00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاسراء من آية 86 ـ آخر السورة من ( ص 130 ـ 184 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[130]

الآيتان

وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا(86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبّـِكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً(87)

التّفسير

ما عِندكَ هو مِن رحمته وبركته:

تحدثت الآيات السابقة عن القرآن، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضاً ينصبان في نفس الإِتجاه.

ففي البداية تقول الآية: (ولئن شئنا لنذهبَّن بالذي أوحينا إِليك). وبعد ذلك: (ثمّ لا تجد لك به علينا وكيلا) إِنّنا نحنُ الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائداً وهادياً للناس، ونحن الذين إِذا شئنا استرجعناها مِنك، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

وعند ربط هذه الآيات بالآية السابقة التي كانت تقول: (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) فإِنّنا نعرف أنَّ الله إِذا شاء يأخذ حتى هذا العلم الذي أعطاه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).

الآية التي بعدها جاءت لتستثني، فهي تبيّن أنّنا إِذا لم نأخذ ما أعطيناك، فليس ذلك سوى رحمة مِن عندنا، حيثُ يقول تعالى: (إِلاَّ رحمة مِن ربّك) وهذه

[131]

الرحمة لأجل هدايتك وإِنقاذك، وكذلك لهداية وإِنقاذ العالم البشري، وهذه الرحمة ـ في الواقع ـ مُكمَّلة لرحمة الخلق.

إِنَّ الله الذي خلق البشر بمقتضى رحمته الخاصّة والعامّة، وألبسهم لباس الوجود الذي هو أفضل الألبسة، هو نفسهُ الذي بعث إِليهم قادة واعين معصومين وحريصين رؤوفين .. ذوي استقامة وقدرة لهداية الناس، لأنّ مِن مقتضيات رحمة الله أن لا تخلو الأرض مِن حجّة له عزَّوجلّ.

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى: (إِنَّ فضله كان عليك كبيراً).

إِنَّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك مِن جهة، وحاجة العباد إِلى مثل قيادتك مِن جهة أُخرى، جعلا فضل الله عليك كبيراً للغاية فقد فتح الله أمامك أبواب العلم، وأنبأك بأسرار هداية الإِنسان، وعصمك مِن الخطأ، حتى تكون أسوة وقدرة لجميع الناس إِلى نهاية هذا العالم.

كما أنّه ينبغي أن نشير إلى أنَّ الجملة الإِستثنائية الواردة هُنا ترتبط مع الآية السابقة، ومفهوم المستثنى والمستثنى منهُ هو هكذا: إِذا أردنا فإنّنا نستطيع أن نمنع عنك هذا الوحي الذي أرسلناه لك، إِلاَّ أنّنا لا نفعل، لأنَّ الرحمة الإِلهية شملتك وتشمل جميع الناس(1).

ومِن الواضح أنَّ هذا الإِستثناء لا يعني أنَّ الله يحجب في يوم مِن الأيّام رحمته عن نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هو دليل على أنَّ الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يملك شيئاً مِن عنده، فعلمه ووحيه السماوي هو مِن الله ومرتبط بمشيئته وإِرادته.

* * *

____________________________

1 ـ في الحقيقة إِنّ مفهوم الجملة هو هكذا: «ولكن لا نشاء أن نذهب بالذي أوحينا إِليك رحمةً مِن ربّك».

[132]

الآيتان

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِْنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً(88)وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَل فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً(89)

التّفسير

معجزة القرآن:

الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن إِعجاز القرآن، ولأنَّ الآيات اللاحقة تتحدَّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات، فإِنَّ الآية التي بين أيدينا ـ في الحقيقة ـ مقدمة للبحث القادم حول المعجزات.

إِنَّ أهم وأقوى دليل ومعجزة لرسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والتي هي معجزتهُ الدائمة على طول التأريخ، هو القرآن الكريم الذي بوجوده تبطل حجج المشركين.

بعض المفسّرين أراد أن يؤكّد إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة من خلال

[133]

مجهولية الروح وأسرارها وقياسها بمجهولية القرآن وأسراره. ولكن العلاقة التي أشرنا إِليها آنفاً تبدو أكثر مِن هذا الربط(1).

على أيةِ حال فإِنَّ الله يُخاطب رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول له: (قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

إِنَّ هذه الآية دعت ـ بصراحة ـ العالمين جميعهم، صغاراً وكباراً، عرباً وغير عرب، الإِنسان أو أي كائن عاقل آخر، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم ... لقد دعتهم جميعاً لمواجهة القرآن، وتحدّيه الكبير لهم، وقالت لهم: إِذا كُنتم تظنون أنَّ هذا الكلام ليس مِن الخالق وأنّه مِن صنع الإِنسان، فأنتم أيضاً بشر، فأتوا إِذاً بمثله، وإِذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم، فهذا العجز أفضل دليل على إِعجاز القرآن.

إِنَّ هذه الدّعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد بـ «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة، وعندما يرد هذا التعبير في أي مكان، نفهم بوضوح أنَّ هذا الموضوع هو مِن المعجزات.

ونلاحظ في هذه الآية عدّة نقاط ملفته للنظر:

1 ـ عمومية دعوة التحدَّي والتي تشمل كل البشر والموجودات العاقلة الأُخرى.

2 ـ خلود دعوة التحدِّي واستمرارها، إِذ هي غير مقيَّدة بزمان، وعلى هذا الأساس فإِنَّ هذا التحدِّي اليوم جار مِثلما كان في أيّام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيبقى كذلك

____________________________

1 ـ يراجع في ظلال القرآن، ج 5، ص 358.

[134]

في المستقبل.

3 ـ استخدام كلمة «إجتمعت» إِشارة لأشكال التعاون والتعاضد والتساند الفكري والعملي، الذي يُضاعف حتماً مِن نتائج أعمال الأفراد مئات، بل آلاف المّرات.

4 ـ إِنَّ تعبير (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) تأكيد مجدَّد على قضية التعاون والتعاضد، وهي أيضاً إِشارة ضمنية إِلى قيمة هذا العمل وتأثيره على صعيد تحقق الأهداف وتنجُزَها.

5 ـ إِنَّ تعبير (بمثل هذا القرآن) دلالة على الشمول والعموم، وهو يعني (المثل) في جميع النواحي والأُمور، مِن حيث الفصاحة والبلاغة والمحتوى، وَمِن حيث تربية الإِنسان، والبحوث العلمية والقوانين الإِجتماعية، وعرض التأريخ، والتنبؤات الغيبية المرتبطة بالمستقبل .. إِلى آخر ما في القرآن مِن أُمور.

6 ـ إِنَّ دعوة جميع الناس للتحدّي دليل على أنَّ الإِعجاز لا ينحصر في ألفاظ القرآن وفصاحته وبلاغته وحسب، وإِلاَّ لو كانَ كذلك، لكانت دعوة غير العرب عديمة الفائدة.

7 ـ المعجزة تكون قوية عِندما يقوم صاحب المعجزة بإِثارة وتحدِّي أعدائه ومخالفيه، وبتعبيرنا تقول: يستفزهم، ثمّ تظهر عظمة الإِعجاز عِندما يظهر عجز أُولئك وفشلهم.

وفي الآية التي نبحثها يتجلى هذا الأمر واضحاً، فمن جانب دعت جميع الناس، ومِن جانب آخر تستفزهم بصراحة في قولها (لا يأتون بمثله) ثمّ تحرضهم وتدفعهم للتحدي بالقول (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

الآية التي بعدها ـ في الواقع ـ توضيح لجانب مِن جوانب الإِعجاز القرآني، مُتمثلا في شموليته وإِحاطته بكل شيء، إِذ يقول تعالى: (ولقد صرَّفنا للناسِ في

[135]

هذا القرآن مِن كلِّ مَثل). ولكن بالرغم مِن ذلك: (فأبى أكثر الناس إِلاَّ كفوراً).

«صرَّفنا» مِن «تصريف» بمعنى التغيير أو التبديل.

أمّا «كفوراً» فتعني إِنكار الحق.

حقّاً إِنَّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب، خاصّة وأنّه صدر مِن شخص لا يعرف القراءة والكتابة، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصّة حول قضايا العقائد، وذكرت ـ أيضاً ـ الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرَّض القرآن ـ أيضاً ـ إِلى قضايا وأحداث تأريخية تُعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها، وخالية مِن الخرافات.

وتعرض إِلى البحوث الأخلاقية التي تؤثَّر في القلوب المستعدّة كتأثير المطر في الأرض الميتة.

القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم، إِذ ذُكرت بعض الحقائق التي لم تكن تُعرف في ذلك الزمان مِن قبل أي عالم.

والخلاصة: إِنَّ القرآن سلك كل واد وتناول في آياته أفضل النماذج.

وإِذا توجهنا إِلى حقيقة محدودية معلومات الإِنسان كائناً مَن كانَ (كما تشير إِلى ذلك أيضاً الآيات القرآنية) وأنَّ رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترعرع في بيئة محدودة في القضايا العلمية والمعرفية حتى أنّها لم تبلغ مِن معلومات ومعارف الإِنسان في زمانها إِلاَّ مبلغاً يكاد لا يُذكر ... وسط كل ذلك، ألا يُعتبر التنوع في القرآن في قضايا التوحيد والأخلاق والإِجتماع والسياسة والأُمور العسكرية وغيرها، دليلا على أنَّ هذا القرآن ليسَ مِن صُنع عقل بشري، بل مِن  الخالق جلَّوعلا؟

ولهذا السبب إِذا اجتمعت الجن والإِنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

[136]

لِنفترض أنَّ جميع العلماء والمتخصصين يجتمعون اليوم لتأليف دائرة معارف، ويُنظموها بأفضل ما لديهم مِن خبرات فنية ومعرفية، فإِنَّ النتيجة ستكون عملا يلقى صداه الحَسن في مجتمع اليوم، أمّا بعد خمسين عاماً فسيعتبر هذا العمل ناقصاً وقديماً.

أمّا القرآن ففي أي عصر وزمان يُقرأ، وخاصّة في زماننا الحاضر، فإِنّه يبدو كأنَّهُ نزل ليومنا هذا، ولا يوجد فيه أي أثر يدل على أنَّهُ قديم.

