقول: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ).

والقرآن هنا لا يرفع الستار عن هذه العاقبة، لأنّ قصّة هؤلاء الكفرة ونهايتهم الوخيمة ذكرها في آيات أُخرى واكتفى هنا بالاشارة الى تلك الآيات ليفهم من يفهم.

والقرآن يعوّل ـ ضمناً على كلمة (مفسد ) مكان ذكر جميع صفاتهم السيئة، لأنّ الإفساد له مفهوم جامع يشمل الإفساد في العقيدة، والإفساد في الأقوال والأعمال، والإفساد على المستوى الفردي، والمستوى الجماعي، فجمع كلّ أعمالهم في كلمة (المفسدين ).

* * *

[ 24 ]

الآيتان

وَلَقَدْ اتَيْنَـا دَاوُدَ وَسُلَيْمـنَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَـنُ دَاوُ ودَ وَقَـالَ يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْء إِنَّ هَـذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

 

التّفسير

حكومة داود وسُليمان(عليهما السلام):

بعد الكلام عن جانب من قصّة موسى(عليه السلام) في هذه السورة، يجري الكلام عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام، وهما «داود» و«سليمان» ... والكلام على داود  لا يتجاوز الإشارة العابرة، إلاّ أنّ الكلام على سليمان أكثر استيعاباً.

وذكر هذا المقطع من قصّة هذين النبيّين بعد قصّة موسى(عليه السلام)، لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضاً، وما نجده من اختلاف بين تأريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين، هو أنّهما ـ ونتيجة للإستعداد الفكري وملائمة المحيط الإجتماعي في عهدهما ـ قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة، وأن ينشرا بالإستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله، لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في

[ 25 ]

تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين، وهم يواجهون قومهم المعاندين، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والاخراج من مدنهم وقراهم.. فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً.

ويدلّ هذا بوضوح أنّه لو كان المصلحون والدعاة إلى الله يوفقون إلى تشكيل حكومة لما بقيت معضلة ولغدى طريقهم معبداً سالكاً.

وعلى كل حال، فالكلام هنا عن العلم والقدرة والعظمة، وعن طاعة الآخرين حتى الجن والشياطين لحكومة الله وعن تسليم الطير في الهواء والموجودات الأخر لحكومة الله!.

وأخيراً، فإنّ الكلام عن مكافحة عبادة الأصنام عن طريق الدعوة المنطقية، ثمّ الإفادة من قدرة الحكومة!.

وهذه الأُمور هي التي ميّزت قصّة هذين النبيّين عن الأنبياء الآخرين.

الطريف، أن القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية، فيقول: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً ).

وبالرغم من أن كثيراً من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمانُ وداودُ، لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة.. فقال بعضهم: هو علم القضاء، بقرينة الآية (20) من سورة ص: (وآتينا الحكمة وفصل الخطاب )والآية (79) من سورة الأنبياء (وكلا آتينا حكماً وعلماً ).

وقال بعضهم: إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية (عُلمنا منطق الطير ).

وقال بعضهم: «إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع، بقرينة (صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ).

إلاّ أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية، وكذلك علم القضاء، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية... لأنّ تأسيس

[ 26 ]

حكومة إلهية على أساس العدل... وحضارة عامرة حرّة... دون الإفادة من علم واسع غير ممكن... وهكذا فإنّ القرآن يعدُّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها!.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله: (وقالا الحمدلله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ).

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر، وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

وهذان النبيّان العظيمان(عليهما السلام) استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية.

وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين «العلم» لا القدرة  ولا الحكومة، وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب، لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم، وكلّ قدرة تعتمد اساساً على العلم.

والجدير بالذكر أنّهما يشكران اللّه ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على اُمّة مؤمنة.. لأنّ الحكومة على اُمّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر!

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: لم قال داود وسليمان (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعاً، مع أنّهما كانا نبيّين، وهما أفضل أهل عصرهما؟

ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع، إذ على الإنسان أن  لا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان!

أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة، ولم ينظرا إلى مقطع زمنىّ خاص، ونعرف أن على مدى التأريخ يوجد انبياء كانوا أفضل منهما.

والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا، فتقول: (وورث

[ 27 ]

سليمانُ داود ).

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا، ما هو؟

فقال بعضهم: هو ميراث العلم فحسب... لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياء  لا  يورثون.

وقال بعضهم: هو ميراث المال والحكومة، لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر.

وقال بعضهم: هو منطق الطير.

ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الآية مطلقة، وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب (أوتينا من كل شيء ) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدوداً، فبناءً على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه.

وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» وأنّه ساقط من الإعتبار لمخالفته كتاب الله.

وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبوبكر على أخذ فدك من فاطمة(عليها السلام)، محتجّاً بالحديث آنف الذكر، جاءته فاطمة(عليها السلام) فقالت: (يا أبابكر، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً، فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: (وورث سليمان داود )(1).

ثمّ تضيف الآية حَاكيةً عن لسان سليمان (وقال يا أيّها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ).

وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلاّ على نحو المجاز.. إلاّ أنّه إذا أظهر غير الانسان أصواتاً من فمه كاشفاً

_____________________________

1 ـ راجع كتاب الإحتجاج للطبرسي طبقاً لما جاء في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 75.

[ 28 ]

عن مطلب ما، فلا دليل على عدم تسميته نطقاً، لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم(1).

ولانريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق، كلاّ فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان... إلاّ أنّنا ـ كما سيأتي في الآيات التالية ـ سنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة... وطلب منه أن يتحرّى جوابها.

وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة... لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله، كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله.

وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع،حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته، وهو بيان ما في الضمير، سواءً كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر، كما في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق )(2)إلاّ أنّه  لا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى... بل طبقاً لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها، أو أنّه كان يتكلم معها فعلا..

وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى.

أمّا جملة (أُوتينا من كل شيء ) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين، لها مفهوم واسع شامل.. فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين.. وأساساً فإن الكلام سيقع ناقصاً بدونها، ولا يكون له

_____________________________

1 ـ يقول ابن منظور في لسان العرب: «النطق» هو التكلم، ثمّ يضيف «وكلام كل شيء منطقه. ومنه قوله تعالى:(علمنا منطق الطير ) ثمّ ينقل عن بعض علماء العرب ـ وهو ابن سيده ـ أنّه «خلافاً لما قال بعضهم: إن النطق خاص بالإنسان. فقد يستعمل النطق في غير الإنسان». وينبغى الإلتفات إلى أن الفلاسفة وعلماء المنطق أطلقوا النطق على القدرة على التفكير الذي يعطي الانسان التمكن من الكلام...

2 ـ الجاثية، الآية 29.

[ 29 ]

ارتباط واضح بما سبق.

وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول: أليس التعبير بـ (علمنا ) و (أوتينا ) من قبيل كلام المتكبرين؟!

ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول: إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه، أو هو و معاونوه في الحكومة.. وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما، أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع!.

* * *

 

بحوث

1 ـ علاقةُ الدين بالسيّاسة

خلافاً لما يتصوره أصحاب النظرة الضيقة من أن الدين مجموعة من النصائح والمواعظ، أو المسائل الخاصة بالحياة الشخصيّة للانسان.. بل هو مجموعة من القوانين والمناهج الحيوية التي تستوعب جميع مسائل حياة الإنسان وخاصة المسائل الإجتماعية.

فقد بُعث الأنبياء لإقامة القسط والعدل كما في الآية (25) من سورة الحديد، إذ يقول سبحانه (ليقوم الناس بالقسط ).

وليضع الأنبياء عن الناس (إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) فيتمتعوا بالحرية كما أشارت إلى ذلك الآية (157) من سورة الأعراف.

والدين رحمة ومنجاة للمستضعفين وتخليصهم من نير المتكبرين الظالمين.

والدين ـ أخيراً ـ مجموعة من التعاليم والتربية في مسير تزكية الإنسان والرقي به نحو الكمال (كما أشارت إليه الآية 2 من سورة الجمعة).

وبديهي أن هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تتحق دون إقامة الحكومة! فمن ذا يستطيع أن يقيم القسط بين الناس بمجرّد التوصيات الاخلاقيّة؟.. أو أن

[ 30 ]

يقطع أيدي الظالمين عن المستضعفين، ويضع الإصر والأغلال عن يدي الإنسان ورجليه دون الاستناد الى قدرة شاملة!!

ومن يستطيع أن ينشر الثقافة الصحيحة والمسائل التربوية في مجتمع يشرف عليه المفسدون، فيمنح القلوب الملكات الأخلاقيّة؟

وهذا هو ما نقوله بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة، فإذا انفصل الدين عن السياسة فقد فقد عضده وشُلت يده، وإذا انفصلت السياسة عن الدين تبدّلت إلى عنصر مخرب يستغله أصحاب المنافع الشخصيّة!

إن النّبي (صلى الله عليه وآله) إنّما وفق لنشر هذا الدين القويم السماوي في أرجاء العالم بسرعة، لأنّه أسس حكومته في أوّل فرصة واتته، وتابع أهدافه الإلهية عن طريق الحكومة الإسلامية.

وهناك بعض الأنبياء ممن نال مثل هذا التوفيق فنشروا دعوتهم إلى الله في الأرض أفضل بشكل... أمّا من لم تسمح لهم الفرصة بإقامة حكومة إلهية، فإنّهم لم يحالفهم التوفيق كثيراً في نشر رسالتهم الالهية..

 

2 ـ آيات الحكومة الإلهية

ممّا يلفت النظر أنّنا نجد في قصّة سليمان وداود ـ بصورة واضحة ـ أنّهما استطاعا أن يقلعا جذور الشرك وآثاره بسرعة، وأن يقيما نظاماً إلهياً عادلا.. نظاماً يقوم على اسس واركان ـ طبقاً لما في الآيات محل البحث ـ العلم والمعرفة والإطلاع في المجالات المختلفة.

نظاماً يتوج منهجه اسم الله، فهو على رأس لوحته.

نظاماً استعمل كل قواه حتى الطائر، من أجل الوصول إلى أهدافه.

نظاماً جعل الشياطين مغلولةً، والظالمين اذلاء لا يتجاوزون حدودهم.

وأخيراً فإنّ هذا النظام كانت لديه القدرة النظامية «العسكرية» الكافية،

[ 31 ]

والجهاز التجسس «الأمني»، والأفراد المتخصصون في المجالات الإقتصادية والإنتاجيّة والعلمية المختلفة، وكل ذلك كان تحت خيمة «الإيمان» ومظلّة «التوحيد».

 

3 ـ منطق الطير

في الآيات المتقدمة والآيات التالية بعدها التي تذكر قصّة سليمان والهدهد، إشارة صريحة إلى منطق الطير، وبعض ما يتمتع به الحيوان من شؤون.

