00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النحل من آية 61 ـ 83 من ( ص 224 ـ 284 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[224]

الآيات

وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّة وَلـكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمَّىً فَإِذا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ(62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلنَا إِلى أُمَم مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمـلَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ(63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتـبَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوم يُؤْمِنُونَ(64)

التّفسير

وسعت رحمته غضبه:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي: لماذا لم يعذب اللّه المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!

[225]

والآية الأُولى (61) تجيب بالقول: (ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)(1).

«الدابة»: يراد بها كل كائن حي، ويمكن أن يراد بها هنا (الإِنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أيْ: إِنّ اللّه لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إِنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضاً إِرادة جميع الكائنات الحيّة، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إِنّما خلقت وسخرت للإِنسان كما يقول القرآن في الآية (29) من سورة البقرة: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، فعندما يذهب الإِنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأُخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي: لو نظرنا إِلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إِنسان غير ظالم، فالكلُّ ظالم كلُّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إِنسان على سطح الأرض... مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى، فالأنبياء والأئمّة المعصومون(عليهم السلام) خارجون عن شمولية هذا المعنى، بل في كل زمان ومكان ثمة مَنْ تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبداً..

والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكماً نوعياً وليس حكماً عاماً شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك: الآية (32) من سورة فاطر حيث تقول: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنه سابق

_____________________________

1 ـ إِن ضمير «عليها» يعود إِلى «الأرض» وإِنْ لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر، ونظائر ذلك كثيرة في لغة العرب.

[226]

بالخيرات بإِذن اللّه ذلك هو الفضل الكبير).

فنرى الآية تتطرق إِلى ثلاثة أقسام: ظالم، صاحب ذنوب خفيفة، وسابق بالخيرات.. ومن المسلم به أَنَّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين، ولا عجب من تعميم الآية، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء، أمّا مَنْ يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة، ولم يلتفت إِلى ما توحي إِليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا: (ولكنْ يؤخرهم إِلى أجل مسمى فإِذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

* * *

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من «الأجل المسمى» ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية، ومن جملتها الآية (2) من سورة الأنعام، والآية (34) من سورة الأعراف، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت، أيْ: إِنَّ اللّه عزَّوجلّ يمهل الناس إِلى آخر عمرهم المقرر لهم إِتماماً للحجة عليهم، ولعل مَنْ ظلم يعود إِلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سبباً لرجوعه إِلى بارئه الحق وإِلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأُولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإِيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية

[227]

رقم (2) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (34) من سورة الأعراف.

* * *

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإِعتقاد بأنّ الملائكة إِناثاً، فيقول: (ويجعلون لله ما يكرهون).

فهذا تناقض عجيب ـ وكما جاء في الآية (22) من سورة النجم (تلك إِذَاً قسمة ضيزى) فإِنْ كانت الملائكة بنات اللّه سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمراً حسناً، فلماذا تكرهون ولادتها؟! وإِنْ كانت شيئاً سيئاً فلماذا تنسبونها إِلى اللّه؟!

ومع كل ذلك.. (وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحسنى).

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على اللّه؟!...

وجاءت «الحسنى» (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب، وذلك ما يدعيه أُولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يقول عرب الجاهليه بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب: أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقاً، وإِنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني، ويستوعبون مسألة عودة الإِنسان إِلى حياته المادية مرّة أُخرى.

إِضافة إِلى إِمكان اعتبار قولهم قضية شرطية، أيْ: إِنْ كان هناك معاد حقّاً فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بُعدهم عن اللّه تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس اليه، ويتشدّقون بادّعاءت هزيلة مدعاة للسخرية!

[228]

واحتمل بعض المفسّرين أيضاً أنّ «الحسنى» تعني نعمة الأولاد الذكور، لأنّهم يعتبرون البنات سوءاً وشرّاً، والبنين نعمةً وحسنى.

إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صواباً، ولهذا يقول القرآن، وبلافاصلة: (لاجَرَمَ أنّ لهم النّار)، أيْ: أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط، بل و «لهم النّار» (و إِنّهم مفرطون) أيْ: من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط: من فرط، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الإِستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات، ويسأل: كيف يصدَّق أن نسمع عن إِنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!..

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك: (تالله لقد أرسلنا إِلى أُمم من قبلك فزَيَّن لهم الشيطان أعمالهم).

نعم، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفاً وفخراً وحفظاً لناموس وكرامة القبيلة! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول: لقد دفنتُ ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غداً أسيرة في يد الأعداء!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن: إِن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان (فهو وليهم اليوم)، يستفيدون ممّا يعطيهم إِيّاه.

[229]

ولهذا.. (ولهم عذاب أليم).

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير (فهو وليهم اليوم) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه، أيْ: إنّها إِشارة إِلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إِنّما هم على خطى الأُمم المنحرفة السابقة، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(1).

ويحتمل تفسيرها أيضاً بأنّ المقصود من (فهو وليهم اليوم) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إِلى اليوم، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة، والشيطان وليهم كما كان سابقاً.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء، ولتؤكّد حقيقة: أنّ الأقوام والأُمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف، ولزالت تناقضات الأعمال، فتقول: (وما أنزلنا عليك الكتاب إِلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه هدىً ورحمةً لقوم يؤمنون).

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول، ويمحو أيَّ أثر للإِختلافات الناشئة من الأهواء، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.

* * *

_____________________________

1 ـ ولكن لازم هذا التّفسير وجود اختلاف في ضمير (أعمالهم) وضمير (وليهم)، فالأوّل يعود إِلى الاُمم السالفة، والثّاني الى المشركين في صدر الإِسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة، وهي ان تقول: هؤلاء يتبعون الأُمم الماضية. (فتأمل).

[230]

الآيات

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمآءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيَةً لِقَوْم يَسْمَعُونَ(65) وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَْنْعـمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْث وَدَم لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّـرِبِينَ(66) وَمِن ثَمَرتِ النَّخِيلِ وَالأَْعْنـبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إَنَّ فِى ذلِكَ لأََيَةً لِقَوْم يَعْقِلُونَ(67)

التّفسير

المياه، الثمار، الأنعام:

مرّة أُخرى، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإِلهية الكثيرة، تأكيداً لمسألة التوحيد ومعرفة اللّه، وإِشارة إِلى مسألة المعاد، وتحريكاً لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إِليه سبحانه أكثر، ومن خلال هذا التوجيه الرّباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.

فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من حياة لروح الإِنسان، وبنفس السياق تأتي الآية الأُولى من الآيات مورد البحث لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإِنسان: (واللّه أنزل من السماء ماءً

[231]

فأحيا به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيةً لقوم يسمعون).

لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إِحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحياناً أو أصابها الجفاف فأخرجها عن مجال الإِستفادة من قبل الإِنسان، ونتيجة لما وصلت إِليه من وضع قد يخيل للإِنسان أنّها أرض غير منبتة أصلا، ولا يصدّق بأنّها ستكون أرض معطاء مستقبلا ـ ولكنّ، بتوالي سقوط المطر عليها وما يبث عليها من أشعة الشمس، ترى وكأنّها ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد، فتسري في عروقها دماء المطر وتعادلها الحياة، فتعمل بحيويه ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات، ومن ثمّ تتجه إِليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأُخرى من كل جانب، وبذلك...تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.

وخلاصة المقال أنّه سيبقى الإِنسان مبهوتاً أمام تحول الأرض الميتة إِلى مسرح جديد للحياة، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالق عزَّوجلّ يدلل بما لا يقبل الشك على إِمكان المعاد، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إِلاّ أمر خاضع لقدرته سبحانه.

وإِنّ نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإِنسان أي قسط من أمر إِيجادها) دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأُولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إِلى نعمة وجود الأنعام، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة، فيقول: (وأنّ لكم في الأنعام لعبرة).

وأية عبرة أكثر من أنْ: (نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين).

«الفرث» لغةً: بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرّد وصولها إِلى

[232]

الامعاء تزود البدن بمادتها الحياتية، بينما يدفع الزائد منها إِلى الخارج.. فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثاً» وما يدفع إِلى الخارج يسمّى (روثاً).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إِلاّ مقداراً قليلا من الغذاء (كبعض المواد السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إِلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضاً بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصّة داخل ثدي الإِناث، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوّة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات، ومن الدم.

والعجب يكمن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية، فيقول: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إِنّ في ذلك لآية لقوم يعقلون).

«السكر» لغةً، له معاني مختلفة، إِلاّ أنّه هنا بمعنى: المسكرات والمشروبات الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).

وممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من التمر والعنب أبداً، وإِنّما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته بـ (رزقاً حسناً) وكإِشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا .. فلا حاجة للقول بأنّ هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر أو أنّها تشير إِلى تحليله، بل حقيقة التعبير القرآني يشير إِلى التحريم، ولعل الآية كانت تمثل الإِنذار الأوّل للتحريم.

وقد تبدو العبارة وكأنّها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.

* * *

[233]

بحوث

1 ـ كيف يتكوّن اللبن؟

يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه: إنّه يخرج من بين  «فرث» ـ الأغذية المهضومة داخل المعدة ـ و «دم».

وقد أثبت ذلك فيزيولوجياً: حيث أنّه عندما يتمّ هضم الغذاء داخل المعدة ويكون جاهزاً للإِمتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام الملايين من العروق الشعيرية، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إِلى تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.

عندما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إِلى الدم الذي يجري في عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه الطريقة ما دام في بطن أمه، وعندما ينفصل عن أُمّه يتحول طريق تغذيته إِلى الثدي .. وهنا لا تستطيع الأُم أن تصل دمها إِلى دم ولدها، ولذلك ينبغي تصفية الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل، وهنا ... يتكون اللبن من بين فرث ودم، أيْ: من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إِلى فرث وما ينتقل من مواده إِلى الدم ليتكون منه اللبن.

فاللبن في حقيقة .. شيء وسط بين الفرث والدم، فلا هو دم مصفى ولا هو غذاء مهضوم، وهو أعلى من الثّاني ودون الأوّل!

علماً بأنّ الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في صناعة المواد البروتينية للبن.

وثمّة مكونات أُخرى للبن لا توجد في الدم وإِنّما تنتجها غدد خاصّة في الثدي (كالكازوئين).

والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة: ويدخل في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).

[234]

أمّا سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد أن تجري عليه الغدد الخاصّة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إِلى نوع جديد من السكر.

ومع أنّ إِنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم، ومن خلال الإِرتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي، إِلاّ أنّنا لا نلاحظ أيَّ أثر لرائحة الفرث أو لون الدم فيه، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة خاصّة به.

ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أنّ إِنتاج لتر واحد من اللبن في الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (500) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من امتصاص المواد اللازمة لإِنتاج اللبن، كما يلزم لإِنتاج لتر واحد من الدم عبور مواد غذائية كثيرة من الأمعاء ... وبهذا يتّضح لنا معنى (من بين فرث ودم)كاملا(1).

2 ـ أهم ما في اللبن من مواد غذائية

اللبن مليء بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية كاملة.

فالمواد المعدنية في اللبن، عبارة عن: الصوديوم، البوتاسيوم، الكالسيوم، المغنيسيوم، النحاس، قليل من الحديد بالإِضافة إِلى الفسفور والكلور وغيرها.

ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.

أمّا المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).

والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن: فيتامين ب، پ، آ، د.

_____________________________

1 ـ مقتبس من كتابي: الكيمياء الحياتية والطبية، وأوّل جامعة وآخر نبي، الجزء السادس.

[235]

وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه حاوياً لكافة أنواع الفيتامينات، وأصبح بديهياً أنّ اللبن الطازج يعتبر غذاءً كاملا. ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.

ولعل ما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: «ليس يجزي مكان الطعام والشراب إِلاّ اللبن» إِشارة لهذا السبب.

ونقرأ في روايات أُخرى عن اللبن أنّه يزيد في عقل الإِنسان، ويحد النظر، ويرفع النسيان، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوماً أن هذه الآثار لها إرتباط وثيق بما في اللبن من مواد حياتية)(1).

3 ـ اللبن .. غذاء خالص وسهل الهضم

لقد أكّدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن ـ كونه «خالصاً»، و«سائغاً» أي لذيذاً وسريع الهضم ـ وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاءً كثير الفائدة على الرغم من قلّة حجمه. و«خالص» أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت فهو سهل الهضم بالشكل الذي جُعِلَ ملائماً لأي إِنسان وعلى مختلف الأعمار ـ منذ الطفولة حتى الشيخوخة ـ ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول، وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام، ولهذا يوصى بالإِكثار من تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.

ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط)، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى فيما جاء في التعبير القرآني «خالصاً»، واعتبارهم من كون «خالصاً» إِشارة إِلى تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.

وكذا نجد في الإحكام الإِسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إِلى هذا

_____________________________

1 ـ لزيادة التفصيل، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي ـ الجزء السادس.

[236]

المعنى بوضوح.

ويقول الفقهاء: إِنّ الطفل لو رضع من غير أُمّه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه فإِنّ مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في مَنْ يعود إِليه النسب).

ويقولون أيضاً: إِن (15) رضاعة متوالية، أو رضاعة يوم وليلة متصلة، يؤدي إِلى هذه الحرمة أيضاً.

ولو جمعنا القولين، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية العظام وزيادة اللحم!؟

وينبغي الإِلتفات إِلى أن التوجيهات الإِسلامية أكّدت كثيراً على لبن «اللباء» هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة، حتى لتقول بعض كتب الفقه إِنّ حياة الطفل مرهونة به، ولهذا اعتبر إِعطاء الطفل من حليب اللباء واجباً(1).

ولعل ما في الآية (7) من سورة القصص حول موسى(عليه السلام) يتعلق بهذا الموضوع أيضاً (وأوحينا إِلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإِذا خفت عليه فألقيه في اليم).

* * *

_____________________________

1 ـ شرح اللمعة، كتاب النكاح، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.

[237]

الآيتان

وَأَوْحى رَبُّكَ إِلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتَاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثمّ كُلِى مِن كُلِّ الَّثمَرتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْونُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأََيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ(69)

التّفسير

(وأوحى ربّك إِلى النحل)!

انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإِلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إِلى الحديث عن «النحل» وما يدره من منتوج (العسل) ورمز إِلى ذلك الالهام الخفي بالوحي الإِلهي إِلى النحل: (أن اتّخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر وممّا يعرشون).

وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة:

1 ـ ما هو «الوحي»

«الوحي» في الإصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإِشارة السريعة،

[238]

ثمّ بمعنى الالقاء الخفى.

وقد جاءت كلمة «الوحي» في القرآن الكريم لترمز إِلى عدّة أشياء، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى، منها:

وحي النّبوة: حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيراً. كما في الآية (51) من سورة الشورى: (وما كان لبشر أن يكلّمه اللّه إلاّ وحياً...).

ومنها: الوحي بمعنى «الإِلهام» سواء كان الملُهَم منتبهاً لذلك (كما في الإِنسان (وأوحينا إِلى أم موسى أن أرضعيه فإِذا خفت عليه فألقيه في اليم)(1)، أو مع عدم انتباه المُلهم كالإِلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية مورد البحث.

ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه اللّه في الكائنات الحيّة.

ومنها: أنّ الوحي بمعنى الإِشارة، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (11) من سورة مريم (فأوحى إِليهم أن سبحوا بكرة وعشياً).

ومنها أيضاً: إِيصال الرسالة بشكل خفي، كما في الآيه (112) من سورة الأنعام (يوحي بعضهم إِلى بعض زخرف القول غروراً).

2 ـ هل يختص الإِلهام الغريزي بالنحل؟

وإِذا كان وجود الغرائز (الإِلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات، فلماذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟

والإِجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية: إِنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الإِجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند

_____________________________

1 ـ القصص، 7.

[239]

الإِنسان وحياته الإِجتماعية، من عدّة جهات.

وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إِلى توحيد الخالق والإِذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.

وأشار القرآن الكريم إِلى ذلك الإِعجاز بكلمة «الوحي» ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها، ولعل «الوحي» هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إِلى الآيات السابقة.

3 ـ المهمّة الأُولى في حياة النحل:

وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي: بناء البيت، ولعل ذلك إِشارة إِلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات، أو لعله إِشارة إِلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة، قد يكون أعجب حتى من عمليه صنع العسل(1).

فكيف تضع هذه المادة الشمعيه الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تماماً، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان..

فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة، وسبحان اللّه خالق كل شيء.

_____________________________

1 ـ عُرِفَ لحد الآن (4500) نوعاً من النحل الوحشي، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث: الهجرة، بناء الخلايا، المكان، تناول رحيق الأزهار، أوّل جامعة، الجزء الخامس.

[240]

4 ـ اين مكان النحل:

وقد عيّنت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة، وبين أغصان الإشجار، وأحياناً في البيوت التي يصنعها لها الإِنسان.

ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمّة الثّانية للنحل: (ثمّ كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربّك ذللا).

«الذلل»: (جمع ذلول) بمعنى التسليم والإِنقياد.

ووصف الطرق بالذلل لأنّها قد عينت بدقّة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله، وسنشير إِلى كيفية ذلك قريباً.

وأخيراً يعرض القرآن المهمّة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة): (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إِنّ في ذلك لآية لقوم يتفكرون) في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإِنسان (فيه شفاء)، وهو دليل على عظمة وقدرة الباري عزَّوجلّ.

* * *

بحوث

وفي الآية جملة بحوث قيمة أُخرى:

1 ـ مم يتكون العسل؟

يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصّة الموجودة في مياسم الأوراد، ويقول خبراء النحل: إِنّ عمل النحل في واقعه لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للإِستفادة من بعض أجزاء الورود

[241]

الأخرى، وكذا الحال مع الأثمار، وهو ما يشير إِليه القرآن بقوله: (من كل الّثمرات).

وقد نقل قول عالم البيئة (مترلينك) بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح: (لو قدّر أن تفنى أنواع النحل ـ الوحشي والأهلي ـ فإِنّ مائة ألف نوع من النباتات والثمار والأوراد ستفنى، أي أنّ تمدننا سيفنى أيضاً)(1). ذلك لأنّ دور النحل في نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إِلى مياسم إِناثها من الأهمية بحيث يجعل بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إِنتاج العسل نفسه.

والحقيقة أنّ ما يتناوله النحل من أنواع الثمار إِنّما هو بالقوّة لا بالفعل، ولهذا فهو يساهم في عملية تكوينها، فما أشمل وأدق التعبير القرآني (من كل الثمرات)!

2 ـ السّبل المذللة!

لقد توصل العلماء المتخصصون بدراسة حياة النحل إِلى ما يلي: تخرج في كل صباح مجموعة من النحل لمعرفة أماكن وجود الأوراد وتعيينها، ثمّ تعود إِلى الخلية لتخبر بقية النحل عن أماكن الورود والجهات التي ينبغي التوجه إِليها، ومقدار الفاصلة بين الورود والخلية.

ويستعمل النحل أحياناً لأجل تعيين طرق وصوله إِلى الأوراد علامات خاصّة كأن يشخص طبيعة الروائح المنتشرة على طول الطريق أو ما شابه ذلك، وذلك لضمان عدم إِضاعة الطريق ذهاباً وإِياباً.

ولعل عبارة (فاسلكي سبل ربّك ذللا) إِشارة لهذه الحركة.

_____________________________

1 ـ أول جامعة، الجز الخامس، ص 55.

[242]

3 ـ أين يصنع العسل؟

ربّما، إِلى الآن يوجد من يتصور بأنّ النحل يمتص رحيق الأوراد ويجمعه في فمه ثمّ يخزنه في الخلية، وهذا خلاف الواقع، فالنحلة تجمع الرحيق في حفر خاصّة داخل بدنها يطلق عليها علمياً اسم (الحوصلة) وهي بمثابة معامل مختبرات كيمياوية خاصّة تقوم بعمليات تحويل وتغيير مختلفة لرحيق الأزهار، حتى يصل إِلى إِنتاج العسل، الذي تقوم النحلة بإِخراجه وجمعه في الخلية.

والمدهش أن سورة النحل مكية، وكما هو معلوم بأنّ مكّة منطقة جافة ليس فيها نحل لعدم توفر النباتات والأوراد التي يحتاجها ومع ذلك فالقرآن الكريم يتحدث بكل دقة عن النحل ويشير إِلى أدق أعماله (إِنتاج العسل): (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه).

4 ـ ألوان العسل المختلفة

تتفاوت ألوان العسل وفقاً لتنوع الأوراد التي يؤخذ رحيقها منها .. فيبدو أحياناً بلون البن القاتم، وأحياناً أُخرى يكون أصفر اللون، أو أبيض فضي، أو ليس له لون، وتارةً تراه شفافاً، وتارة أُخرى ذهبي أو تمري وقد تراه مائلا إِلى السواد!

ولهذا التفاوت في اللون حكمة بالغة قد تبيّنت أخيراً مفادها: إِنّ للون الغذاء أثّر بالغ في تحريك رغبة الإِنسان إليه.

وهذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضاً، فكانوا يعتنون بإِظهار لون الغذاء المشهي لدرجة كانوا يضيفون إِليه بعض المواد تحصيلا لما يريدون كإِضافة الزعفران وما شابهه.

ولهذا الموضوع بحوث مفصلة في كتب التغذية لا يسمح لنا المجال بعرضها كاملة خوفاً من الإِبتعاد عن مجال التّفسير.

[243]

5 ـ العسل .. والشفاء من الأمراض:

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعالة لكثير من الأمراض، ولا زلنا نجهل الكثير من فوائدها على الرغم من كثرة ما عرفناه، والشيء المهم في موضوعنا ما توصل إِليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث أنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل!

وقد صرّح العلماء بكثير من تلك الخواص الوقائية والعلاجية والمقوية.

فالعسل: سريع الإِمتصاص من قبل الدم، ولهذا فهو غذاء مقوٍّ ومؤثر جدّاً في تكوين الدم.

والعسل: يقي المعدة والأمعاء من العفونة.

والعسل: رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه، لأن الإِكثار منه يقلل النوم).

وللعسل: أثر مهم في رفع التعب وتشنج العضلات.

والعسل: يقوي الشبكية العصبية للأطفال (إِذا ما أطعمت الأم أثناء الحمل).

