00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الشعراء من آية 176 ـ 227 من ( ص 446 ـ نهاية ج 11 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[446]

 الآيات

 كَذَّبَ أَصْحـبُ الئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(177) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (180)أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونوُاْ مِنَ الُْمخْسِرِينَ(181) وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182) وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(183) وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ(184)

 

التّفسير

شعيب وأصحابُ الأيكة:

هذه هى القصّة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة... وهي قصة «شعيب»(عليه السلام) وقومه المعاندين.

كان هذا النّبي يقطن في «مدين»، «وهي مدينة تقع جنوب الشامات».

و «أيكة» على وزن (ليلة) «قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين».

[447]

والآية (79) من سورة الحجر تدل على أن «أيكة» كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام.

تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين).

إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيباً فحسب، بل كذبوا جميع الأنبياء، لأنّ دعوتهم واحدة... أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبداً...

والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من «مدين»، سمّيت بذلك لأن فيها أشجاراً كثيرة وماءً وظلالا!... والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة، وربّما كانوا لهذه الأُمور غرقى الغرور والغفلة!...

ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب(عليه السلام) وعنهم فيقول: (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون).

وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب(عليه السلام) انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدُّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والإِجتماعية جمعاء...

والجدير بالذكر أن التعبير «أخوهم» الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط(عليهم السلام)، لم يُلاحظ هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن «شعيباً» كان من أهل مدين أصلا ـ وتربطه باهلها روابط نسبية، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة... ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال «شعيب» إلى قومه من أهل مدين يقول: (وإلى مدين أخاهم شعيباً) إلاّ أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة، وشعيب(عليه السلام) لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير «أخاهم»...

ثمّ أضاف شعيب قائلا: (إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون)فطاعتكم

[448]

لي طاعة لله.

واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).

وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أُمَمهم، فهي متحدة المآل ومدروسة، إذ تدعو إلى التقوى، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب، وليس ورائها هدف مادي، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين، ليكون مثاراً للشكوك وذريعةً للمتذرعين!

و «شعيب» كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والإجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الإضطراب الإقتصادي، والإستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس(1)المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة!...

ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه

_____________________________

 

1 ـ «القسطاس»

، «على وزن نِسناس» معناه «ميزان»... قال بعضهم: أصل هذه الكلمة روميّة، وقال بعضهم. بل هي عربية، ويعتقد بعضهم أن القسطاس ميزان كبير، أما الميزان نفسه المستعمل في لغة العرب فهو الصغير، وقالوا: إن للقسطاس مؤشراً ولساناً فهو لذلك دقيق الوزن!...

[449]

الحقيقة... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.

ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة... وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن «وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة»...

وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!...

وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً.

فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!

ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس المستقيم، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس

[450]

أشياءهم...

ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور.

وبعد اتضاح هذين التعبيرين (وأوفوا الكيل ... وزنوا القسطاس) نأتي الى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من «البخس»، وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين... فبناءً على ما تقدم، فإن الجملة الآنفة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين!

وأمّا جملة (ولا تكونوا من المخسرين) فمع ملاحظة أن «المخسر» هو من يوقع الآخر أو الشيء في الخسران... فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!

وهكذا فإنّ جميع ما ذُكر من الإستغلال وسوء الإِستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار، سواءاً كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر...

وحيث أن الإضطراب الإقتصادي، أو الأزمة الإقتصادية، أساس لا ضطراب المجتمع، فإنّ شعيباً يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط، فعليكم أن تضعوا حدّاً لأي نوع من الإستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين.

وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب،

[451]

بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى العدالة الإقتصادية!...

ثمّ إن «شعيباً» في آخر تعليماته ـ في هذا القسم ـ يدعوهم مرد اُخرى إلى تقوى الله فيقول: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين).

فلستم أول قوم أو جماعة خُلقوا على هذه الأرض، فآباؤكم والأمم الاُخرى جاءوا وذهبوا، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه...

(الجبلة» مأخوذة من (الجبل) وهو معروف «ما ارتفع من الأرض كثيراً» ويسمى الطود أحياناً... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة...

قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف!

كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أن الجبل لا يتغيّر عادةً...

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيباً يقول: إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة...

إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق، فأجابوه بمنطق «مُرّ وفظ» سنقرؤه في الآيات المقبلة...

 

* * *

]452]

 

 

الآيات

 

قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185) وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـذِبِينَ(186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(187) قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْم عَظِيم(189) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)

 

التّفسير

عاقبة الحمقى:

لما رأى قوم شعيب الظالمون ـ أنّهم لا يملكون دليلا ليواجهوا به منطقه المتين... ومن أجل أن يسيروا على نهجهم ويواصلوا طريقهم، رشقوه بسيل من التُهم والأكاذيب.

فالتهمة الأُولى هي ما يلصقها الجبابرة دائماً والمجرمون بالأنبياء، وهي

]453]

السحر فاتّهموه بها و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين)(1) ولايُرى في كلامك ما هو منطقي!! وتظن أنّك بهذا الكلام تستطيع تقييد حريتنا في التصرف في أموالنا كما نشاء!!

ثمّ ما الفارق بينك وبيننا لنتّبعك؟! ولا مزيّة لك علينا (وما أنت إلاّ بشر مثلنا وإن نظنُّك لمن الكاذبين).

وبعد إلقاء هذا الكلام المتناقض، إذ تارةً يدعونه (من الكاذبين) ورجلا انتهازياً، وتارةً يدعونه مجنوناً أو من المسحّرين، وكان كلامهم الأخير هو: إن كنت نبيّاً (فاسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين) حيث كنت تهددنا دائماً بهذا اللون من العذاب.

و «كِسَف» على وزن (فِرَق) جمع (كِسْفَة) على وزن (قطعة) ومعناها قطعة أيضاً والمراد من هذه «القطع من السماء» هي قطع الأحجار التي تهوي من السماء...

وهكذا يبلغ بهم صلفهم ووقاحتهم وعدم حيائهم إلى هذه الدرجة، وأظهروا كفرهم وتكذيبهم في أسوأ الصور.

إلاّ أن شعيباً(عليه السلام)، وهو يواجه هذه التعبيرات غير الموزونة والكلمات القبيحة وطلبهم عذاب الله، كان جوابه الوحيد لهم أن (قال ربّي أعلم بما تعملون)...

و يشير إلى أنّ الأمر خارج عن يدي، وأن إنزال العذاب وإسقاط الكسف من السماء غيرُ مخول بها ليطلب كل ذلك منّي... فالله يعرف أعمالكم ويعلم بها، وما أنتم أهل له، فمتى لم تنفع المواعظ وتمّت الحجّة اللازمة، فإنّ عذابه لا مرد له وسيقطع دابركم لا محالة!...

وهذا التعبير وأمثاله ممّا يردُ على لسان الأنبياء، وما نلاحظهُ في آيات

_____________________________

 

1 ـ «المسحّر»

كما أشرنا من قبل إليه، هو المسحور... أو الذي يقع عليه السحر من قبل السَحَرة، لينفذوا في عَقلِه ويبطلوا عمله!!

[454]

القرآن يدل على أنّهم كانوا يوكلون جميع الأُمور إلى الله، وإنّها بإذنه وأمره، ولم يدّعوا أنّهم قادرون على كل شيء، أو أنّهم يفعلون ما يشاءون!.

وعلى كل حال فإن عذاب الله أزف موعده ـ وكما يعبر القرآن عنه في الآية التالية قائلا: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم).

«الظلة» في الأصل معناها القطعة من السحاب المظلّل: أي ذي الظل...

يقول أغلب المفسّرين في ذيل هذه الآية: إن حرّاً شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيّام، ولم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد السبعة أيّام ـ وتحرك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، واستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ.

وفجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، واحرقتهم بنارها وزلزلت الأرض وهلكوا جميعاً.

ونعرف أن الصاعقة تنتج عن تلاقح القوى أو «الطاقة» الموجبة والسالبة، أو ما يعبر عنها بالشحنات الكهربائية وحين تتلاقح هذه الشحنات بين السحاب والأرض ينتج عنها صوت مرعب وشعلة موحشة، وقد تهتز الأرض عند وقوعها فيتزلزل محل سقوطها... وهكذا يتّضح أن اختلاف التعابير في آيات القرآن الواردة عن عذاب قوم شعيب، يعود إلى حقيقة واحدة! ففي سورة الأعراف جاء التعبير بالرجفة (الآية (91) وفي سورة هود جاء التعبير بالصيحة (الآية 94) أمّا في الآيات محل البحث فقد جاء التعبير بـ (عذاب يوم الظلة)...