وممّا لا شك فيه أنَّ الطيور كسائر الحيوانات تظهر أصواتاً في حالاتها المختلفة، بحيث يمكن معرفتها بدقة، أن أيَّ صوت يعبّر عن الجوع؟ وأىّ صوت يعبر عن الغضب؟ وأي صوت يعبر عن الرضا؟ وأي صوت يعبّر عن التمني؟ وأىّ صوت يدعوا الأفراخ إليه؟ وأي صوت يعبر عن القلق والإستيحاش والرعب؟.

فهذه الأصوات من أصوات الطيور، لا مجال للشك والتردد فيها، وكلّنا نعرفها مع اختلاف في كثرة الإطلاع أو قلّته! إلاّ أنّ آيات هذه السورة ـ بحسب الظاهر ـ تبيّن موضوعاً أوسع ممّا ذكرناه آنفاً.. فالبحث هنا عن نطقها بنحو «معمّى خفيّ» بحيث ينطوي على مسائل دقيقة، والبحث عن تكلمّها وتفاهمها مع الانسان.. وبالرغم من أن هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى المسائل المختلفة التي كتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصية في شأن الطيور، لا يكون الموضوع عجيباً.

فنحن نعرف عن ذكاء الطيور مسائل أعجب من هذا.

فبعضها لديها المهارة في صنع أعشاشها وبيوتها بشكل أنيق، قد يفوق عمل مهندسينا أحياناً.

وبعض الطيور تعرف عن وضع أفراخها في المسقبل، وحاجاتها، وتعمل لها عملاً دقيقاً، بحيث تكون مثار إعجابنا جميعاً.

[ 32 ]

وتوقعها لما سيكون عليه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالية، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع، وقبل أن تسجلها مقاييس الزلازل المعروفة!.

والتعليمات التي تصدر إلى الحيوانات في «السيرك» ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاكية عن ذكائها العجيب..

أعمال النمل وحركاته العجيبة وتمدنه المثير.

عجائب حياة النحل، وما تقوم به من أعمال محيرة.

معرفة الطيور المهاجرة بالطرق الجويّة، وقد تقطع المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي!

خبرة الأسماك في مهاجرتها الجماعية في أعماق البحار.

كل ذلك من المسائل العلمية المسلّم بها، كما أنّها دليل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراك أو الغريزة ـ أو ما شئت فسمه ـ في هذه الحيوانات!.

وجود الحواس غير الطبيعية في الحيوانات ـ كالرادار للخفاش، وحاسة الشم القوية في بعض الحشرات، والنظر الحاد عند بعض الطيور، وأمثالها، دليل آخر على أنّها ليست متخلفة عنّا في كل شيء!

فمع الأخذ بنظر الإعتبار جميع ما بيّناه، لا يبقى مجال للعجب من أن لهذه الحيوانات تكلماً ونطقاً خاصاً، وأنّها تستطيع أن تتكلم مع الإنسان الذي يعرف، «ألف باءها»... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إلى هذا المعنى، ومنها الآية (38) من سورة الأنعام (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم )(1).

وفي الرّوايات الإسلامية أُمور كثيرة أيضاً، تكشف عن نطق الحيوانات وخاصة الطيور.. وحتى أنّه نقل لكلّ «منطقٌ» هو بمثابة الشعار، بحيث يطول

_____________________________

1 ـ كان لنا بحث آخر ذيل الآية (38) من سورة الأنعام.

[ 33 ]

المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصيل(1).

ففي رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق أنّه قال: قال أميرالمؤمنين علي لابن عباس «إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود ومنطق كل دابة في برّ أو بحر» (2).

 

4 ـ رواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»..

نقل أهل السنة في كتبهم المختلفة حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله) مضمونه أنّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة».. وربّما نقل الحديث في بعض الكتب بحذف الجملة الاّولى والاكتفاء بعبارة: «ما تركناه صدقة ».

وسند هذا الحديث ينتهي في كتب أهل السنة المشهورة إلى «أبي بكر» ـ غالباً ـ إذ تولّى بعد النّبي (صلى الله عليه وآله) زمام أُمور المسلمين، وحين طلبت منه سيدة النساء فاطمة(عليها السلام) أو بعض أزواج النّبيّ ميراثها منه امتنع عن دفع ميراث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليها استناداً إلى الحديث آنف الذكر.

وقد نقل هذا الحديث «مسلم» في صحيحه «الجزء 3 ـ كتاب الجهاد والسير ص 1379» و«البخارى» في الجزء الثامن من كتاب الفرائض ص 185، وجماعة آخرون في كتبهم.

ممّا يلفت النظر أن «البخاري» نقل في صحيحه حديثاً عن «عائشة» أنّها قالت: «إن فاطمة والعباس (عليهما السلام) أتيا أبابكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث... ما تركناه صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال... قال أبوبكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيه إلاّ صنعته «قال» فهجرته

_____________________________

1 ـ لمزيد الإطلاع يراجع تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 77، فما بعد..

2 ـ المصدر السابق، ص 81.

[ 34 ]

فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(1)!.

وبالطبع فإنّ هذا الحديث فيه مجال للنقد والطعن من جهات متعددة، إلاّ أنّنا نقتصر في هذا التّفسير على ذكر مايلي:

1 ـ إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع نصّ القرآن... ووفقاً للقواعد الأصولية التي عندنا، أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ساقط عن الإعتبار، ولا يمكن التعويل على أنّه حديث شريف من أحاديث النبي أو المعصومين(عليهم السلام).

ففي الآيات آنفة الذكر، ورد «وورث سليمان داود » وظاهر الآية مطلق يشمل حتى الأموال.. ونقرأ في شأن يحيى وزكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب ) «مريم الآية 6». ولا سيما في ما يخصّ زكريا، فإن كثيراً من المفسّرين أكّدوا على الأُمور المالية!.

