00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النحل من آية 84 ـ 100 من ( ص 285 ـ 324 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[285]

الآيات

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّة شَهِيداً ثُمَّ لاَيُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(84) وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ  فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(85) وَإِذا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَآءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هـؤُلاءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ فَأَلْقَوا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكـذِبُونَ(86) وَأَلْقَوا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنـهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ(88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّة شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجئْنا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاَءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتـبَ تِبْيـناً لِّكُلِّ شَىْء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)

التّفسير

عندما تغلق الأبواب أمام المجرمين:

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم

[286]

اعترافهم بالنعم الإِلهية، يتطرق في هذه الآيات إِلى جانب من العقاب الإِلهي الشديد الذي ينتظر أُولئك في عالم الآخرة، لينبه الغافل من سباته، فعسى أنْ يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان، فيقول أوّلاً: (ويوم نبعث من كل أُمّة شهيداً)(1).

وهل ثمّة حاجة إِلى شاهد مع وجود علم اللّه المطلق؟

قد يتبادر إِلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية، وتتّضح الإِجابة على ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية: إِنّ الأُمور غالباً ما يقصد فيها الجانب النفسي والروحي، والإِنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل اللّه سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقل ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه من خجل يوم مواجهتهم مع ما إِقترفت يداه.

وبخصوص تلك المحكمة، تأتي الآية لتقول: (ثمّ لا يؤذن للذين كفروا).

وهل من الممكن أن لا يأذن اللّه للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين وكذلك الجلد، بل وحتى الأرض التي أطاع الإِنسان عليها أو عصى، كلها ستشهد عليه، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أُخرى كالآية (65) من سورة يـس والآية (36) من سورة المرسلات.

بل ويزاد على عدم السماح لهم بالكلام بـ (ولا هم يستعتبون)(2).

لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإِصلاح، وهم حينها كالثمرّة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

_____________________________

1 ـ ألـ «يوم» هنا ظرفٌ متعلق بفعل مقدّر، وأصل العبارة: (وليذكروا) أو (واذكروا).

2 ـ يستعتبون: من الإِستعتاب، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم، فيكون مفهوم الإِستعتاب،: أن يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سبباً لسكون غضبه وحصول رضاه، ولهذا اعتبر البعض; أنّ الإِستعتاب بمعنى الإِسترضاء.. في حين أنّ حقيقة مفهومه ليس الإِسترضاء وإِنّما هو لازم له.

[287]

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارةً، ويطلبون إِمهالهم مدّة تارةً أُخرى، فتقول: (وإِذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون).

والآيتان أشارتا إِلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا):

المرحلة الأُولى: سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه، وإِن لم يحصل على هدفه يسعى إِلى المرحلة التالية.

المرحلة الثّانية: يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه، وإِذا لم ينفعه ذلك ينتقل إِلى المرحلة الثّالثة.

المرحلة الثّالثة: يطلب تخفيف العذاب، فيقول: عاقبني ولكنْ خفف العذاب! وإِن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإِنّه سيطلب الطلب الأخير...

المرحلة الرّابعة: يطلب الإِمهال والتأجيل، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب...

إِلاّ أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إِذن الدفاع عنهم، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا، ولا يخفف عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الإِستجابة.

وفي الآية التالية.. يستمر الحديث عن عاقبة المشركين، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنّم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم: (وإِذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربّنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنّا ندعو من دونك)، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درك العمل القبيح، وهي شريكنا في الجرم أيضاً، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها!

[288]

وعندها... تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإِذن اللّه): (فألقوا إِليهم القول إِنّكم لكاذبون)، فلم نكن شركاء لله، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

* * *

وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات:

1 ـ إِنّ استعمال كلمة «شركاءهم» بدلا من «شركاء اللّه» للدلالة على أنّ الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة لله عزَّ وجلّ، بل إِنّ عبدة الأصنام والمشركين هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذباً، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إِلى اللّه سبحانه.

ويؤيد ذلك ما مرّ علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنّهم جعلوا الأصنام شريكة لهم في هذه الانعام.

2 ـ يستفاد من الآية أنّ الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضاً، وليس المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.

والآية (98) من سورة الأنبياء: (إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم) تؤيد ذلك.

3 ـ وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنّهم كانوا يعبدون هذه الأصنام: (هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك) وهذا القول يتضمن صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.

ولكن من الممكن أنْ يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأنْ تكون معبودة من دون اللّه. أو أنّ المشركين قد أضافوا جملة أُخرى مفادها أنّ هذه المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها، فتكذبهم الأصنام بأنّها لا تملك القدرة أصلا على الوسوسة والإِيحاء.

[289]

4 ـ لعل ورود جملة (فألقوا إِليهم القول) بدل «قالوا لهم» لعدم قدرة الأصنام على التكلم بنفسها، فيكون قولها عبارة عن إِلقاء من قبل اللّه فيها، أيْ أنّ اللّه عزَّوجلّ يلقي إِليها، وهي بدورها تلقية إِلى المشركين.

وتأتي الآية التالية لتبيّن أنّ الجميع بعد أنْ يقولوا كل ما عندهم، ويسمعوا جواب قولهم، سيتوجهون إِلى حالة أُخرى... (وألقوا إِلى اللّه السلم)(1) مسلمين لله، مذعنين لعظمته جل وعلا، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد أُزيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإِذعان إِليه.

وفي هذه الأثناء، وحيث كل شيء جلي كوضوح الشمس.. (وضلّ عنهم ما كانوا يفترون). فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند اللّه، عندما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي عمل، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصباً حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك، دون أن يدعوا الآخرين إِلى ما هم فيه.. وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إِلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين، وإِنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإِضلال الآخرين! فيقول: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون).

فهم شركاء في جرم الآخرين إِضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم، لأنّهم كانوا عاملا مؤثراً للفساد على الأرض وإِضلال خلق اللّه بالصد عن سبيله.

وذكرنا مراراً وانطلاقاً من منطق الإِجتماع الإِسلامي أنّ مَنْ يسن سنّة (حسنة أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثواباً أو عقاباً، والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «مَنْ استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر مَنْ عمل بها من غير أن

_____________________________

1 ـ احتمل بعض المفسّرين كصاحب الميزان: أنّ إِظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام، ويؤيد ذلك ما ورد في ذيل الآية.

[290]

ينتقص من أجورهم شيء ومَنْ استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر مَنْ عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء».