و يرفع نسبة الكالسيوم في الدم.

ونافع لتقوية الجهاز الهضمي (وبالخصوص لمن أُبتلي بنفخ البطن).

وبما أنّه سريع الإِحتراق فهو يعمل على توليد الطاقة بسرعة فائقة بالإِضافة لترميمه للقوى.

والعسل أيضاً: مقوٍّ للقلب، مساعد في علاج أمراض الرئة، نافع للإِسهال لخاصيته في قتل المكروبات.

ويعتبر العسل عاملا مهماً من عوامل معالجة قرحة المعدة والأثنى عشري.

[244]

وهو دواء نافع لعلاج الروماتيزم، ونقصان قوّة نمو العضلات، ورفع الآلام العصبية.

وبالإِضافة إِلى ذلك فهو نافع في رفع السعال وعامل مهم لتصفية الصوت.

والخلاصة: إِنّ خواص العسل العلاجية أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر.

ومع ذلك كله فإِنّه يدخل في صناعة الأدوية لتلطيف الجلد وللتجميل، ويستعمل لطول العمر، ولعلاج ورم الفم واللسان والعين، ويستعمل أيضاً لمعالجة الإِرهاق، وتشقق الجلد، وما شابه ذلك.

أمّا المواد والفيتامينات الموجودة في العسل فكثيرة جدّاً. وفيه من المواد المعدنية: الحديد، الفسفور، البوتاسيوم، اليود، المغنيسيوم، الرصاص، النحاس، السلفور، النيكل، الصوديوم وغيرها.

ومن المواد الآلية فيه: الصمغ، حامض اللاكتيك، حامض الفورميك، حامض السيتريك والتاتاريك والدهون العطرية.

أمّا ما يحويه من الفيتامينات، ففيه: فيتامينات (أ، ب، ث، د، ك)

(K , D , C , B , A).

ويعتقد البعض باحتوائه على فيتامين (پ ب) (P B) أيضاً.

وأخيراً: فالعسل علاج لصحة وجمال الإِنسان.

وصرحت الرّوايات كذلك بخواص العسل العلاجية، وورد الكثير عن أمير المؤمنين(عليه السلام) والإِمام الصادق(عليه السلام) وبعض الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) من أنّهم قالوا: «ما استشفى الناس بمثل العسل»(1).

وبرواية أُخرى: «لم يستشف مريض بمثل شربة عسل»(2).

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من شرب العسل في كل شهر مرّة يريد ما

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج17، ص73 إِلى 75.

2 ـ المصدر السابق.

[245]

جاء به القرآن، عوفي من سبعة وسبعين داءاً»(1).

وثمّة أحاديث أُخرى حول أهمية العسل في علاج آلام البطن.

ونُذكِّر أنّ لكل حكم عام أو قاعدة كلية استثناء، ولهذا فقد ورد النهي عن تناول العسل في بعض الحالات النادرة.

6 ـ ( للناس):

وممّا يجذب النظر أن خبراء النحل يرون كفاية امتصاص وردتين أو ثلاث لسد جوع النحلة، إِلاّ أنّها تحط على (250) وردة في كل ساعة (كمعدل) ولأجل ذلك تقطع مسافة كليومترات، وعلى الرغم من قصر عمر النحلة، إِلاّ أنّها تنتج كمية لا بأس بها من العسل، وقد لا يصدق كثرة ما تنتجه قياساً لما تعيشه من عمر، ولكنّ ما تقوم به من مثابرة وعمل دؤوب لا يعرف الكلل والملل قد هيأها لأن تقوم بهذا العمل الكبير العجيب.

وكل ذلك السعي وتلك المثابرة ليس في واقعه لملء بطنها بقدر ما عبّر عنه القرآن الكريم بـ (للناس).

7 ـ ملاحظات مهمّة بخصوص العسل:

أثبت العلم الحديث أنّ العسل من المواد الغذائية التي تبقى على الدوام طازجة وسالمة ومحافظة على كل ما تحويه في فيتامينات مهما طالت المدّة لأنّه من المواد غير القابلة للفساد.

ويعزو العلماء سبب ذلك لوجود نسبة البوتاسيوم الوافية فيه المانع من نمو الجراثيم، بالإِضافة لاحتوائه على بعض المواد المقاومة للعفونة كحامض الفورميك فمضافاً لكون العسل مانع من نمو الجراثيم، فهو قاتل لها أيضاً ولهذا السبب فقد استعمله المصريون القدماء في عملية التحنيط.

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج2، ص190.

[246]

ويقول العلماء: لا ينبغي حفظ العسل في أواني فلزية.

ويقول القرآن في هذا الجانب: (... من الجبال بيوتاً ومن الشجر وممّا يعرشون)، أيْ: إِنّ بيوت النحل لا ينبغي أن تكون إِلاّ بين الأحجار والأخشاب.

وملاحظة مهمّة أُخرى: للإِستفادة من خواصه الصّحية والعلاجية ينبغي عدم تعريضه لحرارة الطبخ. يعتقد البعض أنّ تعبير القرآن بكلمة «شراب» إِشارة لهذه المسألة، فهو من المشروبات وليس من المأكولات كي يعرض لحرارة الطبخ.

وثمة ملاحظة أُخرى: على الرغم ممّا تسببه لسعة النحل من ألم، إِلاّ أن لهذا أثر علاجي أيضاً، ومع ذلك ونتيجة لطبع النحل اللطيف فإِنّه لا يلسع أحداً بلا سبب، بل نحن ندفعه إِلى ذلك ونضطره ليلسعنا عن علم أو جهل.

ومن الأسباب التي تدفع النحل للسع الإِنسان: عدم ارتياحه للروائح الكريهة، وعندما يقترب الإِنسان من الخلية لجني نتاج النحل فهي لا تلسعه إِلاّ إِذا كانت يده ملوّثة أو أن في لباسه رائحة كريهة، أو عندما يمدّ الإِنسان يده إِلى خلية ما وبدون أن يغسل يده يمدّها إِلى خلية أُخرى، فإِن نحل الثّانية ستسرع في لسعه لأنه قد نقل إِليها رائحة خلية أجنبية!

وعلى الرغم من أنّ اللسع يحمل أهدافاً دفاعية، إِلاّ أنّه بالنسبة للنحل يعني الانتحار لأنّه بمجرّد أن تقوم النحلة باللسع فإِنّها قد كتبت على نفسها مصير الموت!

وقد وضع العلماء المتخصصون برنامجاً معيناً لمعالجة الأمراض كالروماتيزم والملاريا والآلام العصبية وغيرها عن طريق لسعات النحل، والاّ فإنّ لسع النحل قد يؤدي إِلى آلام مؤذية تصل في بعض حالاتها إِلى مخاطر كبيرة.

وقد يتحمل الإِنسان لسعة أو عدّة لسعات، ولكنّ الأمر حينما يصل إِلى (200 ـ 300) لسعة فإِنّ ذلك سيؤدي إِلى التسمم واضطرابات في القلب، وإِذا ما وصل العدد إِلى (500) لسعة فسوف يؤدي إِلى شلل الجهاز التنفسي، وربّما يؤدي إِلى الموت.

[247]

8 ـ عجائب حياة النحل

كان القدماء يعرفون القدر اليسير عن حياة النحل، أمّا اليوم ونتيجة لدراسات العلماء الواسعة فقد تبيّن أن للنحل حياة منظمة جدّاً ويتخللها: تقسيم أعمال، توزيع مسؤوليات وبرنامج عمل دقيق جدّاً.

ومدينة النحل: أكثر المدن نظافة، وأكثرها نظاماً، كلّها عمل .. إنّها مدينة على خلاف كل مدن البشر، فليس فيها بطالة ولا فقر، والكل يعيش حياة تمدن جميل... وكل أفراد المدينة يخضعون لقوانينها ولا ترى مخالفاً للضوابط القانونية ولا مقصراً في عمله إِلاّ ما ندر، وإِذا ما حدث ذلك كأن تذهب إِحدى النحلات إِلى وردة كريهة الرائحة وتمتص رحيقها، فإِنّها ستخضع للتفتيش عند أعتاب المدينة ثمّ تحاكم في محكمة صحراوية، والإِعدام بالموت هو المعروف عن ارتكاب مثل هذه الأخطاء!

يقول (مترلينك) عالم البيئة البلجيكي الذي أجرى العديد من الدراسات حول حياة النحل والنظام العجيب الذي يحكم مدنها: إِنّ ملكة النحل (أو على الأصح أُمُّ الخلية) لا تعيش في مدينتها، كما نتصور من سلطتها وإِصدارها الأوامر، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة في إِطاعتها للقواعد والأنظمة الكلية السائدة إِنّنا لا نعلم كيف وضعت هذه القوانين والأنظمة، وننتظر أن نفهم هذا الأمر يوماً ما، ونعرف واضع هذه المقررات، إِلاّ أنّنا نسميه مؤقتاً (روح الخلية)!!

إِنّ الملكة تطيع روح الخلية شأنها شأن بقية الأفراد.

إِنّنا لا نعلم أين توجد روح هذه الخلية؟ وفي أي فرد من سكنة مدينة النحل قد حلّت؟

إِلاّ أنّنا نعلم أن روح الخلية ليست شبيهة بغريزة الطيور، ونعلم أيضاً أنّ روح الخلية ليست عادة وإِرادة عمياء تحكم عنصر ونوع النحل، إِنّ روح الخلية تقوم بتحديد وظيفة كل فرد من أفراد الخلية وفق استعداده، وتوجه كل واحد منها نحو عمل معين.

[248]

إِنّ روح الخلية تأمر النحل المهندس والبناء والعامل ببناء البيوت، وهي التي تأمر سكنة المدينة جميعاً بالهجرة منها في يوم معين وساعة معينة، وتتجه نحو حوادث ومشاق غير معلومة من أجل تحصيل مسكن ومأوى جديد!

إِنّنا لا نستطيع أن نفهم في أي مجمع شورى قد طرحت قوانين مدينة النحل التي وضعتها روح الخلية واتخذ قرارها بتنفيذها، مَنْ يصدر الأمر بالحركة في اليوم المعين؟

نعم، إِنّ في الخلية مقدمات هجرة من أجل إِطاعة الإِلـه الذي بيده مصير النحل(1).

إِنّ العالم المذكور قد واجه الإِبهام في فهم هذه المسألة، لما علقت في ذهنه من ترسبات الفكر المادي!

ولكننا نفهم بيسر من أين جاءت تلك القوانين والبرامج؟ ومَنْ الآمر بها؟ وذلك من خلال الإِستهداء بنور القرآن.

ما أجمل ما عبّر عنه القرآن حين قوله: (وأوحى ربّك إِلى النحل)!

أو هل ثمة تعبير أوسع وأشمل وأنطق من هذا؟!

لم نذكر فيما قلناه عن النحل إِلاّ النزر اليسير لأنّ منهج التّفسير لا يسمع لذا بمواصلة هذا الموضوع(2).

ونظن كفاية هذا القدر للمتفكر السائر نحو معرفة عظمة اللّه: (إِنّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون).

* * *

_____________________________

1 ـ تلخيص من كتاب (النحل)، تأليف مترلينك.

2 ـ اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها: أوّل جامعة وآخر نبي، والنحل، تأليف مترليتك، وعجائب عالم الحيوانات.