إضافة إلى ذلك فإنّ ظاهر آيات الإرث في القرآن المجيد عام ويشمل جميع الموارد.

وربّما كان لهذا السبب أن يفسر «القرطبي» ـ مضطراً ـ الحديث على أنّه غالباً ما يكون كذلك، لا أنّه عام، وقال: هذا مثل قولهم: إنّا ـ معشَر العربِ ـ أقرى الناس للضيف، مع أن هذا الحكم غيرُ عام(2).

إلاّ أن من الواضح أن هذا الكلام ينفي «قيمة هذا الحديث...» لأنّنا إذا توسّلنا بهذا العذر في شأن سليمان ويحيى، فإنّ شموله للموارد الأُخرى غير قطعي أيضاً.

2 ـ إنّ الرّواية المتقدمة تعارض رواية أُخرى تدلّ على أن أبابكر صمّم على إعادة فدك إلى فاطمة(عليها السلام)، إلاّ أن الآخرين ما نعوه، كما نقرأ في سيرة الحلبي: إن فاطمة قالت له: من يرثُك؟! قال أهلي وولدي! فقالت: فما لي لا أرث أبي؟. وفي

_____________________________

1 ـ صحيح البخاري ـ الجزء الثامن، ص 185.

2 ـ تفسير القرطبى، ج 7، ذيل الآيات محل البحث، ص 4880.

[ 35 ]

كلام سبط بن الجوزي: إنّه كتب لها بفدك ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: فماذا تنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه(1).

ترى كيف يمنع النّبي(صلى الله عليه وآله) موضوع الإرث وينهى عنه بصراحة، ويجرؤ أبوبكر على مخالفته؟! ولم استند عمر إلى المسائل العسكرية وحاجة المعارك، ولم يستند إلى الرواية؟!

إن التحقيق الدقيق ـ في الروايات الآنفة ـ يدل على أن الموضوع لم يكن موضوع نهي النّبي عن الإرث، كما أثاره أبوبكر، بل المهم هنا المسائل السياسية آنئذ، وهذه المسائل هي ما تدعونا إلى أن نتذكر مقالة ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول: سألت أستاذي «علي بن الفارقي»: أكانت فاطمة، صادقةً؟ فقال: نعم. قلتُ: فلم لم يدفع اليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة؟ يقول: المعتزلى: فتبسم أستاذي، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجه الخلافة ولم يمكنه الإعتذار بشيء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعى كائناً ما كان من غير حاجة الى بينّة ولا شهود(2).

3 ـ الرواية المعروفة عن النّبي الواردة في كثير من كتب أهل السنّة والشيعة «العلماء ورثة الأنبياء» (3).

وما نقل عنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً» (4).

يُستفاد من مجموع هذين الحديثين أن الهدف الأساس للأنبياء نشر العلم، وهم يفخرون به، وأهم ما يتركونه هو الهداية. ومن يحصل على الحظ الكبير من

_____________________________

1 ـ سيرة الحلبي، ج 3، ص 488.

2 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج16، ص284.

3 ـ صحيح الترمذى، باب العلم، الحديث 19، وسنن ابن ماجة مقدمة الحديث 17.

4 ـ أصول الكافي، ج 1، باب صفة العلم، الحديث 2.

[ 36 ]

العلم والمعرفة فهو وارثهم الأصيل... بصرف النظر عن الأموال التي يرثها عنهم، ثمّ إن هذا الحديث منقول في المعنى، وعُبّر عنه تعبيراً سيئاً ويحتمل أن يكون (ما تركناه صدقة ) المستنبط من بعض الرّوايات مضاف عليه.

ولكي لا يطول بنا الكلام ننهي كلامنا ببحث للمفسر المعروف من أهل السنة «الفخر الرازي» الذي أورده ذيل الآية (11) من سورة النساء إذ يقول: من تخصيصات هذه الآية «آية الإرث» ما هو مذهب أكثر المجتهدين، أن الأنبياء(عليهم السلام)لا يورّثون، والشيعة خالفوا فيه.. رُوي أن فاطمة(عليها السلام) لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله(عليه السلام): «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.. ما تركناه صدقة».. فعند هذا احتجت فاطمة(عليها السلام) بعموم قوله: (للذكر مثل حظ الانثيين )وكأنّها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

ثمّ يضيف الفخر الرازي قائلا: إنّ الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، إلاّ أنّه غير جائز هنا وبيانه من ثلاثة أوجه:

«أحدها» : أنّه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا(عليه السلام): (يرثني ويرث من آل يعقوب ).. وقوله تعالى: (وورث سليمان داود ) قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين، لأنّ ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسباً جديداً مبتدأً، إنّما التوريث لا يتحقق إلاّ في المال على سبيل الحقيقة.

«وثانيها»: أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأمّا أبوبكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنّه ما كان يخطر بباله أن يرث من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يليق بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها؟ ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشدٌّ الحاجة؟!

«وثالثها»: يحتمل أن قوله: «ما تركناه صدقة» صلة «لا نورث» والتقدير (الذي تركناه صدقة) فذلك الشىء (لايُوَرَّثُ).

[ 37 ]

فإن قيل: لايبقى للرّسول خاصية في ذلك!

قلنا: بل تبقى الخاصية، لإحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء فبمجرّد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم!

والجواب: أنّ فاطمة رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبوبكر! الخ(1).