وعلى أيّةُ حال، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسؤولية الرؤساء والموجهين أمام اللّه وأمام الناس.

وتتناول الآية أيضاً مسألة وجود الشهيد في كل أُمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم: (ويوم نبعث في كل أُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم).

ووجود هؤلاء الشهود، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم، لا يتعارض مع علم اللّه تعالى وإِحاطته بكل شيء، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي.

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإِسلامي و النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال: (وجئنا بك شهيداً على هؤلاء).

وقيل إِنّ المقصود بـ «هؤلاء» المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليكمل طريقه فيكون شهيداً على الأُمّة (وهو من وسطها)، وينبغي أن يكون طاهراً من كل ذنب وخطيئة، ليتمكن من إِعطاء الشهادة حقّها.

ولهذا.. اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد، حجّة، عادل، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإِمام المعصوم في كل زمان، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيت(عليهم السلام)

دون غيرهم من المذاهب الإِسلامية.

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإِشكال

[291]

توجيهاً لا يخلو من إِشكال أيضاً حيث قال: (فحصل من هذا أن عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس، وذلك الشهيد لابدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإِلاّ لافتقر إِلى شهيد آخر، ويمتد ذلك إِلى غير النهاية، وذلك باطل، فيثبت أنّه لابدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إِجماع الأمّة حجّة)(1).

لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول: (يوم يبعث في كل أُمّة شهيداً عليهم من أنفسهم) وليس مجموع الأُمّة شاهداً على كل فرد من أفراد الأُمّة.

وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (41) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير «هؤلاء»:

الأوّل: أنّ «هؤلاء» إِشارة إِلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياء(عليهم السلام)والأوصياء، فيكون النّبي شاهداً على هذه الأمة وشاهداً على الأنبياء السابقين أيضاً.

الثّاني: المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي، أيْ: شخص يكون وجوده قدوة وميزاناً لتمييز الحق من الباطل.

(والمزيد من الإِيضاح، راجع ذيل الآية (41) من سورة النساء).

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم، ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة: (ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلَّ شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج30، ص98.

[292]

بحثان

1 ـ القرآن تبيان لكل شيء:

من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.

«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنىً مصدري(1)، ويمكن الإِستدلال بوضوح على كون القرآن بياناً لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء»، ولكنْ بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإِنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إِلى حال التكامل والرقي، يتّضح لنا أنّ المقصود من «كل شيء» هو كل الأُمور اللازمة للوصول إِلى طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... الخ، وإِنّما القرآن دعوة حق لبناء الإِنسان، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم، وصحيح أيضاً أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية، ولكنْ ليس ذلك الكشف هو المراد، وإِنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإِنسان إِلى شاطيء السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

ويشير القرآن الكريم تارةً إِلى جزئيات الأُمور والمسائل، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض، حيث ذكر (18) حكماً في أطول أية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة(2).

وتارةً أُخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإِنسان بصورها الكلية، كما في الآية التي ستأتي قريباً، حيث يقول: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإِيتاء

_____________________________

1 ـ نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء: أنّ جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إِلاّ مصدرين «تبيان» و«تلقاء». ويعتبرها بعض مصدراً، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.

2 ـ راجع ذيل تفسير الآية (282) من سورة البقرة.

[293]

ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) من سورة الإِسراء: (إِنّ العهد كان مسؤولا)، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأُولى من سورة المائدة: (أوفوا بالعقود)، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من سورة الحج: (وجاهدوا في اللّه حق جهاده) وكمفهوم إِقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (45) من سورة الحديد: (ليقوم الناس بالقسط)، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأُمور في الآيات (7 ، 8 ، 9) من سورة الرحمن: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)وعموم مفهوم الإِمتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85) من سورة الأعراف: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إِصلاحها)، بالإِضافة إِلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن، لتكون للإِنسان نبراساً وهاجاً في كافة مجالات الفكر والحياة والإِنسان.. وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم (فيه تبيان لكل شيء).

بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه، وإِنّما عيّن لها مَنْ يؤخذ منه التفاصيل، كما تبيّن لنا ذلك الآية (7) من سورة الحشر: (وما أتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

والإِنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه، واستخرج برامجاً وتوجيهات توصله إِلى السعادة، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.

ولهذا، فَمَنْ استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن، فهو لم يعرف القرآن، وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

وإِضافةً لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإِسلام في

[294]

كل الأُمور، فقد حَمَّلَتْ المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لا ستخراج كل ما يحتاجونه.

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.

منها: ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه ما ترك شيئاً تحتاج إِليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إِلاّ وقد أنزله اللّه فيه»(1).

وفي رواية أُخرى عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إِليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على مَنْ تعدى ذلك الحد حداً»(2).

وجاء في الرّوايات الشريفة الإِشارة الى هذه المسألة أيضاً. وهي أنّه مضافاً الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلاّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصياؤه بالحق، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإِمام الصادق(عليه السلام)أنّه قال: «ما مِنْ أمر يختلف فيه اثنان إِلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزَّ وجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(3).

إِن عدم إِدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه بـ(عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والإِستفادة منه.

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثفلين، ج3، ص74.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص75.

[295]

2 ـ مراحل الهداية الأربع

إِنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن:

1 ـ تبياناً لكل شيء.

2 ـ هدى.

3 ـ رحمة.

4 ـ بشرى للمسلمين.

ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطاً منطقياً واضحاً بين هذه التعابير، فكلُّ منها يرمز إِلى مرحلة معينة، المرحلة الأُولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم، وبعدها تأتي مرحلة الهداية، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة، وأخيراً البشرى بثواب اللّه لمن آمن وعمل صالحاً وسرور جميع السائرين على طريق الحق.

* * *

[296]

الآية

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسـنِ وَإِيتَآىءِ ذِى الْقُرْبى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ وَالْبَغِى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)

التّفسير

أكمل برنامج إِجتماعي:

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجاً من التعليمات الإِسلامية في شأن المسائل الإِجتماعية والإِنسانية والأخلاقية، وقد تضمّنت الآية ستة أُصول مهمّة، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إِيجابية ومأمور بالعمل بها، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.

فتقول في البدء: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان وإِيتاء ذي القربى).

وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل (بالعدل قامت السماوات

[297]

والأرض).

والمجتمع الإِنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أُسس العدل في جميع المجالات.

ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب، فالإِنحراف والإِفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين، ما هي إِلاّ صور لخلاف أصل العدل.

فالإِنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إِنسان واحد، فإِنّه سيمرض ويعتل إِنْ لم يُراع فيه العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والإِستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم، إِلاّ أنّها، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة، ولذلك جاء الأمر بـ «الإِحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.

وبعبارة أوضح: قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالإِستعانة بأصل العدالة فقط، وإِنّما تحتاج إِلى إِيثار وعفو وتضحية، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإِحسان».

وعلى سبيل المثال: لو أنّ عدواً غدّاراً هجم على مجتمع ما، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لابدّ من تقديم التضحية والبذل والإِيثار لكل مَنْ يملك القدرة المالية، الجسمية،

[298]

الفكرية، لمواجهة الخطر وإِزالته، وإِلاّ فالطريق مهيأ أمام العدو لإِهلاك المجتمع كله، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.

والأصلان يحكمان نظام بدن الإِنسان أيضاً بشكل طبيعي، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها، وكلُّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالإِستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).

ولكنْ.. عندما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته، فإِنَّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه، لأنّه توقف عن عمله، بل تستمر في تغذيته ودعمه... الخ، (وهذا هو الإِحسان).

وفي المجتمع كذلك، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.

وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإِحسان، لعل أغلبها يشير إِلى ما قلناه أعلاه.

فعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «العدل: الإِنصاف، والإِحسان: التفضل»(1) وهذا ما أشرنا إِليه.

وقال البعض: إِنّ العدل: أداء الواجبات، والإِحسان: أداء المستحبات.

وقال آخرون: إِنّ العدل: هو التوحيد، والإِحسان: هو أداء الواجبات.

(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إِشارة إِلى الإِعتقاد، والإِحسان إِشارة إلى العمل).

وقال بعض: العدالة: هي التوافق بين الظاهر والباطن، والإِحسان: هو أنْ يكون باطن الإِنسان أفضل من ظاهره.

واعتبر آخرون: أنّ العدالة ترتبط بالأُمور العمليّة، والإِحسان بالأُمور، الكلامية.

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 231.

[299]

وكما قلنا فإِنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماماً مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه، وبما أَنَّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.

أمّا مسألة (إِيتاء ذي القربى) فتندرج ضمن مسألة «الإِحسان» حيث أن الإِحسان يشمل جميع المجتمع، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر، فإِنّ أثره سيظهر على كل المجتمع، والمسألة تعتبر تقسيماً صحيحاً للوظائف والمسؤوليات بين الناس، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمد يد العون إِلى أقربائها (بالدرجة الأُولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.

وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته من الأئمّة(عليهم السلام)، والمقصود بـ (إِيتاء ذي القربى) هوأداء الخمس، فإِنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبداً، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة، ولا يمنع إِطلاقاً من شمول مفهوم الآية الواسع.

لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب، أو أقرباء من وجوه أُخرى، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).

ولإِعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية، إِضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.

وبعد ذكر القرآن الكريم للأُصول الإِيجابية الثلاثة يتطرق للأُصول المقابلة لها (السلبية) فيقول: (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي).

وتحدث المفسّرون كثيراً حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء»، «المنكر»، «البغي»، إِلاّ أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء»: إِشارة إِلى الذنوب الخفية، و«المنكر»: إِشارة إِلى الذنوب

[300]

العلنية، و«البغي»: إِشارة إِلى كل تجاوز عن حق الإِنسان، وظلم الآخرين والإِستعلاء عليهم.

قال بعض المفسّرون(1): إِنّ منشاء الإِنحرافات الأخلاقية ثلاث قوى: القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية، والقوة الوهمية الشيطانية.

أمّا القوّة الشهوانية فإِنما تُرَغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء، والقوة الغضبية تدفع الإِنسان إِلى فعل المنكرات وإِيذاء سائر الناس، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإِنسان الإِستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.

وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إِلى طغيان غرائز الإِنسان، ودعا إِلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الإِنحرافات الأخلاقية.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدداً على أهمية هذه الأصول الستة: (يعظكم لعلكم تذكرون).

أشمل آيات الخير والشر:

إِنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيراً من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (كنت أسلمت استحياءً من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإِسلام، ولم يقر الإِسلام في قلبي، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً، فلمّا سُرِّي عنه سألته عن حاله فقال: نعم، بيّنا أنا أحدثك إِذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان) وقرأها عليَّ إِلى آخرها، فقّر الإِسلام في قلبي. وأتيت

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج20، ص104.

[301]

عمّه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش، اتبعوا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ترشدوا، فإِنّه  لا يأمركم إِلاّ بمكارم الأخلاق، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال: إِنْ كان محمّد قاله فنعم ما قال، وإِن قاله ربّه فنعم ما قال)(1).

ونقرأ في حديث آخر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: (يا ابن أخي(2) أعد، فأعاد(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الوليد: إِنّ له لحلاوة، وإِنّ عليه لطلاوة، وإِنّ أعلاه لمثمر، وإِنّ أسلفه لمغدق، وما هو قول البشر)(3).

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «جماع التقوى في قوله تعالى: (إِنّ اللّه يأمر بالعدل والإِحسان)(4).

ونستفيد من هذه الأحاديث ـ وأحاديث أُخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إِسلامي عام، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإِسلام في كل زمان ومكان، حتى روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه كان يقرأ الآية المباركة قبل الإِنتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها: «اللَّهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى»(5) ثمّ ينزل من على المنبر.

فإِحياء الأصول الثلاثة «العدل، والإِحسان، وإِيتاء ذي القربى»، ومكافحة الإِنحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأنْ يجعل الدنيا عامرّة بالخير، وهادئة من كل اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد، وإِذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله: (هذه الآية أجمع آية في كتاب اللّه للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله:

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل تفسير الآية مورد البحث.

2 ـ قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.

3 ـ مجمع البيان: ذيل تفسير الآية مورد البحث.

4 ـ نور الثقلين، ج3، ص78.

5 ـ الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين، ج3، ص77.

[302]

«صنفان من أُمتي إِذا صلحا صلحت أُمتي، وإِذا فسدا فسدت أُمتي، فقيل: يا رسول اللّه، مَنْ هما؟ قال: الفقهاء والأمراء».