* * *

[137]

الآيات

وَقَالُوا لَنْ نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَْرْضِ يَنْبُوعاً(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأَْنْهَـرَ خِلَـلَهَا تَفْجِيراً(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَ الْمَلَـئِكَةِ قَبِيلا(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُف أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولا(93)

سبب النّزول

لقد ذكرَ المفسّرون استناداً للروايات الواردة أسباباً عديدة لنزول هذه الآيات، وفيما يلي سنتعرض بشكل موجز إِلى هذه الأسباب معتمدين بشكل مُباشر على تفسير مجمع البيان الذي قال:

إِنَّ جماعة مِن وُجهاء قريش ـ وفيهم الوليد بن المغيرة وأبوجهل ـ اجتمعوا عند الكعبة، وقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمّد فكلّموه وخاصموه. فبعثوا إِليه: إِنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك. فبادر(صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم ظنّاً مِنهُ، أنَّهُم بدا لهم في أمره، وكانَ حريصاً على رشدهم، فجلس إِليهم، فقالوا: يا محمّد إِنا دعوناك لِنعذر إِليك،

[138]

 فلا نعلم أحداً أدخلَ على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، وعبت الدين وسفهت الأحكام، وفرقت الجماعة، فإن كُنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك، وإِن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا، وإِن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «ليس شيءٌ مِن ذلك، بل بعثني الله إِليكم رسولا، وأنزل كتاباً، فإِن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردّوه أصبر حتى يحكم الله بيننا».

قالوا: فإِذَن ليسَ أحد أضيق بلداً مِنّا فاسأل ربّك أن يُسيِّر هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وأن يبعث لنا مَن مضى وليكن فيهم قصيّ فإِنَّهُ شيخٌ صدوق لنسألهم عمّا تقول أحقٌ أم باطل.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما بهذا بعثت».

قالوا: فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكاً يصدقك ويجعل لنا جنات وكنوزاً وقصوراً مِن ذهب.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما بهذا بعثت، وقد جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم وإِلاَّ فهو يحكم بيني وبينكم».

قالوا: فأسقط علينا السماء كما زعمت، إِن ربّك إِن شاء فعل ذلك.

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «ذاك إِلى الله إِن شاء فعل».

وقال قائلٌ مِنهم: لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقامَ معهُ عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمّد عرضَ عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثمّ سألوك لأنفسهم أُموراً فلم تفعل، ثمّ سألوك أن تعجِّل ما تخوفهم به فلم تفعل، فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ سلَّماً إِلى السماء ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر، ويأتي معك نفرٌ مِن الملائكة يشهدون لك، وكتاب يشهد لك.

[139]

وقال أبوجهل: إِنَّهُ أبى إِلاَّ سبّ الآلهة وشتم الآباء، وأنا أُعاهد الله لأحملن حجراً فإِذا سجد ضربت بهِ رأسهُ.

فانصرف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حزيناً لما رأي مِن قوله، فأنزل الله سبحانه الآيات أعلاه(1).

* * *

التّفسير

أعذار وذرائع مُختلفة:

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإِعجاز القرآن، جاءت هذه الآيات تشير إِلى ذرائع المشركين، هذه الذرائع تُثبت أنَّ مواقف هؤلاء المشركين إِزاء دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) التي جاءت أصلا لإِحيائهم، لم تكن إِلاَّ للعناد والمُكابرة، حيثُ أنّهم كانوا يُطالبون بأشياء غير معقولة في مقابل اقتراح الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)المنطقي وإِعجاز القوي.

هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي:

1 ـ في البداية يقولون: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تُفجِّر لنا مِن الأرض ينبوعاً).

«فجور وتفجير» بمعنى الشق. وهي عامّة، سواء كان شق الأرض بواسطة العيون أو شق الأفق بواسطة نور الصباح (مع الأخذ بنظر الإِعتبار أن تفجير هي صيغة مُبالغة لفجور).

«ينبوع» مأخوذة مِن «نبع» وهو محل فوران الماء، والبعض قالوا بأنَّ الينبوع هي عين الماء التي لا تنتهي أبداً.

____________________________

1 ـ يُراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآيات. وكذلك جاءَ مثلهُ مع تفاوت في الدر المنثور للسيوطي أثناء تفسير الآيات.

[140]

2 ـ قولهم كما في الآية: (أو تكون لك جنّة مِن نخيل وعنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً).

3 ـ (أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً).

4 ـ (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا).

«قبيل» تعني في بعض الأحيان «الكفيل والضامن»، وتعني ـ في أحيان أُخرى ـ الشيء الذي يوضع قبال الإِنسان وفي مُواجهته، وقال بعضهم بأنّها جمع (قبيلة) أي الجماعة مِن الناس.

وطِبقاً للمعنى الأوّل يكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة كضامنين على صدقك!

وأمّا طِبقاً للمعنى الثّاني فيكون المعنى أن تأتي بالله والملائكة وتضعهما في مقابلنا!

وأمّا طِبقاً للمعنى الثّالث فيكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة على شكل مجموعة مجموعة!

ويجب الإِنتباه إِلى أنَّ هذه المفاهيم الثلاثة لا تتعارض فيما بينها، ويمكن أن تكون مجتمعة في مفهوم الآية، لأنّ استخدام كلمة واحدة لأكثر مِن معنى ممكن عِندنا.

5 ـ (أو يكون لك بيتٌ مِن زُخرف).

«زخرف» في الأصل تعني (الزينة)، ويقال للذهب «زُخرف» لأنَّهُ مِن الفلزات المعروفة والمستخدمة لأغراض الزينة، ويقال للبيوت المزيَّنة والملونة أنّها (مزخرفة)، كما يُقال للكلام المزوَّق والمخادع بأنَّهُ «كلام مزخرف».

6 ـ (أو ترقى السماء ولن نُؤمن لرقيك حتى تُنزِلَ علينا كتاباً نقرؤه).

ثمّ يصدر الأمر مِن الخالق جلَّوعلا لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه: (قل سبحان رَبّي هل كُنت إِلاَّ بشراً رسولا).

* * *

[141]

بحوث

1 ـ جواب الرّسول للمتذرعين

لقد تبيّن مِن خلال الآيات أعلاه والحديث الوارد في أسباب النّزول، أنَّ طلبات المشركين العجيبة والغريبة لم تكن تنع مِن روح نشدان الحقيقة، بل كان هدفهم البقاء على الشرك وعبادة الأصنام لأنّه كان يمثل الدعامة الأساسية والقوّة المادية لزعماء مكّة، وكذلك منع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الاستمرار في طريق الدعوة الى التوحيد بأي صورة ممكنة.

إِلاَّ أنَّ الرّسول الهادي(صلى الله عليه وآله وسلم) أجابهم بجوابين مَنطقيين وفي جملة واحدة وقصيرة:

الجواب الأوّل: إِنَّ الخالق جلَّوعلا مُنزَّه عن هذه الأُمور، مُنزّه التأثّر بهذا وذاك، ومنزّه مِن أن يستسلم للإِقتراحات الباطلة والواهية لاصحاب العقول السخيفة: (سبحان ربّي).

الجواب الثّاني: بغض النظر عمّا مضى فإِنَّ الإِتيان بالمعجزات ليس مَن عملي، فأنا بشرٌ مِثلكم، إِلاَّ أنّني رسول الله، والقيام بالمعاجز مِن عمل الخالق وبإِرادته تتمّ، وبأمره تُنجز، فأنا لا أستطيع أن أطلب مثل هذه الأُمور مِن الخالق ولا يحق لي أن أتدخل في مثل الأُمور، فمتى شاء سبحانه فسيبعث بالمعجزات الإِثبات صدق دعوة رسوله: (هل كنت إِلاَّ بشراً رسولا).

صحيح أنَّ هناك ترابط بين هَذين الجوابين، إِلاَّ أنّهما يعتبران جوابين مُنفصلين، فأحدهما يثبت ضعف البشر في مقابل هذه الأُمور، والثّاني تنزيه ربّ البشر عن القبول بهذه المعجزات المُقترحة.

وعادة فإِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس إِنساناً استثنائياً يجلس في مكان معين، ويأتي الأشخاص يقترحون عليه المعجزات كيفما يشاؤون، ويتلاعبون بقوانين وسُنن الخلق والوجود، وإِذا لم تُعجبهم معجزة معينة يطلبون غيرها ... وهكذا.

[142]

إِنَّ مسؤولية الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هي إثبات إرتباطه بالخالق عن طريق المعجزة، وعندما يأتي بالقدر الكافي مِن المعاجز، فليست عليه أية مسؤولية أُخرى.

إِنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) قد لا يعرف بزمان نزول المعجزات، وقد يطلب المعجزة مِن ربِّه عِندما يعلم بأنَّ الاتيان بها يرضي الله تعالى.

2 ـ الأفكار المحدودة والطلبات غير المعقولة

كل إِنسان يتكلم بحدود فكره، ولهذا السبب فإنَّ حديث أي شخص هو دليل على مقدار عمق أفكاره.

الأفراد الذي لا يُفكرون إِلا بالمال والجاه يتصورون أنَّ كل مَن يتحدث عن شيء إِنّما يقصد هذا المجال.

لهذا السبب كان مشركو مكّة يقترحون ـ بسبب قصور تفكير هم ـ على رسول الله اقتراحات تتصل بالمال وقضاياه، يطلبون مِنهُ أن يترك دعوته مقابل المال، إِنّهم يقيسون الروح الواسعة لرسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) بضيق أفكارهم.

إِنَّ هؤلاء كانوا يعتقدون بأنَّ مَن لا يُجاهد في سبيل المال أو المقام مجنون حتماً، ومثلهم كمثل المسجون في غرفة صغيرة لا يرى السماء الواسعة والشمس العظيمة والجبال الشامخة والبحار الواسعة ولا يحس بعظمة عالم الوجود. لقد أرادوا مقايسة الروح السمحة العظيمة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بمقاييسهم.

إضافة لذلك، لنر ما هي الأشياء التي أرادوها مِن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تكن موجودة في الإِسلام، لقد أرادوا الأراضي المزروعة والعيون المُتفجِّرة، وبساتين النخيل والأعناب، والبيوت المزخرفة. ونحن نعلم أنَّ الإِسلام قد فتح ابواب التقدُّم والتكنولوجيا بحيث يُمكن في ظل التقدم الإِقتصادي تحقيق الكثير مِن هذه الأُمور، بل ونلاحظ بأنَّ المسلمين في ظل البرامج القرآنية وصلوا إِلى تحقيق تقدّم أكثر ممّا كان يدور في عقول المشركين ذوي الأفق الضيق.