إلاّ أن من الواضح أن جواب الفخر الرازي لا يناسب الإستدلالات السابقة، لأنّه كما ذكرنا آنفاً ونقلناه عن المصادر المعتبرة عند أهل السنة... فإن فاطمة  لا  أنّها لم ترض بكلام أبي بكر فحسب، بل ظلّت واجـدةً و«غاضبة» عليه، فلم تكلمه حتى آخر عمرها سلام اللّه عليها!

ثمّ بعد هذا كلّه كيف يمكن أن يدّعي الإجماع في هذه المسألة، مع أنّ عليّاً وفاطمة(عليها السلام) والعباس وأضرابهم الذين تربّوا في مهبط الوحي ومركزه، كانوا مخالفين لهذا الرأي.

 

* * *

 

_____________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 9، ص 210.

[ 38 ]

الآيات

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالاِْنْسِ وَالْطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتّى إذَاْ أَتَوأ عَلَى وَادِ الَّنمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاَيُّهَا الَّنمْلُ اُدْخُلُوا مَسَـكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ  لاَ يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّنْ قَوْلِهَا وَقَـالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـلِحاً تَرْضـهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصّـلِحِينَ (19)

 

التّفسير

سُليمانُ في وادي النَمْلِ:

يستفاد من آيات هذه السورة، وآيات سورة سبأ أن «حكومة سليمان» لم تكن حكومةً مألوفة، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة، التي ورد قسم منها في هذه السورة، والقسم الآخر ورد في سورة «سبأ» أمّا ما ورد في هذه السورة من الأُمور الخارقة للعادة «حكومة سليمان على الجن، والطير، وإدراكه كلام النمل، وكلامه مع الهدهد».

وفي الحقيقة فإنّ الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى،

[ 39 ]

ونحن نعرف أن هذه الأُمور عند الله ـ في نظر الإنسان الموحّد ـ يسيرة وسهلة!.

وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى: (وحُشر لسليمانَ جنودُه من الجنّ والإنس والطير ).

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير، ومن أجل المحافظة على النظم. يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها (فهم يوزعون ).

«يُوزعون» من مادة (وزع ) على وزن (جمَعَ) ومعناه الحبس والإيقاف، وهذا التعبير متى أُطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

وكلمة «وزع» معناها الحرص والعلاقة الشديدة بالشيء، بحيث تمنع الإنسان عن الأُمور الأخرى.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنودسليمان كانوا كثيرين، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«وَحشر» فعل ماض من (الحشر) على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ، والتحرك نحو الميدان للقتال، وما أشبه ذلك.

ويستفاد من هذا التعبير ـ والتعبير التالي في الآية الأُخرى أنّ سليمان(عليه السلام)كان قد جمع جنوده وحرّكهم نحو نقطة ما، لكن هذه النقطة أية نقطة هي؟ وأين كان يتجه سليمان؟ ليس ذلك معلوماً على وجه الدقّة.

واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل، أنّها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم: بل هي منطقة على مقربة من «الشام».

وحيث أنّ هذا الموضوع لا تأثير له في الأُمور الأخلاقية والتربوية «للآية» لذلك لم تتطرق له الآية الكريمة.

وهناك ـ ضمناً ـ جدلٌ بين كثير من المفسّرين في أن الإنس والجن والطير،

[ 40 ]

هل كانوا جميعاً من جنود سليمان؟ فتكون (من) في الآية بيانية، أو أن قسماً منهم كان يؤلف جيشه وجنوده فتكون (من) تبعيضية.. ويبدو أن هذا بحث لا طائل تحته... لأنّ سليمان ـ دون أدنى شك ـ لم يكن حاكماً على وجه البسيطة كلها، بل كانت منطقة نفوذه وحكومته منطقة الشام وبيت المقدس، وقد يدخل بعض ما حولهما تحت سلطته وحكومته!.

كما يستفاد من الآيات التالية أنّه لم تكن له بعدُ سلطة على اليمن أيضاً.. وإنّما صارت اليمن تحت نفوذه بعد قصّة الهدهد و«تسليم ملكة سبأ» وإذعانها له.

وجملة (وتفقد الطير ) في الآيات التالية، تدلّ على أن هُدهداً واحداً كان ضمن الطير التي كانت تحت أمر سليمان، بحيث أنّه لما افتقده سأل عنه، فلو كانت الطيور جميعها تحت أمره وفيها آلاف الهداهد، لكان هذا التعبير غير صحيح «فتأملّوا بدقة» .

وعلى كل حال، فإنّ سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم (حتى أتوا على وادي النمل ).

فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة، كما تقول الآية: (قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون )(1).

ولنا كلام يسأتي ـ إن شاء الله ـ في كيفية اطّلاع النملة ومعرفتها بحضور سليمان وجنوده في تلك المنطقة، وكيف أوصلت صوتها إلى بقية النمل؟.

ويستفاد ضمناً من جملة (لا يشعرون ) أن عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأنّ مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم. (فتبسم ضاحكاً من قولها ).

هناك كلمات مختلفة عند المفسّرين في الشيء الذي أضحك سليمان،

_____________________________

1 ـ قال بعض المفسّرين: إن (التاء) في النملة للوحدة، وتأنيث الفعل مراعاة لظاهر الكلمة!..

[ 41 ]

والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان، بحيث تُحذّر نملة صويحباتها من النمل... تحذرهنّ من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون: فضحك من أجلها!

وقال بعضهم: كان ضحك سليمان سروراً منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.

وقال بعضهم: كان ضحكه وتبسمه لأنّ الله أعطاه هذه القدرة، وهي أنّه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنّه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.

وعلى كل حال، فإن سليمان توجه نحو الله.. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله (وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي )(1).