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين «كالقرطبي والفخر الرازي وغيرهم» يحتمل أن أصحاب الأيكة وأهل مدين كانوا جماعتين أو طائفتين، وكل طائفة نزل عليهم عذاب خاص، إلاّ أنه مع ملاحظة هذه الآيات المتعلقة بهذا القسم ـ بدقة ـ يتجلّى أن هذا الإِحتمال غير وارد!...

وتُختتم القصّة هذه بما خُتمت القصص الست السابقة عن أنبياء الله الكرام، إذ

]455]

يقول القرآن: إن في حكاية أصحاب الايكة ودعوة نبيّهم شعيب وعنادهم وتكذيبهم، وبالتالي نزول العذاب على هؤلاء المتكبرين درس وعبرة لمن اعتبر (إن في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين).

ومع ذلك كله فإن الله رحيم ودود يمهلهم لعلهم يرجعون ويصلحون أنفسهم، فإذا تمادُوْا في الغي واستوجبوا عذاب الله، أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

أجل (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).

* * *

 

بحوث

1 ـ الإنسجام التام في دَعَوات الأنبياء

في ختام قصص هؤلاء الأنبياء السبعة نجة أن هذه القصص تشكّلُ حلقة كاملة من حيث الدروس التربوية... وينبغي أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة»(1) وهي أن قصص هؤلاء الأنبياء جميعاً جاءت في سور أُخَر من القرآن أيضاً. إلاّ أنها لم تُعرَض بهذا العرض بحيث نجد أن بداية دعوتهم منسجمة، كما أنّ نهاياتها منسجمة أيضاً.

ولوحظ في خمسة أقسام من هذه القِصص أن محتوى الدعوة هو تقوى الله، ثمّ الإشارة إلى أمانة النّبي، وعدم مطالبته قومه بالأجر على تبليغه إيّاهم... وبعد هذه المسائل تعالج المسائل الإجتماعية، والإنحرافات الأخلاقية، من قبل الأنبياء بلغة تنمّ عن الإشفاق والمحبة...

ثمّ يبيّن القرآن ردّ فعل الاُمم المنحرفة تجاه أنبيائهم، وأخيراً عاقبتهم الوخيمة، ويذكر عذاب كل منهم وكيفيته...

_____________________________

 

1 ـ اللطيفة، ممّا لطف ودقّ وهي الشيء الخفي الذي يحتاج إلى دقة لإدراكه. (المصحح)

[456]

وفي نهاية كل من هذه القصص السبع يشير القرآن إلى أن في ذلك آية وأن أكثرهم لا يؤمنون...

ثمّ يؤكّد القرآن أيضاً في نهاية كل قصّة منها على قدرة الله (وعزته) ورحمته.

وهذا الإنسجام ـ قبل كل شيء ـ يدلُّ على تجلي مفهوم وحدة دعوات الأنبياء، بحيث كانوا ذوي منهج واحد وبداية واحدة ونهاية واحدة... وجميعهم كانوا معلمي مدارس الإنسانية... وبالرغم من أنّ محتوى هذه المدارس كان ينبغي أن يتغيّر بتقدم الزمن والمجتمع الإنساني، إلاّ أنّ الاُصول والنتائج تبقى على حالها.

ثمّ بعد هذا كله، فإن هذه القصص كانت تسرّي عن قلب النّبي والمؤمنين القلّة في ذلك العصر (والمؤمنون في كل عصر) وتسلّي خاطرهم، لئلا يحزنوا وييأسوا من كثرة المشركين والأعداء الضالين، وأن يثقوا ويتوقعوا العاقبة لهم... وأن يكون أملهم بذلك كبيراً...

كما أن ذلك إنذار للجبابرة والمستكبرين والظالين ـ في كل عصر وزمان ـ لئلا يتصوروا بأنّ عذاب الله بعيد عنهم... العذاب بأنواعه كالزلزلة والصاعقة، والطوفان والبركان... وانشقاق الأرض والخسف، والأمطار الغزيرة التي تعقبها السيول المدمّرة، والإنسان المعاصر ضعيف أمامها كضعف الإنسان الغابر... لأن الإنسان المعاصر ـ بالرغم من جميع قواه وتقدمه الصناعي عاجز أمام الطوفان والصاعقة والزلزلة... ويبقى ضعيفاً لا حول له ولا طول!...

كل ذلك من أجل أن الهدف من قصص القرآن هو تكامل الناس وبلوغهم الرشد، والهدف تنوير القلوب ومعالجة الهوى بالتعقّل... وأخيراً فإنّ الهدف هو مواجهة الظلم والإنحراف...

 

[457]

2 ـ التقوى، بداية دعوة الأنبياء جميعاً:

ممّا يلفت النظر أن قسماً مهماً من قصص هؤلاء الأنبياء ـ الوارد ذكرهم في سورة الشعراء ـ ذكر في سورة هود والأعراف، إلاّ أن في بداية ذكرهم وبيان سيرتهم في اقوامهم الدعوة إلى وحدانية الله ـ عادةً ـ ويُبتدأ في تلك السور عند ذكرهم. بجملة (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره)!

إلاّ أنّه في هذه السورة (الشعراء) ـ كما لاحظنا ـ كانت بداية دعوتهم قومهم (ألا تتقون)... والحق أنّهما تعودان إلى نتيجة واحدة... لأنّه إذا لم تُوجد في الإنسان أدنى مراتب التقوى، وهي طلب الحق، فإنه لا يؤثر فيه شيء، لا الدعوة إلى التوحيد ولا غيرها... لذا فإنّنا نقرأ في بداية سورة البقرة قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).

وبالطبع فإنّ التقوى لها مراحل ـ أو مراتب ـ وكل مرتبة هي درجة للرقي إلى المرحلة التالية أو المرتبة الأُخرى...

كما نلاحظ اختلافاً آخر بين هذه السورة وسورتي الأعراف وهود، ففي سورتي الأعراف وهود كانت دعوة الأنبياء تتركز على نبذ الأصنام، أمّا المسائل الأُخَر فكانت تحت الشعاع، إلاّ أنه في سورة الشعراء هذه تتركز الدعوة على مكافحة الإنحرافات الأخلاقية والإجتماعية، كالمفاخرة وطلب الإستعلاء، والإسراف، والإنحراف الجنسي، والإستثمار والتطفيف. إلخ... وهذا الأمر يكشف بأن تكرار هذه القصص في القرآن له حساب خاص، ولكلٍّ هدف معين يعرف من السياق!

 

3 ـ الانحرافات الاخلاقية

ممّا يلفت النظر أنّ الاقوام المذكورين في هذه السورة، بالإضافة إلى انحرافهم عن أصل التوحيد نحو الشرك وعبادة الاوثان، الذي يعدّ أصلاً مشتركاً

]458]

بينهم، فإنهم كانوا متورطين بانحرافات أخلاقية واجتماعية خاصّة «وكل قوم لهم انحرافات خاصّة»...

فبعضهم كانوا أهل مفاخرة وتكبر ... كقوم هود(عليه السلام).

وبعضهم كانوا أهل إسراف وترف كقوم صالح(عليه السلام).

وبعضهم كانوا مبتلين بالإنحراف الجنسي كقوم لوط(عليه السلام).

وبعضهم كانوا عبدة المال بحيث كانوا يتلاعبون بالمعاملات كقوم شعيب(عليه السلام).

وبعضهم كانوا مغرورين بالثروة كقوم نوح(عليه السلام).

إلاّ أن عقابهم كان متشابهاً إلى حدٍّ ما، وكانت نهايتهم الهلاك...

فبعضهم أهلكوا بالصاعقة والزلزلة كقوم شعيب وقوم لوط وقوم صالح وقوم هود.

وبعضهم أهلكوا بالطوفان كقوم نوح(عليه السلام)

وفي الحقيقة، فإن الأرض التي هي مهد للدعة والإطمئنان، وكانوا يمرحون عليها، أُمرت بإهلاكهم!...

والماء والهواء الذين هما سببا حياتهم نفذا الامر بإماتتهم!

وما أعجب أن تكون حياة الإنسان في قلب الموت، وموته في قلب الحياة، وهو مع كل ذلك غافل مغرور!

 

* * *

[459]

 

 

الآيات

 

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الُّروحُ الاَْمِينُ (193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194) بِلِسَان عَرَبِىٍّ مُّبِين (195)وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ(196) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَـؤُاْ بَنِى إِسْرءِيلَ(197)

 

التّفسير

عظمة القرآن في كُتُبِ «السابقين».(1)

بعد بيان سبع قصص عن الأنبياء السابقين، والعبر الكامنة في تأريخ حياتهم، يعود القرآن مرة أخرى إلى البحث الذي شرعت به السورة، بحث عظمة القرآن وحقانية هذا الكلام الإلهي المبين، إذ يقول: (وإنّه لتنزيل ربّ العالمين).