[143]

فهؤلاء لو كانوا ينظرون بعين الحقيقة لكانوا قد شاهدوا هذا التطوَّر المعنوي العظيم في هذا الدين، وكذلك الإِنتصارات المادية المنظورة حيث يضمن القرآن سعادة الإِنسان في المجالين الدنيوي والأُخروي.

بالإِضافة إِلى ذلك، فإِنَّ اقتراحاتهم السفيهة الأُخرى تدل على مدى التكبُّر والغرور والجهل المسيطر على عقولهم .. كقولهم: أو تسقط السماء علينا ..

وقولهم: أن تضع سلماً وتصعد الى السماء.

وقولهم: أن تحضر أمّامنا الله والملائكة!! حتى أنّهم لم يطلبوا منه أن يأخذهم الى الله تعالى .. فما اشدّ هذا الجهل والغرور والتكبر!!

3 ـ ذريعة أُخرى لِنفي الإِعجاز

بالرغم مِن وضوح الآيات أعلاه، وأنّها غير معقَّدة، وأنَّ طلبات المشركين من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة، وكذلك سبب تعامل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) السلبي مع هؤلاء معلوم أيضاً، إِلاَّ أنَّ الآيات أصبحت ذريعة بيد بعض المتذرعين في عصرنا الذين يصرّون على نفي أي معجزة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

و هؤلاء يعتبرون هذه الآيات من أوضح الأدلة على نفي الإعجاز عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث طلب المشركون منه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي ستة أنواع من المعاجز سواء من الأرض أو السماء وسواء كانت مفيدة لهم أو قاضية بموتهم، إلاّ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستطيع تنفيذ أيّ منها، جوابه الوحيد لهم كان (سبحان ربّي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً).

نحن نقول: إذا لم يكن متذرعو اليوم كأسلافهم، فإنّ ما ورد في الآيات يكفيهم جواباً على ما أوردوا، إذ ينبغي أن نلاحض ما يلي:

1 ـ البعض من الطلبات الهزيلة، كمثل طلبهم إحضار الخالق جلّ وعلا والملائكة، أو المجيء برسالة من السماء فيها أسماؤهم وعناوينهم! البعض

[144]

الآخر مما طلبوا، فيها أجابهم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه، سوف لن يبقى أثر لهم، وبالتالي لن تكون قضية المعجزة ذات أثر في إيمانهم أو عدمه، مثل قولهم أن يسقط عليهم كسفاً من السماء، أي أن تنزل عليهم صخور من السماء.

أمّا بقية الطالبات المقترحة فتشمل الحصول على المزيد من وسائل الحياة المرفّهة والأموال والثروات الكبيرة، في حين أنّ الانبياء لم يأتوا لتحقيق هذه الاُمور.

وإذا افترضنا خلو ما اقترحه المشركون من المآخذ، فإنّنا نعلم ـ كما تخبر بذلك الآيات ـ أنّ ما طلبوه كان من نمط التحجّج والتذرّع أمام دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من مسؤولية رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم إلى ذرائعهم وتحججاتهم هذه، بل إنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقدّم المعجزة بمقدار ما يثبت صدق دعوته، ولا شيء أكثر من ذلك.

2 ـ بعض تعابير هذه الآيات توضح بنفسها ـ بصراحة شديدة ـ مدى عناد وتذرّع هؤلاء بمثل هذه الطلبات، فمثلاً هم يقترحون على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)الصعود الى السماء، ولكنّهم يقولون له، بأنّنا لا نصدّق صعودك إن لم تأتنا برسالة من السماء.

إذا كان هؤلاء طُلاّب معجزة ـ فقط ـ فلماذا لا يكفيهم صعود الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)السماء، ثمّ هل هُناك دليل أوضح مِن هذا على عدم واقعية هؤلاء القوم وعدم مَنطقية عروضاتهم؟

3 ـ إِضافة إِلى كلّ ما مر، فإِنّنا نعلم أنَّ المعجزة مِن عمل الخالق جلَّ وعلا وليست مِن عمل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين يظهر واضحاً مِن كلامهم أنّهم كانوا يعتبرون المعجزة مِن فعله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا كانوا ينسبون جميع الأعمال إِليه مثل قولهم: (تفجّر لنا مِن الأرض ينبوعاً ... أو تُسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتينا بالله والملائكة) وما إِلى ذلك مِن طلبات.

الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعتقد بأنَّ عليه أن يزيل هذه الأوهام مِن عقولهم، ويُثبت

[145]

لهم بأنَّهُ ليس هو الله ولا هو شريكهُ، والمعجزة مِن الله دون سواه، فأنا بشرٌ مِثلكم، والفارق أنَّ الوحي ينزل عليّ، وبمقدار ما يلزم الأمر فإِنَّ الله يُنزل المعاجز على يدي، ولا أستطيع أن أفعل أكثر مِن هذا، وقوله (سبحان ربّي) شاهد على هذا المعنى، إِذا أنَّ الخالق مُنزَّه عن أي شريك وشبيه.

وبالرغم مِن أنَّ القرآن ذكر معاجز مُتعدِّدة لعيسى(عليه السلام) مِثل إِحياء الموتى وشفاء المرضى وغير ذلك، إِلاَّ أنَّ هذه المعجزات جميعاً كانت مُلحقة بكلمة «بإِذني» أو «بإِذن الله» أي إِنّها تتم ـ فقط ـ بإِذن الخالق، وأجريت على يد المسيح(عليه السلام)(1).

4 ـ أيّ إِنسان يصدّق بأنّ انساناً يدّعي النّبوة، بل يعتبر نفسهُ خاتم النّبيين، ويذكر في كتابه المعاجز الكثيرة للأنبياء السابقين، إِلاَّ أنَّهُ نفسهُ لا يستطيع أن يأتي بمعجزة؟!

ثمّ إِنَّ الناس على هذا الفرض، ألا يعترضون على مثل هذا النّبي ويقولون لهُ: كيف تكون نبيّاً في حين أنّك تعجز عن القيام بمعاجز مثل معاجز الأنبياء الآخرين ... فإِن كُنت تدّعي أنّك أفضل مِنهم جميعاً وخاتمهم، فكيف إِذن تستقيم الدعوة مع عدم الإِتيان بالمعجزات؟

إِنَّ هذا الواقع ـ بحدِّ ذاته ـ دليل على أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جاءَ ـ عند الضرورة واللزوم ـ بالمعجزات، ومن هُنا يتّضح أن عدم استسلام رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) لطلبات المشركين الآنفة إِنّما يعود لعلمه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم جدواها في إثبات ما يلزم مِن نبوته، وأنّها انطلقت ـ فقط ـ على سبيل التحجج والتذرُّع مِن قبل عتاة قريش وكُبرائها، لذلك أهمل(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الكلام ولم يستجب لإِقتراحاتهم غير المنطقية وغير المعقولة.

* * *

____________________________

1 ـ يُمكن في هذا الصدد مُراجعة الآيات (110) مِن سورة المائدة، و(49) مِن سورة آل عمران.

[146]

الآيتان

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلآَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولا(94) قُل لَّوْ كَانَ فِى الاَْرْضِ مَلَـئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولا(95)

التّفسير

ذريعة عامّة:

الآيات السابقة تحدَّثت عن تذرُّع المشركين ـ أو قسم منهم ـ في قضية التوحيد، أمّا الآيات التي نبحثها فإِنّها تشير إِلى ذريعة عامّة في مقابل دعوة الأنبياء، حيثُ تقول: (وما منعَ الناس أن يؤمنوا إِذ جاءهم الهُدى إِلاَّ أن قالوا أبَعَثَ اللَّهُ بشراً رسولا).

هل يمكن التصديق بأنَّ هذه المهمّة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإِنسان ... ثمّ والكلام للمشركين ـ ألم يكن الأُولى والأجدر أن تقع هذه المهمّة ـ وهذه المسؤولية ـ على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة - مثلا ـ كي يستطيعوا أداء هذه المهمّة بجدارة ... إِذ أين الإِنسان الترابي والرسالة الإِلهية؟!

إِنَّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسانِ المشركين لا يخص

[147]

مجموعة أو مجموعتين مِن الناس، بل إِنَّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تَذَرّعوا به في مقابل الأنبياء والرُسُل.

قوم نوح(عليه السلام) ـ مثلا ـ كانوا يعارضون نبيّهم بمثل هذا المنطق ويصّرحون: (ما هذا إِلاَّ بشرٌ مِثلكم) كما حَكَت ذلك الآية (24) مِن سورة المؤمنون.

أمّا قوم هود فقد كانوا يُواجهون نبيّهم بالقول: (ما هذا إِلاَّ بشرٌ مِثلكم يأكل ممّا تأكلون مِنهُ ويشرب مما تشربون) كما ورد في الآية (33) مِن سورة المؤمنون. ثمّ أضافت الآية (34) مِن نفس السورة قولهم: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إِنكم إِذاً لخاسرون).

نفس هذه الذريعة تمسّك بها المشركون ضد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمام دعوة الإِسلام التي جاءَ بها، إِذ قالوا: (ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معهُ نذيراً)(1).

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعاً في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات، قال تعالى: (قُل لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مُطمئنين لَنزَّلنا عليهم مِن السماء ملكاً رسولا).

يعني أنَّ القائد يجب أن يكون مِن سنخ مَن بُعِثَ إِليه، ومِن جنس أتباعه، فالإِنسان لجماعة البشر، والمَلَك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح; فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد مِن خلال كونه قدوة واسوة، وهذا لا يتمّ إِلاَّ أن يكون القائد مِن جنسهم، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس، ونفس مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكهُ كل فرد مِن أفراد جماعته، فلو كانَ الرّسول إِلى البشر مِن جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون إِلى الطعام والمسكن والملبس، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لِمن

____________________________

1 ـ الفرقان، 7.

[148]

بُعِثَ إِليهم، بل إِنَّ الناس سوف يقولون: إِنَّ هذا النّبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا وضمائرنا، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إِلى ذلك، إِنَّ مثل هذا الرّسول سوف يتحدث إِلى نفسه فقط، إِذ لو كان مِثلنا يملك نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكانَ مِثلَ حالنا أو أسوأ، لذا لا اعتبار لكلامه.