[249]

الآيات

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـكُم وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70) وَاللَّهُ فَصَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِى الرَّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمـنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبـتِ أَفَبِالْبـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ(72)

التّفسير

سبب اختلاف الأرزاق:

بيّنت الآيات السابقة قسماً من النعم الإِلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان، لتكون دليلا حسياً لمعرفته جل شأنه، وتواصل هذه الآيات مسألة إِثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار الإِنسان، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدّر لذلك.

[250]

فيبتدأ القول بـ (واللّه خلقكم ثمّ يتوفاكم).

فمنه الممات كما كانت الحياة منه، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأي من الطرفين (الحياة والموت).

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضاً، فمنكم مَنْ يموت في شبابه أو في كهولته (ومنكم مَنْ يرد إِلى أرذل العمر)(1).

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة (لكي لا يعلم بعد علم شيئاً)(2).

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم .. نعـم فـ(إِنّ اللّه عليم قدير) فكل القدرات بيده جل وعلا، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة، وكذا أخذه لا يكون إِلاّ عندما يَلْزَم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإِنسان وإِنّما.. (واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق)فاصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإِعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفاً أن يكونوا معهم على قدم المساواة: (فما الذين فضلوا بردي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء).

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إِلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهماً من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية، بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب

_____________________________

1 ـ «أرذل»: من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية، والمقصود من «أرذل العمر»: السنين المتقدمة جدّاً من عمر الإِنسان حيث الضعف والنسيان، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها تبدأ من عمر (75) عامّاً، وبعض آخر من (90) وآخرون اعتبروها من (95) .. والحق أنّها لا تحدد بعمر، وإِنّما تختلف من شخص لآخر.

2 ـ عبارة (لكي لا يعلم بعد علم شيئاً) يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإِنسان، فيكون مفهومها أنّ دماغ الإِنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإِنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن يكون معناها العلّة، أيْ أنّ اللّه تعالى يوصل الإِنسان إِلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان، فيفهم الناس بأنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم.

[251]

على حياتهم! بل كان الأُولى بهم لو التفتوا إِلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئاً جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!...

هل التفاضل في الرّزق من العدالة؟!...

وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه: هل أنّ إِيجاد التفاوت والإِختلاف في الأرزاق بين الناس، ينسجم مع عدالة اللّه عزَّ وجلّ ومساواته بين خلقه، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟

لأجل الإِجابة، ينبغي الإِلتفات إِلى الملاحظتين التاليتين:

1 ـ إِنّ الإِختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشىء بين الناس جراء اختلاف استعدادتهم وقابليتهم من واحد لآخر.

والتفاوت في الإِستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الإِختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الإِقتصادية للأفراد، ممّا يؤدي إِلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر.

ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس، الاّ أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث لأنّها ليست أكثر من استثناء، أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والإِستغلال، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإِنساني جانباً وانزلقت في طرق الظلم والإِستغلال).

وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد، ولكننا عندما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسمياً ونفسياً وأخلاقياً، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إِلى ذلك (ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إِطار مجتمع

[252]

سليم خال من الإِستغلال).

وعلى أية حال .. فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالإِستعدادات، وهو من المواهب والنعم الإِلهية أيضاً، وإِنْ أمكن أنْ يكون بعض ذلك اكتسابياً، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعاً. فإِذِنْ وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإِنكار من الناحية الإِقتصادية، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة.. إِلاّ إِذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث: الشكل، اللون، الإِستعداد ولا يعتريهم أيَّ اختلاف! وإِذا ما افترضنا حدوث ذلك فإِنّه بداية المشاكل والويلات!

2 ـ لو نظرنا إِلى بدن إِنسان ما، أو إِلى هيكل شجرة أو باقة ورد، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟

وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإِنسان لا يختلف عن شبكية عينه؟

وَهل من الصواب أن نعتبر كل ذلك شيئاً واحداً؟!

ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيِّ معنى، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي: الشكل الواحد، الذوق الواحد، الفكر الواحد، بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر.. فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإِجابة بالنفي قطعاً، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب، لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة، والكل يريد شيئاً واحداً، ويحبون غذاءاً واحداً، ولا يرغبون إِلاّ بعمل واحد!

وبديهياً ستكون حياة كهذه سريعة الإِنقراض، ولو افترض لها الدوام، فإِنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت

[253]

بون شاسع.

وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الإِستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الإِجتماعي، وليكون التفاوت في الإِستعدادات دافعاً لتربية وإِنماء الإِستعدادات المختلفة للأفراد. ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبداً.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إِيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري، لا. أبداً .. وإِنّما نقصد بالإِختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إِلى التجاوز والتعدي على الحقوق).

إِنّ الإِختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا: ذلك المفهوم الإِصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغِلة وأُخرى مستغَلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبداً، ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الإِستعدادات والسعي وبذل الجهد، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض ـ فتأمل.

وبعبارة أُخرى، إِن الإِختلاف في الإِستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإِنسان أو أجزاء الوردة، فمع تفاوتها إِلاّ أنّها ليست متزاحمة، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وخلاصة القول: ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والإِختلاف في الإِستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعاً لسوء الإِستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبقي(1).

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث: (أفبنعمة اللّه

_____________________________

1 ـ لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الإِختلاف في الإِستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (32) من سورة النساء ـ فيراجع.

[254]

يجحدون).

وذلك إِشارة إِلى أن هذه الإِختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة المصطنعة) إِنّما هي من النعم الإِلهية التي أوجدها لحفظ النظام الإِجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «اللّه» كما كان في الآيتين السابقتين، ولتتحدث عن النعم الإِلهية في إِيجاد القوى البشرية، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضاً تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت، ثمّ التفاوت في الأرزاق والإِستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث، حيث النظر إِلى نظام تكثير النسل البشريو .. الأرزاق الطيبة.

وتقول الآية: (واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) لتكون سكناً لأرواحكم وأجسادكم وسبباً لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلافاصلة: (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة).

«الحفدة» بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإِنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء، أمّا في هذه الآية ـ كما ذهب إِلى ذلك أكثر المفسّرين ـ فالمقصود منها أولاد الأولاد، واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإِناث دون الذكور من الأولاد.

ويعتقد قسم آخر من المفسّرين: أن «بنون» تطلق على الأولاد الصغار، و«الحفدة» تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إِعانة ومساعدة آبائهم.

واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد، من الأبناء كان أم من غيرهم(1).

_____________________________

1 ـ وفي هذه الحال يجب أن لا تكون «حفدة» معطوفة على «بنين» بل على «أزواجاً»، ولكنّ هذا العطف خلاف الظاهر الذي يشير إِلى عطفها على «بنين» ـ فتأمل.

[255]

ويبدو أن المعنى الأوّل (أولاد الأولاد) أقرب من غيره، بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم «حفدة» في الأصل.

وعلى أية حال فوجود القوى الإِنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإِنسان من النعم الإِلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإِنسان، لأنّهم يعينون مادياً ومعنوياً في حياته الدنيا.

ثمّ يقول القرآن الكريم: (ورزقكم من الطيبات).

«الطبيات» هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف، سواء كان مادياً أو معنوياً، فردياً أو إجتماعياً.

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة اللّه، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق، يذهبون إِلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إِلى جادة الحق (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللّه هم يكفرون).

فما أعجب هذا الزيغ! وأية حال باتوا عليها! عجباً لهم وتعساً لنسيانهم مسبب الأسباب، وذهابهم لما لا ينفع ولايضر ليقدسوه معبوداً!!!

* * *

بحثان

1 ـ أسباب الرزق:

على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الإِستعداد والمواهب عند الناس، إِلاّ أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد، فالأكثر سعياً أكثر نجاحاً في الحياة والعكس صحيح.

ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطاً بين ما يحصل عليه الإِنسان وبين سعيه،

[256]

فقال بوضوح: (وأنْ ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى)(1).

ومن الأُمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي من قبيل: التقوى، الأمانة، إِطاعة القوانين الإِلهية والإِلتزام بأصول العدل، كما أشارت إِلى ذلك الآية (96) من سورة الأعراف: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).

وكما في الآيتين (2 و 3) من سورة الطلاق: (ومَنْ يتق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).

وكما أشارت الآية (17) من سورة التغابن بخصوص أثر الإِنفاق في سعة الرزق ـ : (إِن تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم).

ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإِعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن الجوانب الإِنسانية والروحية لذلك).

وخلاصة القول إنّ إقتصاد المجتمع إِن بني على أُسس التقوى والصلاح والتعاون والإِنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قوياً مرفوع الرأس، أمّا لو بني على الإِستغلال والظلم والإِعتداء وعدم الإِهتمام بالآخرين، فسيكون المجتمع متخلفاً اقتصادياً وتتلاش فيه أواصر الحياة والإِجتماعية.

ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى، وحتى روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «لا تكسلوا في طلب معايشكم، فإِن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»(2).

وروي عنه أيضاً: «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه»(3).

_____________________________

1 ـ سورة النجم، 39.

2 ـ الوسائل، ج12، ص48.

3 ـ الوسائل، ج12، ص43.

[257]

وحتى أنّ الأمر قد وجّه إِلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق(1)وذكر أنّ من جملة مَنْ لا يستجاب لهم الدعاء أُولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون اللّه أن يرزقهم!

وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد اللّه، وذم السعي فيه، فكيف يتمّ تفسير ذلك؟!

وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين:

1 ـ دقة النظر والتحقق في المصادر الإِسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها ـ سواء في هذا الموضوع أو غيره ـ إِنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية، لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إِنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع، فكل آية أو رواية إِنّما تنظر إِلى بعد معين من أبعاد الموضوع، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.

فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية، ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إِلى ما يريدونه، تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.

وإِذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد، تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته.

فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإِفراط والتفريط في مجتمعه.

فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد اللّه هي غلق أبواب الحرص والشره وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية، وليس هدفها إِطفاء شعلة

_____________________________

1 ـ الوسائل، ج12، ص50.

[258]

الحيوية والنشاط في الإعمال والإِكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.

وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول: إِنّ كثيراً من الأرزاق إِن لم تطلبوها تطلبكم.

2 ـ إِنّ كل شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إِلى اللّه عزَّ وجلّ، وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى، ويردد ما تقوله الآية (26) من سورة آل عمران: (بيدك الخير إِنّك على كل شيء قدير).

وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وخلاقية الإِنسان إِنّما هي في حقيقتها من اللّه عزَّوجلّ.

ولو توقف لطف اللّه (فرضاً) عن الإِنسان ـ ولو للحظة واحدة ـ لما كان ثمّة شيء إسمه الإِنسان.

ويقول الإِنسان الموحد حينما يركب وسيلة: «سبحان الذي سخرلنا هذا».

وعندما يحصل على نعمة ما، يقول: «وما بنا من نعمة فمنك»(1).

ويقول عندما يخطو في سبيل الإِصلاح ـ كما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس ـ : (وما توفيقي إِلاّ باللّه عليه توكلت وإِليه أُنيب)(2).

وإِلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إِفراط أو تفريط، هو أساس كسب الرزق، وما يوصل إِلى الإِنسان من رزق بغير سعي وعمل إِنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإِنسان على الرزق الذي يطلب الإِنسان، حيث قال: «يا ابن آدم، الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك»(3).