وأساساً فإن بيان جوانب مختلفة عن سير الأنبياء السابقين بهذه الدقة والظرافة، والخو من أي نوع من الخرافات والأساطير الكاذبة، وفي محيط مليء بالأساطير والخرافات، ومن قِبَلِ إنسان لا يعرف القراءة والكتابة، أو لم يسبق له

_____________________________

 

1 ـ كلمة «السابقين» نعت ومنعوته محذوف وتقديره الأنبياء (المصحح).

]460]

أن تعلمهما... كل ذلك بنفسه دليل على أن هذا الكتاب تنزيل من ربّ العالمين، وهذا نفسه دليل على إعجاز القرآن!!

لذلك تضيف الآية التالية قائلةً: (نزل به الروح الأمين).

ولو كان القرآن لم يُنزله ملك الوحي «الروح الأمين من قِبَلِ الله» لم يكن بهذا الإشراق والصفاء والخلو من الخرافات والأساطير والأباطيل...

وممّا يلفت النظر أن ملك الوحي وصف بوصفين في الآية: الأوّل أنّه الروح، والوصف الثّاني أنّه الأمين...

فالروح هي أساس الحياة، والأمانة، هي شرط أصيل في الهداية والقيادة!...

أجل، إن هذا الروح الأمين نزل بالقرآن (على قلبك لتكون من المنذرين).(1)

فالهدف هو أن تنذر الناس، وأن تحذرهم من مغبة الإنحراف عن التوحيد، ليحذروا من سوء العاقبة... إن الهدف من بيان تأريخ السالفين لم يكن مجرّد شرفاً فكرياً ولملء الفراغ، بل إيجاد الإحساس بالمسؤولية واليقظة، والهدف هو التربية وبناء شخصية الإنسان!...

ولئلا تبقى حجّة لأحد ولا عذر، فإنّ القرآن أُنزل (بلسان عربيّ مبين)...

فهذا القرآن نازل بلسان عربي فصيح، خال من الإبهام، للإنذار والإيقاظ، ولا سيما أنه نزل في محيط يتذرع أهله بالحجج الواهية، نزل بليغاً واضحاً...

هذا اللسان العربي هو أكمل الألسنة واللغات وأغناها أدباً ومقاماً...

والجدير بالذكر أن أحد معاني «عربي» هو ذو الفصاحة والبلاغة ـ بقطع النظر عن كيفية اللسان، وكما يقول الراغب في المفردات: العربي: الفصيح البيّن من الكلام...

وفي هذه الصورة فإنه ليس المعوّل على لسان العرب، بل الاساس صراحة

_____________________________

 

1 ـ واضح ـ هنا ـ أن المراد من القلب هو روح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

، لا القلب الذي يعدّ مضخّة للدم... وانتخاب هذا التعبير إشارة إلى أنّك يا رسول الله استوعبت القرآن بروحك وقلبك، وهذه المعجزة السماوية مقرّها قلبك.

[461]

القرآن ووضوح مفاهيمه، والآيات التالية تؤية هذا المعنى، كما جاء في الآية (44) من سورة فصلت (ولو جعلناه قرءاناً أعجميّاً لقالوا لولا فصلت آياته).

فالمراد من الأعجمي هنا هو االكلام غير الفصيح!...

والآية التالية تشير إلى دليل آخر من دلائل حقانية القرآن فتقول: (وإنه لفي زُبرِ الأولين).(1)

وخاصّة أن أوصاف هذا النّبي العظيم وأوصاف هذا الكتاب السماوي الخالد، جاءت في توراة موسى(عليه السلام) بحيث أن علماء بني إسرائيل كانوا يعرفون كل ذلك، حتى قيل أن إيمان قبيلتي الأوس والخزرج بالنّبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كان على أثر ما كان يتوقعة علماء اليهود عن ظهور هذا النّبي العظيم، ونزول هذا الكتاب السماوي الكريم..

لذا فإنّ القرآن يضيف هنا قائلا: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).

وواضح أنه مع وجود اُولئك العلماء من بني إسرائيل في ذلك المحيط المليء بالمشركين، لم يكن من الممكن أن يتحدث القرآن عن نفسه «جزافاً» واعتباطاً..

لأنّه كان سيردّ عليه من كل حدب وصوب بالإنكار، وهذا بنفسه دليل على أن هذا الموضوع كان جليّاً في ذلك المحيط، بحيث لم يبق مجال للإنكار حين نزول الآيات ـ محل البحث ـ

ونقرأ في الآية (89) من سورة البقرة أيضاً: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به).

وكل هذا شاهد جليّ على صدق آيات القرآن وحقانية دعوته!...

* * *

_____________________________

 

1 ـ «الزبر»

جمع: زبور ومعناه الكتاب، وهو في الأصل من مادة (زبر) على وزن (أسر) اي كتابة...

[462]

 

 

الآيات

 

وَلَوْ نَزَّلْنَـهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ(198) فَقَرَأَهُ، عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنينَ(199) كَذَلِكَ سَلَكْنَـهُ فِى قُلُوبِ الُْمجْرِمِينَ (200) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(202) فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)

 

التّفسير

لو نُزّل القرآن على الاعاجم...

في هذه الآيات يتكلم القرآن على واحدة من الذرائع الإحتمالية من قبل الكفار وموقفه منها، ويستكمل البحث السابق في نزول القرآن بلسان عربي مبين، فيقول: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين).

قلنا سابقاً أن كلمة «عربي» قد يراد منها من ينتمي إلى العرب، وقد تطلق على الكلام الفصيح أيضاً. و«عجمي» في مقابل العربي كذلك له معنيان، فقد يُراد منه من ينتمي إلى غير العرب، وقد يراد منه الكلام غير الفصيح، وكلا المعنيين في الآية الآنفة محتمل، إلاّ أن الاحتمال الاكثر هو أن المقصود غير العرب، كما يبدو.

بعض العرب ممن يتمسك بالعرقية ويعبد القومية كانوا متعصبين الى درجة

]463]

بحيث لو نزل القرآن على غير العرب لما آمن به ورغم أنّ القرآن نزل على عربي شريف من أسرة كريمة، في بيان رائع رائق بليغ وقد بشرت به الكتب السماوية السابقة... وشهد بذلك علماء بني إسرائيل، ومع ذلك كلّه لم يؤمن به الكثير من العرب، فكيف إذا كان نبيّهم ليس فيه أية صفة من الصفات المذكورة!...

ثمّ تضيف الآية لمزيد التأكيد: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين).

في بيان بليغ وبلسان رجل من بينهم، وهم يعرفونه ويعرفون سيرته وأخلاقة... وبمحتوى بشرت به الكتب السماوية السابقة... والخلاصة... إننا نسلكه بجميع هذه الأوصاف في قلوب المجرمين ليكون مقبولا سهلا مطبوعاً إلاّ أن هذه القلوب المرضى تمتنع عن قبوله... فمثله كمثل الطعام الطيب النافع الذي تلفظه المعدة السقيمة.

(التعبير «سلكناه» من مادة (سلوك) ومعناه العبور من الطريق، فيرد فيه من طرف ويخرج من آخر)

ولذلك تقول الآية: (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) أي إن هؤلاء المجرمين المعاندين، يظلون على حالهم حتى نزول العذاب...

واحتمل بعض المفسّرين في تفسير الآية أن المراد من (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) هو أننا أدخلنا العناد واللجاجة والعصبية وعدم التأثير في قلوب المجرمين، بسبب ذنوبهم وجرمهم.

وطبقاً لهذا المعنى فالآية محل البحث تشبه الآية (ختم الله على قلوبهم)(1).

إلاّ أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع الآيات السابقة واللاحقة، لذلك فقد اختاره أغلب المفسّرين.(2)

_____________________________

 

1 ـ سورة البقرة، الآية 7.

2 ـ في عدد من الآيات المتقدمة وردت خمسة ضمائر مفردة في الجمل التالية: «نزلناه»، «قرأه»، «ما كانوا به»، «سلكناه»، «لا يؤمنون به»، وهي تعود على القرآن طبقاً للتفسير الأوّل، وطبقاً للتفسير الثّاني فإن بعضها يعود على القرآن، وبعضها على العناد من قبل المشركين، وهذا الأمر مع عدم وجود القرينة مشكل!

[464]

أجل، إنّهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب (فيأتيهم بغتةً وهم لا يشعرون).(1)

لا شك أن المراد من هذا العذاب الذي يأخذهم بغتةً، هو عذاب الدنيا والبلاء المهلك وعقاب الإستئصال!...

لذا فإنّ القرآن يحكي عن حالهم فيقول: إنّهم في هذه الحال يرجعون إلى أنفسهم، ويندمون على أفعالهم، ويتملكهم الخوف من المصير المرعب، ويودون بأن يعطوا فرصة لجبران ما فات والايمان بالرسالة الالهية: (فيقولوا هل نحن منظرون)...