أمّا عندما يكون القائد مِثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) الذي يقول: «إِنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لِتأتي أمنة يوم الخوف الأكبر»(1). فإنّ مِثلُه يصلح أن يكون الأسوة والقدوة لِمن يقودهم.

مِن جانب آخر ينبغي للقائد أن يُدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادراً على علاجهم، والإِجابةِ على أسئلتهم، لهذا السبب نرى أنَّ الأنبياء برزوا مِن بين عامّة الناس، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس، وذاقوا جميع مرارات الحياة، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها ومصابرة مُشكلات الحياة.

* * *

ملاحظات

1 ـ قوله تعالى: (وما منع الناس ...) يعني إِن سبب عدم إِيمانهم هو هذا التذرُّع، إِلاَّ أنَّ هذا التعبير ليس دليلا على الحصر، بل هو للتأكيد وبيان أهمية الموضوع.

2 ـ عبارة: (ملائكةٌ يمشون مطمئنين) موضع اختلاف في أقوال وآراء المفسّرين، فالبعض يعتبرها إِشارة إِلى قول عرب الجاهلية الذين كانوا يقولون بأنّنا كُنّا نعيش في هذه الجزيرة حياةً هادئة، وقد جاءَ محمّد ليجلب الفوضى والقلق، إِلاَّ أنّهم جوبهوا بقول القرآن لهم بأنَّهُ حتى لو كانت الملائكة تسكن

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.

[149]

الأرض وكانوا يعيشون حياةً هادئة ـ كما تدَّعون ـ فإِنّنا كُنّا سنرسل لهم رسولا مِن جنسهم وصنفهم.

البعض الآخر مِن المفسّرين فسّرها بأنّها «اطمئنان إِلى الدنيا ولذاتها والإِبتعاد عن أي مذهب ودين».

وأخيراً فسّرها بعضهم بمعنى (السكن والتوطُّن) في الأرض.

لكن الإِحتمال الأقوى هو أن يكون هدف الآية: لو كانت الملائكة ساكنة في الأرض، وكانوا يعيشون حياةً هادئة وخالية مِن الصراع والنزاع، فرغم ذلك كانوا سيشعرون بالحاجة إِلى قائد مِن جنسهم، حيثُ أنَّ الهدف مِن إِرسال الأنبياء وبعثهم ليس لإِنهاء الصراع والنزاع وإِيجاد أسباب الحياة المادية الهادئة وحسب، بل إِنَّ هذه الأُمور هي مقدمة لطي سبيل التكامل والتربية في المجالات المعنوية والإِنسانية، ومثل هذا الهدف يحتاج إِلى قائد إِلهي.

3 ـ يستفيد العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان مِن كلمة «أرض» في الآية أعلاه، أنَّ طبيعة الحياة المادية على الأرض تحتاج إِلى نبي، وبدونه لا يمكن الحياة.

إِضافة الى ذلك فإنّه يرى أنّ هذه الكلمة إِشارة لطيفة إِلى جاذبية الأرض حيثُ أنَّ التحرُّك بهدوء واطمئنان بدون وجود الجاذبية يعتبر أمراً محالا.

* * *

[150]

الآيتان

قُل كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَاً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيَراً بَصِيراً(96) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيـمَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنـهُمْ سَعِيراً(97)

التّفسير

المهتدون الحقيقيون:

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطاً في مجال التوحيد والنّبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين، فإِنَّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث، إِذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إِذا لم يقبل أُولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنّبوة والمعاد فقل لهم: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم إِنّه كان بعباده خبيراً بصيراً)(1).

إِنَّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلا: تُهدِّد المعارضين المتعصبين

____________________________

1 ـ مِن حيث التركيب: إِنَّ «الباء» في (كفى بالله) زائدة، و«الله» فاعل «كفى» و«شهيداً» تمييز، أو حال كما يقول البعض.

[151]

والمعاندين، بأنَّ الله خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم، فلا تظنوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنَّ شيئاً مِن أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثّاني: هو أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر إِيمانه القاطع بما قال، حيث أنَّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول له أثرٌ نفسي عميق في المستمع، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثراً فيهم، ويهز وجودهم، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إِلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أن الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى بنور الإِيمان في قلبه: (وَمَن يهدي الله فهو المهتد) أمّا من أظلّه الله بسوء أعماله: (وَمَن يُضلل فلن تجد لهم أولياء مِن دونه). فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إِليه ويطلبوا نور الهداية منهُ.

هاتان الجملتان تُثبتان أنَّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإِيمان، فما لم يكن هُناك توفيق إِلهى لا يستقر الإِيمان أبداً.

هذا التعبير يشبه دعوتنا لمجموعة لأن تفعل الخير بعد أن نشرح لهم أهمية الموضوع بواسطة الأدلة المُختلفة، إِلاَّ أنَّ الحصيلة العملية ستكون موافقة البعض، وامتناع البعض الآخر عن فعل الخير برغم صحة الأدلة. وبذلك لا يكون كل واحد لائقاً لفعل الخير.

وهذه حقيقة فليس كل قلب يليق لأن ينال نور الحق، إِضافة إِلى أنَّ الكلام يُثير المستمع، وقد يحدث أن يترك الشخص بتأثير هذا الكلام عناده ولجاجته ليثبت لياقته للحق ويستسلم له.

وقُلنا مِراراً: إِنَّ الهداية والضلالة الإِلهيتين ليستا شَيْئَيْنِ جبريين، بل تخضعان للأثر المباشر لأعمال الإِنسان وصفاته، فالأشخاص الذين جاهدوا أنفسهم وسعوا بجدية في طريق القرب الإِلهي، فمن البديهي أن الله سيوفقّهم

[152]

ويهديهم: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا)(1).

أمّا أُولئك الذين يسلكون طريق العناد والمُكابرة وتتلوَّث فطرتهم وقلوبهم بأنواع الذنوب والمفاسد والمظالم، فإنّهم قد قضوا على أي استعداد أو جدارة لديهم في قبول الحق بالتالي مستحق للضلالة: (ويضل الله الظالمين)(2). (وما يضل إِلاَّ الفاسقين)(3). (كذلك يضل الله مَن هُوَ مسرف مرتاب)(4).

أمّا عن سبب مجيء «أولياء» بصيغة الجمع، فقد يعود ذلك للإِشارة إلى تعدُّد الآلهة الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إِليها، فيكون المقصود أنَّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر، وكل ما تؤلهون مِن آلهة مِن دون الله، لا يستطيع أن ينقذكم مِن الضلالة وسوء العاقبة.

ثمّ تذكر الآيات ـ بصيغة التهديد القاطع ـ جانباً مِن مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول: (ونحشرهم يوم القيـمة على وجوهم) فبدلا مِن الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة، فإِنَّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إِلى جهنَّم على وجوههم تعذيباً لهم.

البعض يعتقد أنَّ هؤلاء يُسبحون يوم القيامة بسبب عجزهم في ذلك اليوم عن المشي، لذلك فإِنّهم يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

نعم، فأُولئك محرومون مِن نعمة كبيرة، هي نعمة المشي على الأرجل، لأنّهم لم يستفيدوا مِن هذه الوسيلة في هذه الدنيا في سلوك طريق السعادة والهداية، بل خصصوها لسلوك طرق الذنوب والمعاصي.

ثمّ هم يُحشرون: (عمياً وبكماً وصماً). وهُنا قد يطرح هذا السؤال، وهو: إِنَّ

____________________________

1 ـ العنكبوت، 69.

2 ـ إِبراهيم، 27.

3 ـ البقرة، 26.

4 ـ غافر، 34.

[153]

المجزمين وأهل الجحيم ينظرون ويسمعون ويتكلمون، فكيف تقول هذه الآية (عمياً وبكماً وصُماً)(1)؟

للمفسّرين أقوال مُتعدِّدة في الإِجابة على هذا السؤال، إِلاَّ أن أفضلها جوابان نستطيع إِجمالهما فيما يلي:

أوّلا: إِنَّ مراحل ومواقف يوم القيامة مُتعدِّدة، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صُماً وبكماً وعمياً، وهذا نوع مِن العقاب لهم، لأنّهم لم يستفيدوا مِن هذه النعم الإِلهية بصورة صحيحة في حياتهم الدنيا. إِلاَّ أنَّهُ ـ في مراحل لاحقة ـ فإِنَّ عيونهم تبدأ بالنظر، وآذانهم بالسماع، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين، ويبدأون بالتأوه والصراخ وإِظهار ضعفهم، حيث أن كل هذه الأُمور هي نوع آخر مِن العقاب لهم.

ثانياً: إِنَّ المجرمين وأهل النار محرومون مِن رؤية ما هو سارّ ومِن سماع أُمور تبعث على الفرح، ومِن قول كلام يستوجب نجاتهم، بل على العكس مِن ذلك، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلاّ ما يُؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية: (مأواهم جهنَّم).

لكن لا تظنّوا أنَّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية، بل هي: (كُلّما خبت زدناهم سعيراً)

* * *

____________________________

1 ـ في الآية (53) مِن سورة الكهف نقرأ قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار) وفي الآية (13) مِن سورة الفرقان قوله تعالى: (دعوا هُناك ثبوراً) وفي الآية(12) مِن الفرقان نقرأ: (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً).

[154]

الآيات

ذلِكَ جَزَآؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِئَايـتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظـماً وَرُفـتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمـوتِ وَالأَْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لاَّرَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّـلِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً(99) قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذاً لأََّمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِْنفَاقِ وَكَانَ الإِْنسـنُ قَتُوراً(100)

التّفسير

كيف يكون المعاد مُمكناً؟

في الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ يوماً سيئاً ينتظُر المجرمين في العالم الآخر. هذه العاقبة التي تجعل أي عاقل يفكّر في هذا المصير، لذلك فإِنَّ الآيات التي بين أيدينا تقف على هذا الموضوع بشكل آخر.

في البداية تقول: (ذلك جزاؤهم بأنّهم كفروا بآياتنا وقالوا ءاذا كُنّا عظاماً ورُفاتاً ءإِنا لمبعوثون خلقاً جديداً).