_____________________________

1 ـ من أدعية التعقيبات لصلاة العصر، كما في كتب الدعاء.

2 ـ سورة هود، 88.

3 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 379.

[259]

2 ـ مواساة الآخرين:

أشارت الآيات إِلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ومنها: ما جاء في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية: «لا يجوز الرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله»(1).

وروي أيضاً عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عن العبيد: «إِنّما هم إِخوانكم فاكسوهم ممّا تكسون واطعموهم ممّا تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إِلاّ ورداؤه رداءَه وإِزارُه إِزارَه من غير تفاوت(2).

والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول: (فهم فيه سواء) أنّ الإِسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإِمكان، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص68.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص68

[260]

الآيتان

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمـواتِ وَالأَْرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُون(73) فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهَ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(74)

التّفسير

لا تجعلوا لله شبيهاً:

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة، وتشير إِلى موضوع الشرك، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ: (ويعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً).

وليس لا يملك شيئاً فقط، بل (ولا يستطيعون) أن يخلقوا شيئاً.

وهذه إِشارة إِلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام، لأنّها  لا تضرّكم ولا تنفعكم وليس لها أيُّ أثر على مصيركم، فالرزق مثلا والذي به تدور عجلة الحياة سواء كان من السماء (كقطرات المطر وأشعة الشمس وغير ذلك) أو ما يستخرج من الأرض، إِنّما هو خارج عن اختيار الأصنام، لأنّها موجودات فاقدة لأية قيمة ولا تملك الإِرادة، وإِنْ هي إِلاّ خرافات صنعتها العصبية الجاهلية

[261]

ليس إِلاّ.

وجملة (لا يستطيعون) سبب لجملة «لا يملكون» أيْ: إنّها لا تملك شيئاً من الأرزاق لعدم استطاعتها الملك، فكيف بالخلق!

ثمّ تقول الآية التالية كنتيجة لما قبلها: (فلا تضربوا لله الأمثال) وذلك (إِن اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون).

قال بعض المفسّرين: إِنّ عبارة (فلا تضربوا لله الأمثال) تشير إِلى منطق المشركين في عصر الجاهلية (ولا يخلو عصرنا الحاضر من أشباه أُولئك المشركين) حيث كانوا يقولون: إِنّما نعبد الأصنام لأنّنا لا نمتلك الأهلية لعبادة اللّه، فنعبدها لتقربنا إِلى اللّه! وإِنّ اللّه مثل ملك عظيم لا يصل إِليه إِلاّ الوزراء والخواص، وما على عوام الناس إِلاّ أن تتقرب للحاشية والخواص لتصل إِلى خدمة اللّه!!

هذا الإِنحراف في التوجه والتفكير، والذي قد يتجسم أحياناً على هيئة أمثال منحرفة، إِنّما هو من الخطورة بمكان بحيث يطغى على كل الإِنحرافات الفكرية.

ولذا يجيبهم القرآن الكريم قائلا: (فلا تضربوا لله الأمثال) التي هي من صنع أفكاركم المحدودة ومن صنع موجودات (ممكنة الوجود) ومليئة بالنواقص.

وإِنّكم لو أحطتم علماً بعظمة وجوده الكريم وبلطفه ورحمته المطلقة، لعرفتم أنّه أقرب إِليكم من أنفسكم ولما جعلتم بينكم وبينه سبحانه من واسطة أبداً.

فالله الذي دعاكم لأن تدعوه وتناجوه، وفتح لكم أبواب دعائه ليل نهار،  لا ينبغي أن تشبّهوه بجبار مستكبر لا يتمكن أيّ أحد من الوصول إِليه ودخول قصره إِلاّ بعض الخواص (فلا تضربوا لله الأمثال).

لقد أكّدنا في بحوثنا السابقة حول صفات اللّه عزَّ وجلّ: أنّ منزلق التشبيه يعتبر من أخطر المنزلقات في طريق معرفة صفاته سبحانه وتعالى، ولا ينبغي مقايسة صفاته سبحانه بصفات العباد، لأنّ الباري جلت عظمته وجود مطلق، وكل

[262]

الموجودات بما فيها الإِنسان محدودة، فهل يمكن تشبيه المطلق بالمحدود؟!

وإِذا ما اضطررنا إِلى تشبيه ذاته المقدسة بالنّور وما شابه ذلك فينبغي أن  لا يغيب عن علمنا بأنّ هذا التشبيه ناقص على أيّة حال، وأنّه لا يصدق إِلاّ من جهة واحدة دون بقية الجهات ـ فتأمل.

وبما أنّ أكثر الناس قد غفلوا عن هذه الحقيقة، وكثيراً ما يقعون في وادي التشبيه الباطل والقياس المرفوض فيبتعدون عن حقيقة التوحيد، فلذا نجد القرآن الكريم كثيراً ما يؤكّد على هذه المسألة، فمرّة يقول كما في الآية (4) من سورة التوحيد، (ولم يكن له كفواً أحد)، وأُخرى كما في الآية (11) من سورة الشورى: (ليس كمثله شيء)، وثالثة كما في الآية مورد البحث: (فلا تضربوا لله الأمثال).

ولعل عبارة (إِنّ اللّه يعلم وأنتم لا تعلمون)، في ذيل الآية مورد البحث، تشير إِلى أنّ أغلب الناس في غفلة عن أسرار صفات اللّه.

* * *

[263]

الآيات

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء وَمَنْ رَّزَقْنـهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَووُنَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْء وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَـهُ أَيْنَما يُوَجِّههُّ لاَيَأْتِ بِخَيْر هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرط مُّسْتَقِيم(76) وَلِلِّهِ غَيْبُ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ وَ مَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَو هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(77)

التّفسير

مثلان للمؤمن والكافر!

ضمن التعقيب على الآيات السابقة التي تحدثت عن: الإِيمان، الفكر، المؤمنين، الكافرين والمشركين، تشخص الآيات مورد البحث حال المجموعتين (المؤمنين والكافرين) بضرب مثلين حيين وواضحين

[264]

يشبه المثال الأوّل المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة لمولاه، ويشبه المؤمنين بإِنسان غني، يستفيد الجميع من إِمكانياته.. (ضرب اللّه مثلا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء).

والعبد ليس له قدرة تكوينية لأنّه أسير بين قبضة مولاه ومحدود الحال في كل شيء، وليس له قدرة تشريعية أيضاً لأنّ حق التصرف بأمواله (إِنْ كان له مال) وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه، وبعبارة أُخرى إنّه: عبد للمخلوق،ولا يعني ذلك إِلاّ الأسر والمحدودية في كل شيء.

أمّا ما يقابل ذلك فالانسان المؤمن الذي يتمتع بانواع المواهب والرزق الحسن: (ومَنْ رزقناه منّا رزقاً حسناً) والإِنسان الحر مع ما له من إِمكانيات واسعة (وهو ينفق منه سراً وجهراً) فاحكموا: (هل يستوون).

قطعاً، لا .. فإِذِنْ: (الحمد لله).

اللّه الذي يكون عبده حُرّ وقادر ومنفق، وليس الاصنام التي عبادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون (بل أكثرهم لا يعلمون)(1).

ثمّ يضرب مثلا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين، فيشبه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء، ويشبه الآخر بإِنسان حر يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم: (وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلُّ على مولاه)(2) ولهذا.. (أينما يوجهه لا يأتِ بخير).

وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية:

أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).

_____________________________

1 ـ المثال المذكور عبارة عن تشبيه للمؤمن والكافر (على ضوء تفسيرنا)، إِلاّ أنّ جمعاً من المفسّرين ذهب إِلى أنّ العبد المملوك يرمز إِلى الأصنام، وأنّ المؤمن الحر المنفق إِشارة إِلى اللّه سبحانه وتعالى (ويبدو لنا أنّ هذا التشبيه بعيد).

2 ـ يقول الراغب في مفرداته: الأبكم هو الذي يولد أخرس، فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، ويقال: بكم عن الكلام، إِذا أضعف عنه لضعف عقله فصار كالأبكم.

[265]

وعاجز لا يقدر على شيء.

وكَلٌّ على مولاه.

وأينما يوجهه لا يأتِ بخير.

مع أنّ الصفات المذكورة علة ومعلول لبعضها الآخر ولكنّها ترسم صورة إِنسان سلبي مائة في المائة حيث أن وجوده لا ينم عن أي خير أو بركة إِضافة لكونه «كلُّ» على أهله ومجتمعه.

فـ (هل يستوي هو ومَنْ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)؟!

وأمّا الرجل الآخر في مثل الآية فهو صاحب دعوة مستمرّة إِلى العدل وسائر على الصراط المستقيم، وما هاتان الصفتان إِلاّ مفتاح لصفات أُخرى متضمنة لها، فصاحب هاتين الصفتين: لسانه ناطق، منطقه محكم، إِرادته قوية، شجاع وشهم، لأنّه لا يمكن أن يتصور لداعية العدل أن يكون: أبكم، جباناً وضعيفاً! ولا يمكن أن يكون من هو على صراط مستقيم إِنساناً عاجزاً أبله وضعيف العقل، بل ينبغي أن يكون ذكياً، نبيهاً، حكيماً وثابتاً.

وتظهر المقايسة بين هذين الرجلين ذلك البون الشاسع بين الإِتجاهين الفكريين المختلفين لعبدة الأصنام من جهة، وعباد اللّه عزَّ وجلّ من جهة أُخرى، وما بينهم من تفاوت تربوي وعقائدي.

كما رأينا من ربط القرآن في بحوثه المتعلقة بالتوحيد ومحاربة الشرك مع بحث المعاد ومحكمة القيامة الكبرى، نراه هنا يتناول الإِجابة على إِشكالات المشركين فيما يخص المعاد، فيقول لهم: (لله غيب السماوات والأرض).

وكأن الآية جواب على الإِشكال العالق في أذهان وألسنة منكري المعاد الجسماني بقولهم: إِنّنا إِذا متنا وتبعثرت ذرات أجسامنا بين التراب، فمن يقدر على جمعها؟! وإِذا ما افترضنا أنّ هذه الذرات قد جمعت وعدنا إِلى الحياة، فَمَنْ سيعلم بأعمالنا التي طوتها يد النسيان فنحاسب عليها؟!

[266]

وبعبارة مختصرة تجيب الآية على كل أبعاد السؤال، فالله عزَّوجلّ «يعلم غيب السماوات والأرض» فهو حاضر في كل زمان ومكان، وعليه فلا يخفى عليه شيء أبداً، ولا مفهوم لقولهم إِطلاقاً، وكل شيء يعلمه تعالى شهوداً، وأمّا تلك العبارات والأحوال فإِنّما تناسب وجودنا الناقص لا غير.

ثمّ يضيف قائلا: (وما أمر الساعة إِلاّ كلمح البصر أو هو أقرب)(1).

وهذا المقطع القرآني يشير إِلى رد إِشكال آخر كان يطرحه منكرو المعاد بقولهم: مَنْ له القدرة على المعاد ومن يتمكن من انجاز هذا الأمر العسير؟!

فيجيبهم القرآن، بأن هذا الأمر يبدو لكم صعباً لأنّكم ضعفاء، أمّا لصاحب القدرة المطلقة فهو من السهولة والسرعة بحيث يكون أسرع ممّا تتصورون، وإِنْ هو (إِلاّ كلمح البصر) منكم.