* * *

 

بحوث

1 ـ العصبية القومية والقبلية الشديدة!...

لا شك أن كل إنسان يرتبط بأرض أو قبيلة أو قومية فإنّه يعشقها، وهذه العلاقة بالأرض أو القبيلة، ليست غير معيبة فحسب، بل هي عامل بنّاء لأبناء المجتمع، إلاّ أن لهذا الأمر حدوداً، فلو تجاوز الحدود فإنه سينقلب إلى عامل مخرب، وربّما إلى عامل مفجع.

والمراد من التعصب أو العصبية القومية أو القبلية المذمومة والسلبية، هو الإفراط في التعصب أو العصبية...

«التعصب» و «العصبية» في الأصل من مادة (عصب) ومعناه واضح، وهو الغضروف الذي يربط المفاصل، ثمّ أطلق التعصب والعصبية على كل ارتباط... إلاّ أن هذا اللفظ أو هذين اللفظين يستعملان عادة في المفهوم الإفراطي المذموم.

إن الدفاع المفرط عن القوم أو القبيلة أو الأرض والوطن، كان مصدراً لكثير

_____________________________

 

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن جملة «فيأتيهم»

منصوبة ومعطوفة على «حتى يروا»،

وينبغي بيان معناها بهذه العلاقة.

[465]

من الحروب على طول التاريخ، وعاملا على انتقال الخرافات والتقاليد السيئة على أنها آداب وسنن في قبيلة ما أو اُمّة ما! إلى اُمم أُخَر!

هذا الدفاع أو الإنتماء المتطرف، قد يبلغ حداً بحيث يرى أسوأ أفراد قبيلته في نظره جميلا، وأحسن أفراد القبيلة الأُخرى في نظره سيئاً... وكذلك الحال بالنسبة إلى السنن والآداب السيئة والحسنة... وبتعبير آخر: إنّ التعصب القومي يلقي ستاراً من الجهل والأنانية على أفكار الإنسان وعقله، ويلغي التقييم الصحيح!

هذه الحالة من العصبية كانت لها صورة أكثر حدة بين بعض الاُمم، ومنهم العرب المعروفون بالتعصب.

وقد قرأنا في الآيات الآنفة أنّه لو أنزل الله القرآن على غير العرب لما كانوا به مؤمنين.

وقد ورد في الرّوايات الإسلامية التحذير من التعصب، على أنّه خُلق مذموم، حتى أنّنا نقرأ حديثاً عن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: «من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية».(1)

ونقرأ حديثاً آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: «من تعصب أو تُعصب له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه».(2)

ويستفاد من الرّوايات الإسلامية أيضاً، أن إبليس أوّل من تعصب...

يقول الإمام علي(عليه السلام) في بعض خطبه ـ المعروفة بالقاصعة ـ في مجال التعصب كلاماً بليغاً مؤثراً، ننقل جانباً منه هنا:

«أمّا إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناري

_____________________________

 

1 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني (باب العصبية ص 32).

2 ـ المصدر السابق.

[466]

وأنت طيني).(1)

ثمّ يضيف الإمام علي في خطبته هذه قائلا: «فإن كان لا بدّ من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأُمور».(2)

ويتّضح من هذا الحديث ـ بجلاء أن التعصب والدفاع المستميت عن بعض الحقائق والايجابيات ليس غير مذموماً فحسب، بل بامكانه أن يسدّ فراغاً روحياً قد ينشأ من ترك بعض العادات الجاهلية المقيتة.

لذلك نقرأ عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) حين سئل عن التعصب قوله: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم».(3)

والتعبير الآخر عن العصبية الوارد في بعض الروايات أو الآيات هو الحمية (حمية الجاهلية).

وبالرغم من أن الأحاديث في هذا المجال كثيرة، إلاّ أننا نختم بحثنا بحديثين منها:

يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) «إنّ الله يعذب ستةً بست ـ العرب بالعصبية، والدهاقنة بالكبر، والأمراء بالجور، والفقهاء بالحسد، والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهل).(4)

وكان رسول الله يتعوذ في كل يوم من ست «من الشكِّ والشرك والحميّة والغضب والبغي والحسد».(5)

_____________________________

 

1 ـ نهج البلاغه، الخطبة القاصعة، رقمها 192.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ اُصول الكافى، ج 2، باب العصبية، ص 233.

4 ـ البحار، ج 73، ص 289.

5 ـ المصدر نفسه.

[467]

2 ـ طلب الرجوع إلى الدنيا...

من لحظة الموت تبدأ حسرات المجرمين وآهاتهم، وتشتعل في قلوبهم رغبة الرجوع إلى الدنيا، ويصرخون ويدعون ولات حين مناص...

وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة في هذا الصدد، أكثرها بساطة هذه الآية محل البحث (هل نحن مُنظرون).

أمّا في الآية (27) من سورة الأنعام فنقرأ: (يا ليتنا نُردّ ولا نكذب بآيات ربّنا).

أمّا في الآية (66) سورة الأحزاب فتقول منها: (يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا).

ونقرأ في الآيتين 99 ـ 100 من سورة المؤمنون: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت).

وهذه الحالة تستمر حتى في صوره وقوف المجرمين على حافة النار، كما في الآية 27 من سورة الأنعام، إذ تقول: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين)...

إلاّ أن هذه العودة لن تتحقق، لأنّها سنة الله سبحانه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فلو قطعت ثمرة غير ناضجة من الشجرة ثمّ عادت، ولو سقط الجنين من بطن اُمّه قبل اكتماله، ثمّ عاد الى الرحم... لا مكن أن يعود هؤلاء...

فبناءً على ذلك فإن الطريق الوحيد المعقول، هو التوقّي من حسرة ما بعد الموت بالتوبة من الذنب، والأعمال الصالحة، ما دامت الفرصة سانحة وإلاّ فلا ينفع الندم بعد فوات الأوان!...

 

3 ـ فضل العجم:

جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الإِمام الصادق ذيل الآيات محل البحث

]468]

أنه قال: «لو نزل القرآن على العجم ما آمنت به العرب... وقد نزل على العرب فآمنت به العجم، فهذه فضيلة العجم».(1)

«وفي هذا الصدد كانت لنا إشارات ذيل الآية 54 من سورة المائدة».

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ الجزء الرّابع من تفسير نور الثقلين، ص 165.

[469]

 

 

الآيات

 

أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204) أَفَرَءَيْتُ إِن مَّتَّعْنَـهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ(206) مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ(207) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَـلِمِينَ(209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيـطِينُ(210) وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)

 

التّفسير

تهمة اُخرى للقرآن:

حيث أن الآيات المتقدمة ختمت بجملة (هل نحن منظرون) التي يقولُها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم علا أبواب الهلاك، طالبين الإِمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال. فالآيات محل البحث تردُّ عليهم عن طريقين:

الأوّل قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون).

إشارة إلى أنّه طالما استهزأتم أيّها المجرمون، وسخرتم من أنبيائكم، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة... لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون الإمهال

]470]

لتعوضوا عمّا فات من الأعمال، وكنتم ترون الأمر لهواً ولعباً في يوم، لكن في اليوم الآخر وجدتموه جديّاً ـ

وعلى كل حال فإنّ سنة الله أن لا يعذب قوماً حتى يُتمّ عليهم الحجّة البالغة... لكن اذا تمّت الحجة، وفسح لهم المجال، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه  فلا ينفع الإبتهال، والرجوع نحو ساحة ذي الجلال.

والآخر أنّه (أفرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتّعون).

فعلى فرض أنّهم أُمهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) وعلى فرض أن يُعمَّروا سنين طوالا في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور، الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوضون عما فاتهم؟! كلاّ أبداً.. فمن المسلّم أنّهم لا يعوضون عمّا فاتهم. وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئاً عند نزول العذاب؟ وهل تحلَّ مشكلتهم أو تحدث تغييراً في عاقبتهم؟!

كما يَرِدُ هذا الإحتمال في تفسير الآيات الآنفة، وهو أنّهم لا يطلبون الإمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات، بل يطلبون الإمهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا، إلاّ أن هذا التمتع لا يغني عنهم شيئاً، ولا بد أن يرحلوا ـ إن عاجلا وإن آجلا ـ من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية، وأن يواجهوا أعمالهم هناك...

وهنا يثار سؤالٌ ـ وهو أنّه مع الإلتفات إلى أن الله بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟

ثمّ أن الاُمم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، وبمقتضى قوله تعالى: (وما كان أكثرهم مؤمنين) الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!

فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله (وما أهلكنا من قرية إلاّ

]471]

لها منذرون) فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجّة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم (ذكرى).(1)

ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين ـ من قِبَلِ الله ـ لكان ظلماً منّا (وما كنّا ظالمين).

فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجّة عليهم...

وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة  بـ «قاعدة قبح العقاب بلا بيان» وشبيه لهذه الآية ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء: (وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا).

أجل.. إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل «لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 57 من سورة الإسراء»..

ثمّ يرد القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَلِ اعداء القرآن وهي أن النّبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أن القرآن يؤكّد أن هذه الآيات هي من «تنزيل ربّ العالمين».

فيضيف هنا قائلا: (وما تنزلت به الشياطين).

ثمّ يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء فيقول: (وما ينبغي لهم).

_____________________________

 

1 ـ للمفسرين في محل (ذكرى)

من الإعراب أربعة إحتمالات ... الأوّل:

أنه مفعول لأجله والعامل «منذرون»

والتّفسير المذكور آنفاً في المتن هو على هذا الأساس.

الثّاني:

أنّه مفعول مطلق لكلمة «منذرون»

لأنّ معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى.

الثّالث:

أنّه حال من الضمير في منذرون.

الرّابع:

أنّها خبر لمبتداء محذوف تقديره (هذه ذكرى).

[472]

أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه. فالشياطين لا يصدر منهم إلاّ الشر والفساد، وهذا كتاب خير وصلاح، فالدقّة في محتواه تكشف عن أصالته.

ثمّ إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك (وما يستطيعون).

فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين بالشياطين (أو على الأقل كان المشركون يُدّعون بأنّهم مرتبطون بالشياطين) أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بلاغتهم وأفكارهم!...

ومضافاً إلى كل ذلك، فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أنّهم بعد ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انقطعت علاقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و (إنهم عن السمع لمعزوُلون).

ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلاّ أنّه بظهور نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم...

وهذا الأمر كان يعلم به المشركون أنفسهم، وعلى فرض أن المشركين كانوا لا يعلمون، فإن القرآن أخبرهم بذلك.(1)

ولذا فقد جعله القرآن دليلا في الآيات الأنفة لدحض ما يتقوله الأعداء...

وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا الإِتهام من ثلاثة طرق:

_____________________________

 

1 ـ لمزيد الإيضاح في منع الشياطين عن استراق السمع يراجع الجزء الأوّل من سيرة ابن هشام، ص 217 فما بعد.

[473]

1 ـ عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين.

2 ـ عدم قدرة الشياطين على ذلك.

3 ـ منع الشياطين من إستراق السمع.

 

* * *

[474]

 

 

الآيات

 

فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـجِدِينَ(219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(220)

 

التّفسير

وأنذر عشيرتك الأقربين...

تعقيباً على الأبحاث الواردة في الآيات السابقة في شأن مواقف المشركين من الإسلام والقرآن... فإن الله سبحانه يبيّن لنبيّهِ ـ في الآيات محل البحث ـ منهجه وخطّته في خمسة أوامر، في مواجهة المشركين...

وقبل كل شيء فإن الله يدعو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإعتقاد التام بالتوحيد; التوحيد الذي هو أساس دعوات الأنبياء جميعاً... يقول سبحانه: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين)...

ومع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المقطوع به أنّه ينادي إلى التوحيد ولا يمكن أن

[475]

يُتصور انحرافه عن هذا الأصل... إلاّ أنّ أهمية هذه المسألة كانت بحيث أن يكون شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ قبل كل شيء ـ مخاطباً بها. ليعرف الآخرون موقفهم... ثمّ إن بناء الآخرين يبدأ من بناء شخصية الإنسان نفسهِ...

ثمّ يأمره الله في مرحلة اُخرى أن ينطلق إلى مدى أرحب في دعوته قائلا: (وأنذر عشيرتك الأقربين).(1)

ولا شكَّ أنّه للوصول إلى منهج تغييري ثوري واسع، لابدّ من الإبتداء من الحلقات الأدنى والأصغر، فما أحسن أن يبدأ النّبي دعوته من أقربائه وأرحامه، لأنّهم يعرفون سوابقه النزيهة أكثر من سواهم كما أن علائق القربى والمودّة تستدعي الاصغاء إلى كلامه أكثر من غيرهم، وأن يكونوا أبعد من سواهم من حيثُ الحسدُ والحقدُ والمخاصمة!

إضافة إلى ذلك فإنّ هذا الأمر يدلّ على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس لديه أية مداهنة ولا مساومة مع أحد، ليستثني أقرباءه المشركين عن دعوته إلى التوحيد والحق والعدل!...

وعندما نزلت هذه الآية، قام النّبي بما ينبغي عليه من أجل تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وسيأتي تفصيل ذلك كله في حقل البحوث بإذن الله...

أمّا المرحلة الثّالثة، فإنّ الله يوصي النّبي في دائرة أوسع فيقول: عليك أن تعامل اتباعك باللطف والمحبة: (واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين).

وهذا التعبير الجميل الرائع كناية عن التواضع المشفوع بالمحبة واللطف، كما أن الطيور تخفض أجنحتها لأفراخها محبّة منها لها، وتجعلها تحت أجنحتها لتكون مصانةً من الحوادث المحتملة، ولتحفظها من التشتت والتفرّق! فكذلك الأمر بالنسبة للنّبي إذ أُمرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين الصادقين.

_____________________________

 

1 ـ العشيرة مشتقّة من «العشرة» العدد المعروف [10] وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملا، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة، ولعل المعاشرة مأخوذة من هذا المعنى، لأنّها تجعل الناس بصورة مجموعة كاملة.

[476]

وهذا التعبير الرائع ذو المعنى الغزير يبيّن دقائق مختلفة في شأن محبة المؤمنين، ويمكن إدراكها بأدنى التفاتة!...

وذكر هذه الجملة ـ ضمناً ـ بعد مسألة الإنذار يكشف عن هذه الحقيقة، وهي إذا كان التعويل على الخشونة في بعض الموارد بمقتضى الضرورات التربوية، فإنّه وبلا فاصلة يأتي التعويل على المحبّة والعاطفة ليتوفر منهما نمط مناسب...

ثمّ تأتي المرحلة الرّابعة وهي أن الاعداء لم يقبلو دعوتك وعصوا أوامرك. فلا تبتئس ولا تحزن: (فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون)... ليعرفوا موقفك منهم!

والظاهر أنّ الضمير في عصوك ـ يعود على عشيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأقربين... أيْ إذا لم يذعنوا بعد دعوتك إياهم للحق، وواصلوا شركهم وعنادهم، فعليك أن تبيّن موقفك منهم، وهذا التوقع الذي احتمله القرآن حدث فعلا، كما سنذكر ذلك في البحوث القادمة، إذ امتنع الجميع عن قبول دعوة النّبي ما عدا علياً(عليه السلام)... فبعضهم لاذ بالصمت، وبعضهم أبدى مخالفته عن طريق الإستهزاء والسخرية...

وأخيراً فالأمر الالهي الخامس للنّبي لإكمال مناهجه السابقة، هو: (وتوكّل على العزيز الرحيم).

فلا تدع لعنادهم مجالا للتأثير على عزيمتك... ولا لقلّة الأعوان والانصار طريقاً لتوهين ارادتك، فلست وحدك... وسندك وملاذك هو الله القادر العزيز الذي لا يقهر، والرحيم الذي لاحدّ لرحمته...

الله الذي سمعت وصفه في ختام قصص الأنبياء بالعزيز الرحيم!...

الله الذي بقدرته أحبط ظلم فرعون وغرور نمرود، وتمرّد قوم نوح، وأنانية قوم هود، واتباع الشهوات لقوم لوط. وكذلك انقذ أنبياءه ورسله الذين كانوا قلّة، وشملهم برحمته الواسعة.

ذلك الله (الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين).

]477]

أجل (إنه هو السميع العليم)...

وهكذا تذكر الآيات ثلاث صفات لله بعد وصفه بالعزيز الرحيم وكلّ منها يمنح الأمل ويشدّ من عزم النّبي على مواصلة طريقةِ، إذ أن الله يرى جهوده وأتعابه وحركاته وسكناتهِ، وقيامه وسجوده وركعاته!...

ذلك الله الذي يسمع صوته.

الله الذي يعلم حاجاته وطلباته حاجته...

أجل، فعلى هذا الإله توكل، وأركن إليه أبداً.

* * *

 

بحثان

1 ـ تفسير (وتقلبك في الساجدين).

بين المفسّرين أقوال مختلفة في معنى قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين).

وظاهر الآية هو ما ذكرناه آنفاً، أن الله يرى قيامك وانتقالك وحركتك بين الساجدين.

وهذا القيام يمكن أن يكون قياماً للصلاة، أو القيام للعبادة من النوم، أو القيام للصلاة فرادى، وفي مقام تقلبك في الساجدين... الذي يشير إلى صلاة الجماعة.