«رُفات» كما يقول الراغب في «المفردات» هي قِطَع مِن (التبن) لا تتهشم بل

[155]

تنتشر وتتناثر هنا وهناك. والأمر لا يحتاج إِلى مزيد توضيح، فالإِنسان يتحول تحت التُراب إِلى عظام نخرة ثمّ إِلى تُراب، ثمّ تتلاشى ذرات التراب هذه وتنتشر.

وبعد تعجبهم مِن المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمراً غير ممكن، يقول القرآن بأُسلوب واضح ومباشر وبلا فصل: (أو لم يَرَوا أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مِثلهم). وعلى هؤلاء أَن لا يعجلوا فإنّ القيامة وإِن تأخّرت، إلاّ أنّها سوف تتحقق بلا ريب: (وجعل لهم أجلا لا ريب فيه).

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هُم فيه رغم سماعهم هذه الآيات: (فأبى الظالمون إِلاَّ كفوراً).

وحيث أنّهم كانوا يصرخون ويصّرون على أن لا يكون النّبي مِن البشر حسداً مِن عند أنفسهم وجهلا وضلالا، وقد منعهم هذا الحسد والجهل مِن التصديق بإِمكانية أن يُعطي الله كل هذه المواهب لإِنسان، لذا فإِنَّ  الخالق جلَّوعلا يُخاطبهم بقوله: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إِذاً لأمسكتم خشية الإِنفاق). ثمّ يقول: (وكانَ الإِنسان قتوراً).

«قتور» مِن «قَتَرَ» على وزن «قتل» وهي تعني الإِمساك في الصرف، وبما أنَّ (قتور) صيغة مُبالغة فإِنّها تعني شدّة الإِمساك وضيق النظر.

* * *

ملاحظات

1 ـ المعاد الجسماني

الآيات أعلاه مِن أوضح الآيات المرتبطة بإِثبات المعاد الجسماني، فالمشركين كانوا يعجبون مِن إِمكانية عودة الحياة إِلى العظام النخرة، والقرآن يجيبهم بأنَّ القادر على خلق السماوات والأرض، لديه القدرة على جمع الأجزاء

[156]

المُتناثرة للإِنسان وأن يهبها الحياة مرّة أُخرى.

ولا ندري كيف ينكر بعض من يدعي الإِسلام قضية المعاد الجسماني، ويقتصرون في إِيمانهم على المعاد الروحي برغم الدلالات الواضحة لهذه الآيات وغيرها؟

كما إِنَّ الإِستدلال بالقدرة الكلية للخالق عزَّوجلّ في إِثبات المعاد، هو واحد مِن الأدلة التي يذكرها القرآن مراراً ويعتمد عليها كثيراً. ويظهر مِثل هذا النمط مِن الإِستدلال بالقدرة الكلية على المعاد في الآية الأخيرة مِن سورة (يس) والتي تتضمّن عدَّة أدلة لإِثبات المعاد الجسماني(1).

2 ـ أيّ الآيات؟

هُناك احتمالات عديدة في أنَّ الغرض مِن هذه (الآيات) في جملة (كفروا بآياتنا) هي آيات التوحيد أو أدلة النّبوة، أو الآيات المرتبطة بالمعاد. ولكن وقوع الجملة في بحث المعاد، ترجح اعتقادنا بأنّها إِشارة إِلى آيات المعاد، وهي في الحقيقة مقدمة للردّ على مُنكري المعاد.

3 ـ ما هو الغرض مِن «مثلهم»؟

إِنّنا نعرف أنَّ الله ـ بسبب قدرته العظيمة ـ قادر في يوم القيامة على إِرجاع الناس، في حين أنّنا نقرأ في الآيات أعلاه أنَّهُ يستطيع أن يخلق مِثلهم. وقد يكون هذا التعبير مدعاةً لإِشتباه أو استفسار البعض عمّا إِذا كانَ الناس الذين يَردون القيامة هم ليسوا هؤلاء الناس أنفسهم؟

بعض المفسّرين يرى أن الغرض مِن (مثل) هنا هو (عين) ففي بعض الأحيان نقول (مثلك يجب ألاَّ يقوم بهذا العمل) إِلاَّ أنّنا نقصد أنّك أنت الذي يجب أن لا

____________________________

1 ـ لمزيد مِن التفاصيل يُراجع كتاب: «العالم والمعاد بعد الموت».

[157]

تقوم بهذا العمل، لكن هذا التّفسير بعيد، لأنَّ مِثل هذه التعابير لها محل آخر  لا يتناسب مَع ما نبحثه الآن.

الظاهر أنَّ الغرض مِن استخدام تعبير (مثل) في هذه الآية هو إِعادة الحياة. فإِعادة الخلق مرّة ثانية لا تكون حتماً كالمرّة الأُولى، حيث هُناك على الأقل زمان آخر وظروف أُخرى، وصورة جديدة بالرغم مِن أنَّ المادة هي نفس المادة القديمة. وكمثال لذلك إِذا جمعنا اجزاء متناثرة لقطعة من الآجر ووضعناها في قالبها القديم، فإِنّنا لا نستطيع أن نقول عن الآجر الجديد أنّه نفس قطعة الآجر القديمة، بالرغم مِن أنَّهُ ليس إِلاَّ الطين السابق. بل نقول: إِنَّهُ مِثله. وهذا دليل على التعابير المختارة والمنتخبة في القرآن الكريم.

ومِن المُسَلَّم بهِ أنَّ روح الإِنسان تُحدِّد شخصيته، ونحن نعلم أنَّ الروح الأُولى هي التي عند البعث، إِلاَّ أنَّ المعاد الجسماني يقول لنا: إِنَّ الروح ستكون مع نفس المادة الأُولى، يعني أنَّ تلك المادة المتلاشية ستتجمَّع مرّة أُخرى وتندمج مع روحها، وفي موضوع المعاد أثبتنا أن روح الإِنسان بعد أن تتخذ شكلا معيناً لا يمكنها أن تنسجم مع غير جسدها الأصلي الذي تربت وعاشت معهُ. وهذا هو السر في البعث الروحي والجسدي معاً.

4 ـ ما هو (الأجل)؟

إِنَّ (الأجل) هو نهاية العمر. ولكن هل (الأجل) في هذه الآيات إِشارة إِلى نهاية العمر ... أو هو إِشارة إِلى نهاية عُمر الدنيا وبداية البعث؟

وبما أنَّ الحديث يدور حول المعاد، لذا فإِنَّ المعنى الثّاني أكثر صحة. وأمّا ما قالهُ بعض المفسّرين الكبار مِن أنَّ هذا الكلام لا يتناسب مع جملة (لا ريب فيه)لأنّ مُنكري المعاد كانوا يشكّون حتماً في قضية المعاد. فإِنَّ ذلك غير صحيح، لأنَّ مفهوم مثل هذا التعبير هو أنَّهُ يجب أن لا نسمح للشك بأنّ يدخل إِلى أنفسنا نحن،

[158]

لا أنَّ أحداً لا يشك بذلك!

لذا فإِنَّ المفهوم الكلي للآية يصبح على هذه الصورة. إِنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض يستطيع ـ حتماً ـ أن يعيد الحياة لهؤلاء البشر، أمّا إِذا لم يحدث هذا الأمر بسرعة، فذلك بسبب أنَّ السنة الإِلهية لها أجلٌ محدود وحتمي بحيث لا مجال للشك فيها.

وتصبح النتيجة: إِنَّ الدليل القاطع في قبال مُنكري المعاد هي هذه القدرة، وأمّا قوله: (جعل لهم أجلا لا ريب فيه) فهو جواب على سؤال حول سبب تأخير القيامة. (فدقق في ذلك).

5 ـ الترابط بين الآيات

عند مطالعة هذه الآيات يُثار سؤال حولَ كيفية الإِرتباط والصلة بين كلمة (قتوراً) التي هي بمعنى (بخيل) الواردة في آخر الآية، وبين ما نبحثُه؟

بعض المفسّرين قالوا: إِنَّ هذه الجملة إِشارة إِلى موضوع طُرِحَ قبل عِدَّة آيات مِن قبل عبدة الأصنام، فقد طلبوا مِن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يملأ أرض مكّة بالعيون والبساتين. أمّا القرآن فيقول في جواب هؤلاء: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إِذاً ...).

إِلاَّ أنَّ هذا التّفسير مُستبعد لأنَّ كلام المشركين لم يكن عن مالكية هذه العيون والبساتين، بل إِنّهم طالبوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأصل هذا العمل والذي يعتبر عملا إِعجازياً.

التّفسير الآخر الذي ذُكِرَ في بيان الصلة وهو أفضل مِن التّفسير الأوّل، هو أنّهم ـ بسبب بخلهم وضيق أنفسهم ـ كانوا يتعجبون مِن منح هذه الموهبة (النّبوة) للإِنسان، وهذه الآية بمثابة ردّ عليهم حيثُ تقول لهم: إِن بُخلكم بلغ درجة بحيث أنّكم لو ملكتم جميع الدنيا فسوف لا تتركون صفاتكم السيئة والقبيحة هذه.

[159]

6 ـ هل أن جميع البشر بُخلاء؟

لقد قُلنا ـ لمرّات عديدة ـ إِنَّ القرآن يذكر الإِنسان بشكل عام، ويلومه بأنواع اللوم، ويصفهُ بصفات كالبخل والجهل ... والعجول والظلوم وما شابهها.

إِنَّ هذه التعابير لا تتنافى مع كونِ المؤمنين والصالحين يتحلّون بضد هذه الصفات، حيث يُشير التعبير إِلى أنَّ الطبيعة الآدمية هي هكذا، وإِذا لم يخضع الإِنسان لتربية القادة الإِلهيين،، وتُرك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعداً للإِتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أنَّ ذاته خُلقت هكذا، أو أنَّ عاقبة الجميع كذلك(1).

7 ـ استخدام تعبير (خشية الإِنفاق)

يعني الخوف مِن الفقر، ذلك الفقر الذي يكون سببهُ كثرة الإِنفاق، كما يظنون.

* * *

____________________________

1 ـ في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.