وذكر المحدَّث القمّي في (سفينة البحار) حديثاً بعد نقله لهذا الحديث مروياً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «تكلم النّار يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال، فتقول للأمير: يا مَنْ وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما تزدرد الطير حبّ السمسم، وتقول للقاريء: يا مَنْ تزين للناس وبارز اللّه بالمعاصي، فتزدرده، وتقول للغني: يا مَنْ وهب اللّه له دنيا كثيرة واسعة فيضاً وسأله الحقير اليسير قرضاً، فأبى إلاّ بخلا، فتزدرده؟

وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركناً إِسلامياً مهمّاً جدّاً ضمن تفسيرنا للآية (8) من سورة المائدة.

* * *

[303]

الآيات

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عـهَدتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمـنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلاَتَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة أَنكَـثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمـنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّة إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيـمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92) وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وحِدَةً وَلـكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(93)وَلاَتَتَّخِذُوا أَيْمـنَكُمْ دَخَلاًَ بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94)

سبب النّزول

يقول المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) في شأن نزول أوّل

[304]

آية من هذه الآيات أنّها نزلت في الذين بايعوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على الإِسلام (وكان من المحتمل أن ينقض بعضهم البيعة لقلّة المسلمين وكثرة الأعداء)، فقال سبحانه مخاطباً لهم لا يحملنّكم قلّة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة).

التّفسير

الوفاء بالعهد دليل الإِيمان:

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإِسلام الأساسية (العدل، والإِحسان، وما شابههما)، يتناول في هذه الآيات قسماً آخر من تعاليم الإِسلام المهمّة (الوفاء بالعهد والأيمان).

يقول أوّلاً: (وأوفوا بعهد اللّه إِذا عاهدتم)، ثمّ يضيف: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا إِنّ اللّه يعلم ما تفعلون).

إِنّ ظاهر معنى «عهد اللّه» ـ مع كثرة ما قال المفسّرون فيه ـ هو: العهود التي يبرمها الناس مع اللّه تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النّبي عهد مع اللّه أيضاً)، وعليه فهو يشمل كل عهد إِلهي وبيعة في طريق الإِيمان والجهاد وغير ذلك.

بل إِنّ التكاليف الشرعية التي يعلنها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي من نوع من العهد الإِلهي الضمني، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية، لأنّ إِعطاء العقل والإِدراك من اللّه عزَّ وجلّ للإِنسان إِنّما يرافقه عهد ضمني، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع لعهد اللّه.

أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين، أيّ: القسم) التي وردت في الآية ـ والتي عرض فيها المفسّرون آراء كثيرة ـ فلها معنى واسع، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث أنّه يشمل العهود التي يعقدها الإِنسان مع اللّه عزَّوجلّ، بالإِضافة إِلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق اللّه.

وبعبارة أُخرى: يدخل بين إِطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم اللّه

[305]

وباستعمال صيغة القسم، وما يؤكّد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية (وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا).

ونتيجة القول: أنّ جملة (أوفوا بعهد اللّه) خاصّة، وجملة (لا تنقضوا الأيمان) عامّة.

وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأُسس في ثبات أيّ مجتمع كان، تواصل الآية التالية ذكره بأُسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ، فتقول: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً)(1).

والآية تشير إِلى (رايطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن، ولهذا عرفت بين قومها بـ (الحمقاء).

فما كانت تقوم به (رايطة) لا يمثل عملا بالا ثمر ـ فحسب ـ بل هو الحماقة بعينها، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهداً مع اللّه وباسمه، ثمّ يعمل على نقضه، فهو ليس بعابث فقط، وإِنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: (تتخذون أيمانكم دَخَلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أُمّة)(2)، أي لا تنقضوا عهودكم مع اللّه بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.

وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع

_____________________________

1 ـ «أنكاث»: جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حل خيوطه الصوف والشعر بعد برمها، وتطلق أيضاً على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر، وأمّا محل إِعرابها في الآية فهو (حال) للتأكيد على قول البعض، فيما اعتبرها آخرون (مفعولا ثانياً) لفعل «نقضت» أيْ (جعلت غزلها أنكاثاً).

2 ـ «الدّخل»: (على وزن الدغل)، بمعنى الفساد والتقلب ومنها أُخذ معنى (الداخل)، وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ جملة (تتخذون أيمانكم) ـ على ما قلناه من تفسير ـ جملة حاليّة، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبرها جملة استفهامية، والتّفسير الأوّل يوافق ظاهر الآية.

[306]

المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.

واعلموا (إِنّما يبلوكم اللّه به).

واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عدداً بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.

وعلى أية حال.. ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل: (وليبينّن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) من هذا الأمر وغيره.

والآية التالية تجيب على توهم غالباً ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الإِمتحان الإِلهي والتأكيد على الإِلتزام بالعهود والوظائف، وخلاصته: هل أنّ اللّه لا يقدر على إِجبار الناس جميعاً على قبول الحق؟ فتقول: (ولو شاء اللّه لجعلكم أُمّة واحدة).

«أُمّة واحدة» من حيث الإِيمان والعمل على الحق بشكل إِجباري، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإِنسان في قبوله الحق، وعليه فقد جرت سُنّة اللّه بترك الناس أحراراً ليسيروا على طريق الحق مختارين.

ولا تعني هذه الحرية بأنّ اللّه سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم، وإِنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه، حتى يصلوا لهدفهم، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.

ولهذا يواصل القرآن الكريم القول بـ: (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء).

ولكنّ الهداية الإِلهية أو الإِضلال لا تسلب المسؤولية عنكم، حيث أنّ الخطوات الأُولى على عواتقكم، ولهذا يأتي النداء الرباني: (ولتسئلنّ عمّا كنتم

[307]

تعملون).

وتشير هذه العبارة إِلى نسبة أعمال البشر إِلى أنفسهم، وتؤكّد على تحميلهم مسؤولية تلك الأعمال، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإِضلال الإلهيين وأن أيّاً منهما لا يستبطن صفة الإِجبار أبداً.

وقد بحثنا هذا الموضوع سابقاً (راجع تفسير الآية (26) من سورة البقرة).

وتأكيداً على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمّة في ثبات المجتمع) يقول القرآن: (ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلا بينكم)أي وسيلة للخداع والنفاق، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين:

الأوّل: (فتزل قدم بعد ثبوتها)، لأنّ مَنْ يبرم عهداً أو يطلق قسماً ونيته أنْ  لا يفي بذلك فسوف لا يعول عليه الناس ولا يثقون به، ومثله كمن وضع قدمه على أرض قد بدت له أنّها صلبة ومحكمة، إِلاّ أنّها زلقة في الواقع، وستكون سبباً في انزلاقه وسقوطه.