«التقلب» معناه الحركة والإنتقال من حال إلى حال، وهذا التعبير لعله إشارة إلى سجود النبيِّ بين الساجدين في أثناء الصلاة، أو إلى حركة النّبي وتنقله بين أصحابه وهم مشغولون بالعبادة، وكان يتابع أحوالهم ويسأل عنهم...

وفي المجموع فإنّ هذا التعبير إشارة إلى أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيءٌ من حالاتك وسعيك، سواءً كانت شخصيّة فردية، أم كانت مع المؤمنين في صورة جماعية، لتدبير اُمور العباد ولنشر مبدأ الحق مع الالتفات الى اَن الأفعال الواردة

]478]

في الآية مضارعة وفيها معنى الحال والإستقبال».

وهنا تفسيران آخران ذكرا في معنى الآية، إلاّ أنّهما لا ينسجمان مع ظاهرها، ولعلهما من بطون الآية:

الأوّل: أنّ المراد من الآية رؤية النّبي ونظره إلى المصلين والساجدين خلفه، لأنّه كما يرى من أمامه يرى من خلفه كما ورد في الحديث: «لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي، فإنّي أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي»(1) ثمّ تلا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الآية آنفة الذكر.

الثّاني: أنّ المراد منه أنّ انتقال في أصلاب النبيّين من لدن آدم حتى أبيه عبد الله، كلّه تحت نظر الله سبحانه، أي حين تنتقل نطفتك المباركة من نبيّ موحد ساجد إلى ساجد آخر فإن الله عليم بذلك...

وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير (وتقلبك في الساجدين) ما يشير إلى هذا المعنى، قال(عليه السلام): «في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم».(2)

وفي تفسير مجمع البيان في توضيح هذه الجملة جاء عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) ما يلي: «في أصلاب النبيين نبيّ بعد نبيّ، حتى أخرجه من صلب أبيه، عن نكاح غير سفاح من لدن آدم».(3)

وبالطبع فإنّه بقطع النظر عن الآيات آنفة الذكر وتفسيراتها، فإن الدلائل المتوفرة تدلّ على أن والد النّبي وأجداده لم يكونوا مشركين أبداً، وولدوا في محيط منزّه عن الشرك والدنس «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية، 74 من سورة الأنعام» إلاّ أن التفاسير الآنفة هي من بطون الآية...

_____________________________

 

1 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 69.

3 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.

[479]

2 ـ إنذار الأقربين «حديث يوم الدار»

وفقاً لما ورد في التواريخ الإسلامية، أُمر النّبي في السنة الثّالثة بدعوته الأقربين من عشيرته، لأنّ دعوته حتى ذلك الحين كانت مخفية «سريّة»، وكان الذين دخلوا في الإِسلام عدداً قليلا، لذلك حين نزلت الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) والآية (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين)(1) أمر النّبي أن يجعل دعوته علنية، وبدأ ذلك بدعوة أهله وأقربائه(2).

وأمّا كيفية إبلاغه وإنذاره إيّاهم، فهو بإجمال أنّه دعا النبيّ «عشيرته» إلى بيت عمّه أبي طالب، وكانوا في ذلك اليوم حوالي أربعين رجلا، وكان ممن حضر هذه الدعوة بعض أعمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي طالب والحمزة وأبو لهب والعباس، وبعد أن تناولوا الطعام، وأراد النّبي أن يؤدي ما عليه، تكلم أبولهب كلمات أحبط بها خطة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا فقد دعاهم النّبي في اليوم التالي أيضاً.

وبعد أن تناولوا الطعام، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا بني عبد المطلب، إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم بخير الدنيا والآخرة... وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها غير علي، وكان أصغرهم (سناً)، فقال: «يا نبيّ الله، أنا أكون وزيرك عليه»، فأخذ رسول الله برقبته، وقال: «إنّ هذا وصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع.(3)

وقد نقل هذا الحديث كثير من أهل السنة كابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، والثعلبي، كما نقله «ابن الأثير» في

_____________________________

 

1 ـ سورة الحج، الآية 94.

2 ـ راجع سيرة ابن هشام، ج 1، ص 280.

3 ـ المراجعات، ص 130.

[480]

الجزء الثّاني من كتابه «الكامل»، وأبو الفداء في الجزء الأوّل من تأريخه، وجماعة آخرون.(1)

وهذا الحديث يوضع لنا كيف كان النّبي وحيداً حينذاك، وكيف ردّوا عليه دعوته بالسخرية والإستهزاء، وكيف وقف علي(عليه السلام) إلى جانب النّبي في وحدته ناصراً ومعيناً...

وفي حديث آخر أن النّبي دعا قريشاً واحداً واحداً وحذرهم من النار فقال: «يا بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار».

وكان يدعو أحياناً بهذا الخطاب بني عبد شمس، وبني عبد مناف، وبني عبد المطلب، وبني هاشم فيقول: «انقذوا أنفسكم من النار».(2) فلست قادراً على الدفاع عنكم في حال كفركم.

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع كتاب المراجعات، ص 130 فما بعد وكتاب إحقاق الحق، ج 4، ص 62.

2 ـ تفسير القرطبي، ج 7، ص 4859 ذيل الآيات محل البحث مع شيء من الإختصار.

[481]

 الآيات

 هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَيَـطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاك أَثِيم(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَـذِبوُنَ(223) وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُنَ(224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَاد يَهِيمُونَ(225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَيَفْعَلُونَ(226) إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَ ذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ(227)

 التّفسير

النّبي ليس شاعراً:

هذه الآيات ـ محل البحث ـ هي آخر الآيات من سورة الشعراء، تعود ثانية لتردّ على الإتهام السابق ـ من قبل الأعداء ـ بأن القرآن من إلقاء الشياطين، تردهم ببيان أخاذ بليغ مفحم، فتقول: (هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) أي الكاذب المذنب، حيث يلقون اليهم مايسمعونه مع اضافة

[482]

أكاذيب كثيرة عليه (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون).(1)

وملخص الكلام أن ما تلقيه الشياطين له علائم واضحة، ويمكن معرفته بعلائمه أيضاً. فالشيطان موجود مؤذ ومخرب، وما يلقيه يجري في مسير الفساد والتخريب، وأتباعه هم الكذابون المجرمون، وليس شيء من هذه الأُمور ينطبق على القرآن، ولا على مبلّغه، وليس فيها أي شبه بهما.

والناس في ذلك العصر ـ وذلك المحيط ـ كانوا يعرفون النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)واُسلوبه وطريقته، في صدقه وأمانته وصلاحه في جميع المجالات... ومحتوى القرآن ليس فيه سوى العدل والحق والإصلاح، فكيف يمكن أن تتهموه بأنّه من إلقاء الشياطين؟!

والمراد من (الأفاك الأثيم) هو الكاهن المرتبط بالشياطين فتارةً يقوم الشياطين باستراق السمع لأحاديث الملائكة، ثمّ بعد مزجه بأباطيل كثيرة ينقلونه الى الكهنة. وهم بدورهم يضيفون عليه عشرات الأكاذيب وينقلونها إلى الناس...

وبعد نزول الوحي خاصّة، ومنع الشياطين من الصعود إلى السماء واستراق السمع. كان ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة خفنَةً من الأكاذيب والأراجيف...

فمع هذه الحال كيف يمكن أن يقاس محتوى القرآن بما تلقيه الشياطين... وأن يقاس النّبي الصادق الأمين بحفنة من الكهنة الأفاكين الكاذبين!...

وهناك تفاسير مختلفة لجملة (يلقون السمع):

فمنها: أن الضمير في (يلقون) عائد على الشياطين و «السمع» المراد منه المسموعات، أي أن الشياطين يلقون مسموعاتهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون «ويضيفون على ما يلقيه الشياطين أكاذيب كثيرة!»...

_____________________________

1 ـ «أفّاك»

من: «الإفك». والإفك هو الكذب الكبير. فمعنى الأفلاك من يكذب كثيراً أكاذيب كبيرة... و «أثيم»

من مادة «إثم» على وزن (إسم) ومعناه في الأصل: العمل الذي يؤخر صاحبه عن الثواب، ويطلق عادة على الذنب، فالأثيم هو المذنب...

[483]

ومنها: إن الضمير في الفعل يعود على الأفاكين، إذ أنّهم كانوا يلقون ـ ما يسمعون من الشياطين ـ إلى عامّة الناس، إلاّ أن التّفسير الأوّل أصح ظاهراً(1)!

وفي الآية الرّابعة ـ من الآيات محل البحث ـ يردّ القرآن على اتهام آخر كان الكفار يرمون به النّبي فيدعونه شاعراً، كما في الآية (5) من سورة الأنبياء (بل هو شاعر) وربما دعوه بالشاعر المجنون، كما جاء في الآية (36) من سورة الصافات (ويقولون أإنا لتاركوا ألهتنا لشاعر مجنون).