[160]

الآيات

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايـت بَيِّنـت فَسْئَلْ بَنِى إِسْرءِيَلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لأََظُنُّكَ يـمُوسَى مَسْحُوراً(101)قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنْزَلَ هَؤُلآَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأََظُنُّكَ يـفِرْعَونُ مَثْبُوراً(102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَْرْضِ فَأَغْرَقْنـهُ وَمَنْ مَّعَهُ جَمِيعاً(103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرءِيلَ اسْكُنُوا الأَْرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأَْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً(104)

التّفسير

لم يُؤمنوا رغم الآيات:

قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنَّ المشركين طلبوا أُموراً عجبية غريبة من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبما أنَّ هدفهم ـ باعترافهم هم أنفسهم ـ لم يكن لأجل الحق وطلباً له، بل لأجل التذرُّع والتحجج والتعجيز، لذا فإِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ عليهم ورفض الإِنصياع إِلى طلباتهم.

[161]

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأُمم السابقة ممَّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية، إِلاَّ أنّهم استمروا في الإِنكار وعدم الإِيمان.

في البدء يقول تعالى: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات). سنشير في نهاية هذا البحث إِلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب مُوَّجه إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بني إِسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين: (فاسأل بني إِسرائيل إِذ جاءهم).

إِلاَّ أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق، بل أكثر مِن ذلك إتّهم موسى (فقال لهُ فرعونُ إِنّي لأظنّك يا موسى مسحوراً).

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين، فالبعض قالوا: إِنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أُخرى، تقول بأنَّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر، ومثل هذا الإِستخدام وارد ولهُ نظائر في اللغة العربية، حيثُ يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و(ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر مِن المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثَّر فيه الساحر، كما يُستفاد مِن الآية (39) مِن سورة الذاريات التي نسبت السحر إِليه، والجنون أيضاً، (فتولّى بِرُكنه وقال ساحرٌ أو مجنون).

على أي حال، فإِنَّ التعبير القرآني يكشف عن الأُسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمهُ المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإِلهيين بسبب حركتهم الإِصلاحية الربانية ضدَّ الفساد والظلم، إِذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يُؤثروا مِن هذا الطريق في قلوب الناس

[162]

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسى(عليه السلام) لم يسكت أمام اتّهام فرعون له، بل أجابهُ بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق، إِذ قالَ لهُ: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إِلاّ ربَّ السموات والأرض بَصائر).

لذا فإِنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنَّك تتنكر للحقائق، برغم علمك بأنّها مِن الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعندما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره، لذا: (وإِنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً).

(مثبور) مِن (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنَّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية، فإِنَّهُ سلك طريقاً يسلكهُ جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار، وذاكَ قوله تعالى: (فأراد أن يستفزَّهم مِن الأرض فأغرقناه ومَن معهُ جميعاً).

«يستفز» مِن «استفزاز» وتعني الإِخراج بقوة وعنف.

ومِن بعد هذا النصر العظيم: (وقلناه مِن بعده لبني إِسرائيل اسكنوا الأرض فإِذا جاءَ وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً). فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف»مِن مادة «لفَّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقَّدة بحيث  لا يعرف الأشخاص، ولا مِن أي قبيلة هُم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود مِن الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسى(عليه السلام) مِنها ما يلي:

1 ـ تحوّل العصا إِلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين، كما في الآية

[163]

(20) مِن سورة طه: (فإِذا هي حية تسعى).

2 ـ اليد البيضاء لموسى(عليه السلام) والتي تشع نوراً: (وأضمم يدك إِلى جناحك تخرج بيضاء مِن غير سوء آية أُخرى)(1).

3 ـ الطوفان: (فأرسلنا عليهم الطوفان)(2).

4 ـ الجراد الذي أبادَ زراعتهم وأشجارهم (والجراد)(3).

5 ـ والقمل الذي هو نوع مِن الأمراض والآفات التي تُصيب النبات: و(القمّل)(4).

6 ـ (الضفادع) التي جاءت مِن النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم: (والضفادع)(5).

7 ـ الدم، أو الإِبتلاء العام بالرُعاف، أو تبدُّل نهر النيل إِلى لون الدم، بحيث أصبحَ ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة: (والدم آيات مُفصلات)(6).

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إِسرائيل العبور منهُ: (وإِذا فرقنا بكم البحر)(7).

9 ـ نزول الـ (مَنّ) و(السلوى) مِن السماء، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) مِن سورة البقرة (وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى)(8).

10 ـ انفجار العيون مِن الأحجار: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت مُنه اثنتا عشرة عيناً)(9).

11 ـ انفصال جزء مِن الجبل لِيُظَلِّلَهُم: (وإِذ نتقنا الجبال فوقهم كأنَّهُ

____________________________

1 ـ طه، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و(6) ـ الأعراف، 133.

7 ـ البقرة، 50.

8 ـ البقرة، 57.

9 ـ البقرة، 60.

[164]

ظلّة)(1).

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات)(2).

13 ـ عودة الحياة إِلى المقتول والذي اصبح قتله سبباً للإِختلاف بين بني إِسرائيل: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى)(3).

14 ـ الإِستفادة مِن ظل الغمام في الإِحتماء مِن حرارة الصحراء بشكل إِعجازي: (وظَلَّلنا عليكم الغمام)(4).

ولكن الكلام هُنا هو: ما هو المقصود مِن (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر مِن خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنَّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه، وليست تلك المتعلقة ببني إِسرائيل مِن قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون مِن الصخور وأمثال ذلك.

لذا يُمكن القول أنَّ الآية (133) مِن سورة الأعراف تتعرض إِلى خمسة مواضيع مِن الآيات التسع وهي: (الطوفان، القمّل، الجراد، الضفادع، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) مِن سورة النمل بعد ذكر هاتين المُعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعاً، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إِنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع،

____________________________

1 ـ الأعراف، 171.

2 ـ الأعراف، 130.

3 ـ البقرة، 73.

4 ـ البقرة، 57.

[165]

لأنَّ الهدف مِن الآيات أن تكون دافعاً لهدايتهم وسبباً لقبولهم بنبوة موسى(عليه السلام)،  لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عِندَ التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاءَ فيها ذكر العديد مِن هذه الآيات يظهر أنَّ الآيتين الأخريتين هما: (الجفاف) و(نقص الثمرات) حيثُ أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد، والقمل...) قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص مِن الثمرات لعلهم يذكرون).

وبالرغم مِن أنَّ البعض يتصوّر أنَّ الجفاف لا يمكن فصلهُ عن نقص الثمرات وبذا تُعتبر الآيتان آية واحدة، إِلاَّ أنَّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قُلنا في تفسير الآية (130) مِن سورة الأعراف ـ لا يُؤثِّر تأثيراً كبيراً في الأشجار، أمّا عندما يكون جفافاً طويلا فإِنَّهُ سيؤدي إِلى إِبادة الأشجار، لذا فإِنَّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائماً إِلى نقص الثمرات.

إِضافة إِلى ما سبق يُمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنَّ الآيات التسع التي وردت الإِشارة إِليها في الآيات التي نبحثها هي: العصا، اليد البيضاء، الطوفان، الجراد، القمل، الضفادع، الدم، الجفاف، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنَّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يُؤمنوا، لذلك انتقمنا مِنهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1).

هُناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية، ولاختلافها فيما بينها لا يُمكن الإِعتماد عليها في إصدار الحكم.

____________________________

1 ـ الأعراف، 136.

[166]

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ قدَ أُمِرَ بسؤال بني إِسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى، وكيف أنَّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسى(عليه السلام) بُمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنَّ لدى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن العلم والعقل بحيث أنَّهُ لا يحتاج إِلى السؤال، لذا فإِنَّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يُقال: إِنَّ سؤال الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يكن لِنفسه، بل للمشركين، لذلك فما المانع مِن أن يكون شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عندما لم يوافق على اقتراحاتهم، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصُّب والعناد، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد بـ (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ الله أمر بني إِسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض، فهل الغرض مِن الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنَّ فرعون أراد أن يخرجهم مِن تلك الأرض. وبنفس المعنى أشارت آيات أُخرى إِلى أنَّ بني إِسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إِشارة إِلى الأرض المقدَّسة فلسطين، لأنَّ بني إِسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإِنّنا لا نستبعد أيّاً مِن الإِحتمالين، لأنّ بني إِسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه، وامتلكوا أرض فلسطين أيضاً.

[167]

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهراً ... إِنَّ الإِجابة بالإِيجاب، حيث أنَّ جملة (جئنا بكم لفيفاً) قرينة على هذا الموضوع، ومُؤَيِّدة لهذا الرأي. إِلاَّ أنَّ بعض المفسّرين احتملوا أنَّ (وعد الآخرة) إِشارة إِلى ما أشرنا إِليه في بداية هذه السورة، مِن أنَّ الله تبارك وتعالى قد تَوَعَّد بني إِسرائيل بالنصر والهزيمة مرَّتين، وقد سمى الأُولى بـ «وعد الأُولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة»، إِلاَّ أنَّ هذا الإِحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى: (جئنا بكم لفيفاً) (فدقق في ذلك).

* * *

[168]

الآيات

وَبِالْحَقّ ِ أَنْزَلْنـهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنـكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً(105) وَقُرْءَاناً فَرَقْنـهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث وَنَزَّلْنـهُ تَنْزِيلا(106) قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ سُجَّداً(107)وَيَقُولُونَ سُبْحنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا(108) وَيَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهُمْ خُشُوعاً(109)

التّفسير

عُشاق الحق

مرّة أُخرى يشير القرآن العظيم إِلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويُجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات: (وبالحق أنزلناه)، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة (وبالحق نزل).

ثمّ تقول: (وما أرسلناك إِلاَّ مُبشراً ونذيراً) إِذ ليسَ لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

[169]

لقد ذكر المفسّرون آراء مُختلفة في الفرق بين الجملة الأُولى: (وبالحق أنزلناه) والجملة الثّانية: (وبالحق نزل) مِنها:

1 ـ المراد مِن الجملة الأُولى: إِنّنا قَدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنَّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق، لذا فإِنَّ التعبير الأوّل يُشير إِلى التقدير، بينما يشير الثّاني إِلى مرحلة الفعل والتحقق(1).

2 ـ الجملة الأُولى تشير إِلى أنَّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق، أمّا التعبير الثّاني فانَّهُ يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضاً(2).