الثّاني: (وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه) في هذه الدنيا (ولكم عذاب عظيم) في الآخرة.

من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفرهم من الدين الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإِسلام، وإِنْ عقدوا معكم عهداً فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به، وهذا ما يؤدي لمساوي، ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.

وأمّا على صعيد الحياة الأُخرى فإِنه سيكون سبباً للعقاب بالعذاب الإِلهي.

* * *

[308]

بحثان

1 ـ فلسفة احترام العهد

كما هو معلوم فإِنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثل أهم دعائم رسوخ المجتمع، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإِخراجه من حالة الآحاد المتفرقة وإِعطائه صفة التجمع، وبالإِضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الإِجتماعية والتعاون على مستوى واسع.

والعهد والقسم من مؤكدات حفظ هذا الإِرتباط وهذه الثقة، وإِذا تصورنا مجتمعاً كان نقض العهد فيه هو السائد، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عام في ذلك المجتمع، وعندها سوف يتحول المجتمع الى آحاد متناثرة تفتقد الإِرتباط والقدرة والفاعلية الاجتماعيه.

ولهذا نجد أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة الوفاء بالعهد والأيمان، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب.

وقد أشار أمير المؤمنين(عليه السلام) إِلى أهمية هذا الموضوع في الإِسلام والجاهلية واعتبره من أهم المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر «فإِنّه ليس من فرائض اللّه شيء الناس أشد عليه اجتماعاً من تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر»(1).

ونجد في أحكام الحرب الإِسلامية أنّ إِعطاه الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدو يوجب مراعاة ذلك على كل المسلمين!

يقول المؤرخون والمفسّرون: من جملة الأُمور التي جعلت الكثير من الناس

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الرسالة 53.

[309]

في صدر الإِسلام يعتنقون هذا الدين الإِلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم.

وما لهذا الأمر من أهمية بحيث دفع سلمان الفارسي لأنْ يقول: (تهلك هذه الأُمّة بنقض مواثيقها)(1).

أيْ أنّ الوفاء بالعهد والميثاق كما أنّه يوجب القدرة والنعمة والتقدم، فنقضهما يؤدي إِلى الضعف والعجز والهلاك.

ونجد في التأريخ الإِسلامي أنّ المسلمين عندما غلبوا جيش الساسانيين في عهد الخليفة الثّاني وأسروا الهرمزان قائد جيش فارس، وجاؤوا به إِلى عمر، قال له عمر: ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرّة بعد أُخرى؟

فقال: أخاف أنْ تقتلني قبل أنْ أخبرك.

قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماءً فأتى به في قدح غليظ.

فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أنْ أشرب في مثل هذا! فأتى به في إِناء يرضاه..

فقال: إِنّي أخاف أنْ أُقتل وأنا أشرب.

فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه...

فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش..

فقال: لا حاجة لي في الماء، إِنّما أردت أنْ أستأمن به.

فقال عمر له: إِنّي قاتلك.

فقال: قد أمنتني.

فقال: كذبت.

قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته.

فقال عمر: يا أنس، أنا أُؤمن قاتل مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك! ولله لتأتّين

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية (94).

[310]

بمخرج أو لأعاقبنّك.

قال: قلتَ له: لا بأس عليك حتى تخبرني، ولا بأس عليك حتى تشربه..

وقال له من حوله مثل ذلك...

فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، واللّه لا أنخدع إِلاّ أنْ تسلم فأسلم(1).

2 ـ ما لا يقبل في نقض العهود:

إِنّ قبح نقض العهد الشناعة بحيث لا احداً على استعداد لأن يتحمل مسؤوليته بصراحة إلاّ النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك اعذاراً وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته. وقد ذكرت لنا الآيات أعلاه نموذجاً لذلك.. فبعض المسلمين يتذرعون بحجج واهية ككثرة الأعداء وقلة المؤمنين للتنصل من عهودهم مع اللّه والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتكون مواقفهم متزلزلة، في حين أنّ الأكثرية من حيث العدد لا تمثل القدرة والقوة في واقع الحال، وانتصار القلّة المؤمنة على الكثرة غير المؤمنة من الشواهد المعروفة في تأريخ البشرية، ثمّ إِنّ حصول القدرة والقوة للأعداء ـ على فرض حصولها ـ لا تسوغ لأن تكون مبرراً مقبولا لنقض العهد، ولو دققنا النظر في الإمر لرأينا في واقعه أنّه نوع من الشرك والجهل باللّه عزَّوجلّ.

وقد تجسّد هذا الموضوع بعينه في عصرنا الحاضر ولكنْ بصورة أُخرى..

فقسم من الدول الإسلامية الصغيرة في الظاهر قد تنصلت عن أداء وظائفها في نصرة المؤمنين لخوفها من الدول الإِستعمارية الكبرى، فتقدم في حساباتها قدرة البشر الهزيلة على قدرة اللّه المطلقة، وتلتجيء إِلى غير اللّه وتخشى غيره، وتنقض عهدها مع بارئها، وكل ذلك من بقايا الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

_____________________________

1 ـ الكامل في التاريخ، ج2، ص594.

[311]

الآيات

وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(96)مَنْ عَمِلَ صـلِحاً مِّن ذَكَر أَوْ أُنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97)

سبب النّزول

نقل المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي عن ابن عباس قوله: إِنّ رجلا من حضرموت يقال له عيدان الأشرع قال: يا رسول اللّه، إِنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي، والقوم يعلمون إِنّي لصادق، ولكنّه أكرم عليهم منّي، فسأل رسول اللّه اُمرأ القيس عنه فقال: لا أدري ما يقول، فأمره أنْ يحلف. فقال عيدان: إِنّه فاجر لا يبالي أنْ يحلف، فقال: إِنْ لم يكن لك شهود فخذ بيمينه، فلماذا قام ليحلف أنظره فانصر فافنزل قوله: (ولاتشتروا وابعهد اللّه...) الآيتان فلمّا قرأهما رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال امرؤ القيس: أمّا ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه ولم أدرِ كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه (مَنْ عمل صالحاً...)الآية.

[312]

التّفسير

ثمن الحياة الطيبة:

جاءت الآية الأُولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة أُخرى ولتبيّن عذراً آخراً من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت الآيات السابقة إِلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإِنسان.

ولهذا تقول: (ولا تشتروا بعهد اللّه ثمناً قليلا).