وبعد أن شبّه قيام الساعة بلمح البصر، قال: (أو هو أقرب)، أيْ: إِنّ التشبيه بلمح البصر جاء لضيق العبارة واللغة، وإِنّما هو من السرعة بما لا يلحظ فيه الزمان أساساً، وما ذلك الوصف إِلاّ لتقريبه لأذهانكم من حيث أنّ لمح البصر هو أقصر زمان في منطقكم.

وعلى أيّة حال، فالعبارتان إِشارة حيّة لقدرة اللّه عزَّوجلّ المطلقة، وبخصوص مسألتي المعاد والقيامة، ولهذا يقول الباري في ذيل الآية: (إِنّ اللّه على كل شيء قدير).

* * *

بحوث

1 ـ الإِنسان بين الحرية والأسر

_____________________________

1 ـ لمح: (على وزن مسح) بمعنى ظهور البرق، ثمّ جاءت بمعنى النظر السريع، وينبغي الإِنتباه إِلى أنّ «أو» هنا بمعنى (بل).

[267]

إِنّ مسألة التوحيد والشرك ليست مسألة عقائدية ذهنية صرفة كما يتوهم البعض وذلك لما لها من آثار بالغة على كافة أصعدة الحياة، بل وأنّ بصماتها لتراها شاخصة على كافة مرافق ومناحي الحياة ـ فالتوحيد إِذا دخل قلباً أحياه وغرس فيه عوامل الرّشد والكمال، لانّه بتوسيع أفق نظر وتفكير الإِنسان بشكل يجعله مرتبطاً بالمطلق.

والشرك على العكس من ذلك تماماً، حيث يجعل الإِنسان يعيش في دوامة عالم محدود، وتتقاذف كيانه تلك الأصنام الحجرية والخشبية، أو ميول وشهوات الأصنام البشرية الضعيفة، فيختزل فكر وإِدراك وقدرة وسعي الإِنسان في دائرة تلك الأبعاد الضيقة التقاذف.

وقد صورت الآيات تصويراً دقيقاً لهذا الواقع، وجمعته في مثال تقريباً للأذهان وقالت: إِنّ المشرك في حقيقة أبكم وممارساته تنم عن خطل تفكيره وفقدانه للمنطق السليم، وقد قيد الشرك إِمكانياته فجعله خواء لا يقوى على القيام بأي شيء فانسلخت منه حريته بعد أن أسلم نفسه أسيراً في يد الخرافات والأوهام.

وبسبب هذه الصفات المذمومة فهو كَلٌّ على المجتمع، لأنّه يستهين بكرامة وعزّة المجتمع من خلال تسليم مقدراته بيد الأصنام أو المستعمرين.

وهو تابع أبداً مادام لم يتحرر من ربقة الشرك، ولن يذوق طعم الحرية والإِستقلال الحق إِلاّ بعد أن يتوجه إِلى التوحيد بصدق.

ونتيجة لمتبنياته الفكرية الضالة فلن يخترق طريقاً إِلاّ ضاع به، ولن يجد الخير أينما حط (أينما يوجهه لا يأت بخير).

فكم هي الفاصلة بين ذلك الخرافي، ضيق الأفق، الأسير، العاجز.. وبين هذا الحر، الشجاع، الذي لا يكتفي بنهج خط العدل، بل يدعو إِليه ليعم كل الناس؟!

الشخص الذي يمتلك الفكر المنطقي المنسجم مع نظام التوحيد الحاكم على

[268]

الخليقة يسير دوماً على صراط مستقيم، وهذا السير سيوصله بأقرب وأسرع طريق إِلى الهدف المنشود دون أن يفني ذخائر وجوده في طرق الضلال والإِنحراف.

وخلاصة القول: فالتوحيد والشرك ليسا أمراً عقائدياً ذهنياً بحتاً، بل نظام كامل لكل الحياة، وبرنامج واسع يشمل: فكر، أخلاق وعواطف الإِنسان ويتناول كذلك حياته الفردية، الإِجتماعية، السياسية، الإِقتصادية والثقافيه.

لو وضعنا مقايسة بين عرب الجاهلية المشركين والمسلمين في صدر الإِسلام لوجدنا الفرق الواضح بين المسيرين...

الأشخاص الذين كانوا في: جهل، تفرقة، إِنحطاط، ولا يعرفون إِلاّ محيطاً محدوداً مملوءاً بالفقر والفساد، نراهم قد أصبحوا وكلهم: وحدة، علم، قدرة.. حتى أصبح العالم المتمدن في ذلك الزمان تحت تأثيرهم وقدرتهم.. كل ذلك بسبب تغيير سير خطواتهم من الشرك إِلى التوحيد.

2 ـ دور العدل والإِستقامة في حياة الإِنسان

من الملفت للنظر إِشارة الآيات إِلى الدعوة للعدل والسير على الصراط المستقيم من بين صفات وشوؤن الموحدين، لتبيان ما لهذين الأمرين من أهمية في خصوص الوصول إِلى المجتمع الإِنساني السعيد، وهو ما يتم من خلال امتلاك برنامج صحيح بعيد عن أي انحراف يميناً أو شمالا (لا شرقي ولا غربي)، ومن ثمّ الدعوة لتنفيذ ذلك البرنامج المبني على أُصول العدل، كما وينبغي أن لا يكون البرنامج وقتياً ينتهي بانقضاء المدّة، بل كما يقول القرآن: (يأمر بالعدل) (حيث يعطي الفعل المضارع معنى الإِستمرار) برنامج مستمر ودائمي.

[269]

3 ـ أمّا الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)

الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) بخصوص تفسير هذه الآية تذكر أنّ: «الذي يأمر بالعدل أمير المؤمنين والأئمّة صلوات اللّه عليهم»(1).

وذكر بعض المفسّرين: أنّ جملة (من يأمر بالعدل) نزلت في: حمزة وعثمان بن مظعون أو في عمار.

و(أبكم) في: أُبي بن مخلف وأَبي جهل ومَنْ شابههم.

وكل ذلك إِنّما هو من جهة بيان مصاديق مهمّة وواضحة للآية، ولا يمكن بأية حال أن يكون سبباً للحصر، مع ملاحظة أنّ التفاسير التي تناولت الآيات المبحوثة مبينة على أساس بيان الفرق بين المشركين والمؤمنين، وليس بين الأصنام وبين اللّه عزَّ وجلّ.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص70.

[270]

الآيات

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهـتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَْبْصـرَ وَالأَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78) أَلَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرت فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذلِكَ لأََيـت لَّقَوْم يُؤْمِنُونَ(79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَْنْعـمِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُم وَمَنْ أَصْوَافِها وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثـثاً وَمَتـعاً إِلى حِين(80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلـلا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَربِيلَ تَقِبكُمُ الْحَرَّ وَسَربِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذلك يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(81) فإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلـغُ المُبِينُ(82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَها وَأَكثَرُهُمُ الْكـفِرُونَ(83)

التّفسير

أنواع النعم المادية والمعنوية:

يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى بعرض جملة أُخرى من النعم الإِلهية كدرس

[271]

في التوحيد ومعرفة اللّه، وأوّل ما يشير في هذه الآيات المباركات إِلى نعمة العلم والمعرفة ووسائل تحصيله.. ويقول: (واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً).

فمن الطبيعي أنّكم في ذلك المحيط المحدود المظلم تجهلون كل شيء، ولكنْ عندما تنتقلون إِلى هذا العالم فليس من الحكمة أن تستمروا على حالة الجهل، ولهذا فقد زودكم الباري سبحانه بوسائل إِدراك الحقائق ومعرفة الموجودات (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). لكي يتحرك حس الشكر للمنعم في أعماقكم من خلال إِدراككم لهذه النعم الربانية الجليلة (لعلكم تشكرون).

* * *

ملاحظات

وهنا نطرح الملاحظات التالية:

1 ـ بداية الإِدراك عند الإِنسان

تصرّح الآية بوضوح بأنّ الإِنسان حين يولد فإِنّه لا يدرك من الأشياء شيئاً، وكل ما يدركه إِنّما هو بعد الولادة وبواسطة الحواس التي منحه اللّه إِيّاه.

ويواجهنا الإِشكال التالي: إِنّ الإِنسان مزود بجملة من العلوم الفطرية كالتوحيد ومعرفة اللّه، بالإِضافة إِلى بعض البديهيات مثل (عدم اجتماع النقيضين، الكل أكبر من الجزء، حسن العدل، قبح الظلم... الخ) وكل هذه العلوم قد أودعت في قلوبنا وتولدت معنا.. فكيف يقول القرآن إِنّ الإِنسان حين يخرج من محيط الجنين ليس له من العلم شيئاً؟

وهل علمنا بوجودنا (والذي هو علم حضوري) لم يكن فينا وإِنّما نكتسبه عن طريق السمع والبصر والفؤاد؟

وللإِجابة على هذا الإِشكال، نقول: إِنّ العلوم البديهية والضرورية والفطرية

[272]

لم تكن في الإِنسان بصورة فعلية حين ولادته، وإِنّما على شكل استعداد ووجود بالقوّة.

وبعبارة أُخرى: إِنّنا عند الولادة نكون في غفلة عن كل شيء حتى عن أنفسنا التي بين جنبينا، إِلاّ أن مسألة إِدراك الحقائق تكمن فينا بصورة القوّة لا الفعل، وبالتدريج تحصل لأعيننا قوّة النظر ولآذاننا قوة السمع ولعقولنا القدرة على الإِدراك والتجزئة والتحليل، فننعم بهذه العطايا الإِلهية الثلاث التي بواسطتها نستطيع أن ندرك كثيراً من التصورات ونودعها في العقل لكي ننشيء منها مفاهيم كلية، ومن ثمّ نصل إِلى الحقائق العقلية بطريق (التعميم) و (التجريد).

وتصل قدرتنا الفكرية إِلى إِدراك أنفسنا (باعتبارها علماً حضورياً) ومن ثمّ تتحرر العلوم التي أُودعت فينا قوةً لتصبح علوماً بالفعل، ونجعل بعد ذلك من العلوم البديهية والضرورية سلّماً للوصول إِلى العلوم النظرية وغير البديهية.

وعلى هذا.. فالعموم والكلية التي نطقت بها الآية (من أنّنا لا نعلم شيئاً عند الولادة) ليس لها استثناء ولا تخصيص.

2 ـ نعمة وسائل المعرفة

ممّا لا شك فيه عدم امكانية استيعاب ودخول العالم الخارجي في وجودنا، والحاصل الفعلي هو رسم صورة الشيء الخارجي المراد في الذهن وبواسطة الوسائل المعينة لذلك، وعليه.. فمعرفتنا بالعالم الخارجي تكون عن طريق أجهزة خاصّة منها السمع والبصر.

وتنقل هذه الآلات والأجهزة كل ما تلتقطه من الخارج لتودعه في أذهاننا وعقولنا، ونقوم بواسطة العقل والفكر بعملية التجزئة والتحليل..

ولذلك بيّنت الآية مسألة عدم علم الإِنسان المطلق حين الولادة: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) لكي تحصلوا على حقائق الوجود وتدركوها.