أي، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك، ولا أنحرف عن طريق الحقّ.. فإن أداء شكر هذه النعم لا يكون إلاّ بتوفيقك وإعانتك. (وأن أعمل صالحاً ترضاه ) وهو يشير إلى أن بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه، بل المهم أن يؤدي عملا صالحاً يرضي به ربّه، وحيث أن «أعمل» فعل مضارع فهو دليل على طلب استمرار التوفيق من قبل الله له.

والطلب الثّالث الذي طلبه سليمان من ربّه، كما حكته الآية، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )..

 

* * *

 

_____________________________

1 ـ «أوزعنى» من مادة (إيزاع) ومعناه «الإلهام»، أو المنع عن الإنحراف، أو إيجاد العشق والتعلق، إلاّ أن أغلب المفسّرين اختاروا المعنى الأوّل.

[ 42 ]

بحوث

1 ـ معرفة سليمان بلغة الحيوانات ومنطقها

ليس لنا كثيرُ معرفة بعالم الحيوانات... وما يزال الغموض أو الإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله، بالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.

إنّنا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها.. فبناء خلايا النحل بشكلها المنظّم الدقيق، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدوّ، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض، والعثور على بيوتها وأوكارها من الاماكن البعيدة، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها... وتوقّعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.

كل هذه الأُمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيراً من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلّها!.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ كثيراً من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية... يعجز عنها حتى الانسان.

إلاّ أنّه ليس من الواضح أنّ هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس!.. ترى هل تعلم الحيوانات واقعاً: من نحن؟! وما نعمل؟ وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاءً بهذا المستوى، إلاّ أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها.

فعلى هذا الحساب إذا كنّا قرأنا في القصّة السابقة.. أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده، وحذر من البقاء، وأنّه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده.. وسليمان عرف هذا الموضوع تماماً.. فلا مجال للعجب.

ثمّ بعد هذا فإن حكومة سليمان ـ كما قلنا آنفاً ـ كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسّرين اعتقادهم بأن هذا

[ 43 ]

المستوى من الإطلاع والمعرفة ـ من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان، هو بنفسه إعجاز خارق للعادة، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور والقرون.

والغرض أنّه لا دليل عندنا على حمل قصّة سليمان والنمل، أو سليمان والهدهد، على الكناية أو لسان الحال، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي(1)!

 

2 ـ سليمان وإلهامه الشكر لله

إن واحدةً من أفضل العلامات لمعرفة الحكام الإلهيين وتمييزهم عن الحكام الجبابرة، هي أن الجبابرة حين يصلون إلى القدرة يغرقون في الغرور والغفلة، وينسون القيم الإنسانية كلّها... ويندكّون بشدّة في أنانيتهم!

إلاّ أن الحكام الإلهيين حين ينالون القدرة يحسّون بأعباء المسؤولية.. فيتوجهون نحو الله أكثر من أي وقت مضى، ويسألونه العون والقدرة على أداء رسالتهم... كما أن «سليمان» بعد أن وصل إلى تلك القدرة. كان أهم شيء عنده أن يسأل الله الشكر على نعمه، والإفادة من هذه المواهب في مسير رضاه وسعادة عباده!.

وممّا يلفت النظر أن يبدأ طلبه بعبارة (أوزعني ) ومفهومه الإلهام الوجداني وإعداد القوى الباطنية كلها لأداء هذا الهدف الكبير. ومعناها: اللّهم تفضل علي بقدرة وطاقة تجعلني أعبىءُ كل قواي الداخلية لأداء شكرك، وأداء ما عليّ من مسؤولية.. ودلّني على السبيل إليك، لأنّ الطريق طويل صعب محفوف

_____________________________

1 ـ تحدثنا في تفسير الآية (38) من سورة الأنعام عن هذا الشأن أيضاً..

[ 44 ]

بالمخاوف والمخاطر.. طريق أداء حقوق جميع الناس في مثل هذه الحكومة الواسعة.

إنّه لا يطلب الإيزاع على شكر نعم الله عليه فحسب، بل يطلب في الوقت ذاته أن يؤدي الشكر على المواهب والنعم التي أنعمها الله على والديه... لأنّ كثيراً من مواهب وجود الإنسان يرثها عن والديه... وممّا لا شك فيه أن الإمكانات التي يمنحها الله للوالدين تعين الأبناء كثيراً في سبيل الوصول لأهدافهم.

 

3 ـ سليمان والعمل الصالح

ممّا يلفت النظر أن سليمان رغم حكومته وسلطنته التي لا نظير لها، وتلك القدرة الواسعة، إلاّ أنّه يطلب من الله يوفقه للعمل الصالح باستمرار، وأهم من ذلك وأسمى أن يكون في زمرة عباده الصالحين.

ويستفاد من هذا التعبير:

أوّلا: أنّ الهدف النهائي من نيل القدرة هو أداء العمل الصالح، العمل الجدير القيّم... وكل ما سواه يعدّ مقدمة له!.

والعمل الصالح مقدمة ـ أيضاً ـ لنيل رضا الله ـ الذي هو الهدف النهائي وغاية الغايات.

ثانياً: أنّ الدخول في زمرة «الصالحين» مرحلة أسمى من مرحلة أداء العمل الصالح، لأنّ الأوّل يعني صلاح الذات، والثّاني صلاح العمل «لاحضوا بدقّة».

وبتعبير آخر: قد يقوم الإنسان بعمل صالح، إلاّ أن هذا المعنى لا يعدّ جزءاً من ذاته وروحه ونسيج وجوده، فسليمان(عليه السلام) يطلب من الله أن يشمله بعنايته إلى درجة يتجاوز بها مرحلة كونه يعمل صالحاً، لينفد الصلاح إلى أعماق وجوده وروحه، ولا يمكن تحقق هذا إلاّ برحمة الله.