فالقرآن يردهم هنا ببيان بليغ منطقي، بأن منهج النّبي يختلف عن منهج الشعراء. فالشعراء يتحركون في عالم من الخيال، وهو يتحرك على أرض الواقع والواقعيات، لتنظيم العالم الإنساني...

والشعراء يبحثون عن العيش واللذة والغزل (كما هي الحال بالنسبة لشعراء ذلك العصر في الحجاز خاصّة حيث يظهر ذلك من أشعارهم بوضوح).

ولذا فإن أتباعهم هم الضالون: (والشعراء يتبعهم الغاوون).

ثمّ يضيف القرآن على الجملة آنفة الذكر معقّباً (ألم تر أنّهم في كل واد يهيمون).(2)

فهم غارقون في أخيلتهم وتشبيهاتهم الشعرية، حتى أن القوافي تجرهم إلى هذا الإتجاه أو ذاك، ويهيمون معها في كل واد...

وهم غالباً ليسوا أصحاب منطق واستدلال، وأشعارهم تنبع ممّا تهيج به عواطفهم وقرائحهم... وهذه العواطف تسوقهم في كل آن من واد لآخر!...

فحين يرضون عن أحد يمدحونه ويرفعونه إلى أوج السماء، وإن كان حقه أن

_____________________________

 

1 ـ لأن (يلقون)

في مثل هذه الموارد معناها نقل الأخبار والمطالب، كما جاء في الآية (53) من سورة الحج (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)

وجملة (أكثرهم كاذبون)

تتناسب مع الشياطين، لأن الأفّاكين كلهم كاذبون لا أكثرهم (فلاحظوا بدقة).

2 ـ «يهيمون»

فعل مضارع من «الهيام»، ومعناه المشي بلا هدف...

[484]

يكون في اسفل السافلين، ويُلبسونه ثوب الملاك الجميل وإن كان شيطاناً لعيناً...

ومتى سخطوا على أحد هجوه هجواً مراً وأنزلوه في شعرهم الى أسفل السافلين، وإن كان موجوداً سماوّياً.

تُرى هل يُشبه محتوى القرآن الدقيق المنطلقات الشعرية أو الفكرية للشعراء وخاصّة شعراء ذلك العصر، الذين لم تكن منطلقاتهم إلاّ وصف الخمر والجمال والعشق والمدح لقبائلهم وهجو أعدائهم...

ثمّ إن الشعراء عادةً هم رجال خطابة وجماهير لا أبطال قتال، وكذلك أصحاب أقوال لا أعمال، لذلك فإنّ الآية التالية تضيف فتقول عنهم: (وأنّهم يقولون ما لا يفعلون).

غير أن النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) رجل عمل من قرنه إلى قدمه، وقد اعترف بعزمه الراسخ واستقامته العجيبة حتى أعداؤه، فأين الشاعر من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

وممّا تقدم من الأوصاف التي ذكرها القرآن عن الشعراء، يمكن أن يقال بأن القرآن وصفهم بثلاث علامات:

الأُولى: أنّهم يتبعهم الغاوون الضالون، ويفرّون من الواقع، ويلجاؤون إلى الخيال.

والثّانية: أنّهم رجال لا هدف لهم، ومتقلّبون فكريّاً، وواقعون تحت تأثير العواطف!

والثّالثة: أنّهم يقولون مالا يفعلون... وحتى في المجال الواقعي لا يطبقون كلامهم على أنفسهم...

إلاّ أنه لا شيء من هذه الأوصاف يصدق على النّبي، فهو في الطرف المقابل لها تماماً!

و لمّا كان بين الشعراء أناس مخلصون هادفون وأهل أعمال لا أقوال، ودعاة نحو الحق والصدق «وإن كان مثل هؤلاء الشعراء قليلا يومئذ». فالقرآن من أجل

[485]

ألاّ يضيع حق هؤلاء الشعراء المؤمنين المخلصين الصادقين، استثناهم عن بقية الشعراء، فقال عنهم: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

هؤلاء المستثنون من الشعراء لم يكن هدفهم الشعر فحسب، بل يهدفون في شعرهم أهدافاً الهية وانسانية، ولا يغرقون في الأشعار فيغفلون عن ذكر الله، بل كما يقول القرآن: (وذكروا الله كثيراً).

وأشعارهم تذكر الناس بالله أيضاً... وإذا ما ظُلموا كان شعرهم انتصاراً للحق (وانتصروا من بعدما ظلموا).

فإذا هجوا جماعة هجوهم من أجل الحق ودفاعاً عن الحق الذي يهجوه اُولئك فيذبون عنه...

وهكذا فقد بيّن القرآن أربع صفات للشعراء الهادفين، وهي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله كثيراً، والإنتصار للحق من بعدما ظلموا، مستعينين بشعرهم في الذب عنه...

وحيث أن معظم آيات هذه السورة هو للتسلية عن قلب النّبي، والتسرية عنه، وعن المؤمنين القلّة في ذلك اليوم في قبال كثرة الأعداء، وحيث أن كثيراً من آيات هذه السورة في مقام الدفاع عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ضد التهم الموجهة إليه من قبل أعدائه، وغير اللائقة به ـ فإن السورة تُختتم بجملة ذات معنى غزير، وفيها تهديد لأولئك الأعداء الألدّاء، إذ تقول: (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون).

وبالرغم من أن بعض المفسّرين أرادوا أن يحصروا هذا الإنقلاب والعاقبة المرة للظالمين بنار جهنمَّ... إلاّ أنه لا دليل على تقييد ذلك وتحديده بها... بل لعله إشارة إلى هزائمهم المتتابعة والمتلاحقة في المعارك الإسلامية، كمعركة بدر وغيرها، وما أصابهم من ضعف وذلة في دنياهم، فمفهوم هذه الآية عام، بالإضافة إلى ذلك عذابهم وانقلابهم إلى النار في آخر المطاف.

* * *

                                       [486]

بحوث

1 ـ لِمَ كانوا يتهمون النّبي بالشعر

إن واحدةً من التهم التي كانت توجه للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي الشعر، وأنّه شاعر، فالآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت رداً على هذا الإتهام أيضاً...

لقد كانوا يعرفون جيداً أن القرآن ليس له أقل شَبَه بالشعر، لا من حيث الشكل والظاهر ولا من حيث المحتوى، فالشعر فيه وزن وقافية وأبيات مشطرة، وليس كذلك القرآن. والشعر فيه تخيّل وتشبيهات كثيرة وغزل ممّا ليس في القرآن أيضاً.

إلاّ أنّهم حيث كانوا يرون أثر القرآن الكبير في جذب أفكار الناس وإيقاعه الخاص في قلوبهم، فلإلقاء الستار على هذا النور الإلهي، سموه «سحراً» تارةً، لأنّه كان ذا نفوذ وتأثير «خفي» في الأفكار. ودعوة «شعراً» تارة أُخرى لأنّه كان يهزّ القلوب ويأخذها معه!

لقد أرادوا أن يذموا القرآن فمدحوه بهذا الكلام، وكان كلامهم سنداً ودليلا حياً على نفوذ القرآن الخارق للعادة في أفكار الناس وفي قلوبهم.

يقول القران في تنزيه النّبي عن الشعر: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيّاً وبحق القول على الكافرين)(1).

 2 ـ الشعر والشاعرية في الإِسلام

لا شك أن الذوق الشعري والفن الشاعري كسائر رؤوس الأموال، له قيمته في صورة ما لو استعمل استعمالا صحيحاً وله أثر إيجابي... إلاّ أنّه اذا صار وسيلة تخريب وهدم للبناء العقائدي والأخلاقي في المجتمع، فلا قيمة له، بل يعتبر وسيلة

_____________________________

 

1 ـ يس، الآية 69.

[487]

ضارة عندئذ...

فالشعر ينبغي أن يؤدي دورة في وجود الإنسان ليكون ذا قيمة كبرى، وأن  لا يسوق الناس نحو الخيال أو الضياع أو الإشغال دون جدوى، لأنّه سيكون وسيلة للضرر والإِضرار.

ويتّضح بهذا الجواب على السؤال التالي:

ماذا يفهم من الآيات المتقدمة، هل الشاعريّة أمرٌ حسن أو غير حسن، وهل يوافق الإسلام الشعر أو يخالفه؟!