[273]

ونشاهد تقديم ذكر السمع على البصر في الآية مع ما للعين من عمل أوسع من السمع، ولعل ذلك لسبق الأذن في العمل على العين بعد الولادة، حيث أنّ العين كانت في ظلام دامس (في رحم الأم) ونتيجة لشدّة أشعة النّور (بعد الولادة) فإِنّها لا تستطيع العمل مباشرة بسبب حساسيتها، وإِنّما تتدرج في اعتيادها على مواجهة النّور حتى تصل للحالة الطبيعية المعتادة، ولذا نجد الوليد في بداية أيّامه الأُولى مغلق العين. أمّا بخصوص الأذن.. فثمة مَنْ يعتقد بأنّ لها القدرة على السماع (قليلا أو كثيراً) وهي في عالم الأجنّة وأنّها تسمع دقات قلب الأم وتعتاد عليها!

أضف إِلى ذلك أنّ الإِنسان إِنّما يرى بعينه الأشياء الحسيّة فقط، في حين أن الأذن تعتبر وسيلة للتربية والتعليم في جميع المجالات، فالإِنسان يصل بواسطة سماع الكلمات إلى معرفة جميع الحقائق سواء ما كان منها في دائرة الحس أو ما كان خارجها، وليس للعين هذه السعة، وصحيح أنّ الإِنسان يمكنه تحصيل العلم بواسطة القراءة، إِلاّ أنّ القراءة ليست عامّة لكل الناس وسماع الكلمات أمر عام.

أمّا سبب ورود «السمع» بصيغة المفرد و«الأبصار» بصيغة الجمع، فقد بيّناه عند تفسيرنا للآية (7) من سورة البقرة.

وثمّة ملاحظة أُخرى ينبغي ذكرها تتعلق بكلمة «الفؤاد»، فقد جاءت هنا بمعنى القلب (العقل) الذي يعيش حالة التوقد، وبعبارة أُخرى: يعيش حالة التّفسير والتحليل والإِبتكار.

يقول الراغب في مفرداته: (الفؤاد كالقلب، لكنْ يقال له فؤاد إِذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد). ومن المسلّم به أن هذا الموضوع يحصل للإِنسان بعد حصوله على تجارب كافية.

وعلى أية حال، فآلات المعرفة وإِن لم تنحصر بهذه الأجهزة الثلاث، إِلاّ أنّها أفضل الأجهزة جميعاً، لأنّ علم الإِنسان إِمّا أن يكون عن طريق التجربة أو عند

[274]

طريق الإِستدلالات العقلية، ولا تجربة بدون السمع والبصر، ولا إِستدلالات عقلية من غير الفؤاد (العقل).

3 ـ لعلكم تشكرون

تعتبر نعمة أجهزة تحصيل العلم من أفضل النعم التي وهبها اللّه للإِنسان، فلا يقتصر دور العين والأذن (مثلا) على النظر إِلى آثار اللّه في خلقه، والإِستماع إِلى أحاديث أنبياء اللّه وأوليائه، وتفهم ذلك وتدركه بالتحليل والإِستنتاج، بل إِنّ كل خطوة نحو التكامل والتقدم مرتبطة إِرتباطاً وثيقاً بهذه الوسائل الثلاثة.

وغاية إِعطاء هذه الوسائل إِنّما تستوجب شكر الواهب، لأنّه من خلالها يمكن الحصول على العلم والمعرفة اللذين بهما امتاز الإِنسان عن غيره من الحيوانات.

وممّا لا شك فيه أنّ الإِنسان ليقف عاجزاً أمام حق شكر المولى وليس له إلاّ الاعتذار.

وتستمر الآية التالية في بيان أسرار عظمة اللّه عزَّوجلّ في علم الوجود، وتقول: (ألم يروا إِلى الطير مسخرات في جو السماء).

«الجو» لغةً: هو الهواء (كما ذكره الراغب في مفرداته)، أو ذلك الجزء من الهواء البعيد عن الأرض (كما ورد في تفسير مجمع البيان وتفسير الميزان وكذلك تفسير الآلوسي).

وبما أنّ الأجسام تنجذب إِلى الارض طبيعياً فقد وصف القرآن الكريم حركة الطيور في الهواء بالتسخير، أيْ: أنّ الباري سبحانه قد جعل في أجنحة الطيور قوّة، وفي الهواء خاصية، تمكنان الطيور من الطيران في الجو على رغم قانون الجاذبية.

ويضيف قائلا: (ما يمسكهنّ إِلاّ اللّه).

صحيح أنّ ثمّة أُمور مجتمعة تعطي للطيور إِمكانية التحليق والطيران، مثل:

[275]

الخاصية الطبيعية للأجنحة، قدرة عضلات الطيور، هيكل الطير بالإِضافة إِلى خواص الهواء الملائمة.. ولكنْ، مَنْ الذي خلق هذه الهيئة وتلك الخواص؟

ومَنْ الذي أقرّ هذا النظام الدقيق؟

فهل هي الطبيعة العمياء، أم مَنْ يعلم بجميع الخواص الفيزيائية للأجسام وأحاط علمه المطلق بكل هذه الأُمور؟؟

فإِذا ما رأينا نسبة هذه الأُمور إِلى اللّه، لأنّ منبع وجودها منه تعالى، وأمثال هذا التعبير في نسبة الأسباب والعلل إِلى اللّه كثيرة في القرآن الكريم.

وفي نهاية الآية، يأتي قوله عزَّ مَنْ قائل: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)أي إنّهم ينظرون إِلى هذه الأُمور بعين باصرة وأذن سميعة ويتفكرون فيما يرون ويسمعون، وبذلك يقوى إِيمانهم ويرسخ أكثر فأكثر.

* * *

بحوث

1 ـ أسرار تحليق الطيور في السماء

إِنّنا لا نشعر بأهمية الكثير من عجائب عالم الوجود لاعتيادنا على كثرة مشاهدتها ولعدم انشغالنا بالتدقيق العلمي عند المشاهدة، حتى باتت هذه العادة كحجاب يغطي تلك العظمة، ولو استطاع أيٍّ منّا رفع ذلك الحجاب عن ذهنه لرأى العجائب الكثيرة من حوله.

وتحليق الطيور في السماء لا تبتعد عن هذه الحقيقة، فحركة جسم ثقيل بخلاف قانون الجاذبية من دون أية صعوبة، وارتفاعه بسرعة حتى ليغيب عن أعيننا في لحظات لأمر يدعو إلى التأمل والدراسة.

ولو دققنا النظر في بناء جسم الطائر لوجدنا ذلك الترابط الدقيق بين كل صفاته وحالاته التي تساعده على الطيران، فهيكله العام مدبب ليقلل من مقاومة

[276]

الهواء على بدنه لأقصى حد ممكن، وريشه خفيف مجوف، وصدره مسطح يمكنه من ركوب أمواج الهواء، وطبيعة أجنحته الخاصّة تمنحة القوة الرافعة(1) التي تساعده على الإِرتفاع، وكذلك الطبيعة الخاصّة لذيل الطائر التي تعينه على تغيير اتجاه طيرانه وسرعة التحوّل يميناً وشمالا وأعلى وأسفل (كذيل الطائرة)، وذلك التناسق الموجود بين النظر وبقية الحواس التي تشترك جميعاً في عملية الطيران... وكل ذلك يعطي للطائر إِمكانية الطيران السريع.

ثمّ إِنّ طريقة تناسل الطير (وضع البيض)، وعملية تربية الجنين ونموه تجري خارج رحم الأُم ممّا يرفع عنها حالة الحمل والتي تعيق (بلا شك) عملية الطيران.. وثمّة أُمور كثيرة تعتبر من العوامل المؤثرة فيزيائياً في عملية الطيران.

وكل ما ذكر يكشف عن وجود علم وقدرة فائقين لخالق ومنظم بناء وحركة هذه الكائنات الحية، وكما يقول القرآن: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

إِنّ عجائب الطيور لأكثر من أنْ تسطر في كتاب أو عدّة كتب، فهناك مثلا الطيور المهاجرة وما يكتنف رحلاتها من عجائب، وحياة هذه الطيور مبنية على التنقل بين أرجاء المعمورة المختلفة حتى أنّها لتقطع المسافة ما بين القطبين الشمالي والجنوبي على طولها، وتعتمد في تعيين اتجاهات رحلاتها على إِشارات رمزية تمكنها من عبور الجبال والأودية والبحار، ولا يعيق تحركها رداءة الجو أو حلكة الظلام في الليالي التي يتيه فيها حتى الإِنسان وبما يملك.

ومن غريب ما يحدث في رجلاتها أنّها: قد تنام أحياناً بين عباب السماء

_____________________________

1 ـ «القوة الرافعة»: اصطلاح فيزيائي حديث يستعمل في حقل الطائرات، وخلاصته: أنّ الجسم إِذا كان له سطحين متفاوتين بالإِستواء (كجناح الطائرة حيث سطحه الأسفل مستوياً والأعلى محدباً) وتحرك أفقياً فستتولد فيه قوة خاصّة ترفعه إِلى الأعلى، تنشأ من ضغط الهواء على سطحه الأسفل والذي يكون أكثر منه على السطح الأعلى، لأنّ الأسفل مساحته أصغر، والسطح العلوي اوسع مساحة، وهذا ما تعتمد عليه حركة الطائرات.. وإِذا ما دققنا النظر في اجنحة الطيور فسنرى هذه الظاهرة بوضوح ـ فتأمل.

وعموماً، ينبغي القول: ما بناء الطائرات إِلاّ تقليد لأجسام الطيور فى جوانب مختلفة!

[277]

وهي طائرة! وقد تستغرق بعض رحلاتها عدّة أسابيع دون توقف ليل نهار وبدون أن يتخلل تلك المدّة أية فترة لتناول الطعام! حيث أنّها تناولت الطعام الكافي قبل بدءها حركة الرحيل (بإلهام داخلي) ويتحول ذلك الطعام إِلى دهون تدخرها في أطراف بدنها!

وثمّة أسرار كثيرة تتعلق في: بناء الطير لعشه، تربية أفراخه، كيفية التحصن من الأعداء، كيفية تحصيل الغذاء اللازم، تعاون الطيور فيما بينها بل ومع غير جنسها أيضاً... إِلخ، ولكل ممّا ذكر قصّة طويلة.

نعم، وكما تقول الآية المباركة: (إِنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

2 ـ ترابط الآيات:

لا شك أنّ هناك ترابطاً بين الآية أعلاه والتي تتحدث عن كيفية طيران الطيور وما قبلها من الآيات يتمثل في الحديث عن نعم اللّه عزَّ وجلّ في عالم الخليقة، وعن أبعاد عظمته وقدرته سبحانه وتعالى، ولكن لا يبعد أن يكون ذكر تحليق الطيور بعد ذكر آلات المعرفة يحمل بين طياته إِشارة لطيفة في تشبيه تحليق هذه الطيور في العالم المحسوس بتحليق الأفكار في العالم غير المحسوس، فكلُّ منها يحلق في فضائه الخاص وبما لديه من آلات.

يقول الإِمام علي(عليه السلام) في خطبته الشقشقية: «ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إِليَّ الطير».

وكذا في كلماته(عليه السلام) القصار في بيان فضيلة مالك الأشتر(رحمه الله)، ذلك القائد الشجاع: «لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر»(1).

وعدّ في هذه السورة خمسين نعمة كلها تدعو إِلى معرفة اللّه جلوعلا

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 443.