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنَّ الجملة الأُولى تقول: إِنّنا نزَّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول: إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتدخل في الحق ولم يتصرف بهِ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح مِن هذه التّفاسير، وهو أنَّ الإِنسان قد يبدأ في بعضِ الأحيان بعمل ما، ولكنّه لا يستطيع اتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب مِن ضعفه، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء، فإِنَّهُ يبدأ بداية صحيحة، ويُنهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماءً صافياً مِن أحد العيون، ولكن خلال مسير هذا الماء  لا يستطيع ذلك الشخص أن يُحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعهُ مِن التلوث، فيصل الماء في هذه الحالة إِلى الآخرين وهو مُلَوَّث. إِلاَّ أنَّ الشخص القادر والمحيط بالأُمور، يحافظ على بقاء الماء صافياً وبعيداً عن عوامل التلوث حتى يصل إِلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزلَ بالحق مِن قبل الخالق، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين، أو المرحلة التي كان

____________________________

1 ـ يُراجع تفسير القرطبي، ج 6، ص 3955.

2 ـ في ظلال القرآن، أننا تفسير الآية.

[170]

الرّسول فيها هو المتلقي، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إِليه بمقتضى قوله تعالى: (إِنا نحنُ نزَّلنا الذكر وإِنّا لهُ لحافظون) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإِنَّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإِلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل مُنذ عصر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة مِن ذرائع المعارضين وحججهم، إِذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا كان نزوله تدريجياً؟ كما تُشير إِلى ذلك الآية (32) مِن سورة الفرقان التي تقول: (وقالَ الذين كفروا لولا نُزّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدةً، كذلك لِنثِّبتَ بهِ فؤادَكَ ورتلناه ترتيلا) فيقول الله في جواب هؤلاء: (وقرآناً فرَّقناه لتقرأهُ على الناس على مُكث)(1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويُترجم عملياً بشكل كامل.

ومِن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنَّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحنُ: (ونزَّلناه تنزيلا).

إِنَّ القرآن كتاب السماء إِلى الأرض، وهو أساس الإِسلام ودليل لجميع البشر، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والإِجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين، لذلك فإِنَّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دُفعة واحدة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يُجاب عليها مِن خلال النقاط الآتية:

أوّلا: بالرغم مِن أنَّ القرآن هو كتاب، إِلاَّ أنَّهُ ليسَ ككتب الإِنسان المؤَلَّفة حيثُ يجلس المُؤَلَّف ويفكِّر ويكتب موضوعاً، ثمّ ينظِّم فصول الكتاب وأبوابه لِينتهي مِن تحرير الكتاب، بل القرآن لهُ ارتباط دقيق بعصره، أي ارتباط بـ (23) سنة، هي عصر نبوة نبي الإِسلام بكل ما كانت تتمخض بهِ مِن حوادث وقضايا.

____________________________

1 ـ مجي كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يُفسّرهُ المفسّرين بأنَّهُ مفعول لفعل مقدَّر تقديرهُ (فرقناه)، وبذلك تصبح الجملة هكذا: (وفرقناه قرآناً).

[171]

لذا كيف يُمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامناً لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يُمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إِنَّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإِسلامية، وآيات تختص بالمُنافقين، وأُخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). فهل يُمكن أن يُكتب مجموع كل ذلك مُنذ اليوم الأوّل؟

ثانياً: ليس القرآن كتاباً ذا طابع تعليمي وحسب، بل ينبغي لكل آية فيه أن تُنفَّذ بعدَ نزولها، فإِذا كانَ القرآن قد نَزَل مرَّة واحدة، فينبغي أن يتمّ العمل بهِ مرّةً واحدة أيضاً، ونعلم بأنَّ هذا مُحال، لأنَّ إِصلاح مُجتمع مَليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد، إِذ لا يمكن إِرسال الطفل الأمي دفعة واحدة مِن الصف الأوّل إِلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوماً ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيِّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتَمثُله عملياً.

ثالثاً: بدون شك، إِنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإِمكانيات أكبر عِندما يقوم بتطبيق القرآن جزءاً جزءاً، بدلا مِن تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنَّهُ مُرسَل مِن الخالق وذو عقل واستعداد كبيرَيْن ليسَ لهما مثيل، إِلاَّ أنَّهُ برغم ذلك فإِنَّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعاً: النّزول التدريجي يعني الإرتباط الدائمي للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مع مصدر الوحي، إِلاَّ أنَّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)الإِرتباط بمصدر الوحي لأكثر مِن مَرَّة واحدة.

آخر الآية (32) مِن سورة الفرقان تقول: (كذلك لِنثبّت بهِ فؤادك ورتلناه

[172]

ترتيلا) وهي إِشارة إِلى السبب الثّالث، بينما الآية التي نبحثها تِشير إِلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنَّ مجموع هذه العوامل تَكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إِنَّ الذينَ أوتوا العلم مِن قبله إِذا يُتلى عليهم يخرون للأذقان سجَّداً).

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الإِلتفات إِلى الملاحظات الآتية:

أوّلا: يعتقد المفسّرون أنَّ جملة (آمنوا به أَو لا تؤمنوا) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجة مُتعدِّدة، إِذ قال بعضهم: إِن المعنى هو: سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإِعجاز القرآن ونسبته إِلى الخالق.

بينما قال البعض: إِنَّ التقدير يكون: سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإِنَّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يُحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مُكَمِّلَة لها، وهي كناية عن أنَّ عدم الإِيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أُخرى: يكون المعنى: إِذا لم تؤمنوا به فإِنَّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون بهِ.

ثانياً: إِنَّ المقصود مِن (الذين أوتوا العلم مِن قبله) هُم مجموعة مِن علماء اليهود والنصارى مِن الذين آمنوا بعدَ أن سمعوا آيات القرآن، وشاهدوا العلائم التي قرأوها في التوراة والإِنجيل، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين، وأصبحوا مِن علماء الإِسلام.

وفي آيات أُخرى مِن القرآن تمت الإِشارة إِلى هذا الموضوع، كما في قوله

[173]

تعالى في الآية (113) مِن سورة آل عمران: (ليسوا سواء مِن أهل الكتاب أُمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون).

ثالثاً: «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إِرادتهم، واستخدام هذه الكلمة بدلا مِن السجود ينطوي على إِشارة لطيفة، هي أنَّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عندما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالق عزَّوجلّ ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشيةً بدون وعي واختيار(1).

رابعاً: (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإِنسان عند السجود  لا يلمس الأرض، إِلاَّ أن تعبير الآية إِشارة إِلى أنَّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنَّ ذقنهم قد يلمس الأرض عندَ السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنَّ الإِنسان عندَ سجوده يضع أوّلا جبهتهُ على الأرض، ولكن الشخص المدهوش عندما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيداً لمعنى (يخرون)(2).

الاية التي بعدها توضح قولهم عندما يسجدون: (ويقولون سبحان ربّنا إِن كانَ وعدُ ربّنا لمفعولا)(3). هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إِيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإِيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإِيمان بنبوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أُصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثُّر هؤلاء بآيات ربّهم، وعلى سجدة الحب التي

____________________________

1 ـ يقول الراغب في (المفردات): «يخرون» مِن مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط مِن عُلّو. وقوله تعالى: (خروا لهُ سُجداً) تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح، والتنبيه أنَّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد: (وسبحوا بحمد ربّهم).

2 ـ تفسير المعاني، ج 15، ص 175.

3 ـ (إِن) في قوله: (إِن كان وعد ربّنا) غير شرطية، بل هي تأكيدية، وهي مُخففة من الثقيلة.

[174]

يسجدونها تقول الآية التي بعدها: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً).

إِنّ تكرار جملة (يخرون للأذقان) دليل على التأكيد، وعلى الإِستمرار أيضاً.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة (يزيدهم خشوعاً) دليل على أنّهم  لا يتوقفون أبداً على حالة واحدة، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل، وخشوعهم دائماً في زيادة (الخشوع هو حالة مِن التواضع والأدب الجسدي والروحي للإِنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

مِن الدروس المهمّة التي نستفيدها مِن الآيات أعلاه، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية، فإِذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إِنَّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة واحدة بالرغم مِن أنَّهُ كان موجوداً في مخزون علم الله كاملا، وقد تمَّ عرضه في ليلة القدر على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة، إِلاَّ أنَّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة، وضمن مراحل زمنية مُختلفة وفي إِطار برنامج عملي دَقيق.

وعندما يقوم الخالق جلَّوعلا بهذا العمل بالرغم مِن عمله وقدرته المطلقة وغير المُتناهية ... عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحنُ إِزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانوناً وتكليفاً إِلهياً، حيثُ أنَّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

[175]

وحسب، بل في عالم التكوين أيضاً. إِنَّهُ مِن غير المتوقع أن تنصلح أُمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والإِقتصادي والسياسي يحتاج إِلى المزيد مِن الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إِذا لم نصل إِلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المُثابرة. وينبغي أن نلتفت إِلى أنَّ الإِنتصارات النهائية والكاملة تكون عادةً لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإِيمان

الموضوع الآخر الذي يُمكن أن نستفيدهُ مِن الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإِيمان، إِذ تقول الآيات: إِنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإِنَّ العلماء سيؤمنون بالله إِلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضاً ساجدين مِن شدّة الوله والحبّ، وتجري الدّموع مِن أعينهم، وإِنّ هذا الخشوع والتأدُّب يتصف بالإِستمرار في كل عصر وزمان.

إِنَّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يُعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالإِستهزاء والسخرية، وإِذا أثَّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإِنَّهُ سيكون تأثيراً ضعيفاً خالياً مِن الحبّ والحرارة.

إضافة إِلى ذلك، فإِنِّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف مِن المجهول. أمّا القرآن فإِنَّهُ يؤكّد على عكس ذلك تماماً، إِذ يقول في مواقع مُتعدِّدة: إِنَّ العلم والإِيمان توأمان، إِذ لا يمكن أن يكون هُناك إِيمان عميق ثابت مِن دون علم، والعلم في مراحله المُتقدمة يحتاج إِلى الإِيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

[176]

الآيتان

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلا(110) وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِ وَكَبِّرْهُ وتَكْبِيراً(111)

سبب النّزول

وردت آراء مُتعدِّدة في سبب نزول هاتين الآيتين مِنها ما نقلهُ صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال: كانَ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ساجداً ذات ليلة بمكّة يدعو: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون مُتهمين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنَّهُ يدعونا إِلى إِله واحد، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1).