أيْ إِنّ قيمة الوفاء بعهد اللّه لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإِنّه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد اللّه.

وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر: (إِنّما عند اللّه هو خير لكم إِنْ كنتم تعلمون).

ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله: (ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق) لأنّ المنافع المادية وإِنْ بدت كبيرة في الظاهر، إِلاّ أنّها لا تعدو أنْ تكون فقاعات على سطح ماء، في حين أنّ الجزاء والثواب الإِلهي النابع من ذات اللّه المطلقة والمقدسة أعلى وأفضل من كل شيء.

ثمّ يضيف قائلا: (ولنجزينَّ الذين صبروا أجرهم) ـ وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان ـ (بأحسن ما كانوا يعملون).

إِنّ التعبير بـ «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن، ولكنّ اللّه تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية، كما لو مثلنا لذلك في مثل من حياتنا كأنْ يعرض بائع أنواعاً من البضائع المتفاوتة في النوعية، فقسم منها بضائع جيدة، وقسم آخر بضائع رديئة، والبقية بين الإِثنين، فيأتي مشتري ليأخذ الجميع بسعر النوعية الجيدة!

[313]

ولا تخلو جملة (ولنجزين الذين صبروا...) من الإِشارة إِلى أنّ الصبر والثبات في السير على طريق الطاعة، وخصوصاً حفظ العهود والإِيمان هي من أفضل أعمال الإِنسان.

وقد روي عن علي(عليه السلام) قوله: «الصبر من الإِيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إِيمان لا صبر معه»(1).

ثمّ يبيّن القرآن الكريم بعد ذلك ـ على صورة قانون عام ـ نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإِيمان التي يؤديها الإِنسان وبأيةِ صورة كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة، فيقول: (مَنْ عمل صالحاً مِنْ ذكر أو أُنثى وهو مؤمن فلنحيينّة حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).

وعليه، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإِيمان بلا قيد أو شرط، من حيث السن أو الجنس أو المكانة الإِجتماعية أو ما شابه ذلك في هذا الأمر.

و«الحياة الطيبة» في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من الإِيمان، أيْ أنّ المجتمع البشري سيعيش حينها حياةً هادئةً مطمئنةً ملؤها الرفاه والسلم والمحبّة والتعاون، بل وكل ما يرتبط بالمجتمع من المفاهيم الإِنسانية، وفي أمان من الآلام الناتجة عن الإِستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية التي تملأ الدنيا ظلاماً وظلامات.

وعلاوه على كل ما تقدم فإِنّ اللّه سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون (كما تقدم تفسيره).

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.

[314]

بحوث

1 ـ منابع الخلود

إِنّ طبيعة الحياة في هذا العالم المادي هي الفناء والهلاك، فأقوى الأبنية وأكثر الحكومات دواماً وأشد البشر قدرة لا يعدون أن يصيروا في نهاية أمرهم إِلى الضعف فالفناء، وكل شيء معرض للتلف بلا استثناء في هذا الأمر.

أمّا لو تمكنت الكائنات من أنْ توجد لها ارتباطاً على نحو ما مع الذات الإِلهية المقدسة، وتبقى تعمل لأجلها وفي سبيلها، فإِنّها والحال هذه ستصطبغ بصبغة الخلود، لأنّ ذات اللّه المقدسة أبدية وأزلية وكل من ينتسب اليه يحصل على صبغة الأبدية.

فالأعمال الصالحة أبدية، الشهداء لهم حياة أبدية، والأنبياء والعلماء المخلصون والمجاهدون في سبيل اللّه يبقى ذكرهم خالداً في ذاكرة التاريخ.. لأنّهم يحملون الصبغة الإِلهية.

ولهذا، تذكّرنا الآيات أعلاه وتدعونا لأنْ ننقذ ذخائر وجودنا من الفناء، ونودعها في صندوق لا تطاله يد الزمان ولا تفنيه الليالي والأيّام.

فهلموا لبذل الطاقات في سبيل اللّه وفي خدمة خلق اللّه، وكسب رضا الباري، لتصبح من مصاديق (عند اللّه) ولتكون باقية بمقتضى (ما عند اللّه باق).

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِذا مات ابن آدم انقطع عمله إِلاّ عن ثلاث: صدقة جارية، علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»(1).

وعن علي(عليه السلام) أنّه قال: «شتّان ما بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره»(2).

_____________________________

1 ـ إِرشاد الديلمي.

2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 121.

[315]

2 ـ التساوي بين الرجل والمرأة

ممّا لا شك فيه أنّ بين الرجل والمرأة تفاوت واختلاف من الناحيتين الجسمية والروحية، وهذا الفرق هو الذي جعلهما مختلفين في وظائفها وشؤونهما الإِجتماعية، إِلاّ أنّ طبيعة الإِختلاف الموجود لا تنعكس على الشخصية الإِنسانية، ولا توجد اختلافاً في مقامهما عند اللّه عزَّوجلّ، فهما في هذا الجانب متساويان ومتكافئان، ويحكم شخصية أي منهما مقياس واحد ألا وهو الإِيمان والعمل الصالح والتقوى، وإِمكانية تحصيل ذلك لأيٍّ منهما متساوية.

إِنّ الآيات أعلاه قد بيّنت هذه الحقيقة بكل وضوح لتخرس الأفواه المشككة في الطبيعة الإِنسانية للمرأة في الماضي والحاضر، ولترد بقوّة أُولئك الذين يعطون للمرأة مقاماً أقل ورتبة أنْزَل من الناحية الإِنسانية نسبة إِلى الرجل، وقد أعلنت الآيات المنطق الإِسلامي في هذه المسألة الإِجتماعية المهمّة، فقالت: إِنّ الإِسلام خلافاً لقاصري الفكر ليس دين الرجال، فهو يخص المرأة بنفس القدر الذي يخص الرجل.

فمن عمل صالحاً وهو مؤمن رجلا كان أو امرأة، فله الحياة الطيبة: وسينال ثواب اللّه تعالى من غير تمايز في الجنس، ولا تفاضل بينهما إِلاّ من خلال ما يتفوق أيٍّ منهما على الآخر من حيث الإِيمان والعمل الصالح.

3 ـ جذور العمل الصالح ترتوي من الإِيمان

العمل الصالح: مصطلح له من سعة المفهوم ما يضم بين طياته جميع الأعمال الإِيجابية والمفيدة والبناءة على كافة أصعدة الحياة العلمية والثقافية والإِقتصادية والسياسية والعسكرية...الخ.