[ 45 ]

فكم هو عزيز وغال أن يكون الإنسان عبداً صالحاً لله، بحيث يطلب سليمان من ربّه أن يدخله في عباده الصالحين، على الرغم من جاهه وحشمته وجلاله الذي لا يشك فيها أحد، وأن يحفظه الله من العثرات والزلات في كل آن، وخاصّة ما قد يصدر من الانسان وهو على رأس هيئة عظيمة وتشكيلات واسعة!

 

* * *

[ 46 ]

الآيات

وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مالِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغآئِبِينَ (20) لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدَاً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّى بِسُلْطَـنِ مُّبِين (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأِ بِنَبَأ يَقين (22) إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَـا وَقَومَهَا يِسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ  لاَ يَهْتَدُونَ (24) ألاَ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

 

التّفسير

قصّة الهُدهد وملكة سبأ:

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمان(عليه السلام)المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ.

[ 47 ]

فيقول أوّلا: (وتفقّد الطير ).

وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء، حتى لو كان طائراً واحداً.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهُدهد، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام (وقال ما لي لا أرى الهُدهد أم كان من الغائبين ).

وهناك كلام بين المفسّرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.

فقال بعضهم: كان سليمان(عليه السلام) عندما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.

وقال بعضهم: كان الهدهد مأموراً من قبل سليمان بالتقصيّ عن الماء كلما دعت الحاجة إليه... وعندما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرّة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.

وعلى كل حال، فهذا التعبير (ما لي لا أرى الهُدهد ) ثمّ قوله: (أم كان من الغائبين )لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أولغير عذر؟

وعلى أيّة حال، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شىء يجري داخل اطار الدولة تحت نظرها ونفوذها.. حتى وجود طائر واحد وغيابه، لابدّ أن لا يخفى عن علمها و نظرها... وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهُدهد على بقية الطيور، فضلا عن الاشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف «سليمان» قائلا: (لأُعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ).

والمراد من «السلطان» هنا هو الدليل الذي يتسلط به الإنسان من أجل إثبات قصده، وتأكيد هذا اللفظ بـ «مبين» هو أنّه لابد لهذا الفرد المتخلف من

[ 48 ]

إقامة دليل واضح وعذر مقبول لتخلفه!

وفي الحقيقة فإنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلّف... وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب... مرحلة العقاب بما دون الاعدام، ومرحلة العقاب بالإعدام.

وقد برهن «سليمان» ضمناً أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعوّل على القوّة والقدرة أبدا.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل (فمكث غير بعيد ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: (فقال أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ).

وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم، أخبره أوّلاً بخبر مقتضب مهم الى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه، برغم ما عنده من علم، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان، فصّلَ الهدهد له الخبر، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ جنود سليمان ـ حتى الطيور الممتثلة لأوامره ـ كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول: (أحطت بما لم تحط به ).

فتعامل الهدهد «وعلاقته» مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة.. إذ يتملقون في البدء مدة طويلة، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبداً، بل يكنّون كنايةً أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.

أجل، إنّ الهُدهد قال بصراحة: غيابي لم يكن اعتباطاً وعبثاً... بل جئتك بخبر يقين «مهم» لم تحط به!

وهذا التعبير درس كبير للجميع، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد

[ 49 ]

يعرف موضوعاً لا يعرفه أعلم من في عصره، لئلا يكون الإنسان مغروراً بعلمه... حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.

وعلى كل حال، فإنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال: (إنّى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ).

لقد بيّن الهُدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته!

فقال أوّلاً: إنّه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات، والآخر إنّني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم، والثّالث: لها عرش عظيم ـ ولعله أعظم من عرش سليمان ـ لأنّ الهدهد كان رأى عرش سليمان حتماً، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنّه عظيم.

وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنّه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت «نفوذ أمرك وحكومتك»! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم...

ولما سمع سليمان(عليه السلام) كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلاّ أن الهُدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد.. خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم ) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق (فصدهم عن السبيل ).

وقد غرقوا في عبادة الاصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم (فهم لا يهتدون ).

وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضاً، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروّج عبادة الشمس... والناس على دين ملوكهم.

معابدهم وأوضاعهم الأُخرى تدل على أنّهم سادرون في التيه، ويتباهون

[ 50 ]

بهذا الضلال والإنحراف، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد، فمن البعيد إمكان هدايتهم.

ثمّ أضاف الهُدهد قائلا: (ألاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون )(1).

وكلمة «خَبء» على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض، أي: لِمَ لا يسجدون لله الذي يعلمُ غيب السماوات والأرض وما فيهما من أسرار؟!

وما فسّره بعضهم بأن الخبء في السماوات هو الغيث، والخبء في الأرض هو النبات، فهو ـ في الحقيقة ـ من قبيل المصداق البارز.

والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلاً عما خفي في السماوات والأرض، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!.

إلاّ أنّه لِمَ استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره و صغيره؟!

لعل ذلك لمناسبة أن سليمان ـ بالرغم من جميع قدرته ـ كان يجهل خصائص بلد سبأ، فالهدهد يقول: ينبغي الإعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.

أو لمناسبة أنّه ـ طبقاً لما هو معروف ـ للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض... لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.

وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا (الله لا اله إلاّ هو ربّ العرش العظيم ).