[278]

وتدفع إِلى شكره، ولذلك ذهب البعض لتسميتها بـ (سورة النَعْم).

وتستمر الآيات في الإِشارة إِلى النعم الإِلهية حتى نصل إِلى الآية الثّالثة (مورد البحث) لتقول: (واللّه جعل لكم من بيوتكم سكناً).

وحقّاً إنّ هذه النعمة المباركة من أهم النعم، فلولاها لم يمكن التمتع بغيرها.

«البيوت»: جمع بيت، مأخوذ من (البيتوتة): وهي في الأصل بمعنى التوقف ليلا، وأُطلقت كلمة (بيت) على الحجرة أو الدار لحصول الإِستفادة منهما للسكن ليلا.

ويلزمنا هنا التنويه بالملاحظة التالية: إِنّ القرآن الكريم لم يقل: إِنّ اللّه جعل بيوتكم سكناً لكم، وإِنّما ذكر كلمة (مِنْ) التبعيضية أوّلاً وقال: (من بيوتكم) وذلك لدقة كلام اللّه التامة في التعبير، حيث أنّ الدار أو الحجرة الواحدة تلحقها مرافق أُخرى كالمخزن والحمام وغيرها.

وبعد أنْ تطرق القرآن الكريم إِلى ذكر البيوت الثابتة عرّج على ذكر البيوت المتنقلة فقال: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً)(1).

وهي من الخفة بحيث (تستخفونها يوم ظعنكم ـ أي رحيلكم ـ ويوم إِقامتكم).

بل وجعل لكم: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إِلى حين).

وكما هو معلوم فإِنّ الشعر الذي يحمله بدن الحيوان بعضه خشن تماماً كشعر الماعز ويطلق عليه (شعر)، وجمعه (أشعار)، وبعضه الآخر أقل خشونة بقليل وهو (الصوف) وجمعه (أصواف)، (والوبر) أقل نعومة من الصوف وجمعه (أوبار)، وبديهي أنّ الإِختلاف الحاصل في طبيعته وخشونته يؤدي إِلى تنوع الإِستفادة

_____________________________

1 ـ إِنّ صناعة الخيام من الجلود قليلة في عصرنا المعاش، ولكنَّ الآية المباركة أرادت أن تظهر أن هذا النوع من الخيام كان من أفضل الأنواع في تلك الأزمان، واختص بالذكر دون بقية الأنواع ربما لكونها أكثر مأمناً أمام عواصف الصحراء الحارقة في الحجاز.

[279]

منها، فمن بعضها تصنع الخيام، ومن البعض الآخر يصنع اللباس، ومن الثّالث الفرش وهكذا...

أمّا عن المقصود بـ «الأثاث» و «المتاع» في الآية فقد ذكر المفسّرون لذلك جملة احتمالات.

قال بعضهم: «الأثاث» بمعنى الوسائل المنزليه، وهي في الأصل من (أثّ) بمعنى الكثرة والتجمع، وأطلقت على الوسائل والأدوات المنزلية لكثرتها عادة.

ويطلق «المتاع» على كل ما يتمتع به الإِنسان ويستفيد منه (فالمصطلحان إِشارة إِلى شيء واحد من جهتين مختلفتين).

ومع ملاحظة ما ذكر فاستعمال المصطلحين على التوالي يمكن أن يشير إِلى هذا المعنى: إِنّكم تستطيعون أن تهيئوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائل بيتية كثيرة تتمتعون بها.

واحتمل البعض ومنهم «الفخر الرازي»: «الأثاث» بمعنى الأغطية والملابس، و«المتاع بمعنى الفرش، إِلاّ أنّه لم يذكر أيَّ دليل لتفسيره.

واحتمل «الآلوسي» في (روح المعاني): «الأثاث» إِشارة إِلى الوسائل المنزلية، و«المتاع» إِشارة إِلى الوسائل المستخدمة في التجارة.

ويبدو أنّ ما قلناه أوّلاً أقرب من الجميع.

وذكرت وجوه عديدة في تفسير (إِلى حين) ولكنّ الظاهر من مقصودها هو: استفيدوا من هذه الوسائل في هذا العالم حتى نهاية الحياة فيه، وهو إِشارة إِلى عدم خلود الحياة في هذا العالم وما فيه من وسائل ولوازم وأنّ كل ما فيه محدود.

3 - الظلال، المساكن، الأغطية:

ويشير القرآن الكريم إِلى نعمة أُخرى بقوله: (واللّه جعل لكم ممّا خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكناناً).

[280]

«الأكنان»: جمع (كن) بمعنى وسائل التغطية والحفظ، ولهذا فقد أُطلقت على المغارات وأماكن الإِختفاء وفي الجبال.

ونرى إِطلاق كلمة «الظلال» في الآية لتشمل كل الظلال، سواء كانت ظلال الأشجار أو المغارات الجبلية أو ظل أي شيء آخر، باعتبارها إِحدى النعم الإِلهية (وحقيقة الأمر كذلك)، فكما يحتاج الإِنسان إِلى النّور في حياته فكثيراً ما يحتاج إِلى الظل كذلك، لأنّ النّور إذا ما استمر في اشراقه فسوف تكون الحياة مستحيلة، ويكفينا أن نلمس ما لظل الكرة الأرضية (والمسمى بالليل) على حياتنا، وكذلك دور الظلال الأُخرى خلال النهار في مختلف الأمكنة والحالات.

وكأن ذكر نعمة «الظلال» و «أكنان الجبال» بعد ذكر نعمة «المسكن» و«الخيام» في الآية السابقة، للإِشارة إِلى: أنّ طوائف الناس لا تخرج عن إِحدى ثلاثة.. واحدة تعيش في المدن والقرى وتستفيد من بناء البيوت لسكناها، وأُخرى تعيش الترحال والتنقل فتحمل معها الخيام، وثالثة أُولئك الذين يسافرون وليس معهم مستلزمات المأوى.. ولم يترك الباري جل شأنه المجموعة الثّالثة تعيش حالة الحيرة من أمرها، بل في طريقهم الظلال والمغارات لتقيهم.

وقد لا يدرك سكنة المدن ما لوجود المغارات الجبلية من أهمية، ولكنّ عابرى الصحاري والمسافرين العزل والرعاة وكل مَنْ حرم من نعمة البيوت الثابتة أو السيارة (مؤقتاً أو دائماً) عندما يكونون تحت سطوة حرارة الصيف اللاهبة أو تحت وطأة زمهرير الشتاء القارص، سيعرفون عندها أهمية تلك المغارات، وخصوصاً كونها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهي ملاذ ينجي من موت قريب ـ في بعض الأحيان ـ للإِنسان أو الحيوانات.

وبعد ذكر القرآن الكريم لنعمة الظلال الطبيعية والصناعية، ينتقل لذكر ملابس الإنسان فيقول: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، وثمّة ألبسة أُخرى تستعمل لحفظ أبدانكم في الحروب (وسرابيل تقيكم بأسكم).

[281]

«السرابيل»: جمع «سربال» (على وزن مثقال)، بمعنى الثوب من أيِّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته)، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو: لباس وغطاء لبدن الإِنسان، إِلاّ أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم، فإِنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد، بل تُلْبِس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إِليه، فلو تعرى الإِنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأُولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشياً مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصاراً، فيكون الثّاني واضحاً بقرينة وجود الأوّل، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرِّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر: أنْ يكون ذلك بلحاظ خطورة الإِصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة، وبتعبير آخر: إِنّ تحمل الإِنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإِنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية.. يقول القرآن مذكِّراً: (كذلك يتمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّاً أن يفكر الإِنسان بخالق النعم، خصوصاً عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصداً زيادة معرفته به إِذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة «النعمة» في الآية ببعض النعم: كنعمة الخلق، وتكامل العقل، أو التوحيد، أو نعمة وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلاّ أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور)، وما

[282]

التخصيص في حقيقته إِلاّ من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة.. يقول عزَّوجلّ أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق، لأنّ وظيفتك ابلاغهم: (فأِنْ تولّوا فانّما عليك البلاغ المبين).

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمُّ بالإِستدلال الحق والجاذبية، إِلاّ أنّه لا يؤثر في المخاطب مالم يكن مستعداً لاستماع وقبول كلام المتكلم، وبعبارة أُخرى: إِنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا، فإِنْ لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومَنْ امتاز بالتعصب والعناد، فذلك ليس بالأمر الجديد، وما عليك إِلاّ أن تصدع ببلاغ مبين وأنْ لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته.

وتكميلا للحديث.. يضيف القرآن الكريم القول: (يعرفون نعمه اللّه ثمّ ينكرونها).

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإِلهية وإِنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإِيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء، وتلوّثهم بمختلف الشهوات، بالإِضافة إِلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية (وأكثرهم الكافرون) إِشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة «أكثرهم» انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها... حتى توصل المفسّرون إِلى أسباب كثيرة كلُّ حسب زاوية اهتمامه في البحث، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلِّ ما ذكروه، وخلاصته: إِنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياساً إِلى أُولئك.

[283]

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشىء من التكّبر والعناد، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (34) من سورة البقرة (أبى واستكبر وكان من الكافرين).

واحتمل البعض: أنّ المقصودين بـ «أكثرهم» مَنْ تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد، وهذا المعنى يمكن أن يعود إِلى المعنى الأوّل.

* * *

بحثان

1 ـ كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير (نعمة اللّه)في الآية لا يعدو غالباً من قبيل التّفسير بالمصداق، في حين أنّ مفهوم «نعمة اللّه» من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية، حتى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيت(عليهم السلام) تؤكّد على أنّ المقصود بـ «نعمة اللّه» هو وجود الأئمّة المعصومين(عليهم السلام).

وفي رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «نحن واللّه نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده، وبنا فاز مَنْ فاز»(1).

فواضحُّ أَنَّ السعادة والنجاح لا يمكن إِدراكهما إِلاّ عن طريق قادة الحق وهم الأئمّة عليهم السلام فوجودهم إِذِنْ من أوضح وأفضل النعم الإِلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم اللّه سبحانه).

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص72.

[284]

2 ـ صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة «ثمّ» من قوله تعالى: (يعرفون نعمة اللّه ثمّ ينكرونها)، لأنّ استعمالها عادةً كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم اللّه وبين إِنكارهم للنعم، فقالوا: إِنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الإِعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة اللّه، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الإِعتراف، إِلاّ أنّهم ساروا في طريق الباطل! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ».

ونحتمل أنّ «ثمّ» هنا إِشارة إِلى معنى خفي، خلاصته: أنّ دعوة الحقّ عندما تتوغل إِلى دواخل الروح الإِنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة، فإِنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإِنكار الموجود فيه أحياناً، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل، فإِنْ كانت عوامل النهي والإِنكار أقوى فإِنها ستغلبها بعد مدّة.. وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ».

والآيتان (64 و 65)، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إِبراهيم(عليه السلام)تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي اللّه إِبراهيم(عليه السلام) بعد أن حطم أصنامهم جميعها إِلاّ كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأُولى يغوصون في تفكير عميق، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إِلى الحقَّ لولا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق، فعادوا من جديد إِلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم» أيضاً: (فرجعوا إِلى أنفسهم فقالوا إِنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون).

وعلى هذا فمعنى «الكافرون» يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم».

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21332869

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:08

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net