ويشمل: الإِختراع الذي يبذل فيه العالم جهده سنوات طويلة من أجل خدمة الإِنسانية.. جهاد الشهيد الذي حمل روحه على كفه وخاض ساحة الصراع بين

[316]

الحق والباطل فبذل دمه الشريف في سبيل اللّه.. الآلام التي تتحملها الأُمّ المؤمنة عند الولادة وما تواجه من صعاب في تربية أبنائها.. وتشمل ما يعانيه العلماء في تحرير كتبهم الثمينة.

وتشمل أيضاً: أعظم الأعمال، كحمل رسالة النبوة.. وأقل وأصغر الأعمال، كرفع حجر صغير من طريق المارة، نعم، فكل ما ذكره يدخل ضمن مفهوم العمل الصالح.

والحال هذه.. يواجهنا «السؤال» الآتي: لماذا قيّد العمل الصالح بشرط الإِيمان، في حين يمكن أداؤه بدون هذا الشرط، والساحة البشرية فيها كثير من الشواهد التي تحكي ذلك؟

و«الجواب» ينصب على تبيان مسألة واحدة، ألا وهي (الباعث الإِيماني)، فإِنْ لم يحرز هذا الباعث فغالباً ما تكون الأعمال المنجزة ملوّثة (وقد تشذ عن هذه القاعدة العامّة بعض المتفرقات هنا وهناك)، وأمّا إِذا ارتوت جذور شجرة العمل الصالح من ماء التوحيد والإِيمان باللّه، فنادراً ما يصيب هذا العمل آفات مثل: العجب، والرياء، الغرور، التقلب، المنّة...الخ، ولذلك نرى القرآن الكريم غالباً ما يربط بين هذين الأمرين، لما لإرتباطهما من واقعية.

ونوضح المسألة في مثال: لو افترضنا أنّ شخصين أرادا بناء مستشفى، أحدهما يدفعه الباعث الإِلهي لخدمة خلق اللّه، والآخر هدفه التظاهر بالعمل الصالح والحصول على السمعة والمكانة الإِجتماعية المرموقة.

وفي النظرة الأُولى وبتفكير سطحي يمكننا أنْ نقول ـ إِنّ المستشفى ستقام، وسيستفيد الناس من عملهما على السواء، وصحيح أن أحدهما سيحصل على الثواب، الإِلْهي والآخر لا يحصل عليه، ولكنّ ظاهر عمليهما لا اختلاف فيه.

وكما قلنا فإِنّ هذا القول ناتج عن رؤية سطحية للموضوع، أمّا لو أمعنا النظر لرأينا أنّهما مختلفان من جهات متعددة، فعلى سبيل المثال: إِنّ الشخص الأوّل

[317]

سينتخب مكاناً لمستشفاه يكون قريباً من أكثر طبقات المنطقة فقراً وحرماناً، ولربّما تكون في محلة غير معروفة ومنزوية، أمّا الشخص الثّاني فإِنّه سيبحث عن منطقة أكثر شهرة حتى وإن كانت حاجتها للمستشفى قليلة جدّاً.

وسيسعى الشخص الأوّل في انتخاب مواد البناء وطريقته بما يلحظ فيه المستقبل البعيد، ويحكم أساس البناء ليصمد البناء لسنين طويلة، أمّا الشخص الآخر فإِنّه سيحاول أن يسرع في البناء وتعجيل افتتاح المستشفى ويكثر الضجيج والإِعلام لينال مراده. وسيجدّ الأوّل في إِحكام باطن العمل في حين أنّ الثّاني سيهتم بمظهره ورونقه. وعند انتخاب الأقسام الطبية، الأطباء، الممرضين وسائر احتياجات المستشفى، فثمّة اختلاف كبير بين الشخصين، فاختلاف النيّة يترك أثره على جميع مراحل وشؤون العمل وبعبارة أُخرى: إِنّ العمل يصطبغ بصبغة النيّة.

4 ـ ما هي الحياة الطيبة؟

لقد ذكر المفسّرون في معنى الحياة الطيبة تفاسير عديدة:

فبعض فسرها بـ : الرّزق الحلال.

وبعض بـ : القناعة والرضا بالنصيب.

وبعض بـ : الرزق اليومي.

وبعض بـ : العبادة مع الرزق الحلال.

وبعض بـ : التوفيق لطاعة أوامر اللّه...وما شابه ذلك.

ولعله لا حاجة بنا للتذكير بأن مفهوم الحياة الطيبة من السعة بحيث يشمل كل ما ذكروه وغيره، فالحياة الطيبة بجميع جهاتها، وخالية من التلوثات والظلم والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم، وفيها ما يجعل حياة الإِنسان صافية كماء زلال.

[318]

وبملاحظة تعبير الآية عن الجزاء الإِلهي وفق أحسن الأعمال، ليفهم من ذلك أنّ الحياة الطيبة ترتبط بعالم الدنيا بينما يرتبط الجزاء بالأحسن بعالم الآخرة.

وعندما سئل أمير المؤمنين(عليه السلام) عن قوله تعالى: (فلنحيينّة حياة طيبة)، قال: «هي القناعة»(1).

ولا شك أنّ هذا التّفسير لا يعني حصر معنى الحياة الطيبة بالقناعة، بل هو بيان لأحد مصاديقها الواضحة جدّاً، حيث أنّ الإِنسان لو أعطيت له الدنيا بكاملها وسلبت منه روح القناعة فإِنه ـ والحال هذه ـ سيعيش دائماً في عذاب وألم وحسرة، وبعكس ذلك، فإِذا امتلك الإِنسان القناعة وترك الحرص والطمع، فإِنّه سيعيش مطمئناً راضياً على الدوام.

وقد ورد في روايات أُخرى تفسير الحياة الطيبة بمعنى الرضا بقسم اللّه، وهذا المعنى قريب الأُفق مع القناعة.

وينبغي أنْ لا نعطي لهذه المفاهيم صفة تخديرية أبداً، وإِنّما الهدف الواقعي من بيان الرضا والقناعة هو القضاء على الحرص والطمع واتباع الهوى في نفس الإِنسان، التي تعتبر من العوامل المؤثرة في إِيجاد الإِعتداءات والإِستغلال والحروب وإِراقة الدماء، والمسببة للذل والأسر.

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 229.

[319]

الآيات

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطـنِ الْرَّجِيمَ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطـنٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا سُلْطـنُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ(100)

التّفسير

إِقرأ القرآن هكذا:

لم يفت ذاكرتنا ما ورد قبل عدّة آيات أنّ القرآن (تبياناً لكل شيء) ثمّ تمّ البحث عن قسم من أهم الأوامر الإِلهية في القرآن.