_____________________________

1 ـ كلمة «ألاّ» مركبة من (أن ولا) كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسّرين، وهي متعلقة بجملة (فصدهم) أو «زين لهم الشيطان» وقدروا لها اللام فتكون الجملة هذا النحو من التقدير «صدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله» إلاّ أن الظاهر أن (ألاّ) حرف تحضيض ومعناه (هلاّ) وكما قلنا في المتن فإنّ هذه الجملة من كلام الهدهد تعقيباً على ما سبق، وإن كان هناك من يقول بأنها استثنافية وإنها من كلام الله..

[ 51 ]

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى «توحيد العبادة» و«توحيد الرّبوبية» لله تعالى. مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

* * *

 

ملاحظتان

أ ـ الدروس التعليميّة

ما قرأناه في هذا القسم من الآيات، فيه لطائف كثيرة ومسائل دقيقة، يمكن أن يكون لها كبير الأثر في حياة الناس وسياسة الحكومات جميعاً.

1 ـ فرئيس الحكومة أو المدير العام، ينبغي عليه أن يكون دقيقاً في دائرته أو تشكيلاته التنظيمية، بحيث يتابع حتى غياب الفرد الواحد ويتفقده!

2 ـ أن يراقب تخلف الفرد، وأن يتخذ الحكم الصارم، لكيلا يؤثر غيابه على الآخرين.

3 ـ لا ينبغي أن يُصدر حكماً غيابياً أبداً دون أن يمنح المتخلف الفرصة للدفاع عن نفسه، مع الإمكان.

4 ـ ينبغي أن يجعل لكل جريمة عقاباً مناسباً... وأن يكون العقاب بمقدار الذنب، وأن يراعي سلسلة مراتبه.

5 ـ أن على أي شخص ـ حتى لو كان أكبر الناس، أو بيده أعظم المسؤوليات والقدرة الإجتماعية ـ أن يذعن للمنطق والدليل حتى ولو صدر من فم أضعف الخلق!.

6 ـ ينبغي أن تحكم الصراحة في محيط المجتمع، وأن يتمتع أفراده بالحرية بحيث يستطيع الواحد منهم عند اللزوم أن يقول لرئيس الحكومة: (أحطت بما لم تُحط به )!

7 ـ من الممكن أن يكون أقل ا لأفراد على اطلاع ومعرفة، في حين أنّ أكبر

[ 52 ]

العلماء وأصحاب النفوذ غير مطلعين، لكيلا يغتر أىّ إنسان بعلمه!

8 ـ في المجتمع البشري حاجات وضرورات متبادلة، بحيث قد يحتاج أكبر شخص فيه ـ كسليمان مثلا ـ إلى مساعدة أدنى شخص حتى ولو كان مثل الهدهد!

9 ـ بالرغم من أن في النساء قابليات كثيرة! وقصّة سليمان نفسها حاكية عن أن ملكة سبأ كانت تتمتع بدراية كبيرة وفهم عال، إلاّ أنّ قيادة الحكومة لا تتلاءم مع حالة المرأة وروحها وجسمها، بحيث يتعجب الهدهد من هذه المسألة ويقول: (إنّي وجدت امرأة تملكهم )!

10 ـ أغلب الناس على دين ملوكهم.. لذلك نقرأ في هذه القصّة أن الهدهد يقول في شأن الملكة وقومها: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ).

يتحدث الهدهد أولا عن سجودها ثمّ عن سجود قومها.

 

ب ـ الجواب على بعض الأسئلة

للمفسرين هنا بعض الأسئلة، ومنها: كيف لم يُحط سليمان(عليه السلام) بمثل هذه البلدة مع ما لديه من علم وإمكانات وفيرة في حكومته؟.

ثمّ كيف طوى الهدهد هذه المسافة بين اليمن ومركز حكومة سليمان الّذى كان في الشام «على ما يظهر»؟

وهل كان الهدهد قد ضل الطريق ثمّ اهتدى إلى ذلك المكان، أو كان له غرض آخر؟!

أمّا في ما يخص السؤال الأوّل فيمكن أن يُجاب عنه بأن سليمان(عليه السلام) كان ذا علم بوجود هذه البلدة، إلاّ أنّه لم يعرف خصائصها، ثمّ إن صحراء الحجاز كانت تفصل بين اليمن والشام، ولم تكن وسائل المواصلات بين البلدان يومئذ كما هي

[ 53 ]

عليه في يومنا هذا «وبالطبع فإنّ علمه عن طريق الغيب والإلهام الإلهي موضوع آخر».

وأمّا قطع المسافة من قبل الهدهد، فأنّها لم يكن عسيرة عليه.. لأنّنا نعرف بعض الطيور التي تقطع المسافة بين القطبين.. والفاصلة بين الشام واليمن إزاء تلك المسافة لا تعدّ شيئاً.

وأمّا مجيء الهدهد إلى سبأ فكان ـ كما تقول بعض التواريخ ـ أنّ سليمان عزم على زيارة بيت الله الحرام، فتوجه من الشام ليؤدي مناسك إبراهيم(عليه السلام) «أى الحج»، وفي مسيره رغب في السير نحو الجنوب، فواصل منطقةً لا تبعد عن اليمن كثيراً.. فاغتنم الهدهد الفرصة عندما استراح سليمان في تلك المنطقة وجاء إلى قصر ملكة سبأ فرأى ما رأى من المشهد المثير العجيب(1).

 * * *

_____________________________

1 ـ لا بأس بمراجعة دائرة المعارف لمحمّد فريد وجدي، ج 10، ص 470 مادة «الهدهد» بالرغم من أن الرّواية المذكورة هناك لم تخل من المبالغات!..




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21395365

  • التاريخ : 16/04/2024 - 22:17

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net