____________________________

1 ـ يُراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

[177]

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إِلى آخر ذريعة لهم، وهي قولهم: لماذا يذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الخالق بأسماء مُتعدِّدة بالرغم من أنَّهُ يدّعي التوحيد. القرآن ردَّ على هؤلاء بقوله: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فلهُ الأسماء الحسنى). إنَّ هؤلاء عُميان البصيرة والقلب، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيثُ كانوا يذكرون أسماء مُختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد، وكل اسم مِن هذه الأسماء كان يُعرِّف بشطر أو بصفة مِن صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك، هل مِن العجيب أن تكون للخالق أسماء مُتعدِّدة تتناسب مع افعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته و المنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم، وهو وحده عزَّوجلّ الذي يُدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساساً، فانَّ اللّه تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إِذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبِّر عن ذاته، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأُخرى أيضاً ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له، وإِنَّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضاً، حتى أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه، نراه يقول: «ما عرفناك حق معرفتك».

إِنَّ الله تعالى في قضية معرفتنا إِيَّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة، بل ساعدنا كثيراً في معرفة ذاته، وذكر نفسهُ بأسماء مُتعدِّدة في كتابه العظيم، ومِن خلال كلمات أوليائهِ تصل اسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إِلى ألف اسم.

وطبيعي أنَّ كل هذهِ أسماء الله، وأحد معاني الأسماء العلاّمة، لذا فإِنَّ هذه علامات على ذاته الطاهرة، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إِلى نقطة

[178]

واحدة، وهي لا تقلّل مِن شأن توحيد الذات والصفات.

وهُناك قسم مِن هذهِ الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر، حيث تعطينا معرفةً ووعياً أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإِسلامية، بالأسماء الحسنى، وهُناك رواية معروفة عن رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) ما مضمونها: «إِن الله تسعاً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مُفصل للأسماء الحسنى، والأسماء التسعة والتسعين بالذات، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) مِن سورة الأعراف، في قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).

لكن علينا أن نفهم أنَّ الغرض مِن عَد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب، حتى يصبح الإِنسان مِن أهل الجنّة ومستجاب الدعوة، بل إِنَّ الهدف هو التخلُّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات مِن هذه الأسماء، مِثل (العالم، والرحمن، والرحيم، والجواد، والكريم) في وجودنا حتى نصبح مِن أهلِ الجنّة ومستجابي الدعوة.

وَهُناك كلام ينقلهُ الشيخ الصدوق(رحمه الله) في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاءَ فيه:

يقول هشام بن الحكم: سألت أبا عبدالله الصادق(عليه السلام) عن أسماء الله عزَّ ذكره واشتقاقها فقلت: الله ممّا هو مشتق؟

قالَ(عليه السلام): «يا هشام، الله مُشتقٌ مِن إِله، وإِلهٌ يقتضي مألوهاً، والاسمُ غير المسمّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كَفَر ولم يعبدُ شيئاً، ومَن عَبدَ الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين، ومَن عبد المعنى دونَ الاسم فذاك التوحيد. أفهمت يا هشام؟».

قال هشام: قلتُ: زدني.

قالَ(عليه السلام): «لله عزَّوجلّ تسعةٌ وتسعون اسماً، فلو كانَ الاسمُ هو المسمى لكان

[179]

كلُّ اسم مِنها هو إِلهاً، ولكن الله عزَّوجلّ معنىً يدلُّ عليه بهذه الأسماء وكُلُّها غيره. يا هشامُ، الخبزُ اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسم للمحِرق»(1).

والآن لنعد إِلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: إِنَّهُ يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عبر قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا).

لذلك فإِنَّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإِخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إِنَّ المقصود مِنها يتعلق بالإِفراط والتفريط في الجهر والإِخفات، فهي تقول: لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ، ولا أقل مِن الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير مِن المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيِّد هذا المعنى.

وهُناك آيات عديدة مِن طُرق أهل البيت نقلا عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام)وتؤيد هذا المعنى وتشير إِليه(2).

لذا فإِنا نستبعد التفاسير الأُخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الإِعتدال، وما هو الجهر والإِخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنَّ الجهر هو بمعنى (الصُراخ)، و(الإخفات) هو مِن السكون بحيث لا يسمعهُ حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنَّهُ قالَ في تفسير الآية:

____________________________

1 ـ توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

2 ـ يمكن مُراجعة نور الثقلين، ج 3، ص 233 فما بعد.

[180]

«الجهر بها رفع الصوت، والتخافت بها ما لم تسع نفسك، واقرأ بين ذلك»(1).

أمّا الإِخفات والجهر في الصلوات اليومية، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ لهُ حكم آخر، أو مفهوم آخر، أي لهُ أدلة مُنفصلة، حيثُ ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإِسلامي في الدعوة إلى الإِعتدال بين الجهر والإِخفات يعطينا فهماً وإِدراكاً من جهتين:

الأُولى: لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء، فيقومون بالإِستهزاء والتحجج ضدكم، إِذ الأفضل أن تكون مقرونه بالوقار والهدوء والأدب، كي تعكس بذلك نموذجاً لعظمة الأدب الإِسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بالقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إِلى الآخرين، هم على خطأ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإِسلام في العبادات، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليع الديني.

الثّانية: يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الإِجتماعية والسياسية والإِقتصادية، وتكون جميع هذه الأُمور بعيدة عن الإِفراط والتفريط، إِذ الأساس هو: (وابتغِ بين ذلك سبيلا).

أخيراً نصل إِلى الآية الأخيرة مِن سورة الإِسراء، هذه الآية تُنهي السورة المباركة بحمد الله، كما افتُتِحت بتسبيحه وتنزيه ذاته عزَّوجلّ. إِنَّ هذه الآية ـ في

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 234.

[181]

الواقع ـ هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعاً، إِذ هي تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن لهُ شريك في الملك ولم يكن لهُ ولي مِن الذل).

ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات، هو أفضل مِن كل ما تفكِّر به: (وكبره تكبيراً).

ونلاحظ في هذه الآية عدة أُمور:

1 ـ تناسب الصفات الثلاثية

في الآيات أعلاه تمّت الإِشارة إِلى ثلاث صفات مِن صفات الله، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.

أوّلا: نفي الولد، لأنَّ امتلاك الولد دليل على الحاجة، وأنَّهُ جسماني، ولهُ شبيه ونظير، والخالق جلَّ وعلا ليسَ بجسم ولا يحتاج لولد، وليس لهُ شبيه ونظير.

الثّاني: نفي الشريك (ولم يكن له شريك في الملك) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة، وهو دليل العجز والضعف، ويقتضي وجود الشبيه والنظير. والخالق جلَّ وعلا مُنَزَّه عن هذه الصفات، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة، وليسَ له أي شبيه.

الثّالث: نفي الولي والحامي عند التعرُّض للمشاكل والهزائم (ولم يكن له ولي من الذلّ).

ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي .. إِنَّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل مِنهُ (كالولي).

نقل العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر

[182]

أسماءهم بصراحة قولهم: «إِنَّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع: المجموعة الأُولى هُمُ المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك لهُ سبحانه، لذلك فإِنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة: لبيك لا شريك لك، إِلاَّ شريكاً هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق».

2 ـ ما هو التكبير؟

القرآن يؤكّد على رسوله أن يُكبِّر الله، وهذا تعني أنَّ الغرض مِن ذلك هو الإِعتقاد بهذا الأمر، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.

إِنَّ معنى الإِعتقاد بأنَّ (الله أكبر) أن لا نقيسهُ معَ المخلوقات الأُخرى، ونقول بأنَّهُ أعظم وأكبر مِنها، لأنَّ مثل هذه المقايسة خطأ مِن الأساس. إِنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر مِن أن نقيسهُ بشيء، كما يُعلمنا ذلك الإِمام الصادق(عليه السلام) في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى، حيث نقرأ فيها ما نصُّه:

قال رجل عند الإِمام الصادق(عليه السلام): اللَّهُ أكبر.

فقال(عليه السلام): «الله أكبر مِن أي شيء؟».

قال الرجل: مِن كل شيء.

فقال(عليه السلام): «حددته».

فقال الرجل: كيف أقول؟

قال(عليه السلام): قُل: «الله أكبر مِن أن يوصف»(1).

وفي حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً نقرأ عن جميع بن عُمير قال: قالَ أبو عبد الله(عليه السلام): «أي شيء، الله أكبر».

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 239.

[183]

فقلت: الله أكبر مِن كل شيء.

فقال: «وكانَ ثمّ شيء فيكون أكبر منهُ».

فقلت: فما هو؟

قالَ(عليه السلام): «أكبر مِن أن يوصف»(1).

3 ـ الإِجابة على هذا السؤال

قد يُطرح هُنا هذا السؤال: كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية، في حين أنّنا نعلم بأنَّ (الحمد) هو في قُبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مَع التسبيح فكيف مَعَ الحمد؟

في الجواب على هذا السؤال نقول: بالرغم مِن أنَّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإِنَّ احداهما تتلاءم مع التسبيح والأُخرى تتلاءم مع الحمد، إلاَّ أنَّهُ في الوجود الخارجي (العيني) يكون الإِثنان لازمين وملزومين، فنفي الجهل عن الخالق يكون مُلازماً لإِثبات العلم له، كما أنَّ إِثبات العلم لذاته جلَّ وعلا ملازم لنفي الجهل.

وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة مِن ذكر اللازم وأُخرى من ذكر الملزوم. كما ذُكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).

دُعاء الختام: إِلهي إملأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك، ونؤمن بما وعدت، ونلتزم ما أمرت، لا نعبد غيرك، ولا نتوكل إِلاَّ عليك.

إِلهنا، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الإِعتدال، وأن نبتعد عن كل إِفراط وتفريط.

____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

[184]

إِلهنا; لك الحمد ولك الشكر، وأنت الواحد الكبير، أكبر مِن أن تحدَّ في وصف، فاغفر لنا، وثبتنا في خطواتنا، وانصرنا على أعدائنا، وأوصل انتصاراتنا بالإِنتصار النهائي للمصلح المهدي(عليه السلام)، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.

نهاية سورة الإِسراء




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404546

  • التاريخ : 20/04/2024 - 07:13

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net