وتبيّن الآيات مورد البحث طريقة الإِستفادة من القرآن وتتطرق إِلى كيفية تلاوته، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا، ولابد من رفع الحجب المخيمة على وجودنا وإِزالتها عن محيط فكرنا وروحنا، كي نتمكن من تحصيل هذا المحتوى الثر الغني.

ولهذا يقول القرآن: (فإِذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم).

ولا يقصد من الإِستعاذة الاكتفاء بذكر بل ينبغي لها أنْ تكون مقدمة لتحقيق وإِيجاد الحالة الروحية المطلوبة.. حالة: التوجه إِلى اللّه عزَّ وجلّ، الإنفصال عن

[320]

هوى النفس والعناد المانع للفهم والدرك الصحيح للإِنسان، البعد عن التعصبات والغرور وحبّ الذات ومحورية الذات التي تضغط على الإِنسان ليسخر كل شيء (حتى كلام اللّه) في تحقيق رغباته المنحرفة.

وإِنْ لم تتحقق للإِنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إِدراك الحقائق القرآنية، وربّما سيجعل القرآن وسيلة لتبرير آرائه ورغباته الملوّثة بالشرك بواسطة «تفسير بالرأي».

وتأتي الآية التالية لتكون دليلا على ما جاء في الآية التي قلبها: (إِنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون).

(إِنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون)، لأنّهم يعتبرون أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر اللّه!

* * *

بحوث

1 ـ موانع المعرفة

مع كل ما للحقيقة من ظهور ووضوح فإِنّها لا تلحظ إِلاّ بعين باصرة، وبعبارة أُخرى، ثمة شرطان لمعرفة الحقائق:

الأوّل: وضوح الحقيقة.

الثّاني: وجود وسيلة للنظر إِليها وإِدراكها.

فهل يمكن للأعمى أنْ يرى قرص الشمس يوماً ما مع البقاء على حالة العمى؟ وهل يمكن للأصم أنْ يسمع نغمات هذا العالم الجميلة؟ فكذا الحال بالنسبة لفاقد البصيرة الثاقبة والأذن السميعة، فإنّه محروم من رؤية جلال الحق، ومحروم من سماع آياته الرائعة.

ولكنْ، لماذا يفقد الإِنسان قدرته على المعرفة؟!

[321]

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه، ووقع في أسر الذات والغرور، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأُمور قد جعلها موانع أمام فهم وإِدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف: «لولا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إِلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى، وبدون ذلك يقع الإِنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة بـ (هدىً للمتقين).

وكم من أُناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو إِجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هادياً لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإِضلال، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح: (أمّا الذين آمنوا فزادتهم إِيماناً وهم يستبشرون وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إِلى رجسهم وماتوا وهم كافرون).

فالمقصود بالآية عدم الإِكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أنْ نجعل من هذا الذكر فكراً، ومن الفكر حالة داخلية، وعندما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا، أو أنْ تحول بيننا وبين كلام  اللّه جل وعلا .

2 ـ لماذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم»: من (رجم)، بمعنى الطرد، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

[322]

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته، للتذكير بتكبّره على أمر اللّه حين أمره بالسجود والخضوع لآدم، وإِنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إِدراك الحقائق، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).

فكان ذلك العناد والغرور سبباً لتمرده على أمر اللّه عزَّ وجلّ ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أنْ يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الإِحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات اللّه الحكيم، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إِدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إِلى قسمين: قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة، وبيّنت صفتين لكلٍّ من هذين القسمين:

فالذين هم خارج سلطة الشيطان: مؤمنون ومتوكلون على اللّه عزَّ وجلّ، أيْ أنّهم من الناحية الإِعتقادية عباد لله، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى اللّه، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان، فقائدهم الشيطان (يتولّونه) وهو مشركون، لأنّ أعمالهم تشير إِلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة مَنْ يسعى لأنْ يكون من القسم الأوّل، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإِلْهيين، أو الضياع في محيط فاسد، أو أيّ أسباب أُخرى، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّةِ حال، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إِجبارية على

[323]

الإِنسان، ولا يتمكن من التأثير على الإِنسان من دون أنْ يمهد الإِنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه، ويعطيه إِجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن:

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام اللّه والإِستفادة من آياته:

1 ـ يقول تعالى أوّلاً: (لا يمسّه إِلاّ المطهّرون)، ويمكن أن يشير هذا التعبير إِلى الطهارة الظاهرية، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء، وكذا الإِشارة إِلى إِمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجاباً مظلماً بين الإِنسان والحقائق.

2 ـ يجب الإِستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات اللّه (فإِذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم).

وعندما سئل الإِمام الصادق(عليه السلام) عن طريقة العمل بهذا القول، يروى أنّه قال: «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أُخرى، عند تلاوته عليه السلام لسورة الحمد قال: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أنْ يحضرون».

وكما قلنا، فإِنّ التلفظ ـ فقط ـ في الإِستعاذة لا يغني من الحق شيئاً، مالم تنفذ الإِستعاذة إِلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإِنسان عند التلاوة عن إِرادة الشيطان، ويقترب من الصفات الإِلهية، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالإِستعاذة بالله من الشيطان ـ إِذِنْ ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة، ومستمرّة

[324]

مع التلاوة إِلى آخرها وإِنْ لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا، أي مع التفكّر والتأمّل (ورتل القرآن ترتيلا)(1).

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ القرآن لا يُقرأ هزرمةً ولكنْ يرتل ترتيلا، إِذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2).

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إِضافةً إِلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن).

وعن أبي عبدالرحمن السلمي قال: حدثنا مَنْ كان يُقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأُخَر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3).

وروي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4). (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إِلى تلاوة القرآن أنْ ينصتوا إِليه بتفكّر وتأمّل (وإِذا قرىء القرآن فاستمعوا إِليه وانصتوا لعلّكم ترحمون)(5).

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6).

* * *

_____________________________

1 ـ سورة المزمل، 4.

2 ـ بحار الأنوار، ج 89، ص 106.

3 ـ المصدر الستابق.

4 ـ بحار الأنوار، ج 92، ص 107.

5 ـ الأعراف، 204.

6 ـ مزيد من الإِطلاع..راجع بحار الأنوار، ج 9، ص 190 وما بعدها.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215818

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:08

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net