فالجواب على ذلك أن تقويم(1) الإسلام في هذا المجال قائم على الأهداف والوجوه والنتائج... وكما قال الإمام علي(عليه السلام) حين كان بعض أصحابه يتكلمون على مائدة الإفطار في إحدى ليالي شهر رمضان، وجرى كلامهم في الشعر والشعراء، فخاطبهم أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قائلا: «اعلموا أن ملاك أمركم الدين، وعصمتكم التقوى، وزينتكم الأدب وحصون أعراضكم الحلم».(2)

فكلام الإمام علي(عليه السلام) إشارة إلى أن الشعر وسيلة... ومعيار تقويمه الهدف الذي قيل من أجله!...

إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ استغلّ الشعر على امتداد تاريخ آداب الاُمم والملل لأغراض سيئة، وتلوّث هذا الذوق الإلهي اللطيف، فسقط في الوحل بسبب البيئة الفاسدة، وبلغ الشعر أحياناً درجة من الإنحطاط بحيث صار من أهم عوامل الفساد والتخريب، ولا سيما في العصر الجاهلي الذي كان عصر انحطاط الفكر العربي وأخلاقِه!. فكان الشعر والشراب والغارات بعضها إلى جنب بعض ممّا مميزات ذلك العصر!

_____________________________

1 ـ «التقويم»

له معان متعددة منها تقويم الأود

أي إقامة الإعوجاج، وتقويم الشيء

إعطاء قيمته أو معرفتها، وهو هنا بهذا المعنى. وما يجري على السنة الكتاب وأقلامهم بلفظ (تقييم) خطأ مشهور وغير صحيح (المصحح).

2 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ج 20، ص 461.

[488]

ولكن من يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة، وهي أن الأشعار البنّاءة والهادفة على امتداد التاريخ، خلقت طاقات كثيرة وحماسة قصوى، وربّما عبأت اُمة مغلوبة بوجه أعدائها، فشدتها على العدوّ فهزمته وانتصرت «بهذه الأشعار».

وفي فترة نضوج الثورة الإسلامية رأينا بأم أعيننا كيف أثرت الأشعار الحماسية في نفوس الناس، فحركتهم وأثارتهم حتى جرت دماء الثورة في مفاصلهم، وجعلتهم صفاً واحداً وزلزلت قصور الأعداء وهزمتهم...

كما نسأل: من يستطيع أن ينكر أن شعراً أخلاقياً ينفذ في أعماق الإنسان ويغيّر محتواه لدرجةً لا يبلغها كتاب علمي غزيز المحتوى...

أجل، إن الشعر كما قال عنه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «إن من الشعر لحكمة وإنّ من البيان لسحراً».(1)

وللكلمات الموزونة وإيقاعها ـ أحياناً ـ مضاء السيف ونفوذ السهم في قلب العدو...

ففي بعض أحاديث الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ في مثل هذه الأشعار ـ أنه قال: «... والذي نفس محمد بيده فكأنّما تنضحونهم بالنبل».(2)

أجل... قال النّبي ذلك حين كان العدو يهجو المسلمين ليضعف معنوياتهم وروحيّاتهم، فأمر النّبي شعراء المسلمين أن يردّوا عليهم بالهجاء المقذع، لذمهم وتقوية روحيّة المسلمين.

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن أحد الشعراء المدافعين عن الإسلام «أهجُهُمْ فإنّ جبرئيل مَعَكَ».(3)

وخاصّة حين سأل كعب بن مالك «الشاعر المؤمنُ» الذي كان ينشد قصائد

_____________________________

 

1 ـ نقل حديث الرّسول هذا جماعة كثيرة من علماء الشيعة والسنة في كتبهم «يراجع كتاب الغدير، ج 2، ص 9».

2 ـ مسند أحمد، ج 2، ص 260.

3 ـ مسند أحمد، ج 4،: ص 299 .

[489]

في تقوية الإِسلام ـ وكانت الأيات قد نزلت في ذم الشعراء ـ فقال يا رسول الله: ما أصنع؟! فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) «إنّ المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه».(1)

وقد ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وصف كثير في الشعر والشعراء الهادفين والدعاء لهم وإيصال الجوائز إليهم، بحيث يطول الكلام في ذلك «إن أردنا نقل الروايات عنهم».

إلاّ أنّه من المؤسف أنه على طول التاريخ أسقط جماعة هذه المنحة الإلهية والذوق اللطيف، الذي هو من أجمل مظاهر الخلق، فأنزلوه من أوْجُه إلى الحضيض، وكذبوا فيه كثيراً حتى قيل في المثل المعروف: «أعذبه أكذبه».

وربّما سخّروه في خدمة الجبابرة والظالمين وتملّقوا لهم، رجاء صلة محتقرة رخيصة...

أو أنّهم أفرطوا في وصف الشراب والفجور والفسق أحياناً، إلى درجة يخجل القلم عن ذكرها!

وربّما أشعلوا الحروب بنيران أشعارهم، وجروا الناس إلى القتل والغارات، ولطخوا الأرض بدماء الأبرياء.

إلاّ أن في الطرف الآخر ـ وفي قبالهم ـ الشعراء الذين آمنوا بمبدئهم، واشتدت همتهم، فسخّروا هذه القريحة الملكوتية في سبيل حرية الناس والتقوى، ومواجهة اللصوص والمستكبرين والجبابرة، فبلغوا أوج الفخر!

وربّما دافعوا عن الحق فاشتروا بكل بيت من أبيات شعرهم بيتاً في الجنّة.(2)

ربما وقفوا في وجوه حكام الظلم والجور كبني أمية وبني العباس الذين كانوا يحبسون الأنفاس في الصدور، فتُجلى القلوب بقصيدة كقصيدة دعبل «مدارس

_____________________________

 

1 ـ تفسير القرطبي، ج 7، ص 869.

2 ـ جاء عن الإمام الصادق أنّه قال: «من قال فينا بيْتَ شعر بنى الله له بيتاً في الجنة»

، «الغدير، ج 2، ص 3».

[490]

آيات خلت من تلاوة» وأماطوا عن الحقّ لثام الباطل، فكأنّما كان يجري على لسانهم روح القدس.(1)

وربّما أنشدوا الأشعار لإنهاض المضطهدين الذين كانوا يحسّون في أنفسهم الإحتقار والإزدراء من قبل الظلمة... فهاجوهم وأثاروهم بتلك الأشعار...

والقرآن يقول في شأن هؤلاء: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله وانتصروا من بعدما ظُلموا).

ممّا يلفت النظر أن هؤلاء الشعراء قد يتركون شعراً خالداً مؤثراً بليغاً... حتى أن أئمّة الإسلام الكرام ـ كما تقول بعض الرّوايات ـ أوصوا شيعتهم وأصحابهم بحفظ أشعارهم كما ورد ذلك في شأن «أشعار العبدي». إذ ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «يا معشر الشيعة، علموا أولادكم شعر العبدي، فإنّه على دين الله».(2)

ونختتم هذا البحث بقصيدة للعبدي، وهي من قصائده المعروفة، في شأن خلافة الإمام علي(عليه السلام) وصيّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال:

وقالوا رسول الله ما اختار بعده إماماً ولكنّا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماماً إن أقام على الهدى أطعنا وإن ضل الهداية قوّمنا

فقلنا: إذاً أنتم إمام إمامكم بحمد من الرحمن تهتم ولا تهنا

ولكننا اخترنا الذي اختار ربّنا لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا

ونحن على نور من الله واضح فيا ربّ زدنا منك نوراً وثبتنا(3)

_____________________________

 

1 ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)

أنه قال: «ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس»

«عيون أخبار الرضا»...

2 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 71.

3 ـ الكنى والألقاب، ج 2، ص 455.

[491]

3 ـ ذِكْرُ الله:

قرأنا في الآيات ـ آنفة الذكر ـ أن من خصائص الشعراء الهادفين هو أنّهم يذكرون الله كثيراً...

ونقرأ في بعض الأحاديث المرويّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه يقول: قول الله عزوجل: (وذكروا الله كثيراً) ما هذا الذكر الكثير؟ قال: «من سبح تسبيح فاطمة الزهراء(عليها السلام) فقد ذكر الله الذكر الكثير».(1)

كما جاء عنه(عليه السلام) أنه قال: من أشدّ ماقرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً... ثمّ قال(عليه السلام): «لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكر الله عِنْدَما أحلّ وحرّم! فإن كان طاعةً عمل بها، وإن كان معصيةً تركها!».(2)

ربّنا، أملأ قلوبنا بذكرك، لنختار ما يرضيك، ونترك ما يسخطك...

ربّنا، اجعل ألسنتنا بليغة، وأقلامنا سيّالة، وقلوبنا مليئة بالإخلاص، لنستعمل ذلك في سبيلك وابتغاء رضوانك، آمين ربّ العالمين.

 

* * *

إنتهاء سورة الشعراء

ونهاية المجلد الحادي عشر

 

_____________________________

 

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 73.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 73، نقلا عن اصول الكافي.

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403245

  • التاريخ : 19/04/2024 - 20:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net